تفسير ابن فورك سورة يس
مسألة:
إن سأل عن قوله سبحانه: {يس (1)
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
(3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ
الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ
فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى
أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي
أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ
مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا
وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا
يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ
لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ
مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ
فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا
الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ
فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا
إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ
أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ
إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا
الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا
بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ
وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا
طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ
يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)
اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ
(21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ
يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ
شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي
يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ
الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ
بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا
مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً
فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا
قَبْلَهُمْ (31) } فقال:
لم عد {يس} ولم يعد {طس} ؟ وما معنى وصف القرآن بأنه حكيم؟ ولم
جاز القسم بغير الله؟ وما القرآن الحكيم؟ وما الصراط المستقيم؟
وما الفرق بين الإنذار والوعظ؟ وما الغفلة؟ وما معنى {لَقَدْ
حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} [7] ؟ وما ومعنى
{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [6] ؟ وما
المقمح؟ وما معنى {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا
وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [9] ؟ وما معنى {وَخَشِيَ
الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [11] ؟ وما الأجر الكريم؟ وما وجه
إحصاء كل شيء في إمام مبين؟ وما وجه الشبهة في {مَا أَنْتُمْ
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [15] ؟ وما القرية؟ وما وجه الاحتجاج
بقوله: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}
[16] ؟ وما البلاغ؟ وما البيان؟ وما التطير؟ وما الرحمن؟ وما
السؤال؟ وما الإخبار؟ وما الاهتداء؟ وما الإكرام؟ وما معنى
{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ
مِنَ السَّمَاءِ} [28] ؟
الجواب:
لأن {يس} أشبه (قابيل) من جهة الزنة والحروف الصحاح، و {يس}
أوله حرف علة وليس مثل ذلك في الأسماء المفردة؛ فأشبه الجملة
والكلام التام، وشاكل ما بعده من رءوس الآي.
(2/178)
وصف القرآن بأنه (حكيم) لأنه مُظهر للحكمة،
كالناطق للبيان عن الحق الذي يعمل عليه.
جاز أن يقسم بالقرآن الحكيم لعظم شأنه، وموقع العبرة به،
والفائدة منه.
والقسم: تأكيد الخبر بعقدة بذكر ما عظم شأنه.
الصراط المستقيم: المؤدي إلى الجنة، وهو المؤدي إلى الحق
والطاعة.
قرأ الكسائي بإمالة الألف من {يس} ، وقرأ الباقون بالفتح من
غير إمالة.
وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، [وأبو بكر عن عاصم]
{تَنْزِيلُ الْعَزِيزِ} بالرفع، وقرأ الباقون بالنصب، فالرفع
على: ذلك تنزيل. والنصب على: نزل تنزيل العزيز الرحيم.
وموضع {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [4] يجوز فيه وجهان:
الرفع على أنه خبر، كأنه قيل: إنك على صراط مستقيم. والنصب على
أنه حال للإرسال، كأنه قيل: أرسلوا مستقيما طريقهم.
الوعظ: فيه ترغيب وترهيب.
الإنذار: هو تحذير.
(2/179)
الغفلة: ذهاب المعنى عن النفس، نظيره:
النسيان.
معنى {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} [7] أنهم لا
يؤمنون، ودل على المحدوف {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .
ومعنى {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [6] فيه
وجهان:
الأول: كالذي أنذر آباؤهم. عن عكرمة.
(2/180)
الثاني: ما أنذر آباؤهُم، على الجحد. عن
قتادة.
الذقن: مجتمع اللحيْينِ.
قيل: الإيمان إلى الأذقان، وكنى عنها لأنها معلومة. وقيل:
التقدير: بالأغلال بالإيمان إلى الأذقان، فهو محذوف.
المقمح: الغاض بصرهُ بعد رفع رأسه.
