تفسير أبي السعود
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم 78 سورة النبأ (1 2)
سورة النبأ مكية وآياتها اربعون
بسم الله الرحمن الرحيم
(9/84)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ
(1)
عَمَّ
أصله عَمَّا فحذفَ منه الألفُ إمَّا فرقاً بينَ ما
الاستفهاميةِ وغيرِها أو قصداً للخفةِ لكثرةِ استعمالِها وقد
قُرِىءَ على الأصلِ وما فيهَا منَ الابهام للايذان بفخامة شأن
المسؤل عنْهُ وهولِهِ وخروجِه عنْ حدودِ الأجناسِ المعهودةِ
أيْ عنْ أيِّ شيءٍ عظيمٍ الشأنِ
يَتَسَاءلُونَ
أيْ أهلُ مكةَ وكانُوا يتساءلونَ عن البعثِ فيما بينهم
ويخوضونَ فيه إنكاراً واستهزاءً لكنْ لا على طريقةِ التساؤلِ
عن حقيقتِه ومسمَّاهُ بلْ عن وقوعِه الذي هو حالٌ من أحوالِه
ووصفٌ من أوصافِه فإنَّ مَا وإنْ وضعتْ لطلبِ حقائقِ الأشياءِ
ومسمياتِ أسمائِها كما في قولك ما الملَكُ وما الروحُ لكنَّها
قد يُطلب بها الصفةُ والحالُ تقولُ ما زيدٌ فيقال عالمٌ أو
طبيبٌ وقيل كانُوا يسألونَ عنه الرسولَ صلى الله عليه وسلم
والمؤمنينَ استهزاءً كقولِهم يتداعونهم اي يدعونهم وتحقيقُه
أنَّ صيغةَ التفاعلِ في الأفعالِ المتعديةِ موضوعة لإفادة صدور
الفعل عن المتعدد ووقوعه عليه بحيث يصير كل واحدٍ من ذلك فاعلا
ومفعولا معاً لكنَّه يرفعُ بإسنادِ الفعلِ إليه ترجيحاً لجانبِ
فاعليتِه ويحالُ بمفعوليتِه على دلالةِ العقلِ كما في قولك
تراءى القوم أي رأى كلُّ واحد منهم الآخَرَ وقد تجردَ عن
المعنى الثاني فيراد بها مجردُ صدورِ الفعلِ عن المتعددِ
عارياً عن اعتبارِ وقوعِه عليهِ فيُذْكر للفعلِ حينئذٍ مفعولٌ
متعدد كمَا في المثالِ المذكورِ أو واحد كما في قولِك تراءوا
الهلالَ وقد يحذفُ لظهورهِ كما فيما نحن فيه فالمَعْنى عن أيِّ
شيءٍ يسألُ هؤلاءِ القومُ الرسولَ صلى الله عليه وسلم
والمؤمنينَ وربَّما تجردَ عن صدور الفعل عن المتعدد أيضاً
فيرادُ بها تعددُه باعتبارِ تعددِ متعلَّقِه مع وحدةِ الفاعلِ
كما في قولِه تعالَى فَبِأَىّ الاء رَبّكَ تتمارى وقولُه تعالى
(9/84)
عَنِ النَّبَإِ
الْعَظِيمِ (2)
عَنِ النبإ العظيم
بيانٌ لشأن المسؤل عنه اثر تفخيمه بابهام أمرِه وتوجيِه أذهانِ
السامعينَ نحوَه وتنزيلِهم منزلَه المستفهمينَ فان ايراده على
طريقةِ الاستفهامِ من علاَّمِ الغيوبِ للتنبيهِ على أنَّه
لانقطاعِ قرينِه وانعدامِ نظيرِه خارجٌ عن دائرةِ علومِ الخلقِ
خليقٌ بأنْ يُعتنى بمعرفتِه ويُسألَ عنْهُ كأنَّه قيلَ عنْ
أيِّ شيءٍ يتساءلُون هلْ أُخبرِكُم بِه ثمَّ قيلَ بطريقِ
الجوابِ عن النبأِ العظيمِ على منهاجِ قولِه تعالى لّمَنِ
الملك اليوم
(9/84)
78 سورة النبأ (3 4)
لِلَّهِ الواحد القهار فعنْ متعلقةٌ بما يدلُّ عليهِ المذكورُ
من مضمرٍ حقُّه أنْ يقدرَ بعدَها مسارعةً إلى البيانِ ومراعاةً
لترتيبِ السؤالِ هذا هو الحقيقُ بالجزالةِ التنزيليةِ وقد قيلَ
هي متعلقةٌ بالمذكورِ وعمَّ متعلقٌ بمضمرٍ مفسرٍ بهِ وأيَّد
ذلكَ بأنَّه قُرىء عَمَّه والأظهرُ أنَّه مبنيٌّ على إجراءِ
الوصل مْجرى الوقفِ وقيل عن الأُولى للتعليل كأنَّه قيلَ لمَ
يتساءلون عن النبأ العظيم وقيل قبل عن الثانية استفهام مضمر
كأنه قيل عم يتساءلون أعن النبأ العظيم والنبأُ الخبرُ الذي له
شأنٌ وخطرٌ وقد وصفَ بقولِه تعالى
(9/85)
الَّذِي هُمْ فِيهِ
مُخْتَلِفُونَ (3)
الذى هم فيه مختلفون
بعد وصفِه بالعظيم تأكيداً لخطره إثرَ تأكيدٍ وإشعاراً بمدار
التساؤلِ عنه وفيهِ متعلقٌ بمختلفونَ قدم عليه اهتماماً به
ورعايةً للفواصلِ وجعلُ الصلةِ جملةً اسميةً للدلالةِ على
الثباتِ أي هُم راسخونَ في الاختلافِ فيهِ فمِن جازمٍ
باستحالته يقولُ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ
وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر وَمَا نَحْنُ
بِمَبْعُوثِينَ وشاكَ يقول ما ندري ما الساعة إن نظن إلاَّ ظنا
وما نحن بمستقينين وقيلَ منهُم من ينكرُ المعادَينِ معاً
كهؤلاءِ ومنهُم مَنْ ينكرُ المعادَ الجسمانيَّ فقطَّ كجمهور
النَّصارى وقد حُملَ الاختلافُ على الاختلافِ في كيفيةِ
الإنكارِ فمنْهُم مَنْ ينكرُه لإنكارِه الصانعَ المختارَ
ومنهُم مَنْ يُنكرهُ بناء على استحالة اعادة المعدومِ بعينه
وحملُه على الاختلاف بالنَّفي والإثباتِ بناءً على تعميم
التساؤلِ لفريَقيْ المسلمينَ والكافرينَ على أنَّ سؤالَ
الأولينَ ليزدادُوا خشيةً واستعداداً وسؤالَ الآخرينَ
ليزدادُوا كُفراً وعناداً يردُّه قولُه تعالى
(9/85)
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ
(4)
كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ
الخ فإنَّه صريحٌ في أنَّ المرادَ اختلافُ الجاهلينَ بهِ
المنكرينَ له إذْ عليه يدورُ الردعُ والوعيدُ لا على خلاف
المؤمنينَ لهم وتخصيصُهما بالكفرة بناءً على تخصيص ضميرِ
سيعلمونَ بهم مع عموم الضميرينِ السابقينِ للكلِّ ممَّا ينبغِي
تنزيهُ التنزيلِ عن أمثالِه هَذا ما أدَّى إليه جليلُ النظرِ
والذي يقتضيِه التحقيقُ ويستدعيهِ النظرُ الدقيقُ أنْ يحملَ
اختلافُهم على مخالفتِهم للنبيِّ عليه الصلاة والسلام بأن
يُعتبرَ في الاختلافِ محضُ صدور الفعل عن المتعدد حسبَما ذُكرَ
في التساؤلِ فإنَّ الافتعالَ والتفاعلَ صيغتانِ مُتآخيتانِ
كالاستباقِ والتسابقِ والانتضالِ والتناضلِ إلى غيرِ ذلكَ يجري
في كل منهما ما يَجْري في الأُخرى لا على مخالفةِ بعضهِم لبعضٍ
من الجانبينِ لأنَّ الكُلَّ وإنِ استحقَ الردعَ والوعيدَ لكنَّ
استحقاقَ كلِّ جانبٍ لهُما ليسَ لمخالفتِه للجانب الآخر اذ
لاحقية في شيء منها حتَّى يستحقَّ مَن يخالفُه المؤاخذة بل
لمخالفته له عليه الصلاة والسلام فكَلاَّ ردعٌ لهم عن التساؤلِ
والاختلافِ بالمعنيينِ المذكورينِ وسيعلمونَ وعيدٌ لهم بطريقِ
الاستئنافِ وتعليلٌ للردعِ والسينُ للتقريبِ والتأكيدِ وليسَ
مفعولُه ما يني عنه المقامُ من وقوعِ ما يتساءلونَ عنه ووقوعِ
ما يختلفونَ فيهِ كما في قولِه تعالى وَأَقْسَمُواْ بالله
جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ إلى قولِه تعالى
لِيُبَيّنَ لَهُمُ الذى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ الآيةَ فإنَّ ذلكَ
عارٍ عن صريحِ الوعيدِ بلْ هُو عبارةٌ عمَّا يلاقونَهُ من
فنونِ الدَّواهِي والعقوباتِ والتعبيرُ عن لقائِها بالعلمِ
(9/85)
78 سورة النبأ (5 10)
لوقوعِه في معرضِ التساؤلِ والاختلافِ والمَعْنى ليرتدعُوا
عمَّا هُم عليهِ فإنَّهم سيعلمونَ عمَّا قليل حقيقةَ الحالِ
إذا حلَّ بهم العذابُ والنكالُ وقولُه تعالى
(9/86)
ثُمَّ كَلَّا
سَيَعْلَمُونَ (5)
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ
تكريرٌ للردعِ والوعيدُ للمبالغةِ في التأكيدِ والتشديدِ وثمَّ
للدَّلالة على أنَّ الوعيدَ الثَّاني أبلغُ وأشدُّ وقيلَ
الأولُ عند النزعِ والثانِي في القيامةِ وقيلَ الأولُ للبعثِ
والثاني للجزاءِ وقُرِىءَ ستعلمونَ بالتاءِ على نهجِ الالتفاتِ
الى الخطاب المواقف لما بعده من الخطاباتِ تشديداً للردعِ
والوعيدِ لا على تقديرِ قُل لهم كما تُوُهم فإنَّ فيهِ من
الإخلالِ بجَزَالةِ النظمِ الكريم مالا يَخْفى وقولُه تعالَى
(9/86)
أَلَمْ نَجْعَلِ
الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)
أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا
والجبال أَوْتَاداً
الخ استئنافٌ مسوق لتحقيق النبأ المستاءل عنُهُ بتعدادِ بعضِ
الشواهدِ الناطقة بحقيقه إثرَ ما نبَّه عليها بما ذُكرَ من
الردع والوعيدِ ومنْ ههُنا اتضحَ أنَّ المتساءَلَ عنه هو
البعثُ لا القرآنُ أو نبوةُ النبيِّ عليهِ الصلاةَ والسَّلامُ
كما قيلَ والهمزةُ للتقريرِ والالتفاتُ إلى الخطابِ على
القراءةِ المشهورةِ للمبالغة في الإلزام والتبكيتِ والمِهادُ
البساطُ والفراشُ وقُرِىءَ مَهْداً على تشبيهها بمهدِ الصبيِّ
وهو ما يُمهدُ له فينوم عليه تسمية للممهود بالمصدرِ وجعَلُ
الجبالِ أوتاداً لها إرساؤُها بها كما يُرسي البيتُ بالأوتادِ
(9/86)
وَخَلَقْنَاكُمْ
أَزْوَاجًا (8)
وخلقناكم
عطف على المضارعِ المنفيِّ بلمْ داخلٌ في حُكمِه فإنَّه في
قوةِ أمَا جعلَنا الخ أو على ما يقتضيهِ الإنكارُ التقريريُّ
فإنَّه في قوَّةِ أنْ يقالَ قد جعلَنا الخ
أزواجا
اصنافا ذكرا وأنثى ليسكنَ كلٌّ من الصنفينِ إلى الآخرِ وينتظمَ
أمرُ المعاشرةِ والمعاشِ ويتسنَّى التناسلُ
(9/86)
وَجَعَلْنَا
نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً
أي موتاً لأنَّه أحدُ التوفيينِ لَما بينهُمَا من المشاركةِ
التَّامةِ في انقطاعِ أحكامِ الحياةِ وعليهِ قولُه تعالى
وَهُوَ الذى يتوفاكم بالليل وقولُه تعالى الله يَتَوَفَّى
الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا
وقيلَ قطعاً عنِ الإحساسِ والحركةِ لإراحةِ القُوى الحيوانيةِ
وازاحة كلاهما والأولُ هو اللائقُ بالمقامِ كما ستعرفه
(9/86)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ
لِبَاسًا (10)
وجعلنا الليل
الذي فيهِ يقعُ النومُ غالباً
لِبَاساً
يسترُكم بظلامِه كما يسترُكم اللباسُ ولعلَّ المرادَ به ما
يستر به عندَ النومِ من اللحافِ ونحوِه فإنَّ شبهَ الليلِ به
أكملُ واعتبارَهُ في تحقيقِ المقصدِ أدخلُ فهو جعلَ الليلَ
محلاً للنومِ الذي جْعلَ موتاً كما جعلَ النَّهارَ محلاً
لليقظة
(9/86)
78 سورة النبأ (11 14)
المعبرِ عنها بالحياةِ في قولِه تعالى
(9/87)
وَجَعَلْنَا
النَّهَارَ مَعَاشًا (11)
وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً
أي وقتَ حياةٍ تُبعثونَ فيهِ من نومكم الذي هُو أخوُ الموتِ
كَما في قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الليل
لِبَاساً والنوم سُبَاتاً وَجَعَلَ النهار نُشُوراً وجعلُ كونِ
الليلِ لباساً عبارةٌ عن تره عن العيونِ لمنْ أرادَ هرباً منْ
عدوَ أو بياتاً له أو نحوِ ذلكَ ممَّا لا مناسبةَ له بالمقامِ
وكذا جعلُ النهارِ وقتَ التقلبِ في تحصيلِ المعايشِ والحوايجِ
(9/87)
وَبَنَيْنَا
فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً
أي سبعَ سمواتٍ قويةِ الخلقِ محكمةِ البناءِ لا يُؤثر فيها
مرُّ الدهورِ وكرُّ العصورِ والتعبيرُ عن خلقها بالبناء مبنيٌّ
على تنزيلِها منزلةَ القبابِ المضروبةِ على الخلقِ وتقديمُ
الظرفِ على المفعولِ ليسَ لمراعاةِ الفواصلِ فقطْ بلْ للتشويقِ
إليهِ فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقبةً
له فإذا وردَ عليها تمكّنَ عندَها فضلُ تمكنٍ
(9/87)
وَجَعَلْنَا سِرَاجًا
وَهَّاجًا (13)
وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً
هذا الجعلُ بمعنى الإنشاءُ والإبداعِ كالخلقِ خَلا أنه مختصٌّ
بالإنشاءِ التكوينيِّ وفيه مَعنى التقديرِ والتسويةِ وهذا
عامٌّ له كَما في الآيةِ الكريمةِ وللتشريعيِّ أيضاً كَما في
قوله تعالى مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ الخ وقولِه تعالى
لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا وأياما كانَ ففيهِ
إنباءٌ عن ملابسةِ مفعولِه بشيءٍ آخرَ بأنْ يكونَ فيهِ أولَهُ
أوْ مِنْهُ أو نحوُ ذلكَ ملابسةٌ مصحِّحةٌ لأنْ يتوسَّطَ
بينهُمَا شيءٌ من الظروفِ لغواً كانَ أو مستقراً لكنْ لا على
أنْ يكونَ عُمدةً في الكلامِ بل قيداً فيهِ كما في قوله تعالى
وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وقولُه تعالَى وَجَعَلَ فِيهَا
رَوَاسِىَ وقولِه تعالى واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً
الآيةَ فإن كلَّ واحدٍ من هذهِ الظروفِ إمَّا متعلقٌ بنفسِ
الجعلِ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعولِه تقدمتْ عليه لكونِه
نكرةً ايا ما كانَ فهو قيدٌ في الكلامِ حتَّى إذا اقتضَى
الحالُ وقوعَه عمدةً فيه يكون الجمل متعدياً إلى اثنينِ هُو
ثانيهما كما في قولِه تعالى يَجْعَلُونَ أصابعهم فِى آذانهم
ورُبَّما يَشتبِهُ الأمرُ فيُظن أنَّه عمدةٌ فيهِ وهو في
الحقيقة قيدٌ بأحدِ الوجهينِ كما سلفَ في قولِه تعالى إِنّي
جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً والوهَّاجُ الوقَّادُ المتلألىءُ
من وهجتِ النارُ إذا أضاءتْ أو البالغُ في الحرارةِ من الوهجِ
والمرادُ به الشمسُ والتعبيرُ عنها بالسراجِ من روادفِ
التعبيرِ عن خلقِ السمواتِ بالبناءِ
(9/87)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ
الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)
وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات
هي السحائبُ إذا أَعْصرتْ أي شَارفتْ أنْ تعصُرَها الرياحُ
فتمطرَ كما في أحصدَ الزرعُ إذا حانَ له أنْ يُحصدَ ومنه
أعصرتِ الجاريةُ إذا دنتْ أنْ تحيضَ أو الرياحُ التي حانَ لها
أن تعصُرَ السحابَ وقُرِىءَ بالمعصرات ووجهُ ذلكَ أنَّ
الإنزالَ حيثُ كانَ من المعصراتِ سواء أريدَ بها السحائبَ أو
الرياحَ فقد كانَ بها كما يقالُ أعطاهُ من يدِه وبيدِه وقد
فسرتِ المعصراتُ بالرياحِ ذواتِ الأعاصيرِ ووجههُ أنَّ الرياحَ
هي التي
(9/87)
78 سورة النبأ (15 17)
تنشيء السحاب وتدر أخلافَه فصلحتْ أنْ تجعلَ مبتدأً للإنزالِ
مَآءً ثَجَّاجاً
أي مُنصبَّاً بكثرةٍ يقالُ ثجَّ الماءُ أي سالَ بكثرةٍ وثجَّه
أيْ أسالَه ومنه قولُه عليهِ الصَّلاةُ والسلام افضل الحَجِّ
العَجُّ والثَّجُّ أي رفعُ الصوتِ بالتلبيةِ وصبُّ دماء الهدي
وقرىء ثجاجا بالحاءِ بعدَ الجيمِ قالُوا مثاجحُ الماءِ مصابُّه
(9/88)
لِنُخْرِجَ بِهِ
حَبًّا وَنَبَاتًا (15)
لِّنُخْرِجَ بِهِ
بذلك الماءِ
حَبّاً
يقتاتُ كالحنطةِ والشعيرِ ونحوهِما
وَنَبَاتاً
يعتلفُ كالتبنِ والحشيشِ وتقديمُ الحبِّ مع تأخرهِ عن النباتِ
في الإخراجِ لأصالتِه وشرفِه لأنَّ غالبَهُ غذاءُ الإنسانِ
(9/88)
وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا
(16)
وجنات
الجنَّةُ في الأصلِ هي المرةُ من مصدرِ جَنَّه إذا سترَهُ
تُطلق على المخل والشجرِ المتكاثفِ المُظللِ بالتفافِ أغصانِه
قالَ زُهيرِ بنِ أبي سُلْمى ... كأنَّ عيني في غَربي مقتلة ...
