تفسير ابن فورك

سورة سبأ
مسألة:
إن سأل عن قوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ (11) } فقال:
ما الحمد؟ ولم لا يستحق إلا على الإحسان؟ وبأي شيء ينفصل الحمد الأعلى - الذي ليس فوقه ما هو أعلى منه - من الأدنى في الحمد؟ ولم جاز الحمد في الآخرة وهي دار الجزاء؟ وما وجه الإخبار بعذاب النار؟ وما معنى {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ؟ وما معنى {مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} [2] ؟ وما الهادي إلى الحق؟ وما إيتاء العلم؟ وما العزيز؟ وما معنى {إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [7] ؟ وما عامل الإعراب فيه؟ ومن الذين قال: {أُوتُوا الْعِلْمَ} [6] ؟ وما معنى {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [9] ؟ وما معنى {أَوِّبِي مَعَهُ} [10] ؟.
الجواب:
الحمدُ: الوصف بالجميل على جهة التعظيم. ونقيضه: الدمُّ، وهو: الوصف بالقبيح على جهة التحقير.
الحمد يستحق على الإحسان، وعلى صفات المدح، وينفصل الحمد الأعلى مما هو أدنى بأن الأعلى يجب أن يقع على تعظيم العباد.
الأدنى حمدٌ دون تلك المنزلة، لا يجوز أن يقع على جهة العباد.
جتز الحمد في الآخرة لأنه يستحقه بإحسانه في الآخرة من العباد على ما يصح من التمكين.

(2/129)


وجه الإخبار بعذاب النار أنه ردع لما سلف من القبيح.
{لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [3] أي: لا يغيبُ.
{وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [4] أي: هنئ، لا تنغيص فيه ولا تكدير. وقيل: (الرزق الكريمُ) الجنة. عن قتادة.
وقيل: يحمده أهل الآخرة من غير تكليف على سبيل السرور بالحمد.
وقال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} من المطر {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من النبات {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} من الماء {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} من ملكٍ.
ومن حمد أهل الجنة {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] . قرأ ابن كثير. وأبو عمرو، وعاصم {عَالِمِ الْغَيْبِ} بكسر الميم، وقرأ نافع، وابن عامر [عَالِمُ الْغَيْبِ] رفعاً، وقرأ حمزة، والكسائي [عَلاِمِ الْغَيْبِ] جرا. وقرأ الكسائي وحده {لَا يَعْزِبُ} بكسر الزاي، وقرأ الباقون بالضم. وقرأ ابن كثير، وعاصم {مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} بالرفع، وقرأ الباقون بالجر.
الهادي إلى الحق: القائد إليه بإظهار صحة الطريق المؤدي إليه.
إيتاء العلم: إعطاؤه بوضعه في النفس أو بالتسبيب بما يؤدي إليه.
العزيزُ: القادر الذي لا يمكن أن يمنعه مانع.

(2/130)


{إِذَا مُزِّقْتُمْ} أي: قطعتم بتقطيع أجسامكم.

(2/131)


{الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [6] أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويجوز كل من أوتي علم الدين.
{أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [9] أي: إن سماءنا محيطة بهم، وأرضنا حاملة لهم، فهم في قبضتنا، إن نشأ نخسف بهم هذه، أو نسقط عليهم تلك، أفما يحذرون هذا فيرتدعوا عن التكذيب بآياتنا؟!.
المنيبُ: المقبل التائب.
{أَوِّبِي مَعَهُ} رجعي، يعني بالتسبيح. وقيل:
{أَوِّبِي مَعَهُ} سبحي إذا سبح.
وقيل في نصب {وَالطَّيْرَ} [10] وجهان:
الأول: وسخرنا له الطير.

(2/132)


والثاني: العطف على موضع المنادي.
وقيل: كان الحديد في يده مثل الشمع يصرفه كيف يشاء من غير نار ولا تطريق.
وقيل: {أَوِّبِي مَعَهُ} [10] سيري كيف شاء.
وقيل: أسقط ألف الاستفهام من {أَفْتَرَى} لدلالة (أمْ) عليه، وهو غلط من قائله، لأن ألف الاستفهام لا تحذف إلا في الضرورة، وإنما القراءُ تقطع الألف، ولو لم تقطع لكان خبراً بعد استفهام.
و {هُوَ} في {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} فصلٌ، ويسميه الكوفيونَ (العماد) .
مسألة:
إن سأل عن قوله سبحانه: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ (21) } فقال:

(2/133)


