تفسير أبي السعود إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

سورة الجن مكية وآياتها ثمان وعشرون
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}

(9/42)


قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)

{قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ} وقُرِىءَ أُحيَ إليَّ أصلُه وُحيَ وقد قُرِىءَ كذلكَ منْ وُحيَ إليهِ فقلبتْ الواوُ المضمومةُ همزةٌ كأعدَ وَأزنَ في وَعَدَ ووَزَنَ {أَنَّهُ} بالفتحِ لأنَّه فاعل أُوحي والضمير للشأن {استمع} أي القرآن كما ذكر فِي الأحقافِ وقد حُذِفَ لدلالةِ ما بعدَهُ عليه {نَفَرٌ مّنَ الجن} النفرُ ما بين الثلاثة والعشرة والجنُّ أجسام عاقلةٌ خفيةٌ يغلبُ عليهْمِ الناريةُ أو الهوائيةُ وقيلَ نوعٌ منَ الأرواحِ المجردةِ وقيلَ هيَ النفوسُ البشريةُ المفارقةُ عن أبدانِها وفيهِ دِلالةٌ عَلى أنَّه عليه الصلاةُ والسلام لم يشُعْر بهمِ وباستماعِهم ولم يقرأْ عليهمْ وإنَّما اتفقَ حضورُهم في بعض اوقات قراءته فسمعوه فأخبر الله تعالى بذلك وقد مر ما فيه من التفصيلِ في الأَحْقَافِ {فَقَالُواْ} لقومِهم عندَ رجوعِهم إليهِم {إنا سمعنا قرآنا} كتاباً مقرُوءاً {عَجَبًا} بديعاً مبايناً لكلام الناسِ في حسن النظمِ ودقة المَعْنى وهو مصدر وصف به للمبالغةِ

(9/42)


يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)

{يَهْدِى إِلَى الرشد} إلى الحق والصواب {فآمنا بِهِ} أيْ بذلكَ القرآن {وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً} حسبمَا نطقَ به مَا فيهِ منْ دلائلِ التوحيدِ

(9/42)


72 سورة الجن (307)

(9/43)


وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)

{وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا} بالفتحِ قالُوا هُوَ وما بعده من الجمل المصدرة بأنَّ فِي أحدَ عشرَ موضعاً عطفٌ عَلى محلِّ الجارِّ والمجرورِ في فآمنا به كأنَّه قيلَ فصدقناهُ وصدقنا أنَّه تعالَى جَدُّ ربنا اي ارتفع عظتمه منْ جَدَّ فلانٌ في عَينْي أيْ عظُم تمكنُّهُ او سلطانه او غناء على أنه مستعارٌ منَ الجَدِّ الذي هُوَ البَختُ والمعنى وصفه بالاستغناء عنِ الصاحبةِ والولدِ لعظمتِه او لسلطانه او لغناهُ وقُرِىءَ بالكسر وكَذا الجمل المذكور عطفاً على المحكيِّ بعدَ القولِ وهو الأظهرُ لوضوح اندراج كُلِّها تحتَ القولِ وأما اندراج الجملِ الآتيةِ تحتَ الإيمانِ والتصديقِ كما يقتضيهُ العطفُ عَلى محلِّ الجارِّ والمجرورِ ففيهِ إشكالٌ كَما ستحيطُ به خُبْراً وقولُه تعالَى {مَا اتخذ صاحبة وَلاَ وَلَداً} بيانٌ لِحُكمِ تعالِي جَدِّهِ وقُرِىءَ جَدَّاً ربُّنَا على التمييزِ وجَدُّ ربِنا بالكسرِ أيْ صدقُ ربوبيتِه وحق الهيته عنِ اتخاذِ الصاحبةِ والولدِ وذلكَ أنَهُم لَمَّا سمعُوا القرآنَ ووفقُوا للتوحيدِ والإيمانِ تنبهوا للخطأ فيما اعتقدوه كفرةُ الجنِّ من تشبيهِ الله تعالَى بخلقِه في اتخاذِ الصاحبةِ والولدِ فاستعظمُوه ونزهُوه تعالَى عَنْهُ

(9/43)


وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4)

{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} أي إبليسُ أو مردةُ الجنِّ {عَلَى الله شَطَطاً} اي قولا شططٍ أيْ بعدٍ عن القصدِ ومجاوزةٍ للحدِّ أوْ هُو شططٌ في نفسِه لفرطِ بعدِهِ عن الحقِّ وهُو نسبةُ الصاحبةِ والولدِ إليهِ تعالَى وتعلقُ الإيمانِ والتصديقِ بهذَا القولِ ليسَ باعتبارِ نفسِه فإنهم كانُوا عالمِين بقولِ سفهائِهم منْ قبلُ أيضاً بلْ باعتبارِ كونِه شططاً كأنَّه قيلَ وصدقنَا أنَّ مَا كَان يقولُه سفيهُنَا في حقِّه تعالَى كانَ شططاً وأما تعلقهما بقوله تعالَى

(9/43)


وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)

{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً} فغيرُ ظاهرٍ وهُو اعتذارٌ منْهُم عن تقليدِهم لسفيهِهم أيْ كُنَّا نظنُّ أنه لنْ يكذبَ على الله تعالى أحدٌ أبداً ولذلكَ اتبعنَا قولَهُ وكَذِباً مصدرٌ مؤكدٌ لتقولَ لأنَّه نوعٌ من القولِ أو وصفٌ لمصدرِه المحذوفِ أيْ قولاً كذباً أيْ مكذوباً فيهِ وقُرِىءَ لنْ تَقوَّلَ بحذفِ احدَى التاءينِ فكذبا مصدر مؤكذ لأنَّ الكذبَ هو التقولُ

(9/43)


وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)

{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن} كان الرجلُ من العربِ إذا أمسَى في وادٍ قفرٍ وخافَ على نفسِه يقولُ أعوذُ بسيدِ هَذَا الوادِي من سفهاءِ قومِه يريدُ الجنِّ وكبيرَهُم فإذا سمعُوا بذلكَ استكبرُوا وَقَالُوا سُدنا الإنسَ والجنَّ وذلكَ قولُه تعالَى {فَزَادوهُمْ} اي زاد الرجال العائذون الجِنَّ {رَهَقاً} أي تكبراً وعتواً أو فزادَ الجنُّ العائذين غيا بأن اضلوا حتى استعاذُوا بهمْ

(9/43)


وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)

{وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ}

(9/43)


أيِ الإنسُ {كَمَا ظَنَنتُمْ} إيُّها الجِنُّ على أنَّه كلامُ بعضِهم لبعضٍ {أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً} وقيل المَعْنى أنَّ الجنَّ ظنُّوا كما ظننتُمْ أيُّها الكفرةُ الخ فتكونُ هذهِ الآيةُ وما قبلَها منْ جملة الكلامِ المُوحَى به والأقربُ أنهُمَا كذلكَ علَى كُلِّ تقديرٍ عطفاً على أنه استمَع اذ لاَ معْنَى لادراجهما تحتَ ما ذُكر من الإيمانِ والتصديقِ وكذا قولُه تعالَى

(9/44)


وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8)

{وَأَنَّا لَمَسْنَا السماء} وما بعده من الجمل المصدرة بأنَّا ينبغِي أنْ تكونَ معطوفةً على ذلكَ عَلى أنَّ المُوحَى عينُ عبارةِ الجنِّ بطريقِ الحكايةِ كأنَّه قيلَ قُلْ أُوحيَ إليَّ كيت وكيت وهذهِ العباراتُ أي طلبنَا بلوغَ السماءِ أو خبرَها واللمسُ مستعارٌ من المسِّ للطلبِ كالجسِّ يقال لمسَهُ والتمسَهُ وتلمسَهُ كطلَبُه واطلَبُه وتطلَبُه {فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً} أي حُراساً اسمُ جمعٍ كخدمٍ مفردُ اللفظِ ولذلكَ قيلَ {شَدِيداً} قوياً وهُم الملائكةُ يمنعونَهُم عنها {وَشُهُباً} جمعُ شهابٍ وهيَ الشعلةُ المقتبسةُ من نارِ الكواكبِ

(9/44)


وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)

{وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ} قبلَ هَذا {مِنْهَا} من السماءِ {مقاعد لِلسَّمْعِ} خاليةً عن الحرسِ والشهبِ أو صالحةٍ للترصدِ والاستماعِ وللسمعِ متعلقٌ بنقعدَ أي لأجلِ السمعِ أو بمضمرٍ هو صفةٌ لمقاعدَ كائنةً للسمعِ {فَمَن يَسْتَمِعِ الأن} في مقعدٍ من المقاعدِ {يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} أي شهاباً راصداً لهُ ولأجلِه يصدُّه عن الاستماعِ بالرجمِ أو ذوي شهابٍ راصدينَ لهُ على أنَّه اسمٌ مفردٌ في مَعْنى الجمعِ كالحرسِ قيلَ حدثَ هذا عندَ مبعثِ النبيِّ عليه الصلاةَ والسَّلامُ والصحيحُ أنه كانَ قبلَ البعثِ أيضاً لكنَّه كثُر الرجمُ بعدَ البعثةِ وزادَ زيادةً حتَّى تنبه لها الإنسُ والجنُّ ومُنعَ الاستراقُ أصلاً فقالُوا ما هذا إلا لأمرِ أراده الله تعالى بأهلِ الأرضِ وذلك قولهم

(9/44)


وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)

{وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الأرض} بحراسةِ السماءِ {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} أي خيراً ونسبةُ الخيرِ إلى الله تعالى دونَ الشرِّ من الآداب الشريفةِ القرآنيةِ كما في قوله تعالى وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ونظائرُه

(9/44)


وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)

{وَأَنَّا مِنَّا الصالحون} أي الموصوفونَ بصلاحِ الحالِ في شأنِ أنفسِهم وفي معاملتِهم مع غيرِهم المائلونَ إلى الخيرِ والصلاحِ حسبما تقتضيهِ الفطرةُ السليمةُ لا إلى الشرِّ والفسادِ كما هو مقتضَى النفوسِ الشريرةِ {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي قومٌ دونَ ذلكَ فحذف الموصوفَ وهم المقتصدونَ في صلاحِ الحالِ على الوجهِ المذكورِ لا في الإيمانِ والتَّقوى كما توهَم فإنَّ هذا بيانٌ لحالِهم قبل استماعِ القرآن كما تعرب عنه قولِه تعالى {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} وأمَّا حالُهم بعد استماعِه فسيُحكى بقولِه تعالى وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى إلى قولِه تعالى وَأَنَّا مِنَّا المسلمون أي كُنَّا قبل هذا ذَوِي طرائقَ أي مذاهبَ أو مثلَ طرائقَ في اختلافِ الأحوال او كانت طرائقنا طرائق قدد اي متفرقة مختلفة

