تفسير ابن فورك

سورة {ص}
مسألة:
إن سأل عن قوله سبحانه: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ (17) } فقال:
هلا تعدّ {ص} ؟ واين جزاب القسم في {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [1] , وما معنى {ص} ؟ وما معنى {ذِي الذِّكْرِ} ؟ وما معنى {فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [2] ؟ وما معنى {مَنَاصٍ} ؟ ولم نصبت {لَاتَ حِينَ} ؟ وما الانطلاق؟ وما معنى {امْشُوا} ؟ ولم لا يجوز تأويل من قال: إن معنى {امْشُوا} أي: لتكثر ماشيتكم، بمعنى الدعاء لهم؟ ومن القائل: {امْشُوا وَاصْبِرُوا} [6] ؟ وما معنى {وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ} [12] ؟ وما معنى {الْأَيْكَةِ} ؟ وما الصيحة الأولى؟ وما معنى {مِنْ فَوَاقٍ} [15] ؟ وما التعجيلُ؟ وما الحسابُ؟ وما القط؟ وما الصبرُ؟ وما وجه اتصال {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ} [17] بما قبله؟.
الجواب:
لم يعد {ص} لأنه يشبه الاسم المفرد في أنه على ثلاثة أحرف في هجاء حروف المعجم، نحو: باب، ودار، وناد، وإنما يعدُّ ما أشبه الجملة وشاكل آخره رءوس الآي التي بعده بالردفِ، ومخرج الحروف.
جواب القسَم في {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [1] محذوف بتقدير: جاء الحق وظهر الأمر، وحذف الجواب في مثل هذا أبلغ؛ لأن الذكر له يقصر المعنى على وجهٍ، والحذف يصرفه إلى كل وجهٍ.

(2/262)


معنى {ذِي الذِّكْرِ} البيان والبرهان المؤدي إلى الحق، الهادي إلى الرشدِ.

(2/263)


معنى {عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [2] في حمية وفراقِِ.
وقيل: (الشقَّاقُ) الخلافُ.
وقيل معنى {ص} أقوال:
أحدهما: أنه قسم، واسم من أسماء الله - تعالى - عن ابن عباس. وقيل: من حروف المعجم. عن السدي. وقيل: معناه: صدق الله. وقيل: اسم من أسماء القرآن. وقيل: اسم من أسماء السورة. وقيل: (صادِ) - بكسر الدال -، أي: عارضْ بعملكَ.

(2/264)


وقيل: {ذِي الذِّكْرِ} ذي الشرف. قيل: {ذِي الذِّكْرِ} التذكير لكم.
وقيل: جواب القسم ما كفى منه {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [2] ، كأنه قال: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} ما الأمر كما قالوا.
وقيل: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} كفى منه {كَمْ أَهْلَكْنَا} لما وقع بينه وبين القسم اعتراضٌ. عن الفراءِ.

(2/265)


صفحة فارغة

(2/266)


وقيل: الجواب: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} ؛ إلا أنه قد يبعدُ من أول الكلام.
معنى {مناص} فرار، ناصَ ينوصُ نوصاً.
نصبت {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [3] لأنها مشبهة بـ (ليْسَ) من جهة النفي والحالِ.
وقيل: ولاتَ حين فرارٍ من العذابِ.
وقيل: (لات) بالتاء على قياس فصيرهَا من: ثمتَ، وربتَ؛ وذلك لأن ما قبلها ساكنٌ، وهو مذهب الفراء، والكسائي يقف (لاهْ) بالهاء، يجعل الألف في [نية] (1) الحركةِ.
وقيل: (المَنَاصُ) المنجاةُ.
__________
(1) ما بين المعقوفتين زيادة من التبيان للطوسي.

(2/267)


عجيبٌ، وعجَابٌ، وعجَّابٌ - مشدَّدٌ - بمعنى واحد، نحو: كريم وكرَامٌ وكرَّامٌ.
الانطلاقُ: الذهابُ بسهولة.
معنى {أَنِ امْشُوا} : أي امشوا، (أنْ) - ها هنا - بمعنى: [أيْ] التي للتفسير.
قيل: يجوز {أَنِ امْشُوا} أي: بهذا القول.
ولا يجوز أن يكون بمعنى الدعاء لكثرة الماشية لهم، لأنه يكون الأمر من ذلك بقطع الألف، والقراءة بوصلها، ولو طرحت على النون لانفتحت، والقراءة بالكسر، والمعنى لا يشاكل ما بعده ولا ما قبله.

(2/268)


وقيل: الذي قال {امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [6] ابن أبي معيط. عن مجاهد.
وقيل: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} [7] النصرانية. عن ابن عباس. وقيل: ملة قريش. عن مجاهد.
وقيل: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} تخرصٌ وكذبٌ. عن ابن عباس.
وقيل: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} [8] أي: ليس يحملهم على هذا إلا الشك في الذكر الذي أنزلت على رسولي.
{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} [9] فيمنعونك ما من الله - تعالى - به عليك من الكرامة، وفضلكَ به من الرسالة.
وقيل: {فِي الْأَسْبَابِ} [10] هي أبواب السماء وطرقها. عن مجاهد مجاهدٍِ، وقتادة.

(2/269)


{الْأَسْبَابِ} جمع (سببٍ) ، وهو: ما يتوصل به إلى المطلوب من حبلٍ أو وسيلة أو رحمٍ أو قرابة أو طريق أو حجةٍ.

(2/270)


ووجه اتصال الإنكار لما قالوا بما قبله أن ذلك ليس لهم، وإنما هو إلى من يملك هذه الأمور.
وقال الحسن: {فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} [7] أي أن هذا يكون في آخر الزمان.
الجُندُ: جمع معدٌّ للحربِ.
و (ما) في {جُنْدٌ مَا} [11] صلة للتأكيد، تقول العرب: جنت لأمر ما. قال الأعشى: [الخفيف]
فاذْهَبي مَا إليكِ أدرِكِني الحلـ ... ـم عدَاني عَنْ هيْجكم أشغَالِي
فكأنها تقوبة للنكرة المبتدأ في {جُنْدٌ مَا} .
(هُنَا) للقريب، و (هنالك) للبعيد، ونظيره: ذا و [ذاك] وذلك، فـ (هُنَا) للقريب، و (هُنَاكَ) للتوسط بين القريب والبعيد، و (هُنالِكَ) للبعيد.

(2/271)


{وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ} [12] فيه أقوال:
منها: أنه كانت له ملاعب من أوتاد يلعب له عليها. عن ابن عباس، وقتادة.
ومنها: قيل له ذلك لتعذيبه بالأوتاد. عن السدي. والربيع بن أنسِ.
ومنها: أنهُ ذو البنيان، والبُنْيانُ أوتادُ.
المهزومُ: الذي وقعت به الهزيمة، والهَزيمةٌ: الفرار من المحُاربةِ المُحاربةِ.

(2/272)


وقيل: {مِنَ الْأَحْزَابِ} [11] من حزب إبليس وأتباعه.
الصيحة الأولى: النفخة الأولى في الصُّورِ.

