تفسير أبي السعود
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم سورة التكوير مكية وآياتها تسع وعشرون
{بِسْمِ اللهِ الرحمن الرحيم}
(9/114)
إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ (1)
{إِذَا الشمس كُوّرَتْ} أي لُفَّتْ من
كَوَّرتَ العمامةَ إذا لففتَها على أَنَّ المرادَ بذلكَ إمَّا
رفعُها وإزالتُها منْ مقرِّها فإنَّ الثوبَ إذا أُريدَ رفعُهُ
يُلفُّ لفاً ويُطْوى ونحُوه قولُه تعَالَى يَوْمَ نَطْوِى
السماء وأما لف صوئها المنبسطِ في الآفاقِ المُنتشرِ في
الأقطارِ على أنَّه عبارةٌ عنْ إزالتها والذهابِ بها بحكمِ
استلزامِ زوالِ اللازم لنزوال الملزومِ أو ألقيتْ عن فلكها
كَما وُصفتِ النجومُ بالانكدارِ من طعنَهُ فكوَّرَهُ إذا
ألقاهُ عَلى الأرضِ وعن أبي صالحِ كُورتْ نُكِّستْ وعن ابنِ
عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا تكويرُهُا إدخالُها في العرشِ ومدارُ
التركيبِ على الإدارةِ والجمعِ وارتفاعُ الشمسِ على أنَّه
فاعلٌ لفعلٍ مضمرٍ يُفسِّرُه المذكورُ وعندَ البعضِ عَلى
الابتداءِ
(9/114)
وَإِذَا النُّجُومُ
انْكَدَرَتْ (2)
{وَإِذَا النجوم انكدرت} أي انقضَّتْ
وَقيلَ تناثرتْ وَتساقطتْ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه
لا يَبْقَى يومئذٍ نجمٌ إلا سقطَ في الأرضِ وعنْهُ رضيَ الله
عنْهُ أنَّ النُّجومَ قناديلُ معلقةٌ بينَ السماءِ والأرضِ
بسلاسلَ منْ نورٍ بأيدي ملائكةٍ من نورٍ فإذَا ماتَ من فى
السموات ومن في الأرضِ تساقطتْ من أيديهم وقيلَ انكدارُها
انطماسُ نُورِها ويُروَى أنَّ الشمسَ والنجومَ تُطرحُ في جهنَم
ليراهَا مَنْ عبدَها كما قالَ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن
دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ
(9/114)
وَإِذَا الْجِبَالُ
سُيِّرَتْ (3)
{وَإِذَا الجبال سُيّرَتْ} أيْ عنْ
أماكنِها بالرجفة الحاصلةِ لافي الجوِّ فإنَّ ذلكَ بعدَ النفخة
الثانية
(9/114)
سورة التكوير (4 9)
(9/115)
وَإِذَا الْعِشَارُ
عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا العشار جمعُ عُشَراءَ وهيَ الناقةُ
التي أتى على حملِها عشرةُ أشهرٍ وهو اسمُها إلى أنْ تضعَ
لتمامِ السنةِ وهي أنفسُ ما يكونُ عندَ أهلِها وأعزُّها عليهمْ
عُطّلَتْ تُرِكتْ مهملةً لاشتغالِ أهلِها بأنفسِهم وقيلَ
العشارُ السحائبُ فإنَّ العربَ تُشبهها بالحامل ومنهُ قولُه
تعالىَ فالحاملات وِقْراً وتعطيلُها عدمُ إمطارِها وقُرِىءَ
عُطِلَتْ بالتخفيفِ
(9/115)
وَإِذَا الْوُحُوشُ
حُشِرَتْ (5)
وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ أي جُمعتْ من كلِّ
جانبٍ وقيلَ بُعثتْ للقصاصِ قالَ قتادةُ يُحشرُ كلُّ شيءٍ
حتَّى الذبابُ للقصاصِ فإذَا قُضِيَ بينَها رُدَّتْ تُراباً
فلا يَبقْى منها إلا مافيه سرورٌ لبني آدمَ وإعجابٌ بصورته
كالطاوس ونحوِه وقُرِىءَ حُشِّرَتْ بالتشديدِ
(9/115)
وَإِذَا الْبِحَارُ
سُجِّرَتْ (6)
وَإِذَا البحار سُجّرَتْ أي أحميت أو ملئت
يتفجير بعضِها إلى بعضٍ حتَّى تعودَ بحراً واحداً مِنْ سجرَ
التنورَ إذا ملأَهُ بالحطبِ ليحميَهُ وقيلَ مُلئتْ نيرانا
تضطرم لتعذيب أهلِ النارِ وعن الحسنِ يذهبُ ماؤُها حتَّى لا
يبقى فيها قطرةٌ وقرىء سجرت بالتخفيف
(9/115)
وَإِذَا النُّفُوسُ
زُوِّجَتْ (7)
إذا النفوس زُوّجَتْ أي قُرِنتْ بأجسادها
أو قُرِنتْ كلُّ نفسٍ بشكلِها أو بكتابِها أو بعملِها أو نفوسُ
المؤمنينَ بالحُورِ ونفوسُ الكافرينَ بالشياطين
(9/115)
وَإِذَا
الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)
وإذا الموؤدة أي المدفونة حيةً وكانت العرب
تئد البنات مخافة الإملاق أو لحوقِ العارِ بهم من أجلهنَّ قيلَ
كان رجل منهُم إذَا وُلِدتْ له بنتٌ ألبسها جُبَّةً من صُوفٍ
أو شَعَرٍ حَتَّى إذَا بلغتْ ستَّ سنينَ ذهبَ بها إلى الصحراءِ
وقد حفرَ لها حُفرةً فيُلقيها فيهَا ويُهيلُ عليها الترابَ
وقيلَ كانتِ الحاملُ إذا قربت حفرتْ حُفرةً فتمخضتْ على رأسِ
الحُفرةِ فإذا ولدتْ بنتاً رمتْ بهَا وإنْ ولدتْ ابناً حبستْهُ
سُئِلَتْ
(9/115)
بِأَيِّ ذَنْبٍ
قُتِلَتْ (9)
بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ توجيهُ السؤالِ
إليهَا لتسليتِها وإظهارِ كمالِ الغيظِ والسَّخطِ لوائدها
وإسقاطِه عن درجةِ الخطابِ والمبالغةِ في تبكيتِه كما في قوله
تعالى أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين وقُرىءَ
سَأَلتْ أي خاصمتْ أو سألتِ الله تعالَى أو قاتِلَها وإنما
قيلَ قُتلتْ لما أنَّ الكلامَ إخبارٌ عنها لا حكايةٌ لما
خُوطبتْ بهِ حينَ سُئلتْ ليقالَ قُتِلْتِ على الخطابِ ولا
حكايةٌ لكلامِها حينَ سَألتْ ليقالَ قُتِلْتُ على الحكايةِ عن
نفِسها وقد قرىء كذلك بالتشديد أيضاً وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله
عنهما أنه سُئِلَ عن أطفالِ المشركينَ فقال لا يعذبون
(9/115)
سورة التكوير (10 14) واحتجَّ بهذهِ الآيةِ
(9/116)
وَإِذَا الصُّحُفُ
نُشِرَتْ (10)
وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ أيْ صحفُ الأعمالِ
فإنَّها تُطوى عندَ الموتِ وتنشرُ عند الحساب عنِ النبيِّ
صلَّى الله عليه وسلم أنَّه قالَ يُحشرُ النَّاسُ عُراةً
حُفاةً فقالتْ أمُّ سلمةَ فكيفَ بالنساءِ فقالَ شُغلَ الناسُ
يا أُمَّ سلمةَ قالتْ وما شغلَهُم قالَ نشرُ الصحفِ فيها
مثاقيلُ الذرِّ ومثاقيلُ الخردلِ وقيلَ نُشرتْ أي فُرِّقتْ
بينَ أصحابِها وعن مَرْثَدِ بنِ وَدَاعةَ إذَا كانَ يومُ
القيامةِ تطايرتِ الصحفُ من تحتِ العرشِ فتقعُ صحيفةُ المؤمنِ
في يدِه في جنةٍ عاليةٍ وتقعُ صحيفةُ الكافرِ في يده في سَمومٍ
وحميمٍ أي مكتوبٌ فيها ذلكَ وهيَ صُحفٌ غيرُ صحفِ الأعمالِ
(9/116)
وَإِذَا السَّمَاءُ
كُشِطَتْ (11)
وَإِذَا السماء كُشِطَتْ قُطعتْ وأُزيلتْ
كما يُكشطُ الإهابُ عن الذبيحةِ والغطاءُ عن الشيء المستور به
وقرئ قُشطتْ واعتقابُ الكافِ والقافِ غيرُ عزيز كالكافُور
والقافُورِ
(9/116)
وَإِذَا الْجَحِيمُ
سُعِّرَتْ (12)
وَإِذَا الجحيم سُعّرَتْ أي أوقدت إتقادا
شديداً قيلَ سَعَّرهَا غضبُ الله عزوجل وخطايا بنى آدم وقرئ
سُعِرَتْ بالتَّخفيفِ
(9/116)
وَإِذَا الْجَنَّةُ
أُزْلِفَتْ (13)
وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ أي قُرَّبتْ من
المتقينَ كقولِه تعالى وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ
غَيْرَ بَعِيدٍ قيلَ هذهِ اثنتا عشرةَ خصلةً ستٌّ منها في
الدُّنيا أي فيمَا بينَ النفختينِ وهُنَّ من أول السورةِ إلى
قوله تعالى وَإِذَا البحار سُجّرَتْ على أنَّ المرادَ بحشرِ
الوحوشِ جمعُها من كل ناحية لأبعثها للقصاصِ وستٌّ في الآخرةِ
أي بعدَ النفخةِ الثانيةِ وقوله تعالى
(9/116)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا
أَحْضَرَتْ (14)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ جوابُ
إذَا على أنَّ المرادَ بها زمانٌ واحدٌ ممتدٌّ يسعَ ما في
سباقها وسباقِ ما عُطفَ عليها من الخصالِ مبدؤُه النفخةُ
الأُولى ومنتهاهُ فصلُ القضاءِ بينَ الخلائقِ لكنْ لا بمعْنى
أنها تعلمُ ما تعلُم في كلُّ جزءٍ من أجزاءِ ذلكَ الوقتِ
