تفسير أبي السعود إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

85 سورة البروج (1 4)
بسم الله الرحمن الرحيم

(9/135)


وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)

{والسماء ذَاتِ البروج} هيَ البروجُ الاثنَا عشرَ شبهتْ بالقصورِ لأنَّها تنزلُها السياراتُ ويكونُ فيِها الثوابتُ أو منازلُ القمرِ أو عظامُ الكواكبِ سميتْ بروجاً لظهورِها أو أبوابِ السماءِ فإنَّ النوازلَ تخرجُ منها وأصلُ التركيبِ للظهورِ

(9/135)


وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2)

{واليوم الموعود} أي يومُ القيامةِ

(9/135)


وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)

{وشاهد وَمَشْهُودٍ} أيْ ومَنْ يشهدُ في ذلكَ اليومِ من الخلائقِ وما يحضرُ فيه من العجائب وتنكرهما للإبهامِ في الوصفِ أي وشاهدٍ ومشهودٍ لا يُكتنهُ وصفُهُمَا أو للمبالغةِ في الكثرةِ وقيلَ الشاهدُ محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم والمشهودُ يومُ القيامةِ وقيلَ عيسَى عليهِ السلامُ وأمتهُ لقولِه تعالى وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً الخ وقيلَ أمةُ محمدٍ وسائرُ الأممِ وقيلَ يومُ الترويةِ ويومُ عرفةٍ وقيلَ يومُ عرفةَ ويومُ الجمعةِ وقيلَ الحجرُ الأسودُ والحجيجُ وقيلَ الأيامُ والليالي وبنُو آدمَ وعن الحسنِ مَا منْ يومٍ إلا ويُنادي إني يومٌ جديدٌ وإنِّي عَلى ما يعملُ فيَّ شهيدٌ فاغتنمني فَلَوْ غَابَتْ شَمْسِي لَمْ تُدركِني إلى يومِ القيامةِ وقيلَ الحفظةُ وبنُو آدمَ وقيلَ الأنبياءُ ومحمدُ عليهم الصلاةُ والسلام

(9/135)


قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)

{قُتِلَ أصحاب الأخدود} قيلَ هوَ جوابُ القسمِ عَلَى حذفِ اللامِ منهُ للطولِ والأصلُ لقتلَ كَمَا في قولِ مَنْ قالَ حَلَفتُ لَها بالله حِلْفَةَ فَاجِر لَنَامُوا فَمَا إنْ مِنْ حَدِيثٍ وَلاَ صَالِ وقيلَ تقديرُهُ لَقدْ قتلَ وأياً ما كانَ فالجملةُ خبريةٌ والأظهرُ أنَّها دعائيةٌ دالةٌ على الجواب كأنه قيلَ أقسمُ بهذهِ الأشياءِ أنهمْ أيْ كفارَ مكةَ ملعونونَ كما لعنَ أصحابُ الأخدودِ لَمَّا أنَّ السورةَ وردتْ لتثبيتِ المؤمنينِ عَلى ما هم عليه من الإيمان وصبرهم عليه من الإيمانِ وتصبيرِهم على أذية الكفرةِ وتذكيرهم بما جرى عَلى مَنْ تقدَّمهم من التعذيبِ على الإيمانِ وصبرُهُم عَلى ذلكَ حتى يأتسوا بِهمْ ويصبُروا على ما كانُوا يلقونَ من قومِهم ويعلُموا أنَّ هؤلاءِ عندَ الله عزَّ وجلَّ

(9/135)


بمنزلةِ أولئكِ المُعذِّبينِ ملعونونَ مثلُهم أحقاءُ بأنْ يقالَ فيهمْ ما قَدْ قيلَ فيهم وقرئ قُتِّلَ بالتشديدِ والأخدودُ الخَدُّ في الأرضِ وهو الشقُّ ونحوهما بناء ومعنى الخق والأخقوق وروى عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه كانَ لبعضِ الملوكِ ساحرٌ فلما كبرَ ضَمَّ إليه غلام ليعلِّمهُ السحرَ وكانَ في طريقِ الغلامِ راهبٌ فسمعَ منْهُ فرأى في طريقهِ ذاتَ يومٍ دابةً قدْ حبستِ النَّاسَ قيلَ كانتِ الدابةُ أسداً فأخذَ حَجَراً فقالَ اللهمّ إنْ كانَ الراهبُ أحبَّ إليكَ منَ الساحر فاقتلها فقتلها فكانَ الغلامُ بعدَ ذلكَ يبرئ الأكمه والأبرصَ ويَشفيَ من الأدواء وعمى جليس للملك فأبره فأبصرَهُ الملكُ فسألهُ منْ رد عليك فقالَ ربِّي فغضبَ فعذَّبه فدلَّ علَى الغلامِ فعذَّبه فدلَّ على الراهبِ فلم يرجعِ الراهبُ عن دينِه فقدَّ بالمنشارِ وأبى الغلامُ فذهبَ بهِ إلى جبلٍ ليطرحَ من ذروته فدعا فرجفَ بالقومِ فطاحُوا ونجَا فذهبَ به إلى قُرْقُورٍ فلججُوا بِه ليغرقُوه فدعا فانكفأتْ بهم السفينةُ فغرقُوا ونجا وقال للملكِ لستَ بقاتِلي حَتَّى تجمعَ النَّاسَ في صعيدٍ وتصلبني عَلى جذْعٍ وتأخذَ سهما من كناتى وتقولَ باسمِ الله ربِّ الغُلامِ ثمَّ ترميني بهِ فرماهُ فوقعَ في صُدغِه فوضَعَ يَدَهُ عليهِ وماتَ فقالَ النَّاسُ آمنَّا بربِّ الغلام فقيل للملك نزلَ بكَ ما كنتَ تحذرُ فأمرَ بأخاديدَ في أفواهِ السككِ وأوقدتْ فيها النيرانُ فمنْ لَمْ يرجعْ منهمْ طرحَهُ فيها حتَّى جاءت امرأةٌ معها صبيٌّ فتقاسمت فقالَ الصبيُّ يا أماهُ اصبري فإنَّكِ على الحق فاقتحمتْ وقيلَ قال لها قعى ولا تنافقى ماهي غلا غمبضة فصبرتْ قيلَ أُخرجَ الغلامُ منْ قبرهِ في خلافةِ عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنهُ وأصبعُهُ على صُدْغِه كَما وضعها حينَ قتلَ وعَنْ عليَ رضيَ الله عنهُ أنَّ بعضَ ملوكِ المجوسِ وقعَ عَلىَ أختهِ وهو سكرانُ فلما صحا ندمَ وطلبَ المخرجَ فقالتْ لَهُ المخرجُ أن تخطبَ بالنَّاسِ فتقولَ إنَّ الله قدْ أحلَّ نكاحَ الأخواتِ ثمَّ تخطبُهم بعدَ ذلكَ أنَّ الله قد حرَمَهُ فخطبَ فلم يقبلُوا مِنْهُ فقالتْ لَهُ ابسطْ فيهمْ السوطَ ففعلَ فلم يقبلوا فقالتْ لَهُ ابسطْ فيهمْ السيفَ ففعلَ فلم يقبلُوا فأمرَ بالأخاديدِ وإيقادِ النارِ وطرحَ منْ أَبَى فيها فهم الذين أراد الله تعالى بقولِه قُتِلَ أصحاب الأخدود وقيلَ وقعَ إلى نجران رجل مما كانَ على دينِ عيسى عليه السلامُ فدعاهُم فأجابوُه فسارَ إليهم ذُو نواسٍ اليهوديُّ بجنودٍ من حِمْيرٍ فخيرهُمْ بينَ النارِ واليهوديةِ فأبو فأحرقَ منهمْ اثني عشرَ ألفاً في الأخاديدِ وقيلَ سبعينَ ألفاً وذكرَ أنَّ طولَ الأخدودِ أربعونَ ذراعاً وعرضَهُ اثنا عشرَ ذِراعاً

(9/136)


النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)

النار بد اشتمال من الخدود
ذَاتِ الوقود وصفٌ لها بغاية العطظم وارتفاعِ اللهبِ وكثرةِ ما يوجبُهُ منَ الحطبِ وأبدانِ الناس وقرئ الوقودُ بالضمِّ وقولُه تعالى

(9/136)


إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6)

إذ هم عليها تعود ظرفٌ لقتلَ أي لعنُوا حينَ أحدقُوا بالنَّارِ قاعدينَ حولَها في مكانٍ مشرفٍ علَيها من حافاتِ الأخدودِ كما في قولِه
وَبَاتَ عَلَى النَّارِ النَّدَى وَالمُحَلَّقُ

(9/136)


85 سورة البروج (7 11)

(9/137)


وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)

وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ
أيْ يشهدُ بعضُهم لبعضٍ عندَ الملكِ بأنَّ أحداً لمْ يقصرْ فيما أُمِرَ بهِ أوْ أنهم شهودٌ يشهدونَ بما فعلُوا بالمؤمنينَ يومَ القيامةِ يومَ تشهدُ عليهم أَلْسِنَتُهُمْ وأيديهُمْ وقيلَ عَلَى بمعنَى معَ والمعْنَى وهُم معَ مَا يفعلونَ بالمؤمنينَ منَ العذابِ حضورٌ لاَ يرقُّونَ لهم لغايةِ قسوةِ قُلُوبِهمْ هَذَا هُو الذي يستدعيه النظمُ الكريمُ وتنطقُ بِه الرواياتُ المشهورةُ وَقْد رُويَ أنَّ الجبابرةَ لما ألقوا المؤمنينَ في النَّارِ وهم قعودٌ حولَها علقت بهمْ النَّارُ فأحرقتُهمْ ونجَّى الله عزَّ وجلَّ المؤمنينَ منها سالمينَ وإلى هَذَا القولِ ذهَبَ الربيعُ بنُ أنسٍ والواحديُّ وعلى ذَلكَ حَمَلا قولَهُ تعالى ولهم عذابُ الحريقِ

(9/137)


وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)

وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ
أيْ ما أنكرُوا منهم وما عابُوا
إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد
استئناف مفصحٌ عن براءتِهم عَمَّا يعاب وينكرُ بالكليةِ على منهاجِ قولهِ ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ ضيوفَهُم تُلامُ بنسيانِ الأحبَّةِ والوطن ووَصفُهُ تعالَى بكونِه عزيزاً غالباً يُخشى عقابُه وحميداً منعماً يُرجَى ثوابُه وتأكيدُ ذلكَ بقولِه تعالَى

(9/137)


الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)

الذى لَهُ مُلْكُ السموات والأرض
للإشعارِ بمناطِ إيمانهِم وقولُه تعالى
والله على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ
وعدٌ لهم ووعيدٌ شديدٌ لمعذبيهمْ فإنَّ علمِه تعالى بجميعِ الأشياءِ التي من جُملتِها أعمالُ الفريقينِ يستدعي توفيرَ جزاءِ كُلِّ منهمَا حَتْماً

(9/137)


إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)

إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات
أي محنوهُم في دينهم ليرجعُوا عَنْهُ والمرادُ بهمْ إمَّا أصحابُ الأخدودِ خاصة وبالمفتونين المطرحون في الأخدودِ وإما الذينَ بلوهم في ذلكَ بالأذيةِ والتعذيبِ على الإطلاقِ وهم داخلونَ في جملتِهم دخولاً أولياً
ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ
أي عن كفرِهم وفتنتهم فإنَّ ما ذُكر من الفتنةِ في الدينِ لا يتصورُ من غيرِ الكافرِ قطعا وقولُه تعالَى
فَلَهُمْ عَذَابُ جهنم
حملة وقت خبراً لأنَّ أوْ الخبر لَهُم وعذابٌ مرتفعٌ بهِ على الفاعليةِ وهو الأحسنُ والفاءُ لتضمُّنِ المبتدأِ معنى الشرطِ ولا ضيرَ في نسخِه بأنَّ وإنْ خالفَ الأخفشُ والمَعنى لهُم في الآخرة عذاب جهنَم بسببِ كفرِهم
وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق
وهي نارٌ أُخرى عظيمةٌ بسببِ فتنتِهم للمؤمنين