وقيل: هو المقنعُ، وهو الذي يجذب ذقنه حتى تصير في صدره ثم
يرفعُ.
وقيل: قد رفعوا رءوسهم وشخصوا بأبصارهم. عن مجاهد.
معنى {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} [9] عن
الحق. عن مجاهد، وقتادة.
(2/181)
وقيل: (السَّدُّ) فعل الإنسان، و
(السُّدُّ) - بالضم -: خلقه. وفي ذلك دليل على فساد قول
المعتزلة في خلق الأفعال واللطف وتكليف ما لا يطاق.
معنى {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [11] في غيبه عن
الناس. والآخر: {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ} فيما غاب عنه من أمر
الآخرة.
الأجر الكريم: الذي يأخذه صاحبه على وجه الإجلال والإكرام.
(2/182)
وجه إحصاء كل شيء في إمام مبين لاعتبار
الملائكة إذا قابلوا به ما يحدث من الأمور فيدلهم على معلومات
الله في التفصيل.
قال قتادة: {مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} أي: اتبع القرآن.
{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} [12] أعمالهم. عن مجاهد. وقيل:
{وَآثَارَهُمْ} خطاهم إلى المساجد.
{وَآثَارَهُمْ} التي تبقى بعدهم.
{فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [14] شددنا وقوينا. عن مجاهد.
وجه الشبهة في {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [15]
أي: من أجل أنكم بشر مثلنا لا يصلح أن تكونوا رسلا لله كما لا
نصلح، وذهب عليهم معنى {اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى
الْعَالَمِينَ} [الدخان: 32] .
وقيل: {الْقَرْيَةِ} أنطاكية.
(2/183)
وجه الاحتجاج بقوله: {رَبُّنَا يَعْلَمُ
إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [16] أنه يلزم به الحذر من
المخالفة مع ما اقتضى ما أتوا به من المعجزة لتصديق الدعوة،
فهو تحذير شديد مع قولهم: {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ
الْمُبِينُ} [17] فلو جاءكم رسول غيرنا هل كان عليه إلا البلاغ
على حد ما بلغنا.
البلاغ: مجيء الشيء إلى حد يقف عنده، ومنه: البلاغة؛ لأن
المعنى يصل بها إلى النفس من حسن صورته. الإبلاغ، والإنهاء،
والإيصال: نظائر.
البيان: إظهار المعنى للنفس بما يفصله عن غيره.
التطير: التشاؤم. نظير الشؤم، ولذلك قالوا لهم: {طَائِرُكُمْ
مَعَكُمْ} [19] أي: معكم شؤمكم كله بإقامتكم على الكفر بالله.
وجواب {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} محذوف بتقدير: أين ذكرتم قلتم هذا
القول. قال قتادة: {لَنَرْجُمَنَّكُمْ} [18] بالحجارة.
وقيل: كان اسم صاحب {يس} حبيب بن مري.
(2/184)
وقيل: إن ذكرتم تطيرتم.
قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والمفضل عن عاصم {أَئِنْ
ذُكِّرْتُمْ} بهمزة بعدها ياء، وهي همزة بين بين، وقرأ الباقون
بتحقيق الهمزتين.
السؤال: طلب السائل من غيره أمرا من الأمور، فإذا طلب من غيره
الإخبار فهو سؤال استخبار إذا طلب من غيره الإخبار للآخر فهو
سؤال ما يقتضيه.
العمل: من الحق.
الأجر: الجزاء على الخير، وأما الجزاء على الشر فهو عقاب.
الاهتداء: سلوك طريق الحق عن علم به، وكل من انكشف له طريق
الحق بعد ذهابه عنه. فكل مهتد عالم، وليس كل عالم مهتديا.
خاطب قومه بقوله: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}
[25] . عن ابن عباس. وقيل: بل خاطب الرسل ليشهدوا بذلك عند
ربه. وقيل: إنه لما قال ذلك وطئوه بأرجلهم حتى مات. عن ابن
مسعود.