المديدِ أو عند وقوعِ داهيةٍ من تلكَ الدواهِي بلْ عند نشرِ
الصحفِ إلا أنَّه لما كانَ بعضُ تلك الدَّواهِي من مباديهِ
وبعضُها من روادفِه نُسبَ علمُها بذلكَ إلى زمان وقع كُلِّها
تهويلاً للخطب وتفظيعاً للحال والمرادُ بمَا أَحضرتْ أعمالها
من الخير والبشر وبحضورِها إما حضورُ صحائِفها كما يعربُ عنه
نشرُها وإما حضورُ أنفسِها على ما قالُوا من أنَّ الأعمالَ
الظاهرةَ في هذه النشأة بصورة عرضيةٍ تبرُز في النشأة الآخرة
بصور جوهريةٍ مناسبةٍ له في الحسنِ والقُبحِ على كبفيات مخصومة
وهيآت مُعينةٍ حتى إنَّ الذنوبَ والمعاصيَ تتجسم هناك وتتصورُ
بصورةِ النَّارِ وعَلى ذلكَ حُمل قولُه تعالى وَإِنَّ
جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين وقوله تعالى إِنَّ الذين
يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى
بُطُونِهِمْ نَاراً وكذا قولُه
(9/116)
سورة التكوير
آية (15) عليه الصلاة والسلام في حقِّ مَنْ يشربُ من آنيةِ
الذهبِ والفضةِ إنما يُجرجِر في بطنِه نارَ جهنمَ ولا بُعدَ في
ذلكَ ألا يُرى أن العلمَ يَظهر في عالمِ المثالِ على صورة البن
كما لايخفى على مَنْ له خِبرةٌ بأحوالِ الحضَراتِ الخمس وقد
رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه يؤتى بالأعمال الصالحة
على صورة حسنةٍ وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتوضع النفوسِ
أو لبعضِ منها للإيذانِ بأن ثبوتَهُ لجميعِ أفرادِها قاطبةً من
الظهورِ والوضوحِ بحيثُ لا يكادُ يحومُ حولَهُ شائبةُ اشتباهٍ
قطعاً يعرفُه كلُّ أحدٍ ولوجئ بعابرة تدلُّ على خلافِه وللرمزِ
إى أنَّ تلكَ النفوسَ العالمةَ بما ذُكِرَ مع توفرِ أفرادِها
وتكثرِ أعدادِها مما يُستقل بالنسبةِ إلى جناب الكبرياءِ الذي
أشير إلى بعض بدائع شؤنه المنبئةِ عن عظمِ سُلطانِه واما قيلَ
منْ أنَّ هذَا من قبيلِ عكسِ كلامِهم الذي يقصِدون به الإفراطَ
فيما يُعكسُ عنْهُ وتمثيله بقولِه تعالى رُّبَمَا يَوَدُّ
الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ وبقول منْ قالَ
قَدْ أتركَ القِرْنَ مُصفرّاً أناملُهُ وبقولِ من قالَ حينَ
سُئلَ عن عددِ فرسانِه رُبَّ فارسٍ عندِي وعندُه المقانبُ
قاصداً بذلكَ التماديَ في تكثير فُرسانِه وإظهارَ براءتِه من
التزيد وأنَّه ممَّن يقللُ كثيرَ مَا عندَهُ فضلاً أنْ يتزيدَ
فمن لوائحِ النظرِ الجليلِ إلا أنَّ الكلامَ المعكوسَ عنْهُ
فيما ذُكِرَ من الأمثلةِ مما يقبلُ الإفراطَ والتماديَ فيه
فإنَّه في الأولِ كثيراً ما يودُّ وفي الثانِي كثيراً ما أتركُ
وفي الثالث كثيرٌ من الفرسانِ وكلُّ واحدٍ من ذلكَ قابلٌ
للإفراطِ والمبالغةِ فيهِ لعدمِ انحصارِ مراتبِ الكثرةِ وقدْ
قُصدَ بعكسِه ما ذكر من التمادي في التكثير حسبما فضل أما قيما
نحن فيه فالكلام الذي عكس عنه علمت كلُّ نفسٍ ما أحضرتْ كما
صرَّحَ به القائلُ وليسَ فيه إمكانُ التكثيرِ حتَّى يُقصدَ
بعكسِه المبالغةُ والتَّمادِي فيهِ وإنما الذي يمكنُ فيه من
المبالغةِ ما ذكرناهُ فتأملْ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ للإشعارِ
بأنَّه إذا علمتْ حينئذٍ نفسٌ من النفوسِ ما أحضرتْ وجبَ على
كلِّ نفسٍ إصلاحُ عملِها مخافةَ أنْ تكونَ هيَ تلكَ التي علمتْ
ما أحضرتْ فكيفَ وكلُّ نفسٍ تعلمُه على طريقةِ قولِك لمن
تنصحُه لعلكَ ستندمُ على ما فعلتَ ورُبَّما ندِم الإنسان على
مافعل فإنك لا تقصدُ بذلكَ لاتقصد بذلكَ أنَّ ندمَهُ مرجوُّ
الوجود لامتيقن بهِ أو نادرُ الوقوعِ بلْ تريدُ أنَّ العاقلَ
يجبُ عليهِ أنْ يجتنبَ أمراً يُرجى فيهِ الندمُ أو قلَّماً
يقعُ فيهِ فكيفَ بهِ إذَا كانَ قطعى الوجود كثير الوجود
(9/117)
فَلَا أُقْسِمُ
بِالْخُنَّسِ (15)
فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس أي الكواكبِ الرواجع
مِنْ خَنَسَ إذا تأخر وهي ماعدا النيرينَ منَ الدَّرارِي
الخمسةِ وهيَ بهرامُ وزُحَلُ وعُطَارِدُ والزُّهْرَةُ
والمُشتَرى وُصفتْ بقولِه تعالى
(9/117)
سورة التكوير (16 22)
(9/118)
الْجَوَارِ الْكُنَّسِ
(16)
الجوار الكنس لأنها تَجْري مع الشمسِ
والقمرِ وترجعُ حتى تخفي تحتَ ضوءِ الشمسِ فخنُوسها رجوعُها
وكنوسُها اختفاؤُها تحتَ ضوئها من كنس الوحشى إذا دخلَ
كُناسَهُ وهو البيتُ الذي يتخذهُ من أغصانِ الشجرِ وقيل هي
جميعُ الكواكبِ تخنِسُ بالنهار فتغيبُ عنِ العُيونِ وتكنسُ
بالليل أي تطلعُ في أماكنِها كالوحشِ في كُنُسِها
(9/118)
وَاللَّيْلِ إِذَا
عَسْعَسَ (17)
والليل إِذَا عَسْعَسَ أي أدبرَ ظلامُه أو
أقبلَ فإِنَّه منَ الأضَّدادِ وكذلكَ سعسعَ قالَ الفراءُ أجمعَ
المفسرونَ على أنَّ معنى عسعسَ أدبر عليه قولُ العَجَّاجِ]
حَتَّى إِذَا الصبح لها تَنفَّسَا وَانجَابَ عنَها ليلُها
وعَسْعَسَا وقيلَ هيَ لغةُ قريشٍ خاصَّة وقيلَ مَعْنى إقبالِ
ظلامِه أوفقُ لقولِه تعالى
(9/118)
وَالصُّبْحِ إِذَا
تَنَفَّسَ (18)
والصبح إِذَا تَنَفَّسَ لأنَّه أولُ
النهارِ وقيل إدبارُه أقربُ من تنفسِ الصبحِ ومعناهُ أنَّ
الصبحَ إذَا أقبلَ يقبلُ بإقبالِه رَوحٌ ونسيمٌ فجعلَ ذلكَ
نفساً لَهُ مجازاً فقيلَ تنفَّسَ الصبحُ
(9/118)
إِنَّهُ لَقَوْلُ
رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
أَنَّهُ أي القرآنَ الكريمَ الناطق بما ذكر
من الدواهي الهائلة
لقوله رسول كريم وهو جبريلُ عليهِ السَّلامُ قالَه من جهةِ
الله عزَّ وجلَّ
(9/118)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ
ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)
ذِى قُوَّةٍ شديدةٍ كقولِه تعالَى شَدِيدُ
القوى وقيلَ المرادُ القوةُ في أداءِ طاعةِ الله تعالَى وتركِ
الإخلالِ بَها من أولِ الخلقِ إلى آخرِ زمانِ التكليفِ
عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ ذِي مكانةٍ رفيعةٍ عندَ الله تعالى
عنديةَ إكراما وتشريف لاعندية مكانٍ
(9/118)
مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ
(21)
مطاع فيما بينَ ملائكتِه المقربينَ يصدرُون
عن أمرِه ويرجعونَ إلى رأيه
ثَمَّ أَمِينٍ على الوَحْي وثمَّ ظرفٌ لما قبَلهُ وقيلَ لما
بعدَهُ وقرىء ثُمَّ تعظيماً لوصفِ الأمانِةَ وتفضيلاً لها على
سائرِ الأَوْصَافِ
(9/118)
وَمَا صَاحِبُكُمْ
بِمَجْنُونٍ (22)
وَمَا صاحبكم هو رسولُ الله صلى الله عليه
وسلم
بِمَجْنُونٍ كما تبهتُه الكفرةُ والتعرضُ لعنوانِ المصاحبةِ
للتلويحِ بإحاطتِهم بتفاصيلِ أحوالِه عليه الصلاة والسلام خبرا
علمهم بنزاهتِه عليه السَّلامُ عمَّا نسبُوه إليهِ بالكليةِ
وقد استُدلَّ بهِ على فضلِ جبريلَ عليِه عليهما السَّلامُ
للتباين البينِ بين وصفيهما وهو ضعيفٌ إذِ المقصودُ ردُّ قولِ
الكفرةِ في حقِّه عليه الصَّلاةُ والسلام إنما يعلمه بشرٌ
أفترى عَلَى الله كَذِباً أم بهِ جِنَّة لا تعدادُ فضائلها
والموازنة
(9/118)
81 سورة التكوير (23 29)
(9/119)
وَلَقَدْ رَآهُ
بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)
ولقد رآه أي وبالله لقد رأى رسولُ الله
جبريلُ عليهما الصلاة والسلام
بلأفق المبين بمطلعِ الشمسِ الأَعْلى
(9/119)
وَمَا هُوَ عَلَى
الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
وَمَا هُوَ أي رسولُ الله صلى الله عليه
وسلم