(9/44)


72 سورة الجن (12 17) جمعُ قِدَّةٍ من قدَّ كالقِطْعةِ من قَطَع

(9/45)


وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12)

{وَأَنَّا ظَنَنَّا} أي علمنَا الآنَ {أَن لَّن نُّعْجِزَ الله} أي الشأنَ لنْ نعجزَ الله كائنين {في الأرض} إن أينما كُنَّا من أقطارِها {ولن نعجزه هربا} هَرَباً هاربينَ منها إلى السماءِ أو لن نعجزَهُ في الأرضِ إنْ أرادَ بنا ولن نُعجزَهُ هرباً إنْ طلبنَا

(9/45)


وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)

{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى} أي القرآنَ الذي هُو الهدى بعينه {آمنا به} من غير تلعثم وترددٍ {فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ} وبما أنزلَهُ {فَلاَ يَخَافُ} فهو لا يخافُ {بَخْساً} أي نقصاً في الجزاءِ {وَلاَ رَهَقاً} ولا أنْ ترهقَهُ ذلةٌ أو جزاءَ بخسٍ ولا رهقٍ إذَا لم يبخسْ أحداً حقَّا ولا رهق ظلم أحد فلا يخافُ جزاءَهما وفيهِ دِلالةٌ على أنَّ من حقِّ من آمنَ بالله تعالى أن يجتنبَ المظالمَ وقُرِىءَ فلا يخفْ والأولُ أدلُّ على تحقيقِ نجاةِ المؤمنِ واختصاصِها بهِ

(9/45)


وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14)

{وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون} الجائرونَ عن طريقِ الذي الحق هو الإيمانُ والطَّاعةُ {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ أسلمَ والجمعُ باعتبارِ المَعْنى {تَحَرَّوْاْ} توخَّوا {رَشَدًا} عظيماً يبلغُهم إلى دار الثوابِ

(9/45)


وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)

{وَأَمَّا القاسطون} الجائرونَ عن سنن الإسلامِ {فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حطبا} توقدبهم كَما تُوقدُ بكفرةِ الإنسِ

(9/45)


وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)

{وأن لو استقاموا} أنْ مخففةٌ من الثقيلةِ والجملةُ معطوفةٌ قطعاً على أنَّه استمعَ والمَعْنى وأُوحيَ إليَّ أنَّ الشأنَ لو استقامَ الجِنُّ والإنسُ أو كلاهُما عَلَى الطريقة التي هي ملَّةُ الإسلامِ {لأسقيناهم مَّاء غَدَقاً} أيْ لو سعنا عليهم الرزقَ وتخصيصُ الماءِ الغدقِ وهو الكثيرُ بالذكر لأنَّه أصلُ المعاشِ والسَّعةِ ولعزةِ وجودِه بين العربِ وقيل لو استقامَ الجنُّ على الطريقةِ المُثْلَى أي لو ثبتَ أبُوهم الجانُّ على ما كان عليه من عبادة الله تعالى وطاعتِه ولم يتكبرْ عن السجود لآدمَ عليه السَّلامُ ولم يكفرُ وتبعه ولدُه في الإسلامِ لأنعمنا عليهم ووسَّعنا رزقَهم

(9/45)


لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)

{لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لنختبرَهُم كيفَ يشكرونَهُ وقيل معناهُ إنَّه لو استقامَ الجنُّ على طريقتِهم القديمةِ ولم يسلموا يإستماع القرآن لو سغنا عليهم الرزق استدراجا لنوقعَهُم في الفتنةِ ونعذبهم في كُفرانِ النعمةِ {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ} عن عبادتِه أو عن موعظتِه أو وحيهِ {يَسْلُكْهُ} يُدخله {عَذَاباً صَعَداً} أي شاقَّاً صعباً يعلُو المعذبَ ويغلبُه على أنَّه مصدرٌ وُصف به مبالغة

(9/45)


سورة الجن (18 23)

(9/46)


وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)

{وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} عطفٌ على قولِه تعالى أنَّه استمعَ أي وأُوحيَ إليَّ أنَّ المساجدَ مختصَّةٌ بالله تعالَى وقيلَ معناهُ ولأنَّ المساجدَ لِلَّهِ
{فَلاَ تَدْعُواْ} أي لا تعبدُوا فيَها
مَعَ الله أَحَداً غيرَه وقيلَ المرادُ بالمساجدِ المسجدُ الحرامُ والجمعُ لأنَّ كلَّ ناحيةٍ منْهُ مسجدٌ له قبلةٌ مخصوصةٌ أو لأنَّه قبلة المساجدِ وقيلَ الأرضُ كلُّها لأنَّها جعلتْ مسجداً للنبي عليه الصلاة والسلام وقيلَ مواضعُ السجودِ على أنَّ المرادَ نهيُ السجودِ لغير الله تعالَى وقيل أعضاءُ السجودِ السبعةُ وقيلَ السجداتُ على أنَّه جمعُ المصدرِ الميميِّ

(9/46)


وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)

(وَأَنَّهُ) من جُملةِ المُوحَى أي وأُوحيَ إليَّ أنَّ الشأنَ
لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله أي النبيُّ عليهِ الصلاةَ والسلام وإيراده بلفظ العبدِ للإشعارِ بَما هُو المقتضى لقيامه وعبادته وللتواضع لأنَّه واقعٌ موقعَ كلامِه عن نفسِه
{يَدْعُوهُ} حالٌ من فاعلِ قامَ أي يعبدُه وذلكَ قيامُه لصلاةِ الفجر بنخلة كمامر تفصيلُه في سورةِ الأحقافِ
كَادُواْ أي الجنُّ
{يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} متراكمينَ من ازدحامِهم عليه تعجباً ممّا شاهدُوا من عبادتِه وسمعُوا من قراءتِه واقتداءِ أصحابِه بهِ قياماً وركوعاً وسجوداً لأنهم رأوا مالم يَرَوا مثلَهُ وسمعُوا بما لم يسمعُوا بنظيرِه وقيلَ معناهُ لمَّا قامَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يعبدُ الله وحدَهُ مخالفاً للمشركينَ كاد المشركون يزدحمون عليه متراكمينَ واللِّبدُ جمعُ لبدة وهي تلبَّد بعضُه على بعضٍ ومنَها لبدةُ الأسدِ وقُرِىءَ لبُدُا جمعُ لبدةٍ وهي بمعنى اللبدة ولبدا وجمع لابدٍ كساجدٍ وسُجّدٍ ولُبْداً بضمتينِ جمعُ لَبُودٍ كصبُورٍ وصُبُرٍ وعن قتادةَ تلبدتِ الإنسُ والجنُّ على هذا الأمرِ ليطفئُوه فأبَى الله ألا أنْ يظهرَهُ على مَنْ ناوأه

(9/46)


قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20)

{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو} أي أعبدُ
{رَبّى وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ} بربِّي في العبادةِ
أَحَدًا فليسَ ذلكَ ببدعٍ ولا مستنكرٍ يوجبُ التعجبَ أو الإطباقَ على عداوتِي وقُرِىءَ قالَ على أنَّه حكايةٌ لقولِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ للمتراكمينَ عليهِ والأولُ هُو الأظهرُ والأوفقُ لقولِه تعالى

(9/46)


قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)

{قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً} كأنَّه أريدَ لا أملكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً ولا غياً ولا رشداً فتركَ منْ كِلا المتقابلينِ ما ذُكِرَ في الآخر

(9/46)


قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)

{قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ الله أَحَدٌ} إنْ أراداني بسوءٍ
{وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} ملتجأً ومعدلاً وهذا بيانٌ لعجزِه عليهِ الصَّلاةُ والسلام عن شئون نفسِه بعد بيانِ عجزِه عليه الصلاة والسلام عن شئون غيرِه وقولُه تعالى

(9/46)


إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)

{إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله} استثناء

(9/46)


سورة الجن (24 27) من قولِه لا أملكُ فإنَّ التبليغَ إرشادٌ ونفعٌ وما بينهما اعتراضٌ مؤكدٌ لنفي الاستطاعة أو منْ مُلتحداً أي لنْ أجدَ من دونه منجاً إلا أنْ أُبلغَ عنه ما أَرسلنِي به وقيلَ إلاَّ مركبةٌ من إنِ الشرطيةِ ولا النافيةِ ومعناهُ أنْ لاَ أبلغَ بلاغاً من الله والجوابُ محذوفٌ لدلالة ما قبلَهُ عليهِ
ورسالاته عطفٌ على بلاغاً ومن الله صفته لاصلته أي لا أملكُ لكُم إلا تبليغاً كائناً منهُ تعالى ورسالاتِه التي أرسلني بها
{وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} في الأمرِ بالتوحيد إذ الكلامُ فيه
{فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} وقُرِىءَ بفتح الهمزة على فحقُّه أو فجزاؤه أنَّ له نارَ جهنَم
{خالدين فِيهَا} في النار أو في جهنمَ والجمعُ باعتبار المَعْنى
أَبَدًا بلا نهايةٍ وقولُه تعالى

(9/47)


حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)

{حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} غايةٌ لمحذوف يدلُّ عليه الحالُ من استضعاف الكفارِ لأنصارِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ واستقلالِهم لعدده كأنَّه قيلَ لا يزالونَ على ما هُم عليهِ حتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يوعدون من فنون العذابِ في الآخرة
فَسَيَعْلَمُونَ حينئذٍ
{مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} وحُمل ما يُوعدونَ على ما رأوا يوم بدر يأباه قوله تعالى

(9/47)


قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25)

{قُلْ إِنْ أَدْرِى} أي ما أدْرِي
{أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى أَمَداً} فإنه ردٌّ لما قالَه المشركونَ عند سماعِهم ذلكَ متَى يكونُ ذلك الموعود إنكاراً له واستهزاءً به فقيلَ قُل إنه كائنٌ لا محالةَ وأما وقتُه فما أدْرِي متَى يكونُ

(9/47)


عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26)

{عالم الغيب} بالرفعِ قيلَ هو بدلٌ من ربِّي أو بيانٍ له ويأباهُ الفاءُ في قوله تعالى
{فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً} إذ يكونُ النظمُ حينئذٍ أمْ يجعلُ له عالمُ الغيبِ أمداً فلا يُظهر عليهِ أحداً وفيهِ من الإختلال مالا يَخْفى فهو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أيْ هُو عالمُ الغيبِ والجملةُ استئنافٌ مقرِّرٌ لما قبلَهُ من عدم الدرايةِ والفاءُ لترتيب عدمِ الإظهارِ على تفرده تعالى بعلم الغيبِ على الاطلاق أي فلا يُطلْعُ على غيبِه إطلاعاً كاملاً ينكشفُ به جليةُ الحالِ انكشافاً تاما موجبا لعين اليقينِ أحداً من خلقه

