تفسير الإمام الشافعي

سورة النحل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الله عزَّ وجلَّ: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)
أحكام القرآن: فصل (في معرفة العموم والخصوص)
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)
الآية، فهذا عام لا خاص فيه، فكل شيء من سماء، وأرض، وذي روح، وشجر، وغير ذلك، فالله خالقه.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ)
أحكام القرآن: فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في الطهارات والصلوات:
أخبرنا أبو سعيد (محمد بن موسى) ، حدثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا
الربيع قال:

(2/999)


قال الشَّافِعِي رحمه الله: بدأ الله جل ثناؤه خلق آدم عليه السلام من ماء
وطين، وجعلهما معاً طهارة؛ وبدأ خلق ولده من ماء دافق - فكان فيه ابتداء خلق آدم من الطاهِرَينِ اللذين هما الطهارة -، دلالة لابتداء خلق غيره: أنه من ماء طاهر لا نجس.
وقال في الإملاء بهذا الإسناد -: المني ليس بنجس؛ لأن الله جل ثناؤه
كرم من أن يبتدئ خلق من كرَّمهم، وجعل منهم النبيين، والصديقين.
والشهداء، والصالحين، وأهل جنته، من نجس، فإنه يقول:
(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) .
وقال جل ثناؤه: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ)
ولو لم يكن في هذا، خبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان ينبغي أن تكون العقول تعلم: أن اللَّه لا يبتدئ خلق من كرَّمه وأسكنه جنَّته من نجس، فكيف مع ما فيه من الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"أنه كان يصلي في الثوب، قد أصابه المني؛ فلا يغسله إنما
يمسح رطباً، أو يحت يابساً" الحديث.
على معنى: التنظيف، مع أن هذا قول سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وعائشة وغيرهم رضي اللَّه عنهم أجمعين.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (فِيهِ تُسِيمُونَ (10)
الزاهر باب (ما يُسقط الصدقة عن الماشية)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: في سائمة الغنم زكاة، وكذلك الإبل.

(2/1000)


والسائمة هي: الراعية غير المعلوفة، يقال سامت الماشية تسُوم سَوماً: إذا
رعت، وأسامها راعيها: إذا رعاها، والسَّوام: ما رعى من المال، قال اللَّه - عز وجل -: (فِيهِ تُسِيمُونَ)
أراد - واللَّه أعلم - بالشجر أصناف المرعى من
العشب والخُلَّة والحَمض وغيرها مما يرعاها المواشي.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
الأم: باب (استقبال القبلة) :
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله قال: وقال اللَّه - عز وجل -:
(وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فنصب الله - عزَّ وجلَّ لهم البيت والمسجد، فكانوا إذا رَأوه، فعليهم استقبال البيت؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى مستقبله، والناس معه حوله من كل جهة، ودلهم بالعلامات التي خلق لهم، والعقول التي ركب فيهم على قصد البيت الحرام، وقصد المسجد الحرام: وهو قصد البيت الحرام.
الأم (أيضاً) : باب (إبطال الاستحسان) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن قيل فبم يُتوجه إلى البيت؟
قيل: قال اللَّه تعالى:
(وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) الآية.
وكانت العلامات جبالاً يعرفون

(2/1001)


مواضعها من الأرض، وشمساً، وقمراً، ونجماً، مما يعرفون من الفَلَك، ورياحاً يعرفون مهابَّها على الهواء، تدل على قصد البيت الحرام.
الرسالة: باب (الاجتهاد) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال الله تعالى: (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)
فأخبر أنهم يهتدون بالنجم والعلامات، فكانوا يعرفون كنه جهة البيت.
بمعونته لهم، وتوفيقه إياهم، باق قد رآه من رآه منهم في مكانه، وأخبر من رآه منهم مَن لم يره، وأبصر ما يُهتدى به إليهم، من جبل يُقصَد قَصدُه، أو نجم يُؤتم به، وشمال وجنوب، وشمس يعرف مطلِعُها ومغربُها، وأين تكون من المصلِّي بالعشى، وبحور كذلك.
وكان عليهم تكلف الدلالات بما خلق لهم من العقول التي ركبها فيهم.
ليقصدوا قصد التوجه للعين التي فَرَضَ عليهم استقبالها.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
الأم: كتاب (إبطال الاستحسان) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: الحمد لله على جميع نعمه بما هو أهله، وكما ينبغي
له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله،