(2/273)


وقيل: {مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} [15] أي: من إفاقة بالرجوع إلى الدنيا. وقيل: صيحة عذاب مالها من فتور كما يفيق المريض. وقيل: {مِنْ فَوَاقٍ} - بفتح الفاء -: من راحةٍ، وبضمهَا: ما لها من فُواق ناقةٍ: قدرُ ما بيم الحلبتين. وقيل هما بمعنى واحد، قصاص الشعر وقصاصه بمعنى، وما بين الرضعتين (فُوَاق) .
{وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} [13] قوم شعيب - عليه السلام -.
قرأ حمزة، والكسائي {فُوَاق} بضم الفاء، وقرأ الباقون بفتحها.
التعجيل: عمل الشيء قبل وقته الذي حقه أن يكون فيه.
القطُّ: النصيب الذي يقطع لصاحبه من غيره، وأصله: القطع، من قولك: قطهُ يقطُّهُ، مثل: قدهُ يقُدُّهُ.
الصبرُ: حبسُ النفس عما تنازع إليه من الخروج عن الحدَّ.
وجه اتصال {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ} [17] بما قبله الترغيب في الصبر المأمور به بأم لك كم إحسان الله - تعالى - إليك على نحو إحسانه إلى داود - عليه السلام - قبلكَ.

(2/274)


وقيل: {عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} [16] أي: حظنا من العذاب. وقيل: إنما سألوا أن يريهم من النعيم في الجنة حتى يؤمنوا. وقيل: إنما سألوا تعجيل كتبهم التي يقرؤنها في الآخرة استهزاء منهم بهذا الوعيد.
القطُّ: الكتاب في كلام العرب.
{ذَا الْأَيْدِ} [17] القوة. عن ابن عباس، ومجاهدٍ.
{أَوَّابٌ} رجاعٌ إلى مرضاة الله - تعالى -. وقيل: (الأوَّابُ) التوابُ.
{وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} [19] مجموعة من كل جانب. وقيل: محشَّرةً.
{كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} رجاعٌ إلى ما يريده.
{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} [20] بالجنودِ والهيبةِ.

(2/275)


{وَفَصْلَ الْخِطَابِ} إصابة الحكم بالحقَّ.
{يُسَبِّحْنَ} [18] بتسبيحها معه الذي يدعو إليه تنزيه الله وتعظيمه.
مسألة:
إن سأل عن قوله سبحانه: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) } [21] قال:
ما الخصمُ؟ وما التسوُّرُ؟ وما المحرابُ؟ ولم قيل: [خَصْمَانِ] وقبلهُ [تَسَوَّرُوا] ؟ وما معنى {إِنَّ هَذَا أَخِي} [23] ؟ وما معنى {أَكْفِلْنِيهَا} ؟ وما معنى {وَعَزَّنِي} ؟ وما المالك؟ وما الزلفى؟ وما الخصمان اللذان تسورا المحرابِ؟ وهل كان ذلك معصية من داود - عليه السلام -؟ وهل كان [لهُ] تسع وتسعون امرأة؟ وما الجعْلُ؟ وما الحكمُ؟ وما اتباع الهوى؟ وما معنى {نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [26] ؟ وما معنى {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [29] ؟.

(2/276)


الجواب:
الخصمُ: الطالب الذي ينازع في الأمر، وهو يقع على الواحد والاثنين والجمع على صيغة واحدةٍ، لأن أصله المصدر، فذلك جاز {تَسَوَّرُوا} .
التسوُّرُ: الإتيان من جهة السور. يقال: تسور فلان الدارَ إذا أتاها من قبل سورها، وكانوا أتوهُ من أعلى المحراب؛ فلذلك فزع منهم.
{الْمِحْرَابَ} مجلس الأشراف الذي يحارب دونه لشرف صاحبه، ومنه: سمي المصلي (محراباً) ، وموضع القبلة أيضاً (محرابٌ) .
وقيل: {تَسَوَّرُوا} بعد قوله: {خَصْمَانِ} لأنه ثنى على تقدير: فريق، وجمع لأن كل فريق جمع.
الإشطاطُ: مجاوزة الحقَّ.
وقيل: ولا تسرف في حكمكَ بالميل مع أحدنا على صاحبه.
وقيل: {إِنَّ هَذَا أَخِي} [23] أي: في ديني. عن وهببن مُنبهٍ.
[أَكْفِلنِيهَا] اجعلني كفيلاً بها، أي: ضامناً لأمرها، ومنه: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37]

(2/277)


{وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} غلبني، من قولهم: من عزَّ بَزَّ، أي: من غلب سلبَ.
المآبُ، والمرجعُ، والمصيرُ، والمثَابُ: واحدٌ.
الزلفَى: القربةَ.
الخصمان: ملكان تسورا عليه المحراب، وتقديره: ما يقول خصمان قالا: {بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} ، وذلك أن الملكين لم يكونا خصمين، ولا بغى أحدهمت على ألاخر، وإنما هو على المثل.
الفتنةٌ: الشدة في البعد.
الزلفى: القربُ من رحمة الله - تعالى - وثوابه في جنته.
وقيل: إنه خطب امرأة كان أوريا ابنُ حنان خطبها. وقيل: بل كانَ يجبُّ أن يستشهد ليتزوج امرأتهُ.

(2/278)


وقيل: {فَغَفَرْنَا لَهُ} [25] بعد الإنابة، وإن كانت الخطيئة مغفورة، لأنها مغفرة بعد مغفرة، قال إبراهيم - عليه السلام -: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] .
وقال الحسن: "لم يكن له تسع وتسعون امرأة، وإنما هو مثل".
الجعلُ: تصييرُ الشيء على غير ما كان بقادر عليه.
الخليفة: المدبر الأمر من قبل غيره على جهة البدل من تدبيره؛ ولذلك يقال: خليفة الله في الأرض؛ لأنه جعله لتدبير عباده بامره.
الحكمُ: موجب العلة، والحكم أصل بالإضافة لما بعده، وفرع بالإضافة لما قبله، فهو وسط بين الأمرو، وأحكام القرآن أصول يعمل عليها.
اتباع الهوى: عمل الشيء لداعي الهوى، وذلك منهي عنهُ، ولا ينبغي أن يفعل الشيء لأجله.
الحقُّ: وضع الشيء في موضعهِ.
وقيل: {خَلِيفَةً} [26] لمن كان قبلك من رُسلنِا.

(2/279)


وقيل: {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} يوم الحساب. {بِمَا نَسُوا} أي: تركوا. وقيل: {نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} أي: أعرضوا عنه حتى صاروا بمنزلة النَّاسي.
ومعنى {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [29] أنه به يستديمُ الناس بتقربِ ما أنعم الله - تعالى - عليهم.
مسألة:
إن سأل عن قوله سبحانه: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} [41] فقال:
ما العرض؟ وما الصافن؟ وما الجياد؟ وما معنى {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [32] ؟ وما التي توارت بالحجاب؟ وما معنى {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [33] ؟ وما معنى {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} [34] ؟ وما كان ذنب داود [عليه السلام] ؟ وما معنى {لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [35] ؟ وما معنى التسخير؟ وما الرخاء؟ وما الإصابة؟ وما الغوص؟ وما الأصفاد؟ ولم جاز {لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} وظاهره الضن بمثله على من بعده؟

(2/280)


الجواب:
العرض: إظهار الشيء بحيث يرى لتمييز أمره بما تقتضيه حاله، منه: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} [الكهف: 48] ، وأصله الإظهار، وأما (أعرض عني) ، أي: أظهر جفوة بتولية عني، وأما (عرض) فظهر بالانبساط في جهة العرض.
الصافن: القائم على ثلاث من الخيل، وذلك من عادة الفرس إذا وقف أن يكون على تلك الصفة.
{الْجِيَادُ} السراع من الخيل، فرس جواد كأنه يجود بالركض، وكأنه جمع (جود) ، ونظيره في الجمع: سوط وسياط.
{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [32] يعني: الشمس، وجاز الإضمار قبل الذكر لأنه معلوم، كما قال لبيد: [الكامل]
حتى إذا ألقت يدا في كافر وأجن عورات الثغور ظلامها ظلامها.