منَ النواضِحِ تَسقِي جنَّةً سُحُقاً ... وعَلَى الأرضِ ذاتُ
الشجرِ قال الفَرَّاءُ الجنةُ ما فيهِ النخيلُ والفِردوسُ ما
فيه الكَرْم والأولُ هو المرادُ وقولُه تعالَى
أَلْفَافاً
أي ملتفةً تداخلَ بعضُها في بعضٍ قالُوا لا واحدَ له كالأوزاعِ
والأخيافِ وقيلَ الواحدُ لِفٌّ كَكِنَ وأكنانٍ أو لفيفٌ كشريفٍ
وأشرافٍ وقيلَ هو جمعُ اف جمع لفَّاءَ كخضر وخضراءَ وقيلَ جمعُ
ملتفةٍ بحذفِ الزوائدِ واعلم أنَّ فيما ذكر من أفعالَه عزَّ
وجلَّ دلالةٌ على صحة البعثِ وحقِّيتِه من وجوه ثلاثةٍ الأولُ
باعتبار قدرتِه تعالَى فإنَّ مَن قدَر على إنشاءِ هذهِ
الأفعالِ البديعةِ من غيرِ مثالِ يَحتذيه ولا قانونٍ ينتحيهِ
كانَ على الإعادةِ أقدرَ وأقوى الثَّانِي باعتبار علمِه
وحكمتِه فإنَّ من أبدعَ هذه المصنوعاتِ على نمطِ رائع مستتبعٍ
لغاياتِ جليلةٍ ومنافعَ جميلةٍ عائدة الى الخلق يتسحيل ان
ينفيها بالكلية ولا يجعلَ لها عاقبةً باقيةً والثالثُ باعتبار
نفسِ الفعلِ فإنَّ اليقظةَ بعد النومِ أنموذجٍ للبعث بعد
الموتِ يشاهدونَها كلَّ يومٍ وكَذا إخراجُ الحبِّ والنباتِ من
الأرض الميتةِ يعاينوه كلَّ حينٍ كأنَّه قيلَ ألم نفعلْ هذهِ
الأفعالَ الآفاقيةَ والأنفسيةَ الدالةَ بفنون الدلالاتِ على
حقية البعثِ الموجبةِ للإيمان به فما لكُم تخوضونَ فيه إنكاراً
وتتساءلونَ عنه استهزاءً وقولُه تعالَى
(9/88)
إِنَّ يَوْمَ
الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17)
إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ ميقاتا
شروعٌ في بيان سرِّ تأخيرِ ما يتساءلونَ عنه ويستعجلونَ به
قائلينَ متى هذا الوعد إِن كنتُم صادقينَ ونوعُ تفصيلٍ لكيفيةِ
وقوعَه وما سيلقَونه عند ذلكَ من فُنون العذابِ حسبما جَرى به
الوعيدُ إجمالاً أي إنَّ يومَ فصلِ الله عزَّ وجلَّ بينَ
الخلائقِ كان في علمِه وتقديرِه ميقاتاً وميعاداً لبعثِ
الأولينَ والآخرينَ وما يترتبُ عليهِ من الجزاءِ ثواباً
وعقاباً لا يكادُ يتخطاهُ بالتقدمِ والتأخرِ وقيل حداً توقتُ
به الدُّنيا وتنتهي عندَهُ أو حدا للخلائق ينتهون فيهِ ولا
ريبَ في أنَّهما بمعزلٍ من التقريب الذي أشيرَ إليه على أنَّ
الدنيا تنتهي عند النفخةِ الاولى
(9/88)
78 سورة النبأ (18 19)
وقوله تعالى
(9/89)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي
الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)
يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور
أي نفخةً ثانيةً بدلٌ من يومِ الفصلِ أو عطفُ بيانٍ له مفيد
لزيادةِ تفخيمِه وتهويلِه ولا ضيرَ في تأخرِ الفصلِ عن النفخِ
فإنَّه زمانٌ ممتدٌّ يقعُ في مبدئه النفخةُ وفي بقيته الفصلُ
ومباديه وآثارُه والصُّور هُو القَرْنُ الذي ينفخُ فيه
إسرافيلُ عليه السَّلامُ عنْ أبي هريرةَ رضيَ الله عنه أنَّ
رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ لمَّا فرغَ الله تعالى مِن
خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ خلقَ الصُّور فأعطاهُ إسرافيلَ فهُو
واضُعه على فيهِ شاخصٌ بصرُه إلى العرش متى يؤمر بهِ فينفخُ
فيه نفخةً لا يبقى عندَها في الحياةِ غيرُ مَن شاءَ الله تعالى
وذلكَ قولُه تعالى وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فى السموات
ومن فِى الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله ثم يُؤمر بأُخرى فينفخُ
نفخَّة لا يبقَى معها ميتٌ إلا بُعث وقامَ وذلكَ قولُه تعالى
ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ
والفاء في قوله تعالى
فَتَأْتُونَ
فصيحةٌ تفصحُ عن جملةٍ قد حُذفتْ ثقةً بدلالهِ الحالِ عليها
وإيذانا بغاية سرعةِ الإتيانِ كمَا في قوله تعالى فَقُلْنَا
اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق أي فتبعثونَ من قبورِكم فتأتونَ
إلى الموقفِ عَقيبَ ذلكَ من غير لبثٍ أصلا
افواجا
اي أمماً كلُّ أمةٍ معَ إمامِها كما في قولِه تعالى يوم ندعو
كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم أو زمراً وجماعاتٍ مختلفةَ الأحوالِ
متباينةَ الأوضاعِ حسبَ اختلافِ أعمالِهم وتباينِها عن معاذٍ
رضيَ الله عنه أنَّه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
صلى الله عليه وسلم يا معاذُ سألتَ عن أمرٍ عظيمٍ من الأمورِ
ثم أرسلَ عينيهِ وقالَ تحشرُ عشرةُ أصنافٍ من أمَّتي بعضُهم
على صورةِ القردةِ وبعضُهم على صورةِ الخنازيرِ وبعضُهم
منكسونَ أرجلُهم فوقَ وجوهِهم يُسحبونَ عليها وبعضُهم عميٌ
وبعضُهم صمٌّ بكم وبعضهم يمضغون ألسنتَهُم فهيَ مدلاَّةٌ على
صدورِهم يسيلُ القيحُ من أفواههم يتقذرهُم أهلُ الجمعِ وبعضُهم
مقطعةٌ أيديهم وأرجلُهم وبعضُهم مصلَّبونَ على جذوعٍ من نارٍ
وبعضُهم أشدّ نتناً من الجيف وبعضُهم يلبسونَ جباباً سابغةً من
قطرانٍ لازقةً بجلودِهم فأمَّا الذينَ على صورةِ القردةِ
فالقتَّاتُ من الناسِ وأمَّا الذين على صورة الخنازير فأهلُ
السحتِ وأمَّا المنكسونَ على وجوهِهم فأكلةُ الرِّبا وأما
العميُ فالذينَ يجورونَ في الحكمِ وأمَّا الصمُّ البكم
فالمعجبونَ بأعمالِهم وأمَّا الذينَ يمضغُون ألسنتَهُم
فالعلماءُ الذينَ خالفتْ أقوالُهم أعمالَهم وأما الذينَ قُطعتْ
أيديهم وأرجلُهم فهم الذين يؤذونَ جيرانَهم وأما المصلبونَ على
جذوعٍ من نارٍ فالسعاةُ بالناسِ إلى السلطانِ وأمَّا الذينَ هم
أشدُّ نتناً من الجيفِ فالذينَ يتبعون الشهواتِ واللذاتِ
ومنعُوا حقَّ الله تعالى في أموالِهم وأما الذينَ يلبسونَ
الجبابَ فأهلُ الكبرِ والفخرِ والخُيلاَءِ
(9/89)
وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ
فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19)
وَفُتِحَتِ السماء
عطفٌ على ينفخُ وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على التحققِ وقُرِىءَ
فُتِّحتْ بالتشديدِ وهو الأنسبُ بقولِه تعالى
فَكَانَتْ أبوابا
أي كثرت ابوابها المفتح لنزولِ الملائِكةِ نزولاً غيرَ مُعتادٍ
حتى صارتْ كأنَّها ليستْ إلاَّ أبواباً مفتحةً
(9/89)
78 سورة النبأ (20 22)
كقوله تعالى وفجرنا الارض عُيُوناً كأنَّ كلها عيونٌ متفجرةٌ
وهو المرادُ بقولِه تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام وهو
الغَمامُ الذي ذُكر في قوله تعالى هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن
يَأْتِيَهُمُ الله أي أمرُه وبأسه فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمامِ
والملائكةِ وقيلَ الأبوابُ الطرقُ والمسالكُ أي تكشط فينتفح
مكانُها وتصيرُ طرقاً لا يسدُّها شيءٌ
(9/90)
وَسُيِّرَتِ
الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)
وسُيرتِ الجبالُ
أي في الجوِّ على هيآتها بعد قلعِها من مقارِّها كما يعرب عنه
قوله تعالى وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ
تَمُرُّ مَرَّ السحاب أي تَرَاها رأيَ العينِ ساكنةً في
أماكِنها والحالُ أنَّها تمرُّ مرَّ السحابِ الذي يسيرُه
الرِّياح سيراً حثيثاً وذلكَ أنَّ الأجرامَ العظامَ إذا تحركتْ
نحواً من الأنحاءِ لا تكادُ يتبينُ حركتُها وإنْ كانتْ في
غايةِ السرعةِ لا سيمَّا من بعيدٍ وعليهِ قولُ مَنْ قالَ
بأرعنَ مثلِ الطَّوْدِ تحسَب أنَّهم وقوفٌ لحاجٍ والرِّكابُ
تُهَمْلِجُ وقد أُدمج في هذا التشبيهِ تشبيهُ حالِ الجبالِ
بحالِ السَّحابِ في تخلخل الأجزاءِ وانتفاشِها كما ينطق به
قوله تعالى وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش يبدلُ الله تعالى
الأرضَ ويغيرُ هيأتَها ويسيرُ الجبالُ على تلكَ الهيئةِ
الهائلةِ عند حشرِ الخلائقِ بعد النفخةِ الثانيةِ ليشاهدُوها
ثم يفرقها في الهواء وذلك قولُه تعالى
فَكَانَتْ سَرَاباً
أي فصارتْ بعدَ تسييرِها مثلَ السرابِ كقولِه تعالى وَبُسَّتِ
الجبال بَسّاً فَكَانَتْ هباء منبثا أي غُباراً مُنتشراً وهيَ
وان اندكت ونصدعت عند النَّفخةِ الأولى لكنْ تسييرُها وتسويِةُ
الأرضِ إنَّما يكونانِ بعد النَّفخةِ الثانيةِ كما نطق به قوله
تعالى ويسألونك عن الجبال فقل ينفسها رَبّى نَسْفاً
فَيَذَرُهَا قَاعاً صفصفا لا ترى فيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى وقولُه تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ
الأرض غَيْرَ الأرض والسموات وبرزوا الله الواحد الْقَهَّارِ
فإنَّ اتّباعَ الدَّاعِي الذي هُو إسرافيلُ عليهِ السَّلام
وبروزُ الخلقِ لله تعالى لا يكونُ إلا بعدَ النَّفخةِ
الثَّانيةِ
(9/90)
إِنَّ جَهَنَّمَ
كَانَتْ مِرْصَادًا (21)
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً
شروعٌ في تفصيل أحكامِ الفصلِ الذي أضيفَ إليه اليوم اثر بيان
هو له ووجهُ تقديمِ بيانِ حالِ الكفارِ غنيٌّ عن البيان
والمرصادُ اسمٌ للمكان الذي يُرصد فيه كالمضمارِ الذي هُو اسمٌ
للمكان الذي يُضمَّر فيه الخيلُ والمنهاجُ اسمٌ للمكانِ الذي
ينهجُ فيهِ أيْ أنَّها كانتْ في حُكمِ الله تعالى وقضائِه
موضعَ رصدٍ يرصدُ فيه خزنة النار الكفار ليعذبوهم فيها
(9/90)
لِلطَّاغِينَ مَآبًا
(22)
للطاغين
متعلق بمضمر هو إمَّا نعتٌ لمرصاداً أي كائناً للطاغينَ وقولُه
تعالَى
مآبا
بدلٌ منه أيْ مرجعاً يرجعونَ إليهِ لا محالةَ وإمَّا حالٌ مِنْ
مآبا قُدِّمت عليهِ لكونِه نكرةٌ ولو تأخرتْ لكانتْ صفةً له
وقد جُوِّزَ أنْ يتعلقَ بنفسِ مآبا على أنَّها مرصادٌ
للفريقينِ مآبٌ للكافرينِ خاصَّة ولا يَخْفى بُعدُه فإنَّ
المتبادرَ من كونِها مرصاداً لطائفةٍ كونُهم معذبينَ بَها وقد
قيلَ إنَّها مرصادٌ لأهل الجنةِ يرصدُهم الملائكةُ الذين
يستقبلونَهم عندَها لأنَّ مجازَهم عليها وهي مآب للطاغين
(9/90)
78 سورة النبأ (23 29) وقيل المرصاد صيغة
مبالغة من الرصد والمعنى أنها مجدة في ترصد الكفار لئلاَّ
يشذَّ منُهم أحدٌ وقرىء أنَّ بالفتحِ على تعليلِ قيامِ الساعةِ
بأنَّها مرصادٌ للطاغينَ
(9/91)
لَابِثِينَ فِيهَا
أَحْقَابًا (23)
لابثين فِيهَا حالٌ مقدرةٌ من المستكنِّ في
للطاغينَ وقُرىءَ لبثينَ وقوله تعالى
أَحْقَاباً ظرفٌ للبثِهم أي دُهُوراً متتابعةً كلما مضَى حقبٌ
تبعَهُ حقبٌ آخرُ إلى غيرِ نهايةٍ فإن الحقبَ لا يكادُ يستعملُ
إلا حيثُ يرادُ تتابعُ الأزمنةِ وتواليها فليسَ فيه ما يدلُّ
على تَنَاهِي تلكَ الأحقابِ ولو أُريدَ بالحقب ثمانونَ سنةً أو
سبعونَ ألفَ سنةٍ وقولُه تعالى
(9/91)
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا
بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)
لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً ولا شرابا
إلا حميم وَغَسَّاقاً جملةٌ مبتدأه أخبرَ عنهم بأنهم لا يذوقون
فيها شيئاً ما من بردَ ورَوْحٍ ينفسُ عنُهم حر النار ولا شرابٍ
يُسكِّنُ من عطشِهم ولكنْ يذوقونَ فيها حميماً وغسَّاقاً وقيلَ
البردُ النومُ وقرىء غساقا بالتخفيف وكلاهُما ما يسيلُ من
صديدِهم
(9/91)
جَزَاءً وِفَاقًا (26)
جَزَاء أي جُوزوا بذلكَ جزاءً
وفاقا ذَا وفاقٍ لأعمالِهم أو نفسُ الوفاقِ مبالغةٌ أو وافقَها
وِفاقاً وقُرِىءَ وَفَاقاً على أنَّه فَعالٌ من وَفَقُه كذا أي
لاقَهُ
(9/91)
إِنَّهُمْ كَانُوا لَا
يَرْجُونَ حِسَابًا (27)
إنهم كانوا الا يَرْجُونَ حِسَاباً تعليلٌ
لاستحقاقِهم الجزاءَ المذكورَ أي كانُوا لا يخافونَ أنْ
يُحاسبُوا بأعمالهم
(9/91)
وَكَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)
وكذبوا يآياتنا الناطقةِ بذلكَ
كِذَّاباً أي تكذيباً مُفرطاً ولذلكَ كانُوا مصرينَ على الكفرِ
وفنونِ المَعَاصِي وفِعَّالٌ من بابِ فَعَّلَ شائعٌ فيما بينَ
الفصحاء وقرىء بالتخفيف وهو مصدرُ كذبَ قالَ فَصدَقتُها
