تفسير ابن فورك سورة غافر
{الطَّول}
مسألة:
إن سأل عن قوله سبحانه: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ
اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)
غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي
الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا
يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا
يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ
قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ
وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ
وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ
فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ
أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ
وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ
لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ
الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ
الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ
وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ
السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ
أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ
(10) } ، فقال:
ما العزيز؟ وما العليم؟ وما معنى قبول التوبة؟ وما الفرق بين
شدة العذاب وتضاعيف أجر الآلام؟ وما الطول؟ وما معنى
{التَّوْبِ} ؟ وما وجه التشبيه في {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ} [6] ؟ وما الحمل؟ وما الحمد؟ وما معنى
{وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [7] ؟ وكيف جاز أن
يدعو للمؤمنين بما يعلمون أنه يكون؟ وما معنى {وَمَنْ تَقِ
السَّيِّئَاتِ} [9] ؟ وما معنى {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ}
[10] ؟ وما معنى {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ
حَوْلَهُ} [7] ؟
(2/340)
الجواب:
{الْعَزِيزُ} المنيع، بأنه قادر على غيره، ولا يقدر غيره عليه،
وهذه الصفة لا تصح إلا لله، وأصل معنى الصفة: المنع، من قولهم:
[عز] عن كذا وكذا؛ إذا امتنع بغلبته، وهذا الملك (عزيز) ؛ إذا
امتنع بسلطانه.
{الْعَلِيمُ} الذي له العلم الذي تكثر معلوماته.
معنى قبول التوبة: إسقاط الذنب بها، مع إيجاب الثواب عليها.
الفرق بين شدة العقاب وتضاعيف أجر الآلام: أن الخصلة الواحدة
من الألم قد يكون المؤلم بها أعظم حالاً فيما يألم به من خصال
كثيرة من ألم آخر كالغمز، وأجزاء كثيرة من قرص برغوث.
الطول: الإنعام الذي تطول مدته على صاحبه، كما أن التفضل:
النفع الذي فيه إفضال على صاحبه، لا على طريق الوجوب.
وقيل: {ذِي الطَّوْلِ} أي: ذي النعم. عن ابن عباس، وقتادة.
وقيل: ذي القدرة. عن ابن زيد.
(2/341)
وقال الحسن: " {ذِي الطَّوْلِ} ذي الفضل
على المؤمنين".
وقال الحسن: " {حم} اسم للسورة".
{غَافِرِ الذَّنْبِ} أي: من شأنه غفران الذنب فيما مضى، وفيما
يستقبل؛ فلذلك كان من صفة المعرفة.
{التَّوْبِ} يجوز فيه وجهان:
جمع توبة، كـ (دوم) و (دومة) ، و (عزم) و (عزمة) ، ويجوز أن
يكون مصدر: تاب يتوب توبا.
قرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم {حم} بإمالة الألف، وقرا
الباقون بالفتح من غير إمالة.
ووجه التشبيه في {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} [6] أن
الكفار يعاقبون في الآخرة بالنار كما عوقبوا في الدنيا بعذاب
الاستئصال، وقد حقت عليهم الكلمة في الأمرين جميعا، كما حقت
الكلمة على أولئك.
الحمل: رفع الجسم بما لولاه لهوى.
الملائكة يحملون العرش وهم حوله، وكل يسبح بحمد ربه، ويدعو
المؤمنين.
الحمد: الوصف بالإحسان على جهة الإعظام.
(2/342)
ومعنى {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً
وَعِلْمًا} [7] على جهة المبالغة؛ لأنه لا يخفى عليه
شيء....... عمت رحمته وعلمه كل شيء.
وجاز أن يدعو للمؤمنين بما يعلمون أنه يكون لورود التعبد بذلك؛
لما فيه من المودة وتألف القلوب على المحبة، ولموقع الإجابة من
الله، ولذلك حين أن تقول: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد،
اللهم صل على ملائكتك المقربين، وأنبيائك المرسلين.
وموضع {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [6] فيه وجهان:
نصب على معنى (بأنهم) ، أو (لأنهم) ، ورفع على البدل من
الكلمة.
ومعنى {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ} [9] تصرف عنه سوء عاقبة
سيئاته من صغير وكبير.
وقيل: مقتوا أنفسهم حين عاينوا العذاب فقيل لهم: مقت الله
إياكم أكبر. عن مجاهد، وقتادة، والسدي.
(2/343)
وقيل: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} أنه سمى
عقاب السيئات سيئات.
وقيل: {لَمَقْتُ اللَّهِ} [10] لكم أكبر من مقت بعضكم لبعض.
وقال الحسن: " {حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} [6] على مشركي
العرب، كما حقت على من قبلهم".