(2/281)


وقد قيل: {حتى توارت} الخيل {بالحجاب} أي: شغلت { ... ....} تلك الحال.
وقال مجاهد: "صفن الفرس إذا رفع إحدى يديه حتى تكون على طرف الحافر". وقال ابن زيد: "صفن الخيل إذا قام على ثلاث مع رفع رجل واحدة يكون طرف الحافر على الأرض". يقال: صفنتِ الخيل تصفن صفوناً.
وعنى بالخير - ها هنا - الخيلَ -. عن قتادة، والسدي.
{عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} عن صلاة العصر. عن علي - رضي الله عنه -، وقتادة، والسدي.

(2/282)


صفحة فارغة

(2/283)


معنى {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [33] أنه كشف عن عراقيبها، وضرب أعناقها، وقال: لا تشغلني عن عبادة الله مرة أخرى. عن الحسن. وقيل: جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حباً لها. عن ابن عباس.
{وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} [34] أي: شيطاناً اسمهُ (صخْرٌ) .

(2/284)


صفحة فارغة

(2/285)


وقيل: اسمه (آصفُ) . عن مجاهد. وقيل: اسمه (حبقيق) . عن السدي.
{ثُمَّ أَنَابَ} رجع إلى ملكه. عن قتادة.
وكان ذنبه أنه وطئ في ليلة عدةً كثيرة من جواريه حرصاً على كثرة الولدِ. وقيل: الذنبُ [أنهُ] وطئ امرأته في الحيض.
وقال الحسن: "إنما قال: {لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [35] أي: لا تسلبنيه كما سلبتنيه في المرة الأولى".
وقيل: كان ملكه في خاتمه، فلما أخذه الجنيُّ رمى به في البحر، ثم رده الله عليه من بطن سمكةٍ.

(2/286)


وقال أبو حنيفة: {لَا يَنْبَغِي} لا يكونُ.
التسخيرُ: تذليل العامل للعمل، فجعلت الريح بمنزلة العامل المذلل للعمل، لأنها تتصرف في الحجاب، وتحملُ - بإذن الله - ما حملت من الأجسام.
الرخَاءُ: الريح اللينة، وهي من رخاوة المرء وسهولته، وإنما وصفت الريح باللين لأنها إذا عصفت لم يتمكن منها، وإذا لانتْ أمكنتِ الإصابة {....} البغية بالميل إلى تلك الجهة.
الغوصُ: النزول في الماء. وقيل: إنهم كانوا يغوصون لهُ في البحار، وغيرها من الأنهار بحسب ما أراد.
وقيل: {رُخَاءً} [36] سريعة طيبة. عن قتادة.
وقيل: مطاوعة. عن ابن عباس، والحسن.

(2/287)


صفحة فارغة

(2/288)


وقال الحسن: "كان يغدو بإيلياء، ويقيل بقزوين، ويبيت بكابل".
و {حَيْثُ أَصَابَ} حيث أراد.
وقيل: {غَوَّاصٍ} [37] يستخرجون له الحلي من البحر. عن قتادة.
الأصفاد: الأغلال، واحدها (صفد) ، السلاسل تجمع اليدين إلى العنق. عن السدي.
وقيل: هذا الملك الذي أعطيناك فأعط ما شئت، وامنع ما شئت. عن الحسن. وقيل: لا تحاسب على ما تعطي وتمنع يوم القيامة؛ ليكون أهنأ لك. عن قتادة. والضحاك: أي: ليس عليك تبعة. وقيل: بغير مقدار يجب إخراجه من يدك، ولا يكون بغير حساب في الآخرة.

(2/289)


فإن قيل: فلم جاز أن يسأل الملك مع ما في ذلك من الرغبة في الدنيا وليس من أخلاق الأنبياء؟
قيل: لم يسأل رغبة في الدنيا، وإنما سأل الملك رغبة في التمكن من إظهار نعمة الله، والدعاء بها إلى دينه، ولم يضن بها على من بعده، لكن طلب معجزة لتخصه من جهة النعمة عليه لإظهار منزلته من ربه لما خصه به، وأجابه إليه.
مسألة:
إن سأل عن قوله: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) } فقال:
ما النداء؟ وما النصب؟ وما الركض؟ وما المغتسل؟ وما الهبة؟ وما الضغث؟ وما معنى {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [45] ؟ وما معنى {مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ} [41] ؟ وما الأيدي؟ وما معنى {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [46] ؟ وما معنى {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [50] ؟ وما الاتكاء؟ وما الدعاء؟ وما القاصر؟ وما معنى {أَتْرَابٌ} ؟ ولم قيل لجهنم {مِهَادٌ} ؟ وما المهاد؟ وما الدواق؟ وما أصل الجحيم؟ وما الغساق؟
الجواب:
النداء: الدعاء بطريقة يا فلان! ، وقد يكون الدعاء بطريقة: افعل كذا، كقولك في الدعاء لله: اغفر لنا.
النصب: الألم عن التعب. النصب، والوصب، والتعب: واحد.
الركض: الدفع بالرجل على جهة الإسراع، منه: ركض الفرس؛ لإسراعه إذا دفع رجله.

(2/290)


المغتسل: موضع الاغتسال: تقديره: ماء مغتسل بارد وشراب. وهو كقولك: مضطرب: موضع الاضطراب. وقيل: ما يغتسل به (مغتسل) .
الهبة: تمليك ما فيه المنفعة من غير مثامنة، فلما رد عليه أهله كان قد وهبهم له هبة محددة.
وقيل: النُّصْبُ والنَّصَبُ واحد، مثل: الحُزْن والحَزَن، والعُدْم والعَدَم، والرُّشْد والرَّشَد.
والضغث: ملء الكف من الشجر أو الحشيش والشماريخ، وما أشبه ذلك.
وقيل: نبعت له عينان فاغتسل من إحداهما، وشرب من الأخرى. عن الحسن، وقتادة.
وقيل: كان حلف على امرأته لأمر أنكره من قولها لئن عوفي ليضرنها مائة.