وَكذَبتُها والمرءُ ينفعُهُ كِذَابُه وانتصابُه إمَّا بفعلِه
المدلولِ عليهِ بكذبوا أي وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً وإما
بنفس كذبوا لتضمينه معنى كذَّبوا فإنَّ كلَّ مَنْ يكذبُ
بالحقِّ فهو كاذبٌ وقُرِىءَ كُذَّاباً وهو جَمعُ كاذبَ
فانتصابُه على الحاليةِ أي كذَّبُوا بآياتِنا كاذبينَ وقد
يكونُ الكذَّابُ بمعنى الواحدِ البليغِ في الكذبِ فيجعلُ صفةً
لمصدرِ كذبوا أي تكذيبا كذابا مُفرطاً كذبُه
(9/91)
وَكُلَّ شَيْءٍ
أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)
وَكُلَّ شىْء من الأشياءِ التي منْ
جُملتِها أعمالُهم وانتصابُه بمضمرٍ يفسرُه
أحصيناه أي حفظناهُ وضبطناهُ وقُرِىءَ
(9/91)
79 سورة النبأ (30 36) بالرفعِ على
الابتداءِ
كتابا مصدرٌ مؤكدٌ لأحصيناهُ لما أنَّ الإحصاءَ والكتبةَ من
وادٍ واحدٍ أو لفعلِه المقدرِ أو حالٌ بمعنى مكتوباً في اللوحِ
أو في صحفِ الحفظةِ والجملةُ اعتراضٌ وقولُه تعالى
(9/92)
فَذُوقُوا فَلَنْ
نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ
عَذَاباً مسببٌ عن كفرِهم بالحسابِ وتكذيبِهم بالآياتِ وفي
الالتفاتِ المنبىءِ عن التشديدِ في التهديدِ وإيرادِ لَنْ
المفيدةِ لكونِ تركِ الزيادةِ من قبيل مالا يدخلُ تحتَ الصحةِ
من الدلالةِ على تبالُغِ الغضبِ مالا يخفى وقد روى النبي عليه
الصلاةَ والسلام أنَّ هذهِ الآيةِ أشدُّ ما في القرآنِ على
أهلِ النَّارِ
(9/92)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
مَفَازًا (31)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً شروعٌ في
بيانِ محاسنِ أحوالِ المُؤمنين إثرَ بيانِ سوءِ أحوالِ الكفرةِ
أي إنَّ للذينَ يتقونَ الكفرَ وسائرَ قبائحِ أعمالِ الكفرةِ
فوزاً وظفراً بمباغيهم أو موضعَ فوزٍ وقيلَ نجاةً ممَّا فيه
أولئكَ أو موضعَ نجاةٍ وقولُه تعالى
(9/92)
حَدَائِقَ
وَأَعْنَابًا (32)
حَدَائِقَ وأعنابا أيْ بساتينَ فيها أنواعٌ
الأشجارِ المثمرةِ وكروماً بدلٌ منْ مفازاً
(9/92)
وَكَوَاعِبَ
أَتْرَابًا (33)
وَكَوَاعِبَ أي نساءٌ فلكتْ ثُديهنَّ
وهُنَّ النَّواهدُ
أَتْرَاباً أي لداتٍ
(9/92)
وَكَأْسًا دِهَاقًا
(34)
وَكَأْساً دِهَاقاً أي مُترعةً يقال أدهقَ
الحوضَ أي ملأه
(9/92)
لَا يَسْمَعُونَ
فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35)
لايسمعون فِيهَا أي في الجنةِ وقيل في
الكأسِ
لَغْواً ولا كذابا أي لا ينطقونَ بلغوٍ ولا يكذب بعضاً
وقُرِىءَ كِذاباً بالتخفيفِ أي لا يكذبُه أو لا يكاذبُه
(9/92)
جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ
عَطَاءً حِسَابًا (36)
جَزَاء مّن رَّبّكَ مصدرٌ مؤكدٌ منصوبٌ
بمعنى أنَّ للمتقينَ مفازاً فإنه في قوَّةِ أنْ يقالَ جازَى
المتقينَ بمفازٍ جزاءً كائناً من ربِّك والتعرّضُ لعنوانِ
الربوبيةِ المُنْبئة عن التبليغِ إلى الكمالِ شيئاً فشيئاً مع
الإضافة إلى ضميره عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مزيدُ تشريف له
صلى الله عليه وسلم
عطاء أي تفيضلا وإحساناً منه تعالَى إذْ لا يجبُ عليهِ شيءٌ
وهو بدلٌ من جزاءً
حساب صفةٌ لعطاءً بمعنى كافياً على مصدرٌ أقيمَ مقامَ الوصفِ
أو بُولغَ فيه من أحسبهُ الشيءُ إذا كفاهُ حتَّى قال حَسْبي
وقيلَ على حسبِ أعمالِهم وقُرىءَ حِسَّاباً بالتشديدِ على
أنَّه بمعنى المتحسب كالدراك بمعنى المدرك
(9/92)
79 سورة النبأ (37 38)
(9/93)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ
مِنْهُ خِطَابًا (37)
رب السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بدلٌ
من ربِّك وقولُه تعالَى
الرحمن صفةٌ له وقيلَ صفةٌ للأولِ وأيا ما كان ففي ذكرِ
ربوبيتِه تعالى للكلِّ ورحمتِه الواسعةِ إشعارٌ بمدارِ الجزاءِ
المذكورِ وقوله تعالى
لايملكون مِنْهُ خِطَاباً استئنافٌ مقررٌ لما أفادَهُ
الربوبيةُ العامةُ من غايةِ العظمةِ والكبرياءِ وإستقلاله
تعالى بما ذُكر من الجزاءِ والعطاءِ من غير أن يكون لأحدٍ
قدرةٌ عليهِ وقُرِىءَ برفعِهما فقيلَ على أنَّهما خبرانِ
لمبتدأٍ مضمرٍ وقيلَ الثَّانِي نعتٌ للأولِ وقيلَ الأَولُ
مبتدأٌ والثاني خبرُهُ ولا يملكونَ خبرٌ آخرُ أو هو الخبرُ
والرحمنُ صفةٌ للأولِ وقيلَ لا يملكونَ حالٌ لازمةٌ وقيلَ
الأولُ مبتدأٌ والرحمنُ مبتدأٌ ثان ولايملكون خبرُه والجملةُ
خبرٌ للأولِ وحصلَ الربطَ بتكريرِ المبتدأِ بمعناهُ على رأي
مَنْ يقولُ بهِ والأوجهُ أنْ يكونَ كلاهُما مرفوعاً على المدحِ
أو يكونَ الثانِي نعتاً للأولِ ولا يملكونَ استئنافاً على
حالِه ففيهِ ما ذُكر من الإشعارِ بمدار الجزاء والعطاءِ كما في
البدليةِ لما أنَّ المرفوعَ أو المنصوبَ مدحاً تابعٌ لما قبله
معنى إن كان مَنقطعاً عنه إعراباً كما فُصِّل في قولِه تعالى
الذين يؤمنون بالغيب من سورةِ البقرةِ وقُرىء بجرِّ الأَولِ
على البدليةِ ورفعِ الثانِي على الابتداءِ والخبرُ ما بعدَهُ
أو على أنَّه خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ وما بعدَهُ استئنافٌ أو خبرٌ
ثانٍ أو حالٌ وضميرُ لا يملكونَ لأهلِ السمواتِ والأرضِ أي لا
يملكون أنْ يخاطبُوه تعالَى من تلقاءِ أنفسِهم كما ينبىءُ عنه
لفظُ الملكِ خطاباً مَا في شيءٍ مَا والمرادُ نفيُ قدرتِهم على
أنْ يخاطبُوه تعالَى بشيءٍ من نقص العذابِ أو زيادةِ الثوابِ
من غيرِ إذنِه على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وقيلَ ليسَ في أيديهم
ممَّا يخاطب الله به يأمر به في أمرِ الثوابِ والعقابُ خطابٌ
واحدٌ يتصرفونَ فيه تصرفَ الملاَّكِ فيزيدونَ فيهِ أو ينقصونَ
منْهُ
(9/93)
يَوْمَ يَقُومُ
الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا
مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)
يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً
قيلَ الروحُ خلقٌ أعظمُ من الملائكةِ وأشرفُ منهم وأقربُ من
ربِّ العالمين وقيل هم مَلكٌ ما خلقِ الله عزَّ وجلَّ بعدَ
العرشِ خلقاً أعظمَ منْهُ عنِ ابن عباس رضي الله عنهُمَا أنَّه
إذا كانَ يومُ القيامةِ قامَ هو وحدَهُ صَفّاً والملائكةُ
كلُّهم صفاً وعنْهُ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ
الروحُ جندٌ من جنودِ الله تعالى ليسوا ملائكة لهم رؤس وأيدٍ
وأرجلٌ يأكلونَ الطعامَ ثُمَّ قرأَ يومَ يقومُ الروحُ الآيةَ
وهذَا قولُ أبي صالحٍ ومجاهدٍ قالُوا ما ينزلُ من السماءِ ملكٌ
إلا ومعه واحدٌ منُهم نقلَهُ البغويُّ وقيل هم أشرافُ
الملائكةُ وقيلَ هم حفظة على الملائكة وقيلَ جبريلُ عليهِ
السَّلامُ وصفَّا حالٌ أي مصطفينَ قيلَ هما صفَّانِ الروحُ
صفٌّ واحدٌ أو متعددٌ والملائكةُ صفٌّ وقيلَ صفوفٌ وهو الأفق
لقولِه تعالى والملك صَفّاً صَفّاً وقيلَ يقومُ الكُلُّ صفّاً
وَاحِداً ويومَ ظرفٌ لقولِه تعالى
لاَّ يَتَكَلَّمُونَ وقوله تعالى
إِلاَّ مِن أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً بدلٌ من ضميرِ
لا يتكلمونَ العائدِ إلى أهلِ السمواتِ والأرضِ الذينَ من
جُملتهم الروحُ والملائكةُ وذكرُ قيامِهم واصطفافِهم لتحقيق
عظمةِ سلطانِه وكبرياءِ ربوبيتِه وتهويلِ يومِ البعثِ الذي
عليهِ مدارُ الكلامِ من
(9/93)
79 سورة النبأ (39 40) مطلعِ السُّورةِ
الكريمةِ إلى مقطعِها والجملةُ استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ قولِه
تعالى لا يملكون الخ ومؤكد له على مَعْنى أنَّ أهلَ السمواتِ
والأرضِ إذَا لم يقدرُوا يومئذٍ على أنْ يتكلمُوا بشيءٍ من
جنسِ الكلامِ إلاَّ مَنْ أذنَ الله تعالى له منُهم في التلكم
وقال ذلكَ المأذونُ له قولاً صواباً أي حقّاً فكيفَ يملكون
خطابَ ربِّ العزةِ مع كونه أخصَّ من مطلق الكلامُ وأعزَّ منه
مراماً لا على مَعْنى أنَّ الروحَ والملائكةَ مع كونِهم أفضلَ
الخلائقِ وأقربَهم من الله تعالى إذَا لم يقدرُوا أنْ يتكلمُوا
بما هُو صوابٌ من الشفاعة لمن ارتضَى إلا بإذنه فكيف يكلمه
غيرُهم كما قيلَ فإنَّه مؤسَّسٌ على قاعدة الاعتزالِ فمن
سلكَهُ مع تجويزه أنْ يكونَ يومَ ظرفاً للايملكونَ فقد اشتبَه
عليهِ الشؤن واختلطَ به الظنونُ وقيلَ إلا من أذنَ الخ منصوبٌ
على أصلِ الاستثناءِ والمَعْنى لا يتكلمونَ إلا في حقِّ شخصٍ
أَذِنَ لَهُ الرحمنُ وَقَالَ ذلكَ الشخصُ صواباً أي حقَّاً هُو
التوحيدُ وإظهارُ الرحمنِ في موضعِ الإضمارِ للإيذانِ بأنَّ
مناطَ الإذنِ هو الرحمةُ البالغةُ لا أنَّ أحداً يستحقُّه
عليهِ سبحانَه وتعالَى
(9/94)
ذَلِكَ الْيَوْمُ
الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)
ذلك إشارةٌ إلى يوم قيامِهم على الوجه
المذكورِ وما فيه من معنى البعد مع قرب العهدِ بالمُشار إليه
للإيذان بعلو درجتِه وبُعد منزلتِه في الهولِ والفخامةِ
ومحلُّه الرفعُ على الابتداءِ خبرُه ما بعدَهُ أي ذلكَ اليومُ
العظيمُ الذي يقومُ فيه روح والملائكةُ مصطفينَ غيرَ قادرينَ
هُم وغيرُهم على التكلمِ من الهيبةِ والجلالِ
اليوم الحق أي الثابتُ المتحققُ لا محالة من غير صارفٍ يلويهِ
ولا عاطفٍ يثنيهِ والفاءُ في قولِه تعالى
فَمَن شَاء اتخذ إلى ربه مآبا فصيحة تصفح عن شرطٍ محذوفٍ
ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ لوقوعِها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ
الجزاءِ وانتفاءِ الغرابةِ في تعلقِه بها حسبَ القاعدةِ
المستمرةِ وإلى ربِّه متعلقٌ بمآباً قدم عليه اهتماما به
ورعايةً للفواصلِ كأنَّه قيلَ وإذا كان الأمر كما ذُكرَ منْ
تحققِ اليومِ المذكورِ لا محالةَ فمن شاءَ أن يتخذَ مرجعاً إلى
ثوابِ ربِّه الذي ذُكِرَ شأنُه العظيمُ فعلَ ذلكَ بالإيمانِ
والطاعةِ وقالَ قَتَادةُ مآباً أي سبيلاً وتعلق الجارية لما
فيه من معنى الإفضاءِ والإيصالِ كما مرَّ في قوله تعالى مَنِ
استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً
(9/94)
إِنَّا
أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ
مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي
كُنْتُ تُرَابًا (40)
إِنَّا أنذرناكم أيْ بمَا ذُكرَ في السورةِ
من الآيات الناطقةِ بالبعث وبمَا بعدَهُ من الدَّواهي أو بها
بسائر القوارعِ الواردةِ في القرآن
عَذَاباً قَرِيباً هو عذابُ الآخرة وقربه لتحقيق إتيانِه
حَتْماً ولأنَّه قريبٌ بالنسبة إليه تعالى وإنْ رَأَوْه بعيداً
وسيرونَهُ قريباً لقولِه تعالى كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا
لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضحاها وعن قَتَادَةَ
هو عقوبةُ الدُّنيا لأنَّه أقربُ العذابينِ وعن مقاتلٍ هو قتلُ
قريشٍ يوم بدر وقوله تعالى
يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ فإنَّه إما بدلٌ
من عذاباً أو ظرفٌ لمضمرٍ هو صفةٌ له أي عذاباً كائناً يومَ
ينظرُ المرءُ أي يشاهد
(9/94)
79 سورة النازعات (1 5) ما قدمَهُ من خيرٍ
أو شرَ على أنَّ مَا موصولةٌ منصوبةٌ بينظرُ والعائدُ محذوفٌ
أو ينظرُ أيَّ شيءٍ قدمتْ يداهُ على أنَّها استفهاميةٌ منصوبةٌ
بقدمتْ وقيلَ المرءُ عبارةٌ عن الكافر وما في قوله تعالى
وَيَقُولُ الكافر يا ليتني كُنتُ ترابا ظاهرٌ وُضع موضعَ
الضميرِ لزيادةِ الذمِّ قيلَ معنى تمنيهِ ليتني كنتُ تراباً في
الدُّنيا فلم أخلق ولم ولم أُكلَّف أو ليتني كنتُ تُراباً في
هذا اليومِ فلم أُبعثْ وقيلَ يحشرُ الله تعالى الحيوانَ
فيقتصُّ للجمَّاءِ من القرناءِ ثم يردُّه تراباً فيودُّ
الكافرُ حالَه وقيلَ الكافرُ إبليسُ يَرَى آدمَ وولدَهُ
وثوابَهُم فيتمنَّى أنْ يكونَ الشيءَ الذي احتقرَهُ حينَ قالَ
خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ من طينٍ عن رسول الله صلى
الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ عَمَّ يتساءلونَ سقاهُ الله
تعالى بردَ الشرابِ يومَ القيامةِ والحمدُ لله وحده سورة
النازعات مكية آياتها ست وأربعون
{بسم الله الرحمن الرحيم}
(9/95)
وَالنَّازِعَاتِ
غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ
سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ
أَمْرًا (5)
{والنازعات غَرْقاً}
{والناشطات نَشْطاً}
{والسابحات سَبْحاً فالسابقات سَبْقاً}
{فالمدبرات أَمْراً} إقسامٌ من اللَّهِ عزَّ وجل بطوائف
الملائكةِ الذينَ ينزِعونَ الأرواحَ من الأجساد على الإطلاقِ
كما قاله ابن عباس رضيَ الله عنهُمَا ومجاهدٌ أو أرواحَ
الكفرةِ كما قالَهُ عليٌّ رضيَ الله عنْهُ وابنُ مسعودٍ وسعيدُ
بنُ جُبَيرٍ ومسروقٌ وينشِطونَها أي يُخرجونَها من الأجسادِ من
نشَطَ الدلوَ من البئرِ إذا أخرجَها ويسبحونَ في إخراجِها سبحَ
الغواصِ الذي يُخرجُ من البحرِ ما يخرجُ فيسبقونَ بأرواحِ
الكفرةِ إلى النارِ وبأرواحِ المؤمنينَ إلى الجنةِ فيدبرونَ
أمرَ عقابِها وثوابِها بأنْ يهيؤها لإدراك ما أعدلها منَ
الآلامِ واللَّذاتِ والعطفُ مع اتحاد الكل بتزيلي التغايرِ
الذاتيِّ كما في قوله
(9/95)
79 سورة النازعات (6 7) إلى الملكِ القَرمِ
وابنِ الهُمام وليثِ الكتائبِ في المُزدَحمْ [للإشعارِ بأنَّ
كلَّ واحدٍ من الأوصافِ المعدودةِ من معظماتِ الأمورِ حقيقٌ
بأن يكونَ على حيالِه مناطاً لاستحقاقِ موصوفِه للإجلالِ
والإعظامِ بالإقسامِ بهِ من غيرِ انضمامِ الأوصافِ الأُخرِ
إليهِ والفاءُ في الأخيرينِ للدلالةِ على ترتبِهما على ما
قبلهما بغير مهملة كما في قوله] يا لهف زبابة الصائح فالغانمِ
فالآئبِ [وغَرْقاً مصدرٌ مؤكِّدٌ بحذف الزَّوائد أيْ إغراقاً
في النزع حيثُ تنزعُها منْ أقاصِي الأجسادِ قال ابن مسعود رضي
الله عنه تنزعُ روحَ الكافرِ من جسدِه من تحتِ كلِّ شعرةٍ ومن
تحتِ الأظافيرِ وأصولِ القدمينِ ثم تُغرقها في جسدِه ثم
تنزعُها حتَّى إذَا كادتْ تخرجُ تردها في جسدِه فهذا عملُها
بالكفار وقيلَ يَرى الكافرُ نفسَهُ في وقت النزعِ كأنها تغرقُ
وانتصابُ نَشْطاً وسَبْحاً وسَبْقاً أيضاً على المصدريةِ وأما
أمراً فمفعول للمدبرات وتنكيره وللتهويل والتفخيمِ ويجوزُ أنْ
يُرادَ بالسابحاتِ وما بعدَهَا طوائفُ من الملائكةِ يسبحونَ في
مُضيهم أي يُسرعونَ فيهِ فيسبقونَ ألى مَا أُمروا بهِ من
الأمورِ الدنيويةِ والأخرويةِ والمُقسمُ عليهِ محذوفٌ
تَعْويلاً على إشارةِ ما قبلَهُ من المقسمِ بهِ إليهِ ودلالةِ
ما بعدَهُ من أحوالِ القيامةِ عليهِ وهو لتبعثنَّ فإنَّ
الإقسامَ بمَنْ يتولَّى نزعَ الأرواحِ ويقومُ بتدبيرِ أُمورِها
يلوحُ بكونِ المقسمِ عليهِ من قبيلِ تلكَ الأمورِ لا محالةَ
وفيهِ مِنَ الجزالةِ مالا يَخْفى وقَدْ جُوِّزَ أنْ يكونَ
إقساماً بالنجومِ التي تنزعُ من المشرقِ إلى المغربِ غرقاً في
النزعِ بأن تقطعَ الفَلكَ حتَّى تنحطَّ في أقْصَى الغربِ
وتنشطَ من برجٍ إلى برجٍ أي تخرجُ من نشطِ الثورِ إذَا خرجَ من
بلدٍ إلى بلدٍ وتسبحُ في الفلكِ فيسبقُ بعضُها بعضاً فتدبرُ
أمراً نيطَ بهَا كاختلاف الفصولِ وتقدير والأزمنة وتبينِ
مواقيتِ العباداتِ وحيثُ كانتْ حركاتُها من المشرق إلى المغربِ
قسريةً وحركاتُها من برجٍ إلى برجٍ ملائمةً عُبِّرَ عنِ
الأُولى بالنزع وعن الثاني بالنشطِ أو بأنفسِ الغُزاةِ أو
أيديهِم التي تنزعُ القِسِيَّ بإغراقِ السهامِ وينشطونَ
بالسهمِ للرميِ ويسبحونَ في البرِّ والبحرِ فيسبقونَ إلى حربِ
العدوِّ فيدبرونَ أمرَها أو بخيلِهم التي تنزعُ في أعنَّتِها
نزعاً تغرقُ فيه الأعنةَ لطول أعناقِها لأنها عِرابٌ وتخرجُ
منْ دارِ الإسلامِ إلى دارِ الحربِ وتسبحُ في جَريها لتسبق إلى
الغابة فتدبرُ أمرَ الظفرِ والغلبةِ وإسنادُ التدبيرِ إليها
لأنَّها من أسبابِه هذا والذي يليقُ بشأنِ التنزيلِ هُو الأول
قوله تعالى
(9/96)
يَوْمَ تَرْجُفُ
الرَّاجِفَةُ (6)
يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة منصوبٌ بالجوابِ
المُضمرِ والمرادُ بالراجفةِ الواقعةُ التي ترجفُ عندَهَا
الأجرامُ الساكنةُ أي تتحركُ حركة شديدة وتتنزلزل زلزلزلة
عظيمةً كالأرضِ والجبالِ وهيَ النفخة الأولى وقيل الرجفة
الأرضُ والجبالُ لقولِه تعالى يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال
وقولُه تعالَى
(9/96)
تَتْبَعُهَا
الرَّادِفَةُ (7)
تَتْبَعُهَا الرادفة أي الواقعةُ التي
تُردِفُ الأُولى وهيَ النفخةِ الثانيةِ تابعةً لها لا قبلَ
ذلكَ فإنَّه عبارةٌ عن الزمانِ الممتدِّ الذي يقعُ فيهِ
النفختانِ وبينهما أربعونَ سنةً واعتبارُ امتدادِه معَ أنَّ
البعثَ لا يكون إلا عند النفخةِ الثانيةِ لتهويل اليومِ ببيان
كونه موقعا
(9/96)
79 سورة النازعات (8 10) لداهيتينِ
عظيمتينِ لا يَبْقى عندَ وقوعِ الأُولى حيٌّ إلا ماتَ ولا عندَ
وقوع الثانية إلا بُعثَ وقامَ ووجْهُ إضافتِه إلى الأُولى
ظَاهِرٌ وقيلَ يومَ ترجفُ منصوبٌ باذكُرْ فتكونُ الجملةُ
استئنافاً مقرراً لمضمون الجوابِ المُضْمرِ كأنَّه قيلَ لرسولِ
الله صلى الله عليه وسلم اذكُر لهم يومَ النفختينِ فإنه وقتُ
بعثِهم وقيلَ هو منصوبٌ بما دلَّ عليه قولُه تعالَى
(9/97)
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ
وَاجِفَةٌ (8)
{قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} أي يومَ
ترجفُ وجفتِ القلوبُ قيلَ قلوبٌ مبتدأٌ ويومئذٍ متعلقٌ بواجفةٌ
وهيَ صفةٌ لقلوبٌ مُسوِّغةٌ لوقوعِه مبتدأً وقوله تعالى
(9/97)
أَبْصَارُهَا
خَاشِعَةٌ (9)
{أبصارها} أي أبصار أصحاب {خاشعة} جملةٌ من
مبتدإٍ وخبرٍ وقعتْ خبراً لقلوبٌ وقَدْ مرَّ أنَّ حقَّ الصفة
أن تكون معلومةَ الانتسابِ إلى الموصوف عند السامعِ حتَّى
قالُوا إن الصفاتِ قبلَ العلمِ بها أخبارٌ والأخبارُ بعدَ
العلمِ بها صفاتٌ فحيثُ كانَ ثبوتُ الوجيفِ للقلوبِ وثبوتُ
الخشوعِ لأبصارِ أصحابِها سواءً في المعرفةِ والجهالةِ كانَ
جعلُ الأولِ عُنواناً للموضوعِ مسلمَ الثبوتِ مفروغاً عنْهُ
وجعل الثاني مخبرا به مقصودَ الإفادةِ تحكماً بحتاً على أنَّ
الوجيفَ الذي هُو عبارةٌ عنْ شدةِ اضطرابِ القلبِ وقلقِه من
الخوفِ والوجلِ أشدُّ من خشوعِ البصرِ وأهولُ فجعلُ أهونَ
الشرَّيْن عُمدةً وأشدِّهما فضلةً مما لا عهدَ له في الكلامِ
وأيضاً فتخصيصُ الخشوعِ بقلوبٍ موصوفةٍ بصفةٍ معينةٍ غيرُ
مشعرةٍ بالعمومِ والشمولِ تهوينٌ للخطب في موقع التهويلِ
فالوجْهُ أنْ يُقالَ تنكيرُ قلوبٌ يقومُ مقامَ الوصفِ المختصِّ
سواء على حمل التنويعِ كما قيلَ وإنْ لم يذكر النوع المقابل
فإنَّ المَعْنى منسحبٌ عليهِ أو على التكثيرِ كما في شرٌّ
أَهَرَّ ذَا نابٍ فإنَّ التفخيمَ كما يكونُ بالكيفيةِ يكونُ
بالكميةِ أيضاً كأنَّه قيلَ قلوبٌ كثيرةٌ يومَ إذْ يقعُ
النفختانِ واجفةٌ أيْ شديدةُ الاضطرابِ قال ابن عباس رضي الله
عنهُما خائفةٌ وَجِلةٌ وقال السدى رائلة عنْ أماكنِها كما في
قولِه تعالى إِذِ القلوب لَدَى الحناجر وقولُه تعالى
(9/97)
يَقُولُونَ أَإِنَّا
لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10)
يقولون أننا لمردودن فِى الحافرة حكايةٌ
لما يقولُه المنكرونَ للبعث المكذبونَ بالآيات الناطقةِ به
إثرَ بيان وقوعِه بطريق التوكيدِ القَسَمي وذكر مقدماتِه
الهائلةِ وما يعرضُ عندَ وقوعِها للقلوب والأبصارِ أي يقولونَ
إذا قيلَ لهم إنكُم تبعثونَ منكرينَ له متعجبينَ منهُ أئنا
لمردودونَ بعدَ موتِنا في الحافرة أي في الحالة الأُولى يعنونَ
الحياةَ من قولهم رجعَ فلانٌ في حافرته أي في طريقتِه التي
جاءَ فيها فحفرَها أي أثَّر فيها بمشيه وتسميتُها حافرةً مع
أنها محفورةٌ كقولِه تعالَى فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ أي منسوبةٌ
إلى الحفرِ والرِّضا أو كقولِهم نهارُه صائمٌ على تشبيهِ
القابلِ بالفاعلِ وقُرِىءَ في الحُفْرةِ وهي بمعنى المحفورة
(9/97)
79 سورة النازعات (11 15)
وقوله تعالى
(9/98)
أَإِذَا كُنَّا
عِظَامًا نَخِرَةً (11)
ائذا كُنَّا عظاما نَّخِرَةً
تأكيدٌ لإنكار الردِّ ونفيِه بنسبتِه إلى حالةٍ منافيةٍ له
والعاملُ في إذَا مضمرٌ يدلُّ عليهِ مردودونَ أي أَئِذا كُنَّا
عظاماً باليةً نُردُّ ونبعثُ مع كونِها أبعدَ شيءٍ من الحياةِ
وقُرِىءَ إذَا كُنَّا على الخبرِ أو إسقاطِ حرفِ الإنكارِ
وناخرةٌ منْ نَخَر العظمُ فهو نَخِرٌ ونَاخِرٌ وهُو البَالِي
الأَجْوفُ الذي يمرُّ به الريحُ فيُسمعُ له نخيرٌ
(9/98)
قَالُوا تِلْكَ إِذًا
كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12)
قالوا
حكاية لكفر آخرهم متفرعٍ على كُفْرِهم السابقِ ولعلَّ توسيطَ
قالُوا بينهُمَا للإيذانِ بأنَّ صدورَ هذا الكفرِ عنهُم ليسَ
بطريقِ الاطرادِ والاستمرارِ مثلَ كفرِهم السابقِ المستمرِّ
صدورُه عنهُم في كافةِ أوقاتِهم حسبَما ينبىءُ عنْهُ حكايتُه
بصيغةِ المضارعِ أيْ قالُوا بطريق الاستهزاءِ مشيرينَ إلى ما
أنكرُوه من الردة في الحافرةِ مشعرينَ بغايةِ بُعدِها من
الوقوعِ
تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسرة
أي ذاتُ خسرانٍ أو خاسرةٌ أصحابُها أيْ إنْ صحَّتْ فنحنُ اذن
خاسرون لتكذبينا بهَا وقولُه تعالَى
(9/98)
فَإِنَّمَا هِيَ
زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13)
فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحدة
تعليلٌ لمقدَّرٍ يقتضيهِ إنكارُهم لإحياءِ العظامِ النخرةِ
التي عبرُوا عنهَا بالكرَّةِ فإنَّ مدارَهُ لما كانَ
استصعابُهم إيَّاها ردَّ عليهم ذلكَ فقيلَ لا تستصعبُوهَا
فإنَّما هيَ صيحةٌ واحدةٌ أي حاصلةٌ بصيحةٍ واحدةٍ وهي النفخةُ
الثانيةُ عبِّر عنهَا بها تنبيها على كمال اتصالِها بها
كأنَّها عينُها وقيلَ هيَ راجعٌ الى الرادفة فقوله تعلى
(9/98)
فَإِذَا هُمْ
بِالسَّاهِرَةِ (14)
فَإِذَا هُم بالساهرة
حينئذٍ بيانٌ لترتب الكرّةِ على الزجرة مفاجأة اي فاذا هُم
أحياءٌ على وجه الأرضِ بعدَ ما كانُوا أمواتاً في جَوفِها وعلى
الأول بيانٌ لحضورِهم الموقفَ عقيبَ الكرةِ التي عبرَ عنها
بالزجرةِ والساهرةُ الأرضُ البيضاءُ المستويةُ سُميتْ بذلكَ
لأنَّ السرابَ يَجْري فيهَا من قولِهم عينٌ ساهرةٌ جاريةُ
الماءِ وفي ضِدِّهَا نائمةٌ وقيلَ لأنَّ سالِكَها لا ينامُ
خوفَ الهلكةِ وقيل اسمٌ لجهنمَ وقالَ الراغبُ هي وجهُ الأرضِ
وقيلَ هيَ أرضُ القيامةِ ورَوَى الضحَّاكُ عنِ ابنِ عباس رضي
الله عنهما أنَّ الساهرةَ أرضٌ من فضةٍ لم يعصَ الله تعالَى
عليهَا قطْ خلقَها حينئذٍ وقيلَ هيَ أرضٌ يجددها الله عزَّ
وجلَّ يومَ القيامةِ وقيلَ هيَ اسمُ الأرضِ السابعةِ يأتِي بها
الله تعالَى فيحاسبُ الخلائقَ عليها وذلك حين تُبَدَّلُ الأرض
غَيْرَ الأرض وقال الثوريُّ الساهرةُ أرضُ الشامِ وقال وهبُ
بنُ منبهٍ جبلُ بيتِ المقدسِ وقيل الساهرةُ بمَعْنى الصحراء
على شفيرِ جهنمَ وقولُه تعالى
(9/98)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
مُوسَى (15)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى
كلامٌ مستأنفٌ واردٌ لتسلية رسولة الله صلى الله عليه وسلم من
تكذيبِ قومِه بأنَّه يصبهم مثل ما أصاب
(9/98)
79 سورة النازعات (16 20)
من كانَ أَقْوى منهُم وأعظمَ ومَعْنى هلْ أتاكَ إنِ اعتُبرَ
هذا أولَ ما أتاهُ عليه الصلاةُ والسلامُ من حديثِه عليه
السلامُ ترغيبٌ له عليه الصلاةُ والسلامُ في استماعِ حديثِه
كأنَّه قيلَ هل أتاكَ حديثُه أنَا أُخبرَك بهِ وإنِ اعتُبرَ
إتيانُه قبل هذا وهُو المتبادرُ من الإيجازِ في الاقتصاصِ
حملَهُ عليه الصلاة والسلام على أنْ يقرَّ بأمرٍ يعرفُه قبلَ