وقيل: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} [7] والذين حوله؛ لأن
فيهم من قد تعبد بحمله، ومنهم من تعبد بأن يحف به.
مسألة:
إن سأل عن قوله سبحانه: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا
اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا
بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ
(11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ
إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ
بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ
(12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ
السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ
(13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ
كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ
يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ
بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ
الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ
الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى
الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ
وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ
وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ
إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) } فقال:
ما القول الذي يؤذن بتمني الكافر للخروج عن حاله بكل جهده؟ وما
الإماتة الأولى؟ وما الثانية؟ وما وجه اتصال {فَاعْتَرَفْنَا
بِذُنُوبِنَا} [11] بما قبله؟ وما العلي؟ وكيف جازت صفة القديم
بـ (علي) ، ولم تجز بـ (رفيع) ؟ وما معنى {يُلْقِي الرُّوحَ
مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [15] ؟ وما
معنى {يَوْمَ التَّلَاقِ} [15] ؟ وما معنى {بَارِزُونَ} ؟ ولم
جاز {لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} [16] مع أنه
لا يخفى منهم ولا من غيرهم شيء؟ ولم قيل: {لِمَنِ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ} مع أنه يملك الأنبياء والمرسلين في الآخرة الملك
(2/344)
العظيم؟ وما الآزفة؟ وما الكاظم؟ ومن
المجيب؟ وما معنى {سَرِيعُ الْحِسَابِ} [17] ؟.
(2/345)
الجواب:
القول الذي حكاه الله عنهم لأنهم قالوا هذا القول على سبيل
التمني، فكل ما يجدون إليه السبيل في التلطف للخروج عن تلك
الحال، وأنه لا يمكن لأحد أن يتجلد على عذاب الله، كما يمكن أن
يتجلد على عذاب الدنيا.
الإماتة الأولى: في الدنيا. الثانية: في البرزخ قبل المبعث،
وفيه دلاله على عذاب القبر، فكل إماتة بعدها إحياء.
وجه اتصال {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} [11] بما قبله:
الإقرار بالذنب بعد الإقرار بصفة الرب، كأنه قيل: فاعترفنا
بأنك ربنا الذي أمتنا وأحييتنا، وطال إمهالك لنا، واعترفنا
بذنوبنا {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} لنا نسلكه في
طاعتك؟!
العلي: القادر الذي كل شيء تحت صفته، وليس فوق صفته من هو أقوى
منه ولا مساوي له في مقدوره.
(2/346)
جاز وصفه بـ (علي) دون (رفيع) ؛ لأن
التوقيف ورد بذلك دونه.
(2/347)
وقيل: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} [11] هو
كقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا
فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] . عن ابن عباس.
وقيل: فيه محذوف: فأجيبوا أن لا سبيل إلى الخروج {ذَلِكُمْ
بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} [12] .
{وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [13] أي: يقبل إلى
طاعة الله. عن السدي.
ومعنى {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} [15] الوحي؛ لأنه يحيا
به القلب بالخروج من الحيرة إلى المعرفة، فلذلك أوحينا إليك
روحا من أمرنا. عن قتادة، والضحاك.
{يَوْمَ التَّلَاقِ} يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض. عن
قتادة.......
(2/348)
صفحة فارغة
(2/349)
والسدي.
وقيل: يلتقي فيه المرء مع عمله، وهو يوم القيامة حذر منه.
{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} أي: طبقات الثواب للأنبياء والمؤمنين
في الجنة.
{ذُو الْعَرْشِ} بأنه مالكه وخالفه.
و {يَوْمَ التَّلَاقِ} أي: يلتقي فيه الأولون والأخرون.
البروز: الظهور بخروج الشيء عما كان فيه. فجميع العباد بارزون
يوم القيامة بالخروج من القبور، يهرعون إلى أرض المحشر، وهو
يوم التلاق، ويوم الجمع، ويوم الحشر.
جاز {لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} [16] وإن لم
يخف عليه من غيرهم شيء لوجهين:
أحدهما: أن تكون (من) للتبيين لا للتخصيص.
(2/350)
والآخر: أن يكون بمعنى: يجازيهم من لا يخفى
عليه شيء منهم، فذكر بالتخصيص لتخصيص الجزاء لمن يستحقه دون من
لا يصح له.
وقيل: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [16] على وجهين:
أحدهما: أنه على تخصيص يوم القيامة قبل تمليك أهل الجنة.
والآخر: أنه لا يستحق إطلاق الصفة بالملك إلا لله وحده؛ لأنه
لا يملك جميع الأمور من غير تمليك بملك سواه، فهو أحق بالصفة
المطلقة فيه.
الآزفة: الدانية، من قولهم، أزف الأمر إذا دنا وقته.