(9/137)


إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)

ان الذين آمنوا وعملوا

(9/137)


85 سورة البروج (12 16) الصالحات
على الإطلاقِ منَ المفتونينَ وغيرِهم
لَهُمْ
بسببِ ما ذكر من الإيمان والعملِ الصالحِ
جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار
إن أريد بالجنات الأشجار لجريان الأنهارِ من تحتها ظاهرٌ وإنْ أُريد بها الأرضُ المشتعلة عليها فالتحية باعتبارِ جزئِها الظاهرِ فإن أشجارَها ساترةٌ لساحتِها كما يعربُ عنْهُ اسمُ الجنةِ وقد مرَّ بيانُه مراراً
ذلك
إشارةٌ إمَّا إلى الجناتِ الموصوفةِ والتذكيرُ لتأويلِها بما ذكرَ للإشعارِ بأنَّ مدارَ الحكمِ عنوانُهَا الذي يتنافس فيها المتنافسون فإنَّ اسمَ الإشارةِ متعرضٌ لذاتِ المشارِ إليهِ منْ حيثُ اتصافُهُ بأوصافِه المذكورةِ لا لذاتِه فقطْ كما هو الشأن الضميرِ فإذا أشيرَ إلى الجناتِ منْ حيثُ ذكرُهَا فقد اعتبر منها عنوانُها المذكورُ حتماً وإما إلى ما يُفيده قولُه تعالَى لهم جناتٌ الخ من حيازتِهم لَها فإنَّ حصولها لهم مستلزم لحايزتهم لها قَطْعاً وأيَّا ما كان فما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتِه وبُعدِ منزلتِه في الفضلِ والشرفِ ومحله الرفعُ على الابتداءِ خبرُه ما بعدُه أي ذلكَ المذكورُ العظيمُ الشأنِ
الفوز الكبير
الذي تصغر عندَهُ الدُّنيا وَمَا فِيْهَا من فنون الرغائب بحذافيرها والفوزُ النجاةُ منَ الشرِّ والظفر بالخير فعالى الأولِ هو مصدرٌ أُطلق على المفعولِ مبالغة وعلى الثانِي مصدرٌ عَلَى حالِه

(9/138)


إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)

إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ
استئنافٌ خُوطب بهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إيذاناً بأنَّ لكفارِ قومِهِ نصيباً موفُوراً منْ مضمونِه كما يُنْبىء عنه التعرُّضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلامُ والبطشُ الأخذُ بعُنْفٍ وحيثُ وصفَ بالشدةِ فقدْ تضاعفَ وتفاقمَ وهو بطشُه بالجبابرةِ والظلمةَ وَأخذُه إيَّاهُم بالعذابِ والانتقامِ كقولِه تعالَى وكذلك أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِىَ ظالمة إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ

(9/138)


إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)

إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىء وَيُعِيدُ
أيْ هُو يُبدْىءُ الخلقِ وهو يعيده من غيرِ دخلٍ لأحدٍ في شيءٍ منْهُمَا ففيهِ مزيد تقرير لشدته بطشِه أوُ هُو يبدىءُ البطشَ بالكفرةِ في الدُّنيا وَيعيدُه فِي الآخرةِ

(9/138)


وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)

وَهُوَ الغفور
لمن تاب وآمنَ
الودود
المحبُّ لمَنْ أطاعَ

(9/138)


ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)

ذُو العرش
خالقُه وقيلَ المرادُ بالعرشِ الملكُ أيْ ذُو السلطنةِ القاهرةِ وقُرِىءَ ذِي العَرشِ عَلى أنَّهُ صفةُ ربِّك
المجيد
العظيمُ في ذاتِه وصفاتِه فإنَّهُ واجبُ الوجودِ تامُّ القُدرةِ كاملُ الحكمةِ وقُرِىءَ بالجرِّ على أنَّه صفةٌ لربِّكَ أَوْ للعرشِ ومجدُه علوّه وعظمتُه

(9/138)


فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)

فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ
بحيثُ لا يتخلفُ عنْ إرادتِه مرادٌ من أفعالِه تعالَى وأفعالِ غيرِه وهو خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ

(9/138)


85 سورة البروج (17 22)
وقوله تعالى

(9/139)


هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17)

هل أتاك حَدِيثُ الجنود
استئنافٌ مقررٌ لشدةِ بطشِه تعالَى بالظلمةِ العصاة والكفرة والعتاة وكونُه فعالاً لما يريدُ متضمنٌ لتسليتِه عليه الصلاةُ والسلامُ بالإشعارِ بأنهُ سيصيبُ قومَهُ ما أصابَ الجنودَ

(9/139)


فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)

فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ
بدلٌ منَ الجنودِ لأنَّ المرادَ بفرعونَ هُوَ وقومُه والمرادُ بحديثِهم ما صدرَ عنهُم من التمادِي في الكفرِ والضلالِ وما حلَّ بهمْ منَ العذابِ والنكالِ وَالمَعْنى قدْ أتاك حديثهم وعرفت ما فعلوا وما فُعل بهمْ فذكِّر قومكَ بشؤونِ الله تعالَى وأنذرهم ان يصبهم مثل ما أصاب أمثالهم وقوله تعالى

(9/139)


بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)

بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى تَكْذِيبٍ
إضراب عن مماثلتِهم لهُم وبيانٌ لكونِهم أشدَّ منُهم في الكفرِ والطغيانِ كأنَّه قيلَ ليسُوا مثلُهم في ذلك بل هم أشدُّ منهمُ في استحقاقِ العذابِ واستيجابِ العقابِ فإنَّهم مستقرونَ فِي تكذيبٍ شديدٍ للقرآنِ الكريمِ أو قيلَ ليستْ جنايتُهم مجردَ عدمِ التذكر والاتعاظ بما سمعُوا منْ حديثِهم بلْ هُم معَ ذلكَ في تكذيب شديدٍ للقُرآنِ الناطقِ بذلكَ لكنْ لا أنَّهم يكذبونَ بوقوعِ الحادثةِ بلْ بكونِ ما نطقَ بهِ قرآناً منْ عندِ الله تعالى معَ وضوحِ أمرِه وظهور حاله بالبيانات الباهرةِ

(9/139)


وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20)

والله مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ
تمثيلٌ لعدمِ نجاتِهم منْ بأسِ الله تعالَى بعدمِ فوتِ المحاطِ المحيطَ وقولُه تعالى

(9/139)


بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)

بل هو قرآن مَّجِيدٌ
ردٌّ لكفرهم وإبطالٌ لتكذيبهم وتحقيقٌ للحقِّ أيْ ليسَ الأمرُ كَما قالُوا بلْ هُو كتابٌ شريف عالِي الطبقةِ فَيما بينَ الكتبِ الإلهيةِ في النظمِ والمَعْنى وقُرِىءَ قرآنُ مجيدٍ بالإضافةِ أيْ قرآنُ ربَ مجيدٍ

(9/139)


فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)

فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ
أيْ منَ التحريفِ ووصولِ الشياطين إليهِ وقُرِىءَ محفوظٌ بالرَّفعِ عَلى أنَّه صفةُ قرآنٍ وقُرِىءَ في لوحٍ وَهُوَ الهَوَاءُ أي ما فوقَ السماءِ السابعةِ الذي فيهِ اللوح عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ البروجِ أعطاهُ الله تعالَى بعددِ كلِّ جمعةٍ وعرفةٍ تكونُ في الدُّنيا عشر حسنات

(9/139)


86 سورة الطارق (1 4)
سورة الطارق مكية وآيها سبع عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم

(9/140)


وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)

والسماء والطارق
الطارقُ في الأصلِ اسمُ فاعلٍ منْ طرق طرقا وطرقا إذَا جاءَ ليلاً قالَ المَاوِرْدِيُّ وأصلُ الطرقِ الدقُّ ومنه سميتِ المطرقةُ وإنما سميَ قاصدُ الليلِ طارقاً لاحتياجِه إلى طرقِ البابِ غالباً ثم اتُّسعَ في كلِّ ما ظهرَ بالليلِ كائناً ما كانَ ثم أشبعَ في التوسعِ حتى اطلق على الصور الخالية الباديةِ بالليلِ قال طرقَ الخيالُ ولا كليلةِ مدلج سدكاً بأرجلنَا ولم يتبرجِ والمرادُ ههنا الكوكبُ البادِي بالليلِ أما عَلى أنَّه اسمُ جنسٍ أو كوكبٌ معهودٌ وقيلَ الطارقُ النجمُ الذي يقالُ له كوكبُ الصبحِ وقولُه تعالى

(9/140)


وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2)

وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطارق
تنويهٌ بشأنِه إثرَ تفخيمِه بالإقسامِ به وتنبيهٌ على أنَّ رفعةَ قدرِه بحيثُ لا ينالُها إدراكُ الخلقِ فلا بُدَّ من تلقِّيها من الخلاَّقِ العليمِ فما الأُولى مبتدأٌ وأدراكَ خبرٌ والثانيةُ خبرٌ والطارقُ مبتدأٌ حسبما بينَ في نظائرِه أي وأي شيء أعلمك ما الطارقُ وقولُه تعالى

(9/140)


النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)

النجم الثاقب
خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ والجملةُ استئنافٌ وقعَ جواباً عن استفهامٍ نشأَ مما قبله كأنه قيل ما هو فقيلَ النجمُ المضيءُ في الغايةِ كأنَّه يثقبُ الظلامُ أو الأفلاكُ بضوئِه وينفذُ فيَها والمرادُ بهِ إما الجنسُ فإنَّ لكلِّ كوكبٍ ضوءاً ثاقباً لا محالةَ وإما كوكبٌ معهودٌ قيلَ هو زُحَلُ وقيلَ هو الثُّريَّا وقيلَ هو الجَديُ وقيل النجمُ الثاقبُ نجمٌ في السماءِ السابعةِ لا يسكُنها غيرُه فإذا أخذتِ النجومُ أمكنتَها من السماءِ هبط فكانَ معها ثم يرجعُ إلى مكانِه من السماءِ السابعةِ وهو زُحل فهو طارقٌ حينَ ينزلُ وحينَ يصعدُ وفي إيرادِه عندَ الإقسامِ به بوصفٍ مشتركٍ بينه وبين غيرِه ثم الإشارةِ إلى أنَّ ذلكَ الوصفَ غير كنِه أمرِه وأن ذلكَ مما لا تبلغه أفكارُ الخلائقِ ثم تفسيرِه بالنجمِ الثاقبِ من تفخيمِ شأنه وإجلال محله ما لا يخفى وقوله تعالى

(9/140)


إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)

{إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} جوابٌ للقسمِ وما بينهما اعتراضٌ جيءَ به لما

(9/140)


