تفسير ابن فورك

سورة فاطر
مسألة:
إن سأل عن قوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) } قال:
ما الفطرُ؟ وما وجه الإحسان في جعل الملائكة أولى أجنحة؟ وما الحمد؟ وما وجه الرد من قوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [3] على المعتزلة؟ وما الداعي؟ ومن زين للكافر سوء عمله؟ وأين خبر (منْ) في {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [8] ؟ وما معنى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ} [10] ؟ وما معنى {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} ؟ وما معنى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} ؟ والضمير في {يَرْفَعُهُ} إلى من يرجع؟.
الجواب:
الفطرُ: الشق عن الشيء بإظهار للحسَّ، فطر السموات والأرض: خلقهما بإظهارهما للعيان.
جعل الملائكة أولي أجنحة للاعتبار بأن الحي القادر يتصرف في خلقه كما يشاء. قال قتادة: "منهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة".

(2/160)


وقال قتادة: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [4] "تعزية للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن له أسوة بالأنبياء قبله".
الحمدُ: الوصف بالجميل على وجه التعظيم.
وفي {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [3] حجة على القدرية أن لا خالق إلا الله، لأنه نفى خالقاً غيره، وهم يثبتون معه خالقين كثيرين.
قرأ حمزة، والكسائي {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرِ اللَّهِ} جراً، وقرأ الباقون {غَيْرُ اللَّهِ} رفعاً.
العداوة: المباعدة من الخير بالتدبير للهلكة، ونقيض العداوة: الولاية.
الداعي: الطالب للفل من القادر، أو ممن يصح أن يكون قادراً عليه؛ فالشيطان يدعو حزبه إلى الفساد.
زين للكافر سوء عمله الشيطان بالوسواس، ونفسه تميله إلى الشبهة وترك النظر في الحجة المؤدية إلى الحق، وخلق الله تدبير ذلك في قلبهِ.

(2/161)


خبر {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [8] محذوف، وفيه قولان:
الأول: تقديره: يتحسر عليه. وقيل: فإن الله يضلهُ.
الحسرةُ: شدة الحزن على ما فات من الأمر.
وقيل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ} [10] فليتعززْ بطاعة الله. عن قتادة. وقيل: من كان يريد علم العزة فهي لله.
{وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} أي: يبطل ويفسد. عن قتادة.
وقيل: جواب {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [8] محذوف بتقدير: كمن علم الحسن من القبيح، ومن عمل بما علم.
وقيل: كمن هداه الله.
وفي الآية دلالة على بطلان مذهب أصحاب ضرورة المعرفة، لأنه قد دل على أنهم رأوا أعمالهم السيئة حسنة، وهذا رأي فاسد.
ومعنى قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [10] أي: إلى حيث لا يملك فيه الحكم إلا الله، وهو كما يقال: ارتفع أمرهم إلى القاضي.

(2/162)


و {يَبُورُ} يكسد ولا ينفذ فيما يريدون.
وقيل في الضمير في {يَرْفَعُهُ} ثلاثة أوجه:
الأول: يرفع الكلم الطيب. الثاني: يرفعه الكلم الطيب. الثالث: يرفعه الله.
مسألة: إن سأل عن قوله سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) } فقال:
ما النطفة؟ وما التراب؟ وما الجعلُ؟ وما العمر؟ وما القطمير؟ وما معنى {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [11] ؟ وما الجديد؟ وما العزيز؟ وما الوزرُ؟ وما معنى {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [18] ؟
وكيف جاز {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} فعطف بالماضي على الحاضر؟ وما الظلُّ؟ وما الحرور؟ ولم كرر (الزبُرَ) وهي الكتب؟ ولم قال: {وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [25] ؟ وما الأسوةُ؟ وما معنى {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [24] ؟.
الجواب:
النظفةٌ: ماء خاثر من شأنه أن يكون منه الولدُ، ولها ريح كريح الطلع

(2/163)


الجعلُ: وجود ما به يكون الشيء على خلاف ما كان. جعل العباد أزواجاً، أي: ذكراً وأنثى.
العُمُرُ: مدة الأجل، والعمر موهبة من الله للعباد يختلف حكمهم فيه كما اتخلف في الغنى والفقر، وفي القوة والضعف.
وقيل: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} [11] ولا ينقص من عمر معمرِ آخرَ. عن الحسن.
وقيل: {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} ينقضي ما ينقصُ منه.
الفراتُ: العدبُ، والأجاجُ: المُرُّ.
{مَوَاخِرَ} [12] تشقُّ الماء في جريها شقاً.
القطميرُ: قشرُ النواة. عن ابن عباس. دل - جل ثناؤه - على أن من لا يملك القطمير لا شبهة في أنه ليس بإلهٍ.
الزوجُ: الذي معه آخر من شكله، والاثنان زوجان. اللؤلؤ والمرجان يخرجان من الملح دون العدبِ. وقيل: فيه عيون عدبة ومما بينها بينها يخرج اللؤلؤ.