الكاظم: الممسك للشيء على ما فيه، ومنه: كظم قربته إذا شد
رأسها، فهؤلاء قد أطبقوا أفواههم على ما في قلوبهم من شدة
الخوف.
وقيل: {لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} [16] فلذلك
صح أنه أبرزهم جميعا.
وقيل: إنه قرر العباد فقال: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ؟ ،
فأقر المؤمنون والكافرون بأنه {لِلَّهِ الْوَاحِدِ
الْقَهَّارِ} .
وقيل: إنه أجاب نفسه - عز وجل -.
(2/351)
ومعنى {سَرِيعُ الْحِسَابِ} [17] أي: لا
تشغله محاسبة واحد عن محاسبة غيره، فحساب جميعهم كحساب واحدهم.
وقيل: {يَوْمَ الْآزِفَةِ} [18] يوم دين المجازاة، وهو يوم
القيامة.
وقيل: (الكاظم) الساكت على امتلائه غيظا أو غما.
وقيل: {يُطَاعُ} على طريق المجاز، والمعنى فيه: يجاب.
وقال الحسن: "انتزعت قلوبهم من أمكنتها - وهي الصدور - فكظمت
بها الحناجر، فلم يستطع أن يلفظها، ولم تعد إلى أمكنتها".
قرأ نافع، وأبو عمروا {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ}
[20] بالتاء.
والمراد بقوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا
شَفِيعٍ يُطَاعُ} [18] الكافرون، وأن الظالم الذي ليس بكافر
يشفع فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
(2/352)
مسألة:
إن سأل عن قوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ
قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا
فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ
لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ
(21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ
إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ
وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا
اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا
نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ
(25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ
رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ
يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي
عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا
يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ
مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ
رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا
فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ
الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ
مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ
ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ
اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا
مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ}
فقال:
ما معنى السير؟ وما معنى (النظر) هاهنا؟ وما العاقبة؟ وهل بين
القوة والقدرة فرق؟ وما الأثر؟ وما معنى استحياء النساء؟ وما
معنى {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [26] ؟ وما التبديل؟ وما الفساد؟
وما الإظهار؟ وما العياذ؟ وهل المؤمن كان من آل فرعون؟ وما
الفساد الذي يخافه؟ وما معنى {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} [26]
؟
الجواب:
معنى السير: استمرار الحركة في جهة الطول.
النظر - هاهنا - اعتبار القلب.
العاقبة: ما تؤدي إليه البادنة.
قيل: بين القوة والقدرة فرق؛ أن القوة تكون بمعنى الصلابة،
وتكون بمعنى القدرة من قوله - عز وجل -: {الْقَوِيُّ
الْعَزِيزُ} ، فأما القوة الحسية بمعنى الصلابة فأصلها من: قوى
الحبل وهو شدة الفتل.
الأثر: حدث يظهر به أمر.
{مِنْ وَاقٍ} [21] أي: يقيهم في دفع العذاب عنهم.
(2/353)
استحياء النساء: قيل: للمهنة. وقيل:
{وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} [25] أي: بناتهم، واقتلوا الأبناء
لتصدوهم بذلك عن اتباعه، وتقطعوا عنه من يعاونه، وذكر قصة موسى
- عليه السلام - ليصبر محمد - صلى الله عليه وسلم - كما صبر
موسى قبله.
معنى {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [26] في رفع القتل عنه وأنه لا
حقيقة لما يدعو إليه تمردا وعنوا.
التبديل: رفع الشيء إلى غير ما يقع في موقعه.
الفساد: انتقاص الأمر، ونقيضه: الصلاح.
الإظهار: على ثلاثة أوجه:
إخراج الشيء عن وعاء، أو إيجاده من عدم، أو إحضار علمه
بالبيان.
العياد: الاعتصام بالشيء من عارض الشر.
وقال قتادة: "الفساد عنده أن يعمل بطاعة الله".
وقال السدي: "المؤمن كان ابن عم فرعون".
الإسراف: مجاوزة الحد في العصيان.
وقال: {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [28] فيه قولان:
الأول: بعضه في الدنيا.
(2/354)
وقيل: إنه كان يتوعدهم أمورا مختلفه بكونهم
على أوصاف من المعصية.
وقيل: المؤمن كان إسرائيليا يكتم إيمانه من آل فرعون.
الفساد الذي خافه من محاربته - بمن آمن معه - فرعون وقومه؛
فيحدث بذلك خراب البلاد، واضطراب أمر العباد.
وقال الحسن: "كان المؤمن قبطيا".
(2/355)
وقيل: ذكر (البعض) على المظاهرة في الحجاج.
قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي {أَوْ أَنْ} بألف قبل الواو، وقرأ
الباقون بغير ألف.