ذكرمن تأكيد فخامة المقسمبه المستتبعِ لتأكيدِ مضمونِ الجملةِ المقسمِ عليها وإنْ نافيةٌ ولما بمعنى إلا أي ما كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا حافظٌ مهيمنٌ رقيبٌ وهو الله عزَّ وجلَّ كما في قوله تعالى وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء رَّقِيباً وقيلَ هو من يحفظُ عملَها ويُحصي تعالى {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين كِرَاماً} الآيةَ وقولُه تعالى {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} وقولُه تعالى {لَهُ معقبات مّن بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خلفِه يَحْفَظُونَهُ} وقُرِىءَ لَمَا مخففةٌ على أنَّ إنْ مخففةٌ من الثقيلةِ واسمُها الذي هو ضميرُ الشأنِ محذوفٌ والَّلامُ هي الفارقةُ وما مزيدةٌ أي أنَّ الشأنَ كلُّ نفسٍ لعليها حافظٌ والفاء في قوله تعالى

(9/141)


فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)

فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ
للتنبيهِ على أنَّ مَا بُينَ مِنْ أن كلَّ نفسٍ عليها حافظٌ يُحصي عليها كلَّ ما يصدرُ عنها من قولٍ وفعلٍ مستوجبٌ على الإنسانِ أنْ يتفكرَ في مبدأِ فطرتِه حق التفكر حتى يتضح له أن من قدر على إنشائه من موادّ لم تشمّ رائحة الحياة قط فهو قادرٌ على إعادتِه بل أقدرُ على قياسِ العقلِ فيعملَ ليومِ الإعادةِ والجزاءِ ما ينفعُه يومئذٍ ويجديهِ ولا يملى على حافظِه ما يرد به وقولُه تعالى

(9/141)


خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)

خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ
استئنافٌ وقع جوابا عن استفهامٍ مقدرٍ كأنه قيلَ ممَّ خلقَ فقيلَ خلقَ من ماءٍ ذِي دفقٍ وهو صبٌّ فيه دفعٌ وسيلانٌ بسرعةٍ والمرادُ بهِ الممتزجُ من الماءينِ في الرحمِ كما ينبىءُ عنه قولُه تعالى

(9/141)


يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)

يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترائب
أي صلبِ الرجلِ وترائبِ المرأةِ وهي عظامُ صدرِها قالوا إن النطفةَ تتولدُ من فضلِ الهضمِ الرابعِ وتنفصلُ عن جميعِ الأعضاءِ حتى تستعدَّ لأنْ يتولدَ منها مثلُ تلك الأعضاءِ ومقرُّها عروقٌ ملتفٌ بعضُها بالبعضِ عند البيضتينِ فالدماغُ أعظمُ الأعضاءِ معونةً في توليدِها ولذلك تشبهُه ويورثُ الإفراطُ في الجماعِ الضعفَ فيهِ وله خليفه هي النخاعُ وهو في الصلبِ وشعبٌ كثيرةٌ نازلة إلى الترائبِ وهما أقربُ إلى أوعيةِ المنيِّ فلذلك خُصَّا بالذكرِ وقُرِىءَ الصَّلَبِ بفتحتينِ والصُّلُبِ بضمتينِ وفيه لغةٌ رابعةٌ هي صالبُ

(9/141)


إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)

أَنَّهُ
الضميرُ للخالقِ تعالَى فإنَّ قولَه خُلِقَ يدلُّ عليهِ أيْ أنَّ ذلكَ الذي خلقَهُ إبتداءً مما ذكرَ
على رَجْعِهِ
أي على إعادتِه بعد موتِه
لَقَادِرٌ
لبينُ القدرة

(9/141)


يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)

يَوْمَ تبلى السرائر
أي يُتعرفُ ويُتصفحُ ما أُسرَّ في القلوبِ من العقائدِ والنياتِ وغيرها وما أُخفي من الأعمالِ ويُميزُ بين ما طابَ منها وما خبث وهو

(9/141)


86 سورة الطارق (10 14)
ظرفٌ لرجعِه

(9/142)


فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)

فَمَا لَهُ
أي للإنسانِ
مِن قُوَّةٍ
في نفسِه يمتنعُ بها
وَلاَ نَاصِرٍ
ينتصرُ به

(9/142)


وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)

والسماء ذَاتِ الرجع
أي المطرِ سميَ رَجْعاً لَما أن العربَ كانوا يزعمونَ أن السحابَ يحملُ الماءَ من يحار الأرضِ ثم يرجعُه إلى الأرضِ أو أرادُوا بذلكَ التفاؤلَ ليرجعَ ولذلك سمَّوه أوباً أو لأنَّ الله تعالى يرجعه

(9/142)


وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)

والأرض ذَاتِ الصدع
هو ما تتصدعُ عنه الأرضُ من النباتِ أو مصدرٌ من المبنيِّ للمفعولِ وهو تشققُها بالنباتِ لا بالعيونِ كما قيلَ فإن وصفَ السماءِ والأرضِ عند الإقسامِ بهما على حقية القرآنِ الناطقِ بالبعثِ بما ذُكِرَ منَ الوصفينِ للإيماءِ إلى أنَّهما في أنفسِهما من شواهدِه وهو السرُّ في التعبيرِ بالصدعِ عنه وعن المطرِ بالرجعِ وذلك في تشققِ الأرضِ بالنباتِ المحاكِي للنشورِ حسبما ذكرَ في مواقعَ من التنزيلِ لا في تشققِها بالعيونِ

(9/142)


إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13)

أَنَّهُ
أي القُرآنَ الذي من جُملته ما تُلي من الآياتِ الناطقةِ بمبدأِ حال الإنسانِ ومعادِه
لَقَوْلٌ فَصْلٌ
أي فاصلٌ بين الحقِّ والباطلِ مبالغٌ في ذلك كأنه نفسُ الفصلِ

(9/142)


وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)

وَمَا هوَ بالهزل
ليس في شيءٍ منه شائبةُ هزلٍ بل كله جدٌّ محضٌ لا هوادةَ فيه فمن حقِّه أن يهتديَ به الغواةُ وتخضعَ له رقابُ العتاةِ

(9/142)


إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15)

أَنَّهُمْ
أي أهلَ مكةَ
يَكِيدُونَ
في إبطالِ أمرِه وإطفاءِ نورِه
كَيْداً
حسبما نفى به قدرتُهم

(9/142)


وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)

وَأَكِيدُ كَيْداً
أي أقابلهُم بكيدٍ متينٍ لا يمكنُ ردُّه حيثُ أستدرجُهم من حيثُ لا يعلمونَ

(9/142)


فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)

فَمَهّلِ الكافرين
أي لا تشتغلْ بالانتقامِ منهم ولا تدع عليهم بالهلاك اولا تستعجلْ بهِ والفاءُ لترتيبِ ما بعدها على ما قبلها فإنَّ الإخبارَ بتوليهِ تعالى لكيدهم بالذاتِ مما يوجبُ إمهالَهم وتركَ التصدِّي لمكايدتِهم قطعاً وقولُه تعالى
أَمْهِلْهُمْ
بدلٌ من مَهِّل وقولُه تعالى
رُوَيْداً
إما مصدر مؤكد لمعنى العاملِ أو نعتٌ لمصدره المحذوف اي أمهلهم إمهالاً رُويداً أي قريباً كما قاله ابن عباس رضيَ الله عنْهُما أو قليلا

(9/142)


87 سورة الأعلى (1 3)
كما قاله قَتادةُ قال أبو عبيدةَ هُو في الأصلِ تصغيرُ رُود بالضمِّ وأنشدَ كأنَّها ثَمِلٌ تَمشي عَلى رُودِ أي على مهل وقيل تصغيرا رواد مصدرا رود بالترخيمِ وله في الاستعمالِ وجهانِ آخرانِ كونُه اسمَ فعل نحو رويدا زيد وكونُه حالاً نحو سارَ القومُ رويداً أَي متمهلينَ وفي إيرادِ البدلِ بصيغةٍ لا تحتملُ التكثيرَ وتقييدُه برويداً على أحدِ الوجهينِ المذكورينِ من تسليةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتسكين قلبه مالا يخفى وعنه صلى الله عليه وسلم من قرأَ سورةَ الطارقِ أعطاه الله تعالى بعدد كلِّ نجمَ في السماءِ عشرَ حسناتٍ والله أعلمُ
سورة الأعلى مكية وآيها تسع عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم

(9/143)


سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)

سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى
أي نزه اسَمُه عزَّ وجلَّ عن الإلحادِ فيه بالتأويلاتِ الزائغةِ وعن إطلاقِه على غيرِه بوجهٍ يُشعرُ بتشاركِهما فيهِ وعن ذكرِه لاَ عَلى وجهِ الإعظامِ والإجلالِ والأعلى إمَّا صفةُ للربِّ وهو الأظهرُ أو للاسمِ وقُرِىءَ سُبحانَ ربِّيَ الأَعْلَى وفي الحديثِ لما نزلتْ {فسبح باسمِ ربِّكَ العظيمِ} قال عليه الصَّلاةُ والسلام اجلعوها في ركوعِكم فلمَّا نزلَ {سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى} قالَ اجعلُوها في سُجودِكم وكانُوا يقولونَ في الركوعِ اللهمَّ لكَ ركعتُ وفي السجودِ اللَّهم لكَ سجدتُ

(9/143)


الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)

الذى خَلَقَ فسوى
صفةٌ أُخرى للربِّ على الوجهِ الأولِ ومنصوبٌ على المدحِ على الثَّانِي لئلا يلزمَ الفصلُ بين الموصوفِ والصفةِ بصفةِ غيرِه أيْ خلقَ كلَّ شيءٍ فسوَّى خلقَهُ بأنْ جعلَ له ما به يتأتى كما له ويتسنَّى معاشُه وقولُه تعالَى

(9/143)


وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)

والذى قَدَّرَ
إمَّا صفةٌ أُخْرى للربِّ كالموصول الأولِ أو معطوفٌ عليهِ وكذا حالُ ما بعدَهُ قدَّرَ أجناسَ الأشياءِ وأنواعِها وأفرادَها ومقاديرَها وصفاتِها وأفعالَها وآجالَها
فهدى
أيْ فوجَّه كلَّ واحدٍ منَها إلى ما يصدرُ عنْهُ وينبغِي لهُ طبعاً أو اختياراً ويسرهُ لما خُلقَ له بخلقِ الميولِ والإلهاماتِ ونصبُ الدلائلِ وإنزالِ الآياتِ ولو تتبعتَ احوال النباتات والحيوانات

(9/143)


87 سورة الأعلى (4 7)
لرأيت كلَ منَها ما تحارُ فيه العقولُ يُروى أنَّ الأفعَى إذَا بلغتْ ألفَ سنةٍ عميتْ وقدْ ألهمَها الله تعالَى أنْ تمسحَ عينَها بورقِ الرازيانجِ الغضِّ يُردُّ إليها بصرُها فربَّما كانتْ عندَ عُروضِ العَمَى لها في بريةٍ بينَها وبين الريفِ مسافةٌ طويلةٌ فتطويها حتى تهجمَ في بعضِ البساتينِ على شجرة الرازيانجِ لا تُخطئها فتحكَّ عينَها بورَقِها وترجعَ باصرةً بإذنِ الله عزَّ وجلَّ ويُروى أنَّ التمساحَ لا يكونُ له دُبرٌ وإنَّما يخرجُ فضلاتِ ما يأكلُه من فمِه حيثُ قيَّضَ الله له طائراً قُدِّر غذاؤُه من ذلكَ فإذَا رآهُ التمساحُ يفتحُ فمَهَ فيدخُلُه الطائرُ فيأكلُ ما فيهِ وقد خلقَ الله تعالى له من فوقِ منقارِه ومن تحتِه قرنينِ لئلا يطبقَ عليه التمساحُ فمَهُ هَذا وأمَّا فنونُ هداياتِه سبحانَهُ وتعالَى للإنسانِ من حيثُ الجسميةُ ومن حيثُ الحيوانيةُ لا سيِّما من حيثُ الإنسانيةُ فممَّا لا يحيطُ به فَلَكُ العبارةِ والتحريرُ ولا يعلمُه إلا العليمُ الخبر