(2/291)


وقيل: خد ضغثا بعدد ما حلفت فاضرب به دفعة واحدة. عن قتادة، والضحاك.
وقيل: {أُولِي الْأَيْدِي} [45] القوة على العبادة {وَالْأَبْصَارِ} الفقه في الدين. عن ابن عباس. وقيل: {أُولِي الْأَيْدِي} أولي الأعمال.
وقيل: {مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ} [41] من جهة وسوسته بتذكيره ما كان من البلية.
وقيل: {الْأَيْدِي} النعم في الدين.
قرأ ابن كثير {وَاذْكُرْ عِبَدَنَا إِبْرَاهِيمَ} ، وقرأ الباقون {عِبَادَنَا} .
الإخلاص: إخراج كل شيء عن الشيء الذي ليس من شكله، فهؤلاء المؤمنون الأبرار قد أخلصهم الله لنعيم الجنان لطفه فيما لازموه من الإحسان.
معنى {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [46] أي: الخالصة التي أخلصناهم بها هي {ذِكْرَى الدَّارِ} للعمل بها، ناهيك بها من خالصة أدت إليها، لا حرمنا الله ذلك منها.

(2/292)


الاصطفاء: إخراج الصفوة من كل شيء، والله - تعالى - اصطفاهم باختياره لهم على ما في معلومه أنه يكون منهم الإسراع في الخير.
الخير: نفع محض.
{ذِكْرَى الدَّارِ} دار الآخرة. عن مجاهد، وقتادة. وقيل: {الدَّارِ} الجنة، كما قال: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30] . وقيل: كانوا يذكرونها للعمل لها، ودعاء الناس إليها.
وقيل: {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} أنها تنفتح بغير كلفة. قال الحسن: "تكلم فيقال: انفتحي انغلقي".
وقيل: {ذِكْرَى الدَّارِ} [....] الدين لغيرهم من أجل قيامهم بالنبوة بالنبوة.
الاصطفاء: الاختصاص بمدحهم بأنهم الصفوة.
وقيل: اذكرهم بصبرهم وفضلهم لتسلك طريقهم.
وقيل: {وَذَا الْكِفْلِ} [48] ذو الضعف من الثواب. وقيل: اسمه ذاك.

(2/293)


صفحة فارغة

(2/294)


وقيل: {الْأَخْيَارِ} جمع (خير) ، كـ (ميت) و (أموات) . وقيل: ذو الكفل؛ لأنه تكفل بأمر [سبعين] نبيا فخلصهم من القتل. وقيل: تكفل بعمل صالح فوقى به.
وقيل: أدخل الألف واللام في {وَالْيَسَعَ} كما قال الشاعر: [الطويل] وجدنا الوليد بن اليزيد مبارك شديدا بأحناء الخلافة كاهله لأنه قدره تقدير النكرة.
وقرأ {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} مضاف نافع، وقرأ الباقون بالتنوين.
قرأ حمزة، والكسائي {وَالْليَسَعَ} بلامين، وقرأ الباقون بلام واحدة.
الاتكاء: الاستمساك باستناد؛ لما فيه من المتعة والراحة، وهكذا صفة أهل الجنة.
الفاكهة: طعام يتناول للمنفعة، وذلك أن منه ما يتناول للحاجة إلى الغذاء، ومنه ما يتناول للذة والمتعة، ومنه: تفكه بهذا الأمر.

(2/295)


القاصر: الماد، هو ماد عينه على فلان، وقاصر طرفه عن فلان. القاصر: هو الجاعل الشيء قصيرا، وهؤلاء الحور قد قصرن طرفهن على زواجهن، فما في غيرهم بغية لهن.
{أَتْرَابٌ} [52] أقران على سن واحد، أي: ليس فيهم هومه، ولا عجوز.
{مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [54] أي: من انقطاع. عن قتادة.
وقيل: {أَتْرَابٌ} [52] على مقدار سن الأزواج، من غير زيادة ولا نقصان.
وقيل لجهنم (مهاد) على وجهين: أحدهما: أن يكون تقديره: بئس موضع المهاد.

(2/296)


وقيل: لأنها لهم بدل المهاد [فـ] سميت باسمه، كما جاء {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] .
المهاد: الفراش الموطأ.
الذواق: أشد إدراك للطعم. وإنما قيل: {فَلْيَذُوقُوهُ} لأن الطالب لإدراك الشيء أشد إحساسا به.
الحميم: الحار الشديد الحرارة.
الغساق: ما سال من الصديد. قال ابن عمر: "القيح الذي يسيل منهم يجتمع فيقونه". قال كعب: " (الغساق) عين في جهنم يسيل إليها سم كل ذات حمة من عقرب وحية".
وقيل: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [58] من العذاب أنواع. وقيل: إنه إنه الزمهرير. عن ابن مسعود.

(2/297)


قال الحسن: "ذكر السلاسل والأغلال ونحوه ثم قال: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} مما لم ير في الدنيا".
الشكل - بالفتح -: الضرب المتشابه، الشكل - بالكسر -: النظير في الحسن، وهو الدل.
{لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} [59] لا اتسعت أماكنكم لكم.
{هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [57] أي: منه حميم وغساق، والخبر (فليذوقوه) ، ويجوز أن يكون الخبر {حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} ، {فَلْيَذُوقُوهُ} اعتراض.
وقيل: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} [59] يعني به بنو إبليس. والآخر: بنو آدم - عليه السلام -. عن الحسن.

(2/298)


قرأ {غَسَّاقٌ} بالتشديد حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية حفص، وقرأ الباقون {غَسَّاقٌ} التخفيف، وقرأ أبو عمرو، وابن كثير {وَآخَرُ} مضمومة الألف..... وقرأ الباقون {وَآخَرُ} بفتح الألف.
مسألة:
إن سأل عن قوله سبحانه: {قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) }
فقال:
ما التقديم؟ وما الزيادة؟ وما الضعف؟ وما الفرق بين السخري بضم السين وكسرها؟ وما معنى {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [63] ؟ وما العزيز؟ وما النذير؟ وما معنى {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [69] ؟ وما معنى {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [72] ؟ وما معنى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [75] ؟ وما وجه شبهة إبليس في الامتناع من السجود لآدم؟ وما الرجيم؟ ولم جز أن يعلم إبليس أنه من أهل النار وفي ذلك بعث له على الفساد؟ وما معنى {الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [81] ؟ وما الوقت؟ وما الإغواء؟ ولم استثنى {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [83] ؟ وما التكليف؟ وما معنى (الحق) ؟ وما معنى {بَعْدَ حِينٍ} [88] ؟
الجواب:
التقديم: ترتيب الشيء قبل غيره.
والزيادة: جعل المقدار أكبر مما كان.
الضعف: المثل المضموم إلى مثله.

(2/299)


السخري - بالكسر - من الهزء، وبالضم: من السخرة، يتسخرونهم ويستذلونهم.
وقيل: أم زاغت أبصارنا عنهم فلا ندري أين هم. عن مجاهد.
وقيل: أحد الضعفين لكفرهم بالله، والضعف لآخر لدعائهم آباءنا إلى الكفر.
قال الحسن: "كل ذلك قد فعلوا، اتخذوهم سخريا، وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم".
قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي {أَتَّخَذْنَاهُمْ} موصولة الألف، وقرا الباقون بقطع الألف.
{الْعَزِيزُ} القدير الذي يمتنع بعظم مقدوره من الضيم في شيء من أمره.
الإعراض: الانحراف.
العظيم: ما يصغر مقدار غيره في معنى صفته.
النذير: الداعي إلى التحرز من موضع المخافة. النذير، والمخوف، والمحدر: نظائر.
النبأ العظيم: القرآن. عن مجاهد، والسدي.