ما السابغ؟ وما السرد؟ وما العمل الصالح؟ وما البصير؟ وما معنى {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [12] ؟ وما القطْرُ؟ وما المحاريب؟ وما معنى (سبأ) ؟ وما الإعراض؟ وما السيلُ؟ وما العرم؟ وما الخمْط؟ وما معنى {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [17] ؟ وما معنى {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} [19] ؟
الجواب:
السابغُ: التام من اللباس، وهو - ها هنا - التام من الدروع، ومنه: إسباغ النعمة = إتمامها.
{السَّرْدِ} حلق الدروع، وقيل: المسامير التي في حلق الدروع، وهو مأخوذ من: سرد الكلام يسرده سرداً، إذا تابع بين بعض حروفه، وبعضهم قالوا: درع مسرودة، أي: مسمورة الحلق.
العمل الصالح: المستقيم على مقدار ما دعا إليه الحق.
البصير: العليم بالأمرو بمنزلة ما يرى في تمييزه.
{وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أي: عدل المسمار في الحلقة، لا يدق فيسلس، أو يغلظ فيفصم. عن مجاهد، والحسن.

(2/134)


{غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [12] قيل: مسيرها به إلى انتصاف النهار في مقدار سير شهر، ورواحها من انتصاف النهار إلى الليل في مقدار سير شهر. قال الحسن: "كان يغدو فيقيل في إصطخرَ، ويروح منها فيكون بكابل".
و {الْقِطْرِ} النحاس.
{وَمَنْ يَزِغْ} [12] يعدل عن جهة الصواب، زاغ يزيع زيغاً وإزاغة.
المحاريبُ: قصور ومساجد. عن قتادة. المحاريبُ: أشراف البيوتِ.

(2/135)


الجابية: الحوض الذي فيه يجبر الماء. قال ابن عباس: "الجواب: الحياضُ".
{مِنْسَأَتَهُ} [14] عصا أكلته الأرض.
المنسأةُ: أصلها من (نسأتُ) بالهمز، أي: سقتُ.
وقيل: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [11] أي: في سرد الحديد ونظمه.
وقيل: (سبأ) أبو اعراب اليمن، وقد تسمى به القبيلة، نحو: هذه تميمٌ تميمٌ.

(2/136)


وقال [قتادة] : بقى متوكئَا على عصاه سنة، لا يدري أنه مات.
وقال الحسن: " (سبأ) أرض". قرأ نافع، وأبو عمرو {مِنْسَاتَهُ} غيرر مهموز، وقرأ الباقون {مِنْسَأَتَهُ} بالهمز.
وقرأ {مَسْكِنِهِمْ} بكسر الكاف الكسائي وحده، وقرأ {مَسْكَنِهِمْ} بفتح الكاف حمزة، وقرأ الباقون {مَسَاكَنِهِمْ} .
الإعراض: الذهاب عن الشيء، وهو خلاف الذهاب [إليه] .
السيلُ: الماء الجاري الكثير الذي لا يضبط دفعه لعظمه.
{الْعَرِمِ} [16] المسناةُ التي تحتبس الماء، واحده: عرمة؛ كأنه مأخوذ من: عرامة الماء، وهو ذهابه كل مذهب.
الخمطُ: كل نبت قد أخذ طعماً من المرارة حتى لا يمكت أكله.
وقيل: (الخمط) كل شجر ذي شوك. وقيل: (الخمط) الأرَاك الأرَاك.

(2/137)


الأثلُ: الخشب. عن الحسن.

(2/138)


وقيل: (الأثلُ) الطرفاء.
قال قتادة: "بدلوا بخير الشجر سيء الشجر".
والخمط: شجر له تمرٌ مرُّ، والأثل: ضرب من الخشب. وقيل: (الأثل) السمُر.
معنى {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [17] أي: هل نجازي بمثل هذا الجزاء في تعجيل العقاب بسلب النعمة إلا الكفور.
وقيل: {الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [18] الشام. عن مجاهد، وقتادة. وقيل: بيت المقدس. عن ابن عباس.

(2/139)


وقيل: {قُرًى ظَاهِرَةً} أي: متواصلة. عن قتادة؛ وذلك أنه تظهر الثانية من الأولى لقربها منها.
وقيل: {آمِنِينَ} لا تخافون جوعاً ولا عطشاً، ولا من أحد ظلماً، كأنه قيل لهم { ... } كذا.
وقيل: بطروا فقالوا: لو [كان] جنى ثمارنا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيه؛ فمزقوا بين الشام وسبأ كل ممزق. عن ابن عباس.
{فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} [19] أي: يضرب بهم المثل في التفرق.
قال الشعبي: "أما غسان فلحقوا بالشام، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة................