(2/185)
وقيل: رجموه حتى قتلوه. عن قتادة.
ألف {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [23] ألف إنكار، أصلها
الاستفهام.
الغنى عن الشيء اختصاصه بأن وجوده كعدمه، وهو بخلاف الغنى به.
الدخول: الانتقال إلى محيط، ثم يتوسع فيه، فيقال: دخل في هذا
الأمر، ودخل في الإسلام.
{الْجَنَّةِ} البستان الذي يحقه الشجر، إلا أنه صار كالعلم على
جنة الخلد.
التمني: تقدير المعنى الذي يستمتع به في النفس، أو يستمتع به
غيرها.
الإكرام: إعطاء المنزلة الرفيعة على جهة التعظيم.
(2/186)
معنى {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ
مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ} [28] أي: كان
إهلاكهم عن آخرهم بأيسر أمر.
{صَيْحَةً وَاحِدَةً} [29] حتى صاروا خامدين. عن ابن مسعود. و
{خَامِدُونَ} هالكون بتلف الأنفس.
وفي {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [30] قولان:
(2/187)
الأول: يا حسرة من العباد على أنفسهم. عن
قتادة، ومجاهد.
الثاني: أنهم قد حلوا محل من يتحسر عليه.
وقال ابن عباس: يا ويلا للعباد.
مسألة:
إن سأل عن قوله سبحانه: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا
قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا
يَرْجِعُونَ (31) }
فقال:
ما معنى {كَمْ} هنا؟ وما وجه الاحتجاج بـ {أَنَّهُمْ
إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} [31] ؟ وما وجه التذكير بكثرة
المُهلكين؟ ولم كان أهل العصر قرنا؟ وما الفرق [بين] (لما)
بالتخفيف، و (لما) بالتشديد؟ وما الازواج؟ وما السلخ؟ وما معنى
{لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [38] ؟ وما الفلك المشحون؟ وما الصريخ؟
وما معنى {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ} [41] ؟ وما الإعراض؟ وما الإنفاق؟ وما معنى
قولهم: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}
[47] ؟ وما الصيحة التي تأخذهم؟
الجواب:
(2/188)
(كم) - هاهنا - لكثير العدد، كأنه قيل: ألم
يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون، وموضعها نصب بـ {أَهْلَكْنَا}
على تقدير: ألف قرن أهلكنا أو أكثر.
وجه الاحتجاج بـ {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} [31]
كأنه قيل لهم: انظروا لم لا يرجعون فإنكم تجدون ذلك؛ لأنهم في
قبضة مالكهم، يردهم في الآخرة إذا شاء ردهم لأنه لا يخلو
إهلاكهم بالاتفاق من غير إضافة إلى حي قادر، ولو كان بالاتفاق
أو الطبيعة لم يتسع أن يرجعوا إلى الدنيا.
وجه التذكير بكثرة المهلكين أنكم ستصيرون إلى مثل حالهم
فانظروا لأنفسكم، واحذروا أن يأتيكم الإهلاك وأنتم في غفلة عما
يراد بكم.
قيل لأهل العصر (قرن) لاقترانهم في الوجود، وأما المقاوم في
الحرف فـ (قرن) بكسر القاف.
وقال قتادة: {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} عاد وثمود
وقرون بين ذلك كثيرا.
الفرق بين (لمَا) بالتخفيف و (لمَّا) بالتشديد أن (ما) في
(لمَا) بالتخفيف صلة مؤكدة، كأنه قيل: وإن كل لجميع لدينا
محضرون، و (إن) في الأول المخففة من المثقلة. وفي الثاني:
بمعنى الجحد، كأنه جحد دخل على جحد فخرج إلى معنى الإثبات.
(2/189)
وقيل: يجوز أن (لمَّا) بمعنى (لمَا) ، حذفت
إحدى الميمات لأجل التضعيف، ونظيره قولهم: سألتك لما فعلت،
بمعنى: إلا فعلت.