قرأ نافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم {يُظْهِرَ} بضم الياء
{الْفَسَادَ} نصبا، وقرأ الباقون {يُظْهِرَ} بفتح الياء.
مسألة:
إن سأل عن قوله سبحانه: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ
وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ
ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ
(32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ
مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
(33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ
فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا
هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا
كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ
أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ
آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ
مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ
ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36)
أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى
وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ
لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا
كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي
آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ
(38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ
عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ
عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا
بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى
النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) } فقال:
ما المثل؟ وما الدأب؟ وما الإرادة؟ وما معنى {يَوْمَ
التَّنَادِ} [32] ؟ وما معنى العاصم؟ ومن المؤمن الذي قال:
{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} [30]
؟ وما الصرح؟ وما معنى {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [37] ؟ وما
الاطلاع؟ وما الذي زين لفرعون سوء عمله؟ وما الثباب؟ وما معنى
{دَارُ الْقَرَارِ} [39] ؟
الجواب:
معنى المثل: المختص بأنه يسد مسد غيره بما لو شوهد لم يفرق
بينه وبينه في المشاهدة، أو جرى هذا المجرى في معنى صفته.
الدأب: العادة، يقال: دأب يدأب دأبا، وهو دائب في عمله؛ إذا
استمر فيه.
(2/356)
الإرادة: هي الصفة التي يكون بها المريد
مريدا، ويكون المقدور مختصا بالوقوع بها دون غيره.
{يَوْمَ التَّنَادِ} [32] يوم ينادي بعض الظالمين بعضا بالويل
والثبور؛ لما يرى في سوء عاقبة الكفر بالله والمعصية له.
يولون مدبرين والمقامع تردهم إلى ما يكرهون.
وقيل: {يَوْمَ التَّنَادِ} يوم ينادي أصحاب الجنة أصحاب النار
{أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ
وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف: 44] ،
وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا
مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف: 50]
. عن الحسن، وقتادة، وابن زيد.
العاصم: المانع من الخوف النازل.
و {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [33] منصرفين إلى النار.
(2/357)
{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ}
[34] هو يوسف بن يعقوب، كان قبل موسى - عليه السلام -، وقبل
المؤمن.
الذي قال: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ
الْأَحْزَابِ} مؤمن آل فرعون فرعون. وقيل: هو موسى - عليه
السلام -؛ لأن الأول يكتم إيمانه.
الصرح: البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بعد، وهو
من: التصريح بالأمر، وهو إظهاره بأتم وجوه الإظهار.
معنى {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [37] الأمور التي يستمسك بها
هي أسباب أسباب لكونها على ما هي عليه لا تضطرب، ولا تسقط على
الأرض بثقلها، ولا تزول على خلاف جهتها.
الاطلاع: الظهور على [ ... ] لرؤية الشيء.
طلب فرعون رؤية الإله في السماء كما يرى الأشخاص عند الإشراف.
الذي زين لفرعون سوء عمله جهله، فلما جهل أن له ربا يجب عليه
عبادته وتوهم بطلان ما دعي إليه سولت له نفسه ذلك من أمره.
الثباب: الهلاك بالانقطاع، ومنه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}
[المسد: 1] أي: خسرت بانقطاع الرجاء. ومنه قولهم: تبا له.
(2/358)
صفحة فارغة
(2/359)
وقيل: {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [37]
منازل السماء. وقيل: طرق السماء. عن ابن عباس، والسدي. وقيل:
أبواب السموات. عن قتادة.
وقيل: {إِلَّا فِي تَبَابٍ} أي: إلا في خسران. عن مجاهد.
وقيل: {دَارُ الْقَرَارِ} [39] استقرت الجنة بأهلها، والنار
بأهلها. عن قتادة.
القرار: المحل الذي يستقر به.
{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [40]
أي: في المقدار.
{يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} بزيادة تفضل؛ لأنه لو
كان على مقدار العمل فقط لكان بحسابه.
قال الحسن: "هذا الكلام لمؤمن آل فرعون".
(2/360)
وقال الحسن: "قاله فرعون على التمويه وتعمد
الكذب وهو يعلم أن له إلها".
قرأ عاصم في رواية حفص {فَاطَّلَعَ} نصبا على جواب {لَعَلِّي}
، وقرأ الباقون بالرفع. وقرأ {وَصُدٌّ} بالضم عاصم، وحمزة،
والكسائي، وقرأ الباقون {وَصَدٌّ} بالفتح.