(2/140)


صفحة فارغة

(2/141)


وأما الأزدُ فلحقوا بعمان".
وقيل: كان زيادة الماء حتى غرقوا به.
وقيل: سقيت من جرذٍ ثقب عليهم السكرَ.
وقيل: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} [18] أي: جعل بين القرية الأولى والثانية مسيرة يوم لراحة المسافر وتزوده منها.
{فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} [19] بأن أهلكناهم وألهمنا الناس حديثهم ليعتبروا به.
قال الحسن: "لا يجازي مثل هذه المجازاة من العذاب إلا الكفورُ".
وقيل: {الْعَرِمِ} السكْر.
وقيل: المطر الشديد. وقيل: هو اسم وادي.

(2/142)


صفحة فارغة.

(2/143)


وقيل: هو الجرد الذي تقبَ السكر.
قرأ أبو عمرو {ذَوَاتَيْ أُكُلِ خَمْطٍ} مضافاً. وقرأ الباقون {أُكُلٍ خَمْطٍ} منوناً.
وقرأ {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} نصباً حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية حفص، وقرأ الباقون {ويجَازَي إلَّا الْكَفُورُ} بالرفع.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو {بَاعَّدْ} مشددة، وقرأ الباقون {بَاعِدْ} بألف خفيفة.
وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي {صَدَّقَ} مشددة، وقرأ الباقون {صَدَقَ} مخففة.
مسألة:
إن سأل عن قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) } ، فقال:
ما السلطانُ؟ ولم جاز {إِلَّا لِنَعْلَمَ} [21] والله عالم بجميع الأمور؟ وما الملكُ؟ وما معنى {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [23] ؟ وما معنى {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ

(2/144)


لَعَلَى هُدًى} [24] ؟ وما الجمعُ. وما الفتحُ؟ وما معنى {أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ} [27] ؟ وما الإلحاقُ؟ وما العزيزُ؟
الجواب:
السلطان: القوة التي يتسلط بها على الفعل، والمعنى: أنه لم يمكن من إغوائهم إلا بمقدار الدعار الذي لا يصل معه إلى قلبهم شيء.
جاز {إِلَّا لِنَعْلَمَ} [21] والله عالم بجميع الأمور؛ لوجهين:
أحدهما: أن المعنى فيه: إلا لنظهر المعلوم من صحة الجزاء على الكفر والإيمان.
الآخر: إلا لنعاملهم معاملة من كأنه لا يعلم، وإنما يعمل ليعلم.
الملكُ: القدرة على ما للقادر أن يتصرف فيه.
معنى {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [23] جلي عنها الفزع. عن ابن عباس، وقتادة. وهو كقولك: رغب عنه، أي: رفع الرغبة عنه، وهو بخلاف رغب فيه، ففي أحد الأمرين وضع، وفي الآخر رفع، وقيل: هم الملائكة يلحقهم غشي عند سماع الوحي من الله بالآية العظيمة، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟. عن ابن مسعود،

(2/145)


وابن عباس.
وقال الحسن: "أي: كشف عن قلوب المشركين الفزع. قالت الملائكة: [ماذا] قال ربكم في الدنيا؟ ، قالوا: الحق".
وقيل {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ} [24] على الإنصاف في الحجاج، كما يقول القائل: أحدنا كاذب.
الجمعُ: جعل الشيء مع غيره في معنى، فلما جعل أهل الحق وأهل الباطل في أرض القيامة كانوا قد جمعوا فيها، وذلك ليقضى بينهم بانقضاء الفصل الذي لا يمكن له حجة ولا دفعٌ.

(2/146)


الفتحُ: كشف صحة المعنى بما يظهر لمن كان كالمغطى عنه، فحينئذ يندم المبطل على اعتقاده.
معنى {أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ} [27] التهجير لهم بما اعتقدوا من الشركاء في العبادة، وهو كما تقول لمن أفسد عملاً، أريني ما عملت؟ توبيخاً له بما أفسده.
الإلحاق: إيجاب أن الثاني في حكم الأول في أمر خاص، فلما أوجب هؤلاء القوم أن الأوثان في حكم الإله في العبادة كانوا قد ألحقوا به شركاء.
{الْفَتَّاحُ} [26] القاضي. عن ابن عباس؛ لأنه يفتح وجه الحكم.
{الْعَزِيزُ} القوي، القاهر، الذي يمنع من شاء، ولا يمنعه مانع، فهو العزيز في انتقامه ممن كفر به {الْحَكِيمُ} في تدبيره لخلقه، فأنى يؤفكون له شريكاً في ملكه معه؟!.
مسألة:
إن سأل عن قوله سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) } قال:
ما الذي بين يدي القرآن؟ وما الاستضعاف؟ وما الاستكبار؟ وهل صدقوا في قولهم: {لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [31] ؟ وما معنى {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [33] ؟ وما بسط الرزق؟ وهل فرق بين الأكبر والأعظم؟ ولم صار العلم والقدرة أجل فائدة؟ ولم زهد ف6ي ابتغاء الأموال والأولاد؟ وما معنى الزلفى؟ ولم كرر {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [36] ؟.

