تفسير أبي السعود إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

سورة التين مكية وقيل مدنية وآيها ثمان
بسم الله الرحمن الرحيم

(9/174)


وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)

{والتين والزيتون} هما هذا التين وهذا الزيتون خصهماالله سبحانَهُ من بينِ الثمارِ بالإقسامِ بهما لاختصاصِهما بخواصَّ جليلةٍ فإنَّ التينَ فاكهةٌ طيبةٌ لا فُضلَ لهُ غذاء لطيفٌ سريعُ الهضمِ ودواءٌ كثيرُ النفعِ يلينُ الطبعَ ويحللُ البلغمَ ويطهرُ الكليتينِ ويزيلُ ما في المثانةِ من الرملِ ويسمن البدنَ ويفتحُ سددَ الكبدِ والطِّحالِ ورَوَى أبو ذرَ رضيَ الله عنْهُ أنَّه أهدَى للنبي صلى الله عليه وسلم سلٌّ من تينٍ فأكلَ منْهُ وقالَ لأصحابِه كُلوا فلَو قلتُ إن فاكهةً نزلتْ من الجنةِ لقلتُ هذا لأنَّ فاكهةَ الجنَّةِ بلا عجمَ فكلُوهَا فإنَّها تقطعُ البواسيرَ وتنفعُ منَ النِقرسِ وعَنْ عليِّ بنِ مُوسى الرِّضَا التينُ يزيلُ نكهةَ الفمِ ويطولُ الشعرَ وهُوَ أمانٌ منَ الفالجِ وأما الزيتونُ فهو فاكهةٌ وإدامٌ ودواءٌ ولو لم يكنْ له سِوى اختصاصِه بدهنِ كثيرِ المنافعِ معَ حصولِه في بقاعٍ لا دهنيةَ فيهَا لكَفى به فضلاً وشجرتُه هيَ الشجرةُ المباركةُ المشهودُ لهَا في التنزيلِ ومرَّ معاذُ بنُ جبلٍ رضيَ الله عنْهُ بشجرةِ الزيتونِ فأخذَ منهَا قضيا واستاكَ بهِ وقالَ سمعتُ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يقولُ نعمَ السواكُ الزيتونُ من الشجرةِ المباركةِ يطيبُ الفمَ ويذهبُ بالحفرةِ وسمعتُه يقولُ هوَ سواكِي وسواكُ الأنبياءِ قبلِي وقيلَ هما جبلانِ من الأرضِ المقدسةِ يقال لهما بالسريانية طور تينا وطور زيتا لأنهمَا منبِتا التينِ والزيتونِ وقيل التين جبل ما بينَ حلوانَ وهمدانَ والزيتونُ جبالُ الشامِ لأنهمَا منابتَهما كأنه قيلَ ومنابتِ التينِ والزيتونِ وَقالَ قَتَادةُ التينُ الجبلُ الذي عليهِ دمشقُ والزيتونُ الجبلُ الذي عليهِ بيتُ المقدسِ وقال عكرمةُ وَابنُ زيدِ التينُ دمشقُ والزيتونُ بيتُ المقدسِ وهو اختيارالطبري وقالَ محمدُ بنُ كعبٍ التينُ مسجدُ أصحابِ الكهفِ والزيتونُ مسجدُ إِيْليَا وعن ابن عباس رضي الله عنهماالتين مسجدُ نوحٍ عليهِ السلامُ الذي بناهُ على الجُودِيِّ والزيتونُ مسجدُ بيتِ المقدسِ وقالَ الضحَّاكُ التينُ المسجدُ الحرامُ والزيتونُ المسجدُ الأَقْصى والصحيحُ هُوَ الأولُ قالَ ابن عباس رضي الله عنهُمَا هو تينُكُم الذي تأكلونَ وزيتونُكم الذي تعصِرونَ منْهُ الزيتَ وبه قالَ مجاهدٌ وعكرمةُ وإبراهيمُ النخعيُّ وعطاءٌ وجابرٌ وزيدٌ ومقاتلٌ والكلبيُّ

(9/174)


وَطُورِ سِينِينَ (2)

{وَطُورِ سِينِينَ}

(9/174)


هو الجبلُ الذي ناجَى عليهِ موسى ربَّهُ وسينينَ وسيناءُ علمانِ للموضعِ الذي هُوَ فيهِ ولذلكَ أضيفَ إليهمَا وسينونَ كبيرونَ في جوازِ الإعرابِ بالواوِ والياءِ والإقرارِ على الياءِ وتحريكِ النونِ بالحركاتِ الإعرابيةِ

(9/175)


وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)

{وهذا البلد الأمين} أيْ الآمنِ من أمنَ الرجلُ أمانةً فهُو أمينٌ وهُوَ مكةَ شرَّفها الله تعَالَى وأمانتُها أنَّها تحفظُ من دخلَها كما يحفظُ الأمينُ ما يؤتمنُ عليهِ ويجوزُ أنْ يكونَ فعيلاً بمَعْنى مفعولٍ من أمنَهُ لأنَّه مأمونُ الغَوَائلِ كما وصفَ بالآمنِ في قولِه تعالَى {حَرَماً آمنا} بمَعْنى ذِي أمنٍ ووجْهُ الإقسامِ بهاتيكَ البقاع المباركةِ المشحونةِ ببركاتِ الدُّنيا والدِّينِ غنيٌّ عن الشَّرحِ والتبيينِ

(9/175)


لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)

{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} أيْ جنسُ الإنسانِ {فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أيْ كائناً في أحسنُ ما يكونُ من التقويمِ والتعديلِ صورةً ومَعْنى حيثُ برأه الله تعالَى مستويَ القامةِ متناسبَ الأعضاءِ متصفاً بالحياةِ والعلمِ والقدرةِ والإرادةِ والتكلمِ والسمعِ والبصرِ وغيرِ ذلكَ منَ الصفاتِ التي هيَ مِنْ أنموذجاتٍ منَ الصفاتِ السبحانيةِ وآثارٌ لهَا وقدْ عبرَ بعضُ العلماءِ عنْ ذلكَ بقولِه خلقَ آدمَ علَى صورتِه وفي روايةٍ على صورةِ الرحمن وبَنَى عليهِ تحقيقَ مَعْنى قولِه مَنْ عرفَ نفسَهُ فقدْ عرفَ رَبَّه وقالَ إنَّ النفسَ الإنسانيةَ مجردةٌ ليستْ حالّةً في البدنِ ولا خارجةً عنْهُ متعلقةً بهِ تعلقَ التدبيرِ والتصرفِ تستعملُه كيفمَا شاءتْ فإذَا أرادتْ فعلاً من الأفاعيلِ الجُسمانيةِ تلقيهِ إلى مَا في القلبِ منَ الروحِ الحيوانيِّ الذي هُوَ أعدلُ الأرواحِ وأصفاهَا وأقربُها منْهَا وأقواهَا مناسبةً إلى عالمِ المجرداتِ إلقاءً روحانياً وهو يلقيهِ بواسطةِ ما في الشرايينِ منَ الأرواحِ إلى الدماغِ الذي هُو منبتُ الأعصابِ التي فيهَا القُوَى المحركةُ للإنسانِ فعندَ ذلكَ يحركُ منَ الأعضاءِ ما يليقُ بذلكَ الفعلِ من مباديهِ البعيدةِ والقريبةِ فيصدرُ عنْهُ ذلكَ بهذه الطريقةِ فمَنْ عرفَ نفسَهُ على هذه الكيفيةِ من صفاتِها وأفعالِها تسنَّى لهُ أن يترقى إلى معرفةِ ربِّ العزةِ عَزَّ سلطانُهُ ويطلعُ على أنَّه سبحانَهُ منزهٌ عنْ كونِه داخلاً في العالمِ أو خارجاً عنْهُ يفعلُ فيهِ ما يشاء ويحكُم ما يريدُ بواسطةِ ما رتبَهُ فيهِ منَ الملائكةِ الذينَ يستدلُّ على شؤونِهم بما ذكرَ من الأرواحِ والقُوى المرتبةِ في العالمِ الإنسانيِّ الذي هُوَ نسخةٌ للعالمِ الأكبر وأنموذح مِنْهُ وقوله تعالى