ذلكَ كأنَّه قيلَ أليس قد أتاكَ حديثُه وقولُه تعالَى
(9/99)
إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ
بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16)
إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالواد المقدس
ظرفٌ للحديثِ لا للإتيانِ لاختلافِ وَقْتَيهِما
طُوًى
بضمِّ الطاءِ غيرُ منونٍ وقُرِىءَ منوناً وقُرِىءَ بالكسرِ
منوناً وغيرَ منونٍ فمَنْ نونَّهُ أوَّلهُ بالمكانِ دونَ
البقعة وقيل هو كشنى مصدرٌ لنَادَى أو المقدسِ أيْ ناداهُ
ندائينِ أو المقدسِ مرةً بعدَ أُخْرى
(9/99)
اذْهَبْ إِلَى
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17)
اذهب إلى فِرْعَوْنَ
على إرادةِ القولِ وقيلَ هو تفسيرٌ للنداءِ أي ناداهُ إذهبْ
وقيلَ هُو على حذفِ أَنِ المفسرةِ ويدلُّ عليه قراءةُ عبدِ
اللَّهِ أنِ اذهبْ لأنَّ في النداءِ مَعْنى القولِ
إِنَّهُ طغى
تعليلٌ للأمرِ أو لوجوبِ الامتثالِ بهِ
(9/99)
فَقُلْ هَلْ لَكَ
إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)
فقل
بعدما أتيتَهُ
هَل لَّكَ
رغبةٌ وتوجهٌ
إلى أَن تزكى
بحذف إحدى التاءين من تتزكَّى أيْ تتطهرُ من دنسِ الكُفرِ
والطغيانِ وقُرِىءَ تزَّكَّى بالتشديدِ
(9/99)
وَأَهْدِيَكَ إِلَى
رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)
وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ
وأُرشدكَ إلى معرفتِه عزَّ وجلَّ فتعرِفَهُ
فتخشى
إذِ الخشيةُ لا تكونُ إلا بعدَ معرفتِه تعالَى قالَ عزَّ وجلَّ
إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء وجَعلُ الخشيةِ
غايةً للهدايةِ لأنَّها مِلاكُ الأمرِ مَنْ خشَى الله تعالى
أتَى منْهُ كلَّ خيرٍ ومَنْ أَمِنَ اجتر على كلِّ شرَ أُمرَ
عليه الصلاة والسلام بأن يخاطبَهُ بالاستفهامِ الذي معناهُ
العرضُ ليستدعيَهُ بالتلطفِ في القولِ ويستنزلَهُ بالمُداراةِ
من عُتوِّهِ وهذا ضربُ تفصيلٍ لقولِه تعالى فَقُولاَ لَهُ
قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى والفاءُ في
قولِه تعالَى
(9/99)
فَأَرَاهُ الْآيَةَ
الْكُبْرَى (20)
فَأَرَاهُ الأية الكبرى
فصيحةٌ تُفصحُ عن جملٍ قد طُويتْ تعويلاً على تفصيلِها في
السورِ الأُخرى فإنه عليه الصلاة والسلام ما أراه اياها عيب
هذا الأمرِ بل بعدَ ما جَرى بينَهُ وبين الله تعالَى ما جَرى
من الاستدعاءِ والإجابةِ وغيرِهما من المراجعاتِ وبعد ما جَرَى
بينَهُ وبينَ فرعونٍ ما جَرَى من المحاوراتِ الى أن قَالَ إِن
كُنتَ جِئْتَ بآية فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين
والإراءةُ إما بمَعْنى التبصيرِ أو التعريفِ فإن اللعينَ حينَ
أبصرَها عرفَها وادعاءُ سحريتها إنَّما كانَ إراءةً منهُ
وإظهاراً للتجلدِ ونسبتُهَا إليه عليه الصلاة والسلام بالنظرِ
إلى الظاهرِ كما أنَّ نسبتَها إلى نونِ العظمةِ في قولِه تعالى
وَلَقَدْ أريناه آياتنا بالنظر
(9/99)
79 سورة النازعات (21 25)
إلى الحقيقةِ والمرادُ بالآية الكُبْرى قلبُ العصَا حيةً وهو
قولُ ابن عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا فإنَّها كانتِ المقدمةَ
والأصلَ والأُخْرَى كالتبع لها أوهما جَميعاً وهو قَولُ مجاهدٍ
فإنَّهما كالآيةِ الواحدةِ وقدْ عبرَ عنهُمَا بصيغةِ الجمعِ
حيثُ قالَ اذهب أَنتَ وأخوك بآياتي باعتبر ما في تضاعيفهما من
بدائع الأمورِ التي كلٌّ منهَا آيةٌ بينةٌ لقومٍ يعقلون كما في
سورة طه ولا مساغَ لحملها على مجموع معجزاتِه فإن ما عدا هاتين
الآيتين من الآيات التسعِ إنما ظهرتْ على يدِه عليه الصلاةُ
والسلامُ بعدَ مَا غلبَ السحرةَ على مهلٍ في نحوٍ من عشرينَ
سنةً كما مرَّ في سورةِ الأعرافِ ولا ريب في أن هذا مطلعُ
القصةِ وأمرُ السحرةِ مترقبٌ بعدُ
(9/100)
فَكَذَّبَ وَعَصَى
(21)
فَكَذَّبَ
بمُوسَى عليهِ السلامُ وسمي معجزاته سِحْراً
وعصى
الله عزَّ وجلَّ بالتمردِ بعدَ ما علَم صحةَ الأمرِ ووجوبَ
الطاعةِ أشدَّ عصيانٍ وأقبحَهُ حيثُ اجترأَ على إنكارِ وجودِ
ربِّ العالمينَ رَأْساً وكان اللعينُ وقومُه مأمورينَ بعبادتِه
عزَّ وجلَّ وتركِ العظيمةِ التي كانَ يدَّعِيها الطاغيةُ
ويقبلُها منهُ فئتُه الباغيةُ لا بإرسالِ بني إسرائيلَ من
الأسرِ والقَسْرِ فقطْ
(9/100)
ثُمَّ أَدْبَرَ
يَسْعَى (22)
ثُمَّ أَدْبَرَ
أي تولَّى عن الطاعةِ أو انصرفَ عنِ المجلسِ
يسعى
أي يجتهدُ في معارضةِ الآيةِ أو أُريدَ ثم أقبلَ أي أنشأَ
يسعَى فوضَع موضعَهُ أدبرَ تحاشياً عن وصفِه بالإقبالِ وقيلَ
أدبرَ هارباً من الثعبانِ فإنَّه روي أنَّه عليه الصلاةُ
والسلامُ لَمَّا ألقَى العَصَا انقلبتْ ثُعباناً أشعَرَ فاغراً
فاهُ بين لَحْيَيهِ ثمانونَ ذراعاً وَضع لَحيَه الأسفلَ عَلى
الأرضِ والأَعْلى على سُورِ القصرِ فتوجَّهَ نحوَ فرعونَ فهربَ
وأحدثَ وانهزم الناس مردحمون فماتَ منهُم خمسةٌ وعشرونَ ألفاً
من قومِه وقيلَ إنها حينَ انقلبتْ حيةً ارتفعتْ في السماءِ
قدرَ ميلٍ ثمَّ انحطتْ مُقبلةً نحوَ فرعونٍ وجعلتْ تقولُ يا
مُوسَى مُرْني بما شئتَ ويقولُ فرعونُ أنشدكَ بالذي أرسلكَ إلا
أخذتَه فأخذَهُ فعادَ عصا ويأباهُ أنَّ ذلكَ كانَ قبلَ الإصرار
على التكذيبِ والعصيانِ والتصدِّي للمعارضة كما يعربُ عنه
قولُه تعالَى
(9/100)
فَحَشَرَ فَنَادَى
(23)
فَحَشَرَ
أي فجمعَ السحرةَ لقولِه فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى المدائن
حاشرين وقوله تعالى فتولى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ أي ما
يُكادُ به من السحرة وآلاتِهم وقيلَ جنودُه ويجوزُ أنْ يرادَ
جميعُ الناسِ
فنادى
في المجمع بنفسه أو بواسطة المُنادِي
(9/100)
فَقَالَ أَنَا
رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)
فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى
قيلَ قامَ فيهم خطيباً فقال تلكَ العظيمةَ
(9/100)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ
نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)
فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الأخرة والأولى
النكالُ بمَعْنى التنكيلِ كالسلامِ بمعنى التسليمِ وهو
التعذيبُ الذي ينكلُ منْ
(9/100)
79 سورة النازعات (26 29)
رآهُ أو سمعَهُ ويمنعُه من تعاطِي ما يُفضِي اله ومحلُّه
النصبُ على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ كوعدَ الله وصبغةَ الله كأنَّه
قيلَ نكَّلَ الله به نكالَ الآخرةِ والأُولى وهو الإحراقُ في
الآخرة والإغراقُ في الدُّنيا وقيلَ مصدرٌ لأخذَ أي أخذَهُ
الله أخذَ نكالِ الآخرةِ الخ وقيلَ مفعولٌ له أي أخذَهُ لأجل
نكالِ الخ وقيلَ نُصب على نزعِ الخافضِ أي أخذَهُ بنكال
الآخرةِ والأولى واضافته الى الداين باعتبار وقوعِ نفسِ الأخذِ
فيهمَا لا باعتبارِ أنَّ ما فيه من معنى المنعِ يكونُ فيهمَا
فإن ذلكَ لا يتصورُ في الآخرةِ بل في الدُّنيا فإن العقوبةَ
الأخرويةَ تنكلُ من سمعَها وتمنعُه من تعاطِي ما يُؤدي إليها
لا محالةَ وقيلَ المرادُ بالآخرةِ والأُولى قولُه أَنَاْ
رَبُّكُمُ الأعلى وقولُه مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى
قيل كان بينَ الكلمتينِ أربعونَ سنةً فالإضافةُ إضافةُ
المسبِّبِ إلى السببِ
(9/101)
إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
إِنَّ فِى ذَلِكَ
أي فيمَا ذُكِرَ من قصة فرعونَ وما فَعَل وما فُعلِ به
لَعِبْرَةً
عظيمةً
لّمَن يخشى
أي لمَنْ مِنْ شأنِه أنْ يخشَى وهو مَنْ مِنْ شأنِه المعرفة
وقوله تعالى
(9/101)
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ
خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)
أأنتم أَشَدُّ خَلْقاً
خطابٌ لأهل مكةَ المنكرين للبعث بناءً على صعوبتِه في زَعْمِهم
بطريقِ التوبيخِ والتبكيتِ بعدَ ما بيّنَ كمالُ سهولتِه
بالنسبةِ إلى قُدرةِ الله تعالى بقولِه تعالى فَإِنَّمَا هِىَ
زَجْرَةٌ واحدة أي أخلقُكُم بعد موتِكم أشدُّ أي أشقُّ وأصعبُ
في تقديرِكم
أَمِ السماء
أي أمْ خلقُ السماءِ على عِظَمِها وانطوائِها على تعاجيبِ
البدائعِ التي تحارُ العقولُ عن ملاحظةِ أدناهَا كقولِه تعالى
لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس وقولِه
تعالى أَوَ لَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن
يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وقولِه تعالى
بناها
الخ بيانٌ وتفصيلٌ لكيفيةِ خلقِها المستفادِ من قولِه أمِ
السماءُ وفي عدمِ ذكرِ الفاعلِ فيه وفيما عُطف عليهِ من
الأفعالِ من التنبيهِ على تعينِه وتفخيمِ شأنِه عزَّ وجلَّ ما
لا يخفى وقوله تعالى
(9/101)
رَفَعَ سَمْكَهَا
فَسَوَّاهَا (28)
رَفَعَ سَمْكَهَا
بيانٌ للبناء أي جعلَ مقدارَ ارتفاعِها من الأرضِ وذهابِها إلى
سمتِ العلوِّ مديداً رفيعاً مسيرةً خمسمائةِ عامٍ
فَسَوَّاهَا
فعلدها مستويةً ملساءَ ليسَ فيها تفاوتٌ ولا فطورٌ أو فتممَها
بما عَلم أنها تتمُّ بهِ من الكواكبِ والتداويرِ وغيرِها مما
لا يعلمُه إلا الخلاَّقُ العليمُ من قولِهم سَوَّى أمرَ فلان
إذا صلحه
(9/101)
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا
وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)
{وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} أي جعلَه مظلماً
يقال غطشَ الليلُ وأغطشَهُ الله تعالَى كما يقالُ ظلَم
وأظلَمَهُ وقد مَرَّ هذا في قولِه تعالى وَإِذَا أَظْلَمَ
عَلَيْهِمْ قَامُواْ ويقال أيضاً أغطشَ الليلُ كما يقالُ أظلمَ
{وَأَخْرَجَ ضحاها} أي أبرزَ نهارَهَا عبرَ عنْهُ بالضُّحىَ
لأنه أشرفُ أوقاتهِ وأطيبُها فكانَ أحقَّ بالذكرِ في مقامِ
الامتنانِ وهو السرُّ في تأخير ذكره عن ذكرِ الليلِ وفي
التعبيرِ عن إحداثهِ بالاخراجِ فإنَّ إضافة النورِ بعد الظلمةِ
أتمُّ في الإنعام
(9/101)
79 سورة النازعات (30 32)
وأكملُ في الإحسانِ وإضافةُ الليلِ والضُّحى إلى السماء لدوران
حدوثهما على حركتهما ويجوز أن تكون إضافة الضحى إليها بواسطةِ
الشمسِ أي أبرزَ ضوءَ شمسِها والتعبيرُ عنه بالضُّحى لأنَّه
وقت قيام سلطانها وكما إشراقِها
(9/102)
وَالْأَرْضَ بَعْدَ
ذَلِكَ دَحَاهَا (30)
والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها
أي بسطَها ومهَّدها لسكْنى أهلِها وتقلبِهم في أقطارِها
وانتصابُ الأرضَ بمضمرٍ يفسرُه دحاهَا
(9/102)
أَخْرَجَ مِنْهَا
مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)
{أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا} بأنْ فجرَ منها
عيوناً وأجْرَى أنهاراً
ومرعاها
أي رعيَها وهو في الأصلِ موضعُ الرَّعِي وقيلَ هو مصدرٌ ميمي
بمعنى مفعول وتجريدُ الجملةِ عن العاطفِ إما لأنَّها بيانٌ
وتفسيرٌ لدحاهَا وتكملةٌ له فإنَّ السكْنى لا تتأتَّى بمجرد
البسطِ والتمهيدِ بلْ لا بدَّ من تسوية أمرِ المعاشِ من
المأكلِ والمشربِ حتماً وإما لأنها حالٌ من فاعلِه بإضمارِ قدْ
عندَ الجمهورِ أو بدونِه عن الكوفيينَ والأخفشِ كما في قولِه
تعالى أَوْ جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ
(9/102)
وَالْجِبَالَ
أَرْسَاهَا (32)
والجبال
منصوبٌ بمضمرٍ يفسرُهُ
أرساها
أي أثبتَها وأثبتَ بها الأرضَ أن تميدَ بأهلِها وهذا تحقيقٌ
للحقِّ وتنبيهٌ على أنَّ الرسوَّ المنسوبَ إليهَا في مواضعَ
كثيرةٍ من التنزيلِ بالتعبيرِ عنها بالرَّوَاسِي ليسَ من
مقتضياتِ ذواتِها بلْ هو بإرسائِه عزَّ وجلَّ ولولاهُ لما
ثبتتْ في أنفسِها فضلاً عنْ إثباتِها للأرضِ وقُرِىءَ والأرضُ
والجبالُ بالرفعِ على الابتداءِ ولعلَّ تقديمَ إخراجِ الماءِ
والمَرْعى ذكراً مع تقدمِ الإرساءِ عليهِ وجُوداً وشدةِ تعلقِه
بالدَّحْوِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بأمرِ المأكلِ والمشربِ
معَ ما فيهِ من دفعِ توهمِ رجوعِ ضميرَيْ الماءِ والمَرْعَى
إلى الجبالِ وهذا كما ترى يدل يظاهره على تأخرِ دحوِ الأرضِ عن
خلقِ السماءِ وما فيهَا كمَا يُروى عن الحسنِ مِنْ أنَّه
تعالَى خَلَقَ الأرضَ فِى موضعِ بيتِ المقدسِ كهيئةِ الفِهْرِ
عليه دخانٌ ملتزقٌ بها ثمَّ أصعدَ الدخانَ وخلقَ منهُ السمواتِ
وأمسكَ الفِهْرَ في موضعِها وبسَط منها الأرضَ وذلكَ قولُه
تعالى كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما الآيةَ وقد مرَّ في سورةِ حم
السجدةِ أنَّ قولَه تعالَى قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ
بالذى خَلَقَ الأرض فِى يَوْمَيْنِ إلى قولِه تعالى ثُمَّ
استوى إِلَى السماء وَهِىَ دُخَانٌ الآيةَ إنْ حُملَ ما فيهِ
من الخلقِ وما عُطف عليهِ من الأفعالِ الثلاثةِ على معانيها
الظاهرةِ لا على تقديرِها فهُو وما في سورةِ البقرةِ من قولِه
تعالى هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً ثُمَّ
استوى إِلَى السماء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات يدلانِ على
تقدم خلقِ الأرضِ وما فيها على خلق السماءِ وما فيها وعليه
إطباقُ أكثرِ أهلِ التفسيرِ وقد رُويَ أنَّ العرشَ كانَ قبلَ
خلقِ السمواتِ والأرضِ على الماء ثم إنه تعالَى أحدثَ في الماء
اضطراباً فأزبدَ فارتفعَ منه دخانٌ فأما الزبدُ فبقيَ على وجه
الماءِ فخلق منه اليُبوسةَ فجعلَه أرضاً واحدةً ثم فتقَها
فجعلَها أرَضينَ وأما الدخانُ فارتفعَ وعلاَ فخلقَ منه
السمواتِ ورُويَ أنَّه تعالَى خلقَ جِرْمَ الأرضِ يومَ الأحدِ
ويومَ
(9/102)
79 سورة النازعات (33 35)
الاثنينِ ودحاهَا وخلقَ ما فيها يومَ الثلاثاءِ ويومَ
الأربعاءِ وخلقَ السمواتِ وما فيهن يومَ الخميسِ ويومَ الجمعةِ
وخلقَ آدمَ عليه السلامُ في آخرِ ساعةٍ منه وهيَ الساعةُ التي
تقومُ فيها القيامةُ فالأقربُ كما قيل تأمويل هذه الآيةِ بأن
يُجعلَ ذلكَ إشارةً إلى ذكِر ما ذُكِرَ من بناءِ السماءِ ورفعِ
سَمِكها وتسويتِها وغيرَها لا إلى أنفسِها ويحمل بعدية في
الذكرِ كما هُو المعهودُ في ألسنة العربِ والعجمِ لا في الوجود
لما عرفتَ من أنَّ انتصابَ الأرضِ بمضمرٍ مقدمٍ قد حُذِفَ على
شريطةِ التفسيرِ لا بما ذُكِرَ بعدَهُ ليفيدَ القصرَ وتتعينَ
البعديةُ في الوجودِ وفائدةُ تأخيرِه في الذكرِ إما التنبيهُ
على أنَّه قاصرٌ في الدلالةِ على القدرة القاهرةِ بالنسبةِ إلى
أحوالِ السماءِ وإما الإشعارُ بأنَّه أدخلُ في الإلزامِ لما
أنَّ المنافعَ المنوطةَ بما في الأرض أكثرُ وتعلقَ مصالحِ
الناسِ بذلكَ أظهرُ وإحاطتَهم بتفاصيلِ أحوالِه أكملُ وليسَ ما
رُويَ عن الحسنِ نصاً في تأخرِ دحوِ الأرضِ عن خلق السماءِ فإن
بسطَ الأرضِ معطوفٌ على إصعادِ الدخانِ وخلقِ السماء بالواو هي
بمعزلٍ من الدلالةِ على الترتيبِ هذا على تقديرِ حملِ ما ذكرَ
في آياتِ سورةِ السجدةِ من الخلقِ وما عُطف عليهِ من الأفعالِ
الثلاثةِ على معانيها الظاهرةِ وأما إذا حُملتْ على تقديرِها
فلا دلالةَ فيها إلا على تقدمِ تقدير الأرضِ وما فيهَا على
إيجاد السماءِ كما لا دلالةَ على الترتيب أصلاً إذا حُملتْ
كلمةُ ثُمَّ فيها وفيمَا في سورةِ البقرةِ على التراخِي في
الرتبةِ وقد سلفَ تفصيلُ الكلامِ في السورةِ المذكورةِ وقوله
تعالى
(9/103)
مَتَاعًا لَكُمْ
وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
متاعا لَّكُمْ ولأنعامكم
إمَّا مفعول له أي فعل ذلكَ تمتيعاً لكُم ولأنعامِكم لأنَّ
فائدةَ ما ذُكرَ من البسط والتميهد وإخراجِ الماءِ والمَرْعى
واصلةٌ إليهم وإلى أنعامِهم فإن المراد المرعى ما يعمُّ ما
يأكلُه الإنسانُ وغيرُه بناءً على استعارةِ الرَّعي لتناولِ
المأكولِ على الإطلاقِ كاستعارةِ المرسنِ للأنفِ وقيلَ مصدرٌ
مؤكِّدٌ لفعلِه المضمرِ أي متَّعكُم بذلكَ متاعاً أو مصدرٌ من
غير لفظه فإن قولَه تعالَى أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا ومرعاها
في معنى متَّع بذلكَ وقوله تعالى
(9/103)
فَإِذَا جَاءَتِ
الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)
فإذا جاءت الطامة الكبرى
أي الداهيةُ العُظمى التي تطمُّ على سائرِ الطاماتِ أي تعلُوها
وتغلبُها وهي القيامةُ أو النفخةُ الثانيةُ وقيلَ هي الساعةُ
التي يساق الخَلائقُ إلى محشرِهم وقيلَ التي يساق أهلُ الجنةِ
إلى الجنةِ وأهلُ النارِ إلى النارِ شروعٌ في بيان أحوالِ
معادِهم إثرَ بيانِ أحوالِ معاشِهم بقولِه تعالى متاعا لَّكُمْ
الخ والفاءُ للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلَها عما قليل
كما يبنى منه لفظُ المتاعِ
(9/103)
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ
الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35)
يوم يتذكر الإنسان ما سعى
قيلَ هو بدلٌ من إذَا جاءتْ والأظهرُ أنه منصوبٌ بأَعْنِي كما
قيلَ تفسيراً للطامةِ الكُبرى فإن الإبدالَ منها بالظرف المحضِ
مما يُوهن تعلقَها بالجوابِ ويجوزُ أن يكونَ بدلاً من الطامةِ
الكُبرى مفتوحاً لإضافتِه إلى الفعلِ على رأي الكوفيينَ أي
يتذكر فيه كل
(9/103)
79 سورة النازعات (36 41)
أحدٍ ما عملَهُ من خيرٍ أو شرَ بأنْ يشاهدَهُ مدوناً في صحيفةِ
أعمالِه وقد كانَ نسيَهُ من فرطِ الغفلةِ وطولِ الأمدِ كقولِه
تعالى أحصاه الله وَنَسُوهُ ويجوزُ أنْ تكونَ ما مصدريةً
(9/104)
وَبُرِّزَتِ
الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36)
وَبُرّزَتِ الجحيم
عطفٌ على جاءتْ أي أظهرتْ إظهاراً بيناً لا يَخْفى على أحدٍ
لِمَن يرى
كائناً من كانَ يُروى أنه يكشف عنها فتتلظى فيرها كلُّ ذي بصرٍ
وقرىء وبُرِزَتْ بالتخفيفِ ولمن رَأَى ولمن ترى على فيهِ ضميرَ
الجحيمِ كما في قوله تعالى إذا رأتهم من مكان بعيد وعلى أنه
خطابٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أي لم تراهُ من الكفارِ
وقولُه تعالى
(9/104)
فَأَمَّا مَنْ طَغَى
(37)
فَأَمَّا مَن طغى
الخ جوابُ فإذَا جاءتْ على طريقةِ قولِه تعالَى فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى الآيةَ وقيلَ هُو تفصيلٌ للجوابِ
المحذوفِ تقديرُه انقسمِ الراؤونَ قسمين فأما فأمَّا من الخ
والذي تستدعيهِ فخامةُ التنزيلِ ويقتضيه مقامُ التهويلِ أنَّ
الجوابَ المحذوفَ كانَ من عظائمِ الشؤن ما لَم تُشاهِدْهُ
العيونُ كما مر في قوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل أي
فأما من عَتا وتمردَ عن الطاعةِ وجاوزَ الحدَّ في العصيانِ
(9/104)
وَآثَرَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا (38)
آثر الحياة الدنيا
الفانيةَ التي هي على جناحِ الفواتِ فانهمكَ فيما متعَ به
فيهَا ولم يستعدَّ للحياةِ الأخرويةِ الأبديةِ بالإيمانِ
والطاعةِ
(9/104)
فَإِنَّ الْجَحِيمَ
هِيَ الْمَأْوَى (39)
فَإِنَّ الجحيم
التي ذُكِرَ شأنُها
هِىَ المأوى
أي هيَ مأواهُ واللامُ سادَّةٌ مسدَّ الإضافةِ للعلمِ بأن
صاحبَ المَأْوى هو الطاغِي كما في قولِكَ غُضَّ الطَّرْفَ
ودخولُ اللامِ في المَأوى والطرفِ للتعريفِ لأنهما معروفانِ
وهيَ إما ضميرُ فصلٍ أو مبتدأٌ قيلَ نزلتِ الآيةُ في النضرِ
وأبيه الحرث المشهورينِ بالغُلوِّ في الكُفرِ والطغيانِ
(9/104)
وَأَمَّا مَنْ خَافَ
مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ
أيْ مقامَهُ بين يَدَيْ مالكِ أمرِه يومَ الطامةِ الكُبرَى
يومَ يتذكرُ الإنسانُ ما سعَى
وَنَهَى النفس عَنِ الهوى
عن الميلِ إليهِ بحكمِ الجبلةِ البشريةِ ولم يعتدَّ بمتاعِ
الحياةِ الدُّنيا وزهرتِها ولم يغترَّ بزخارفِها وزينتِها
علماً منه بوخامة عاقبتِها
(9/104)
فَإِنَّ الْجَنَّةَ
هِيَ الْمَأْوَى (41)
فَإِنَّ الجنة هِىَ المأوى
لهُ لا غيرُهَا وقيلَ نزلت الآياتان في أبِي عزيزِ بنِ عميرٍ
ومصعب بنِ عميرٍ وقد قتلَ مصعبٌ أخاهُ أبا عزيزٍ يومَ أحدٍ
ووقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استُشهدَ رضيَ الله
عنْهُ هذا وقد قيلَ جوابُ إذَا مَا يدلُّ عليهِ قولُه تعالَى
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الخ أيْ فإذَا جاءتِ الطامةُ الكُبْرى
يتذكرُ الإنسانُ ما سَعَى على طريقة
(9/104)
79 سورة النازعات (42 45)
قولِه تعالَى عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ وقوله تعالى
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ فيكونُ قولُه
تعالَى وَبُرّزَتِ الجحيم عطفاً عليهِ وصيغةُ الماضِي للدلالةِ
على التحققِ أو حالاً من الإنسانِ بإضمارِ قدْ أو بدونِه على
اختلافِ الرأيينِ ولمنْ يَرَى مغنٍ عن العائدِ وقولُه تعالى
فَأَمَّا مَن طغى الخ تفصيلاً لحالَيْ الإنسانِ الذي يتذكرُ ما
سَعَى وتقسيماً لهُ بحسبِ أعمالِه إلى القسمينِ المذكورين
(9/105)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42)
يسألونك عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها
مَتَى إرساؤُها أي إقامتُها يردون متى يقيمُها الله تعالَى
ويثبتها ويكونها وقيل أيام مُنتهاهَا ومُستقرهَا كما أنَّ
مَرسى السفينةِ حيثُ تنتهي إليهِ وتستقرُّ فيهِ وقولُه تعالى
(9/105)
فِيمَ أَنْتَ مِنْ
ذِكْرَاهَا (43)
فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا
إنكارٌ وردٌّ لسؤالِ المشركينَ عنْهَا أيْ في أيِّ شيءٍ أنت من
تذكرَ لهُم وقتَها وتعلمهم بهِ حَتَّى يسألُونكَ بيانَها كقوله
تعالى يسألونك كأنك خفي عَنْهَا أي ما أنتَ من ذكرها لهُم
وتبيينِ وقتِها في شيءٍ لأنَّ ذلكَ فرعُ علمكَ به وأنَّى لكَ
ذلكَ وهو مما استأثرَ بعلمه علامُ الغيوبِ ومن قال بصدد
التعليل فإنَّ ذكرها لا زيدهم إلا غياً فقد نَأَى عن الحقِّ
وقيلَ فيمَ إنكارٌ لسؤالهم وما بعدَهُ من الاستئنافِ تعليلٌ
للإنكار وبيانٌ لبطلان السؤالِ أيْ فيمَ هذا السؤالُ ثمَّ
ابتُدِىءَ فقيلَ أنتَ من ذكراه أي إرسالُك وأنتَ خاتمُ
الأنبياءِ المبعوثُ في نسيم الساعةِ علامةٌ من علاماتِها
ودليلٌ يدُلُّهم على العلمِ بوقُوعِها عن قريبٍ فحسبُهم هذه
المرتبةُ من العلمِ فمَعْنى قولِه تعالى
(9/105)
إِلَى رَبِّكَ
مُنْتَهَاهَا (44)
إلى رَبّكَ منتهاها
على هذا الوجهِ إليهِ تعالَى يرجع متهى علمِها أيْ علمُها
بكُنهِها وتفاصيل أمرها ووقت وقوعِها لا إلى أحدٍ غيرِه وإنما
وظيفتُهم أنْ يعلموا باقترابها ومشارفتا وقدْ حصلَ لهم ذلكَ
بمبعثكَ فما مَعْنى سؤالِهم عنها بعدَ ذلك وأمَّا على الوجهِ
الأولِ فمعناهُ إليهِ تعالَى انتهاءُ علمِها ليسَ لأحدٍ منه
شيءٌ ما كائناً من كانَ فلأيِّ شيءٍ يسألونَكَ عنها وقولُه
تعالى
(9/105)
إِنَّمَا أَنْتَ
مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)
إنما أنت منذر من يخشاها
على الوجه الأولِ تقريرٌ لما قبلَهُ من قوله تعالى فِيمَ أَنتَ
مِن ذِكْرَاهَا وتحقيقٌ لما هُو المرادُ منه وبيانٌ لوظيفتِه
عليه الصلاةُ والسلامُ في ذلكَ الشأنِ فإنَّ إنكارَ كونهِ
عليهِ الصلاةُ والسلامُ في شيءٍ من ذِكراهَا مما يُوهمُ
بظاهرِه أنْ ليسَ له عليهِ الصلاةُ والسلامُ أنْ يذكرَها بوجهٍ
من الوجوهِ فأُزيحَ ذلكَ ببيانِ أنَّ المنفَى عنه عليه الصلاة
والسلام ذكرُهَا لهم بتعيينِ وقتِها حسبَما كانُوا يسألونَهُ
عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عنهَا فالمَعْنى إنما أنت منذر من
يخشاهَا وظيفتُكَ الامتثالُ بما أمرت به من بيانِ اقترابِها
وتفصيلِ ما فيها من فنُون الأهوالِ كما تحيطُ به خبراً لا
تعيينِ وقتِها الذي لم يُفوضْ إليكَ فما لهم يسألونَكَ عمَّا