(9/144)


وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)

والذى أَخْرَجَ المرعى
أيْ أنبتَ ما يرعاهُ الدوابُّ غضّاً طرياً يرفُ

(9/144)


فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)

فَجَعَلَهُ
بعدَ ذلكَ
غُثَاء أحوى
أي دَريناً أسودَ وقيلَ أحْوَى حالٌ من المَرْعى أي أخرجَهُ أَحْوَى من شدة الخضرةِ والريِّ فجعلَه غُثاءً بعدَ ذلكَ وقولُه تعالى

(9/144)


سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)

سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى
بيانٌ لهداية الله تعالَى الخاصَّةِ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم إثرَ بيانِ هدايتِه تعالى العامَّةِ لكافَّةِ مخلوقاتِه وهي هدايته عليه الصلاة والسلام لتلقِّي الوَحْي وحفظِ القرآنِ الذي هو هُدى للعالمينَ وتوفيقُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لهدايةِ الناسِ أجمعينَ والسين إمَّا للتأكيدِ وإمَّا لأنَّ المرادَ إقراءُ ما أَوْحى الله إليهِ حينئذٍ وما سيُوحى إليهِ بعدَ ذلكَ فهو وعد كريم باستمرار الوَحْي في ضمنِ الوعدِ بالإقراءِ أي سنُقرئكَ ما نُوحِي إليكَ الآنَ وفيما بعدُ على لسانِ جبريلَ عليهِ السَّلامُ أو سنجعلكَ قارئاً بإلهامِ القراءةِ فلا تنْسى أصلاً من قوةِ الحفظِ والإتقانِ مع أنَّكَ أميٌّ لا تدرِي ما الكتابُ وما القراءةُ ليكونَ ذلك آيةً أُخْرى لكَ معَ ما في تضاعيفِ ما تقرؤه من الآياتِ البيناتِ من حيثُ الإعجازُ ومن حيثُ الإخبارُ بالمغيباتِ وقيلَ فلا تنْسى نهيٌ والألفُ لمراعاة الفاصلةِ كما في قولِه تعالى {فأضلُّونَا السبيلاَ} وقولُه تعالى

(9/144)


إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)

إلا ما شاء الله
استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم المفاعيلِ أيْ لا تَنْسى ممَّا تقرؤُه شيئاً من الأشياءِ إلا ما شاءَ الله أنْ تنساهُ أبداً بأنْ نُسخَ تلاوتُه والالتفاتُ إلى الإسم الجليل لتربية المهابةِ والإيذانِ بدورانِ المشيئةِ على عُنوانِ الأُلوهيةِ المستتبعةِ لسائرِ الصفاتِ وقيل المرادُ به النسيانُ في الجملةِ على القلةِ والندرةِ كما روي أنه عليه الصلاة والسَّلامُ أسقطَ آيةً في قراءته في الصلاة فحسب أبيُّ أنها نُسختْ فسألَه فقال عليه الصلاة

(9/144)


87 سورة الأعلى (8 10)
والسَّلامُ نسيتُها وقيلَ نَفيُ النسيانِ رأساً فإنَّ القَّلةَ قد تُستعملُ في النَّفي فالمراد بالنسيان حينئذ النسيان بالكليةِ إذُ هو المنفيُّ رأساً لا ما قَدْ ينسى ثم يذكر
إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى
تعليلٌ لمَا قبلَهُ أيْ يعلم ما ظهرَ وما بطنَ من الأمور التي من جُملتِها ما أُوحيَ إليكَ فيُنْسِي ما يشاءُ إنساءَهُ ويُبقي محفوظاً ما يشاءُ إبقاءَهُ لما نيطَ بكلَ منهُما من مصالحِ دينِكم

(9/145)


وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)

وَنُيَسّرُكَ لليسرى
عطفٌ على نُقرئكَ كما يُنْبىءُ عنه الالتفاتُ إلى الحكايةِ وما بينهما اعتراضٌ واردُ لما ذُكرَ من التعليلِ وتعليقٌ التيسيرِ به عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ مع أنَّ الشائعَ تعليقُه بالأمورِ المسخرةِ للفاعلِ كما في قوله تعالى {وَيَسّرْ لِى أَمْرِى} للإيذانِ بقوةِ تمكينِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من اليُسرى والتصرفِ فيها بحيثُ صارَ ذلكَ ملكةً راسخةً له كأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ جُبلَ عليها كما في قولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ اعملُوا فكُلٌّ ميسرٌ لِمَا خُلقَ له أي نوفقكَ توفيقاً مستمراً للطريقةِ اليُسرى في كُلّ بَابٍ من أبوابِ الدينِ علماً وتعليماً واهتداءً وهدايةً فيندرجُ فيه تيسيرُ طريقِ تلقِّي الوَحْي والإحاطةِ بما فيه منْ أحكامِ الشريعةِ السمحةِ والنواميسِ الإلهيةِ مما يتعلقُ بتكميل نفسِه عليه الصلاةُ والسَّلامُ وتكميلِ غيرِه كَما تُفصحُ عنه الفاءُ في قوله تعالى

(9/145)


فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)

فَذَكّرْ إِن نَّفَعَتِ الذكرى
أي فذكرِ الناسَ حسبما يَسَّرناكَ لهُ بما يُوحى إليكَ واهدِهِم إلى ما في تضاعيفه من الأحكام الشرعيةِ كما كنتَ تفعلُه لا بعدَ ما استتبَ لك الأمرُ كما قيلَ وتقييد التذكير بنفع الذكرَى لما أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم طالمَا كانَ يذكرهُم ويستفرغُ فيه غايةَ المجهودِ ويتجاوزُ في الجِد كلَّ حدَ معهودٍ حرصاً على إيمانِهم وما كانَ يزيدُ ذلكَ بعضُهم إلا كُفراً وعناداً فأمر عليه الصلاة والسلام بأنْ يخصَّ التذكيرَ بموادِّ النفعِ في الجملةِ بأنْ يكونَ مَنْ يذكرُهُ كلاً أو بعضاً مِمَّنْ يُرجى منه التذكرُ ولا يتعبُ نفسَه في تذكيرِ مَن لا يورثُهُ التذكيرُ إلا عتواً ونفوراً من المطبوعِ على قلوبِهم كما في قوله تعالى {فذكر بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} وقولِه تعالى {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا} وقيلَ هُو ذمٌّ للمذكرينَ وإخبارٌ عن حالِهم واستبعادٌ لتأثيرِ التذكيرِ فيهم وتسجيلٌ عليهمْ بالطبعِ على قلوبِهم كقولكَ للواعظ عظِ المكَّاسينَ إنْ سمعُوا منك قصداً إلى أنَّه مما لا يكونُ والأولُ أنسبُ لقوله تعالى

(9/145)


سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)

سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى
أي سيتذكرُ بتذكيرِكَ مَنْ مِنْ شأنُه أنْ يخشَى الله تعالى حقَّ خشيتِه أو مَنْ يخشَى الله تعالَى في الجملةِ فيزدادُ ذلكَ بالتذكيرِ فيتفكرُ في أمرِ مَا تذكرَ به فيقفُ على حقيتِه فيؤمنُ بهِ وقيلَ إنْ بمَعْنى إذْ كما في قوله تعالى {وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي إذْ كنتُم وقيلَ هيَ بمَعْنى مَا أيُ فذكْر ما نفعتِ الذكرَى فإنَّها لا تخلُو

(9/145)


87 سورة الأعلى (11 17)
عن نفعٍ بكلِّ حالٍ وقيلَ هناكَ محذوفٌ والتقديرُ إنْ نفعتِ الذكرَى وإنْ لم تنفعْ كقولِه تعالى {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} قالَهُ الفَّراءُ والنَّحاسُ والجُرجُانيُّ والزهراويُّ

(9/146)


وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11)

وَيَتَجَنَّبُهَا
أي الذكرَى
الأشقى
من الكفرة لتوغله في عداوة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقيل نزلت في الوليد بنِ المغيرةِ وعتبةَ بنِ أبي ربيعةَ

(9/146)


الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12)

الذى يَصْلَى النار الكبرى
أي الطبقةَ السُّفلَى من طبقاتِ النارِ وقيلَ الكُبرى نارُ جهنمَ والصُّغْرى نارُ الدُّنيا لقولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ نارُكُم هذهِ جزءٌ من سبعين جزءا من نارِ جهنَم

(9/146)


ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)

ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا
حتى يستريحَ
وَلاَ يحيى
حياةً تنفعُه وثمَّ للتراخِي في مراتبِ الشدةِ لأن الترددَ بين الموتَ والحياةِ أفظعُ من الصَّلْي

(9/146)


قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)

قَدْ أَفْلَحَ
أي نجَا من المكروهِ وظفرَ بما يرجُوه
مَن تزكى
أيْ تطهرَ من الكفرِ والمعاصِي بتذكرِه واتعاظِه بالذكرَى أو تكثر من التَّقوى والخشيةِ مْنَ الزكاءِ وهو النماءُ وقيل تطهر للصلاة وقيلَ تزكَّى تفعَّل من الزكاةِ وكلمةُ قَدْ لَما أنَّ عندَ الإخبارِ بسوءِ حالِ المتجنبِ عنِ الذكرَى في الآخرةِ يتوقعُ السامعُ الأخبارَ بحسنِ حالِ المتذكرِ فيَها وينتظرُه

(9/146)


وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)

وَذَكَرَ اسم رَبّهِ
بقلبِه ولسانِه
فصلى
أقامَ الصلواتِ الخمس كقوله تعالى {وأقم الصلاة لذكري} أو كبرَ تكبيرةَ الافتتاحِ فصلَّى وقيلَ تزكَّى أي تصدقَ صدقة الفطرِ وذكر اسمَ ربِّه أي كبَّرهُ يومَ العيدِ فصلَّى أيْ صلاتَهُ

(9/146)


بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16)

بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا
إضرابٌ عن مقدَّرٍ ينساقُ إليهِ الكلامُ كأنَّه قيلَ إثرَ بيانِ ما يؤدِّي الى الفلاح لا تفلعون ذلكَ بلْ تؤثرونَ اللذاتِ العاجلةَ الفانيةَ فتسعَونَ لتحصيلِها والخطابُ إمَّا للكفرةِ فالمرادُ بإيثارِ الحياةِ الدُّنيا هُو الرِّضا والاطمئنانُ بهَا والإعراضُ عن الآخرةِ بالكليةِ كما في قوله تعالى {إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بالحياة الدنيا واطمأنوا بِهَا} الآيةَ أو للكُلِّ فالمرادُ بإيثارها ما هُو أعمُّ ممَّا ذُكرَ وما لا يخلُو عنْهُ الإنسانُ غالباً من ترجيح جانبِ الدُّنيا على الآخرة في السعي وترتيب المبادىء والالتفاتُ على الأولِ لتشديدِ التوبيخِ وعلى الثَّانِي كذلكَ في حقِّ الكفرةِ وتشديدِ العتابِ في حقِّ المسلمينَ وقُرِىءَ يُؤثرونَ بالياءِ وقولُه تعالى

(9/146)


وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)

والآخرة

(9/146)