ومعنى {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} [35] يجوز في (ما) ثلاثة
أوجه: الجحد، ومعنى (الذي) ، وأن تكون مصدرا.
(2/190)
قرأ عاصم - في رواية أبي بكر -، وحمزة،
والكسائي {وَمَا عَمِلَتْ أَيْدِيهِمْ} ، وقرأ الباقون {وَمَا
عَمِلَتْهُ} .
{الْأَزْوَاجَ} [36] الأشكال بالحيوان، على مشاكلة الذكر
الذكر.
السلخ: إخراج الشيء من لباسه.
معنى {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [38] فيه ثلاثة أوجه:
الأول: لانتهاء أمرها عند انقضاء الدنيا.
الثاني: لوقت واحد لها لا تعدوه. عن قتادة.
الثالث: إلى أبعد منازلها في الغروب.
العرجون: العدق الذي فيه الشماريخ، وإذا تقادم عهده حتى يبس؛
تقوس.
{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [40]
حتى يكون نقصان ضوئها كنقصانه. وعن أبي صالح: لا يدرك أحدهما
ضوء الآخر. وقيل: {
(2/191)
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ
تُدْرِكَ الْقَمَرَ} في سرعة مسيره {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ
النَّهَارِ} فكلها على تقادير قدرها الله.
وقيل: (الفلك) مواضع النجوم من الهواء الذي تجري فيه.
قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو {والْقَمَرُ} رفعا، وقرأ
الباقون {والْقَمَرَ} نصبا.
الحمل: منع الشيء أن يذهب به إلى جهة السفل.
{الْفُلْكِ} [41] السفن؛ لأنها تدور في الماء. يقال: فلك ثدي
الجارية إذا استدار.
{الْمَشْحُونِ} المملوء.
الصريخ: الصارخ بالاستغاثة. وقيل: الصريخ: المعين عند الصراخ
بالاستغاثة.
معنى {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}
قيل: سفينة نوح. عن الضحاك، وقتادة.
{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [42]
السفن بعد سفينة نوح. وقيل: الإبل سفن البر. عن ابن عباس.
(2/192)
وقيل: {اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ}
[45] عذاب الله لمن خلا قبلكم من الأمم {وَمَا خَلْفَكُمْ} من
أمر الساعة. عن قتادة.
وقيل: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} ما يأتي من الذنوب {وَمَا
خَلْفَكُمْ} لما مضى من ذنوبكم.
الجواب محدوف كأنه قدر: إذا قيل لهم هذا أعرضوا.
وقيل: إنما ذكر الدرية - وهم الصبيان والنساء - لأنه لا قوة
لهم على السفر كقوة الرجال، فسخر هذه السفن بما جعل عليه
الماء، وعدل الريح ليمكن الحمل [في البحر] ، وجعل الإبل [ليمكن
الحمل] في البر.
(2/193)
الإعراض: الذهاب عن الشيء بالتوجه إلى غيره
في جهة العرض ليعرفوه فقد ضل عن الهدى، وخسر الآخرة والأولى.
الإنفاق: إخراج ما كان من المال عن الملك بعوض وغير عوض.
معنى قولهم: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ
أَطْعَمَهُ} [47] أنهم يوهمون أن الله لما كان قادرا على
إطعامه وليس يشاء إطعامه فنحن أحق بذلك، وذهب عليهم موضع
التعبد في تكليف الإطعام.
وقيل: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} من قول
المشركين. وقيل: بل هو من قول الله لهؤلاء الذين قالوا:
{أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} .
الصيحة التي تأخذهم في الدنيا عند قيام الساعة؛ فأتنهم بغتة
والرجل يسقي إبله، والآخر يبيع سلعته على عادتهم في تصريفهم،
فإذا أخذتهم الصيحة لم يستطيعوا توصية، ولم يرجعوا إلى أهليهم
للمعالجة.