ليسَ من وظائِفكَ بيانُه وعلى
(9/105)
79 سورة النازعات (46)
الوجهِ الثانِي هو تقريرٌ لقولِه تعالى أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا
ببيانِ أنَّ إرسالِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو خاتمُ
الأنبياءِ عليهم السلامُ منذرٌ بمجيءِ الساعةِ كما ينطقُ به
قولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعثتُ أنَا والساعة كهاتي إنْ
كادتْ لتسبقُني وقُرِىءَ منذرٌ بالتنوينِ وهو الأصلُ والإضافةُ
تخفيفٌ صالحٌ للحالِ والاستقبالِ فإذا أُريدَ الماضِي تعينتِ
الإضافةُ وتخصيصُ الإنذارِ بمن يخشَى مع عمومِ الدعوةِ لأنَّه
المنتفعُ بهِ وقولُه تعالى
(9/106)
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا
(46)
كأنهم يوم يرونها لم يَلْبَثُواْ إِلاَّ
عَشِيَّةً أَوْ ضحاها
إما تقريرٌ وتأكيدٌ لما ينبىءُ عنه الإنذارُ من سرعة مجيءِ
المُنذَر بهِ لا سيَّما على الوجهِ الثَّانِي أيْ كأنَّهم يوم
يرونها لم يلبثوا بعد الإنذار بها إلا عشيةَ يومٍ واحدٍ أو
ضحاهُ فلما تُركَ اليومُ أضيفَ ضُحاه إلى عشيتِه وإمَّا ردٌّ
لمَا أدمجُوه في سؤالِهم فإنَّهم كانُوا يسألونَ عنها بطريق
الاستبطاءِ مستعجلينَ بها وإنْ كانَ على نهجِ الاستهزاءِ بهَا
وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين فالمَعْنى
كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعدَ الوعيدِ تحقيقاً للإنذارِ
وردًّا لاستبطائِهم والجملةُ على الأولِ حالٌ من الموصولِ
فإنَّه على تقديرَيْ الإضافةِ وعدمِها مفعولٌ لمنذرُ كما أنَّ
قولَه تعالى كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّنَ
النهار حالٌ من ضميرِ المفعولِ في يحشرُهم أي يحشرهم مشبيهن
بمن لم يلبثْ في الدُّنيا إلا ساعةً خلا أن الشبهَ هناكَ في
الأحوالِ الظاهرةِ من الزيِّ والهيئةِ وفيمَا نحنُ فيه في
الاعتقاد كأنَّه قيلَ تنذرُهم مشبهينَ يومَ يَرَونها في
الاعتقادِ بمن لم يلبثْ بعد الإنذارِ بها إلا تلك المدةَ
اليسيرةَ وعلى الثانِي مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ عن
رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة النازعات كانَ
ممن حبسَهُ الله عزَّ وجلَّ في القبرِ والقيامةِ حتى يدخلَ
الجنةَ قدرَ صلاةٍ مكتوبةٍ والله أعلم
(9/106)
80 سورة عبس (1 3)
سورة عبس مكية وآياتها اثنان وأربعون
بسم الله الرحمن الرحيم
(9/107)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)
أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)
عَبَسَ وتولى
أَن جَاءهُ الأعمى
رُويَ أنَّ ابنَ أمِّ مكتومٍ واسمُه عبدُ اللَّه بنُ شُريحِ
بنِ مالكِ بنِ أبي ربيعةَ الفهريُّ وأمُّ مكتومٍ اسمُ أم أبيهِ
أتَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعندَهُ صناديدُ قريشٍ
عتبةُ وشيبةُ ابنا ربيعةَ وأبُو جهل بنُ هشامٍ والعباسُ بنُ
عبدِ المطلبِ وأميةُ بنُ خلفٍ والوليدُ بنُ المغيرةِ يدعُوهم
إلى الإسلامِ رجاءَ أنْ يسلمَ بإسلامِهم غيرُهم فقالَ له يا
رسولَ الله أقرئْنِي وعلمنِي مما علمكَ الله تعالَى وكررَ ذلكَ
وهو لا يعلمُ تشاغلَهُ عليه الصلاةُ والسلامُ بالقوم فكرِه
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس اعرض عنه
فنزلتْ فكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يكرمُه ويقولُ إذا
رآه مرحباً بمن عاتبَني فيه ربِّي ويقولُ لهُ هل لكَ من حاجةٍ
واستخلفَهُ على المدينة مرتينِ وقرىء عبَّس بالتشديدِ
للمبالغةِ وأنْ جاءَهُ علةٌ لتولَّى أو عَبَس على اختلافِ
الرأيينِ أيْ لأَنْ جاءَهُ الأعمى والتعرضُ لعنوانِ عماهُ
إمَّا لتمهيدِ عُذرِه في الإقدامِ على قطعِ كلامِه عليه
الصَّلاة والسَّلام بالقومِ والإيذانِ باستحقاقه بالرفق
والرأفة وما لزيادةِ الإنكارِ كأنَّه قيلَ تولَّى لكونِه
أَعْمى كما أنَّ الالتفاتَ في قولِه تعالى
(9/107)
وَمَا يُدْرِيكَ
لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)
وَمَا يُدْرِيكَ
لذلكَ فإنَّ المشافهةَ أدخلُ في تشديدِ العتابِ أيْ وأيُّ شيءٍ
يجعلُكَ دارياً بحالِه حتى تُعرضَ عنْهُ وقولُه تعالى
لَعَلَّهُ يزكى
استئنافٌ واردٌ لبيانِ ما يلوحُ به ما قبلَه فإنه معَ إشعارِه
بأنَّ له شأناً منافياً للإعراضِ عنه خارجاً عن درايةِ الغيرِ
وادرائِه مؤذنٌ بأنه تعالَى يُدريه ذلكَ أي لعلَّه يتطهرُ بما
يقتبسُ منكَ من أوضارِ الأوزارِ بالكليةِ وكلمةُ لعلَّ مع
تحققِ التزكِّي واردةٌ على سَننِ الكِبْرِياء أو على اعتبارِ
مَعْنى الترجِّي بالنسبةِ إليه عليه الصلاةُ والسلامُ للتنبيه
على أن الإعراضَ عنه عند كونِه مرجوَّ التزكِّي مما لا يجوزُ
فكيفَ إذا كان مقطوعاً بالتزكِّي كما في قولِك لعلَّك ستندمُ
على ما فعلتَ وفيه إشارةٌ إلى أنَّ من تصدَّى لتزكيتهم من
الكفرة لا يُرجى منهم التزكِّي والتذكر أصلا
(9/107)
80 سورة عبس (4 11)
وقولُه تعالى
(9/108)
أَوْ يَذَّكَّرُ
فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)
(أَوْ يَذَّكَّرُ
عطفٌ على يزكَّى داخلٌ معه في حكم الترجِّي وقولُه تعالَى
فَتَنفَعَهُ الذكرى
بالنصب على جواب لعلَّ وقرىء بالرفع عطفا على يذكَّرُ أي أو
يتذكرُ فتنفعُه موعظتُك إنْ لم يبلغْ درجةَ التزكِّي التامِّ
وقيلَ الضميرُ في لعلَّه للكافر فالمَعْنى أنك طمعتَ في أنْ
يتزكَّى أو يذكرَ فتقربُه الذكرَى إلى قبولِ الحقِّ ولذلكَ
توليتَ عن الأَعْمى وما يُدريكَ أن ذلكَ مرجُّوُ الوقوعِ
(9/108)
أَمَّا مَنِ
اسْتَغْنَى (5)
أَمَّا مَنِ استغنى
أي عن الإيمان وعما عندك من العلومِ والمعارفِ التي ينطوي
عليها القرآنُ
(9/108)
فَأَنْتَ لَهُ
تَصَدَّى (6)
فَأَنتَ لَهُ تصدى
أي تتصدَّى وتتعرضُ بالإقبالِ عليهِ والاهتمامِ بإرشادِه
واستصلاحِه وفيه مزيدُ تنفيرٍ له عليه الصلاةُ والسلامُ عن
مصاحبتِهم فإن الإقبالَ على المُدبرِ ليسَ من شيمِ الكبارِ
وقُرِىءَ تصَّدَّى بإدغامِ التَّاءِ في الصَّادِ وقُرِىءَ
تُصدى بضمِّ التاءِ أيْ تُعرضُ ومعناهُ يدعوكَ إلى التصدِّي له
داعٍ من الحرص والتهالكُ على إسلامِه
(9/108)
وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا
يَزَّكَّى (7)
وما عليك ان لا يزكى
وليسَ عليكَ بأسٌ في أن لا يتزكى بالإسلام حتَّى تهتمَّ بأمره
وتعرضَ عمَّن أسلمَ والجملةُ حالٌ من ضمير تصدى وقيل ما
استفهامية للإنكار أيْ أيُّ شيء عليك في أن لا يتزكى ومآله
النفيُ أيضاً
(9/108)
وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ
يَسْعَى (8)
وَأَمَّا مَن جَاءكَ يسعى
أيْ حالَ كونِه مسرعاً طالباً لما عندكَ من أحكام الرشدِ
وخصالِ الخيرِ
(9/108)
وَهُوَ يَخْشَى (9)
وَهُوَ يخشى
أي الله تعالَى وقيلَ يخشَى أذيةَ الكفارِ في إتيانِك وقيلَ
يخشى الكبوةَ إذ لم يكن معهُ قائدٌ والجملةُ حال من فاعل يعسى
كما أنه حالٌ من فاعل جاءك
(9/108)
فَأَنْتَ عَنْهُ
تَلَهَّى (10)
فَأَنتَ عَنْهُ تلهى
تتشاغلُ يقالُ لَهَى عنه والتهِى وتَلهَّى وقُرِىءَ تتلهى
وتلهى أي يُلهيك شأنُ الصناديدِ في تقديم ضميرِه عليه الصلاةُ
والسلام على الفعلين تبيه على أنَّ مناطَ الإنكارِ خصوصيتُه
عليه الصلاةُ والسلامُ أي مثلُك خصوصاً لا ينبغِي أن يتصدَّى
للمستغنِي ويتلهَّى الفقيرَ الطالبَ للخيرِ وتقديمُ لَه وعنْهُ
للتعريض باهتمامه عليه الصلاةُ والسلامُ بمضمونهما رُويَ أنه
عليه الصلاةُ والسلامُ ما عبسَ بعذ ذلكَ في وجهِ فقيرٍ قط ولا
تصدَّى لغنى
(9/108)
كَلَّا إِنَّهَا
تَذْكِرَةٌ (11)
كلا
(9/108)
80 سورة عبس (12 15) ردع له عليه الصلاة
والسلامُ عمَّا عُوتبَ عليهِ من التصدِّي لمن استغنَى عمادعاه
إليهِ من الإيمانِ والطاعةِ وما يوجبهُما من القرآنِ الكريمِ
مبالغاً في الاهتمامِ بأمره متهالكا على إسلامِه معرضاً بسببِ
ذلكَ عن إرشادِ من يسترشدُه وقولُه تعالى
إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ أي موعظةٌ يجبُ أن يتعظَ بها ويعملَ
بموجبِها تعليلٌ للردعِ عما ذُكِرَ ببيانِ علوِّ رتبةِ القرآنِ
العظيمِ الذي استغنى عنه من تصدَّى عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ
لهُ وتحقيقُ أن شأنه أن يكونُ موعظةً حقيقةً بالاتعاظِ بها فمن
رغبَ فيها اتَّعظَ بها كما نطقَ به قولُه تعالى
(9/109)
فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ
(12)
فَمَن شَاء ذَكَرَهُ أي حفظَهُ واتَّعظَ
بهِ ومن رغبَ عنهَا كما فعلَ المستغنيُّ فلا حاجةَ إلى
الاهتمامِ بأمرِه فالضميرانِ للقرآنِ تأنيث الأولُ لتأنيثِ
خبرِه وقيلَ الأولُ للسورةِ أو للآياتِ السابقةِ والثانِي
للتذكرةِ والتذكيرِ لأنها في مَعْنى الذكرِ والوعظ وليس بذاك
فإن السورةَ والآياتِ وإن كانتْ متصفةً بما سيأتِي من الصفاتِ
الشريفةِ لكنها ليستْ مما أُلقي على من استغنى عنه واستحقَ
بسببِ ذلكَ ما سيأتِي من الدعاءِ عليهِ والتعجبِ من كفرِه
المفرطِ لنزولِها بعد الحادثةِ وأما من جوَّز رجوعَهما إلى
العتابِ المذكورِ فقد أخطأَ وأساءَ الأدبَ وخبطَ خبطاً يقضي
منه العجبُ فتأمَّل وكُن على الحقِّ المبينِ وقولُه وتعالى
(9/109)
فِي صُحُفٍ
مُكَرَّمَةٍ (13)
فَى صُحُفٍ متعلقٌ بمضمرٍ هُو صفةٌ لتذكرةٌ
وما بينهما اعتراضٌ جيءَ به للترغيبِ فيها والحثِّ على حفظِها
أي كائنةٌ في صحفٍ منتسخةٍ من اللوحِ أو خبرٌ ثانٍ لأنَّ
مُّكَرَّمَةٍ عندَ الله عزَّ وجلَّ
(9/109)
مَرْفُوعَةٍ
مُطَهَّرَةٍ (14)
مَّرْفُوعَةٍ أي في السماءِ السابعةِ أو
مرفوعةِ المقدارِ والذكرِ
مُّطَهَّرَةٍ منزهةٍ عن مساسِ أيدِي الشياطينِ
(9/109)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ
(15)
بِأَيْدِى سَفَرَةٍ أي كتبةٍ من الملائكةِ
ينتسخونَ الكتبَ من اللوحِ على أنه جمعُ سافرٍ من السفرِ وهو
الكتبِ وقيل بأيدِي رسلٍ من الملائكةِ يسفرونَ بالوحْي بينَهُ
تعالَى وبين الأنبياءِ على أنه جمعُ سفيرٍ من السفارةِ وحملُهم
على الأنبياءِ عليهم السلامُ بعيدٌ فإن وظيفتَهم التلقِّي من
الوَحْي لا الكتبُ منه وإرشادُ الأمةِ بالأمرِ والنَّهي
وتعليمُ الشرائعِ والأحكامِ لا مجردُ السفارةِ إليهم وكذَا
حملُهم على القراءِ لقراءتِهم الأسفارَ أو على أصحابِه عليه
الصلاةُ والسلامُ وقد قالُوا هذه اللفظةُ مختصةٌ بالملائكةِ لا
تكادُ تطلقُ على غيرِهم وإن جازَ الإطلاقُ بحسبِ اللغةِ
والباءُ متعلقةٌ بمطهرةٍ قال القَفَّالُ لما لم يمسَّها إلا
الملائكةُ المطهرونَ أضيفَ التطهيرُ إليها لطهارة من يمسُّها
وقال القرطبيُّ إن المرادَ بما في قوله تعالى لاَ يَمَسُّهُ
إِلاَّ المطهرون هؤلاء السفرةُ الكرامُ البررة
(9/109)
سورة عبس (16 23)
(9/110)
كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
كِرَامٍ عند الله عزَّ وجلَّ أو متعطفينَ
على المؤمنين يكلمونهم ويستغفرونَ لهم
بَرَرَةٍ أتقياءَ وقيل مطيعينَ لله تعالى من قولهم فلانٌ يبرُّ
خالقه أي يطيعه وقيل صادقينَ من برَّ في يمينه
(9/110)
قُتِلَ الْإِنْسَانُ
مَا أَكْفَرَهُ (17)
قُتِلَ الإنسان دعاءٌ عليه بأشنعِ الدعواتِ
وقوله تعالى
مَا أَكْفَرَهُ تعجبٌ من إفراطه في الكفران وبيانٌ لاستحقاقِه
للدعاءِ عليه والمرادُ به إمَّا من استغنَى عن القُرآن الكريمِ
الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة للإقبال عليه والإيمان به
وإما الجنسُ باعتبار انتظامه له ولأمثاله من أفراده لا باعتبار
جميعِ أفرادِه وفيه مع قصرِ متنه وتقاربِ قُطريه من الإنباءِ
عن سخطٍ عظيمٍ ومذمةٍ بالغة مالا غايةَ وراءَهُ وقولُه تعالَى
(9/110)
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ
خَلَقَهُ (18)
مِنْ أَىّ شَىْء خَلَقَهُ شروعٌ في بيانِ