(2/164)


وقيل: الأصنام يحييها الله يوم القيامة فتتبرأ من المشركين وتوبخهم وتوبخُهُم على عبادتهم لها.

(2/165)


والأجاجُ: من أجةِ النار، كأنه يحرق من شدة المرارة.
ولا ينقصُ من عمر معملا آخر، كقولك: عندي درهم ونصفه. عن الفراءِ.
الجديدُ: القريب العهد بانقطاع العمل. قيل: { ... } بالاستعمال فاعله، وأصله القطع، من: جدهُ يجدهُ جدّاً؛ إذا قطعهُ.
{العَزِيزٍ} المنيع بصعوبته، وقد يكون المنيع بعلوه.
الوزرُ: الحمل. المعنى: لا تحمل حاملة حمل أخرى من الذنب. ومنه: الوزيرُ، لأنه يحمل الثقل عن الملك بالتدبير.
ومعنى {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا} [18] أي: مثقلة بالآثام، لا تحمل غيرها شيئاً من آثامها ولو كان أقرب الناس إليها، لما في ذلك من غلظ حمل الآثام.
و {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} فيه وجهان:
الأول: في سرهمْ. والثاني: في تصديقهم بالآخرة.
وقيل: ظلمات الكفرِ، ونور الإيمان.

(2/166)


و {الْأَعْمَى} عن الدين، {وَالْبَصِيرُ} به.
جاز {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} للإشعار باختلاف المعنى في أن الخشية لازمة، ليس لها وقت مخصوص، والصلاة لها أوقاتها.
{الظِّلُّ} اليسير عن موضع الشمس، ومنه: (ظلَّ) يفعل كذا، إذا فعله نهاراً في الوقت الذي يكون للشمس ظلٌّ.
{الْحَرُورُ} السموم، وهو الريح الحارة في الشمس. قال الفراء: " (الحَرُورُ) يكون بالليل والنهار، و (السمومُ) لا يكون إلا بالنهار".
زقيل: {الظِّلُّ} الجنة، و {الْحَرُورُ} النار.
وقيل في (لا) قولان: أنها زائدة مؤكدة. الثاني: أنها نافية، لا يستوي كل واحد من المذكورين بصاحبه على التفضيلِ.

(2/167)


كرر (الزُّبُرَ) وهي الكتب لاختلاف صفاته، وذلك أن (الزَّبْرَ) : الكتابة الثابتة، كالنقرِ في الصخْرَةِ.

(2/168)


وقيل: {وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} بعدهُ. فالموصوف واحد والصفات مختلفة.
الاستواءُ: حصول أحد الشيئين على مقدار الآخر، ومنه: الاستواء في الطريق.
وقيل: هو مثل ضرب لعبادة الله وعبادة الأوثان، فلا يستوي ذلك لتفاوت ما بينهما.
وقيل: معنى {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [24] أي: نذير منهم. وقيل: نذير من غيرهم، وهو رسول إليهم كما أرسل نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلى العرب والعجمِ.
مسألة:
إن سأل عن قوله سبحانه: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45) } فقال:
ما الإنكار؟ وما الاختلاف؟ وما الجددُ؟ وما الغرابيب؟ وما معنى {لَنْ تَبُورَ} [29] ؟ وما الحق؟ وما معنى {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [31] ؟ وما الاصطفاء؟ ولم جاز التشويق إلى الجنة بما حرم في الدنيا؟ وما معنى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [32] ؟ وأي كتاب هو؟ وما معنى {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [36] ؟ وما الاصطراخ؟ ولم جاز {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} مع قوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97] ؟ وما النذير في قوله: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [37] ؟ وما معنى {خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ} [

(2/169)


39] ؟ وما معنى {شُرَكَاءَكُمُ} [40] ؟ وما الإمساك؟ وما الحليمُ؟ وما المغفرة؟ وما الأندادُ؟ وما التبديلُ؟.
الجواب:
الإنكار: العمل على نفي الشيء، ونقيضه: الإقرار، وهو العمل في تثبيته.
الاختلافُ: امتناع سدَّ الشيء مسدَّ، مسدَّ غيره، كامتناع سد السواد مسد البياض.
الجُددُ: الطرائق، واحدها: جدةٌ، نحو: (مدةٌ) و (مددٌ) ، وأما جمع (جديد) فـ (جددٌ) ، كقولك: سريرٌ وسررٌ.
الغرابيب: الذي لونه كلون الغراب، ولذلك حسن أن يقال: [سودٌ] .
معنى {لَنْ تَبُورَ} [29] لن تكسد، منه: بارت السوقُ: إذا كسدت.
{شَكُورٌ} أنه يعامل بالإحسان معاملة الشاكر.
{الْحَقُّ} - ها هنا - المراد به أنه معنى معتقده على ما هو به يدعو إليه الداعي للحقَّ.