مسألة:
إن سأل عن قوله: {ويا وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى
النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ
(41) تَدْعُونَنِي
لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ
عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ
دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ
مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ
أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ
وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ
بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا
وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ
يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ
لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ
أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ
قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي
النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ
عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ
تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا
فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ
(50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) }
فقال:
ما الدعاء؟ ولم كانوا لدعائهم إلى عبادة غير الله قد دعوا إلى
النار؟ ولم قال: {مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [42] وهو يعلم
أنه باطل؟ وما العزيز؟ وما معنى {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي
الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ} [43] ؟ وما معنى {وَأَنَّ
الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} ؟ وما معنى {أَمْرِي
إِلَى اللَّهِ} [44] ؟ وما معنى {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ}
[45] ؟ وما العرض؟ وما العدو؟ وما قيام الساعة؟ وما {أَشَدَّ
الْعَذَابِ} [46] ؟ وما وجه الاحتجاج على رؤساء الضلال
بالإبلاغ؟
الجواب:
الدعاء: طلب الطالب الفعل من غيره.
كانوا بدعائهم إلى عبادة غير الله قد دعوا إلى النار، ومن دعا
إلى سبب الشيء فقد دعا إليه، كما أن من صرف عن سبب الشيء فقد
صرف عنه.
(2/361)
قال: {مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [42]
لأنه لا يصح أن يعلم أن لله شريكا، وما لا يصح أن يعلم باطل
فدل على فساد اعتقادهم للشركة من هذه الجهة.
{الْعَزِيزُ} القادر الذي لا يمتنع شيء من الدخول في مقدوره،
ولا يقدر أحد على منعه.
معنى {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي
الْآخِرَةِ} [43] أي: دعوة ينتفع بها في أمر الدنيا ولا في
الآخرة، فأطلق {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ} لأنه أبلغ، وإن توهم
جاهل أن له دعوة ينتفع بها فإنه لا يعتد بذلك لفساده ومناقضته.
قال ابن زيد: "هذا كلام مؤمن آل فرعون".
وقيل: {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي
الْآخِرَةِ} [43] هذا الصنم لا يستجيب لأحد في الدنيا ولا في
الآخرة. عن السدي، وقتادة.
وقيل: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ} أي: بقتل النفس من غير حلها.
عن مجاهد. وقيل: الاشراك. عن قتادة.
(2/362)
وقيل: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي} [44] أسلم
أمري إلى الله. وقيل: أجعله إليه. عن السدي.
وقال قتادة: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [45]
وكان قبطيا من قوم فرعون نجا مع موسى - عليه السلام -.
{وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ} حل ووقع.
وقيل: {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ} تجب بها الإلهية {فِي الدُّنْيَا
وَلَا فِي الْآخِرَةِ} .
وقيل: معناه: ليست له استجابه دعوة.
وقيل: {لَا جَرَمَ} رد للكلام، كأنه قيل: لا محالة أن لهم
النار.
العرض: إظهار الشيء ليراه الذي يظهر له.
العدو: المصير إلى الشيء بالغداة.
قيام الساعة: وجودها على استقامتها [....] من صفتها.
(2/363)
{أَشَدِّ الْعَذَابِ} [46] أغلظ العذاب بما
تكون منه الخصلة أعظم في الألم من الخصال.
وجه الاحتجاج على رؤساء الضلال في الاتباع لأنه يلزمهم الدفع
بها عنهم، وأن تغني في تخفيف عذابهم فإذا هي سبب عذابهم.
وقيل: أرواحهم في أجواف طير سود تعرض على النار غدوا وعشيا عن
السدي.
وقيل: {آلِ فِرْعَوْنَ} [46] من كان على دينه.
قرأ [أدخلوا] بقطع الألف نافع، وحمزة، والكسائي، وقرأ الباقون
[ادخلوا] .
مسألة:
إن سأل عن قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ
آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ
الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ
لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ
اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا
مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ
(53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ
سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا
هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى
وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ
السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ
وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى
النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ
الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ
بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ
مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ
اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ
أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا
جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ
لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ
تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ
يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ
لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ
وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
(67) }
فقال:
ما النصر؟ وما الأشهاد؟ وما اللعنة؟ وعلى كم وجه يكون النصر؟
وكيف قيل: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ}
[52] ؟ وما الجدال؟ وما السلطان؟ وما الصدر؟ وما معنى {إِنْ
فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [56] ؟
وما كبر [خلق] السموات والأرض الذي هو أكبر من خلق الناس؟ وما
معنى {دَاخِرِينَ} ؟ وبأي شيء جعل الليل سكنا ليسكن فيه؟ وما
الليل؟ وما معنى {تَبَارَكَ} ؟ وما الحي؟
(2/364)
صفحة فارغة
(2/365)
الجواب:
النصر: المعونة على العدو للاستعلاء عليه، وقد يكون النصر
بالحجة، وقد يكون النصر بالغلبة في المحاربة، وقد يكون النصر
بعقاب العدو وإعزاز المنصور بالثواب.