إفراطِه في الكفرانِ بتفصيلِ ما أفاضَ عليه من مبدأ فطرتِه إلى
مُنْتهَى عمرِه من فُنونِ النعمِ الموجبةِ بالشكرِ والطاعةِ مع
إخلالِه بذلكَ وفي الاستفهامِ عن مبدأ خلقِه ثم بيانِه بقولِه
تعالى
(9/110)
مِنْ نُطْفَةٍ
خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)
مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ تحقيرٌ له أيِّ
شيءٍ حَقيرٍ مهينٍ خلقه من نطفة قدرة خلقَهُ
فَقَدَّرَهُ فهيَّأهُ لما يصلحُ لهُ ويليقُ به من الأعضاءِ
والأشكالِ أو فقدَّرَهُ أطْواراً إلى أنْ تمَّ خلقُه وقولُه
تعالَى
(9/110)
ثُمَّ السَّبِيلَ
يَسَّرَهُ (20)
ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ منصوبٌ بمُضمرٍ
يفسرُهُ الظاهرُ أيْ ثم سهَّلَ مخرجَهُ من البطن بأن فتح فتحَ
فمَ الرحمِ وألهمَهُ أنْ ينتكسَ أو يسرَ له سبيلَ الخيرِ
والشرِّ ومكنه من السلوك وتعريفُ السبيلِ باللامِ دونَ
الإضافةِ للإشعارِ بعمومِه
(9/110)
ثُمَّ أَمَاتَهُ
فَأَقْبَرَهُ (21)
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ أي جعلَهُ
ذَا قبرٍ يُوارَى فيه تكرمةً لهُ ولم يدعْهُ مطروحاً على وجهِ
الأرض جرزا للسباعِ والطير كسائرِ الحيوانِ يقالُ قبرَ الميتَ
إذَا دفنَهُ وأقبرَهُ إذا أمرَ بدفنِه أو مكنَ منْهُ وعَدُّ
الإماتةِ من النعمِ لأنَّها وصلةٌ في الجُملةِ إلى الحياةِ
الأبديةِ والنعيمِ المقيمِ
(9/110)
ثُمَّ إِذَا شَاءَ
أَنْشَرَهُ (22)
ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ أي إذا شاء
أنشره وأنشر على القاعدةُ المستمرةُ في حذفِ مفعولِ المشيئةِ
وفي تعليقِ الإنشارِ بمشيئتِه تعالى إيان بأنَّ وقتَهُ غيرُ
متعينٍ بلْ هُو تابعٌ لهَا وقُرِىءَ نَشَرهُ
(9/110)
كَلَّا لَمَّا يَقْضِ
مَا أَمَرَهُ (23)
كلا ردع للإنسان
(9/110)
سورة (24 27) عمَّا هو عليه وقولُه تعالى
لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ بيانٌ لسبب الرَّدعِ أي لم يقضِ
بعدُ من لدُنْ آدمَ عليهِ السَّلامُ إلى هذه الغايةِ مع طولِ
المَدَى وامتدادِه ما أمرَهُ الله تعالَى بأسرِه إذْ لا يخلُو
أحد عن تقصير ما كذا قالُوا وهكَذا نُقلَ عن مجاهدٍ وقَتَادَةَ
ولا ريبَ في أنَّ مساقَ الآياتِ الكريمةِ لبيان غاية عظم
جنايةِ الإنسانِ وتحقيقِ كُفرانِه المفرطِ المستوجب للسخطِ
العظيمِ وظاهرٌ أنَّ ذلكَ لا يتحققُ بهذا القدرِ من نوع تقصير
لايخلو عنْهُ أحدٌ من أفرادِه كيفَ لا وقَدْ قالَ عليهِ
الصَّلاةُ والسَّلامُ شيَّبتني سورةُ هودٍ لمَا فيهَا من قولِه
تعالى فاستقمْ كَما أُمرتَ فالوجُه أنْ يحملَ عدمُ القضاءِ على
عمومِ النفي لا على نفي العمومِ إمَّا عَلى أنَّ المحكومَ
عليهِ هُو المستغني أو هو الجنسُ لكنْ لا عَلى الإطلاقِ بَلْ
على أنَّ مصداقَ الحكمِ بعدمِ القضاءِ بعضُ أفرادِه وقد أُسندَ
إلى الكُلِّ كَما في قولِه تعالى إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ
كَفَّارٌ للإشباعِ في اللومِ بحكمِ المجانسةِ على طريقةِ
قولِهم بنُو فلان قتلُوا فلاناً والقاتلُ واحدٌ منهم وإمَّا
على أنَّ مصداقَهُ الكلُّ من حيثُ هو كلٌّ بطريقِ رفعِ
الإيجابِ الكليِّ دونَ السلبِ الكليِّ فالمَعْنى لَمَّا يقضِ
جميعُ أفرادِه ما أمرَهُ بل أخلَّ به بعضُها بالكفرِ والعصيانِ
مع أنْ مُقتضَى ما فُصل من فنون النعماءِ الشاملةِ للكلِّ أنْ
لا يتخلفُ عنه أحدٌ أصلاً هذا وقد قيلَ كلاَّ بمَعْنى حقاً
فيتعلقُ بما بعدَهُ أي حقَّاً لم يعملْ بِما أمرَهُ به
(9/111)
فَلْيَنْظُرِ
الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)
فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ شروعٌ
في تعدادِ النعمِ المتعلقةِ ببقائِه بعد تفصيلِ النعمِ
المتعلقةِ بحدوثِه أي فلينظرْ إلى طعامِه الذي عليه يدورُ أمرُ
معاشهِ كيفَ دبرنَاهُ وقولُه تعالى
(9/111)
أَنَّا صَبَبْنَا
الْمَاءَ صَبًّا (25)
أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبّاً أي الغيثَ
بدلُ اشتمالٍ من طعامِه لأنَّ الماءَ سببٌ لحدوثِ الطعامِ فهُو
مشتَملٌ عليهِ وقُرِىءَ إنَّا على الاستئنافِ وقُرِىءَ أنى
بالإمالةِ أي كيفَ صببَنا إلى آخرِه أي صببنَاهُ صبا عجبا
(9/111)
ثُمَّ شَقَقْنَا
الْأَرْضَ شَقًّا (26)
ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض أي بالنباتِ
شَقّاً بديعاً لائقاً بما يشقُّها من النباتِ صِغَراً وكِبرَاً
وشكلاً وهيئةً وحملُ شقِّها على ما بالكرابِ بجعلِ إسنادِه إلى
نونِ العظمةِ من قبيلِ إسنادِ الفعلِ إلى سببِه يأباهُ كلمةُ
ثمَّ والفاءُ في قولِه تعالى
(9/111)
فَأَنْبَتْنَا فِيهَا
حَبًّا (27)
فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً فإنَّ الشقَّ
بالمَعْنى المذكور لا ترتبَ بينَهُ وبين الأمطارِ أصلاً ولا
بينَهُ وبينَ إنبات الحب بلا فإنَّ المرادَ بالنبات ما نبتَ من
الأرضِ إلى أن يتكامل النمو وينقعد الحبُّ فإنَّ انشقاقَ
الأرضِ بالنباتِ لا يزالُ يتزايدُ ويتسعُ إلى تلكَ المرتبةِ
على أنَّ مَساقَ النظمِ الكريمِ لبيانِ النعمِ الفائضةِ من
جنابهِ تعالى على وجهٍ بديعٍ خارجٍ عن العادات المعهودة كما
ينبىءُ عنه تأكيدُ الفعلينِ بالمصدرينِ فتوسيطُ فعلِ المنعمِ
عليهِ في حصولِ تلك النعمِ مخلٌّ بالمرامِ
(9/111)
سورة عبس (28 34) وقوله تعالى
(9/112)
وَعِنَبًا وَقَضْبًا
(28)
وَعِنَباً عطفٌ على حباً وليسَ من لوازم
العطفِ أنْ يُقيدَ المعطوفُ بجميع ما قُيِّد به المعطوفُ عليه
فلا ضيرَ في خُلوِّ إنباتِ العنبِ عن شقِّ الأرضِ
وَقَضْباً أي رطبة سُميتْ بمصدرِ قضَبهُ أي قطَعهُ مبالغةً
كأنَّها لتكرر قطعِها وتكثرِه نفسُ القطعِ
(9/112)
وَزَيْتُونًا
وَنَخْلًا (29)
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً الكلامُ فيهما وفي
أمثلهما كما في العنبِ
(9/112)
وَحَدَائِقَ غُلْبًا
(30)
وَحَدَائِقَ غُلْباً أي عظاماً وصفَ به
الحدائقُ لتكاثفها وكثرةِ أشجارِها أو لأنَّها ذات أشجارِها أو
لأنَّها ذاتُ أشجارٍ غلاظٍ مستعارٌ من وصفِ الرقابِ
(9/112)
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا
(31)
وفاكهة وَأَبّاً أي مَرْعى من أبَّه إذَا
أمَّه أي قصَدُه لأنَّه يُؤمُ ويُنتجعُ أو منْ أبَّ لكذا إذا
تهيأ لأنه متهيء للرَّعِي أو فاكهةً يابسةً تؤبُ للشتاءِ وعن
الصدِّيقِ رضيَ الله عنه أنه سُئلَ عن الأبِّ فقالَ أيُّ سماءٍ
تُظلِني وأيُّ أرضٍ تُقِلَني إذَا قلتُ في كتاب الله مالا علَم
لى بهِ وعن عمر رضيَ الله عنه أنَّه قرأَ هذه الآيةَ فقالَ
كلُّ هذا قد عرفَنا فَما الأبُّ ثم رفض عصاً كانتْ بيدِه وقالَ
هَذا لعَمْرُ الله التكلفُ وما عليكَ يا ابنَ أُمِّ عمرَ أنْ
لا تدريَ ما الأبُّ ثم قالَ اتبعُوا ما تبينَ لكُم من هذا
الكتابِ ومالا فدعُوه
(9/112)
مَتَاعًا لَكُمْ
وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
متاعا لَّكُمْ ولأنعامكم إمَّا مفعول له أي
فعل ذلكَ تمتيعاً لكُم ولمواشيكُم فإنَّ بعضَ النعمِ المعدودةِ
طعامٌ لهم وبعضَها علفٌ لدوابِّهم والالتفاتُ لتكميل الامتنانِ
وإمَّا مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعله المضمرِ بحذف الزوائدة أي متعكم
بذلك متاعا أو لفعلٍ مترتبٍ عليهِ أي متعكم بذلك فتمتعتُم
متاعاً أي تمتعا كما مر غيره مرةٍ أو مصدرٌ من غير لفظهِ فإنَّ
ما ذُكر من الأفعالِ الثلاثةِ في مَعْنى التمتيعِ
(9/112)
فَإِذَا جَاءَتِ
الصَّاخَّةُ (33)
فَإِذَا جَاءتِ الصاخة شروعٌ في بيان
أحوالِ معادهم إثرَ بيانِ مبدأِ خلقِهم ومعاشِهم والفاءُ
للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها من فُنون النعمِ عن
قريب كما يشعرُ لفظُ المتاعِ بسرعة زَوَالِها وقربِ اضمحلالِها
والصاخةُ هي الداهيةُ العظيمةُ التي يصخُّ لها الخلائقُ أي
يصيخونَ لها من صخَّ لحديثِه إذا أصاخَ له واستمتع وصفتْ بها
النفخةُ الثانيةُ لأنَّ الناسَ يصيخُونَ لها وقيل هي الصيحةُ
التي تصخُّ الآذانَ أي تصمَّها لشدةِ وقعِها وقيلَ هي مأخوذةٌ
من صخَّهُ بالحجرِ أي صكَّهُ وقولُه تعالى
(9/112)
يَوْمَ يَفِرُّ
الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)
يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ
(9/112)
سورة عبس (35 41)
أَخِيهِ
(9/113)
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ
(35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)
وأمِّه وَأَبِيهِ
وصاحبتِه وبنيه وإما منصوبٌ بأعِني تفسيراً للصاخَّة أو بدلٌ
منها مبنيٌّ على الفتحِ بالإضافةِ إلى الفعل على رأي الكوفيين
وقيلَ بدلٌ من إذَا جاءتْ كما مرَّ في قوله تعالى يوم يتذكر
الخ أي يعرضُ عنُهم ولا يصاحبُهم ولا يسألُ عن حالِهم كما في
الدُّنيا لاشتغالِه بحالِ نفسِه وأمَّا تعليلُ ذلكَ بعلمِه
بأنهم لايغنون عنه شيئاً أو بالحذرِ من مطالبتِهم بالتبعاتِ
فيأباهُ قولُه تعالى
(9/113)
لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
لِكُلّ امرىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ
يُغْنِيهِ فإنَّه استئنافٌ واردٌ لبيانِ سببِ الفرارِ أي
لكُلِّ واحدٍ من المذكورينَ شغلٌ شاغلٌ وخطبٌ هائلٌ يكفيِه في
الاهتمامِ به وأما الفرار حذار من مطالبتِهم أو بُغضاً لهُم
كَما يُروَى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهُمَا أنَّه يفرُّ
قابيلُ من أخيِه هابيلَ ويفر النبي صلى النبيِّ صلَّى الله
عليهِ وسلم منْ أُمِّه ويفرُّ إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ من
أبيهِ ونوحٌ عليهِ السَّلامُ من ابنِه ولوطٌ عليهِ السَّلامُ
من امرأتِه فليسَ من قبيلِ هذا الفرارِ وكَذا مَا يُروَى أنَّ
الرجلَ يفرُّ من أصحابِه وأقربائِه لئلاَّ يَروَه على ما هُو
عليهِ من سُوءِ الحالِ وقُرِىءَ يَعْنِيه بالياءِ المفتوحةِ
والعينِ المُهملةِ أي يُهمَّهُ من عناهُ الأمرُ إذا أهمَّه أي
أوقعَهُ في الهمِّ ومنْهُ منْ حُسنِ إسلامِ المرءِ تركُه مالا
يعنيه لامن عناهُ إذا قصدَهُ كما قيلَ وقولُه تعالى
(9/113)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
مُسْفِرَةٌ (38)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ بيانٌ لما
أمرِ المذكورينَ وانقسامِهم إلى السعداءِ والأشقياءِ بعد ذكرِ
وقوعِهم في داهيةٍ دهياءَ فوجوهٌ مبتدأٌ وإنْ كانتْ نكرةً
لكونِها في حيزِ التنويعِ ومسفرةٌ خبرُهُ ويومئذٍ متعلقٌ به أي
مضيئةٌ متهللةٌ منْ أسفرَ الصبحُ إذَا أضاءَ وعن ابنِ عباس رضي
الله عنهما أنَّ ذلكَ من قيامِ الليلِ وفي الحديثِ مَنْ كثر
صلاته باليل حسُن وجهُه بالنهارِ وعنِ الضحَّاكِ منْ آثارِ
الوضوءِ وقيلَ من طولِ ما اغبرّتْ في سبيلِ الله
(9/113)
ضَاحِكَةٌ
مُسْتَبْشِرَةٌ (39)
ضاحكة مُّسْتَبْشِرَةٌ بما تشاهدُ من
النعيم المقيمِ والبهجةِ الدائمةِ
(9/113)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ
أي غبارٌ وكدورةٌ
(9/113)
تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ
(41)
تَرْهَقُهَا أي تعلُوها وتغشاهَا
قترة أي سوادو ظلمة
(9/113)
سورة عبس (42) وسورة التكوير (1 3)
(9/114)
أُولَئِكَ هُمُ
الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
أولئك إشارةٌ إلى أصحاب تلك الوجوهِ وما فيهِ من معنى البعد
للإيذان ببُعد درجتِهم في سُوءِ الحالِ أي أولئكَ الموصوفونَ
بسوادِ الوجوهِ وغيره
هُمُ الكفرة الفجرة الجامعونَ بين الكفرِ والفجورِ فلذلكَ جمعَ
الله تعالى إلى سواد وجوهِهم الغبرةَ عن رسولِ الله صلى الله
عليه وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ عبسَ جاءَ يومَ القيامةِ وجهه
ضاحك مستبشر |