تفسير الإمام الشافعي

سورة يوسف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ)
الأحياء: ورُوي أن عبد القاهر بن عبد العزيز كان رجلاً صالحاً ورعاً.
وكان يسأل الشَّافِعِي رحمه الله عن مسائل في الورع، والشَّافِعِي رحمه الله يُقبل
عليه لورعه.
وقال للشافعي رحمه الله تعالى يوماً: أيما أفضل الصبر، أو المحنة، أو التمكين؛ فقال الشَّافِعِي رحمه الله: التمكين درجة الأنبياء، ولا يكون التمكين إلا بعد
المحنة، فإذا امتحن صبر، وإذا صبر مُكِّن، ألا ترى أن الله - عز وجل - امتحن إبراهيم عليه السلام ثم مَكَّنه،، وامتحن موسى عليه السلام ثم مَكنه، وامتحن أيوب عليه السلام ثم مَكنه، وامتحن سليمان عليه السلام ثم مَكنه وآتاه ملكاً، والتمكين أفضل الدرجات، قال اللَّه - عز وجل -:
(وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) الآية.
وأيوب عليه السلام بعد المحنة العظيمة مُكِّن قال الله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) .

(2/978)


قال الغزالي رحمه اللَّه: فهذا الكلام من الشَّافِعِي رحمه اللَّه يدل على تبحره في
أسرار القرآن، واطلاعه على مقامات السائرين إلى اللَّه تعالى من الأنبياء والأولياء.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ)
مختصرالمزني: باب (ما يكون قذفاً ولا يكون) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: بعض الناس إذا قال لها: يا زان، لاعَنَ أو حُدَّ.
لأن اللَّه تعالى يقول: (وَقَالَ نِسْوَةٌ) الآية.
وقال - أي بعض الناس - ولو قالت له: يا زانية لم تحد.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وهذا جهل بلسان العرب، إذا تقدم فعل الجماعة
من النساء كان الفعل مذكراً، مثل: قال نسوة، وخرج النسوة.
وإذا كانت واحدة فالفعل مؤنث، مثل: قالت، وجلست، وقائل هذا القول يقول: لو قال رجل زنأت في الجبل، حُدَّ له، وإن كان معروفاً عند العرب أنه: صعدت في الجبل.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: يُحَلَّف ما أراد.

(2/979)


قال الله عزَّ وجلَّ: (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ)
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في آيات متفرقة) :
أخبرنا أبو عبد الله (الحسين بن محمد بن فنجويه) بالدامغان، أخبرنا الفضل
ابن الفضل الكندي، حدثنا زكريا بن يحيى الساجي قال: سمعت أبا عبد اللَّه
(ابن أخي ابن وهب) يقول:
سمعت الشَّافِعِي بقول: الأمة على ثلاثة وجوه:
1 - قال تعالى: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ)
قال: على دين.
2 - وقوله تعالى: (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ)
قال: بعد زمان.
3 - وقوله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ)
قال: معلماً.
* * *
قال الله - عزَّ وجلَّ -: (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا)
الأم: الخلاف في اليمين مع الشاهد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فقلت له - أي: للمحاور - الشهادة على علمه
أولى أن لا يشهد بها حتى يسمعها من المشهود عليه، أو يراها، أو اليمين.

(2/980)


قال: كل لا ينبغي إلا هكذا، وإن الشهادة لأولاهما أن لا يشهد منها؛ إلا
على ما رأى أو سمع، قلت: لأن الله - عزَّ وجلَّ حكى عن قوم أنهم قالوا: (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا) الآية.
وقال: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
قال: نعم.
الأم (أيضاً) : باب (التحفط في الشهادة)
أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وحكى - الله تعالى - أن إخوة يوسف، وصفوا أن
شهادتهم كما ينبغي لهم، فحكى - الله تعالى - أن كبيرهم قال:
(ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولا يسع شاهداً أن يشهد إلا بما علم، والعلم من
ثلاثة وجوه.
1 - منها: ما عاينه الشاهد فيشهد بالمعاينة.
2 - ومنها: ما سمعه، فيشهد ما أثبت سمعاً من المشهود عليه.
3 - ومنها: ما تظاهرت به الأخبار مما لا يمكن في أكثره العيان وتثبت
معرفته في القلوب، فيشهد عليه بهذا الوجه.
وما شهد به رجل على رجل أنه فعله، أو أقرَّ به، لم يجز إلا أن يجمع
أمرين:

(2/981)


أحدهما: أن يكون يثبته بمعاينة.
والآخر: أن يكون يثبئه سمعاً مع إثبات بصر حين يكون الفعل.
وبهذا قلت: لا تحوز شهادة الأعمى إلا أن يكون أثبت شيئاً معاينة، أو
معاينة وسمعاً ثم عَمِيَ، فتجوز شهادته؛ لأن الشهادة إنما تكون يوم يكون الفعل الذي يراه الشاهد، أو القول الذي أثبته سمعاً وهو يعرف وجه صاحبه، فإذا كان ذلك قبل يُعمَى، ثم شهد عليه حافظاً له بعد العمى جاز، وإذا كان القول والفعل وهو أعمى لم يجز، من قِبَلِ أن الصوت يشبه الصوت.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
الرسالة: اللفظ الذي يدل لفطه على باطنه دون ظاهره:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى، وهو يحكي قول إخوة يوسف
لأبيهم: (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) الآيتان.
فهذه الآية في مثل معنى الآيات قبلها، لا تختلف عند أهل العلم باللسان، أنهم إنما يخاطبون أباهم بمسألة أهل القرية وأهل العير؛ لأن القرية والعير لا ينبئان عن صدقهم.

(2/982)


قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
آداب الشافعى: في أخبارالسلف:
أخبرنا عبد الرحمن، حدثنا الربيع بن سليمان قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقف أعرابي على عبد الملك بن مروان، فسلَّم؛ ثم
قال: أي - رحمك اللَّه -؛ إنه مرت بنا سنون ثلاث، فأما إحداها: فأكلت
المواشي؛ وأما الثانية: فانضت اللحم؛ وأما الثالثة: فخلُصت إلى العظم، فإن يك عندك مال اللَّه؛ فأعطه عباد اللَّه، وإن يك لك: فتصدق علينا
(إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) الآية.
فأعطاه عشرة آلاف درهم، وقال: لو كان الناس
يحسنون أن يسألوا هكذا، ما حرمنا أحداً.
وزادني أبي، عن الربيع، عن الشَّافِعِي أئه قال: وعندك: مال اللَّه، فإن يك لله - عز وجل -، فأعطه عباد اللَّه.

(2/983)