(2/170)


معنى {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [31] أي: مصدقا لما قبله من الكتب بأنه جاء موافقا {....} به من حاله، وحال من أتى به.
الاصطفاء: الاختيار بإخراج الصفوة من العباد.
اصطفى الله المؤمنين على ثلاث طبقات: مؤمن {ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} بالذنوب، و {مُقْتَصِدٌ} بالطاعات تائب من الذنوب، و {سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} في المرتبة العليا، وكلا وعد الله الحسنى.
{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} الكتب التي قبله. عن الحسن، وقتادة. {أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} [32] فيه قولان:
الأول: هذا القرآن، ويكون معنى (الإرث) : انتهاء الحكم إليهم مصيرها لهم.
الثاني: الإيمان بالكتب السالفة.
المقام - بضم الميم -: الإقامة، وبفتحها: موضع القيام.

(2/171)


اللغوب: الإعياء.
النصب: التعب. وقيل: الوجع. عن قتادة.
وقيل: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} مخالفة الهوى في الطاعات. وقيل: هم الكافرون، وهو خطأ لأنه قال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [33] .
معنى {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [36]- هاهنا - أي: لا يحكم عليهم بالموت، كأنه قيل: لا يقضى عليهم بالموت فيموتوا، وقضى فلان إذا إذا مات؛ لأنه فصل بموته في الدنيا.
تخفيف العذاب: تيسيره {....} أو صغره؛ وذلك نقيض تغليظه وشدته.
الاصطراخ: الصياح بالاستغاثة، وهو (افتعال) من الصراخ.

(2/172)


جاز {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} مع قوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97] أي: تارة تسعر، وتارة تخبو، إلا أن الآلام لا تخفف.
العمر الذي ذكر الله به أربعون سنة، عن ابن عباس، ومسروق ومسروق.
وقيل: ستون سنة. عن ابن عباس بخلاف. ويروى في خبر مرفوع، وعن علي - رضي الله عنه -.
{النَّذِيرُ} محمد - صلى الله عليه وسلم -. عن ابن زيد.

(2/173)


وقيل: الشيبُ.

(2/174)


وقيل: واتقوا الله أن تضمروا في أنفسكم ما ينهى عنه، فإنه عليم بذات الصدور.
{خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ} [39] أمة بعد أمة، وقرنا عد قرن. عن قتادة.
وقيل: ادعوا شركاءكم في الأموال التي جعلتم لها قسطا منها، وهي الأوثان. وقيل: شركاءكم الذين أشركتموهم في العبادة.
الإمساك: تسكين يمنع الزوال، والأرض ساكنة بإمساك الله لها، ولا يقدر على إمساك الثقيل من غير عمد إلا الله، والسموات أيضا ساكنة بإمساكه، وهي غير الأفلاك التي تجري فيها.
الحليم: القدير الذي لا يعاجل بالعقوبة، ولا يحلم {....} دونه.
المغفرة: ستر الذنب برفع التبعة.
الإنذار: الإعلام بموضع المخافة ليتقي.
قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "إن السموات لا تدور، ولو كانت تدور لكانت قد زالت".

(2/175)


وقيل: {مَا زَادَهُمْ} [42] بمجيء النذير {إِلَّا نُفُورًا} عن الحق وهربا منه، وإن كان قد كفهم ذلك عن معاصي أخر، فما وقوا بما ضمنوا.
{اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ} [43] من أن يقروا بالحق.
التبديل: تصيير الشيء مكان غيره.
التحويل: تصيير الشيء في غير المكان الذي كان فيه بنقله عنه.
التغيير: تصيير الشيء على خلاف ما كان بما لو شوهد لرؤي على خلافه.
قرأ حمزة وحده [وَمَكْرَ السَِّيّءٍ] بسكون الهمزة، وهو عند بصراء النحويين لا يجوز في القراءة.

(2/176)


صفحة فارغة

(2/177)