عَلَى الغيب على ما يخبرُه من الوَحْي إليهِ وغيرِه من الغيوبِ
بِضَنِينٍ أي ببخيل بالوَحْي ولا يُقصِّرُ في التبليغ
والتعليمِ وقُرِىءَ بظنينٍ أي بمتهمٍ من الظنة وهي التهمةُ
(9/119)
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ
شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شيطان رَّجِيمٍ أي
قولِ بعضِ المُسترقةِ للسمعِ وهو نفيٌ لقولِهم إنَّه كهانةٌ
وسحرٌ
(9/119)
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ
(26)
فَأيْنَ تَذْهَبُونَ استضلالٌ لهم فيما
يسلكونَهُ في أمرِ القرآنِ والفاءُ لترتيبِ ما بعدها على ما
قبلها من ظهورِ أنَّه وحيٌ مبين وليس مما يقولونه في شيءٍ كما
تقولُ لمن تركَ الجادَّةَ بعدَ ظهورِها هذا الطريقُ الواضحُ
فأينَ تذهبُ
(9/119)
إِنْ هُوَ إِلَّا
ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27)
إِنْ هُوَ مَا هُو
إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين موعظة وتذكيرٌ لهم وقولُه تعالَى
(9/119)
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ
أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)
لِمَن شَاء مِنكُمْ بدلٌ من العالمينَ
بإعادةِ الجارِّ وقولُه تعالَى
أَن يَسْتَقِيمَ مفعولُ شاءَ أيْ لمَنْ شاء منكم الإستقامة
يتحرى الحقِّ وملازمةِ الصوابِ وإبدالُه منَ العالمينَ لأنَّهم
المنتفعونَ بالتذكير
(9/119)
وَمَا تَشَاءُونَ
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
وما تشاؤن أي الاستقامةَ مشيئةَ مستتبعةَ
لها في وقتٍ من الأوقاتِ
إلا أن يشاء الله أي إلا وقتَ أنْ يشاءَ الله تعالَى تلكَ
المشيئةَ أي المستتبِعة للاستقامةِ فإن مشيئتكم لا تستبعها
بدون مشيئةِ الله تعالى لها
رَبّ العالمين مالكُ الخلقِ ومربيهم أجمعينَ عن رسول الله صلى
الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ التكويرِ أعاذَهُ الله أنْ
يفضحَهُ حينَ تُنشرُ صحيفته
(9/119)
82 سورة الإنفطار (1 5)
بسم الله الرحمن الرحيم
(9/120)
إِذَا السَّمَاءُ
انْفَطَرَتْ (1)
إِذَا السماء انفطرت أي انشقتْ لنزول
الملائكةِ كقولِه تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام وَنُزّلَ
الملائكة تَنزِيلاً وقولُه تعالى وَفُتِحَتِ السماء فَكَانَتْ
أبوابا والكلامُ في ارتفاع السماءِ كما مرَّ في ارتفاعِ الشمسِ
(9/120)
وَإِذَا الْكَوَاكِبُ
انْتَثَرَتْ (2)
وَإِذَا الكواكب انتثرت أي تساقطتْ متفرقةً
(9/120)
وَإِذَا الْبِحَارُ
فُجِّرَتْ (3)
وَإِذَا البحار فُجّرَتْ فُتحَ بعضُها إلى
بعضٍ فاختلطَ العذبُ بالأُجاجِ وزالَ ما بينهما من البرزخ
الحاجزِ وصارتِ البحارُ بَحْراً واحِداً ورُويَ أن الأرضَ
تنشفُ الماءَ بعد امتلاءِ البحارِ فتصيرُ مستويةً وهو مَعْنى
التسجيرِ عند الحسنِ رضيَ الله عنه وقيلَ إنَّ مياه البحارِ
الآنَ راكدةٌ مجتمعةٌ فإذَا فجرتْ تفرقتْ وذهبت وقرئ فُجِرَتْ
بالتخفيفِ مبنياً للمفعولِ وَمبنياً للفاعلِ أيضاً بمْعَنى
بغتْ من الفجورِ نظراً إلى قولِه تعالى لاَ يَبْغِيَانِ
(9/120)
وَإِذَا الْقُبُورُ
بُعْثِرَتْ (4)
وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ أي قلب وأُخرجَ
موتاهَا ونظيرُه بَحْثر لفظاً ومَعْنى وهُما مركبانِ من البعثِ
والبحثِ مع راءٍ ضُمَّتْ إليهمَا وقولُه تعالى
(9/120)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا
قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ
وَأَخَّرَتْ جوابُ إذا لكنْ لاَ على أنَّها تعلمُه عندَ البعثِ
بل عند نشرِ الصحفِ لما عرفتَ من أنَّ المرادَ بها زمانٌ واحدٌ
مبدؤُه النفخةُ الأُولى ومنتهاهُ الفصلُ بينَ الخلائق لا أزمنة
متعددة حسب تعددِ كلمةِ إذَا وإنما كُررتْ لتهويلِ ما في
حيزهَا من الدَّواهِي والكلام في كالذي مرَّ تفصيلُه في نظيره
ومَعْنى ما قَدَّم وأخَّر ما أسلفَ من عملِ خيرٍ أو شرَ وأخَّر
من سنة حسنة أو سيئةٍ يُعملُ بها بعدَهُ قالَه ابنِ عباسٍ
وابنِ مسعودٍ وعن ابن عباسٍ أيضاً ما قدمَ منْ معصيةٍ وأخَّر
من طاعةٍ وهو قولُ قتادةٍ وقيلَ ما قدمَ من أمواله لنفسه
وماأخر لوثته وقيلَ ما قدمَ من فرض وأخَّر من فرض وقيل أو
عملِه وآخرُهُ ومعنى علمِها التفصيليُّ حسبما ذُكِرَ فيَما مر
مرارا
(9/120)
يَا أَيُّهَا
الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)
يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ
الكريم أيْ أيُّ شيءٍ خدعكَ وجرَّأك على عصيانِه وقد علمتَ ما
بينَ يديكَ من الدواهِي التامَّةِ والعراقيلِ الطَّامة وما
سيكونُ حينئذٍ من مُشاهدةِ أعمالِك كُلِّها والتعرضُ لعنوانِ
كرمِه تعالَى للإيذانِ بأنَّه ليسَ مما يصلُح أن يكونَ مدارا
لاغتراره يغويهِ الشيطانُ ويقولُ له افعلْ ما شئتْ فإنَّ ربكَ
كريمٌ قد تفضلَ عليكَ في الدُّنيا وسيفعلُ مثَلُه في الآخرةِ
فإنَّه قياسٌ عقيمٌ وتمنيةٌ باطلةٌ بل هُو ممَّا يوجبّ
المبالغةَ في الإقبالِ على الإيمانِ والطاعةِ والاجتنابِ عن
الكفرِ والعصيانِ كأنَّه قيلَ ما حملكَ على عصيانِ ربِّكَ
الموصوفِ بالصفاتِ الزاجرةِ عنهُ الداعيةِ إلى خلافِه وقولُه
تعالى
(9/121)
الَّذِي خَلَقَكَ
فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)
الذى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ صفة
ثانية مقررة للربويية مبيَّنة للكرم منبهةٌ على أن من مَنْ
قدَرَ على ذلكَ بدَءاً قدرَ عليه إعادةً والتسويةُ جعلُ
الأعضاءِ سليمةً سويةً مُعدةً لمنافعها وعدلها عدلَ بعضِها
ببعضٍ بحيثُ اعتدلتْ وَلَم تتفاوتْ أو صَرْفُها عن خِلْقةٍ
غيرِ ملائمةٍ لها وقُرِىءَ فعدّلكَ بالتشديد أى صيرك متعدلا
متناسبَ الخلقِ من غير تفاوتٍ فيه
(9/121)
فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا
شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
في اي صُورَةٍ مَّا شاء ركبك أى وركبك في
أي صورة شاءها من الصور المختلفةِ ومَا مزيدةٌ وشاءَ صفةٌ
لصورةٍ أي ركبك في أي صورةٍ شاءَها واختارَها لكَ من الصورِ
العجيبةِ الحسنةِ كقولِه تعالَى لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فى
أحسن تقويم وإنما لَمْ يعطفْ الجملةِ على ما قبلَها لأنها
بيانٌ لعدلكَ
(9/121)
كَلَّا بَلْ
تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
كَلاَّ ردعٌ عن الاغترارِ بكرمِ الله
تعالَى وجعلِه ذريعةً إلى الكفرِ والمعاصِي مع كونِه موجباً
للشكرِ والطاعةِ وقولُه تعالى
بَلْ تُكَذّبُونَ بالدين إضرابٌ عن جملة مقدر ينساقُ إليها
الكلامُ كأَّنه قيلَ بعد الردعِ بطريق الاعتراضِ وأنتم لا
ترتدعونَ عن ذلكَ بل تجترئونَ على أعظمِ من ذلكَ حيثُ تكذبونَ
بالجزاءِ والبعثِ رأساً أو بدينِ الإسلامِ الذي هُما من جملةِ
أحكامِه فلا تصدقونَ سؤالاً ولا جواباً ولا ثواباً ولا عقاب
وقيلَ كأنَّه قيل إنَّكم لا تستقيمونَ على ما توجيه نِعَمِي
عليكُم وإرشادِي لكُم بل تكذبونَ الخ وقال القفالُ ليسَ الأمرُ
كَما تقولونَ من أنَّه لا بعثَ ولا نشورَ ثم قيلَ أنتُم لا
تتبينونَ بهذا البيانِ بل تكذبونَ بيومِ الدينِ وقولُه تعالى
(9/121)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحَافِظِينَ (10)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين حالٌ من فاعلِ