(2/300)


ومعنى {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [69] الملأ: الملائكة اختصموا في آدم عليه السلام حين قيل لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] . عن ابن عباس، وقتادة، والسدي. وما علمت ما كانوا فيه إلا بوحي من الله.
وفي {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ} [70] وجهان:
أحدهما: إن يوحى إلي إلا لأني نذير مبين. والآخر: إلا الإنذار.
وقيل: اختصام الملائكة فيما طريقه الاجتهاد. وقيل: بل طريقه استخراج الفائدة، ولا يجوز أن يختصموا في دفع الحق.
قال الحسن: " (النبأ العظيم) يوم القيامة".
معنى {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [72] أي: توليت خلقه من غير سبب جعلته، كالولادة التي تؤدي إليها؛ لأن الله شرف آدم - عليه السلام - بهذه الحالة

(2/301)


وكرمه؛ فاقتضى إكرام ما كرمه الله على طريق التأسيس لما يريد من التدبير.
{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [75] هما يدا صفة خلق بهما آدم - عليه السلام -، وفضله على إبليس، ولا يجوز أن يكون معناه تحقيق إضافة الخلق إليه؛ لأن ذلك يبطل موضع تفضيله على إبليس، لأنه خلق إبليس كما خلقه.
وجه شبهة إبليس في الامتناع من السجود لآدم - عليه السلام - أنه ظن أن النار أشرف من الطين بما فيها من النور، ومن الإحراق الذي يقع الزجر بالعقاب.
وقيل: من شبهته أن النار تأكل الطين بإحراقها له، فهي أعظم منه، وذلك خطأ منه؛ لأن الشرف بالتشريف، والفضل بالتفضيل، والله - تعالى - المختص بتفضيل آدم عليه، فلم يكن له أن يعترض عليه.
الرجيم: المرمى بما يجري مجرى الحجر الدافع. ولم يثبت أن إبليس علم أنه من أهل النار. وقيل: اخرج من الجنة بأنك مرجوم إن

(2/302)


رجعت إليها مثل الشهب التي ترجم بها الشياطين. وقال الحسن: {فَاخْرُجْ مِنْهَا} أي: من السماء.
{الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [81] الظاهر بالعلم.
الوقت: علامة لما يقع فيه الفعل، منه: مواقيت الحج، وهي علامات يحرم الناس عندها.
الإغواء: الدعاء إلى الغي بلتزيين والترغيب، والغي حلاف الرشد.
استثنى إبليس {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [83] مع حرصع على إغواء الجميع؛ لأنه أيس ممن يعلم أنه لا يجيب، وليس له سلطان إلا بالإغواء.
التكلف: تعسف في طلب الأمر الذي لا يقتضيه مقتضى حق، وصفه (متكلف) صفة نقص تجري مجرى الدم.
ومن رفع {فَالْحَقُّ} فالمعنى: فأنا الحق، ويجوز: فالحق لأملأن، كما يقال: عزمه صاقة لآتينك. ومن نصب فعلى: فالحق لأملأن، ويجوز في مثله: حق لأملأن، ويكون {وَالْحَقَّ أَقُولُ} اعتراض بين الكلامين.

(2/303)


وقيل: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [88] أي: عند الموت يأتيك الخبر اليقين.
عن الحسن.
وقيل: يوم القيامة. عن ابن زيد.
وقرأ عاصم، وحمزة {فَالْحَقُّ} الرفع {وَالْحَقَّ أَقُولُ} النصب، وقرأ الباقون كلاهم بالنصب.
* * *

(2/304)


سورة الزمر
مسألة:
إن سأل عن قوله سبحانه: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) } ، فقال:
ما {الْحَكِيمِ} ؟ وما الذي اقتضى ذكر {الْعَزِيزِ} ؟ وما معنى {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [3] ؟ وما معنى {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ؟ وما معنى {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [6] والوالدان قبل الولد؟ وما معنى {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} ؟ وما معنى {خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} ؟ وما الظلمات الثلاث التي يخلق فيها الولد؟ وما معنى {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} [9] في قراءة من خفف الميم؟ وما معنى القانت؟
الجواب:
أن {الْحَكِيمِ} هو العليم الذي تقع أفعاله محكمة، واقتضى ذكر {الْعَزِيزِ} في {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} لأنه حصلت حكمته من عزيز يحفظه حتى يصل إليك على جهة من غير تغيير ولا تديل لموضع حجته.
وقيل: {الْعَزِيزِ} في انتقامه، ففيه تحذير من مخالفته.
{أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [3] الطاعة بالعبادة التي يستحق بها الجزاء فهذا لله وحده، ولا يجوز أن يكون لغيره لاستحالة أن يملك هذا الأمر إلا هو.
معنى {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} الحكاية بتقدير: قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، والحذف فيه أحسن وأوجز وأبلغ؛ إذ كانت حالهم كناطقة بهذا.

(2/305)


و {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} [1] رفعه بالابتداء، وخبره {مِنَ اللَّهِ} ، ويجوز: هذا تنزيل.
و {الْكِتَابِ} القرآن. عن قتادة. وسمي (كتابا) لأنه مما يكتب.
وقيل: {لَهُ الدِّينَ} [2] أمر التوحيد.
والزلفى: المنزلة. عن السدي. وقيل: القربى. عن ابن زيد.
{وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [5] أي: يغشي. عن قتادة.

(2/306)


وقيل: (الولي) المتولي للقيام بأمر غيره.

(2/307)


وقيل: (الأجل المسمى) قيام الساعة.
وقل الحسن: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [3] الإسلام.
وقل الفراء: يجوز {مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [2] بالرفع.
{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [6] فيه ثلاثة أقوال:
الأول: أن الله أخرج ذرية آدم من ظهره كالدر، ثم خلق بعد ذلك حواء من ضلع من أضلاعه، فيما يروى في الحديث المرفوع.

(2/308)


الثاني: أنه عطف يوجب أن الكلام الثاني بعد الأول، كقول القائل: قد رأيت ما كان منك اليوم، ثم كان منك أمس.
الثالث: أنه معطوف على معنى واحد، كأنه قيل: وحدها، ثم جعل منها زوجها.
ومعنى {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [6] من الإبل، والبقر، والضأن والمعز، في كل صنف اثنين. عن قتادة، ومجاهد، والضحاك.
ومعنى {خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم يكسى لحما، ثم ينشئ خلقا آخر. عن قتادة، والسدي.
وقيل: الخلق في بطون الأمهات بعد الخلق في ظهر آدم عليه السلام.

(2/309)


الظلمات الثلاث: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة. عن ابن عباس.... ومجاهد، وقتادة.
{وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [7] أي: يرضى الشكر لكم، فكنى عليه لدلالة الفعل عليه.
معنى {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [9] في قول من خفف الميم فيه وجهان:

(2/310)


الأول: أن الألف للاستفهام، والجواب محذوف بتقدير: كمن ليس كذلك.
والآخر: أن تكون ألف نداء، كأنه قيل: يا من!.