{الْأَشْهَادُ} الذين يشهدون بالحق لأهله وعلى المبطل بخلافه؛
لما قامت به الحجة يوم القيامة، وفي ذلك سرور المحق وفضيحة
المبطل.
{الْأَشْهَادُ} جمع (شهيد) ، كـ (شريف) و (أشراف) .
وقيل: {الْأَشْهَادُ} جمع (شاهد) ، كـ (صاحب) و (أصحاب) . و
{الْأَشْهَادُ} الملائكة، والأنبياء، والمؤمنون.
{اللَّعْنَةُ} الإبعاد من الرحمة، وقد يكون ذلك بوجوه: منها:
الدعاء عليه بأن يبعده الله من رحمته في قوله: لعنه الله، إذا
قال له هذا القول فقد لعنه الله. وقد يكون الإبعاد من الحمة
بإحلال العقوبة، وقد يكون الحكم بدوام العقاب.
وقيل: لا تقبل معذرتهم [....] بالباطل في قولهم: {وَاللَّهِ
رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] .
وقيل: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [55] صل بحمد ربك
{بِالْعَشِيِّ} من زوال الشمس إلى الليل، {وَالْإِبْكَارِ} من
طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس.
(2/366)
الجدال: طلب فتل الخصم عن مذهبه بطريق
الحجاج، وطريق الحجاج: بناء الأمر على حجة أو شبهة، فالذي
يجادل في دفع الحق مذموم.
السلطان - هاهنا - الحجة التي يتسلط بها على إنكار المذهب
الفاسد؛ فللعالم سلطان على الجاهل بالحجة التي معه، والذي
يجادل في آيات الله لينبتها وينفى الشبهة عنها محمود، والذي
يجادل في دفعها مدموم.
الصدر: موضع القلب؛ ولهذا يقال للموضع الشريف من المجلس: صدر.
معنى {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ
بِبَالِغِيهِ} [56] أي: ما هم ببالغي مقتضاه منتهاه؛ لأن الكفر
بما يعلمه صاحبه يقتضي به أن يعظم في صدورهم مقتضى كبرهم.
كبر خلق السموات والأرض - الذي هو أكبر من خلق الناس - كبر
الشأن وكبر الأجرام، وذلك أن خلقهما على ما هما عليه من الثقل
مع وقوف الأرض والسماء من غير عمد، وجريان الأفلاك والكواكب من
غير سبب أعظم في النفس، وأهول في الصدور من خلق الناس وإن كان
عظيما بالحياة والحواس المهيأة للإدراك، إلا أن السموات والأرض
أمرهما أكبر شأنا من هذه الجهة.
وقيل: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} [56] إلا عظمة، ما
هم ببالغي تلك العظمة؛ لأن الله - عز وجل - مذلهم. عن مجاهد.
وقيل: ذلك الكبر هو الحسد على النبوة التي اكرمه الله بها، ما
هم ببالغيه؛ لأن الله يرفع به من يشاء.
(2/367)
وقيل: ذكر كبر خلق السموات والأرض بما هو
خارج عن العادة ليكون حجة على المشركين في إنكار النشأة
الثانية بما هو خارج عن عادة الولادة.
وقيل في هؤلاء المجادلين في دفع آيات الله إنه [السميع] لما
يقولونه [البصير] بما يضمرونه؛ مهددا لهم فيما يقدمون عليه.
{دَاخِرِينَ} [60] صاغرين.
{يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} عن دعائي بالخضوع لي.
جعل الليل ليسكن فيه على معنى أنه أراد فعله لهذا الوجه لأنه
يمكن أن يجعل لهذا المعنى ويمكن لغيره، فإذا أراد فعله من أجل
هذا المعنى فإن الإرادة معلقة بهذا المعنى دون كل ما سواها.
(2/368)
الجعل: وجود ما به يصير الشيء على خلاف
الصفة التي كان عليها، وقد يكون ذلك بوجود غيره، كجعله متحركا،
وقد يكون بوجود نفسه كجعل البناء.
الليل: ظلام عام معاقب للنهار. والنهار: ضياء عام معاقب لليل،
والله - تعالى - جاعلهما على هذه الصفة.
الفضل: الزيادة بتضعيف النعمة، وأصله: الزيادة على المقدار،
فإذا أضيف إلى الله فهو بالمعنى الذي ذكرنا؛ لكثرة نعم الله
على عباده.
(2/369)
الشكر: الاعتراف بالنعمة لتعظيم المنعم بما
له من الحق.
وقيل: إذا قال أحدكم: لا إله إلا الله وحده؛ فليقل في إثرها:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} عن ابن عباس، وسعيد
بن جبير.
تبارك: جل بأنه الثابت الدائم الذي لم يزل ولا يزال.