تكذبونَ مفيدةٌ لبطلان تكذبيهم وتحققِ ما يكذبونَ بهِ أي
تكذبونَ بالجزاءِ والحالُ أنَّ عليكُم من قبلِنا لحافظين
لأعمالكم
(9/121)
82 سورة الانفطار (11 18)
(9/122)
كِرَامًا كَاتِبِينَ
(11)
كراما لدنيا
كاتبين لها
(9/122)
يَعْلَمُونَ مَا
تَفْعَلُونَ (12)
يعملون مَا تَفْعَلُونَ من الأفعالِ قليلاً
وكثيراً ويضبطونَهُ نَقيراً وقِطْميراً لتجازوا بذلكَ وفي
تعظيمِ الكاتبينِ بالثناءِ عليهم تفخيمٌ لأمرِ الجزاءِ وأنه
عند الله عز وجل من جلائلِ الأمورِ حيثُ يستعملُ فيه هؤلاءِ
الكرامَ وقولُه تعالَى
(9/122)
إِنَّ الْأَبْرَارَ
لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)
إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ
وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ استئنافٌ مسوق لبيان نتيجةِ
الحفظِ والكتابِ من الثوابِ والعقابِ وفي تنكيرِ النعيمِ
والجحيمِ من التفخيمِ والتهويلِ ما لايخفى وقولُه تعالَى
(9/122)
يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ
الدِّينِ (15)
يَصْلَوْنَهَا إما صفةٌ لجحيمٍ أو استئنافٌ
مبنيُّ على سؤالٍ نشأَ منْ تهويلِها كأنَّه قيلَ ما حالُهم
فيها فقيلَ يُقاسونَ حرَّهَا
يَوْمِ الدين يومَ الجزاءِ الذي كانُوا يكذِّبون بهِ
(9/122)
وَمَا هُمْ عَنْهَا
بِغَائِبِينَ (16)
وما هم عنهابغائبين طرفةَ عينٍ فإن المرادَ
دوام نفى الغيبة لانفى دوامِ الغيبة لما مرَّ مِراراً من أنَّ
الجملةَ الاسميةَ المنفيةَ قد يُرادُ بها استمرارَ النَّفِي لا
نفيَ الاستمرارِ باعتبارِ ما تفيدُه من الدوامِ والثباتِ بعد
النَّفِي لا قبلَهُ وقيل معناهُ وما كانُوا غائبينَ عنها قبل
ذلكَ بالكليةِ بل كانُوا يجدونَ سمومَها في قبورِهم حسبما قال
النبي صلى عليه وسلم القبرُ روضةٌ من رياض الجنةِ أو حُفرةٌ من
حُفَرِ النيرانِ وقولُه تعالَى
(9/122)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا
يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ
(18)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين
ثم أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين تفخيمٌ لشأن يومِ الدينِ الذي
يكذبونَ به إثرَ تفخيمٍ وتهويلٌ لأمرِه بعدَ تهويلٍ ببيانِ
أنَّه خارجٌ عن دائرة دراية الخلق على أى صورة تصوره فهو
فوقَها وكيفما تخيلوه فهو أطمُّ من ذلكَ وأعظمُ أيْ وأيُّ شيءٍ
جعلكَ دارياً ما يومُ الدينِ على أنَّ ما الا ستفهامية خبر
ليوم الدين إلا بالعكسُ كما هُو رأيُ سيبويهِ لما مرَّ منْ
أنَّ مدارَ الافادةِ هُو الخبرُ لا المبتدأُ ولا ريبَ في أنَّ
مناطَ إفادةِ الهولِ والفخامةِ هُنا هو مَا لا يومَ الدينِ أيْ
أيُّ شيءٍ عجيبٍ هو في الهولِ والفظاعةِ لما مرَّ غيرَ مرةٍ أن
كلمةَ مَا قد يطلب بها الوصف وإن كانتْ موضوعةً
(9/122)
لطلبِ الحقيقةِ وشرحِ الاسمِ يقالُ ما زيدٌ
فيقالُ في الجوابِ كاتبٌ أو طبيبٌ وفي إظهارِ يومُ الدينِ في
موقعِ الاضمارِ تأكيدٌ لهولِه وفخامتِه وقولُه تعالَى
(9/123)
يَوْمَ لَا تَمْلِكُ
نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
يوم لا تملك نفس لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر
يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ بيانٌ إجماليٌّ لشأن يومِ الدينِ إثرَ
إبهامِه وبيانِ خروجِه عنْ علومِ الخلقِ بطريقِ إنجازِ الوعدِ
فإن لفى إدرائِهم مشعرٌ بالوعد الكريمِ بالإدراءِ قالَ ابنُ
عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا كلُّ ما في القرآنِ من قولِه تعالَى
مَا أدراكَ فقدْ أدراهُ وكلُّ ما فيهِ من قولِه وما يدريكَ فقد
طُويَ عنْهُ ويومَ مرفوعٌ على أنَّه خبر مبتدأ محذوف وحركته
الفتحِ لإضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ كأنَّه قيلَ هُو يومَ لا
يملكُ فيه نفس من النفوس لنفس من النفوسِ شيئاً من الأشياءِ
الخ أو منصوبٌ بإصمار اذكر كأنه قيل بعد تفخيمِ أمرِ يومِ
الدينِ وتشويقِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى معرفتِه اذكُر
يومَ لا تملكُ نفسٌ الخ فإنه يُدريكَ ما هُو وقيلَ بإضمارِ
يُدانونَ وليسَ بذاكَ فإنه عارٍ عن إفادةِ ما يفيدُه ما قبلَهُ
كما أنَّ إبدالهُ من يومِ الدينِ على قراءةِ الرفعِ كذلكَ بل
الحقُّ حينئذٍ الرفعُ على أنه خير لمبتدأٍ محذوفٍ عنْ رسولِ
الله صلى الله اعليه وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الا نفطار كتبَ
الله تعالَى له بعددِ كلِّ قطرةٍ من السماءِ وبعددِ كلِّ قبرٍ
حسنةً والله تعالَى أعلمُ
(9/123)
83 سورة المطففين (1 2)
بسم الله الرحمن الرحيم
(9/124)
وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
ويل للمطففين قبل الويلُ شدةُ الشرِّ وقيلَ
العذابُ الأليمُ وقيلَ هو وادٍ في جهنمَ يهوي فيه الكافرُ
أربعينَ خريفاً قبل أنْ يبلُغ قَعْرَه وقيلَ وقيلَ وأياً ما
كانَ فهو مبتدأٌ وإنْ كان نكرةً لوقوعِه في موقعِ الدُّعاءِ
والتطفيفُ البخسُ في الكيل والوزنِ لأنَّ ما يُبخسُ شيءٌ طفيفٌ
حقيرٌ ورويَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قدَم المدينةَ
وكانَ أهلُها من أخبثِ الناسِ كيلاً فنزلتْ فأحسنُوا الكيلَ
وقيلَ قدمَها عليهِ الصلاةُ والسلامُ وبها رجلٌ يعرفُ بأبي
جهينةَ ومعه صاعانِ يكيلُ بأحدهما وكتال بالآخرِ وقيلَ كانْ
أهلُ المدينةِ تجاراً يطففونَ وكانتْ بياعاتهم المنابذة
والملامسة والمخاطرة فنزلت فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
فقرأَها عليهمُ وقالَ خمسٍ بخمس ما نقض قوم العهد الإسلط الله
عليهم عدوَّهم وما حكمُوا بغيرِ ما أنزلَ الله إلا فشَا فيهم
الفقرُ وما ظهرتْ فيهم الموتُ ولا طففُوا الكيلَ الإمنعوا
النبات وأخذوا بالسنينَ ولا منعُوا الزكاةَ إلا حُبِس عنهم
القطرُ وقولُه تعالَى
(9/124)
الَّذِينَ إِذَا
اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)
الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس
يَسْتَوْفُونَ إلخ صفةٌ كاشفةٌ للمطففينَ شارحةٌ لكيفية
تطفيفهم الذين استحقُّوا بهِ الذمَّ والدعاءَ بالويل أي إذَا
اكتالُوا منَ النَّاسِ مكيلَهم بحكمِ الشراءِ ونحوِهِ
يأخذونَهُ وافياً وافراً وتبديلُ كلمةِ عَلَى بمِنَ لتضمينِ
الاكتيالِ مَعْنى الاستيلاءِ أو للإشارةِ إلى أنَّه اكتيال
مضربهم لكنْ لاَ علَى اعتبارِ الضررِ في حيزِ الشرطِ الذي
يتضمنُه كلمةُ إذَا لإخلالِه بالمَعْنى بلْ في نفسِ الأمرِ
بموجبِ الجوابِ فإن المراد بلاستيفاء ليسَ أخذَ الحقِّ وافياً
من غيرِ نقصٍ بل مجردُ الأخذِ الوافِي الوافِر حسبما أرادُوا
بأيِّ وجهٍ تيسرَ من وجوهِ الحيلِ وكانُوا يفعلونَهُ بكبسِ
المكيلِ وتحريك المكيال واحتيال في ملئهِ وأما ما قيلَ من أنَّ
ذلكَ للدلالةِ على أنَّ اكتيالَهُم لمَا لَهُم على النَّاسِ
فمعَ اقتضائِه لعدمِ شمولِ الحكمِ لاكتيالِهم قبلَ أنْ يكونَ
لهم على الناسِ شئ بطريقِ الشراءِ ونحوِه معَ أنَّه الشائعْ
فيما بينَهم يقتضِي أنْ يكونَ معنى الاستيفاءِ أخذُ ما لهم
عليهم وافياً من غيرِ نقصٍ إذْ هُو المتبادَرُ منه عند
الإطلاقِ في معرضِ الحقِّ فلا يكونُ مداراً لذمِّهم والدعاءِ