(9/175)


ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)

{ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين} أيْ جعلنَاهُ من أهلِ النَّارِ الذينَ هُم أقبحُ من كُلِّ قبيحٍ وأسفلُ من كُلِّ سافلٍ لعدمِ جريانِه على موجبِ ما خلقناهُ عليهِ منَ الصفاتِ التي لو عملَ بمقتضاهَا لكانَ في أعْلَى عليينَ وقيلَ رددناهُ إلى أَرْذَلِ العمرِ وهُو الهرمُ بعدَ الشبابِ والضعفُ بعدَ القوةِ كقولِه تعالَى {وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِى الخلق} وأياً ما كانَ فأسفلُ سافلينَ إمَّا حالٌ منَ المفعولِ أيْ رددناهُ حالَ كونِه أسفلَ سافلينَ أو صفةٌ لمكانٍ محذوفٍ أيْ رددناهُ مكاناً أسفلَ سافلينَ والأولُ أظهر وقرىء

(9/175)


95 سورة التين آية (6 8) أسفلَ السافلينَ وقولُه تعالَى

(9/176)


إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)

{إلا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} على الأولِ استثناءٌ متصلٌ منْ ضميرِ رددناه فإنَّه فِي معْنَى الجمعِ وعلى الثاني منقطعٌ أيْ لكنْ الذينَ كانُوا صالحينَ منْ الهَرْمَى {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} غيرُ منقطعٍ عَلى طاعتِهم وصبرِهم على بلاء الله تعالَى بالشيخوخةِ والهرمِ وعَلى مقاساةِ المشاقِّ والقيامِ بالعبادةِ على تخاذلِ نهوضِهم أو غيرِ ممنونٍ بهِ عليهمْ وهذِه الجملةُ على الأولِ مقررةٌ لمَا يفيدهُ الاستثناءُ منْ خروجِ المؤمنين عن حكم الرد ومبينة لكيفيةِ حالِهم والخطابُ في قولِه تعالَى

(9/176)


فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)

{فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بالدين} للرسول صلى الله عليه وسلم أيْ فأيُّ شيءٍ يكذبكَ دلالةً أو نطقاً بالجزاءِ بعدَ ظهورِ هذهِ الدلائلِ الناطقةِ بهِ وقيلَ ما بمعنَى مَنْ وقيلَ الخطابُ للإنسانِ على طريقِ الالتفاتِ لتشديدِ التوبيخِ والتبكيتِ أيْ فَما يجعلكَ كاذباً بسببِ الدينِ وأنكارِه بعدَ هذهِ الدلائلِ والمَعنى أنَّ خلقَ الإنسانِ منْ نطفةٍ وتقويمَهُ بشراً سوياً وتحويلِه منْ حالٍ إلى حالٍ كمالاً ونُقصاناً من أوضحِ الدلائلِ على قُدرةِ الله عزَّ وجلَّ على البعثِ والجزاءِ فأيُّ شيءٍ يضطركَ بعدَ هَذَا الدليلِ القاطعِ إلى أنْ تكونَ كاذباً بسببِ تكذيبهِ أيُّها الإنسانُ

(9/176)


أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)

{أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} أي أليسَ الذي فعلَ ما ذُكرَ بأحكمِ الحاكمينَ صنعاً وتدبيراً حتَّى يتوهَم عدمُ الإعادةِ والجزاءِ وحيثُ استحالَ عدمُ كونهِ أحكَمَ الحاكمينَ تعينَ الإعادةُ والجزاءُ فالجملةُ تقريرٌ لما قبلَها وقيلَ الحكمُ بمعْنَى القضاءِ فهي وعيدٌ للكفارِ وأنَّه يحكمُ عليهم بما يستحقونَهُ منَ العذابِ
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه كانَ إذَا قَرأها يقولُ بَلَى وأنَا عَلى ذلكَ منَ الشاهدينَ وعنْهُ صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة التين أعطاهُ الله تعالى الخصلتينِ العافيةَ واليقينَ ما دامَ في دار الدُّنيا وإذا ماتَ أعطاهُ الله تعالى من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة

(9/176)


سورة العلق سورة العلق مكية وأيها تسع عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم

(9/177)


اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)

{اقرأ} أيْ مَا يوحَى إليكَ فإنَّ الأمرَ بالقراءةِ يقتَضي المقروءَ قطعاً وحيثُ لَمْ يُعينَ وجبَ أنْ يكونَ ذلكَ ما يتصلُ بالأمرِ حتماً سواءً كانتِ السورةُ أولَ ما نزلَ أولا والأقربُ أنَّ هَذا إلى قولِه تعالى {مَا لَمْ يَعْلَمْ} أولُ ما نزلَ عليه عليه الصلاة والسلام كما ينطقُ بهِ حديثُ الزهر المشهورُ وقولِه تعالى {باسم رَبّكَ} متعلقٌ بمضمرٍ هُو حالٌ من ضميرالفاعل أي اقرأْ ملتبساً باسمهِ تعالى أيْ مُبتدئاً بِه لتتحقق مقارنته لجميع أجزاءِ المقروءِ والتعرّضُ لعنوانِ الربوبيةِ المُنْبئة عن التَّربيةِ والتبليغِ إلى الكمالِ اللائقِ شيْئاً فشيئا مع الإضافة إلى ضميرِه عليهِ السَّلامُ للإشعارِ بتبليغِه عليِه السَّلامُ إلى الغايةِ القاصيةِ منَ الكمالاتِ البشريةِ بإنزالِ الوَحي المتواتِرِ ووصفُ الربَّ بقولِه تعالَى {الذى خَلَقَ} لتذكيرِ أولِ النعماءِ الفائضةِ عليهِ عليه الصلاة والسلام منه تعالى والتنبيهِ على أنَّ منْ قدرَ عَلى خلقِ الإنسانِ على ما هو عليه من الحياةَ وما يتبعُها منَ الكمالاتِ العلميةِ والعمليةِ منْ مادةٍ لم تشمَّ رائحةَ الحياةِ فضلاً عن سائرِ الكمالاتِ قادرٌ على تعليمِ القراءةِ للحيِّ العالمِ المتكلمِ أي الذي أنشأَ الخلقَ واستأثرَ بِه أوْ خلَقَ كُلّ شَىْء وقولُه تعالى

(9/177)


خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)