(2/1002)


بعثه بكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم
حميد، فهدى بكتابه، ثم على لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بما أنعم - الله - عليه، وأقام الحجة على خلقه، لئلا يكون للناس على اللَّه حجة بعد الرسل، وقال: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) الآية.
الرسالة: المقدمة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فليست تنزل بأحدٍ من أهل دين اللَّه نازلة إلا وفي
كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها، وقال: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) الآية.
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على معرفة الشَّافِعِي بأصول الفقه) :
انظر تفسير الآية الأولى من سورة إبراهيم عليه السلام، فهي متعلقة بهذه
الآية، ولا حاجة للتكرار فيما سبق ذكره.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
الأم: باب (السلف في العطر وزْناَ) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وكل ما لا ينقطع من أيدي الناس من العطر.
وكانت له صفة ليعرف بها، ووزن جاز السلف فيه. . .

(2/1003)


وقد زعم بعض أهل العلم بالمسك: أنه سرة دابة كالظبي تلقيه في وقت من
الأوقات، وكأنه ذهب إلى أنه دم يُجَمَّع، فكأنه يذهب إلى أن لا يحل التطيب به كما وصفت.
قال - أي: المحاور - كيف جاز لك أن تجيز التطيب بشيء وقد أخبرك
أهل العلم أنه ألقي من حي، وما ألقي من حي كان عندك في معنى الميتة، فلم
تأكله؟
فقلت له: قلتُ به خبراً وإجماعاً وقياساً.
قال: فاذكر فيه القياس، قلت الخبر أولى بك، قال: سأسالك عنه، فاذكر فيه القياس.
قلت: قال اللَّه تبارك وتعالى: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ)
فأحل شيئاً يخرج من حي إذا كان من حي يجمع معنيين الطيب، وأن ليس بعضو منه ينقصه خروجه منه، حتى لا يعود مكانه مثله، وحرم الدم من مذبوح وحي، فلم يحل لأحد أن يأكل دماً مسفوحاً من ذبح أو غيره، فلو كنا حرمنا الدم؛ لأنه يخرج من حي أحللناه من المذبوح ولكنا حرمناه لنجاسته، ونص الكتاب به مثل: البول، والرجيع من قِبَل أنه ليس من الطيبات، قياساً على ما وجب غسله مما يخرج من الحي من الدم، وكان في البول والرجيع، يدخل به طيِّباً ويخرج خبيثاً.
ووجدت الولد يخرج من حي حلالاً، ووجدت البيضة تخرج من بائضتها حية
فتكون حلالاً، بأن هذا من الطيبات، فكيف أنكرت في المسك الذي هو غاية من الطيبات، إذا خرج من حي أن يكون حلالاً؟! . ..
قال: فما الخبر؟
قلت: أخبرنا الزنجي، عن موسى بن عقبة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أهدى للنجاشي أواقي مسك فقال لأم سلمة رضي اللَّه عنها:
"إني قد أهديت

(2/1004)


للنجاشي أواق مسك ولا أراه إلا قد مات قبل أن يصل إليه، فإن جاءتنا وهبت لك كذا".
فجاءته فوهب لها ولغيرها منه، الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قلت: لا أعلم أحداً من أهل العلم خالف في أنه لا
بأس ببيع العنبر، ولا أحد من أهل العلم بالعنبر قال في العنبر، إلا ما قلت لك من أنه نبات، والنبات لا يحرم منه شيء.
قال فهل فيه أثر؟
قلت: نعم.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان، عن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس
رضي اللَّه عنهما، سُئل عن العنبر، فقال:
"إن كان فيه شيء ففيه الخمس" الحديث.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أذينة، أن
ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال:
"ليس في العنبر زكاة، إنَّما هو شيءٌ دَسَرَهُ البحر" الحديث.