(9/47)


إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)

{إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} أي إلا رسولاً ارتضاهُ لإظهارِه على بعضِ غيوبهِ المتعلقةِ برسالتِه كما يُعربُ عنه بيانُ من ارتضى بالرسول تعلفا تاماً إما لكونه من مبادىءِ رسالتِه بأنْ يكونَ معجزةً دالةً على صحتها وإما لكونه من أركانِها وأحكامِها كعامَّة التكاليفِ الشرعيةِ التي أُمرَ بها المكلفونَ وكيفياتِ أعمالِهم وأجزيتِها المترتبةِ عليها في الآخرةِ وما تتوقفُ هيَ عليهِ من أحوالِ الآخرةِ التي من جُملتِها قيامُ الساعةِ والبعثُ وغيرُ ذلكَ من الأمورِ الغيبية التي بينها من وظائفِ الرسالةِ وأما مالا يتعلقُ بها على أحد الوجهينِ من الغيوبِ التي من جُمْلتِها وقتُ قيامِ الساعةِ فلا يُظهر عليهِ أحدا على أنَّ بيانَ وقتِه مخلٌّ بالحكمةِ التشريعيةِ التي عليها يدورُ فلكُ الرسالةِ وليس فيه ما يدل على نفي كراماتِ الأولياءِ

(9/47)


سورة الجن (28) المتعلقةِ بالكشفِ فإنَّ اختصاصَ الغايةِ القاصيةِ من مراتب الكشف بالرسل لايستلزم عدم الحصول مرتبةٍ مَا منْ تلكَ المراتبِ لغيرِهم أصلاً ولا يدَّعِي أحدٌ لأحدٍ من الأولياءِ ما في رتبةِ الرسلِ عليهم السَّلامُ من الكشفِ الكاملِ الحاصلِ بالوحي الصريحِ وقولُه تعالَى
{فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خلفِه رَصَداً} تقريرٌ وتحقيقٌ للإظهارِ المستفادِ من الاستثناءِ وبيانٌ لكيفيته أي فإنَّه يسلكُ من جميع جوانب الرسول صلى الله عليه وسلم عند إظهارِه على غيبه حرساً من الملائكةِ يحرسُونه من تعرض الشياطين لماأظهره عليهِ من الغيوبِ المتعلقةِ برسالته وقولُه تعالى

(9/48)


لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)

{لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ} متعلقٌ بيسلكُ غايةٌ لهُ من حيثُ إنَّه مترتبٌ على الإبلاغ المترتبِ عليه إذ المرادُ به العلمُ المتعلقُ بالإبلاغ الموجود بالفعلِ وأنْ مخففةٌ من النقيلة واسمها الذي هو ضميرُ الشأنِ محذوفٌ والجملةُ خبرُها ورسالاتِ ربِّهم عبارةٌ عن الغيبِ الذي أُريدَ إظهارُ المُرتضَى عليهِ والجمعُ باعتبار تعددِ أفرادِه وضميرُ أبلغُوا إمَّا للرصَدِ فالمَعْنى أنَّه تعالَى يسلُكهم من جميع جوانبِ المرتَضى ليعلمَ أنَّ الشأنَ قد أبلغُوه رسالاتِ ربِّهم سالمةً عن الاختطافِ والتخليط علماً مستتبعاً للجزاءِ وهُو أنْ يعلَمُه موجوداً حاصلاً بالفعل كَما في قولِه تعالى حتى نَعْلَمَ المجاهدين والغايةُ في الحقيقه هو الإبلاغُ والجهادُ وإيرادُ علمهِ تعالَى لإبراز اعتنائِه تعالى بأمرِهما والإشعار بترتيب الجزاءِ عليهما والمبالغة في الحثِّ عليهما والتحذير عن التفريط فيهما وإما لمن ارتضَى والجمعُ باعتبارِ مَعْنى من كما أن الإفراد في الضميرين السابقينِ باعتبار لفظهافالمعنى ليعلمَ أنَّه قد أبلغَ الرسلَ الموحَى إليهم رسالات ربِّهم إلى أُممهم كما هي من غير اخنطاف ولا تخليطِ بعد ما أبلغها الرصَدُ إليهم كذلكَ قولَه تعالى
{وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} أيْ بَما عندَ الرَّصَدِ أو الرُّسلِ عليهم السَّلامُ حالٌ من فاعلِ يسلكُ بإضمارِ قَدْ أو بدونه على الخلاف المشهور جيءَ بها لتحقيقِ استغنائِه تعالى في العلمِ بالإبلاغِ عمَّا ذُكِرَ من سلكِ الرصدِ على الوجِه المذكورِ أي يسلكُهم بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خلفِه ليترتب عليه علمَه تعالَى بما ذُكر والحالُ أنَّه تعالَى قد أحاطَ بما لديِهم من الأحوالِ جميعاً
{وأحصى كلِّ شيءٍ} ممَّا كانَ وما سيكونُ
عَدَدًا أي فرداً فرداً وهُو تمييزٌ منقولٌ من المفعول به كقوله تعالى وفجرنا الارض عُيُوناً والأصلُ أحصَى عددَ كلِّ شيءٍ وقيلَ هو حالٌ أي معدوداً محصوراً أو مصدرٌ بمَعْنى إحصاءً وأيَّا ما كان ففائدتُه بيانُ أنَّ علمَهُ تعالَى بالأشياء ليس على وجهٍ كليَ إجماليَ بلْ على وجهٍ جزئيَ تفصيليَ فإنَّ الإحصاءَ قد يرادُ به الإحاطةُ الإجماليةُ كما في قولِه تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا أي لا تقدروا على حصرها إجمالا فضلا عنى النفصيل وذلك أصلَ الإحصاءِ أنَّ الحاسبَ إذا بلغ عَقداً معيناً من عُقودِ الأعدادِ كالعشرةِ والمائةِ والألفِ وضعَ حصاةً ليحفظَ بها كميةً ذلكَ العقدِ فيبنِي عَلَى ذلكَ حسابَهُ هذا وأمَّا مَا قيلَ مِنْ أنَّ قولَه تعالى وأحاط بما لديهم الخ معطوفٌ على مقدرٍ يدلُّ عليه قوله تعالى ليعلمَ كأنه قيل قد علمَ ذلكَ وأحاطَ بما لديهم الخ فبمعزلٍ من السداد عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الجنِّ كانَ لهُ بعددِ كُلِّ جِنيَ صدَّقَ بمحمدا وَكذَّبَ به عتقُ رقبةٍ

(9/48)


بسم الله الرحمن الرحيم

(9/49)


يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)

{يا أيها المزمل} أي المتزمل بثيابِه إذَا تلفّف بهَا فأدغم التاء في الزاء وقد قرىء على الأصل وقُرِىءَ المُزَمِّلُ من زمَّلَة مبنيا للمفعول ومبنيا للفاعل قيل خوطب به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم تهجيناً لما كانَ عليهِ من الحالةِ حيثُ كانَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ متلففاً بقطيفة مستعد للنومِ كما يفعلهُ مَنْ لا يَهمُّهُ أمرٌ ولا يعنيهِ شأنٌ فأُمرَ بأنْ يتركَ التزملَ إلى التشمر للعبادةِ والهجودِ إلى التهجدِ وقيلَ دخلَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ على خديجةَ وقد جَئِثَ فرقاً أولَ ما أتاهُ جبريلُ عليهما السَّلامُ وبوادُره ترعدُ فقالَ زَمِّلوني زَمِّلونِي فحسبَ أنَّه عرضَ له فبينَا هو على ذلك إذْ نادَاهُ جبريلُ فقال يأيها المزمِّلُ فيكونُ تخصيصُ وصفِ التزمُّلِ بالخطابِ للملاطفةِ والتأنيس كما في قولِه عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه حينَ غاضبَ فاطمة رضي الله عنها فأتاهُ وهو نائمٌ وقد لصقَ بجنبهِ الترابُ قُمْ يا أبا تُرابٍ ملاطفةً وإشعاراً بأنَّه غيرُ عاتبٍ عليه وقيل المعنى يأيها الذي زُمِّلَ أمْراً عظيماً هُو أمرُ النبوةِ أي حملَه والزملُ الحملُ وازدملَهُ أي احتملَهُ فالتعرضُ للوصفِ حينئذٍ للإشعارِ بعلِّيتهِ للقيامِ أو للأمرِ به فإنَّ تحميلَهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لأعباءِ النبوةِ مما يوجبُ الاجتهادَ في العبادةِ

(9/49)


قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)

{قم الليل} أيْ قُمْ إلى الصلاِة وانتصابُ الليلِ على الظرفيةِ وقيل القيامُ مستعارٌ للصلاةِ ومَعْنى قُمْ صَلِّ وقُرِىءَ بضم الميم وفتحها
{إِلاَّ قَلِيلاً} استثناءٌ من الليلِ وقولُه تعالى

(9/49)


نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3)

نصفه بدل من الليل الباقي بعدَ الثُّنْيا بدلَ الكُلِّ أيْ قُمْ نصفَهُ والتعبيرُ عن النصفِ المُخرَجِ بالقليل لإظهارِ كمالِ الاعتدادِ بشأنِ الجزءِ المُقَارِنِ للقيامِ والإيذانِ بفضلِه وكونِ القيامِ فيهِ بمنزلةِ القيامِ في أكثرِه في كثرةِ الثوابِ واعتبارُ قلتهِ بالنسبةِ إلى الكلِّ مع عرائِه عن الفائدةِ خلافُ الظَّاهرِ {أَوِ انقص مِنْهُ} أي أنقُص القيامَ من النصفِ المقارنِ له في الصُّورة الأولى

(9/49)


سورة المزمل (4 6)
قَلِيلاً أي نقصاً قليلاً أو مقداراً قليلاً بحيثُ لا ينحطُّ إلى نصف النصفِ

(9/50)


أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)

{أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} أي زدِ القيامَ على النصف المقارِنِ له فالمَعْنى تخييرُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بينَ أنْ يقومَ نصفَهُ أو أقلَّ منه أو أكثرَ وقيلَ قولُه تعالَى نصفَهُ بدلٌ من قليلاً والتخييرُ بحالهِ وليس بسديدٍ أمَّا أولاً فلأنَّ الحقيقَ بالاعتناءِ الذي ينبىءُ عنْهُ الإبدالُ هو الجزاء الباقي بعد الثُّنيا المقارِنُ للقيامِ لا الجزءُ المُخَرجُ العارِي عنه وأمَّا ثانياً فلأَنَّ نقصَ القيامِ وزيادتَهُ إنما يُعتبرانِ بالقياسِ إلى معياره الذي هو النصفُ المقارِنُ له فلو جُعلَ نصفَهُ بدلاً من قليلاً لزمَ اعتبارُ نقصِ القيامِ وزيادتِه بالقياسِ إلى ما هُو عارٍ عنه بالكُليَّةِ والاعتذارُ بتساوي النصفينِ مع كونِه تمحلاً ظاهراً اعترافٌ بأنَّ الحقَّ هو الأولُ وقيلَ نصفَهُ بدل من الليل وإلاَّ قليلاً استثناءٌ من النصف والضميرُ في منه وعليه للنصف والمعنى التخيير بين أمرين أن يقومَ أقلَّ من نصف الليلِ على البتاتِ وبينَ أنْ يختارَ أحدَ الأمرينِ وهُمَا النقصانُ من النصفِ والزيادةُ عليهِ وقيلَ الضميرانِ للأقلِّ منَ النصفِ كأنَّه قيلَ قُم أقلَّ من نصفهِ أو قُم أنقصَ من ذلكَ الأقلِّ أو أزيدَ منهُ قليلاً وقيل وقيلَ والذي يليقُ بجزالة التنزيلِ هو الأولُ والله أعلمُ بما في كتابه الجليل
ورتل القرآن وفي أثناءِ ما ذُكِرَ من القيامِ أي اقرأْهُ على تُؤدةٍ وتبيين حروفٍ
تَرْتِيلاً بليغاً بحيثُ يتمكنُ السامعُ من عدِّها من قولِهم ثغر رتل إذا كانَ مُفلَّجاً

(9/50)


إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)

(إنا سنلقي عليك) أي سنُوحي إليكَ وإيثارُ الإلقاءِ عليه لقوله تعالى
قَوْلاً ثقيلا وهو القرى ن العظيمُ المنطوِي على تكاليفَ شاقةٍ ثقيلةٍ على المُكلفينَ لا سيَّما على الرسولِ صلى الله عليه وسلم فإنه مأمورٌ بتحملها وتحميلها للأمة والجملةُ اعتراضٌ بين الأمرِ وتعليله لتسهيل كا كلَّفه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من القيامِ وقيلَ مَعْنَى كونه ثقيلا أنه رضين لرزانة لفظهِ ومتانة معناهُ أو ثقيلٌ على المتأمل فيهِ لافتقارِه إلى مزيد تصفيةٍ للسرِّ وتجريدٍ للنظرِ أو ثقيلٌ في الميزان أو على الكفار والفجارِ أو ثقيلٌ تلقيه عن ابن عباس رضي الله عنهما كانَ إذا نزلَ عليه الوحي ثقلا عليه وتربدله جلدُه وعنْ عائشةَ رضيَ الله عنها رأيتُه ينزلُ عليه الوحيُ في اليومِ الشديدِ البردِ فيفصمُ عنه وإن جبينَهُ ليرفضُّ عرقاً

(9/50)


إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)

{إن ناشئة الليل} أي إنَّ النفسَ التي تنشأ من مضجعِها إلى العبادةِ أي تنهضُ من نَشَأ من مكانه إذا نهضَ أو إنَّ قيامَ الليلِ على أنَّ الناشئةَ مصدرٌ من نشَأ كالعافية أو إنَّ العبادةَ التي تنشأُ بالليلِ أي تحدثُ أو إن ساعاتِ الليلِ فإنَّها تحدثُ واحدةً بعدَ واحدةٍ أو ساعاتها الأولُ من نَشأ إذا ابتدأ
{هِىَ أَشَدُّ وَطْأً} أي هي خاصَّةٌ أشدُّ ثباتَ قدمٍ أو كلفةً فلا بدَّ من الاعتناءِ بالقيامِ وقرىءَ وطاءً أي أشدُّ مواطأةً يواطىءُ قلبها لسانَها إن أريدَ بها النفسُ أو يواطىءُ فيها قلبُ القائمِ لسانَه إنْ أريد

(9/50)


سورة المزمل (7 13) بها القيامُ أو العبادةُ أو الساعاتُ أو أشدُّ موافقةً لما يرادُ من الخشوعِ والإخلاصِ
وَأَقْوَمُ قِيلاً وأسدُّ مقالاً وأثبتُ قراءةً لحضور القلب وهدو الأصواتِ

(9/51)


إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)

{إِنَّ لَكَ فِى النهار سَبْحَاً طَوِيلاً} أي تقلباً وتصرفاً في مهمَّاتِك واشتغالاً بشواغلك فلا يستطيع أن تتفرغَ للعبادةِ فعليكَ بها في الليلِ وهذا بيانٌ للداعي الخارجي إلى قيامِ الليلِ بعدَ بيانِ ما في نفسِه من الدَّاعي وقُرِىءَ سَبْخاً أي تفرق قلبٍ بالشواغلِ مستعارٌ من سبخِ الصوفِ وهو نفشُه ونشرُ أجزائِه

(9/51)


وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)

{واذكر اسم رَبّكَ} ودُمْ على ذِكرِه تعالى ليلاً ونهاراً على أيِّ وجهٍ كانَ من تسبيحٍ وتهليلٍ وتحميدٍ وصلاةً وقراءةِ قُرآنِ ودراسةِ علمٍ
{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ} أيْ وانقطعْ إليهِ بمجامعِ الهمةِ واستغراقِ العزيمةِ في مراقبتِه وحيثُ لم يكن ذلك إلا بتجريدِ نفسهِ عليه الصلاة والسلام عن العوائقِ الصَّادةِ عن مراقبةِ اله تعالى وقطعِ العلائقِ عمَّا سواهُ قيلَ
تَبْتِيلاً مكان تبتلاً مع ما فيهِ من رعايةِ الفواصلِ

(9/51)


رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)

{رَّبُّ المشرق والمغرب} مرفوعٌ على المدح وقيلَ على الأبتداء خبرُهُ
لاَ إله إِلاَّ هُوَ وقُرِىءَ بالجرِّ على أنَّه بدلُ من ربِّكَ وقيلَ على إضمارِ حرفِ القسمِ جوابُه لا إله إلاَّ هُو والفاءُ في قوله تعالى
{فاتخذه وَكِيلاً} لترتيب الأمرِ وموجبهِ على اختصاصِ الألوهيةِ والربوبيةِ به تعالَى

(9/51)


وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)

{واصبر على مَا يَقُولُونَ} مما لا خير فيه منَ الخُرافاتِ
{واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً} بأنْ تجانبَهم وتداريَهم ولا تكافئَهم وتكلَ أمورَهُم إلى ربِّهم كما يعربُ عنه قولُه تَعالَى

(9/51)


وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)

{وَذَرْنِى والمكذبين} أي دعني وإيَّاهم وكلْ أمرَهُم إليَّ فإنِّي أكفيكَهُمْ {أُوْلِى النعمة} أربابِ التنعمِ وهم صناديدُ قريش
{ومهلهم قليلا} زمنا قليلاً

(9/51)


إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12)

{إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً} جمعُ نِكْلٍ وهو القيدُ الثقيلُ والجملةُ تعليلٌ للأمرِ أيْ إنَّ لدينا أموراً مضادة لتنعمهم
جحيما

(9/51)


وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)

(وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ) ينشَبُ في الحُلوقِ ولا يكادُ يُسَاغُ كالضَّريعِ والزقُّوم
وَعَذَاباً أَلِيماً ونوعاً آخرَ من العذابِ مُؤلماً لا يُقادرُ قدره ولا يُدْرك كنهه كلُّ ذلك معدٌّ لهم ومرصدٌ

(9/51)


سورة المزمل (14 19) وقولُه تعالى

(9/52)


يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)

(يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال) أي تضطربُ وتتزلزلُ ظرفٌ للاستقرار الذي تعلقَ به لدينا وقيلَ متعلق بمضمر هو صفة لعذابنا أي عذاباً واقعاً يومَ ترجفُ
{وَكَانَتِ الجبال} مع صلابتها وارتفاعها
كَثِيباً رملاً مجتمعاً من كثب الشيء إذا جَمَعَهُ كأنَّه فعِيلٌ بمعنى مفعولٍ
مَّهِيلاً منثوراً من هِيلَ هَيلاً إذا نُثرَ وأُسيلَ

(9/52)


إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15)

{إنا أرسلنا إليكم} يأهل مكةَ {رَسُولاً شاهدا عَلَيْكُمْ} يشهدُ يومَ القيامةِ بما صدرَ عنكُم من الكفرِ والعصيانِ كَمَا
أَرْسَلْنَا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً هو مُوسى عليه السَّلامُ وعدمُ تعيينهِ لعدمِ دخلِه في التشبيهِ

(9/52)


فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)

(فعصى فِرْعَوْنُ الرسول) الذي أرسلناهُ إليهِ ومحلُّ الكافِ النصب على أنها صفةٌ لمصدر محذوفٍ أي أناأرسلنا إليكم رسولاً فعصيتموه كما يعرب عنه قوله تعالى شاهدا عليكم إرسالا كأننا كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصاه وقولُه تعالى
{فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً} خاج من التشبيه جئ به للتنبيه على أنَّه سيحيقُ بهؤلاءِ ما حاقَ بأولئكَ لا محالةَ والوبيلُ الثقيلُ الغليظُ من قولِهم كلأٌ وبيلٌ أي وخيمٌ لا يستمرأُ لثقلهِ والوبيلُ العَصا الضخمةُ

(9/52)


فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)

{فكيف تتقون} أي كيق تقونَ أنفسكمُ
{إِن كَفَرْتُمْ} أي بِقيتُم على الكفرِ
{يوما} أي عذاب يو
{يَجْعَلُ الولدان} من شدةِ هولِه وفظاعةِ ما فيهِ من الدَّواهي شِيباً شيوخاً جمعُ أشيبَ إما حقيقةً أو تمثيلاً وأصلهُ أنَّ الهمومَ والأحزانَ إذا تفاقمتْ على المرء ضعفتْ قُواه وأسرعَ فيه الشيبُ وقد جوز أن يكون ذلك وصفاً لليومِ بالطولِ وليس بذاكَ

(9/52)


السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)