87 سورة الأعلى (18 19)
خَيْرٌ وأبقى
حالٌ من فاعلِ تؤثرونَ مؤكدةٌ للتوبيخِ والعتابِ أي تُؤثرونَها على الآخرةِ والحالُ أنَّ الآخرةَ خيرٌ في نفسِها لمَا أنَّ نعيمَها مع كونِه في غايةِ ما يكونُ من اللذةِ خالصٌ عن شائبةِ الغائلةِ أبديٌّ لا انصرامَ لَه وعدمُ التعرضِ لبيانِ تكدرِ نعيمِ الدُّنيا بالمنغصاتِ وانقطاعِه عمَّا قليلٍ لغايةِ ظهورِه

(9/147)


إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18)

إِنَّ هَذَا
إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ من قولِه تعالى {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} وقيلَ إلى ما في السورةِ جميعاً
لَفِى الصحف الأولى
أي ثابتٌ فيها معناهُ

(9/147)


صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)

صُحُفِ إبراهيم وموسى
بدلٌ من الصحفِ الأُولى وفي إبهامِها ووصفِها بالقدمِ ثم بيانِها وتفسيرِها من تفخيمِ شأنها مالا يَخْفى رُويَ أن جميعَ ما أنزلَ الله عزَّ وجلَّ من كتابٍ مائةٌ وأربعةُ كتبٍ أنزلَ على آدمَ عليهِ السَّلامُ عشرَ صحفٍ وعلى شيثٍ خمسينَ صحيفةً وعلى إدريسَ ثلاثينَ صحيفةً وعلى إبراهيمَ عشرَ صحائفَ عليهم السَّلامُ والتوراةَ والإنجيلُ والزبورُ والفرقانَ عن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الأعلى أعطاه الله تعالى عشرَ حسناتٍ بعددِ كلِّ حرفٍ أنزلَهُ الله تعالَى على إبراهيمَ ومُوسى ومحمدٍ عليهم السلام

(9/147)


88 سورة الغاشية (1 4)
سورة الغاشية مكية وآيها ست وعشرون
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم

(9/148)


هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية
قيلَ هِلْ بمَعْنى قَدْ كما في قوله تعالى {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} الآيةَ قالَ قُطْربٌ أيْ قد جاءكَ يا محمدُ حديثُ الغاشيةِ وليسَ بذاكَ بلْ هو استفهامٌ أُريدَ به التعجيبُ ممَّا في حيزِه والتشويقُ إلى استماعِه والإشعارُ بأنَّه من الأحاديثِ البديعةِ التي حقُّها أنْ يتناقلها الرواة ويتنافس في تلقيها الوعاةُ مِنْ كلِّ حاضِرٍ وبادٍ والغاشيةُ الداهيةُ الشديدةُ التي تغشَى الناسَ بشدائدِها وتكتنفُهم بأهوالِها وهيَ القيامةُ من قولِه تعالى {يَوْمَ يغشاهم العذاب} الخ وقيلَ هيَ النارُ من قولِه تعالى {وتغشى وُجُوهَهُمْ النار} وقولِه تعالى {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} والأولُ هو الحقُّ فإنَّ ما سيُروى من حديثِها ليسَ مختصاً بالنَّارِ وأهلِها بلْ ناطقٌ بأحوال أهلِ الجنةِ أيضاً وقولُه تعالى

(9/148)


وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشعة
إلى قولِه تعالى مَبْثُوثَةٌ استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال نشأ من الاستفهام التشويقيِّ كأنَّه قيلَ من جهتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما أتانِي حديثُها فما هو فقيلَ وجوهٌ يومئذٍ أيْ يومَ إذْ غشيتْ ذليلةٌ قالَ ابن عباس رضي الله عنهُمَا لم يكنْ أتاهُ عليه الصَّلاة والسَّلامُ حديثُها فأخبرَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عنهَا فقالَ وجوهٌ الخ فوجوهٌ مبتدأٌ ولا بأسَ بتنكيرِها لأنَّها في موقعِ التنويعِ وخاشعةٌ خبرُهُ وقولُه تعالى

(9/148)


عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)

عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ
خبرانِ آخرانِ لوجوهٌ إذِ المرادُ بهَا أصحابُها أي تعملُ أعمالاً شاقةً تتعبُ فيها وهيَ جرُّ السلاسلِ والأغلالِ والخوضُ في النَّارِ خوضَ الإبلِ في الوحلِ والصعودُ والهبوطُ في تلالِ النارِ ووهادِها وقيلَ عملتْ في الدُّنيا أعمالَ السوءِ والتذتْ بها فهيَ يومئذٍ في نصبٍ منها وقيلَ عملتْ ونصبتْ في أعمالِ لا تُجدي عليهَا في الآخرةِ وقولُه تعالَى

(9/148)


تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4)

تصلى
أي تدخلُ
نَاراً حَامِيَةً
أي متناهيةً في الحرِّ خبرٌ آخرُ لوجوهٌ وقيلَ هو الخبرُ وما قبلَهُ صفاتٌ لوجوهٌ وقد مر غير مرة أن الصفةَ حقُّها أن تكونَ معلومة

(9/148)


88 سورة الغاشية (5 8)
الانتساب إلى الموصوف عند السامعِ قبلَ جعلِها صفةً له ولا ريبَ في أنَّ صليَ النارِ وما قبلَهُ من الخشوعِ والعملِ والنَّصَبِ أمورٌ متساويةٌ في الانتسابِ إلى الوجوهِ معرفةً وجهالةً فجعلُ بعضِها عُنواناً للموضوعِ قيداً مفروغاً عنه غيرَ مقصودِ الإفادةِ وبعضِها مناطاً للإفادةِ تحكُّمٌ بحتٌ ويجوز أن يكون هذا وما بعدَهُ من الجملتينِ استئنافاً مبيناً لتفاصيلِ أحوالِها

(9/149)


تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)

تسقى من عين آنية
أي متناهية في الحر كما في قوله تعالى {وبين حميم آن}

(9/149)


لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)

لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ
بيانٌ لطعامِهم إثرَ بيانِ شرابِهم والضريعُ ييس الشبرقِ وهو شوكٌ ترعاهُ الإبلُ ما دامَ رطباً وإذا يبسَ تحامتْهُ وهو سمٌّ قاتلٌ وقيلَ هي شجرةٌ ناريةٌ تشبهُ الضريعَ وقال ابنُ كيسانٍ هو طعام يضرعون عندَهُ ويذلُّونَ ويتضرعونَ إلى الله تعالى طلباً للخلاصِ منه فسمِّيَ بذلكَ وهذا طعامٌ لبعضِ أهلِ النارِ والزقومُ والغسلينُ لآخرينِ

(9/149)


لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)

لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ
أي ليسَ من شأنِه الإسمانُ والإشباعُ كما هو شأنُ طعامِ الدُّنيا وإنما هُو شيءٌ يضطرونَ إلى أكلِه من غيرِ أنْ يكونَ له دفعٌ لضرورتِهم لكنْ لا على أنَّ لهم استعداداً للشبعِ والسمنِ إلا أنَّه لا يفيدُهم شيئاً منهمَا بلْ على أنَّه لا استعدادَ من جهتِهم ولا إفادةَ من جهةِ طعامِهم وتحقيقُ ذلكَ أنَّ جوعَهُم وعطشَهُم ليسا من قبيلِ ما هُو المعهودُ منهما في هذه النشأةِ من حالةٍ عارضةٍ للإنسانِ عندَ استدعاءِ الطبيعةِ لبدلِ ما يتحللُ من البدنِ مشوقةً له إلى المطعومِ والمشروبِ بحيث يلتذ بهما عندَ الأكلِ والشربِ ويستغنِي بهمَا عن غيرِهما عندَ استقرارِهما في المعدةِ ويستفيدُ منهما قوةً وسمناً عند انهضامِهما بلْ جوعُهم عبارةٌ عن اضطرامِ النارِ في أحشائِهم إلى إدخالِ شيءٍ كثيفٍ يملؤُها ويُخرجُ ما فيها من اللهبِ وأما أن يكونَ لهم شوقٌ إلى مطعومٍ ما أو التذاذٌ به عندَ الأكلِ واستغناءٌ به عن الغير أو استفادةُ قوةٍ فهيهاتَ وكذا عطشُهم عبارةٌ عن اضطرارهم عند أكلِ الضريعِ والتهابِه في بطونِهم إلى شيءٍ مائعٍ باردٍ يطفئُه من غيرِ أنْ يكونَ لهم التذاذٌ بشربه أو استفادةُ قوةٍ به في الجملة وهو المعنيُّ بما رُويَ أنه تعالَى يسلطُ عليهم الجوعَ بحيثُ يَضطرهُم إلى أكلِ الضريعِ فإذا أكلُوه يسلطُ عليهم العطشَ فيضطرهُم إلى شرب الحميمِ فيشوِي وجوهَهُم ويقطعُ أمعاءَهُم وتنكيرُ الجوعَ للتحقيرِ أيْ لا يُغني من جوعٍ ما وتأخيرُ نَفي الإغناءِ منْهُ لمراعاةِ الفواصلِ والتوسلِ به إلى التصريحِ بنفي كلا الأمرينِ إذ لو قُدمَ لما احتيجَ إلى ذكر نفي الإسمانِ ضرورة استلزامِ نفي الإغناءِ عن الجوعِ إيَّاه بخلاف العكسِ ولذلك كررَ لاَ لتأكيدِ النَّفي وقولُه تعالَى

(9/149)


وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8)

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ
شروعٌ في روايةِ حديثِ أهلِ الجنةِ وتقديمُ حكايةِ حالِ أهلِ النارِ لأنَّه أدخلُ

(9/149)


88 سورة الغاشية (9 17)
في تهويلِ الغاشيةِ وتفخيمِ حديثِها ولأنَّ حكايةَ حسنِ حالِ أهلِ الجنةِ بعدَ حكايةِ سُوءِ حالِ أهلِ النارِ مما يزيدُ المحكيَّ حُسناً وبهجةً والكلامُ في إعرابِ الجملةِ كالذي مرَّ في نظيرتِها وإنما لم تُعطفْ عليها إيذاناً بكمالِ تباينِ مضمونَيهِما ومعنى ناعمةٌ ذاتُ بهجةٍ وحسنٍ كقولِه تعالى {تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} أو متنعمةٌ

(9/150)


لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)

لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ
أي لعملها الذي عملتْهُ في الدُّنيا حيثُ شاهدتْ ثمرتَهُ

(9/150)


فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10)

فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ
مرتفعةِ المحلِّ أو عليةِ المقدارِ

(9/150)


لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)

لاَ تُسْمِعُ
أي أنتَ أو الوجوهُ
فِيهَا لاغية
لغواً أو كلمةً ذاتَ لغوٍ أو نفساً تلغُو فإنَّ كلامَ أهلِ الجنةِ كلَّه أذكارٌ وحكمٌ وقُرِىءَ لا تُسمعُ على البناءِ للمفعول بالياءِ والتاءِ ورفعِ لاغيةً

(9/150)


فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12)

فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ
أيْ عيونٌ كثيرةٌ تجرِي مياهُها كقولِه تعالَى عَلِمَتْ نَفْسٌ

(9/150)


فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)

فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ
رفيعةُ السمكِ أو المقدارِ

(9/150)


وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)

وَأَكْوابٍ
جمعُ كوبٍ وهو إناءٌ لا عُروةَ لهُ
مَّوْضُوعَةٌ
أي بينَ أيديهِم

(9/150)


وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)

وَنَمَارِقُ
وسائدُ جمعُ نمرقة بالفتحِ والضمِّ
مَصْفُوفَةٌ
بعضُها إلى بعضٍ

(9/150)


وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)