(2/1005)


قال الله عزَّ وجلَّ: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا)
الأم: تسري العبد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ) الآية.
قال الشَّافِعِي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من باع عبداً وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع" الحديث.
قال: فدل الكتاب والسنة أن العبد لا يكون مالكاً مالاً بحال، وأن ما
ئسب إلى ملكه إنما هو إضافة اسم مِلك إليه لا حقيقة، كما يقال للمعلم:
غلمانك، وللراعي: غنمك، وللقيم على الدار: دارك إذا كان يقوم بأمرها، فلا يحل - واللَّه تعالى أعلم - للعبد أن يتسرى، أذن له سيده أم لم يأذن له؛ لأن اللَّه تعالى إنما أحل التسري للمالكين، والعبد لا يكون مالكاً بحال، وكذلك كل من لم تكمل فيه الحرية، من عبد قد عُتق بعضه، أو مكاتب، أو مدَبر، ولا يحل له أن يطأ بملك يمين بحال حتى يعتق.
والنكاح يحل له بإذن مالكه.
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في النكاح والصداق:
قال البيهقي رحمه الله: وذهب الشَّافِعِي في القديم: إلى أن للعبد أن يشتري
إذا أذن له سيده، وأجاب عن قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ)

(2/1006)


بأن قال إنما هذا - عندنا - عبد ضربه الله مثلاً، فإن
كان عبداً، فقد يُزعَمُ أن العبد يقدر على أشياء منها: ما يُقِرُّ به على نفسه (من الحدود التي تتلِفه أو تنقُصُه) ومنها: ما إذا أذِنَ له في التجارة، جاز بيعه وشراؤه وإقراره.
فإن اعتُل بالإذن: فالشرى بإذن سيده أيضاً، فكيف يملك بأحد
الأذنَين، ولا يملك بالآخر؟!
ثم رجع الشَّافِعِي رحمه اللَّه عن هذا في الجديد "
واحتج بهذه الآية، والآيتين / 5 و 6 الواردتين في سورة (المؤمنون) ، والآيتين / 29، 30 في سورة (المعارج) .
ثم ذكر ما أوردناه في الأم في (الفقرة السابقة) .
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في قتال أهل البغي والمرتد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وعَرَّف الله سبحانه وتعالى جميع خلقه - في كتابه -
أن لا علم لهم إلا ما عَلَّمهم فقال: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) الآية، ثم علمهم بما آتاهم من العلم، وأمرهم بالاقتصار عليه.
وأن لا يتولوا غيره إلا بما علَّمهم.

(2/1007)


قال الله عزَّ وجلَّ: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً)
الأم: كتاب (إبطال الاستحسان)
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله قال: الحمد لله على جميع نعمه بما هو أهله، وكما
ينبغي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده
ورسوله، بعثه بكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل
من حكيم حميد، فهدى بكتابه، ثم على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - بما أنعم عليه، وأقام الحجة على خلقه، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وقال: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً) الآية.
الأم (أيضاً) : باب (حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال لي قائل يُنسب إلى العلم بمذهب أصحابه:
أنت عربي والقرآن نزل بلسان من أنت منهم، وأنت أدرى بحفظه، وفيه لله
فرائض أنزلها، لو شك شاك - قد تلبَّس عليه القرآن عرف منها - استتبته، فإن

(2/1008)