{السَّمَاء مُنفَطِرٌ} أي منشقٌّ وقرئ مُتَفَطِّر أي متشققٌ والتذكيرُ لإجرائه على موصوفٍ مذكرٍ أي شئ منفطر عز عنها بذلك للتنبيه على أنَّه تبدلتْ حقيقتُها وزالَ عنها اسمها ورسمها ولم يبقَ منها إلا ما يعبر عنه بالشئ وقيلَ لتأويلِ السماءِ بالسقفِ وقيلَ هو من باب النسبِ أي ذاتُ انفطارٍ والباء في به
مثلها في فطر ت العودَ بالقَدُومِ
{كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} الضَّميرُ لله عزَّ وجلَّ والمصدرُ مضافٌ إلى فاعله أو لليوم وهو مضافٌ إلى مفعولهِ

(9/52)


إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)

{إِنَّ هذه} إشارةٌ إلى الآيات المنطويةِ على القوارع المذكورةِ
تَذْكِرَةٌ موعظةٌ
{فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ سبيلا} بالتقريب إليه بالإيمان والطاعة فإنها المنهاج

(9/52)


سورة المزمل آية (20) الموصلُ إلى مرضاتِه

(9/53)


إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَىِ الليل} أي أقلَّ منهما استعير له الأدنى لما أنَّ المسافةَ بين الشيئينِ إذا دنت قل ما بينهما من الأحيازِ
وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بالنصب وعطفا على أدْنَى وقُرئا بالجرِّ عطفاً على ثُلثي الليلِ
{وَطَائِفَةٌ مّنَ الذين مَعَكَ} أي يقوم معكَ طائفةٌ من أصحابكَ
{والله يقدر الليل والنهار} وحده لايقدر على تقديرهما أحدٌ أصلاً فإنَّ تقديم الاسمِ الجليلِ مبتدأٌ وبناءِ يقدرُ عليهِ موجبٌ للاختصاصِ قطعاً كما يعرب عنه قوله تعالى
{عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} أي علمَ أنَّ الشأنَ لن تقدروا على تقدير الأوقاتِ ولن تستطيعوا ضبطَ الساعاتِ أبداً
فَتَابَ عَلَيْكُمْ بالترخيص في ترك القيام المقدر ورفعِ التبعةِ عنكُم في تركة
فاقرؤا ما تيسر من القرآن فصلوا ما تيسرَ لكُم من صلاة الليلِ عبرَ عن الصلاة بالقراءة كا عبَّر عنها بسائر أركانِها فيل كان التجهد واجباً على التخيير المذكورِ فعسُرَ عليهم القيامُ به فنُسخَ به ثم نُسخَ هذا بالصلوات الخمسِ وقيلَ هي قراءة القُرآنِ بعينها قالُوا مَنْ قَرأَ مائةَ آيةٍ من القرآنِ في ليلةٍ لم يحاجَّهُ وقيلَ من قرأ مائة آية كتب من القانتين ة وقيلَ خمسينَ آية
{عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى} استئنافٌ مبينٌ لحكمةٍ أخرى داعيةٍ إلى الترخيصِ والتخفيفِ
{وآخرون يَضْرِبُونَ فِى الأرض} يسافرونَ فيها للتجارةِ
{يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله} وهو الربحُ وقد عُمِّمَ ابتغاءَ الفضلِ لتحصيل العلم
وآخرون يَضْرِبُونَ فِى الأرض يسافرونَ فيها للتجارةِ (يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وهو الربحُ قد عُمِّمَ ابتغاءَ الفضلِ لتحصيل العلم
وآخرون يقاتلون فِى سَبِيلِ الله وإذا كان الأمر كما ذُكِرَ وتعاضدت الدواعي إلى الترخيص فاقرؤا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ من غيرَ تحملِ المشاقِّ
{وَأَقِيمُواْ الصلاة} أى المفروضة
{وآتوا الزكاة} الواجبة وقيل هي هى زكاة الفطر إذا لم يكن بمكةَ زكاةٌ ومن فسرهَا بالزكاةِ المفروضةِ جعَلَ آخرَ السورةِ مدنياً
{وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً} أُريدَ به الإنفاقاتُ في سبل الخيراتِ أو أداءِ الزكاةِ على أحسنِ الوجوهِ وأنفعها للفقراءِ
وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خير أي خَيْرٍ كانَ ممَّا ذُكر ومَا لم يُذكرْ
{تَجِدُوهُ عند الله هو خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} منَ الذي نؤخرونه إلى الوصيةِ عند الموتِ وخيراً ثاني مفعولَيْ تجدُوا وهو تأكيدا أو فصلٌ وإنْ لم يقعْ بينَ معرفتينِ فإن أفعلَ من في حُكمِ المعرفةِ ولذلكَ يمتنعُ من حرف التعريف وقرئ هو خيرٌ على الابتداءِ والخبرِ
واستغفروا الله في كافة أحوالِكم فإنَّ الإنسانَ قلما يخلو من التفريط
{إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم ومن قَرأ سورةَ المزملِ دفعَ الله عنه العُسرَ في الدنيا والآخرة

(9/53)


سورة المدثر آية (1 4)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم

(9/54)


يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)

{يا أيها المدثر} أي المتدثر وهو لابسُ الدثارِ وهُوَ مَا يُلبسُ فوقَ الشِّعارِ الَّذي يلي الجسدَ قيلَ هيَ أولُ سورةٍ نزلتْ رُويَ عنْ جابرٌ رضيَ الله عْنهُ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنَّه قالَ كُنت عَلى جبلِ حراءٍ فنوديتُ يا محمدُ إنَّكَ رسولُ الله فنظرتُ عنْ يميني وَيسارِي فلمْ أرَ شيئاً فنظرتُ فوقِي فإذَا بهِ قاعدٌ عَلَى عرشٍ بينَ السماءِ والأرضِ يعنيَ المَلكَ الَّذي ناداهُ فرعبتُ ورجعتُ إلى خديجة فقلت دثروني دثرونِي فنزلَ جبريلُ وقال يا أيها المدثر وعن الزهري أنَّ أولَ ما نزلَ سورةُ اقرأْ إلى قوله تعالى مَا لَمْ يَعْلَمْ فحزنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وجعلَ يعلو شواهقَ الجبالِ فأتاهُ جبريلُ عليهِ السَّلامُ وقالَ إنكَ نبيُّ الله فرجِعَ إلى خديجةَ فقالَ دثرونِي وصُبُّوا عليَّ ماءً بارداً فنزلَ جبريلُ فقالَ يأيها المدثر وثيل سمعَ منْ قريشٍ ما كرهَهُ فاغتمَّ فتغطّى بثوبِه متفكراً كَمَا يفعلُ المغمومُ فأمر أن لايدع إنذارهم وأن سمعوه وآذوه وقيلَ كانَ نائماً متدثراً وقيلَ المرادُ المتدثرُ بلباسِ النبوةِ والمعارفِ الإلهيةِ وقرئ المُدَثَّرُ علَى صيغةِ اسمِ المفعولِ منْ دَثَرَهُ أي الَّذي دثرَ هذا الأمرَ العظيمَ وعصبَ به وفي حرف
أبي المنذر يأيها المتدثرُ عَلى الأصْلِ

(9/54)


قُمْ فَأَنْذِرْ (2)

(قُمِ) أي من مضجعكَ أوْ قُمْ قيامَ عَزْمٍ وَتصميمٍ
فَأَنذِرْ أي افعلِ الإنذارَ وَأَحْدِثْهُ وقيلَ أنذرْ قومَكَ كقولِه تعالَى وَأَنذِرْ عشيرتك الأقربيتن أو جميعَ النَّاسِ حسبَمَا ينبىء
عنه قوله تعالى وما أرسلناك الإكافة لّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً

(9/54)


وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)

{وَرَبَّكَ فَكَبّرْ} واختصَّ ربَّك بالتكبيرِ وهو وَصْفُهُ تعالى بالكبرياءِ اعتقاداً وقولاً ويُروى أنه لما نزل قالَ رسولُ الله الله أكبرُ فكبرتْ خديجةُ وفرحتُ وأيقت أنَّه الوحيُ وقدْ يحملُ على تكبيرِ الصَّلاةِ والفاءُ لمعنى الشرطِ كأنَّه قيلَ ما كان أيْ أيُّ شئ حدث فلا تدعُ تكبيرَهُ أوْ للدلالةِ عَلى أنَّ المقصودَ لأولى من الأمرِ بالقيامِ أنْ يكبرَ رَبَّه
وينزهَهُ منَ الشركِ فإنَّ أولَ ما يجبُ معرفةُ الصانعِ جلَّ جلالُه ثم تنزيهِه عَمَّا لا يليقُ بجنابهِ

(9/54)


وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)

{وثيابك فطهر}

(9/54)


سورة المدثر (5 10) ! مما ليس فإنه واجب الصلاة الأولى وأولى وأحبُّ في غيرِها وذلكَ بصيانتها وحفظها عن النجاساتِ وغسلِها بعد تلطخِها وبتقصيرها أيضاً فإنَّ طولَها يؤدي إلى جرِّ الذيولِ على القاذوراتِ وهُوَ أولُ ما أُمر بهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ منْ رفضِ العاداتِ المذمومةِ وقيلَ هُو أمر بتطيهر النفسِ مما يستقذرُ منَ الأفعالِ ويُستهجنُ منَ الأحوالِ يقالُ فلانُ طاهرُ الذيلِ والأردانِ إذا وصفُوه بالنقاءِ من المعايبِ ومدانسِ الأخلاقَ

(9/55)


وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)

{والرجز فاهجر} أي واهجُر العذابَ بالثباتِ على هَجْرِ يُؤدي إليه من المآثمِ وقُرِىءَ بكسرِ الراءِ وهُمَا لُغتانِ كالذُّكرِ والذِّكرِ

(9/55)


وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)

{وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} ولا تُعطِ مُستكثراً أي رائياً لِمَا تعطيهِ كثيراً أو طالباً للكثيرِ على أنَّه أنهى عنْ الاستغزارِ وهُوَ أنْ يهبَ شيئاً وهو يطمعُ أنْ يتعوضَ منَ الموهوبِ لَهُ أكثرَ ممَّا أعطاهُ وهُو جائزٌ ومنْهُ الحديثُ المستغرر يثابُ من هبتِه فالنهيُ إمَّا للتحريمِ وهو خاصٌّ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم لأنَّ الله تعالى اختارَ له أشرفَ الأخلاقِ وأحسنَ الآدابِ أو للتنزيهِ للكُلِّ وقرئ تستكثرْ بالسكونِ اعتباراً بحالِ الوقفِ أوْ إبدالاً منْ تمنن كأنَّه قيلَ ولا تمنُنْ ولا تستكثرْ على أنَّه منَ المَنِّ الَّذي في قولِه تعالى منَّا ولا أذى لأن منْ يمنَّ بِمَا يُعطي يستكثره ويعتد بِه وقُرِىءَ بالنصبِ بإضمارِ أنْ معَ إبقاءِ عملِها كقولِ منْ قالَ أَلاَ أيُّهذا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الوَغَى وقدْ قُرِىءَ بإثباتِها ويجوزُ في قراءةِ الرفعِ أنْ يحذفَ أنْ ويبطلَ عملُها كَمَا يُروى أحضرُ الوَغَى بالرفعِ