(2/311)


القانت: الدائم على الطاعة لله. عن ابن عباس، والسدي. {آنَاءَ اللَّيْلِ} [9] ساعات الليل.
{وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} [10] تهاجروا عن دار الشرك. عن مجاهد.
وقيل: خلق حواء من فضل طينته.
وقيل: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ} [6] أي: جعل لكم. عن الحسن.
وقيل: أنزلها بعد أن خلقها في الجنة.

(2/312)


وقيل: الظلمات الثلاث: ظلمة صلب الرجل، وظلمة الرحم، وظلمة البطن.
وقيل: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} [10] أرض الجنة.
قرأ بن كثير، ونافع، وحمزة {أَمَّنْ} خفيفة الميم، وقرأ الباقون {أَمَّنْ} مشددة الميم.
مسألة: إن سأل عن قوله سبحانه: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) } فقال:
ما الأمر؟ وما إخلاص الدين؟ ولم جاز أن يؤمر بأن يكون أول المسلمين وقد كان قبله مسلمون كثيرون؟ وما معنى خسران أهليهم؟ وما الظلة؟ وما التخويف؟ وما البشرى؟ وما الإنابة؟ ولم قيل: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [18] ولم يقل: حسنه؟ وما معنى {وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [16] ؟
الجواب:
الأمر: طلب الفعل من المأمور {....} منه، ويكون فرضا ونفلا.
إخلاص الدين: عمل الطاعة لله بغير شائب من المعصية.

(2/313)


جاز بأن يؤمر بأن يكون أول المسلمين وقد كان قبله مسلمون كثيرون؛ لأنه أول المسلمين من أمه......

(2/314)


الذين دعاهم إلى الإسلام، ففيه أنه دعاه إلى مرضاة الله، ورضيه لنفسه.
خسرن أهليهم: لا يكون لهم في النار أهل، وقد كان لهم في الدنيا أهل. عن مجاهد. وخسران النفس: هلاكها بالعذاب.
والخسران المبين: الذي يبين لمن أدركه أنه الخسران؛ لأنه بإظهاره هذا المعنى بمنزلة الناطق به.
وقيل: خسروا أهليهم الذين أعدوا لهم من الحور العين.
الظلة: السترة العالية على ما تحتها؛ ولذلك قيل: {مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [16] إذ النار أدراك فهم بين أطباقها، نعود بالله بالله منها.
التخويف: الإعلان بموضع المخافة ليتقي.
البشرى: الإعلام بما يظهر في بشرة الوجه به السرور.
الإنابة: الرجوع عن السيئة بالندم عليها، والعزم على ترك معاودتها. ونظير الإنابة: التوبة.

(2/315)


وقيل: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [18] ولم يقل: حسنه؛ لأن كل أحسن يستحق به الحمد.
وقيل: {وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [16] لأنها تنقلب عليهم.
الطاغوت - هاهنا - الشيطان.
وقال قتادة: {أَحْسَنَهُ} طاعة الله.
وقال: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} [19] بكفره، والتقدير: أفأنت تنقذه؛ لأنه في موضع الخبر. وقيل: {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} منهم.
والتقدير: تجري من تحت أشجارها الأنهار.
وقيل: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} [19] بكفره كمن ليس كذلك في معلوم ربه.
وقيل: {الطَّاغُوتُ} جماعة الشياطين.

(2/316)


مسألة:
إن سأل عن قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) } ، فقال:
ما الفرق ين السلوك والدخول؟ وما الينابيع؟ وما الزرع؟ وما الاختلاف؟ وما الهيج؟ وما معنى {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ} [26] ؟ وما الخزي؟ وما المثل؟ وما التذكر؟ وما التشاكس؟ ولم لما جازت الشركة في العبادة جازت المنازعة والمخالفة؟
الجواب:
السلوك: دخول بمرور على الشيء؛ ولهذا أخبر في صفة الماء الجاري {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} [21] . ويقال: دخل في الإسلام، ولا يقال: سلك في الإسلام.
الينابيع: خروج الماء من العيون، وواحد الينابيع: ينبوع.
الزرع: نبت من غير ساق.
الاختلاف: امتناع سد أحد الشيئين مسد الآخر.
الهيج: شدة الاضطراب بالانقلاب من حال الاستقامة والصلاح.
نبع الماء: إذا انفجرت العين به.
و {أَلْوَانُهُ} صنوفه، من نحو: البر، والشعير، والسمسم، والأرز، والذرة، والدخن.
والحطام: فتات التبن والحشيش.
و {مُتَشَابِهًا} [23] في الحكم التي فيه من الحجج والمواعظ والأحكام التي يعمل عليها في الدين.

(2/317)


{مَثَانِيَ} تثنى فيه الحكم بتصريفها في ضروب البيان، وكذا في التلاوة، فلا يمل بحسن مسموعه في القراءة.
و {يَهِيجُ} [21] {....} ويجف.
ومعنى {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ} [26] أي: جعلهم يدركون ألما إدراك الذائق له.
الخزي: الذل الذي يستحيا من مثله؛ لما فيه من الفضيحة بانتهاك الحرمة وركوب الفاحشة.
المثل: علم يشبه فيه حال الثاني بالأول.
التذكر: طلب الذكر بالفكر.
التشاكس: التمانع بالتنازع، تشاكسوا في الأمر تشاكسا.
وفي الكلام (عوج) ؛ إذا عدل به عن وجه الصواب.
لما جازت الشركة في العبادة جازت المنازعة؛ لأن من جاز عليه النقص بالاستغناء بغيره في القادر جازت عليه المنازعة للحاجة.
ومن قرأ {سَلَمًا لِرَجُلٍ} [29] فهو مصدر من قولهم: سلم فلان لله سلما، بمعنى: خلص له خلوصا، كما تقول العرب: ربح فلان ربحا وربحا، وسلم سلما وسلما وسلامة.

(2/318)


صفحة فارغة

(2/319)


يضرب المثل للموحد في عبادة الله وحده، والمشرك بعبادته غيره. عن ابن عباس، ومجاهد.
{هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [29] في حسن حال العبد، وذلك أن الخالق المالك واحد، يستحق من معونته وحياطته ما لا يستحقه صاحب الشركاء المختلفين في أمره.
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو {سَلَمًا لِرَجُلٍ} ، وقرأ الباقون {سَلَمًا} .
مسألة:
إن سأل عن قوله سبحانه: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) } ، فقال:
ما الاختصام؟ ولم جاز أن يختصموا مع ظهور الدلائل بباطل ما كانوا عليه في الآخرة؟ وما المثوى؟ ولم جاز الجمع في {هُمُ الْمُتَّقُونَ} [33] و (الذي) واحد؟ وما الكفاية؟ وما معنى {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [36] ؟ وما التخويف؟ وما وجه الإلزام من خلق السموات والأرض في إخلاص العبادة له؟ وما التوكل؟

(2/320)


الجواب:
معنى الاختصام: رد كل واحد من الاثنين ما أتى به الآخر على جهة الإنكار له، فقد يكون أحدهما محقا والآخر مبطلا، كاختصام الموحد والملحد، وقد يكونان جميعا مبطلين، كاختصام اليهود والنصارى، وجاز أن يختصموا بذم رؤساء الضلالة ودفع أولئك عن أنفسهم بأن قالوا: {لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31] ، وقول آخر: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إيراهيم: 22] ، {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ} [القلم: 30] .
المثوى: المقام، ثوى يثوي ثويا، وثوى يثوي ثواء. قال الشاعر:
طال الثواء على رسم ... .............................
أراد به المقام.
جاز الجمع في {هُمُ الْمُتَّقُونَ} [33] و (الذي) واحد في مخرج لفظه، وجمع في معناه على طريق الجنس، كقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي

(2/321)


خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 2 - 3] ، وقال الشاعر: [الطويل]
فَإِن الَّذِي حَانَت بِفَلْج دِمَاؤُهُم.... هُم الْقَوْم كُل الْقَوْم يَا أُم خَالِد
وقيل: الاختصام بين المؤمنين وبين الكافرين. عن ابن زيد. وقيل: بين المهتدي والضال، والصادق والكاذب. عن ابن عباس. وقيل: بين أهل القبلة. عن أبي العالية.
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} [32] فادعى أن له ولدا أو صاحبة، وأنه حرم ما لم يحرمه، أو أحل ما لم يحله.