{خَلَقَ الإنسان} عَلى الأولِ تخصيص لخلق اإلإنسان بالذكر من بين سائر المخلوقاتِ لاستقلالِه ببدائعِ الصنعِ والتدبيرِ وَعَلى الثاني إفرادٌ للإنسانِ منْ بينِ سائرِ المخلوقاتِ بالبيانِ وتفخيمٌ لشأنِه إذْ هُو أشرفُهم وإليهِ التنزيلُ وهُو المأمورُ بالقراءةِ ويجوزُ أنْ يرادَ بالفعلِ الأولِ أيضاً خلقُ الإنسانِ ويقصدُ بتجريدِه عن المفعولِ الإبهامِ ثمَّ التفسيرِ رَوْماً لتفخيمِ فطرتِه وقولُه تعالى {مِنْ عَلَقٍ} أيْ دمٍ جامدٍ لبيانِ كمالِ قُدرتِه تعالى بإظهارِ مَا بينَ حالتِه الأولى والآخرةِ من التباينِ البينِ وإيرادُه بلفظِ الجمعِ بناءً على أنَّ الإنسانَ في مَعْنى الجمعِ لمراعاةِ الفواصلِ ولعلَّه هو السرُّ في تخصيصِه بالذكرِ منْ بينِ سائرِ أطوارِ الفطرة الإنسانيةِ معَ كونِ النطفةِ والترابِ أدلَّ منْهُ عَلَى كمالِ القُدرةِ لكونِهما أبعدَ منْهُ بالنسبةِ إلى الإنسانيةِ ولَمَّا كانَ خلقُ الإنسان أول النعمُ الفائضةِ عليه عليهِ الصلاة والسلام منه تعالى

(9/177)


96 سورة العلق آية (3 7) وأقدم الدلائلِ الدالةِ على وجودِه عزَّ وجلَّ وكمالِ قُدرتِه وعلمِه وحكمتِه وصفَ ذاتَه تَعالى بذلكَ أولاً ليستشهدَ عليه السلامُ بهِ على تمكينهِ تعالى لَه منَ القراءةِ ثم كررَ الأمرَ بقولِه تعالى

(9/178)


اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)

{اقرأ} أي افعلْ ما أُمرت بِه تأكيداً للإيجابِ وتمهيداً لما يعقُبه منْ قولِه تعالى {وَرَبُّكَ الاكرم} الخ فأنَّه كلامٌ مستأنفٌ واردٌ لإزاحةِ ما بينَهُ عليه السَّلامُ منَ العُذرِ بقولِه عليهِ السَّلامُ مَا أنَا بقارىءٍ يريدُ أنَّ القراءةَ شأنُ منْ يكتبُ ويقرأُ وأنَا أُميٌّ فقيلَ لَهُ وربُّكَ الذي أمركَ بالقراءةِ مبتدئاً باسمِه هو الأكرمُ

(9/178)


الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)

{الذى عَلَّمَ بالقلم} أي علمَ ما علمَ بواسطةِ القلم لا غيره فكما علَّم القارىءَ بواسطةِ الكتابةِ والقلمِ يعلمكَ بدونِهما وقولُه تعالَى

(9/178)


عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)

{عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} بدلُ اشتمالٍ منْ عَلَّمَ بالقلمِ أي علَّمه بهِ وبدونِه منَ الأمورِ الكليةِ والجزئيةِ والجليةِ والخفيةِ مالم يخطرُ ببالِه وفي حذفِ المفعولِ أولاً وإيرادِه بعنوانِ عدمِ المعلوميةِ ثانياً من الدلالةِ عَلى كمالِ قُدرتِه تعالى وكمالِ كَرَمِه والإشعارِ بأنَّه تعالى يعلمُه من العلوم ما لا تحيطُ بِه العقولُ ما لا يخفى

(9/178)


كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6)

{كَلاَّ} ردعٌ لمن كفرَ بنعمةِ الله تعالى بطغيانِه وإن لم يسبقْ ذكرُهُ للمبالغةِ في الزجرِ وقولُه تعالَى {إِنَّ الإنسان ليطغى} أيْ ليجاوزُ الحدَّ ويستكبرُ عَلى ربِّه بيانٌ للمردوعِ والمردوعِ عَنْهُ قيلَ هَذَا إلى آخرِ السورةِ نزلَ في أبي جهلٍ بعدَ الزمان وهو الظاهرُ وقولُه تعالَى

(9/178)


أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)

{أن رآه استغنى} مفعولٌ لَهُ أي يطغى لأنْ رَأى نفسَهُ مستغنياً عَلى أنَّ استغنى مفعولٌ ثانٍ لرأى لأنه بمَعْنى علمَ ولذلكَ ساغَ كونُ فاعلِه ومفعولِه ضميريْ واحدٍ كَمَا في علمتني وإن جَوَّزَهُ بعضُهم فِي الرؤيةِ البصريةِ أيضاً وجعلَ من ذلك قول عائشةَ رضيَ الله عنها لقد رأيتُنا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وما لَنا طعامٌ إلاَّ الأسودانِ وتعليلُ طُغيانِه برؤيتهِ لا بنفسِ الاستغناءِ كمَا ينبىء عنه قوله تعالى {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الارض} للإيذانِ بأنَّ مَدَارَ طُغيانهِ زعمه الفاسد
رُوِيَ أنَّ أَبا جهلٍ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتزعمُ أنَّ منِ استغنى طغَى فاجعلُ لنَا جبالَ مكةَ فضةً وذهباً لعلنَا نأخذُ منْهَا فنطغَى فندعَ ديننَا ونتبعَ دينكَ فنزلَ عليهِ جبريلُ عليهِ السَّلامُ فقالَ إن شئْتَ فعلنَا ذلكَ ثُمَّ إنْ لَمْ يُؤمنوا فعلْنا بهمْ مَا فعلنَا بأصحابِ المائدةِ فكفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدُّعاءِ إبقاءً عليهمْ وقوله تعالى

(9/178)


96 سورة العلق آية (8 14)

(9/179)


إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)

{إِنَّ إلى رَبّكَ الرجعى} تهديدٌ للطاغي وتحذيرٌ لَهُ من عاقبةِ الطغيانِ والالتفاتُ للتشديدِ في التهديدِ والرُّجعى مصدرٌ بمعنَى الرُّجوعِ كالبشرى وتقديمُ الجار والمجرور عليه لقصره عليهِ أيْ إنَّ إلى مالكِ أمركِ رجوعَ الكُلِّ بالموتِ والبعثِ لا إلى غيره استقلالا ولااشتراكا فسترى حينئذٍ عاقبةَ طُغيانِكَ وقوله تعالى

(9/179)


أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)

{أرأيتَ الَّذي يَنْهى عبْداً إِذَا صلى} تقبيحٌ وتشنيعٌ لحالهِ وتعجيبٌ منهَا وإيذانٌ بأنَّها منَ الشناعةِ والغرابةِ بحيثُ يجبُ أنْ يَراهَا كلُّ منْ يتأتى منْهُ الرؤيةُ ويقضي منهَا العجبَ
رُوِيَ أنَّ أَبا جهلٍ قالَ في ملأٍ من طُغاةِ قريشٍ لئِنْ رأيتُ محمداً يُصلي لأطأنَّ عنقَهُ فرآهُ عليهِ السَّلامُ في الصَّلاةِ فجاءَهُ ثُمَّ نكصَ على عقبيه فقالوا مالك قال إن بيني وبينهُ لخندقاً منْ نارٍ وهولاً وأجنحةً فنزلتْ ولفظُ العبدِ وتنكيرُه لتفخيمِه عليهِ السَّلامُ واستعظامِ النَّهي وتأكيدِ التعجبِ منْهُ والرؤيةُ هَهُنا بصريةٌ وأمَّا ما في قولِه تعالى