و {الْحَيُّ} [65] هو الذي له الحياة، فمن له {....} الحياة
استحق معنى الإطلاق بالصفة.
مسألة:
إن سأل عن قوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ
ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ
طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا
شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ
وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
(67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي
آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ
وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي
النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا
كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا
عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ
يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ
تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ
فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ
الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا
يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ
مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ
نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ
بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ
قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا
مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ
وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا
وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ
فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً
وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ
وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ
وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84)
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا
بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ
وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85) } فقال:
ما الغل؟ وما السلاسل؟ وما السحب؟ وما السجر؟ وما الحميم؟ وما
معنى {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} [74] ؟ وما وجه
جعل الأبواب لجهنم؟ وكيف جاز أن يجري (بئس) فيما هو من اجنس
العقاب؟ وكيف وصف الثبات على الحق بأنه صبر؟ وما حكم الصبر
فيما يسبق إلى النفس؟ وما الوعد الحق؟ وكيف كان صفة متكبر ذما
في صفات العباد مدحا في صفات الله؟ وبأي شيء ترى الآيات؟ وما
وجه الإنكار للآية؟ وما الآية في هلاك الأمم الماضية؟ وما
الآية في الأنعام؟ وما السنة؟ وما معنى {وَآثَارًا فِي
الْأَرْضِ} [82] ؟ وما معنى {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ} ؟
(2/370)
الجواب:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [67] بخلق أبيكم آدم -
عليه السلام - منه، وإليه ترجعون، ثم أنشأ النطف من ذلك الأصل
الذي كان ترابا ثم إلى التراب يعود الخلق ما ابتدأ منه أول
مرة.
وقيل: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} [69]
المشركون. عن ابن زيد. وقيل: كل من جادل في دفع آيات الله.
العلقة: القطعة من الدم؛ لأنها تعلق بما يمر به لظهور أثرها
فيه.
وقيل: {يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [67] أي: أطفالا واحدا؛ فلهذا
ذكر بالتوحيد.
وقيل: {بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} الكهف: 103] لأن لكل واحد
منهم أعمالا قد حسر بها.
وقيل: {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى} أي: يبلغ كل واحد
منكم ما سمي له من الأجل. قال الحسن: "هذا للنسل الذي تقوم
عليهم القيامة", والأجل المسمى: القيامة.
الغل: طوق يدخل في العنق للألم والدل، وأصله الدخول، من: وغل
في الشيء، إذا دخل فيه.
السلسلة: حلق منتظمة في جهة الطول مستمرة.
السجر: إلقاء الحطب في النار.
التنور: معظم النار كالتنور، ثم يوبخون لإيلام قلوبهم
بالتوبيخ، كإيلامهم لأبدانهم بالتعذيب.
(2/371)
الحميم: ما كان قد بلغ الغاية في الحرارة.
الفرح، والمرح، والبطر، والأشر: نظائر في اللغة.
وقالوا {لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} [74] يستحق
العبادة، ولا ينتفع بعبادته؛ لذلك أطلق القول له.
{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} عما اتخذوه إلهاً
بصرفهم عن الطمع في نيل نفع من جهته. وقال الحسن: "كذلك يضلُّ
الله أعمالهمُ بإبطالها".
وجه جعل الأبواب لجهنم الرد إلى ما يتصور من حال الدار العظيمة
مع الإسراع بدخولهم إليها.
قيل في صفة العقاب (بئْسَ) ليعلم أن الذم قد يكون على فعل
المذموم، ويكون على غير فعل إذا أريد به نقصهُ.
وصفه الثبات على الحق بأنه صبر للمشقة التي تلحق فيه، كما تلحق
بتجرع المر، ولذلك لا يوصف أهل الجنة بالصبر وإو وصفوا بالثبات
على الحق وكان في الوصف به في الدنيا فضل، ولكن يوصفون بالحلم
لأنه مدحٌ ليس فيه صفة نقصِ.
حكم الصبر فيما يسبق إلى النفس التثبتُ حتى يحصل العلم بصواب
الرأي، ثم يعمل بحسب ما علم، فأما إذا اسند طريق العلم بما هو
أشبه بالأصل في الحق فالتثبتُ حتى يحصل غالب الظن؛ لأنه 'ما
يطلب الثقة بالأمر أو القوة وإن لم يبلغ حد الذي يتعلق به
إنجاز الموعود به.
المثوى: المنزِلُ،، والمثوى: المقامُ.
صفة (متكبرٍ) ذم في العباد، مدح في صفة الله؛ لأن المتكبر
المطالب للصفة في أعلى المراتب، وهذا لا يستحقه أحد من العبادِ
(2/372)
فهو ذم منهم لهذه العلة، وهو مدح في صفة
الله لأنه مستحق أن يوصف بكبر الشأن في أعلى المراتب.