عليهم وحملِ ما لهم عليهم على مَعْنى ما سيكونُ
(9/124)
83 سورة (3 6)
لهم عليهم مع كونِه بعيداً جداً مما لا يُجدي نفعاً فإنَّ
اعتبارَ كونِ المكيلِ لهم حالاً كان أو مآلا لا يستدعِي كونَ
الاستيفاءِ بالمعنى المذكورِ حَتْماً وهكذا حالُ ما نُقلَ عنِ
الفرَّاءِ من أنَّ مِنْ وعَلَى تعتقبانِ في هذا الموضعِ لأنَّه
حقٌّ عليهِ فإذَا قال اكتلت عليك فأنه قال أخذتُ ما عليكَ وإذا
قالَ اكتلتُ منكَ فكقولِه استوفيتُ منكَ فتأملْ وقد جُوِّز أن
تكون على متعلقةً بيستوفونَ ويكون تقديمُها على الفعلِ لإفادة
الخصوصيةِ أي يستوفونَ على النَّاسِ خاصَّة فأما أنفسُهم
فيستوفونَ لها وأنتَ خبيرٌ بأن القَصْر بتقديم الجار والمجرور
انما يكونُ فيما يمكنُ تعلقُ الفعلِ بغير المجرورِ أيضاً حسبَ
تعلقِه به فيقصد بالتقديمِ قصرُه عليه بطريقِ القلبِ أو
الإفرادِ أو التعيينِ حسبما يقتضيهِ المقامُ ولا ريب في أن
الاستيفاءَ الذي هو عبارةٌ عن الأخذ الوافي مما لا يُتصوّر أن
يكونَ على أنفسهم حَتَّى يقصد بتقديم الجارِّ والمجرورِ قصرُه
على النَّاسِ على أنَّ الحديثَ واقعٌ في الفعلِ لا فيما وقعَ
عليهِ فتدبرْ والضميرُ البارزُ في قولِه تعالى
(9/125)
وَإِذَا كَالُوهُمْ
أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
واذا كالوهم أو وزونوهم
للناس أي اذا كالُوا لهم أو وزنُوا لهم للبيعِ ونحوِه
يُخْسِرُونَ
أي ينقصونَ يقالُ خسِر الميزانَ وأخسرَهُ فحذفَ الجارَّ وأوصلَ
الفعلَ كما في قولِه
وَلَقَدْ جَنَيتُكَ أَكْمُؤاً وعَسَاقِلاً
أي جنيتُ لكَ وجعلُ البارزِ تأكيداً للمستكنِّ مما لا يليقُ
بجزالةِ التنزيلِ ولعلَّ ذكرَ الكيلِ والوزنِ في صورةِ
الإخسارِ والاقتصار على الاكتيالِ في صورةِ الاستيفاءِ لما
أنهم لم يكونوا متمكنينَ من الاحتيالِ عند الاتزانِ تمكنهم منه
عند الكيلِ والوزنِ وعدمُ التعرضِ للمكيلِ والموزونِ في
الصورتينِ لأن مساقَ الكلام لبيان سواء معالمتم في الأخذِ
والإعطاءِ لا في خصوصيةِ المأخوذِ والمُعطَى وقولُه تعالى
(9/125)
أَلَا يَظُنُّ
أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ
مَّبْعُوثُونَ
استئنافٌ واردٌ لتهويلِ ما ارتكبُوه من التطفيفِ والتعجيبِ من
اجترائِهم عليهِ وأولئكَ إشارةٌ إلى المطففينَ ووضعه موضع
ضميرهم للإشعارِ بمناطِ الحُكمِ الذي هُو وصفُهم فإنَّ
الإشارةَ إلى الشيءِ متعرضةٌ له من حيثُ اتِّصافُه بوصفِه وأما
الضميرُ فلا يتعرضُ لوصفِه وللإيذانِ بأنَّهم ممتازونَ بذلكَ
الوصفِ القبيحِ عن سائرِ النَّاسِ أكملَ امتيازٍ نازلون منزلة
الأمور المشارِ إليها إشارةً حسيةً وما فيه من معنى البعدِ
للإشعارِ ببُعد درجتِهم في الشَّرارةِ والفسادِ أي ألا يظنُّ
أولئكَ الموصوفونَ بذلكَ الوصفِ الشنيعِ الهائلِ أَنَّهُمْ
مَّبْعُوثُونَ
(9/125)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ
لا يُقادَرُ قدرُ عِظَمِه وعِظَمِ ما فيهِ ومحاسبونَ فيهِ على
مقدارِ الذرةِ والخردلةِ فإنَّ من يظنُّ ذلكَ وإن كان ظناً
ضعيفاً متاخماً للشكِّ والوهمِ لا يكادُ يتجاسرُ على أمثالِ
هاتيكَ القبائحِ فكيفَ بمن تيقنُه وقولُه تعالَى
(9/125)
يَوْمَ يَقُومُ
النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
يوم يقوم الناس لرب العالمين
(9/125)
83 سورة المطففين (7 13)
أي لحُكمِه وقضائِه منصوبٌ بإضمارِ أعنِي وقيلَ بمبعوثونَ أو
مرفوعُ المحلِّ خبراً لمبتدأٍ مضمرٍ أو مجرورٌ بدلاً من يومٍ
عظيمٍ مبني على الفتح لإضافته إلى الفعلِ وإنْ كانَ مضارعا كما
هو رأيُ الكوفيِّينَ ويؤيد الأخيرينِ القَراءةُ بالرفعِ
وبالجَرِّ وفي هَذا الإنكارِ والتعجيبِ وإيرادِ الظنِّ ووصفِ
اليومِ بالعِظمِ وقيامِ الناسِ فيه كافَّة لله تعالَى خاضعينَ
ووصفِه تعالَى بربوبيَّةِ العالمين من البيانِ البليغِ لعظمِ
الذنبِ وتفاقمِ الإثمِ فِي التطفيف وأمثاله مالا يَخْفى
(9/126)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ
الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)
كلا
ردع عمَّا كانوا عليهِ من التطفيفِ والغفلةِ عن البعثِ
والحسابِ وقوله تعالى
إِنَّ كتاب الفجار لَفِى سِجّينٍ
الخ تعليل للردع أو وجوب الارتداعِ بطريقِ التحقيقِ وسجينٌ
علمٌ لكتابٍ جامعٍ هو ديوانُ الشرِّ دْوّنَ فيه أعمالُ
الشياطينِ وأعمالُ الكفرةِ والفسقةِ من الثقلينِ منقولٌ من وصف
كخاتم وأصلُه فِعِّيلٌ من السجنِ وهو الحبسُ والتضييقُ لأنَّه
سببُ الحبسِ والتضييقِ في جهنَمَ أو لأنَّه مطروحٌ كما قيلَ
تحتَ الأرضِ السابعةِ في مكانٍ مُظلمٍ وحش وهو مسكنُ إبليسَ
وذريتِه فالمَعْنى أنَّ كتابَ الفجَّارِ الذينَ من جُمْلتِهم
المطففونَ أي ما يكتبُ من أعمالِهم أو كتابةَ أعمالِهم لفي
ذلكَ الكتابِ المُدونِ فيه قبائحُ أعمالِ المذكورينَ وقوله
تعالى
(9/126)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا
سِجِّينٌ (8)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ
تهويلٌ لأمرِه أي هُو بحيثُ لا يبلغه درايةُ أحدٍ وقولُه تعالى
(9/126)
كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)
كتاب مَّرْقُومٌ
أي مسطورٌ بينُ الكتابةِ أو معلَّمٌ يعلُم مَنْ رآهُ أنه لا
خيرَ فيه وقيلَ هو اسمُ المكانِ والتقديرُ ما كتابُ السجينِ أو
محلُّ كتابٍ مرقومٍ وقولُه تعالى
(9/126)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (10)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ
متصلٌ بقولِه تعالى يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين وما
بينهما اعتراض بقوله تعالى
(9/126)
الَّذِينَ
يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)
الذين يُكَذّبُونَ بِيَوْمِ الدين
إما مجرورٌ على أنه صفةٌ ذامةٌ للمكذبينَ أو بدلٌ منه أو
مرفوعٌ أو منصوبٌ على الذمِّ
(9/126)
وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ
إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
وَمَا يُكَذّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ
أي متجاوزِ عن حدودِ النَّظرِ والاعتبارِ غالٍ في التقليدِ
حتَّى استقصرَ قُدرةَ الله تعالى وعلمَهُ عنِ الإعادةِ مع
مشاهدتِه للبدءِ
أَثِيمٍ
أي منهمكٍ في الشهواتِ المخدجةِ الفانيةِ بحيثُ شغلتْهُ عمَّا
وراءَها منَ اللذاتِ التامةِ الباقيةِ وحملتْه على إنكارِها
(9/126)
إِذَا تُتْلَى
عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
اذا تتلى عليه
(9/126)
83 سورة المطففين (14 18) آياتنا
الناطقةُ بذلكَ
قَالَ
من فرطِ جهلهِ وإعراضِه عن الحق الذي لا محيد عنْهُ
أساطير الأولين
أي هي حكاياتُ الأولينَ قال الكلبيُّ المرادُ بالمُعتدي
الأثيمِ هو الوليد بن المغيرة وقيل النضر بن الحرث وقيلَ عامٌّ
لكلِّ مَن اتصفَ بالأوصافِ المذكورةِ وقُرِىءَ إذَا يُتلى
بتذكيرِ الفعلِ وقُرِىءَ أَإِذَا تُتلى على الاستفهامِ
الإنكاريِّ
(9/127)
كَلَّا بَلْ رَانَ
عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
كَلاَّ
ردعٌ للمعتدي الأثيمِ عن ذلكَ القولِ الباطلِ وتكذيبٌ له فيهِ
وقولُه تعالَى
بَلْ رَانَ على قلبوهم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
بيانٌ لما أدَّى بهم إلى التفوهِ بتلكَ العظيمةِ أي ليسَ في