(9/179)


أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12)

{أرأيت إن كان على الهدى أَوْ أَمَرَ بالتقوى} ومَا في قوله تعالى

(9/179)


أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)

{أرأيت إِن كَذَّبَ وتولى} فقلبيةٌ معناهُ أخبرني فإنَّ الرؤيةَ لما كانت سبباً للإخبارِ عنِ المَرئي أجرى الاستفهامُ عنْهَا مجرى الاستخبارِ عنْ متعلَّقها والخطابُ لكلِّ منْ صلُحَ للخطابِ ونظمُ الأمرِ والتكذيبِ والتولِّي في سلكِ الشرط المتردد بين الوقوع وعدمه ليس ليسَ باعتبارِ نفسَ الأفعالِ المذكورةِ منْ حيثُ صدورُها عن الفاعلِ فإنَّ ذلكَ ليسَ في حيزِ الترددِ أصلاً بلْ باعتبارِ أوصافها التي هِيَ كونُها أمراً بالتقوى وتكذيباً وتولياً كَمَا في قوله تعالى {قل أرأيتم إن كان مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} كَمَا مرَّ والمفعولُ الأولُ لأرأيتَ محذوفٌ وهو ضميرٌ يعودُ إلى الموصولِ أو اسمُ إشارةِ يُشارُ بهِ إليهِ ومفعولُه الثاني سدَّ مسدَّهُ الجملةُ الشرطيةُ بجوابها المحذوفِ فإنَّ المفعولَ الثاني لأرأيتَ لا يكونُ إلا جملةً استفهاميةً أو قسميةً والمعَنى أخبرني ذلك الناهي إن كان على الهدى فيمَا ينهي عَنْهُ منْ عبادةِ الله تعالى أوْ آمراً بالتَّقوى فيمَا يأمرُ بهِ من عبادةِ الأوثانِ كما يعتقدُه أوْ مكذباً للحق معرضا عن الصوب كما نقول نحن

(9/179)


أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)

{ألم يعلم بأن الله يرى} أيْ يطلعُ على أحواله فيجازيه

(9/179)


96 سورة العلق آية (15 18) بِهَا حتَّى اجترأ على ما فعلَ وإنَّما أفردَ التكذيبَ والتولِّي بشرطيةٍ مستقلةٍ مقرونةٍ بالجوابِ مصدرةٍ باستخبارٍ مستأنفِ ولم ينظمَا في سلكِ الشرطِ الأولِ بعطفهما على كانَ للإيذانِ باستقلالهما بالوقوعِ في نفسِ الأمرِ واستتباعِ الوعيدِ الذي ينطقُ بهِ الجوابُ وأما القسمُ الأولُ فأمرٌ مستحيلٌ قد ذكر في حيزالشرط لتوسيعِ الدائرةِ وهو السرُّ في تجريدِ الشرطيةِ الأولى عنِ الجوابِ والإحالةِ بهِ على جوابِ الثانيةِ هَذا وقد قيلَ أرأيتَ الأولُ بمعنى أخبرني مفعولُه الأولُ الموصولُ ومفعولُه الثاني الشرطيةُ الأولى بجوابها المحذوفِ لدلالةِ جوابِ الشرطيةِ الثانيةِ عليه وأرأيتَ في الموضعينِ تكريرٌ للتأكيدِ ومعناهُ أخبرني عمَّنْ ينهى بعضَ عبادِ الله عن صلاته إنْ كانَ ذلكَ النَّاهي علَى طريقةٍ سديدةِ فيما ينهى عنْ عبادةِ الله تعالى أوْ كانَ آمراً بالمعروفِ والتَّقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقده وكذلكَ إنْ كانَ على التكذيبِ للحقِّ والتولِّي عنِ الدينِ الصحيح كما نقولُ نحن {ألم يعلم بأن الله يرى} ويطلعُ على أحوالِه منْ هُداهُ وضلالهِ فيجازيَهُ عَلى حسبِ ذلكَ فتأملْ وقيلَ المَعْنى أرأيتَ الَّذي يَنْهى عبْداً يُصلي والمُنهيُّ عنِ الهُدى آمرٌ بالتقوى والناهي مكذب متول فما أعجبَ من ذَا وقيلَ الخطابُ الثاني للكافرِ فإنَّه تعالَى كالحاكمِ الذي حضَرهُ الخصمانِ يخاطبُ هذا مرةً والآخرَ أُخرى وكأنَّه قالَ يا كافرُ أخبرني إنْ كانَ صلاتُه هُدى ودُعاؤُه إلى الله تعالى أمراً بالتَّقوى أتنهاهُ وقيلَ هُو أُميةُ بنُ خلفٍ كانَ ينْهى سلمانَ عنِ الصَّلاةِ

(9/180)


كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15)

{كَلاَّ} ردعٌ للناهي اللعينِ وخسوءٌ لَهُ واللامُ في قولِه تعالَى {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ} موطئةٌ للقسمِ أي والله لئِن لَمْ ينتِه عَمَّا هُو عليهِ ولمْ ينزجرْ {لَنَسْفَعاً بالناصية} لنأخذنَّ بناصيتهِ ولنسحبنّهُ بِهَا إلى النَّارِ والسفعُ القبضُ على الشيءِ وجذبُه بعنفٍ وشدةٍ وقُرِىءَ لنسفعنَّ بالنونِ المشددةِ وقُرِىءَ لأسفعنَّ وكتبتهُ في المصحفِ بالألفِ عَلى حكمِ الوقفِ والاكتفاءُ بلامِ العهدِ عنِ الإضافةِ لظهورِ أنَّ المرادَ ناصيةُ المذكورِ

(9/180)


نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)

{نَاصِيَةٍ كاذبة خَاطِئَةٍ} بدلٌ منَ الناصيةِ وإنَّما جازَ إبدالُها منَ المعرفةِ وهي نكرةٌ لوصفِها وقُرئَتْ بالرفعِ على هِيَ ناصيةٌ وبالنصبِ وكلاهُما على الذمِّ والشتمِ ووصفُها بالكذبِ والخطإِ على الإسنادِ المجازيِّ وهُمَا لصاحبها وفيه من الجزالة ما ليس في قولك ناصية كاذب المخطىء

(9/180)


فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17)

{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} أيْ أهلَ ناديهِ ليعينوهُ وهُو المجلسُ الَّذي ينتدي فيه القومُ أي يجتمعونَ
رُوِيَ أنَّ أَبا جهلٍ مرَّ برسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم وهُو يُصلي فقالَ ألم أنهكَ فأغلظَ لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالَ أتهددني وأنا أكثرُ أهلِ الوادي نادياً فنزلتْ

(9/180)


سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)

{سَنَدْعُ الزبانية} ليجروه إلى النار والزبانية

(9/180)


96 سورة العلق آية (19) الشرطُ الواحدُ زبْنيةٌ كعفريةٍ من الزِّبنِ وهُوَ الدَّفعْ وقيلَ زَبَنِي وكأنَّه نسبَ إلى الزبنِ ثُمَّ غير كأمْسى وأصلُها زَبَاني فقيلَ زبانيةٌ بتعويضِ التاءِ عن الياءِ والمرادُ ملائكةُ العذابِ وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لَوْ دَعا ناديه لأخذتْهُ الزبانيةُ عياناً