تاب وإلا قتلته، وقد قال الله - عزَّ وجلَّ - في القرآن: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ الآية، فكيف جاز عند نفسك، أو لأحد في شيء فرض اللَّه، أن يقول مرة: الفرض فيه عام.
ومرة: الفرض فيه خاص. ومرة الأمر فيه فرض. ومرة: الأمر فيه دلالة. وإن شاء ذو إباحة؛ وأكثر ما فرقت بينه من هذا عندك، حديث ترويه عن رجل، عن آخر، عن آخر، أو حديثان أو ثلاثة، حتى تبلغ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد وجدتك ومن ذهب مذهبك لا تبرئون أحداً لقيتموه وقدمتموه في الصدق والحفظ، ولا أحداً لقيت ممن لقيتم من أن يغلط، وينسى، ويخطئ في حديثه.
بل وجدتكم تقولون لغير واحد منهم: أخطأ فلان في حديث كذا، وفلان
في حديث كذا، ووجدتكم تقولون: لو قال رجل لحديث أحللتم به، وحرمتم من علم الخاصة: لم يقل هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما أخطأتم أو من حدثكم، وكذبتم أو من حدثكم، لم تستتيبوه، ولم تزيدوا على أن تقولوا له: بئس ما قلت!
أفيجوز أن يُفرَّق بين شيء من أحكام القرآن، وظاهره واحد عند من
سمعه، بخبر من هو كما وصفتم فيه؛ وتقيمون أخبارهم مقام كتاب اللَّه وإنكم تعطون بها وتمنعون بها؟
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فقلت: إنما نعطي من وجه الإحاطة، أو من جهة
الخبر الصادق، وجهة القياس، وأسبابها عندنا مختلفة، وإن أعطينا بها كلها
فبعضها أثبت من بعض.
قال: ومثل ماذا؟
قلت: إعطائي من الرجل بإقراره، وبالبينة، وإبائه اليمين وحَلِفِ صاحبه.
والإقرار أقوى من البينة، والبينة أقوى من إباء اليمين ويمين صاحبه، ونحن وإن أعطينا بها عطاء واحداً فأسبابها مختلفة.

(2/1009)


قال: وإذا قمتم على أن تقبلوا أخبارهم، ومنهم ما ذكرت من أمركم
بقبول أخبارهم وما حجتكم فيه على من ردها؟
فقال: لا أقبل منها شيئاً إذا كان يمكن فيه الوهم، ولا أقبل إلا ما أشهدُ به
على اللَّه، كما أشهدُ بكتابه الذي لا يسع أحداً الشك في حرف منه، أو يجوز أن يقوم شيء مقام الإحاطة وليس بها؟!
فقلت له: من علم اللسان الذى به كتب كتاب - اللَّه - عز وجل - وأحكام اللَّه تعالى، لله علمه بهما على قبول أخبار الصادقين
عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والفرق بين ما دلَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الفرق بينه من أحكام
الله، وعَلِمَ بذلك مكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كتاب اللَّه ودينه، وأهل دينه، وأن الله وضعه في موضع الإبانة عنه ما أراد بفرضه عاماً وخاصاً، وفرضاً وواجباً وافترض طاعته - إذ كنتَ لم تشاهده - خَبَرُ الخاصة والعامة.
قال: نعم، ثم استشهد له بالآية الكريمة: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) .
الرسالة: المقدمة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فليست تنزل بأحد من أهل دين اللَّه نازلة إلا وفي
كتاب اللَّه الدليل على سبيل الهدى فيها. . .، وقال - سبحانه وتعالى -: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) .

(2/1010)


أحكام القرآن: فصل (في النسخ) :
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: إن اللَّه خلق الناس لما سبق في علمه لما أراد بخلقهم
وبهم، وأنزل عليهم الكتاب: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) الآية.
وفرض فيه فرائض أثبتها، وأخرى نسخها، رحمة بخلقه
بالتخفيف عنهم، وبالتوسعة عليهم، زيادة فيما ابتدأهم به من نعمه، وأثابهم
على الانتهاء إلى ما أثبت عليهم جنته والنجاة من عذابه، فعمَّتهم رحمته فيما
أثبت ونسخ، فله الحمد على نعمه.
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على معرفة الشَّافِعِي بأصول الفقه) :
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس (محمد بن يعقوب) قال:
حدثنا الربيع بن سليمان قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه جل ثناؤه: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) الآية.
ثم ذكر ما ورد في تفسير الآية الأولى من سورة إبراهيم عليه السلام فليرجع إليها.