آياتِنا ما يصحُّ أنْ يقالَ في شأنِها مثلُ هذه المقالاتِ
الباطلةِ بلْ رَكِبَ على قلوبِهم وغلبَ عليها ما كانوا
يكسبونها من الكفرِ والمعاصِي حتى صارتْ كالصدأِ في المرآةِ
فحالَ ذاكَ بينُهم وبينَ معرفةِ الحقِّ كما قال صلى الله عليه
وسلم إنَّ العبدَ كلما أذنبَ ذنباً حصلَ في قلبِه نكتة سوداء
حتى يسودَّ قلبُه ولذلكَ قالُوا ما قالُوا والرينُ الصدأُ
يقالُ رانَ عليهِ الذنبُ وغانَ عليهِ ريناً وغيناً ويُقالُ
رانَ فيه النومُ أي رسخَ فيهِ وقُرِىءَ بإدغامِ اللامِ في
الراءِ
(9/127)
كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ
رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)
كَلاَّ
ردعٌ وزجرٌ عن الكسبِ الرائنِ
إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ
فَلا يكادونَ يَرَونَهُ بخلافِ المؤمنينَ وقيلَ هو تمثيلٌ
لإهانتِهم بإهانةِ من يُحجبُ عن الدخولِ على الملوكِ وعن ابنِ
عبَّاسٍ وقَتَادةَ وابنِ أبي مليكةَ محجوبونَ عن رحمتِه وعن
ابنِ كيسانَ عن كرامتِه
(9/127)
ثُمَّ إِنَّهُمْ
لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم
أي داخلوا النارِ وثمَّ لتراخِي الرتبةِ فإنَّ صلْيَ الجحيمِ
أشدُّ من الإهانةِ والحرمانِ من الرحمةِ والكرامةِ
(9/127)
ثُمَّ يُقَالُ هَذَا
الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
ثُمَّ يُقَالُ
لهُم توبيخاً وتقريعاً من جهةِ الزبانيةِ
هذا الذى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ
فذوقُوا عذابَهُ
(9/127)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ
الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)
كلا
ردع عما كانوا عليه بعد ردع زجر اثررجر وقوله تعالى
إن كتاب الأبرار لَفِى عِلّيّينَ
استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ محلِ كتابِ الأبرارِ بعدَهُ بيانُ سوءِ
حالِ الفُجَّارِ مُتصلاً ببيانِ سُوءِ حالِ كتابِهم وفيه تأكيد
للردع ووجوب الاتداع وكتابُهم ما كُتبَ من أعمالِهم وعليونَ
علمٌ لديوانِ الخيرِ الذي دُوِّنَ فيه كل ما أعملته الملائكةُ
وصلحاءُ الثقلينِ منقولٌ من جمعٍ على فعيلٍ من العُلوِّ
سُمِّيَ بذلكَ إمَّا لأنَّه سببُ الارتفاعِ إلى أعالِي
الدرجاتِ في الجنةِ وإمَّا لأنَّهُ مرفوعٌ في السماءِ السابعةِ
حيثُ يسكنُ الكروبيونَ تكريماً له وتعظيماً والكلامُ في قولِه
تعالى
(9/127)
83 سورة المطففين (19 26)
(9/128)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا
عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلّيُّونَ
كتاب مَّرْقُومٌ
كما مرَّ في نظيرِه وقولُه تعالَى
(9/128)
يَشْهَدُهُ
الْمُقَرَّبُونَ (21)
يَشْهَدُهُ المقربون
صفةٌ أُخرى لكتابَ أي يحضرونَهُ ويحفظونَهُ أو يشهدونَ بما فيه
يومَ القيامةِ
(9/128)
إِنَّ الْأَبْرَارَ
لَفِي نَعِيمٍ (22)
إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ
شروعٌ في بيانِ محاسنِ أحوالِهم إثرَ بيانِ حالِ كتابهم على
طريقة مامر في شأن الفجَّارِ
(9/128)
عَلَى الْأَرَائِكِ
يَنْظُرُونَ (23)
على الأرائك
أي على الأسرةِ في الحجالِ ولا يكادُ تطلقُ الأريكةُ على
السرير عندهم كونِه في الحَجَلةِ
يُنظَرُونَ
أي الا ما شاؤا مدَّ أعينِهم إليه من رغائب مناظرِ الجنةِ وإلى
ما أولاهُم الله تعالى من النعمةِ والكرامةِ وإلى أعدائهم
يعذبونَ في النارِ وما تحجبُ الحجالُ أبصارَهُم عن الإدراك
(9/128)
تَعْرِفُ فِي
وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)
{تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ
النعيم} أي بهجةَ التنعمِ وماءَهُ ورونَقُه والخطابُ لكلِّ
أحدٍ ممن له حظ منَ الخطابِ للإيذانِ بأنَّ مالهم النعيم أي
بهجةَ التنعمِ وماءَهُ ورونَقُه والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممن له حظ
منَ الخطابِ للإيذانِ بأنَّ مالهم من آثارِ النعمةِ وأحكامِ
البهجةِ بحيثُ لا يختصُّ برؤيته راءٍ دُونَ راءٍ
(9/128)
يُسْقَوْنَ مِنْ
رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25)
{يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ} شرابٍ خالص لاغش
فيهِ مَّخْتُومٍ
(9/128)
خِتَامُهُ مِسْكٌ
وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)
{ختامه مِسْكٌ} أي مختومٌ أوانيه وأكوابُه
بالمسكِ مكانَ الطينِ ولعلَّه تمثيلٌ لكمالِ نفاستِه وقيل
ختامُه مسكٌ أي مقطعُه رائحةُ مسكٍ وقُرِىءَ خَاتَمهُ بفتحِ
التاء وكسرِها أي ما يُختم به ويُقطع {وَفِى ذَلِكَ} إشارةٌ
إلى الرحيقِ وهو الأنسبُ لما بعدَهُ أو إلى ما ذُكر من
أحوالِهم وما فيهِ من مَعْنى البُعدِ إما للإشعارِ بعلوِّ
مرتبتِه وبُعد منزلتِه أو لكونِه في الجنةِ أي في ذلكَ خاصَّةً
دونَ غيرِه
فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون
أي فليرغبْ الراغبونَ بالمبادرة إلى طاعةِ الله تعالى وقيلَ
فليعملِ العاملونَ كقولِه تعالى لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ
العاملون وقيل فليستبقِ المستبقونَ وأصلُ التنافسِ التغالبُ في
الشيء النفيس النفس وأصلُه من النفس لعزتها قال الواحديُّ
نفستُ الشيءَ أنفسُه نفاسةً والتنافسُ تفاعلٌ منه كأنَّ كلَّ
واحدٍ من الشخصينِ يريدُ أنْ يستأثرَ به وقال البغويُّ وأصله
من الشيء النفس الذي يحرص
(9/128)
9 -
83 سورة المطففين (27 33)
عليه نفوس الناس ويزيده كلُّ أحدٍ لنفسِه وينفسُ به على غيرِه
أي يضنّ بهِ
(9/129)
وَمِزَاجُهُ مِنْ
تَسْنِيمٍ (27)
وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ
عطفٌ على ختامُه صفةٌ أخرى لرحيقٍ مثله وما بينَهما اعتراضٌ
مقررٌ لنفاستِه أي ما يمزج به على الرحيق من ما تسنيمٍ على
أنَّ مِن بيانيةٌ أو تبعيضيةٌ أو من نفِسه على أنَّها
ابتدائيةٌ والتسنيمُ علمٌ لعينٍ بعينِها سميتُ به إمَّا
لأنَّها أرفعُ شرابٍ في الجنة واما لأنها تأتيم من فوقِ رُويَ
أنَّها تجري في الهواء متسئمة فتصب في أوانيهم
(9/129)
عَيْنًا يَشْرَبُ
بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
عَيْناً
نصبَ على الاختصاصِ وجوازُ أنْ يكونَ حالاً من تسنيمٍ مع كونِه
جامدا لاتصافه وقولُه تعالى
يَشْرَبُ بِهَا المقربون
فإنَّهم يشربونها صِرفاً وتمزجُ لسائر أهلِ الجنةِ فالباءُ
مزيدةٌ أو بمَعْنى من قولِه تعالَى
(9/129)
إِنَّ الَّذِينَ
أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)
إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ
الخ حكايةٌ لبعضِ قبائحِ مُشركي قريشٍ جيءَ بها تمهيداً لذكرِ
بعضِ أحوالِ الأبرارِ في الجنةِ
كَانُواْ
في الدنيا
من الذينَ آمنوا يضحكونَ
أي يستهزئونَ بفقرائهم كعمارٍ وصهيبٍ وخبَّابٍ وبلالٍ وغيرِهم
من فقراءِ المؤمنينَ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ إمَّا للقصرِ
إشعاراً بغايةِ شناعةِ ما فعلُوا أي كانُوا من الذينَ آمنوا
يضحكونَ مع ظهور عدمِ استحقاقِهم لذلكَ على منهاج قوله تعالى
أَفِى الله شَكٌّ أو لمراعاةِ الفواصلِ
(9/129)
وَإِذَا مَرُّوا
بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)
وَإِذَا مَرُّواْ
أي فقراءُ المؤمنين
بِهِمُ