في حديث مرفوع "هي ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة
القيام لرب العالمين".
(2/194)
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو {يَخَصِّمُونَ}
بفتح الخاء وتشديد الصاد، إلا أن أبا عمرو يختلس فتحة الخاء،
وقرأ نافع {يَخْصِّمُونَ} بفتح الياء وتسكين الخاء مشددة
الصاد، بجمع بين الساكنين، وقرأ ابن عامر، وعاصم، والكسائي
{يَخِصِّمُونَ} بفتح الياء وكسر الخاء وتشديد الصاد، وقرأ حمزة
{يَخِصِّمُونَ} بفتح الياء وتسكين الخاء وتخفيف الصاد، وهذا
القراءة بمعنى: وهم يخصمون عند أنفسهم في دفع النشأة الثانية،
والأولى: يختصمون.
{فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} [50] لا يقدر بعضهم أن يوصي
إلى بعض.
مسألة:
إن سأل عن قوله سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ
مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ
(51) } إلى آخر السورة
فقال:
(2/195)
ما النفخ في الصور؟ وما الأجداث؟ وما
النسول؟ وما معنى {مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} [52] ؟ وما معنى
{فَاكِهُونَ} ؟ وما الضلال؟ وما الأرائك؟ وما معنى {وَلَهُمْ
مَا يَدَّعُونَ} [57] ؟ وما الاستباق؟ ولم وصف طريق الجنة بأنه
مستقيم؟ وما إضلال الشيطان؟ وما الجبل؟ وما معنى {اصْلَوْهَا}
[64] ؟ وما الطمس؟ وما معنى {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} [66] ؟
وما المسخ؟ وما معنى وصف {نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [68] ؟
وما معنى {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [71] ؟ وما تذليل الأنعام؟ وما
منافعها؟ وما الفرق بين الركون والركوب؟ ولم وجب جواز الإعادة؟
ولم وجب أنه لا بد من قادر يصرف خلق الإنسان؟ وهل في الآية
دليل على صحة القياس؟ ومن الذي قال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا}
[78] ؟
الجواب:
النفخ في الصور كالنفخ في البوق، والصور: قرن ينفخ فيه فيخرج
من جوفه صوت عظيم يميل العباد إليه؛ لأنه كالداعي إلى نفسه،
أخذ من (الميل) ، يقال: صاره وصوره صورا؛ إذا أماله. ومنه:
{فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة: 260] أي: أملهن إليك.
{الْأَجْدَاثِ} القبور، والواحد (جدث) ، هذه لغة أهل العالية،
وأما أهل السافلة فيقولون: (جدف) بالفاء.
النسول: الإسراع في الخروج.
وقيل: اليوم بين النفختين. عن قتادة.
(2/196)
{هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ
الْمُرْسَلُونَ} [52] من قول المؤمنين. عن قتادة. وقيل: هو من
قول الكافرين. عن ابن زيد.
معنى {فَاكِهُونَ} فرحون. عن ابن عباس. وقيل: عجبون. عن مجاهد.
وقيل: ذو فاكهة، كما يقال: شاحم لاحم، أي: ذو شحم ولحم. وقيل:
فاكة وفكة، وحاذر وحذر، و (الفكهة) : التي التي تمارى بالشيء.
قرآ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو {شُغُلٍ} خفيفة، وقرأ الباقون
{شُغُلٍ} مثقلة.
الضلا: {......} عن وهج الشمس، ولا حر في الجنة يؤذي ولا برد.
(2/197)
{الْأَرَائِكِ} الوسايد، واحدها: أريكة،
كقولك: سفينة، وسفن، وسفانن. وهذه جلسة الملوك العظماء من
الناس.
متكئ: (مفتعل) من: (توكأت) .
{وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [57] فيه قولان:
أحدهما: يتمنون.
الثاني: أن من ادعى شيئا فهو له، يحكم الله بأنهم لا يدعون إلا
إلى ما يحسن.