وَزَرَابِيُّ
أي بسطٌ فاخرةٌ جمعُ زُرْبيَّةٌ
مَبْثُوثَةٌ أيْ مبسوطةٌ

(9/150)


أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)

أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ
استئنافٌ مَسوقٌ لتقريرِ ما فصلَ من حديثِ الغاشيةِ وما هو مبنيٌّ عليهِ من البعثِ الذى هم فيه مختلفون بالاستشهادِ عليهِ بما لا يستطيعونَ إنكارَهُ والهمزةُ للإنكارِ والتوبيخِ والفاءُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقامُ وكلمة كيف منصوبة بما يعدها كما في قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله معلقةٌ لفعلِ النظرِ والجملةُ في حيِّز الجرِّ على أنَّها بدلُ اشتمالٍ من الإبلِ أي أينكرونَ ما ذُكِرَ من البعثِ وأحكامِه ويستبعدونَ وقوعَهُ من قدرةِ الله عزَّ وجلَّ فلا ينظرونَ إلى الإبلِ التي هي نصب أعينهم يتسعملونها كلَّ حينٍ إلى أنَّها كيف

(9/150)


88 سورة الغاشية (18 23)
خُلقتْ خلقاً بديعاً معدولاً بهِ عن سُننِ خلقةِ سائرِ أنواعِ الحيواناتِ في عظمِ جثتِها وشدةِ قوتِها وعجيبِ هيأتِها اللائقةِ بتأتِّي ما يصدرُ عنها من ألأفاعيل الشاقة كالنوء بالأوقار الثقيلةِ وجرِّ الأثقالِ الفادحةِ إلى الأقطارِ النازحةِ وفي صبرها على الجو والعطشِ حتى إن أظماءَها لتبلغُ العشرَ فصاعداً واكتفائِها باليسيرِ ورعيها لكلِّ ما يتيسرَ من شوكٍ وشجرٍ وغير ذلك مما لا يكاد يزعاه سائرُ البهائمِ وفي انقيادِها مع ذلكَ للإنسانِ في الحركةِ والسكونِ والبروكِ والنهوضِ حيثُ يستعملُها في ذلكَ كيفما يشاءُ ويقتادُها بقطارِها كلُّ صغيرٍ وكبيرٍ

(9/151)


وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)

وَإِلَى السماء
التي يشاهدونها كل لحظة بالليل والنهار
كَيْفَ رُفِعَتْ
رفعاً سحيق المدى بلا عمادٍ ولا مساكٍ بحيث لا يناله الفهم والادراك

(9/151)


وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)

وَإِلَى الجبال
التي ينزلون في أقطارها وينتفعون بمياهها وأشجارها
كَيْفَ نُصِبَتْ
نصباً رصيناً فهيَ راسخةٌ لا تميلُ ولا تميدُ

(9/151)


وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)

وَإِلَى الأرض
التي يضربونَ فيها ويتقلبونَ عليها
كَيْفَ سُطِحَتْ
سطحاً بتوطئةٍ وتمهيدٍ وتسويةٍ وتوطيدٍ حسبما يقتضيهِ صلاحُ أمورِ ما عليها من الخلائقِ وقُرِىءَ سُطِّحتْ مُشدداً وقُرِئتْ الأفعالُ الأربعةُ على بناء الفاعل للمتلكم وحذف الراجعِ المنصوبِ والمعنى أفلا ينظرونَ نظرَ التدبرِ والاعتبارِ إلى كيفيةِ خلقِ هذه المخلوقاتِ الشاهدةِ بحقيةِ البعثِ والنشورِ ليرجعُوا عمَّا هُم عليهِ من الإنكارِ والنفورِ ويسمعُوا إنذاركَ ويستعدُّوا للقائِه بالإيمانِ والطاعةِ والفاءُ في قولِه تعالى

(9/151)


فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)

فَذَكّرْ
لترتيبِ الأمرِ بالتذكيرِ على ما ينبىءُ عنه الإنكارُ السابقُ من عدمِ النظرِ أي فاقتصرْ على التذكيرِ ولا تلحَّ عليهم ولا يُهمنَّكَ أنَّهم لا ينظرونَ ولا يتذكرونَ وقولُه تعالى
إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ
تعليلٌ للأمرِ وقولُه تعالَى

(9/151)


لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)

لست عليهم بمصيطر
تقريرٌ لهُ وتحقيقٌ لمَعْنى الإنذارِ أي لستَ بمتسلطٍ عليهم تجبرُهم على ما تريد كقوله تعالى وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ وقُرِىءَ بالسينِ على الأصلِ وبالاشمام وقُرِىءَ بفتحِ الطاءِ قيلَ هي لغة بني تمتم فإنَّ سيطرَ عندهم متعدَ ومنه قولُهم تسيطرُ وقولُه تعالَى

(9/151)


إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23)

إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ
استثناءٌ منقطعٌ أي لكِنْ من تولَّى منهم فإنَّ لله تعالَى الولايةَ والقهرَ

(9/151)


88 سورة الغاشية (24 26)

(9/152)


فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)

فَيْعَذّبُهُ الله العذاب الأكبر
الذي هُو عذابُ جهنمَ وقيلَ استثناءٌ مُتَّصلٌ من قولِه تعالَى فَذَكّرْ أي فذكرْ إلاَّ من انقطعَ طمعُكَ من إيمانِه وتولَّى فاستحقَّ العذابَ الأكبرَ وما بينهما اعتراضٌ ويعضدُ الأولَ أنه قُرِىءَ أَلاَ على التنبيهِ وقولُه تعالى

(9/152)


إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)

إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ
تعليلٌ لتعذبيه تعالَى بالعذابِ الأكبرِ أيْ إنَّ إلينا رجوعَهُم بالموتِ والبعثِ لا إلى أحدٍ سوانا لا استقلالاً ولا اشتراكاً وجمعُ الضَّميرُ فيه وفيما بعدَه باعتبارِ مَعْنى مَنْ كما أن إفراده فيما سبق باعتبارِ لفظِها وقُرِىءَ إيَّابَهُم على أنَّه فِيْعَالٌ مصدرُ فَيْعَلٍ من الإيابِ أو فِعَّالٌ من أَوَبَ كفِسَّارٍ من فَسَرَ ثمَّ قيلَ إِيْوَاباً كدِيُوَانٍ في دِوَّانٍ ثُمَّ قُلبتْ الواوُ ياءً فأدغمتِ الياءُ الأُولى في الثانيةِ

(9/152)


ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)

ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ
في المحشرِ لا على غيرِنا وثُمَّ للتراخِي في الرتبةِ لا في الزمانِ فإن الترتبَ الزمانيَّ بين إيابِهم وحسابِهم لا بينَ كونِ إيابِهم إليهِ تعالَى وحسابِهم عليهِ تعالى فإنَّهما أمرانِ مستمرانِ وفي تصديرِ الجملتينِ بأنَّ وتقديمُ خبرِها وعطفُ الثانيةِ على الأُولى بكلمةِ ثُمَّ المفيدةِ لبعدِ منزلةِ الحسابِ في الشدةِ من الإنباءِ عن غايةِ السخطِ الموجبِ لتشديدِ العذابِ مالا يخفى عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الغاشيةِ يحاسبُه الله تعالى حساباً يسيراً

(9/152)


89 سورة الفجر (1 5)
سورة الفجر مكية وآيها ثلاثون
بسم الله الرحمن الرحيم

(9/153)


وَالْفَجْرِ (1)

والفجر
أقسمَ سبحانَهُ بالفجرِ كما أقسمَ بالصبحِ حيثُ قال والصبح إِذَا تَنَفَّسَ وقيلَ المرادُ به صلاتُه

(9/153)


وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)

وَلَيالٍ عَشْرٍ
هن عشرُ ذِي الحجةِ ولذلكَ فُسِّرَ الفجرُ بفجرِ عرفةَ أو النحرِ أو العشرُ الأواخرُ من رمضانَ وتنكيرُها للتفخيمِ وقُرِىءَ وَليالٍ عشرٍ بالإضافةِ على أنَّ المرادَ بالعشرِ الأيامُ

(9/153)


وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)

والشفع والوتر
أي الأشياءِ كلِّها شفعِها ووترِها أو شفعِ هذه الليالِي ووترِها وقد رُويَ أن النبيَّ عليه الصلاةُ والسلامُ فسرهُمَا بيومِ النحرِ ويومِ عرفةٍ ولقد كثُرتْ فيهما الأقوالُ والله تعالَى أعلمُ بحقيقةِ الحالِ وقُرِىءَ بكسرِ الواوِ وهما لغتانِ كالحَبْرِ والحِبْرِ وقيلَ الوَترُ بالفتحِ في العددِ وبالكسرِ في الذَحل وقُرِىءَ والوَتِرِ بفتحِ الواوِ وكسر التاء

(9/153)


وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)

والليل إِذَا يَسْرِ
أيْ يَمْضِي كقوله تعالى {والليل إذ أدبر} {والليل إِذَا عَسْعَسَ} والتقييدُ لما فيهِ من وضوحِ الدِلالة على كمالِ القدرةِ ووفورِ النعمةِ أو يُسرِيَ فيهِ من قولِهم صَلَّى المقامُ أي صُلِّيَ فيهِ وحَذْفُ الياءِ اكتفاءً بالكسرِ وقُرِىءَ بإثباتِها على الإطلاقِ وبحذفِها في الوقفِ خاصَّة وقُرِىءَ يسرٍ بالتنوينِ كما قُرِىءَ والفجرٍ والوترٍ وهو التنوينُ الذي يقعُ بدلاً من حرفِ الإطلاقِ

(9/153)


هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)

هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ
الخ تحقيقٌ وتقريرٌ لفخامةِ شأنِ المُقْسَمِ بهَا وكونِها أموراً جليلةً حقيقةً بالإعظامِ والإجلالِ عندَ أربابِ العقولِ وتنبيهٌ على أنَّ الإقسامَ بها أمرٌ معتدٌّ به خليقٌ بأنّ يُؤكدَ بهِ الأخبارُ على طريقةِ قولِه تعالى وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ وذلكَ إشارةٌ إمَّا إلى الأمورِ المقسمِ

(9/153)


89 سورة الفجر (6 7)
بهَا والتذكيرُ بتأويلِ ما ذُكِرَ كما مَرَّ تحقيقُه أو إلى الإقسامِ بهَا وأيَّا ما كان فما فيه من معنى البعد للإيذان بعلوِّ رُتبةِ المُشار إليهِ وبُعْدِ منزلتِه في الشرفِ والفضلِ أيْ هِلْ فيما ذُكِرَ من الأشياءِ قسمٌ أيْ مقسمٌ بهِ
لّذِى حِجْرٍ
يراهُ حقيقاً بأنْ يقسمَ بهِ إجلالاً وتعظيماً والمرادُ تحقيقُ أنَّ الكلَّ كذلكَ وإنما أوثرتْ هذه الطريقةُ هَضْماً للخلقِ وإيذاناً بظهورِ الأمرِ أو هَلْ في إقسامِي بتلكَ الأشياءِ إقسامٌ لذي حجرٍ مقبولٌ عندَهُ يعتدُّ بهِ ويفعلُ مثلَهُ ويؤكدُ بهِ المقسمَ عليهِ والحِجْرُ العقلُ لأنه يحجُرُ صاحبَهُ أي يمنعُهُ من التهافتِ فيمَا لا ينبغِي كما سُميَ عقلاً ونُهيةً لأنَّه يعقلُ ويَنْهَى وحصاةً أيضاً من الإحصاءِ وهو الضبطُ قال الفراءُ يقالُ إنَّه لذُو حجرٍ إذَا كانَ قاهِراً لنفسِه ضابطاً لهَا والمقسمُ عليهِ محذوفٌ وهُو ليُعذَّبَنَّ كما ينبىء عنه قوله تعالَى