أي بالمشركينَ وهم في أنديتِهم وهو الأظهر وان جازَ العكسُ
أيضاً
يَتَغَامَزُونَ
أي يغمزُ بعضهم بعضاً ويشيرونَ بأعينِهم
(9/129)
وَإِذَا انْقَلَبُوا
إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)
وَإِذَا انقلبوا
من مجالسهِم
إلى أَهْلِهِمْ انقلبوا فَكِهِينَ
ملتذينَ بذكرِهم بالسوءِ والسخريةِ منهم وفيه إشارةٌ إلى
أنَّهم كانُوا لا يفعلونَ ذلكَ بمرأى من المارينَ بهم ويكتفونَ
حينئذٍ بالتغامزِ وقُرِىءَ فاكهينَ قيلَ هُمَا بمَعْنَى وقيلَ
فكهينَ أشرينَ وقيلَ فرحينَ وفاكهينَ متفكهينَ وقيلَ ناعمينَ
وقيلَ مازحينَ
(9/129)
وَإِذَا رَأَوْهُمْ
قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32)
وَإِذَا رَأَوْهُمْ
أينما كانُوا
قالوا إن هؤلاء لضالون
أي نسبُوا المسلمينَ ممن رأوهم ومن غيرهم إلى الضلال بطريق
التأكيد
(9/129)
وَمَا أُرْسِلُوا
عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)
وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ
على المسلمينَ
حافظين
حالٌ من واو
(9/129)
سورة المطففين (34 36)
قالوا أي قالو ذلك والحال أنهم ما أرسلوا من جهة الله تعالى
موكلينَ بهم يحفظونَ عليهم أحوالَهم ويهيمنونَ على أعمالِهم
ويشهدونَ برشدِهم وضلالِهم وهذا تهكمٌ بهم وإشعارٌ بأنَّ ما
اجترؤا عليه من القولِ من وظائفِ من أرسلَ من جهته تعالى ووقد
جُوِّزَ أن يكونَ ذلك من جملةِ قولِ المجرمينَ كأنَّهم قالُوا
إنَّ هؤلاءِ لضالونَ وما أُرسلوا علينا حافظينَ إنكاراً
لصدِّهم عن الشركِ ودعائِهم إلى الإسلامِ وإنما قيلَ عليهم
نقلاً له بالمعنى كما في قولك حلفَ ليفعلنَّ لا بالعبارةِ كما
في قولِك حلف لأفعلنَّ
(9/130)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)
فاليوم الذين آمنوا
أي المعهودون من الفقراءِ
مّنَ الكفار
أي من المعهودينَ وهو الأظهر وان أمكن التنعيم من الجانبينِ
يَضْحَكُونَ
حين يرونهم أذلاء مغلولينَ قد غِشيهم فنونُ الهوانِ والصَّغارِ
بعد العزةِ والكبرِ ورهقهم ألوانُ العذابِ بعد التنعمِ
والترفهِ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ للقصرِ تحقيقاً للمقابلةِ
أي فاليومَ هم من الكفارِ يضحكونَ لا الكفارُ منهم كما كانُوا
يفعلونَ في الدُّنيا وقولُه تعالى
(9/130)
عَلَى الْأَرَائِكِ
يَنْظُرُونَ (35)
عَلَى الأرائك يَنظُرُونَ
حالٌ من فاعلِ يضحكونَ أي يضحكون منهم ناظرين اليه وإلى ما هُم
فيه من سوءِ الحالِ وقيلَ يفتح للكفارِ بابٌ إلى الجنةِ فيقالُ
لهم اخرجُوا اليها فاذا وصولا إليها أُغلقَ دُونهم يفعلُ بهم
ذلكَ مراراً ويضحكُ المؤمنونَ مِنْهُمْ ويأباهُ قولُه تعالى
(9/130)
هَلْ ثُوِّبَ
الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
هَلْ ثُوّبَ الكفار مَا كَانُواْ
يَفْعَلُونَ
فإنه صريحٌ في أنَّ ضحكَ المؤمنين منهم جزاءٌ لضحكِهم منهم في
الدُّنيا فلا بدَّ من المجانسةِ والمشاكلةِ حتماً والتثويبُ
والإثابةُ المجازاةُ وقُرِىءَ بإدغامِ اللامِ في الثاءِ وعنه
صلى الله عليه وسلم منْ قرأَ سورةَ المطففينَ سقاهُ الله تعالى
يومَ القيامةِ من الرحيقِ المختومِ
(9/130)
84 سورة الانشقاق (1 5)
سورة الانشقاق مكية وآيها خمس وعشرون
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم
(9/131)
إِذَا السَّمَاءُ
انْشَقَّتْ (1)
إِذَا السماء انشقت
أي بالغمامِ كما في قولِه تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام
وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه تنشقُ من المجرةِ
(9/131)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا
وَحُقَّتْ (2)
وأذنب لِرَبّهَا
أي واستمعتْ أي انقادات وأذعنتْ لتأثيرِ قُدرتِهِ تعالى حين
تعلقتْ إرادتهُ بانشقاقِها انقيادَ المأمورِ المطواعِ إذا وردَ
عليه أمرُ الآمرِ المُطاعِ والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع
الإضافة إليها للإشعارِ بعلةِ الحُكْمِ وهذه الجملةُ
ونَظيرتُها الآتيةُ بمنزلة قولِه تعالى أَتَيْنَا طَائِعِينَ
في الإنباء عن كونِ ما نُسبَ إلى السماءِ والأرضِ من الانشقاق
المد وغيرِهما جارياً على مُقتضى الحكمةِ كما أُشيرَ إليهِ
فيما سلفَ
وَحُقَّتْ
أي جُعلت حقيقةً بالاستماع والانقيادِ لكنْ لا بعدَ أنْ لم تكن
كذلك بل في نفسها وحدذاتها من قولهم هو محقوقٌ بكَذا وحقيقٌ به
والمَعْنى انقادتْ لربِّها وهيَ حقيقةٌ بذلكَ لكنْ لا على أنَّ
المرادَ خصوصيةُ ذاتها من بين سائرِ المقدوراتِ بل خصوصية
القدرة القاهرةِ الربانيةِ التي يتأتى لها كلُّ مقدورٍ ولا
يتخلفُ عنها أمرٌ من الأمورِ فحقُّ الجملةِ أن تكونَ اعتراضاً
مقرراً لما قبلَها لا معطوفةً عليهِ
(9/131)
وَإِذَا الْأَرْضُ
مُدَّتْ (3)
وَإِذَا الأرض مُدَّتْ
أي بُسطتْ بإزالة جبالِها وآكامِها من مقارِّها وتسويتِها
بحيثُ صارتُ قاعاً صفصفاً لا ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً
أو زيدتْ سعَةً وبسطةً منْ مدَّهُ بمعنى أمدَّه أي زادَهُ
(9/131)
وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا
وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا
أي رمتْ ما في جوفِها من الموتَى والكنوزِ كقولِه تعالى
وَأَخْرَجَتِ الارض أَثْقَالَهَا
وخلتْ عمَّا فيها غايةَ الخلوِّ حتَّى لم يبقَ فيها شيءٌ منه
كأنَّها تكلفتْ في ذلكَ أقصَى جُهدِها
(9/131)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا
وَحُقَّتْ (5)
وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا
في الإلقاءِ والتخلِّي
وَحُقَّتْ
أيْ وهيَ حقيقةٌ بذلكَ أي شأنُها ذلكَ بالنسبةِ إلى القدرةِ
(9/131)
84 سورة الانشقاق (6 13)
الربانيةِ وتكريرُ كلمةِ إذا ما اتحادِ الأفعالِ المنسوبةِ إلى
السماءِ والأرضِ وقُوعاً في الوقتِ الممتدِّ الذي هُو مدلولُها
قد مرَّ سِرُّه فيمَا مَرَّ
(9/132)
يَا أَيُّهَا
الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا
فَمُلَاقِيهِ (6)
يأَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى
رَبّكَ كَدْحاً
أي جاهدٌ ومجدٌّ إلى الموت وما بعدَهُ من الأحوالِ التي
مُثِّلتْ باللقاءِ مبالغٌ في ذلكَ فإنَّ الكدحَ جهدُ النفسِ في
العملِ والكدُّ فيهِ بحيثُ يؤثرُ فيها من كدح جله إذا خدَشَةُ
فملاقيه
أي فملاقٍ لهُ عقيبَ ذلكَ لا محالة من غير صارف يلويك عنه قوله
تعالى
(9/132)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ
كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا
يَسِيرًا (8)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً
الخ قيلَ جوابُ إذا كما في قوله تعالى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم
منى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ
هُمْ يَحْزَنُونَ وقولُه تعالى يأيها الإنسان الخ اعتراضٌ
وقيلَ هو محذوفٌ للتهويل والإيماءِ إلى قصورِ العبارةِ عن
بيانِه أوْ للتعويلِ على مامر في سورةِ التكويرِ والانفطارِ
عليهِ وقيلَ هو ما دل عليه قوله تعالى يأيها الانسان الخ
تقديره لا قي الإنسانُ كَدحَهُ وقيلَ هو قولهُ تعالى فملاقيهِ
وما قبله اعتراضٌ وقيلَ هو يأيها الإنسانُ الخ بإضمارِ القولِ
يسير سهلاً لا مناقشةَ فيه ولا اعتراضَ وعن الصديقةِ رضي الله