(9/55)


وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)

(وَلِرَبّكَ)
أي لوجههِ تعالى او لأمره
فاصبر
فاستعمل الصبرَ وقيلَ على أذيةِ المشركينَ وقيلَ عَلى أداءِ الفرائضِ

(9/55)


فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)

(فَإِذَا نُقِرَ فِى الناقور)
أي نفخَ في الصُّورِ وهو فاعل من النقر بمعنى التصويت وأصله القرع الذي هو سببُ الصَّوتِ والفاءُ للسببيةِ كأنَّه قيلَ اصبرْ عَلَى أذاهُم فبينَ أيديهِم يومٌ هائلٌ يلقونَ فيه عاقبة أذاهُم وتلقَى عاقبةَ صبرِك عليهِ والعاملُ فِي إذَا ما دل عليه قوله تعالى

(9/55)


فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)

(فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ)
عَلَى الكافرينَ وذلكَ إشارةٌ إلى وقتِ النقرِ وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه للإيذان ببعد منزلتِه في الهولِ والفظاعةِ ومحلُه الرفعُ عَلى الابتداءِ ويومئذٍ

(9/55)


74 سورة المدثر (11 15)
بدلٌ منْهُ مبنيٌّ عَلى الفتحِ لإضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ والخبرُ يومٌ عسيرٌ وقيلَ يومئذٍ ظرفٌ للخبرِ اذ التقدير وذلك الوقت وقوعِ يومٍ عسيرٍ وَعَلَى متعلقةٌ بعسيرٌ وقيلَ بمحذوفٍ هو صفةٌ لعسيرٌ أوْ حالٌ من المستكنِّ فيهِ وقولُه تعالى
غَيْرُ يَسِيرٍ
تأكيدٌ لعُسرِهِ عليهمْ مشعرٌ ييسره على المؤمنينَ واختلفَ في أنَّ المرادَ بِه يومُ النفخةِ الأولى أو الثانيةِ والحقُّ أنَّها الثانيةُ إذْ هيَ التي يختصُّ عسرُها بالكافرينَ وأما النفخةُ الأُولى فحكمُها الذي هو الإصعاقُ يعمُّ البرَّ والفاجرَ عَلى أنَّها مختصةٌ بمنَ كانَ حيَّا عندَ وقوعِها وقد جاءَ في الأخبار أنَّ في الصورِ ثقباً بعددِ الأرواحِ كلِّها وأنَّها تجمعُ في تلكَ الثقوبِ في النفخةِ الثانيةِ فتخرجُ عندَ النفخِ منْ كُلِّ ثقبةٍ روحٌ إلى الجسدِ الِّذي نزعت مِنْهُ فيعودُ الجسدُ حياً بإذنِ الله تعالَى

(9/56)


ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)

ذرني ومن خلفت وَحِيداً
حَالٌ إمَّا منَ الياءِ أيْ ذرني وَحديِ معَهُ فَإنِّي أكفيكَهُ في الانتقامِ منْهُ أو منَ التاء اي خلفته وَحْدِي
لَمْ يُشركني فِي خلقِه أحدٌ أو منَ العائدِ المحذوفِ أيْ وَمَنْ خلقتُه وحيداً فريداً لا مالَ لَهُ وَلاَ ولدٌ وقيل نزلت في الوليد بنِ المغيرةِ المخزومي وكانَ يلقب في قومه بالوحيد فهو تهكمٌ به وبلقبِه وصرفٌ لهُ عنْ الغرضِ الذي يؤمونَهُ من مدحِه إلى 12 جهةِ ذمهِ بكونهِ وحيداً من المَالِ والولدِ أو وحيداً من أبيهِ لأنَّه كانَ زنيماً كما مَرَّ أوْ وَحيداً في الشَّرارةِ

(9/56)


وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12)

وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً
مبسوطاً كثيراً أو ممداً بالنماءِ من مَدَّ النهرٌ ومدَّهُ نهرٌ آخرُ قيلَ كانَ لَهُ الضرعُ والزرعُ والتجارةُ وعنِ ابنِ عبَّاس رضي الله عنهما هو ما كانَ لَه بينَ مكةَ والطائفِ من صنوفِ الأموالِ وقيلَ كانَ لَهُ بالطائفِ بستانٌ لا ينقطعُ ثمارُهُ صيفاً وشتاءً وقالَ ابن عباسٍ ومجاهدٍ وسعيدِ بنِ جُبير كانَ لَهُ الف دينار وقال فتادة ستةُ آلافِ دينار وقال 3 سفيان الثوري أربعة آلاف دينار وقال الثوريُّ أيضاً ألف ألف دينار

(9/56)


وَبَنِينَ شُهُودًا (13)

وَبَنِينَ شُهُوداً
حضوراً معَهُ بمكةَ يتمتعُ بمشاهدتِهم لا يفارقونَهُ للتصرف في عملٍ أو تجارةٍ لكونِهم مكفيينَ لوفورِ نعمِهم وكثرةِ خدمِهم أو حضوراً فِي الأنديةِ والمحافل لوجاهتِهم واعتبارِهم قيلَ كانَ له عشرةُ بنينَ وقيلَ ثلاثةَ عشرَ وقيلَ سبعةٌ كلُّهم رجالٌ الوليدُ بن الوليد وخالدٌ وعمارةٌ وهشامٌ والعاصُ والقيسُ وعبدُ شمسٍ أسلَم منهْم ثلاثةٌ خالدٌ 14 وهشامٌ وعمارةُ

(9/56)


وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14)

وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً
وبسطتُ لهُ الرياسةَ والجاهَ العريضُ حَتَّى لقبَ 15 ريحانةَ قريشٍ

(9/56)


ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)

ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ
عَلى ما أوتيهِ وهو استبعادٌ واستنكارٌ لطمِعه وحرصِه إما لأنهُ لا مزيدَ

(9/56)


74 سورة المدثر (16 19)
عَلى ما أُوتيَ سعة وكثرةً أو لأنَّه منافٍ لما هُوَ عليهِ منْ كُفرانِ النعمِ ومعاندةِ المنعمِ وقيلَ إنَّه كانَ يقول إن كان محمدٌ صادقاً فما خلقت الجنة الالى

(9/57)


كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)

كَلاَّ
ردعٌ وزجرٌ لَهُ عنْ طمعه الفارغِ وقطعٌ لرجائه الخائبِ وقولُه تعالَى
إِنَّهُ كان لأياتنا عَنِيداً
تعليلٌ 16 لذلكَ على وَجْه الاستئنافِ التحقيقيِّ فإنَّ معاندةَ آياتِ المنعمِ معَ وضوحِها وكفران نعمته مع سبوغها مما يوجبُ حرمانَهُ بالكليةِ وإنما أوتَي ما أوتَي استدراجا قيلَ ما زالَ بعدَ نزولِ هذهِ الآيةِ في نقصانٍ منْ مالِه حتَّى هلكَ

(9/57)


سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)

سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً
سأغشيهِ بدلَ 17 ما يطمُعه منَ الزيادةِ أو الجنةِ عقبةً شاقةً المصعدِ وهو مثلٌ لما يَلْقى منَ العذابِ الصعبِ الذَّي لا يطاقُ وعنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يكلفُ أنْ يصعدَ عقبةً في النارِ كلمَا وضعَ يَدهُ عليَها ذابتْ فإذَا رفعَها عادتْ وإذَا وضعَ رجَلُه ذابتْ فإذَا رفعَها عادتْ وعنْهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ الصَّعودُ جبلٌ منْ نار يصعد فيها سبعين خريفا ثمَّ يهوِي فيهِ كذلكَ أبداً

(9/57)


إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)

إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ
تعليلٌ للوعيدِ واستحقاقِه لَهُ أو بيانٌ لعناده لآياته تعالَى 18 أيْ فكرَّ ماذَا يقولُ في شأنِ القرآنِ وقدرَ فِي نفسِه ما يقولُه

(9/57)


فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)

فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ
تعجيبٌ 19 منْ تقديرِه وإصابتِه فيهِ الغرضَ الذي كانَ ينتحيهِ قريشٌ قاتلَهم الله أو ثناءٌ عليهِ بطريقِ الاستهزاءِ به أو حكايةٌ لما كررُوه من قولِهم قتلَ كيفَ قدرَ تهكماً بِهم وبإعجابِهم بتقديره واستعظامهم لقوله ومعنى قولِهم قتلَهُ الله ما أشجَعهُ أو أخزاهُ الله ما أشعرَهُ الإشعارُ بأنَّه قد بلغَ منَ الشجاعةِ والشعرِ مبلغاً حقيقياً بأنْ يدعَو عليهِ حاسدُهُ بذلكَ رُويَ أنَّ الوليدَ قالَ لبني مخزومٍ والله لقد سمعتُ من محمدٍ آنِفاً كلاماً ما هُو منْ كلامِ الإنسِ ولا منْ كلامِ الجنِّ إنَّ لَهُ لحلاوةً وإنَّ عليهِ لطلاوةً وإنَّ أعلاهُ لمثمرٌ وإنَّ أسفلَهُ لمغدِقٌ وإنَّه يعلو وما يُعلى فقالتْ قريشٌ صبأَ والله الوليدُ والله لتصبأنَّ قريشٌ كُلُّهم فقالَ ابْنُ أخيهِ أبوُ جهلٍ أنَا أكفيكمُوهُ فقعَد عندَهُ حزيناً وكلَّمهُ بما أحماهُ فقامَ فأتاهم فقال تزعمونَ أنَّ محمداً مجنونٌ فهل رأيتمُوه يخنقُ وتقولونَ إنه كاهنٌ فَهلْ رأيتمُوه يتكهنُ وتزعمونَ أنه شاعرٌ فهل رأيتمُوه يتعاطَى شِعراً قطُّ وتزعمونَ أنه كذابٌ فَهَلْ جربتُم عليهِ شيئاً من الكذبِ فقالُوا في كُلِّ ذلكَ اللهمَّ لاَ ثمَّ قالُوا فَما هُو ففكَّر فقالَ مَا هُو إلا ساحرٌ أما رأيتمُوه يفرقُ بينَ الرجلِ وأهلِه وولدِه ومواليهِ وما الذي يقولُه إلا سحرٌ يأثرُهُ عنْ أهلِ بابلَ فارتجَّ النادِي فرحاً وتفرقُوا معجبينَ بقوله متعجبين منه