(9/154)


أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ
الخ فإنَّه استشهادٌ بعلمِه عليهِ الصَّلاة والسَّلام بمَا يدلُّ عليهِ من تعذيبِ عَادٍ وأضرابِهم المشاركينَ لقومِه عليه الصلاةُ والسلامُ في الطغيانِ والفسادِ على طريقة قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى حَاجَّ إبراهيم فِى رِبّهِ} الآيةَ وقولُه تعالَى {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ} كأنَّه قيلَ ألم تعلم علما يقينيا كيفَ عذبَ ربُّكَ عاداً ونظائرَهُم فيعذبُ هؤلاءِ أيضاً لاشتراكِهم فيما يوجبُه من الكفرِ والمعاصِي والمرادُ بعادٍ أولادُ عادٍ بنِ عوصَ بن إرم بن سام بنِ نوحٍ عليه السلام قومُ هودٍ عليه السلامُ سُمُّوا باسمِ أبيهِم كما سُمِّيَ بنُو هاشمٍ هاشماً وقد قيلَ لأوائلِهم عادٌ الأُولى ولأواخرِهم عادٌ الآخرةُ قال عمادُ الدينِ بنُ كثيرٍ كلُّ ما وردَ في القرآنِ خبرُ عادٍ الأُولى إلا مَا في سورةِ الأحقافِ وقولُه تعالى

(9/154)


إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)

إِرَمَ
عطفُ بيانٍ لعادٍ للإيذانِ بأنَّهم عادٌ الأُولى بتقديرِ مضافٍ أيْ سبطُ إرمٍ أو أهلُ إرمٍ على ما قبل من أنَّ إرمَ اسمُ بلدتِهم أو أرضِهم التي كانُوا فيهَا ويؤيدُه القراءةُ بالإضافةِ وأياً ما كانَ فامتناعُ صرفِها للتعريفِ والتأنيثِ وقُرِىءَ إِرْمَ بإسكانِ الراءِ تخفيفاً كما قُرِىءَ بِوَرْقِكُم
ذَاتِ العماد
صفةٌ لإرمَ أيْ ذاتُ القدودِ الطوالِ على تشبيهِ قاماتِهم بالأعمدةِ ومنه قولُهم رجلٌ عمدٌ وعمدان إذا كان طويلاً أو ذاتُ الخيامِ والأعمدةِ حيثُ كانُوا بدويينَ أهلَ عُمُدٍ أو ذاتُ البناءِ الرفيعِ أو ذاتُ الأساطينِ على أنَّ إرمَ اسمُ بلدتهم وقرىء إرم ذات العمادِ بإضافةِ إرمٍ إلى ذاتِ العمادِ والإرم العلمُ أي بعادٍ أهلِ إعلامِ ذاتِ العمادِ على أنها اسم بلدتهم وقرىء إرم ذاتَ العمادِ أي جعلَها الله تعالَى رَميماً بدلٌ من فعلَ ربُّك وقيل هي جملةٌ دعائيةٌ اعترضتْ بين الموصوفِ والصفةِ ورُويَ أنه كانَ لعادٍ ابنانِ شديدٌ وشدادٌ فملَكا وقَهَرا ثم ماتَ شديدٌ وخلصَ الأمرُ لشدادٍ فملَك الدنيا ودانتْ له ملوكُها فسمعَ بذكرِ الجنةِ فقال أبنِي مثلَها فبنَى إرمَ في بعضِ صَحارِي عدنٍ في ثلثمائة سنةٍ وهيَ مدينةٌ عظيمةٌ قصورُها من الذهبِ والفضةِ وأساطينُها من الزبرجدِ والياقوتِ وفيها أصنافُ الأشجارِ والأنهارِ المطردةِ ولمَّا تمَّ بناؤُها سار اليها أهل مملكتِه فلما كانَ منها على مسيرة يومٍ وليلةٍ بعثَ الله تعالى عليهم صيحةً من السَّماءِ فهلكُوا وعن عبدِ اللَّهِ بنِ قلابة

(9/154)


89 سورة الفجر (8 13)
أنه خرجَ في طلبِ إبلٍ له فوقعَ عليهَا فحملَ ما قدرَ عليهِ ممَّا ثمةَ وبلغَ خبرُه معاويةَ فاستحضرَهُ فقصَّ عليهِ فبعثَ إلى كعبٍ فسألَه فقالَ هيَ إرمُ ذاتُ العماد وسيد خلها رجلٌ من المسلمينَ في زمانِك أحمرُ أشقرُ قصيرٌ على حاجبِه خالٌ وعلى عقبِه خالٌ يخرجُ في طلبِ إبلٍ لَهُ ثم التفتَ إلى ابن قلابةٍ فقال هذا والله ذلكَ الرجلُ

(9/155)


الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)

التى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى البلاد
صفةٌ أُخرى لإرمَ أيْ لم يُخلقْ مثلُهم في عِظَم الأجرامِ والقوةِ حيثُ كانَ طولُ الرجلِ منهم أربعمائةِ ذراعٍ وكانَ يأتِي الصخرةَ العظيمةَ فيحملُها ويُلقيها على الحي فيهلكُهم أو لم يُخلقْ مثلُ مدينةِ شدادٍ في جميعِ بلادِ الدُّنيا وقُرِىءَ لَم يخلُقْ على إسنادِه إلى الله تعالَى

(9/155)


وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)

وَثَمُودُ عطفٌ على عادٍ وهي قبيلةٌ مشهورةٌ سُمِّيتْ باسمِ جدِّهم ثمودَ أَخِي جَديسٍ وهما ابنَا عامرِ بن إرم بن سام بنِ نوحٍ عليه السلام وكانُوا عرباً من العاربةِ يسكنونَ الحجرَ بين الحجازِ وتبوكَ وكانُوا يعبدونَ الأصنامَ كعادٍ
الذين جَابُواْ الصخر بالواد
أي قطعُوا صخرَ الجبالِ فاتخذُوا فيها بُيوتاً نحتوهَا من الصخرِ كقولِه تعالى {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً} قيلَ هُم أول من نحتَ الجبالَ والصخورَ والرخامَ وقد بَنَوا ألفاً وسبعمائةِ مدينةٍ كلها من الحجارةِ

(9/155)


وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)

وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد
وصفَ بذلكَ لكثرة جنودِه وخيامِهم التي يضربُونَها في منازلِهم أو لتعذيبه بالأوتادِ

(9/155)


الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11)

الذين طَغَوْاْ فِى البلاد
إما مجرورٌ على أنه صفةٌ للمذكورينَ أو منصوبٌ أو مرفوعٌ على الذمِّ أي طَغَى كلُّ طائفةٍ منهُم في بلادِهم وكذا الكلامُ في قوله تعالى

(9/155)


فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12)

فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد
أي بالكفرِ وسائرِ المعاصِي

(9/155)


فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)

فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ
أي أنزلَ إنزالاً شديداً على كلِّ طائفةٍ من أولئكَ الطوائفِ عقيبَ ما فعلتْهُ من الطغيانِ والفسادِ
سَوْطَ عَذَابٍ
أيُّ عذابٌ شَدِيدٍ لا يُدركُ غايتُهُ وهو عبارةٌ عمَّا حلَّ بكُلَ منهُم من فنونِ العذابِ التي شُرِحتْ في سائرِ السورِ الكريمةِ وتسميتُه سوطاً للإشارةِ إلى أنَّ ذلكَ بالنسبةِ إلى ما أَعدَّ لَهُم في الآخرةِ بمنزلةِ السوطِ عندَ السيفِ والتعبيرُ عن إنزالِه بالصبِّ للإيذانِ بكثرتِه واستمرارِه وتتابعِه فإنه عبارةٌ عن إراقةِ شيءٍ مائعٍ أو جارٍ مجراهُ في السيلانِ كالرملِ والحبوبِ وإفراغِه بشدةٍ وكثرةٍ واستمرارٍ ونسبته إلى السوطِ مع أنه ليسَ من ذلكَ القبيل باعتبر تشبيهِه في نزولِه المتتابعِ المتداركِ على المضروبِ بقطراتِ الشيءِ المصبوبِ وقيلَ السوطُ

(9/155)


89 سورة الفجر (14 17)
خلطُ الشيءِ بعضَه ببعضٍ فالمَعْنى ما خُلِطَ لهم من أنواعِ العذابِ وقد فسر بالنصيب وبالشدةِ أيضاً لأن السوطَ يطلقُ على كلَ منهُما لغةً فلا حاجةَ حينئذٍ في تشبيهِه بالمصبوبِ إلى اعتبارِ تكررِ تعلقِه بالمعذبِ كما في المَعْنى الأولِ فإن كلَّ واحدٍ من هذه المعاني مما يقبلُ الاستمرارَ في نفسه وقولُه تعالَى

(9/156)


إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)

إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد
تعليلٌ لما قبلَهُ وإيذانٌ بأن كفارَ قومِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ سيصيبُهم مثلُ ما أصابَ المذكورينَ من العذابِ كما يُنْبىء عنه التعرُّضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلامُ وقيلَ هو جوابُ القسمِ وما بينهما اعتراضٌ والمرصادُ المكانُ الذي يَترقبُ فيه الرصدُ مِفْعَالٌ منْ رصدَهُ كالميقاتِ من وقتَهُ وهذا تمثيلٌ لإرصادِه تعالى بالعُصاةِ وأنَّهم لا يفوتونَهُ وقولُه تعالى

(9/156)


فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)

فَأَمَّا الإنسان
الخ متصلٌ بما قبلَهُ كأنَّه قيلَ إنه تعالَى بصددِ مراقبةِ أحوالِ عبادِه ومجازاتِهم بأعمالِهم خيراً وشراً فأما الإنسانُ فلاَ يهمُّهُ ذلكَ وإنما مطمحُ أنظارِه ومرصدُ أفكارِه الدُّنيا ولذائذِها
إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ
أي عاملَهُ معاملةَ من يبتليهِ بالغِنَى واليسارِ والفاءُ في قولِه تعالى
فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ
تفسيريةٌ فإنَّ الإكرامَ والتنعيمَ من الابتلاءِ
فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ
أي فضلنِي بما أعطانِي من المال والجاهِ حسَبما كنتُ أستحقهُ ولا يخطُر بباله أنه فضلٌ تفضلَ به عليهِ ليبلوَهُ أيشكرُ أم يكفرُ وهوُ خبرٌ للمبتدأ الذي هُوَ الإنسانُ والفاءُ لما في أمَّا منْ مَعْنى الشرطِ والظرفُ المتوسطُ على نيةِ التأخيرِ كأنَّه قيلَ فأمَّا الإنسانُ فيقولُ ربِي أكرمنِ وقتَ ابتلائِه بالإنعامِ وإنما تقديمُه للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّ الإكرامَ والتنعيمَ بطريق الابتلاءِ ليتضحَ اختلالُ قولِه المحكيِّ

(9/156)


وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)

وَأَمَّا إِذَا مَا ابتلاه
أيْ وأما هُو إذا ما ابتلاهُ ربُّه
فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ
حسبما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحكم البالغةِ
فَيَقُولُ رَبّى أَهَانَنِ
ولا يخطر ببالِه أنَّ ذلكَ ليبلوهُ أيصبرُ أم يجزعُ مع أنه ليسَ من الإهانةِ في شيءٍ بل التقتيرُ قد يُؤدِّي إلى كرامةِ الدارينِ والتوسعةُ قد تُفْضِي إلى خسرانِهما وقُرِىءَ فقدَّرَ بالتشديدِ وقرىء أكرمني وأهانني بإثبات الياء وأكرمنْ وأهاننْ بسكون النون في الوقف