عنها هُو أن يُعرّفَ ذنوبَهُ ثم يُتجاوزَ عَنْهُ
(9/132)
وَيَنْقَلِبُ إِلَى
أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)
وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً
أي عشيرتِه المؤمنينَ أو فريقَ المؤمنينَ مُبتهجاً بحالِه
قائلا هاؤم اقرؤا كتابيه وقيلَ إلى أهلهِ في الجنةِ من الحورِ
والغلمانِ
(9/132)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ
كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه وَرَاء
ظَهْرِهِ
أي يُؤتاهُ بشمالِه من وراءِ ظهرِه قيلَ تُغلُّ يمناهُ إلى
عنقِه ويجعلُ شمالُه وراءَ ظهرِه فيؤتى كتابَهُ بشمالِه وقيلَ
تخلعُ يدُه اليُسْرَى من وراءِ ظهرِه
(9/132)
فَسَوْفَ يَدْعُو
ثُبُورًا (11)
فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً
أي يتمنَّى الثبورَ وهو الهلاكُ ويدعوه يا ثبوراه تعالى فإنه
أوانُكَ وأنَّى له ذلكَ
(9/132)
وَيَصْلَى سَعِيرًا
(12)
ويصلى سَعِيراً
أي يدخلُها وقُرِىءَ يُصلّى كقوله تعالى وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ
وقرىءَ ويصلى كما في قوله تعالى ونصليه جهنم
(9/132)
إِنَّهُ كَانَ فِي
أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13)
إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ
فيما بينَ أهلِه وعشيرتِه في الدنيا
مسرورا
(9/132)
84 سورة الانشقاق (14 20)
مترفاً بَطِراً مستبشراً كديدنِ الفجارِ الذينَ لا يهمهم ولا
يخطر ببالهم أمورُ الآخرةِ ولا يتفكرونَ في العواقبِ ولم يكُنْ
حَزيناً متفكراً في حالهِ ومآلهِ كسنةِ الصلحاءِ والمتقينَ
والجملةُ استئنافٌ لبيانِ علةِ ما قَبلها وقولُه تعالى
(9/133)
إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ
لَنْ يَحُورَ (14)
إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ
تعليلٌ لسرورِه في الدنيا أي ظن أنْ لَنْ يرجِعُ إلى الله
تعالى تكذبيا للمعادِ وإنْ مخففةٌ مِنْ أنَّ سادّةٌ معَ ما في
حيزِها مسدَّ مفعولَيْ الظنِّ أو أحدَهُما عَلى الخِلافِ
المعروفِ
(9/133)
بَلَى إِنَّ رَبَّهُ
كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
بلى
إيجابٌ لما بعدَ لَنْ وقولُه تعالى
إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً
تحقيقٌ وتعليلٌ لهُ أيْ بَلَى ليحورَنَّ البتةَ إنَّ ربَّهُ
الذي خلقَهُ كانَ به وبأعمالِه الموجبةِ للجزاءِ بصيراً بحيثُ
لا يَخْفى منها خافيةٌ فلا بُدَّ منْ رجعهِ وحسابِه وجزائِه
عليها حَتماً وقيلَ نزلتْ الآيتانِ في أبي سَلَمةَ بنِ عبْدِ
الأشد وأخيه الأسودِ
(9/133)
فَلَا أُقْسِمُ
بِالشَّفَقِ (16)
فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق
هي الحمرةُ التي تُشاهدُ في أفقِ المغربِ بعد الغروبِ أو
البياضُ الذي يليها سُميَ بهِ لرقتِه ومنْهُ الشفقةُ التي هي
عبارةٌ عن رقة القلب
(9/133)
وَاللَّيْلِ وَمَا
وَسَقَ (17)
والليل وَمَا وَسَقَ
وما جمعَ وضمَّ يقالُ وسقَهُ فاتَّسقَ واستوسقَ أي جمعهُ
فاجتمعَ وما عبارةٌ عمَّا يجتمعُ بالليلِ ويأوِي إلى مكانهِ من
الدوابِّ وغيرِها
(9/133)
وَالْقَمَرِ إِذَا
اتَّسَقَ (18)
والقمر إِذَا اتسق
أي اجتمعَ وتمَّ بدراً ليلة اربع عشر
(9/133)
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا
عَنْ طَبَقٍ (19)
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ
أي لتُلاقُنَّ حالاً بعدَ حالٍ كُلُّ واحدةٍ منهَا مطابقةٌ
لأختها في الشدةِ والفظاعةِ وقيلَ الطبقُ جمع طبقةٍ وهي
المرتبةُ وهو اأوفق للركوبِ المنبىءُ عن الاعتلاءِ والمَعْنَى
لتركَبُنَّ أحوالاً بعدَ أحوالٍ هي طبقاتٌ في الشدةِ بعضُها
أرفعُ من بعضٍ وهي الموتُ وما بعدَه من مواطنِ القيامةِ
ودواهيها وقُرِىءَ لتَرْكَبَنَّ بالإفرادِ على خطابِ الإنسانِ
باعتبارِ اللفظِ لا باعتبارِ شمولهِ لأفرادِه كالقراءةِ الأولى
وقُرِىءَ بكسر الباء على خطابِ النفسِ وليَرْكَبَنَّ بالياءِ
أي ليركَبَنَّ الإنسانُ ومحلُّ عن طبقٍ النصبِ على أنَّه صفةٌ
لطبقاً أي طبقاً مجاوزاً لطبقٍ أو حال من الضمير في لتركبنَّ
طبقاً مجاوزينَ أو مجاورا أو مجاوزةً على حسبِ القراءةِ
والفاءُ في قولِه تعالى
(9/133)
فَمَا لَهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ (20)
فما لهم لايؤمنون
لترتيب ما بعَدَها منَ الإنكار والتعجيبِ على ما قبلها من
أحوالِ القيامةِ وأهوالِها الموجبة
(9/133)
84 سورة الانشقاق (21 25)
للإيمانِ والسجودِ أيْ إذا كانَ حالُهم يومَ القيامةِ كما
ذُكِرَ فأيُّ شيءٍ لهم حالَ كونِهم غيرَ مؤمنينَ أي أيُّ شيءٍ
يمنعُهم من الإيمانِ معَ تعاضدِ موجباتِه وقولُه تعالى
(9/134)
وَإِذَا قُرِئَ
عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)
واذا قرىء عليهم القرآن لاَ يَسْجُدُونَ
جملةٌ شرطيةٌ محلُّها النصبُ عَلى الحاليةِ نسقاً على ما
قَبلَها أيْ فأيُّ مانعٍ لهم حالُ عدمِ سجودِهم وخضوعِهم
واستكانتهم عندَ قراءةِ القُرآنِ وقيلَ قرأ النبيُّ عليه
الصلاةَ والسَّلامُ ذاتَ يومٍ واسجدْ واقتربْ فسجدَ هُو ومَنْ
مَعَهُ من المؤمنينَ وقريش تصفق فوق رؤسهم وتصفرْ فنزلتْ وبه
احتجَّ أبو حنيفة رحمه الله تعالَى عَلى وجوبِ السجدةِ وعن ابن
عباس رضي الله عنهما ليسَ في المفصلِ سجدةٌ وعن أبي هريرةَ
رضيَ الله عنه أنَّه سجَدَ فيها وقالَ والله ما سجدتُ إلا بعدَ
أن رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يسجدُ فيها وعن أنسٌ رضيَ
الله عَنْهُ صليتُ خلفَ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ رضيَ الله عنهم
فسجدُوا وعن الحسنِ هي غيرُ واجبةٍ
(9/134)
بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22)
بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذّبُونَ
بالقُرآنِ النَّاطقِ بما ذُكر من أحوال القيامة وأهوال مع
تحققِ موجباتِ تصديقهِ ولذلكَ لا يخضعونَ عندَ تلاوتِه
(9/134)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِمَا يُوعُونَ (23)
والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ
بما يضمرونَ في قلوبِهم ويجمعونَ في صدورِهم من الكفرِ والحسدِ
والبغي والبغضاءِ أو بما يجمعونَ في صحفهم من أعمال السواء
ويدخرون لأنفسهم من أنواع العذابِ علماً فعلياً
(9/134)
فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)
فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
لأنَّ علمَهُ تعالَى بذلكَ على الوجه المذكورِ موجبٌ لتعذيبهم
حتما
(9/134)
إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ
مَمْنُونٍ (25)
الا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ
استثناءٌ منقطعٌ إنْ جُعل الموصولُ عبارةً عن المؤمنينَ كافَّة
ومتصلٌ إنْ أريدَ به منْ امنَ منهمُ بعدَ ذلكَ وقولُه تعالى
لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
أي غيرُ مقطوعٍ أو ممنونٍ به عليم استئنافٌ مقررٌ لما أفادَهُ
الاستثناءُ من انتفاءِ العذابِ عنهم ومبينٌ لكيفيتهِ ومقارنتِه
للثوابِ العظيمِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم مَنْ قرأَ
سورةَ الانشقاق أعاذَهُ الله تعالَى أنْ يعطيَهُ كتابَهُ وراءَ
ظهرِه
(9/134)
|