(9/181)


كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)

{كَلاَّ} ردعٌ بعدَ ردعٍ وزجرٌ إثرَ زجرٍ {لاَ تُطِعْهُ} أيْ دُم عَلى ما أنت عليه من معاصاتِه {واسجد} وواظبْ عَلى سجودِكَ وصلاتك غيرَ مكترثٍ بِه {واقترب} وتقربْ بذلك إلى ربِّكَ وفي الحديثِ أقربُ ما يكونُ العبدُ إلى ربِّه إذَا سجدَ عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ العلقِ أُعطيَ منَ الأجرِ كأنَّما قرأالمفصل كله

(9/181)


سسورة القدر سورة مكية مختلف فيها وآيها خمس
بسم الله الرحمن الرحيم

(9/182)


إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)

{إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر} تنويهٌ بشأنِ القرآنِ الكريمِ وإجلالٌ لمحلِه بإضمارِهِ المُؤذنِ بغايةِ نباهتِهِ المغنيةِ عن التصريحِ بهِ كأنهُ حاضرٌ فِي جميعِ الأذهانِ وبإسنادِ إنزالِه إلى نونِ العظمة المنبئ عنْ كمالِ العنايةِ بهِ وتفخيمُ وقتِ إنزالِه بقولِه تعالى

(9/182)


وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)

{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر} لما فيهِ منَ الدلالةِ عَلى أنَّ علوِّ قدرِها خارجٌ عنْ دائرةِ درايةِ الخَلْقِ لا يدريَها وَلاَ يدريَها إلاَّ علاَّمُ الغيوبِ كمَا يُشعر بهِ قولُه تعالَى

(9/182)


لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)

{لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} فإنهُ بيانٌ إجماليٌّ لشأنها إثرَ تشويقهِ عليهِ السلامُ إلى درايتها فإنَّ ذلكَ معربٌ عنِ الوعدِ بإدرائها وقدْ مرَّ بيانُ كيفيةِ إعرابِ الجملتينِ وفي إظهارِ ليلةِ القدرِ في الموضعينِ منْ تأكيدِ التفخيم مالا يخفى والمرادُ بإنزالِه فيها إمَّا إنزالُ كُلِّه إلى السماءِ الدُّنيا كَما رُوي أنَّه أُنزل جملةً واحدةً في ليلةِ القدرِ من اللوحِ المحفوظِ إلى السماءِ الدُّنيا وأملاهُ جبريلَ عليهِ السَّلامُ على السَفَرة ثُمَّ كانَ ينزلهُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم نُجوماً في ثلاثٍ وعشرينَ سنةً وإمَّا ابتداءُ إنزالِه فيها كما نُقلَ عن الشَّعبيِّ وقيلَ المَعْنى أنزلناهُ في شأنِ ليلةِ القدرِ وفضلِها كَما في قولِ عمر رضي الله عنه خشيتُ أن ينزلَ فيَّ قرآن وقولِ عائشةَ رضيَ الله عنها لأنَا أحقرُ في نفسي منْ أن ينزلَ فيَّ قرآن فالأنسبُ أن يجعلَ الضميرُ حينئذٍ للسورةِ التي هيَ جزءٌ من القرآنِ لا للكُلِّ واختلفوا في وقتها فأكثرهم على أنها في شهرِ رمضانَ في العشرِ الأواخرِ في أوتارِها وأكثرُ الأقوالِ أنها السابعةُ منها ولعلَّ السرِّ في إخفائها تعريضُ منْ يريدُها للثوابِ الكثير بإحياءِ الليالي الكثيرةِ رجاءً لموافقتها وتسميتُها بذلكَ إمَّا لتقدير الأمورِ وقضائها فيها لقولِه تعالى فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أو لخطرها وشرفها على سائرِ الليالي وتخصيصُ الألفِ بالذكرِ إمَّا للتكثيرِ أوْ لمَا روي أنه صلى الله عليه وسلم ذكرَ رجلاً من بني إسرائيلَ لبسَ السلاحَ في سبيلِ الله ألفَ شهرٍ فعجبَ المؤمنونَ منه وتقاصرتْ إليهم أعمالهم فأعطوا ليلةً هيَ خير منْ مدةِ ذلكَ الغازي وقيلَ إنَّ رجل فيما مَضَى مَا كانَ يقالُ لَهُ عابدٌ حَتَّى يعبدَ الله تعالى ألفَ شهر فأعطوا

(9/182)


97 سورة القدر آية (4 5) ليلةً إنْ أحيوْها كانُوا أحقَّ بأن يُسمَّوا عابدينَ من أولئكَ العبادِ وقيلَ أري النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أعمارَ الأممِ كافةً فاستقصرَ أعمار أمنه فخافَ أنْ لا يبلغوا من العملِ مثلَ ما بلغَ غيرهم في طولِ العمرِ فأعطاهُ الله ليلةَ القدرِ وجعلها خيراً منْ ألفِ شهرٍ لسائرِ الأممِ وقيلَ كانَ ملكُ سليمانَ خمسمائةَ شهرٍ وملكُ ذي القرنينِ خمسمائةَ شهرٍ فجعلَ الله تعالَى العملَ في هذهِ الليلةِ لمنْ أدركها خيراً منْ مُلكِهِمَا وقولُه تعالَى

(9/183)


تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)

{تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا} استئنافٌ مبينٌ لمناطِ فضلِها على تلكَ المدةِ المتطاولةِ وقد سبقَ في سورةِ النبأ ما قيلَ في شَأنِ الروحِ عَلى التفصيلِ وقيلَ هم خلقٌ منَ الملائكةِ لا يراهُم الملائكةُ إلا تلكَ الليلةَ أيْ تتنزل الملائكةُ والروحُ في تلكَ الليلةِ منْ كُلِّ سماءٍ إلى الأرضِ أوْ إلى السماءِ الدُّنيا {بِإِذْنِ رَبّهِمْ} متعلقٌ بتنزلُ أوْ بمحذوفٍ هُو حالٌ من فاعلِه أيْ ملتبسينَ بِإِذْنِ رَبّهِمْ أيْ بأمرِه {مّن كُلّ أَمْرٍ} أي من أجلِ كُلِّ أمرٍ قضاهُ الله عزَّ وجلَّ لتلكَ السنةِ إلى قابلِ كقولِه تعالَى فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حكيم وقرئ من كل امرئ أي من أجل كل إنسانٍ قيلَ لا يلقونَ فيها مؤمنا ولا مؤمنةً إلا سلمُوا عليهِ

(9/183)


سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

{سلام هِىَ} أيْ مَا هيَ إلا سلامةٌ أيْ لا يقدرُ الله تعالى فيها إلا السلامةَ والخيرَ وأمَّا في غيرِها فيقضي سلامةً وبلاءً أوْ ما هيَ إلا سلامٌ لكثرةِ ما يسلمونَ فيها على المؤمنينَ {حتى مَطْلَعِ الفجر} أيْ وقت طلوعه وقرئ بالكسرِ على أنهُ مصدرٌ كالمرجعِ أو اسمُ زمانٍ على غيرِ قياسٍ كالمشرِقِ وحتَّى متعلقةٌ بتنزلُ على أنها غايةٌ لحكمِ التنزلِ أي لمكثِهمْ في محلِ تنزلِهم أو لنفسِ تنزلهم بأنْ لا ينقطعَ تنزلُهم فوجاً بعدَ فوجٍ إلى طلوعِ الفجرِ وقيلَ متعلقةٌ بسلامٍ بناءً على أنَّ الفصلَ بين المصدرِ ومعمولِه بالمبتدأ مغتفرٌ في الجارِّ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم من قرأسورة القدرِ أعطي من الأجرِ كَمَنْ صامَ رمضانَ وأَحْيَا ليلة القدر

(9/183)


سورة البينة مدنية مختلف فيها وآيها ثمان
بسم الله الرحمن الرحيم

(9/184)


لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)

{لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مّنْ أَهْلِ الكتاب} أي اليهودُ والنَّصارَى وإيرادُهم بذلكَ العنوانِ للإشعارِ بعلةِ ما نُسبَ إليهمْ من الوعدِ باتباعِ الحقِّ فإنَّ مناطَ ذلكَ وجدانُهم لَهُ في كتابِهم وَإِيرادُ الصلةِ فعلاً لما أنَّ كُفرهم حادثٌ بعدَ أنبيائِهم {والمشركين} أيْ عبدة الأصنام وقرئ وَالمشركونَ عطفاً على الموصولِ {مُنفَكّينَ} أي عمَّا كانُوا عليهِ من الوعدِ باتباعِ الحقِّ والإيمانِ بالرسولِ المبعوثِ في آخرِ الزمانِ والعزمِ على إنجازِه وهَذَا الوعدُ من أهلِ الكتابِ مما لا ريبَ فيه حَتَّى إنَّهم كانُوا يستفتحونَ ويقولونَ اللهمَّ افتحْ علينَا وانصرنا بالنبيِّ المبعوثِ في آخرِ الزمانِ ويقولونَ لأعدائِهم منَ المشركينَ قد أظلَّ زمانُ نبيَ يخرجُ بتصديقِ ما قلنَا فنقتلُكُم مَعَهُ قتلَ عادٍ وإرمَ وأما منَ المشركينَ فلعلَّهُ قدْ وقعَ من متأخريهمْ بعدَ مَا شَاعَ ذلكَ من أهلِ الكتابِ واعتقدوا صحتَهُ بَمَا شاهدُوا من نصرتهم على أسلافم كما يشهدُ به أنهم كانوا يسألونهم عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم هلْ هُوَ المذكورُ في كتابِهم وكانوا يغرونَهُم بتغييرِ نعوتِه عليهِ السَّلامُ وانفكاكُ الشيء عن الشيءِ أنْ يزايَلَهُ بعدَ التحامِه كالعظمِ إذا انفكَّ من مفصلِه وفيهِ إشارةٌ إلى كمالِ وكادةِ وعدِهم أيْ لم يكُونوا مفارقينَ للوعدِ المذكورِ بلْ كانُوا مجمعينَ عليهِ عازمينَ على إنجازِه {حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} التي كانُوا قد جعلوا إتيانها ميقاتاً لاجتماعِ الكلمةِ والاتفاقِ عَلى الحقِّ فجعلوه ميقاتاً للانفكاكِ والافتراقِ وإخلافِ الوعدِ والتعبيرُ عن إتيانِها بصيغةِ المضارعِ باعتبارِ حالِ المحكيِّ لا باعتبارِ حالِ الحكايةِ كما في قولِه تعالَى {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} أي تلتْ وقولُه تعالى

(9/184)


رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2)

{رَّسُولٍ} بدلٌ منَ البينةِ عبرَ عنه عليهِ السَّلامُ بالبينة للإيدان بغاية ظهورِ أمرِهِ وكونِه ذلكَ الموعودَ في الكتابينِ وقولُه تعالى {مِنَ الله} متعلق بمضمر هو صفة لرسولٍ مؤكِّدٌ لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي رسولٌ وأيُّ رسولٍ كائنٌ منْهُ تعالى وقولُه تعالى {يَتْلُو} صفةٌ أخرى له أو حالٌ من الضمير في متعلق الجارِّ {صُحُفاً مُّطَهَّرَةً} أيْ منزهةً عنِ الباطلِ لا يأتيه الباطلُ من بينِ يديهِ ولا من خلفه أو من أنْ يمسَّهُ غيرُ المطهرينَ ونسبةُ تلاوتِها إليه عليه

(9/184)


سورة البينة آية (3 5) السلامُ منْ حيثُ إنَّ تلاوةَ مَا فيها بمنزلةِ تلاوتِها وقولُه تعالى

(9/185)


فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)

{فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ} صفةٌ لصحفاً أوْ حالٌ منْ ضميرها في مطهرةٍ ويجوزُ أنْ يكونَ الصفةُ أو الحالُ الجارَّ والمجرورَ فَقَطْ وكتبٌ مرتفعاً بِه على الفاعليَّةِ ومَعْنى قيمةٌ مستقيمةٌ ناطقةٌ بالحقِّ والصوابِ
وقولُه تعالَى

(9/185)


وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)

{وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} إلخ كلامٌ مسوقٌ لغايةِ تشنيعِ أهلِ الكتابِ خاصَّةٌ وتغليظِ جناياتِهم ببيانِ أنَّ ما نسبَ إليهمْ من الانفكاكِ لم يكُنْ لاشتباهٍ مَا في الأمرِ بلْ كانَ بعدَ وضوحِ الحقِّ وتبينِ الحالِ وانقطاعِ الأعذار بالكليةِ وهُوَ السرُّ في وصفِهم بإيتاءِ الكتابِ المنبئ عن كمالِ تمكنِهم منْ مطالعتِه والإحاطةِ بَما فِي تضاعيفِه من الأحكامِ والأخبارِ التي مِنْ جُملتِها نعوتُ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بعدَ ذكِرَهم فيما سبقَ بما هُوَ جارٍ مَجْرَى اسمِ الجنسِ للطائفتينِ ولَمَّا كانَ هؤلاءِ وَالمشركونَ باعتبارِ اتفاقِهم عَلَى الرأي المذكورِ في حكمِ فريقٍ واحدٍ عبرَ عَمَّا صدرَ عنهمْ عقيبَ الاتفاقِ عندِ الإخبارِ بوقوعِه بالانفكاكِ وعندَ بيانِ كيفية وقوعه بالتفرق اعتبارا لاستقلال كل من فريقي أهل الكتاب وإيذاناً بأن انفكاكهم عن الرأي المذكور ليس بطريق الاتفاق على رأي أخر بل بطريق الاختلاف القديم وقولُه تعالى {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة} استثناءٌ مفرغٌ منْ أعمِّ الأوقاتِ أيْ وما تفرقُوا في وقتٍ منَ الأوقاتِ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الحجةُ الواضحةُ الدالَّةُ على أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم هو الموعودُ في كتابِهم دلالةً جليةً لا ريبَ فيَها كقولِه تعالى {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب} إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم وقولُه تعالى

(9/185)


وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)

{وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله} جملةُ حاليةٌ مفيدةٌ لغايةِ قبحِ ما فعلُوا أيْ والحالُ أنَّهم ما أُمروا في كتابِهم إلا لأجلِ أنْ يعبدُوا الله وقيلَ اللامُ بمَعْنى أنْ أي إلا بأنْ يعبدُوا الله ويعضدُه قراءةُ إلا أنْ يعبدُوا الله {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي جاعلينَ دينَهُم خَالِصاً له تعالَى أو جاعلينَ أنفسَهُم خالِصةً لَهُ تعالَى في الدِّينِ {حُنَفَاء} مائلينَ عن جميعِ العقائدِ الزائغةِ إلى الإسلامِ {ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة} إنْ أُريدَ بهما ما في شريعتِهم من الصَّلاةِ والزَّكاةِ فالأمرُ ظاهرٌ وإنْ أُريدَ ما في شريعتِنا فمَعْنى أمرِهم بهما في الكتابينِ أنَّ أمرَهُم باتباعِ شريعتِنا أمرٌ لهم بجميعِ أحكامِها التي هُمَا من جُملتها {وَذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ من عبادةِ الله تعالى وبالإخلاص وإقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ وما فيه من معنى البُعدِ للإشعارِ بعلوِّ رتبتِه وبُعد منزلتِه {دِينُ القيمة} أي دينُ الملةِ القيمةِ وقرئ الدينُ القيمةُ على تأويلِ الدينِ بالملةِ هذا وقد قيلَ قولُه تعالى {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ} إلى

(9/185)


98 سورة البينة آية (6 7) قولِه {كتبٌ قيمةٌ} حكايةٌ لما كانُوا يقولونَهُ قبلَ مبعثِه عليهِ السَّلامُ من أنَّهم لا ينفكونَ عنْ دينِهم إلى مَبْعثِه ويعدون أنْ ينفكُّوا عنه حينئذٍ ويتفقوا على الحقِّ وقولُه تعالَى {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أوتوا الكتاب} الخ بيان لإخلافِهم الوعدَ وتعكيسِهم الأمرَ بجعلِهم ما هُو سببٌ لانفكاكِهم عن دينِهم الباطلِ حسبَما وعدُوه سبباً لثباتِهم عليهِ وعدمِ انفكاكِهم عنه ومثلُ ذلكَ بأنْ يقولَ الفقيرُ الفاسقُ لمن يعظهُ لا أنفكُّ عمَّا أنَا فيه حتَّى أستغني فيستغني فيزدادُ فسقاً فيقولَ له واعظُه لم تكنْ منفكَّاً عن الفسقِ حتى توسرَ وما عكفتَ على الفسقِ إلا بعدَ اليسارِ وأنت خبيرٌ بأنَّ هَذا إنَّما يتسنّى بعد اللَّتيا والتي على تقدير أن يرادَ بالتفرقِ تفرقُهم عن الحقِّ بأنْ يقال التفرقُ عن الحقِّ مستلزمٌ للثباتِ على الباطلِ فكأنَّه قيلَ وما أجمعُوا على دينِهم إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينةُ وأما على تقديرِ أنْ يرادَ به تفرقُهم فرقاً فمنُهم من آمنَ ومنُهم من أنكرَ ومنُهم من عرفَ وعاندَ كَمَا جوَّزه القائلُ فلا فتأملْ

(9/186)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين فِى نَارِ جَهَنَّمَ} بيانٌ لحالِ الفريقينِ في الآخرةِ بعد بيانِ حالِهم في الدُّنيا وذَكَرَ المشركينَ لئلاَّ يتوهَم اختصاصُ الحكمِ بأهلِ الكتابِ حسبَ اختصاصِ مشاهدةِ شواهدِ النبوةِ في الكتابِ بهم ومَعْنى كونِهم فيها أنَّهم يصيرون إليها يومَ القيامةِ وإيرادُ الجملةِ الاسميةِ للإيذان بتحقق مضمونِها لا محالةَ أو أنَّهم فيها الآنَ إما على تنزيل ملابستِهم لما يوجبُها منزلَة ملابستِهم لها وإما عَلى أنَّ ما هُم فيه من الكفر والمعاصي عينُ النارِ إلا أنَّها ظهرتْ في هذهِ النشأةِ بصور عَرَضيةٍ وستخلعُها في النشأة الآخرة وتظهر بصورتها الحقيقة كما مر في قوله تعالى {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} في سورة الأعرافِ {خالدين فِيهَا} حالٌ من المستكنِّ في الخبرِ واشتراكُ الفريقينِ في دخولِ دارِ العذابِ بطريقِ الخُلودِ لا يُنافِي تفاوتَ عذابِهم في الكيفيةِ فإنَّ جهنَم دركاتٌ وعذابَها ألوانٌ {أولئك} إشارةٌ إليهم باعتبارِ اتصافِهم بما هُم فيه من القبائحِ المذكورة وما فيه من مَعْنى البُعدِ للإشعارِ بغايةِ بُعدِ منزلتِهم في الشرِّ أي أولئكَ البعداءُ المذكورونَ {هُمْ شَرُّ البرية} شرُّ الخليقةِ أي أعمالاً وهو الموافقُ لما سيأتِي في حقِّ المؤمنينَ فيكونُ في حيزِ التعليلِ لخلودِهم في النارِ أو شرُّهم مقاماً ومصيراً فيكونَ تأكيداً لفظاعةِ حالهم وقرئ بالهمزة على الأصل

(9/186)


إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)

{إن الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بيانٌ لمحاسن أحوالِ المُؤمنين إثرَ بيانُ سوءِ حالِ الكفرةِ جرياً على السنةِ القرآنيةِ من شفعِ الترهيبِ بالترغيبِ {أولئك} المنعوتونَ بَما هُو في القاصيةِ من الشرفِ والفضيلةِ من الإيمان والطاعة {هُمْ خير البرية} وقرئ خيارُ البريةِ وهو جمعُ خيِّر نحوٌ جيدٌ وجيادٌ

(9/186)


98 سورة البينة آية (8)

(9/187)


جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)

{جَزَآؤُهُمْ} بمقابلةِ ما لهُم من الإيمانِ والطاعةِ {عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} إن أُريد بالجنَّاتِ الأشجارُ الملتفةُ الأغصانِ كمَا هو الظاهرُ فجريانُ الأنهارِ من تحتها ظاهرٌ وإنْ أُريد بها مجموعُ الأرضِ ومَا عليها فهُو باعتبارِ الجزءِ الظاهرِ وأيا ما كان فالمرادُ جريانُها بغيرِ أخدودٍ {خالدين فيها أبدا} متنعمين بفنونِ النعمِ الجُسمانيةِ والروحانيةِ وفي تقديمِ مدحِهم بخيرية وذكرِ الجزاءِ المؤذنِ بكونِ ما مُنحوهُ في مقابلةِ ما وُصفوا بهِ وبيان كونُه من عندِه تعالَى والتعّرضُ لعنوان الربوبيةِ المنبئة عن التَّربيةِ والتبليغِ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرِهم وجمعِ الجنَّاتِ وتقييدِها بالإضافةِ وبما يزيدُها نعيماً وتأكيد الخلودِ بالأبودِ من الدلالةِ على غايةِ حُسنِ حالِهم مالا يَخْفى {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} استئنافٌ مبينٌ لما يتفضلُ عليهم زيادةً على ما ذُكرَ من أجزيةِ أعمالِهم {وَرَضُواْ عَنْهُ} حيثُ بلغُوا من المطالبِ قاصيتَها وملكُوا من المآربِ ناصيتَها وأُتيحَ لهم مالا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلبِ بشرٍ {ذلك} أيْ ما ذكرمن الجزاءِ والرضوانِ {لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ} فإنَّ الخشيةَ التي هيَ من خصائصِ العلماءِ بشؤون الله عز وجل مناطٌ لجميعِ الكمالاتِ العلميةِ والعمليةِ المستتبعةِ للسعادةِ الدينيةِ والدنيويةِ والتعرضُ لعُنوانِ الرُّبوبيةِ المُعربةِ عن المالكيةِ والتربيةِ للإشعارِ بعلَّةِ الخشيةِ والتحذيرِ من الاغترارِ بالتربيةِ
عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ البينة لم يكن كانَ يومَ القيامةِ مع خيرِ البريةِ مساءً ومَقيلاً