(9/156)


كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)

كلا
ردع للإنسان عن مقالتِه المحكيةِ وتكذيبٌ له فيهَا في كلتَا الحالتينِ قال ابن عباس رضي الله عنهُمَا المَعْنى لم أبتله بالغنى (سقط 156) عليَّ ولم أبتلِه بالفقرِ لهوانِه عليَّ بلْ ذلكَ لمحضِ القضاءِ والقدرِ وحملُ الردعِ والتكذيبِ إلى قولِه الأخيرِ بعيدٌ وقولُه تعالَى
بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم
انتقالٌ من بيانِ سوءِ أقوالِه إلى بيانِ سوءِ أفعالِه والالتفاتُ إلى الخطابِ للإيذانِ باقتضاءِ ملاحظةِ جنايته السابقةِ لمشافهتِه بالتوبيخِ تشديداً للتقريعِ وتأكيداً للتشنيعِ والجمعُ باعتبار

(9/156)


89 سورة الفجر (18 23)
مَعْنى الإنسانِ إذِ المرادُ هو الجنسُ أي بَلْ لكم أحوالٌ أشدُّ شَراً مما ذُكِرَ وأدلُّ عَلى تهالُكِكم على المالِ حيثُ يُكْرمكم الله تعالَى بكثرةِ المالِ فلاَ تُؤدونَ ما يلزمكُم فيهِ من إكرامِ اليتيمِ بالمبرةِ به وقُرِىءَ لا يكرمونَ

(9/157)


وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)

وَلاَ تَحَاضُّونَ
بحذفِ إحْدَى التاءينِ من تَتَحاضُّون أيْ لاَ يحضُّ بعضُكم بعضاً
على طَعَامِ المسكين
أي على إطعامِه وقُرِىءَ تحاضونَ من المحاضةِ وقُرِىءَ يَحُضُّونَ بالياءِ والتاءِ

(9/157)


وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19)

وَتَأْكُلُونَ التراث
أي الميراثَ وأصله وارث
أَكْلاً لَّمّاً
أيْ ذَا لمٍ أي جمعٍ بينَ الحلالِ والحرامِ فإنهم كانُوا لا يورثون النساء والصبيان ويأكلون انصباءهم او يأكلون ما جمعَهُ المورثُ من حلالٍ وحرامٍ عالمينَ بذلكَ

(9/157)


وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)

وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً
كثيراً معَ حِرص وشرَه وقرىء يحبون بالياءِ

(9/157)


كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)

كَلاَّ
ردعٌ لهم عن ذلكَ وقولُه تعالَى
إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً
الخ استئناف جىء به بطريق الوعيدِ تعليلاً للردعِ أيْ إذَا دكتِ الأرضُ دكاً متتابعاً حتى انكسرَ وذهبَ كلُّ ما عَلى وجهِها من جبالٍ وأبنيةٍ وقصورٍ حينَ زُلزلتْ وصَارتْ هباءً مُنبثاً وقيلَ الدكُّ حطُّ المرتفعِ بالبسطِ والتسويةِ فالمَعْنى إذا سُويتْ تسويةً بعدَ تسويةٍ ولم يبقَ على وجهها شيءٌ حَتَّى صارتُ كالصخرةِ الملساءِ وأياً مَا كانَ فهو عبارةٌ عما عرضَ لها عند النفخةِ الثانيةِ

(9/157)


وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)

وَجَاء رَبُّكَ
أي ظهرتْ آياتُ قُدرتِه وآثارُ قهرهِ مثلَ ذلكَ بما يظهرُ عندَ حضورِ السلطانِ من أحكامِ هيبتِه وسياستِه وقيلَ جاءَ أمرُهُ تعالَى وقضاؤُه على حذفِ المضافِ للتهويلِ
والملك صَفّاً صَفّاً
أي مُصطفينَ أو ذَوِي صفوفٍ فإنه ينزلُ يومئذٍ ملائكةُ كلِّ سماءٍ فيصطفونَ صفاً بعدَ صفٍ بحسب منازلِهم ومراتبِهم مُحدقينَ بالجِنِّ والإنسِ

(9/157)


وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)

وَجِىء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ
كقولِه تعالَى وَبُرّزَتِ الجحيم قال ابنُ مسعودٍ ومقاتلٌ تُقادُ جهنمُ بسبعينَ ألفَ زمامٍ كل زمام سبعونَ ألفَ مَلَكٍ يَجرونَها حتى تُنصبَ عن يسارِ العرشِ لها تغيظٌ وزفيرٌ وقد رَواهُ مسلمٌ في صحيحِه عن ابنِ مسعودٍ مَرْفُوعاً
يَوْمَئِذٍ
بدلٌ مِنْ إذَا دكتْ والعاملُ فيهمَا قولُه تعالى
يَتَذَكَّرُ الإنسان
أي يتذكرُ ما فرَّطَ فيهِ بتفاصيلِه بمشاهدةِ آثارِه وأحكامِه أو بمعاينةِ عينِه على أنَّ الأعمالَ تتجسمُ في النشأةِ الآخرةِ فيبرز كلٌّ من الحسناتِ والسيئاتِ بما يناسبُها من الصورِ الحسنة

(9/157)


89 سورة الفجر (24 27)
والقبيحةِ أَوْ يتعظُ وقولُه تعالى
وأنى لَهُ الذكرى
اعتراضٌ جِىءَ بهِ لتحقيقِ أنه ليسَ يتذكرُ حقيقةً لعرائِه عن الجَدوى بعدمِ وقوعِه فى أوانه وأنَّى خبرٌ مقدمٌ والذكْرَى مبتدأٌ وله متعلقٌ بما تعلَّق بهِ الخبرُ أيْ ومنْ أينَ يكونُ له الذكْرَى وقد فاتَ أوانُها وقيلَ هناكَ مضافٌ محذوفٌ أيْ وأنَّى له منفعةُ الذكْرَى والاستدلالُ به عَلى عدم وجوبِ قبولِ التوبةِ في دارِ التكليفِ مما لا وجهَ لَهُ على أن تذكّره ليسَ من التوبةِ في شيءٍ فإنَّه عالمٌ بأنَّها إنما تكونُ في الدُّنيا كما يُعربُ عنْهُ قوله تعالى

(9/158)


يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)

يقول يا ليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى
وهو بدلٌ اشتمالٍ من يتذكرُ أو استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأَ منْهُ كأنَّه قيلَ ماذَا يقولُ عندَ تذكرِه فقيلَ يقولُ يا ليتني عملتْ لأجل حياتِي هذِه أو وقتَ حياتِي في الدُّنيا أعمالاً صالحةً أنتفعُ بَها اليومَ وليس في هذا التمنِي شائبةُ دَلالةٌ على استقلالِ العبدِ بفعله وإنما الذي يدلُّ عليهِ ذلكَ اعتقادُ كونِه متمكناً من تقديمِ الأعمالِ الصالحةِ وأما أنَّ ذلكَ بمحضٍ قدرتِه أو بخلقِ الله تعالَى عندَ صرفِ قدرتِه الكاسبةِ إليهِ فكَلاَّ وأما ما قيل من أن المحجورَ قد يتمنَّى إن كانَ ممكناً منْهُ فربما يوهُم أنَّ منْ صرفَ قدرتَهُ إلى أحدِ طَرفي الفعلِ يعتقدُ أنه محجورٌ من الطرفِ الآخرِ وليس كذلكَ بل كلُّ أحدٍ جازمٌ بأنَّه لو صرف قدرتَهُ إلى أي طرفٍ كانَ من أفعالِه الاختياريةِ لحصلَ وعلى هذا يدورُ فلكُ التكليفِ وإلزامُ الحجةِ

(9/158)


فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25)

فيومئذ
أي يومَ إذ يكونُ ما ذكر من الأحوالِ والأقوالِ
لاَّ يُعَذّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ

(9/158)


وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)

وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ
الهاءُ لله تعالَى أيْ لا يتولَّى عذابَ الله تعالَى ووثاقَهُ أحدٌ سواهُ إذِ الأمرُ كلُّه لهُ أو الانسان أي لا يعذب أحد من الزبانيةِ مثلَ ما يعذبونَهُ وقُرِىءَ الفعلانِ على البناءِ للمفعولِ والضميرُ للإنسان أيضاً وقيل المراد به أُبيّ بن خلف أي لا يعذب أحد مثل عذابه ولا يُوثقُ بالسلاسلِ والأغلالِ مثلَ وثاقِه لتناهيهِ في الكفرِ والعنادِ وقيلَ لا يحملُ عذابَ الإنسانِ احد كقولِه تعالى {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} وقولُه تعالى

(9/158)


يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)

يا أيتها النفس المطمئنة
حكايةٌ لأحوالِ مَنِ اطمأنَّ بذكرِ الله عزَّ وجلَّ وطاعتِه إثرَ حكايةِ أحوالِ مَنِ اطمأنَّ بالدُّنيَا وصفتْ بالاطمئنانِ لأنَّها تترقَى في معارجِ الأسبابِ والمسبباتِ إلى المبدأِ المؤثرِ بالذاتِ فتستقرُ دونَ معرفتِه وتَستْغني بهِ في وجودِها وسائرِ شؤونِها عن غيرِه بالكليةِ وقيلَ هي النفسُ المطمئنةُ إلى الحقِّ الواصلةُ إلى ثَلَجِ اليقينِ بحيثُ لا يُخالجها شكٌّ مَا وقيلَ هي الآمنةُ التي لا يستفزُهَا خوفٌ ولا حزنٌ ويؤيدُه أنَّه قُرِىءَ يا أيتها النفسُ الآمنةُ المطمئنة أي يقول

(9/158)


89 سورة الفجر (28 30)
الله تعالَى ذلكَ بالذاتِ كما كلَّم مُوسى عليه السلامُ أو على لسان المَلَكِ عندَ تمامِ حسابِ الناسِ وهو الأظهرُ وقيلَ عندَ البعثِ وقيلَ عند الموتِ

(9/159)


ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)

ارجعى إلى رَبّكِ
أي إلى موعدِه أو إلى أمرِه
رَّاضِيَةٍ
بما أوتيتِ من النعيم المقيمِ
مَّرْضِيَّةً
عند الله عز وجل

(9/159)


فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)

فادخلى فِى عِبَادِى
في زمرةِ عبادِي الصالحينَ المختصينَ بي

(9/159)


وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)

وادخلى جَنَّتِى
معهُم أو انتظمِي في سلكِ المقربينَ واستضييء بأنوارهم فإنَّ الجواهرَ القدسيةَ كالمَرَايا المتقابلة وقيل المرادُ بالنفسِ الروحُ والمَعنْى فادخُلى اجساد عبادي التي فارقت عنْهَا وادخُلِي دارَ ثوابِي وهَذا يؤيدُ كونَ الخطابِ عندَ البعثِ وقُرِىءَ فادخلي في عَبْدِي وقُرِىءَ في جسدِ عَبْدي وقيلَ نزلتْ في حزة بنِ عبد المطلبِ وقيل في حُبيبِ بنِ عديَ رضيَ الله عنهُمَا والظاهرُ العموم عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة الفجرِ في الليالِي العشرِ غُفرَ لَهُ ومنْ قرأهَا في سائرِ الأيامِ كانتْ له نوراً يومَ القيامةِ

(9/159)