(2/322)


وقال قتادة: {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} أي: بالقرآن.

(2/323)


وقيل: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} محمد - صلى الله عليه وسلم - {وَصَدَّقَ بِهِ} المؤمنون. عن قتادة، وابن زيد. وقيل: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} هم المؤمنون، جاءوا بالصدق: القرآن، وصدقوا به، وهو حجتهم في الدنيا والآخرة. عن مجاهد.
الكفاية: سد الخلة على مقدار الحاجة، كفى يكفي كفاية، وهو كاف، ولا يقدر قادر على الكفاية التامة في كل ما بالعبد إليه حاجة إلا الله - تعالى -؛ لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء.
ومعنى {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [36] أي: من يجعله الله ضالا فلا يقدر أحد على هدايته، وفيه رد على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: من أضله الله فإن غيره قادر على أن يهديه، ومن هداه فإنه يقدر غيره على أن يضله، وهذا خلاف قول الله.

(2/324)


التخويف: الإخبار بموضع الخوف ليتقى.
وجه الإلزام من خلق السموات والأرض في إخلاص العبادة له أن من خلق السموات والأرض هو القادر على النفع والضر بما لا يمكن أحد له منع، ويمكنه مع كل أحد من خير أو شر.
التوكل: رد التدبير إلى من يقدر على الكفاية فيه من كل وجه.
وقيل: {بِكَافٍ عَبْدَهُ} [36] أي: محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: {عَبْدَهُ} أنبياءه.
{وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} أي: بالأوثان التي كانوا يعبدونها. عن قتادة، والسدي.
وقيل: {عَلَى مَكَانَتِكُمْ} [39] أي: على تمكنكم. وقيل: {عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي: على ديانتكم، وعلى سبيل التهدد. وقيل: {عَلَى

(2/325)


مَكَانَتِكُمْ} أي: على جهتكم التي اخترتموها وتمكنتم بالعلم بها. [وقيل: على ناحيتكم. وقيل: {عَلَى مَكَانَتِكُمْ} من....]
وقيل: إن خالدا قصد كسر العزى بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال سادنها: إياك يا خالد! إن بأسها شديد.
قرأ حمزة والكسائي {بِكَافٍ عَبْادَهُ} ، وقرأ الباقون {بِكَافٍ عَبْدَهُ} .
وقرأ أبو عمرو {كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} و {مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} منونا، وقرا الباقون بالإضافة.

(2/326)


مسألة:
إن سأل عن قوله سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) }
فقال:
ما الذي يقتضي {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ} [41] ؟ وما معنى الباء في {أَنْزَلْنَا.... بِالْحَقِّ} ؟ وما الوكيل؟ وما الفرق بين قبض النوم والموت؟ وما معنى {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} ؟ وما معنى {اشْمَأَزَّتْ} ؟ وما معنى {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [46] ؟ وهل يجوز أن يكون {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} صفة {اللَّهُمَّ} ؟ وما الاحتساب؟ وما معنى {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [55] ؟ ولم جاز {يَقْدِرُ} بمعنى (يُضَيِّقُ) ؟
الجواب:
الذي يقتضي {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ} [41] العمل به، والنظر في مواجبه ومقتضى ما رغب فيه، وما حذر منه، وما صححه، وما دعا إليه، وما أفسده.
وإنما معنى الباء في {أَنْزَلْنَا.... بِالْحَقِّ} [41] أي: أنزلناه على أنه حق، وبأنه حق، وفيه الحجة على كل من عدل عنه.
الوكيل: القائم بالتدبير، ومعنى {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [41] قيل: فيه قولان:
أحدهما: لم توكل عليهم في حملهم على الإيمان والحيلولة بينهم وبين الكفر.

(2/327)


وقيل: برقيب في إيصال الحق إلى قلوبهم وحفظه عليهم حتى لا يتركوه، ولا ينصرفوا عنه.
وقيل: {اشْمَأَزَّتْ} نفرت، و {الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} أوثانهم. عن السدي

(2/328)


وفي اشمئزاز قلوبهم عن ذكر الله دلالة على بطلان مذهب من زعم أن المعرفة ضرورة.
وقيل: {بِوَكِيلٍ} بقيم بإكراههم على الإسلام.
قرأ حمزة {قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [42] .
{فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [46] خالق الخلق، ورب العالمين، ومالك يوم الدين. حمله بعض النحويين على أن معناه: يا الله فاطر السموات والأرض.
الاحتساب: الاعتداد بالشيء من جهة دخوله فيما يحسبه، فلما كان أهل النار لم يكونوا يدرون ما ينزل بهم من العذاب صح أنهم بدا لهم من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون، ولا قدروا أنهم يصيرون إليه.
وقيل: {عَلَى عِلْمٍ} [49] عندي بأن طلبت به العافية، وكشف البلية. وقال الحسن: أوتيته بحيلتي وعلمي.
ومعنى {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [55] أي: التزموا طاعته، واجتنبوا معصيته، فإن الذي أنزل على ثلاثة أوجه: ذكر القبيح لنجنبه، وذكر الأدون لئلا نرغب فيه، وذكر الأحسن لنؤثره؛ فلذلك قال: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] .

(2/329)


معنى {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [51] أي: عذاب سيئات ما كسبوا، ثم حذف لأنه معلوم أن الذي أصابهم عذاب.
الثاني: يكون على طريق المجازاة، كقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]
الإعجاز: امتناع الفعل على القادر كما يمتنع على العاجز
القنوط: اليأس من الرحمة.
جاز {يَقْدِرُ} [52] بمعنى (يضيق) ؛ لأن الأصل فيه القدر، من: قدر يقدر قدرا، وهو جعل الشيء على المقدار، فمنزلة ذلك منزلة سعة الطريق وضيقه إذا كان على مقدار المار فيه من غير زيادة ولا نقصان.
الإنابة: الرجوع إلى الطاعة. عن ابن زيد.
و {أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ} [55] ما أمر الله به في الكتاب. عن السدي. قال الحسن: "وأحسنه أن يأخذوا ما أمرهم الله به، وأن ينتهوا عما نهاهم الله عنه.