(2/147)


صفحة فارغة

(2/148)


الجواب:
الذي بين يدي القرآن: أمر الآخرة، وهي النشأة الثانية، فجحدوا أن يكون القرآن من الله، أو أن يكون لما ذل عليه من الإعادة للجزاء حقيقة. وقيل: الكتب التي قبله.
الاستضعاف: طلب الضعف فيما يعامل به صاحبه لأجله.
الاستكبار: طلب الكبر بغير حق، فكانوا يتعاظمون بالجهل الذي قد صمموا عليه وصاروا فيه رؤساء لتحققهم به.
قولهم {لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [31] إذا كانوا قد أخبروا عن ظنهم فقد صدفوا كأنهم قالوا: فيما نظن، وهكذا يقتضي ظاهر خبرهم، كما إذا أخبروا عما يفعلونه في المستقبل فهو إخبار عن عزمهم.
{بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [33] مكراً بطول السلامة فيهما.
المترفُ: المبطر بالنعمة.
بسط الرزق: اتساعه، وهو الزيادة فيه على مقدار الكفاية. البسط: الاتساع بتباعد الأطراف، ونقيضه: (يقدِر) وهو قبضهُ إلى حال الضيف فيه.

(2/149)


القدرة: استواء الشيء بغيره من غير زيادة ولا نقصان عنه في أصل اللغة، ومنه: (المقدار) : الآلة التي يقدر بها غيرها، ومنه: (التقديرُ) : وهو مساواة الثاني للأول في الصحة أو الفساد.
الفرق بين الأكبر والأعظم: أن الأعظم قد يكون شيئاً واحداً، نحو: خصلة من الكفر أعظم من خصلة من الفسق.
العلم والقدرة أجل فائدة، لأنه لا سبيل إلى اكتساب خيري الدنيا والآخرة إلا بهما، والعلم أعظم لأنه لا يستضر به صاحبه، وقد يستضرُّ بالقدرة إذا عمل بها ما يوجب العقوبة، ونفى كل واحد منهما صفة بعض؛ لأن من لا يعلم منقوص كذلك من لا يقدر.
زهد في ابتغاء الأموال والأولاد لأنها تشغل عن عمل الإحسان الذي يستحق به الحمد والرضوان.
الزلفَى: القربى. عن مجاهد.
كرر {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [36] لاختلاف الفائدة، إذ الأول على معنى: إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقجر من غير أن يعلم أكثر الناس لم فعل ذلك به. الثاني: بمعنى: قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له على ما أنفقه في البر فهو يخلفه، وما يتصل به من الكلام دليل عليه.

(2/150)


وجاز {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [39] لأنه يقال: رزق السلطان الجند.
{إِلَّا مَنْ آمَنَ} [37] يصلح فيه النصب على الاستثناء المنقطع، ويصلح الرفع على معنى الجملة من الابتداء والخبر في هذا الأول على اتصال المفرد.
و {جَزَاءُ الضِّعْفِ} - ها هنا - بمعنى: الإضعاف؛ بدلالة: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 164] ، ويجوز في {جَزَاءُ الضِّعْفِ} أوجه:
أربعة في {جَزَاءُ} : الرفع، والنصب، والتنوين، وتركه.
ويجوز في {الضِّعْفِ} ثلاثة أوجه: الجر، والنصب، والرفع، إلا أن القراءة بوجه واحدٍ.