الظل: الكن.
وقيل: {الْأَرَائِكِ} الفرش. وقيل: {الْأَرَائِكِ} الحجال على
السرر عن عكرمة.
الامتياز: انفصال الشيء مما كان ملتبسا.
وقيل: {امْتَازُوا} [59] أي: اعتزلوا عن كل خير. عن قتادة.
و {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [58] أي: ولهم سلام
يسمعونه من الله - عز وجل -، يؤذنهم بدوام الأمر والسلامة،
وشيوع النعمة والكرامة.
{....} بجعلهم عبادتهم للأوثان بأمر الشيطان عبادة له.
(2/198)
قرأ حمزة، والكسائي {فِي ظُلَلٍ} ، وقرأ
الباقون {فِي ظِلَالٍ} .
وصف طريق الجنة بأنه مستقيم لانه إخلاص ما يؤدي إليه من عبادة
الله - تعالى -، وما عداه طريق خليط، والتخليط ليس بمستقيم؛
وذلك لأنه لم ينعقد بمعنى صحيح.
(2/199)
إضلال الشيطان: إغواؤه بالدعاء إلى القسم،
وكذلك إضلال السامري.
الجبل: الجمع الذين جبلوا على خلقة، وأصل (الجبل) : الطبع،
ومنه: جبلت التراب بالماء؛ إذا صيرته طينا يصلح أن يطبع فيه،
ومنه: الجبل؛ لأنه موضوع على الثبات.
{اصْلَوْهَا} [64] الزموا العذاب لها، وأصل (الصلي) : اللزوم،
ومنه: (المصلي) الذي يجيء في إثر السابق للزومه أثره، و
(الصلوان) مكتنفا ذنب الفرس؛ للزومهما موضعهما، و"صلى على
دنها" للزومه الدعاء لها.
شهادة الأيدي والأرجل تحتمل وجهين:
الأول: أن تخلق خلقه تكون متكلمة ناطقة بها.
(2/200)
والآخر: أن يخلق الله - تعالى - تلك فيها،
وذلك يبطل مذهب المعتزلة أنه إنما تتكلم بالكلام من فعله.
قرأ {جِبِلًّا كَثِيرًا} - بضم الجيم والباء، خفيفة اللام -
ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وقرأ نافع، وعاصم {جِبِلًّا} بكسر
الجيم والباء، مشددة اللام.
(2/201)
وقرأ أبو عمرو، وابن عامر {جِبِلًّا} بضم
الميم، ساكنة الباء، خفيفة اللام.
الطمس: محو الشيء حتى يذهب أثره بالطمس على العين، كالطمس على
الكتاب، وكذلك الطمس على المال إذهابه حتى لا يقع عليه إدراك.
معنى {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} [66] أي: طلبوا السبق إلى
طريق النجاة ولا بصر لهم به.
{فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} وهذا بيان أنهم في قبضة القادر عليهم
فليحذروا تنكيله بهم.
المسخ: قلب الصورة إلى خلقه مشوهة، كما مسخ قوما قردة وخنازير.
وقيل: {لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} [66] أي: أعميناهم عن
الهدى. وقيل: لتركناهم عميا يترددون. عن الحسن، وقتادة.
(2/202)
صفحة فارغة
(2/203)
الطمس على العين: الشق الذي بين الجفنين،
كما يطمس الريح الأثر، يقال: أعمى مطموس وطمس.
{فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} أي: ابتدروا.
{لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} [67] أي: مقعدين على
أرجلهم. عن الحسن، وقتادة.
{لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [70] أي: حي القلب.
{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [68] أي:
نصيره إلى حال الهرم التي تشبه حال الصبي في عزوب العلم وضعف
القوى. وقيل: المعنى أنه ينبئ عن حكمه على الكفار مع قدرته
عليهم.