(9/57)


74 سورة المدثر (20 29) 20

(9/58)


ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)

ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ
تكريرٌ للمبالغةِ وثمَّ للدَّلالة على أنَّ الثانيةَ أبلغُ منَ الأُولى 22 21 وفيمَا بعدُ عَلى أصلِها منْ التراخِي الزمانيِّ

(9/58)


ثُمَّ نَظَرَ (21)

ثُمَّ نَظَرَ
أي في القرآنِ مرةً بعدَ مرةٍ

(9/58)


ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22)

ثُمَّ عَبَسَ
قطَّبَ وجهَهُ لما لم يجد فيها مطعناً ولمْ يدرِ ماذَا يقولُ وقيلَ نظرَ في وجوهِ النَّاسِ ثم قطَّبَ وجهَهُ وقيلَ نظرَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قطَّبَ في وجهِهِ 23
وَبَسَرَ
اتباعٌ لعبسَ

(9/58)


ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23)

ثُمَّ أَدْبَرَ
عنِ الحقِّ أوْ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم 24
واستكبر
عن اتباعِه

(9/58)


فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)

فَقَالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ
أيْ يُروى ويُتعلمُ والفاءُ للدِلالة على أن هذه الكلمة لمَّا خطرتْ بباله تفوه بها من غير تلعثمٍ وتلبثٍ وقولُه تعالى 25

(9/58)


إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)

إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ البشر
تأكيدٌ لما قبلَهُ ولذلكَ أُخليَ عنِ العاطفِ

(9/58)


سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)

سَأُصْلِيهِ سَقَرَ
بدلٌ منْ سأُرهقُه صَعُوداً

(9/58)


وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27)

وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ
أيْ أيُّ شيءٍ أعلمكَ ما سقرُ على أنَّ مَا الأوُلى مبتدأٌ وأدراكَ خبرُه ومَا الثانيةُ خبرٌ لأنها المفيدةُ لِما قُصد إفادتُه منَ التهويل والتفظيعِ وسقرُ مبتدأٌ أيْ أيُّ شيءٍ هيَ في وصفِها لما مر مرارا من أَنَّ مَا قَدْ يطلبُ بَها الوصفُ وإنْ كانَ الغالبُ أنْ يطلبَ بَها الاسمُ والحقيقةُ وقولُه تعالَى

(9/58)


لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28)

لاَ تُبقي وَلاَ تَذَرُ
بيانٌ لوصفِها وحالِها وإنجازٌ للوعد الضمني الذي يلوح به وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ وقيل حال من سقر وليس بذاك أيْ لا تُبقي شيئاً يلقي فها إلا أهلكتْهُ وإذا هلكَ لم تذَرْهُ هالكاً حتَّى يعادَ أوْ لا تُبقي على شيءٍ ولا تدعَهُ منَ الهلاكِ بلْ كلُّ ما يطرحُ فيَها هالكٌ لا محالة

(9/58)


لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)

لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ
مُغيِّرةٌ لأَعَالي الجلد مسودة

(9/58)


74 سورة المدثر (30 31) لَها قيلَ تلفحُ الجلدَ لفحةً فتدَعُه أشدَّ سواداً منَ الليلِ وقيلَ تلوحُ للناسِ كقولِه تعالى ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين وقُرِىءَ لواحةً بالنصبِ على الاختصاصِ للتهويلِ

(9/59)


عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)

عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ
أيْ مَلَكاً أو صِنْفاً أو صفاً أو نقيباً من الملائكةِ يلونَ أمرَهَا ويتسلطونَ على أهلِها وقُرِىءَ بسكونِ عين عشر حذارا من توالِي الحركاتِ فيما هو في حكم اسمٍ واحدٍ وقرىء تسعةُ أَعْشُرٍ جمعُ عشيرٍ مثلُ يمينٍ وأَيْمُنٍ

(9/59)


وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)

وَمَا جَعَلْنَا أصحاب النار
أيْ المدبرينَ لأمرِها القائمينَ بتعذيبِ أهلِها
إِلاَّ ملائكة
ليخالفُوا جنسَ المعذبينَ فلا يَرِقّوا لهُم ولاَ يستروحُوا اليهم لأنهم أَقْوى الخلقِ وأقومُهُم بحقِّ الله عزَّ وجلَّ وبالغضبِ له تعالى وأشدُّهم بأساً عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم لأحدِهم مثلُ قوةِ الثقلينِ يسوقُ أحدُهم الأمةَ وعلى رقبتِه جبلٌ فيرمِي بهم في النارِ ويرمِي بالجبلِ عليهم ورُوي أنَّه لمَّا نزلَ عليها تسعةَ عشرَ قال أبُو جهلٍ لقريشٍ أيعجزُ كلُّ عشرةٍ منكم أنْ يبطشُوا برجلٍ منُهم فقالَ أبُو الاشدِّ بنُ أسيدِ بْنِ كِلْدةَ الجُمَحيُّ وكان شديدَ البطشِ أنا أكفيكُم سبعةَ عشرَ فاكفونِي أنتُم اثنينِ فنزلتْ أيْ ما جعلناهُم رجالاً منْ جنسِكم
وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ
أي ما جعلنا عددَهُم إلا العددَ الذي تسببَ لافتنانهم وهو التسعةَ عشرَ فعبرَ بالأثرِ عن المؤثر تنبيهاً على التلازم بينهما وليس المرادُ مجردَ جعلِ عددِهم ذلكَ العددَ المعينَ في نفسِ الأمرِ بلْ جعلَه في القرآنِ أيضاً كذلكَ وهو الحكمُ بأنَّ عليها تسعةَ عشرَ إذْ بذلكَ يتحققُ افتتانُهم باستقلالِهم له واستبعادِهم لتولي هذا العددِ القليلِ لتعذيبِ أكثر الثقلينِ واستهزائِهم بهِ حسبما ذكرَ وعليهِ يدورُ ما سيأتِي من استيقان أهلِ الكتابِ وازديادِ المؤمنينَ إيماناً قالُوا المخصصُ لهذَا العددِ أنَّ اختلافَ النفوسِ البشريةِ في النظرِ والعملِ بسببِ القُوى الحيوانيةِ الاثنتي عشرةَ والطبيعيةِ السبعِ أو أن جهنَم سبعُ دركاتَ ستٌ منها لأصنافِ الكفرةِ كلُّ صنفٍ يعذبُ بتركِ الاعتقادِ والاقرارِ والعملِ أنواعاً من العذابِ يناسبُها وعلى كلِّ نوعٍ ملكٌ أو صنفٌ أوْ صفٌّ يتولاهُ وواحدةٌ لعُصاةِ الأمةِ يعذبونَ فيها بتركِ العملِ نوعاً يناسبُه ويتولاّه واحدٌ أو أنَّ الساعاتِ أربعٌ وعشرونَ خمسةٌ منها مصروفةٌ للصلواتِ الخمسِ فيبقى تسعةَ عشرَ قد تصرفُ إلى ما يؤاخذُ به بأنواعِ العذابِ يتولاَّها الزبانيةُ
لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب
متعلقٌ بالجعل على المَعْنى المذكورِ أيْ ليكتسبُوا اليقينَ بنبوتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وصدقِ القرآنِ لما شاهدُوا ما فيه موافقاً لما في كتابِهم
وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إيمانا
أيْ يزدادُ إيمانُهم كيفيةً بما رأَوا من تسليم اهل الكتاب

(9/59)


74 سورة المدثر (32 35) وتصديقِهم أنه كذلكَ أو كميةً بانضمامِ إيمانِهم بذلكَ إلى إيمانِهم بسائرِ ما أنزلَ
وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون
تأكيدٌ لما قبله من الاستقيان وإزديادِ الإيمانِ ونفيٌ لما قد يعترِي المستيقنَ من شبهةٍ ما وإنما لم يُنظمِ المؤمنونَ في سلكِ أهلِ الكتابِ في نفي الارتيابِ حيث لم يقل ولا يرتابوا للتنبيه على تباين النفيين حالاً فإن انتفاء الارتياب من أهل الكتابِ مقارنٌ لما ينافيهِ من الجحود ومن المؤمنينَ مقارنٌ لما يقتضيه من الإيمان وكم بينهما والتعبيرُ عنهم باسم الفاعلِ بعد ذكرِهم بالموصول والصلةِ الفعليةِ المنبئةِ عن الحدوث للإيذان بثباتهم على الإيمان بعدَ ازديادِه ورسوخِهم في ذلك
وَلِيَقُولَ الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ
شكٌّ أو نفاقٌ فيكون اخبترا بَما سيكونُ في المدينةِ بعد الهجرةِ
والكافرون
المُصرّون على التكذيبِ
مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً
أيْ أيُّ شيءٍ أرادَ بهذَا العددِ المستغربِ استغرابَ المثلِ وقيلَ لما استبعدُوه حسبُوا أنه مثلٌ مضروِبٌ وإفرادُ قولِهم هذا بالتعليلِ مع كونِه من باب فتنتِهم للإشعارِ باستقلالِه في الشناعةِ
كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَاء
ذلكَ إشارةٌ إلى ما قبلَهُ من مَعْنى الإضلالِ والهدايةِ ومحلُّ الكافِ في الأصلِ النصبُ على أنَّها صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ وأصلُ التقديرِ يضلُّ الله منْ يشاءُ
وَيَهْدِى مَن يَشَاء
إضلالاً وهدايةً كائنينِ مثلُ ما ذكر من الإضلالِ والهدايةِ فحذفَ المصدرُ وأقيمَ وصفُه مقامَه ثم قُدّم على الفعلِ لإفادةِ القصِر فصارَ النظمُ مثلُ ذلكَ الإضلالِ وتلك الهدايةِ يضل الله مَن يَشَاء إضلالَه لصرفِ اختيارِه إلى جانبِ الضلالِ عندَ مشاهدتِه لآيات إلى جانبِ الهُدى لا إضلالاً وهدايةً أدنى منهما
وما يلعم جُنُودَ رَبّكَ
أيْ جموعَ خلقهِ التي من جُمْلتِها الملائكةُ المذكورونَ
إِلاَّ هُوَ
إذْ لاَ سبيلَ لأحدٍ إلى حصر الممكناتِ والوقوفِ على حقائِقها وصفاتِها ولوْ إجمالاً فضلاً عن الاطلاع على تفاصيل أحوالِها من كمٍ وكيفٍ ونسبةٍ
وَمَا هِىَ
أي سقرُ أو عدة خزنتها او الآيات الناطقةُ بأحوالِها
إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ
إلا تذكرةً لهم

(9/60)


كَلَّا وَالْقَمَرِ (32)