وقيل: لجهنم سبعة أبواب {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ
مَقْسُومٌ} [الحجر: 44]
وقيل: {الْمُتَكَبِّرِينَ} عن اتباع الحق.
{فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} [78] أي: قيام الساعة.
إراية الآيات بالبيان عنها الذي يحضرُ النفس بعينها، ويحتاج في
الآية أولاً إلى إحضارها للنفس ثم الاستدلال على الحق من
الباطل.
وجه الإنكار للآية الجحدُ لها في نفسها، وكل خلاف في الدليل لا
يخلو من ثلاثة أوجه: إما في صحته في نفسه، أو في أنه [ ... ] ،
أو فيهما. الآية في هلاك الأمم الماضية أنهم بعد النعم العظيمة
صاروا إلى النقم، واقتضى ذلك عصيان المنهم.
الآية في الأنعام تسخيرها لمنافع العباد بالتصرف في الوجوه
التي جعل كل شيء منها لما يصلح له.
{وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} [82] قيل فيه: بالمشي بأرجلهم على
عظم خلقهم. عن مجاهد.
وقيل: {وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} بالأبنية العظيمة، والقصور
المشيدة.
وقيل: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ} بمعنى النفي.
وقيل: يعني كأنه قيل: أي شيء أغنى عنهم كسبهم؟
(2/373)
وقيل: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ
الْعِلْمِ} [83] إذ قالوا: نحن أعلم منهم، لن نبعث ولن نعذب.
عن مجاهد، والحسن.
[وقال السدي:] أي: كان عندهم أنه علم وهو جهل. وقيل: فرح الرسل
بما عندهم من العلم بنجاتهم وهلاك أعدائهم.
السنة: الطريقة المستمرة.
(2/374)
الخاتمة
وبعد هذا التطواف فإنني أحمد الله تعالى على نعمة التوفيق
والهداية، والإعانة على إتمام هذه الرسالة، بعد أن عشت مع هذا
الكتاب دراسة وتحقيقا، من أول (سورة الأحزاب) إلى آخر (سورة
غافر) ، ومع سيرة مؤلفه المباركة، تلك السيرة العطرة التي أتيت
على البحث من أوله إلى آخره، فالحمد لله الذي ينعمته تتم
الصالحات، وهذه أهم نتائج البحث بها يتم عقد نظامها، ويفوح مسك
ختامها:
أن ابن فورك كان من العلماء المبرزين في كل فن، وخاصة في اللغة
والتفسير والحديث، فهو بحث علم من أعلام التفسير، إمام من أئمة
اللغة، حافظ من حفاظ الحديث، وكثرة آثاره ومصنفاته في شتى
الفنون والمعارف تشهد له بذلك.
كان لتميزه وتبحره في سائر العلوم عامة، واللغة والتفسير خاصة
أبرز الأثر في تفسيره الذي بين أيدينا، وكانت سمة حاضرة على
امتداد كتابه، فالمباحث اللغوية مبثوثة في ثناياه، واللطائف
التفسيرية منثورة في صفحاته.
إنَّ هذا التفسير له قيمة علمية كبيرة، ولو كان الأمر بخلاف
ذلك لما اعتمد أقوال مصنفه أئمة كبار في تفاسيرهم الشائعة
الذائعة، ولغويون بارعون في مؤلفاتهم الماتعة، مما يشي بعلو
مكانة ابن فورك بين أهل العلم.
ظهر لي من خلال البحث في سيرة هذا العالم الجليل أنه أشعري
المعتقد، فقد خالف أهل السنة والجماعة، وأوَّلَ بعض الأسماء
والصفات، وكان من أثر ذلك أن فسر بعض الآيات تفسيرا جانب فيه
الصواب، ولكن مما يحمد له في جانب العقيدة رده على فرقة
المعتزلة في تأويلاتهم
(2/375)
لما يعتقده أهل السنة والجماعة في باب
الأسماء والصفات كلما اقتضى المقام ذلك، فكان بذلك ناصرا للحق،
مدافعا عنه.
إن تناول المخطوطات بالتحقيق والدراسة ليس من السهولة بمكان،
بل يحتاج من الباحث إلى بذل جهدٍ ومجاهدة نفس، وصبر وجلد، وقبل
ذلك إلى استعانة بالله تعالى، وأخذ بالأسباب المعينة على تحقيق
ذلك، من النظر في كتب أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين،
المطبوعة منها والمخطوطة إن تيسر ذلك، وسؤال أهل الشأن، فليس
التحقيق مهنة من لا مهنة له، بل هو علم له أسسه وقواعده وأصوله
ورجاله، وأرجو أن أكون من أهله.
(2/376)
|