(2/330)


مسألة:
إن سأل عن قوله سبحانه: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) } ، فقال:
هل هناك فرق بين النفس والروح؟ ولم جاز {مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [56] ؟ وما التفريط؟ وما الحسرة؟ وما معنى {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} ذلك؟ وما معنى {فِي جَنْبِ اللَّهِ} ؟ وهل {جَنْبِ} صفة أم فعل؟ وما معنى {السَّاخِرِينَ} ؟ وما عامل الإعراب في {أَفَغَيْرَ اللَّهِ} [64] ؟ وما موضع {أَعْبُدَ} من الإعراب؟ وما مفازة المتقين؟ ولم جاز {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [61] ؟ وما المقاليد؟ وما القدر؟ وما معنى {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [67] ؟ وما اليمين - هاهنا -؟ وما وجه النفخ في الصور؟ وما الحكمة؟ وما الصعق؟ وما معنى {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [68] ؟ وما معنى {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [69] ؟ وما معنى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [67] ؟ وما الزمر؟ ولم جاء في الجنة {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [73] بالواو، وفي النار بغير واو؟ وأين جواب {حَتَّى إِذَا} في صفة أهل الجنة؟ وما معنى {حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [71] ؟ وما معنى {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} [74] ؟ وما معنى {نَتَبَوَّأُ} ؟ وما معنى {طِبْتُمْ} [73] ؟
الجواب:
النفس: قيل: هو من (النفاسة) ، والروح من (الريح) .

(2/331)


وجاز {مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [56] لأنه معنى: ما فرطت في طاعة الله، أو في أمر الله؛ إلا أنه ذكر الجنب كما يقال: هذا صغير في جنب الله الماضي، أي: في أمر الله.
التفريط: إهمال ما ينبغي أن يتقدم فيه حتى يفوت وقته.
التحسر: الاغتمام بما فات منه لانحساره عن صاحبه بما يمتنع عليه استدراكه وتلافي الأمر في. التحسر، والتأسف، والندم: نظائر.
وقيل: معناه: لئلا تقول نفس، مثل: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] أي: لئلا تميد بكم.
{لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [56] أي: المستهزئين بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبالكتاب. عن قتادة، والسدي.
وفي نصب {فَأَكُونَ} [58] وجهان:
أحدهما: أنه جواب (لو) .
والآخر: العطف على المصدر، وهو الكرة، أي: لو أن لي أن أكر. وقيل: كنت ممن يسخر ممن يدعوني إلى الإيمان.

(2/332)


عامل الإعراب في {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [64] على وجهين:
أحدهما: أن يكون {تَأْمُرُونِّي} اعتراضا، ويكون التقدير: أفغير اتلله أعبد أيها الجاهلون فيما تأمرونني.
والوجه الآخر: أن لا يكون {تَأْمُرُونِّي} اعتراضا؛ فيكون التقدير: أتأمروني أعبد غير الله أيها الجاهلون.
مفازة المتقين: منجاتهم من النار، ومنجاتهم من النار بطاعتهم لله على سلامتها والموافاة بها,
جاز {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [61] مع أن نفي الأول يدخل فيه نفي الثاني؛ لأنه نفى الثاني على الجملة والتفصيل، بما يزيل الغلط في التأويل.
المقاليد: المفاتيح، واحده: مقليد، كما يقال: منديل ومناديل. ويقال: إقليد في واحده أيضا، وجمعه: أقاليد.
ووجه الاتصال كأنه قال: والذين كفروا من مقاليد السموات والأرض وغيره.
قرأ ابن كثير {تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} مشددة النون، ساكنة الياء. وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم {بِمَفَازَاتِهِمْ} جماعا، وقرأ الباقون {بِمَفَازَتِهِمْ} واحدة.
وقيل: مفاتيح خزائن السموات والأرض، نفتح الرزق على من نشاء، ونغلفه على من نشاء.

(2/333)


معنى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [67] قيل: ما عظموا الله حق عظمته أن دعوك إلى عبادة غيره معه. وقيل: ما عظم حق عظمته أن عبدوا الأوثان من دونه.
القدر: اختصاص الشيء بعظم أو صغر أو مساواة ذات أو صفة.
{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} أنها في مقدوره، كالذي يقبض عليه القابض في قبضته.
{وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ذكرت اليمين للمبالغة في الاقتدار. وقيل: (اليمين) القوة، كما قال الشاعر: [الوافر]
.................. تَلَقَّاهَا عِرَابَه بِالْيَمِيْن
وقيل: (اليمين) القسم؛ لأنه حلف أن يطويها ويفنيها.

(2/334)


وجه النفخ في الصور: أنه علامة جعلها الله ليتصور بها العاقل آخر الأمر، ثم تجديد الخلق، فجعل ذلك بما يعرفون من بوق الرحيل، ثم الرحيل، ثم النزول، ولا يصور ذلك للنفس بأحسن من هذا الطريق.
الصعق: الموت، لصحة شدة الصواعق التي تأتي عند شدة الرعد، صعق الإنسان؛ إذا مات بحال هائلة شبيهة بالصيحة الشديدة.
استثنى {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [68] لأن الملك الذي ينفخ في الصور يبقى إلى أن يميته بعده، ويجوز أن يبقى غيره من الملائكة.
وقيل: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} المستثنى: ميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت. عن السدي.
وقيل: الشهداء. عن سعيد بن جبير.
وقيل: ما بين النفختين أربعون سنة. عن قتادة يرفعه.

(2/335)


وقيل: {الشُّهَدَاءِ} الذين يشهدون على الأمم للأنبياء بأنهم قد بلغوا، وأن الأمم قد كذبوا. عن ابن عباس.
وقيل: يفني الله - بعد الصعق وموت جميع الخلق - الأجسام، ثم يعيدها.
{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [69] قيل: معناه: بعدل ربها، وحكمه بالعدل فيها.
{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} [67] قال الفراء: "يجوز بالنصب". وقال غيره: لا يجوز.

(2/336)


الزمر: الجماعة.
جاء في الجنة {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [73] بالواو، دون أبواب النار؛ لأن أبواب الجنة ثمانية، ففرق بينهما للإيدان بهذا المعنى. وقيل: إنه للتصريف في الكلام.

(2/337)


جواب {حَتَّى إِذَا} في صفة أهل الجنة محذوف، بتقدير: فازوا، أو: نالوا الشيء، أو: تمت سعادتهم، وما أشبه ذلك، وحذف الجواب أبلغ.

(2/338)


معنى {حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [71] ظهر حقها لمجيء مصداقها؛ وذلك أنه قد تقدم الخبر من الله أن فلانا يكفر ويوافي بكفره.
{وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} [74] أي: أرض الجنة؛ لأنها صارت لهم في أخر الأمر كما يصير الميراث. وقيل: ورثوها عن أهل النار.
{نَتَبَوَّأُ} نتخذ مبوءا حيث نشاء، وأصله من الرجوع، من: باء بكذا، أي: رجع به.
وقيل: {حَافِّينَ} [75] أي: محدقين. عن قتادة، والسدي.
وقيل: دخلت الواو في {وَفُتِحَتْ} لبيان أنها مفتحة قبل مجيئهم.
وقيل: تسبيح الملائكة في ذلك على سبيل التلذذ لا على التعبد. و {طِبْتُمْ} [73] أي: ذكرتم بشريف أعمالكم.

(2/339)