(9/187)


سورة الزلزلة مدنية مختلف فيها وآيها ثمان
بسم الله الرحمن الرحيم

(9/188)


إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)

{إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض} أَيْ حُرِّكتْ تحريكاً عنيفاً مُتكرراً متداركا أي الزلزالُ المخصوصُ بَها على مقتضى المشيئةِ المبنيةِ على الحِكَم البالغة وهُو الزلزالُ الشديدُ الذي لا غايةَ وراءَه أو زلزالُها العجيبُ الذي لا يُقَادرُ قدرُهُ أو زلزالُها الداخلُ في حيزِ الإمكانِ وقرئ بفتح بفتح الزاء وهو اسمٌ وليسَ في الأبنيةِ فعلالٌ بالفتحِ إلا في المضاعف وقولهم ناقة خَزْعَالٌ نادرٌ وقَدْ قيلَ الزلزالُ بالفتحِ أيضاً مصدرٌ كالوَسواسِ والجرَجارِ والقَلقالِ وذلكَ عندَ النفخةِ الثانيةِ لقولِه عزَّ وجلَّ

(9/188)


وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)

{وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} أي ما في جوفها من الأمواتِ والدفائنِ جمعُ ثَقَلٍ وهُو متاعُ البيتِ وإظهارُ الأرضِ في موقعِ الإضمارِ لزيادةِ التقريرِ أوْ للإيماءِ إلى تُبَدَّلُ الأرضِ غَيْرَ الأرضِ أو لأنَّ إخراجَ الأثقالِ حالُ بعضِ أجزائِها

(9/188)


وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3)

{وَقَالَ الإنسان} أيْ كُلُّ فردٍ من أفرادِه لما يَدهمُهْم منَ الطامَّةِ التامَّةِ ويبهرهُم مِنَ الدَّاهيةِ العامَّةِ {مَا لَهَا} زُلزلتْ هذهِ المرتبةَ الشديدةَ منَ الزلزالِ وأخرجتْ ما فيَها منَ الأثقالِ استعظاماً لما شاهدُوه منَ الأمرِ الهائلِ وقد سيرتِ الجبالُ في الجَوِّ وصيرتْ هباءً وقيلَ هُو قول الكافر إذا لمْ يكُنْ مؤمناً بالبعثِ والأظهرُ هُو الأولُ عَلى أنَّ المؤمنَ يقولُه بطريقِ الاستعظامُ والكافرُ بطريق التعجبِ

(9/188)


يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)

{يومئذ} بدل من إذا وقولُه تعالَى {تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا} عَامِلٌ فيهمَا ويجوزُ أن يكونَ إذَا منتصباً بمضمرٍ أيْ يومُ إذْ زلزلتْ الأرضُ تحدثُ الخلقَ أخبارِها إمَّا بلسانِ الحالِ حيثُ تدلُّ دلالةً ظاهرةً على ما لأجلِه زلزالُها وإخراجُ أثقالِها وإما بلسانِ المقالِ حيثُ يُنطقها الله تعالَى فتخبرُ بما عُمِلَ عليَها منْ خيرٍ وشرَ ورُوِيَ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنها تشهدُ على كُلِّ أحدٍ بما عَمِلَ عَلى

(9/188)


99 سورة الزلزلة آية (5 8) ظهرها وقرئ تنبي أخبارها وقرئ منَ الإنباءِ

(9/189)


بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)

{بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} أي تحدثُ أخبارَهَا بسببِ إيحاءِ ربِّكَ لَها وَأمْرِهِ إيَّاهَا بالتَّحديثِ عَلَى أَحَدِ الوجهينِ وَيَجُوزُ أَنْ يكُونَ بَدَلاً مِنْ أَخْبَارِهَا كَأنَّه قيلَ تحدثُ بأخبارِهَا بأَنَّ ربَّكَ أوحى لأَنَّ التحديثَ يستعمل بالباء وبدونها وأَوْحَى لَها بمعنى أَوْحَى إليَها

(9/189)


يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)

{يومئذ} أي يوم إذ يقعُ ما ذُكِرَ {يَصْدُرُ الناس} من قبورِهم إلى موقفِ الحسابِ {أَشْتَاتاً} متفرقينَ بحسبِ طبقاتِهم بيضِ الوجوهِ آمنينَ وسودِ الوجوهِ فزعينَ كما مر في قوله تعالَى {فتأتونَ أفواجاٍ} وقيلَ يصدرُون عن الموقفِ أشتاتاً ذات اليمين إلى الجنة وذاتَ الشمالِ إلى النارِ {لّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ} أي أجزيةَ أعمالِهم خيراً كانَ أَوْ شراً وقرئ ليَروا بالفتحِ وقولُه تعالَى

(9/189)


فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)

{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} تفصيل ليروا وقرئ يُرَه والذرةُ النملةُ الصغيرةُ وَقيلَ ما يُرى في شعاعِ الشَّمسِ منَ الهباءِ وَأياً مَا كان فمَعنى رؤية ما يعادلُها منْ خيرٍ وشرَ إما مشاهدةُ جزائِه فَمَنِ الأُولى مختصةٌ بالسُّعداءِ والثانيةُ بالأشقياءِ كيفَ لا وحسناتُ الكافرِ محبطةٌ بالكفرِ وسيئاتُ المؤمنِ المجتنبِ عن الكبائرِ معفوةٌ وما قيلَ مِنْ أن حسنةَ الكافرِ تؤثرُ في نقصِ العقابِ يردُّه قولُه تعالَى {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} وأما مشاهدةُ نفسِه من غيرِ أنْ يعتبرَ مَعَهُ الجزاءُ ولاَ عدمُه بلْ يفوضُ كلٌّ منَهما إلى سائرِ الدلائلِ الناطقةِ بعفوِ صغائرِ المؤمنِ المجتنبِ عنِ الكبائرِ وإثابتِه بجميعِ حسناتِه وبحبوطِ حسناتِ الكافرِ ومعاقبتِه بجميعِ معاصيهِ فالمَعْنى ما رُوي عن ابنِ عباس رضي الله عنهما ليس منْ مؤمنٍ وَلاَ كافرٍ عملَ خيراً أو شراً إلا أراهُ الله تعالَى إيَّاهُ أما المؤمنُ فيغفرُ له سيئاتِه ويثيبُه بحسناتِه وأما الكافِرُ فيردُّ حسناتِه تحسراً ويعاقبُه بسيئاتِه
عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الزلزلة أربعَ مراتٍ كانَ كمَنْ قرأَ القرآنَ كُلَّه والله أعلم

(9/189)