وقيل: {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} [66] إلى منازلهم فلم يهتدوا
إليها لما عدموا التوفيق. وقيل: بل طلبوا طريق الحق وقد عموا
عنه. عن ابن عباس.
(2/204)
وقيل: {نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [68]
نصيره بعد القوة إلى الضعف، وبعد زيادة الجسم إلى النقصان،
وبعد الجدة والطراوة إلى البلى والخلوقة.
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [69]
لئلا تدخل به الشبهة على قوم مما أتى به من القرآن فيظن أنه
قوي على ذلك بما في طبعه من الفطنة للشعر.
وقيل: لما لم يعط الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - العلم
بإنشاء الشعر لم يكن قد علمه الشعر؛ لأنه يعطي فطنة ذلك من
يشاء من عباده.
المكانه والمكان واحد.
قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي
{نُنَكِّسْهُ} بفتح النون الأولى، وتخفيف الكاف. وقرأ حمزة،
وعاصم {نُنَكِّسْهُ} بضم النون الأولى، وفتح الثانية، وتشديد
الكاف.
وقرأ نافع {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} [68] بالتاء، وقرأ الباقون
بالياء.
معنى {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [71] عملناه من غير أن نكله إلى
غيرنا.
تذليل الأنعام: توطينها بالانقياد ودفع النفور، وذلك أن من
الحيوان الوحشي، ومنه الإنسي، فالإنسي مذلل بما جعل فيه من
الأنس والسكون.
(2/205)
الأنعام: الإبل، والبقر، والغنم، ومن
منافعها: لبس أصوافها، وشرب ألبانها، وأكل لحومها، وركوب
ظهورها، إلى غير ذلك من ضروب المنافع الكثيرة.
وقيل: {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [75] أي: في النار؛
لأن كل حزب مع ما عد من الأوثان، فلا الجند يدفعون عنها
الإحراق بالنار، ولا هي تدفع عنهم العذاب.
الفرق بين الركوب والركوب: (الركوب) - بضم الراء -: مصدر، وهو
اسم الفعل. (الركوب) : صفة، دابة ركوب، أي: تصلح أن تركب.
{وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} أي: يغضبون للأوثان في
الدنيا. عن قتادة. قتادة.
الحزن: ألم القلب بما يرد عليه مما ينافر الطع.
الإسرار: إخفاء المعنى في النفس.
واعلم أنه لا د من قادر يصرف خلق الإنسان؛ لأنه يخلو فعله أن
يكون من قادر وهو طبيعة في حكم الموات في أنها ليست بحية ولا
قادرة، أو يضاف إلى الاتفاق، ومحال أن يجري الفعل المحكم
المتقن على
(2/206)
اتساق وانتظام بالاتفاق، وكذلك ببسطه في
أنه من [ ... ] في حكم الموات، فلم يبق إلا أنه حي قادر، فعله
ودبره على ما يشاء.
وجب جواز الإعادة لأن من قدر على اختراع الشيء من غير معين كان
على إعادته قادرا لا محالة، ومن قدر على البناء فهو على الهدم
أقدر.
وفي الآية دلالة على حجية القياس؛ لأن الله - تعالى - أقام
الحجة على المشركين من جهة أن قياس النشأة الثانية قياس النشأة
الأولى، وأنه يلزم من أقر الأولى أن يقر بالثانية.
واختلفوا في القائل: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}
[78] :
فقال قوم: هو أبي بن خلق. عن قتادة.
وقيل: هو العاص بن وائل السهمي. عن سعيد بن جبير.
(2/207)
وقيل: هو عبد الله بن أبي. عن ابن عباس.
وقال الحسن: "جاء أمية بن خلف إلى الني - صلى الله عليه وسلم -
بعظم حائل قد لي فقال: يا محمد! أتزعم أن الله يبعث هذا بعدما
قد بلي؟ فقال: "نعم"". ونزلت الأية.
(2/208)
***
(2/209)
|