كَلاَّ
ردعٌ لمن أنكرهَا أو إنكارٌ ونفيٌ لأن يكونَ لهم تذكرٌ
والقمر

(9/60)


وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33)

والليل اذ ادبر
وقرىء اذا دَبَر بمعنى أدبرَ كقَبِلَ بمَعْنى أَقْبَلَ ومنْهُ قولِهم صاروا كأمس الدار وقيل هُو من دَبِرَ الليلُ النهارَ إذَا خلفَهُ

(9/60)


وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34)

والصبح إِذَا أَسْفَرَ
أي أضاءَ وانكشفَ

(9/60)


إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)

إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر
جوابٌ للقسمِ أوْ تعليلٌ لكَلاَّ والقسمُ معترضٌ للتوكيدِ والكُبرَ جمعُ الكُبْرى جعلتْ ألفُ التأنيثِ كتائِها فكَما جُمعتْ فُعْلَة على فُعَلٍ جُمعتْ فُعْلَى عَليها ونظيرُها القواصعُ في جمع القاصعاء

(9/60)


74 سورة المدثر (36 41) كأنها جمعُ قاصعةٍ أي لإِحْدى البَلايا أو لإِحْدَى الدَّواهِي الكُبرَ على مَعْنى أنَّ البلايا الكبرَ أو الدواهِيَ الكبرَ كثيرةٌ وهذهِ واحدة في العظم لا نظيرة لَها

(9/61)


نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36)

نذيرا للبشر
تمييز أي لإحدى الكبرِ إنذاراً أو حالٌ مما دلتْ عليهِ الجملةُ أي كبرتْ منذرةً وقُرِىءَ نذيرٌ بالرفعِ على أنه خبرُ بعدَ خبرِ لأنَّ أو لمبتدإٍ محذوفٍ

(9/61)


لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)

لمَنْ شاءَ منكُم أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ
بدلٌ من للبشر أي نذيراً لمن شاءَ منكم أن يسبقَ إلى الخير فيهديَه الله تعالى أو لم يشأْ ذلكَ فيضلَّه وقيلَ لمن شاء خبرٌ وأنْ يتقدمَ أو يتأخرَ مبتدأٌ فيكونُ في معنى قوله تعالى فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن ومنْ شاءَ فليكفرُ

(9/61)


كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)

كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ
مرهونةٌ عندَ الله تعالى بكسبِها والرهينةُ اسمٌ بَمعْنى الرهنِ كالشتيمةِ بمعنى الشتمِ لا صفةٌ وإلا لقيلَ رهينٌ لأن فعيلاً بمعنى مفعولٍ لا يدخلُه التاءُ

(9/61)


إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)

إِلاَّ أصحاب اليمين
فإنهم فاكُّون رقابَهم بما أحسنُوا من أعمالِهم كما يفكُّ الراهنُ رهنَهُ بأداءِ الدينِ وقيلَ هم الملائكةُ وقيل الأطفالُ وقيل هم الذين سبقتْ لهم من الله تعالى الحُسنى وقيلَ الذين كانُوا عن يمينِ آدمٍ عليه السلامُ يومَ الميثاقِ وقيل الذين يُعطون كتُبَهم بأيمانِهم

(9/61)


فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40)

فِى جنات
لا يُكتنه كُنُهَها ولا يُدرك وصفُها وهو خبر لمتبدأ محذوفٍ والجملةُ استئنافٌ وقعَ جوابا عن سؤال نشأ مما قبَلُه من استثناء أصحابِ اليمين كأنه قيلَ ما بالُهم فقيلَ هم في جناتٍ وقيل حالٌ من أصحاب اليمين وقيل من ضميرهم في قوله تعالى
يَتَسَاءلُونَ
وقيل ظرفٌ للتساؤلِ وليس المرادُ بتساؤلهم أنْ يسألَ بعضُهم بعضاً على أنْ يكون كلُّ واحد منهم سائلا ومسؤلا معاً بلْ صدورُ السؤالِ عنْهم مجرداً عن وقوعه عليهم فإن صيغةَ التفاعلِ وإن وضعتْ في الأصل للدلالةِ على صدورِ الفعلِ عن المتعدد ووقوعه عليه معاً بحيثُ يصير كلُّ واحدٍ من ذلك فاعلا ومفعولاً معاً كما في قولك تراءى القوم أي رأى كلُّ واحد منهم الآخَرَ لكنها قد تجردُ عن المَعْنى الثانِي ويقصد بها الدلالةُ على الأولِ فقط فيذكرُ للفعلِ حينئذٍ مفعولُ كما في قولِك تراءوا الهلالَ فمعنى يتساءلونَ

(9/61)


عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)

عَنِ المجرمين
يسألونُهم عن أحوالهم وقد حذف المسؤل لكونه عين المسؤل عنه

(9/61)


74 سورة المدثر (42 50) وقولُه تعالى

(9/62)


مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)

مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ
مقدرٌ بقولٍ هو حال من فاعل يتساءلونَ أيْ يسألونَهم قائلينَ أيُّ شيءٍ أدخلكُم فيَها فتأملْ ودعْ عنكَ ما تكلفَ فيهِ المتكلفونَ

(9/62)


قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)

قَالُواْ
أي المجرمونَ مجيبينَ للسائلينَ
لَمْ نَكُ مِنَ المصلين
للصلواتِ الواجبةِ

(9/62)


وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)

وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين
على معنى استمرار نفي الإطعامِ لا على نفي استمرارِ الإطعامِ كما مرَّ مِراراً وفيه دلالةٌ على أنَّ الكفارَ مخاطبونَ بالفروع في حق المؤاخذة

(9/62)


وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45)

وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضين
أي نشرعُ في الباطل مع الشارعينَ فيه

(9/62)


وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)

وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدين
أي بيوم الجزاءِ أضافُوه إلى الجزاء مع أن فيه من الدواهِي والأهوال مالا غايةَ لهُ لأنه أدهاهَا وأهولُها وأنهم ملابُسوه وقد مضتْ بقيةُ الدواهِي وتأخيرُ جناياتهم هذهِ معَ كونِها أعظمَ منَ الكُلِّ لتفخيمِها كأنهم قالُوا وكنا بعد ذلكَ كلِّه مكذبينَ بيومِ الدينِ ولبيانِ كونِ تكذيبِهم به مقارناً لسائرِ جناياتِهم المعدودةِ مستمراً إلى آخرِ عمرِهم حسبَما نطقَ به قولُهم

(9/62)


حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)

حتى أتانا اليقين
أي الموتُ ومقدماتُه

(9/62)


فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)

فَمَا تَنفَعُهُمْ شفاعة الشافعين
لو شفعُوا لهم جميعاً والفاء في قوله تعالى

(9/62)


فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)

فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ
لترتيبِ إنكارِ إعراضِهم عنِ القرآنِ بغير سببٍ على ما قبلها من موجباتِ الإقبالِ عليهِ والاتعاظِ به من سوءِ حالِ المكذبينَ ومعرضينَ حالٌ من الضميرِ في الجارِّ الواقعِ خبراً لمَا الاستفهاميةِ وعنْ متعلقةٌ بهِ أيْ فإذَا كانَ حالُ المكذبينَ به على ما ذكرَ فأيُّ شيءٍ حصلَ لهم معرضينَ عن القرآنِ مع تعاضدِ موجباتِ الإقبالِ عليهِ وتآخذِ الدواعِي إلى الإيمانِ بهِ وقولُه تعالَى

(9/62)


كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)

كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ
حالٌ من المستكنِّ في معرضينَ

(9/62)


74 سورة المدثر (51 56) بطريقِ التداخلِ أي مشبهينَ بحمرٍ نافرةٍ

(9/63)


فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)

فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ
أيْ من أسدٍ فَعْوَلَة من القسر وهو القهروالغلبة وقيل هي جماعةُ الرماةِ الذين يتصيدونَها شُبهواً في إعراضِهم عن القرآنِ واستماعِ ما فيه من المواعظ وشرادِهم عنه بحمُرٍ جدَّت في نفارِها مما أفزعَها وفيهِ من ذمِهم وتهجينِ حالهم مالا يَخْفى وقولُه تعالى

(9/63)


بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52)

بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً
عطفٌ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقام كأنه قبل لا يكتفونَ بتلك التذكرة ولا يرضَون بها بلْ يريدُ كل واحدٍ منهم أنْ يُؤتى قراطيسَ تنشرُ وتقرأُ وذلكَ أنهم قالُوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لنْ نتبعكَ حتى تأتِي كل واحد منا بكتب من السماء عنوانها من ربِّ العالمينَ إلى فلانِ بنِ فلانٍ نؤمُر فيها باتباعكَ كما قالُوا لن نؤمنَ لرقيكَ حتى تنزلَ علينَا كتاباً نقرؤْه وقرىءَ صُحْفاً مُنْشرةً بسكونِ الحاءِ والنونِ

(9/63)


كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53)

كَلاَّ
ردعٌ لهم عن تلكَ الجراءة
بَل لاَّ يَخَافُونَ الأخرة
فلذلكَ يُعرضون عن التذكرة لا لامتناع إيتاءِ الصحفِ

(9/63)


كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54)

كَلاَّ
ردعٌ عنْ إعراضِهم
انه
اي القرى
تَذْكِرَةٌ
وأيُّ تذكرةٍ

(9/63)


فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55)

فَمَن شَاء
أن يذكرَهُ
ذكره
وحاز بسببه سعادةَ الدارينِ

(9/63)


وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

وَمَا يَذْكُرُونَ
بمجرد مشيئتِهم للذكر كما هو المفعوم من ظاهرِ قولِه تعالى فمَنْ شاءَ ذكرَهُ إذْ لا تأثيرَ لمشيئةِ العبدِ وإرادتِه في أفعالِه وقولُه تعالى
إَّلا أَن يَشَاء الله
استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوال أيْ وما يذكرونَ بعلةٍ من العلل أو في حالٍ من الأحوالِ إلا بأنْ يشاءَ الله أو حالَ أنْ يشاءَ الله ذلكَ وهو تصريحٌ بأن أفعالَ العبادِ بمشيئةِ الله عزل وجَلَّ وقُرِىءَ تذكرونَ على الخطاب التفاتاً وقرىءَ بهمَا مشدداً
هُوَ أَهْلُ التقوى
أي حقيقٌ بأنْ يُتقى عقابُه ويؤمنَ به ويطاعَ
وَأَهْلُ المغفرة
حقيقٌ بأنْ يغفرَ لمنْ آمنَ بهِ وأطاعه عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ المدثرِ أعطاهُ الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد صلى الله عليه وسلم وكذب به بمكة

(9/63)