(2/151)


صفحة فارغة

(2/152)


مسألة عن قوله سبحانه: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) }
فقال:
ما معنى {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [41] وهو عبدوا الملائكة؟ وما معنى {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} ؟ وما معنى {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} [45] ؟ وما الوعظ؟ وما معنى {مَثْنَى وَفُرَادَى} [46] ؟ وما الفكر؟ وما معنى {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} [46] ؟ وما القذفُ؟ وما معنى {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [49] ؟ وما الفزعُ؟ وما المكان؟ وما القربُ؟ وما معنى {وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [51] ؟ وما التناوش؟
الجواب:
لما دعتهم الجن إلى ذلك ورضوا به منهم ذموا بهذه الحال العابد والمعبود، وكذلك حسن الإضراب منك عن حالهم مع الملائكة؛ لأن حال الدمَّ بها يرجع إلى العابد والمعبود.
معنى {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} [41] أنت تتولى نصرتنا دونهم؛ إذ لا يقدون إلا على ما أقدرتهم، فما كنا لنرضى بعبادتهم مع علمنا بأنك ربنا وربهم.
معنى {وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} [45] أي: ما بلغ الذين أرسل إليهم محمد - صلى الله عليه وسلم - عشرَ ما أوتى الأمم قبلهم من القوة والعدة، في معنى قول ابن عباس - رضي الله عنه -، وقتادة.

(2/153)


وقيل: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [41] بطاعتهم فيما دعوا إليه من عبادتنا. وقيل: إنهم صوروا لهم صورة قوم من الجن، وقالوا: هذه صورة الملائكة فاعبدوها.
السحرُ: حيلة خفية توهم المعجزة.
المعشارُ: العشرُ.
الوعظ: الدعاء إلى ما ينبغي أن يرغب فيه، مع التخذير مما ينبغي أن يحذر منه بما يلين القلب.
الاستجابة إلى الحق التي [هي] أكبر واعظ وأجل داع من العباد بما أعطاه الله به من الحكمة.
معنى {مَثْنَى وَفُرَادَى} [46] ها هنا، ـي: يذاكر الرجل صاحبه ليستعين برأيه على هذا الأمر، ثم يعلو بفكره حتى يكون قد وقى النبي - صلى الله عليه وسلم - حقه بأن نظر فيه على الحالين جميعاً.
وقيل: (الفكرُ) طلب المعين بالقلب. وقيل: هو جولان القلب بالخواطر.

(2/154)


وقيل: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} [46] أي: بطاعة الله. عن مجاهد.
القذف: إلقاء الشيء عن عظم الشأن.
معنى {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [49] أن الحق إذا جاء أذهب الباطل فلن يبق له بقية يبدئ بها ولا يعيد، كما قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء: 18] . قال قتادة: " {الْبَاطِلِ} إبليس، لا يبدأ الخلق ولا يعيد". وكأنه يريد كل معبود من دون الله بهذه الصفة.
وقال الحسن: {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ} لأهله خيراً {وَمَا يُعِيدُ} أي: بخير الآخرة.
القوتُ: خروج وقت الشيء الذي لا يصلح أن يعمل في غيره، كفوت الصلاة، وفوت وقت القربة.

(2/155)


الفزع: انزعاج النفس بتوقع المكروه. الفزعُ، والجزع، والرعب، والخوف: نظائرٌ.
المكانُ: ما يتمكن عليه غيره: من أرض، أو ماء، أو هواء. أو هو مأخوذ من (التمكنِ) .
القرب: مسافة ما بين الشيئين بإنقاص من المسافة، ونقيضه: البعد. وقيل: {وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [51] عذاب الدنيا. عن ابن عباس.
وقيل: حين يخرجون من قبورهم. عن الحسن.
وقيل: {فَلَا فَوْتَ} [51] لا مهربَ. عن الضحاكِ.

(2/156)


{التَّنَاوُشُ} [52] من قولهم: نشته ونوشتهُ نوشاً، إذا تناولته من قريب، وتناوش القوم: إذا دنا بعضهم إلى بعض ولم يلتحم بينهم قتال بعد، همزهُ بعضهم فيجوز أن يكون من هذا، ويجوز أن يكون من (النئيش) وهو الإبطاء، انتأشتهُ: أخذته من بعيد. وقيل {التَّنَاوُشُ} تناول التوبة.
{مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} من الآخرة إلى الدنيا.
{وَقَدْ كَفَرُوا} بالعذاب {مِنْ قَبْلُ} .
وقيل: {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [53] مع قولهم: هو ساحر، هو شاعر. عن مجاهد.
وقيل: هو قولهم: لا بعثُ، ولا نار، ولا جنة. عن قتادة.
وأشياع: جمع الجمع. شيعة، وشيعٌ، وأشياعٌ.

(2/157)


صفحة فارغة

(2/158)


قيل: {مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [51] من بطن الأرض إلى ظهرها. عن الحسن.
* * *

(2/159)