(2/1011)


قال الله عزَّ وجلَّ: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) ثم قال: (وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) إلى قوله: (تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ)
أحكام القرآن: فصل (فيمن لا يجب عليه الجهاد) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد ذكر الله - عزَّ وجلَّ الوفاء بالعقود: بالإيمان، في غير آية من كتابه، منها قوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ)
ثم: (وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) إلى قوله: (تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ) الآيتان.
مع ما ذكر به الوفاء بالعهد.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: هذا من سَعَة لسان العرب الذي خوطبت به.
فظاهره عام على كل عقد.
ويشبه - والله أعلم - أن يكون الله - تبارك وتعالى - أراد: أن يوفوا بكل عقد كان بيمين، أو غير يمين، وكل عقد نذر: إذا كان في
العَقدَين لله طاعة، أو لم يكن له - فيما أمر الوفاء منها - معصيته.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)
الأم: باب (التعوذ بعد الافتتاح) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه - عز وجل -: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) .
أخبرنا الربيع قال:

(2/1012)


أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن سعد بن
عثمان، عن صالح بن أبي صالح، أنه سمع أبا هريرة رضي اللَّه عنه وهو يؤم
الناس رافعاً صوته: "ربنا إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم"
في المكتوبة، وإذا فرغ من أم القرآن.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وكان ابن عمر رضي اللَّه عنهما يتعوذ في نفسه.
وأيهما فعل الرجل أجزأه إن جهر أو أخفى، وكان بعضهم يتعوذ حين يفتتح
قبل أم القرآن، وبذلك أقول، وأحبُّ أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وأي كلام استعاذ به أجزأه، ويقوله في أول ركعة، وقد قيل: إن قاله حين يفتتح كل ركعة قبل القراءة فحسن.
ولا آمر به في شيء من الصلاة، أمرت به في أول ركعة، وإن تركه ناسياً.
أو جاهلاً، أو عامداً، لم يكن عليه إعادة، ولا سجود سهو، وكره له تركه
عامداً.
وأحب إذا تركه في أول ركعة أن يقوله في غيرها، وإنَّما منعني أن آمره أن
يعيد" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علَّم رجلاً ما يكفيه في الصلاة فقال: "كبِّر ثم اقراً ... " الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولم يرو عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أمره بتعوذ ولا افتتاح، فدلَّ على أن افتتاح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختيار، وأن التعوذ ممن لا يفسد الصلاة إن تركه.

(2/1013)


أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في الطهارات والصلوات) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأحب أن يقول حين يفتتح قبل أم القرآن: أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم، وأي كلام استعاذ به أجزأه.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله: في الإملاء - بهذا الإسناد - ثم يبتدأ فيتعوذ
ويقول أعوذ بالسميع العليم، أو يقول أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان
الرجيم، أو أعوذ بالله أن يحضرون، لقول اللَّه - عز وجل -: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) .
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
الرسالة: ابتداء الناسخ والمنسوخ:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فأخبر اللَّه أنه فرض على نبيه اتباع ما يوحى إليه
ولم يجعل له تبديله من تلقاء نفسه، وفي قوله تعالى: (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي)

(2/1014)


بيان ما وصفت، من أنه لا ينسخ كتاب الله إلا كتابه، كما كان المبتدئ لفرضه، فهو المزيل المُثبِتُ لما شاء منه جل ثناؤه.
ولا يكون ذلك لأحد من خلقه.
وفي كتاب اللَّه دلالة عليه: قال اللَّه: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
فأخبر اللَّه بما أن نسخ القرآن وتأخير إنزاله لا يكون إلا بقرآن مثله وقال:
(وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ) الآية.
وهكذا سنة رسول الله: لا ينسخها إلا سنة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو أحدث اللَّه لرسوله في أمر سنَّ فيه غير ما سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - لسن فيما أحدث الله إليه، حتى يبين
للناس أن له سنة ناسخة للتي قبلهما مما يخالفها.
وهذا مذكور في سنته - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
الرسالة: باب (البيان الخامس) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فأقام - الله - عزَّ وجلَّ - حجته بأن كتابه عربي - في كل آية ذكرناها -، ثم أكَّد ذلك بأن نفى عنه - جل ثناؤه - كل لسان غير لسان العرب في آيتين من كتابه.

(2/1015)


الأولى: فقال تبارك وتعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) .
الثانية: وقال: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فقال منهم قائل: إن في القرآن عربياً وأعجمياً.
والقرآن يدل على أن ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب، ووجد قائل هذا القول من قبل ذلك منه، تقليداً له، وتركا للمسألة له عن حجته، ومسألة غيره ممن خالفه، وبالتقليد أغفل من أغفل منهم، والله يغفر لنا ولهم.
ولعل من قال: إن في القرآن غير لسان العرب - وقُبِلَ ذلك منه - أو
ذهب إلى أن من القرآن خاصاً يجهل بعضه بعض العرب، ولسان العرب أوسع الألسنة مذهباً، وكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبيٍّ، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجوداً فيها من لا يعرفه، والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه.
لا نعلم رجلاً جمع السنَن فلم يذهب منها عليه شيء، فإذا جُمِع علم عامة أهل العلم بها أتِيَ على السنن، وإذا فُرِّق علم كل واحد منهم، ذهب عليه الشيء منها، ثم كان ما ذهب عليه منها موجوداً عند غيره.
وهم في العلم طبقات: منهم الجامع لأكثره وإن ذهب عليه بعضه، ومنهم
الجامع لأقل مما جمع غيره، وليس قليل ما ذهب من السنن على من جمع أكثرها دليلاً على أن يطلب علمه، عند غير طبقته من أهل العلم، بل يطلب عند نظرائه

(2/1016)


ما ذهب عليه، حتى يُؤتى على جميع سنن رسول الله - بأبي هو وأمي - فيتفردُ جملة العلماء بجمعها، وهم درجات فيما وَعَوا منها.
وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها، لا يذهب منه شيء عليها، ولا
يطلب عند غيرها، ولا يعلمه إلا من قَبِلَه عنها، ولا يَشرَكُها فيه إلا من اتبعها في تعلمه منها، ومن قَبِلَه منها فهو من أهل لسانها، وإنَّما صار غيرهم من غير أهله بتركها فإذا صار إليه صار من أهله، وعلم أكثر اللسان في أكثر العرب أعم من علم أكثر السنن في العلماء.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن قال قائل: قد نجد من العجم من ينطق بالشيء
من لسان العرب؛ فذلك يحتمل ما وصفت من تعلمه منهم، فإن لم يكن ممن
تعلمه منهم فلا يوجد ينطق إلا بالقليل منه، ومن نطق بقليل منه فهو ثبع
للعرب فيه، ولا ننكر إذ كان اللفظ قيل تعلماً، أو نطق به موضوعاً، أن يوافق لسان العجم أو بعضها قليلاً من لسان العرب، كما يا تفق القليل من ألسنة العجم المتباينة في أكثر كلامها، مع تنائي ديارها، واختلاف لسانها، وبُعد الأوامر بينها وبين من وافقت بعض لسانه منها.
فإن قال قائل: ما الحجة في أن كتاب اللَّه محضٌ بلسان العرب، لا يخلطه فيه
غيره؛ فالحجة فيه كتاب الله، قال اللَّه: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) .
فإن قال قائل: فإن الرسل قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا يُرسلون إلى قومهم خاصة، وإن محمداً بعث إلى الناس كافة، فقد يحتمل أن يكون بعث بلسان قومه خاصة، ويكون على الناس كافة أن يتعلموا لسانه ما أطاقوا منه، ويحتمل أن يكون بعث بألسنتهم، فهل من دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم.
وإذا كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض، فلا بد أن يكون
بعضهم تبعاً لبعض، وأن يكون الفضل في اللسان المتَّبَع على التابع، وأولى الناس

(2/1017)


بالفضل في اللسان من لسانه لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجوز - والله أعلم - أن يكون أهل لسانه أتباعاً لأهل لسان غير لسانه في حرف واحد، بل كل لسان تبع للسانه.
وكل أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه، وقد بين الله ذلك في غير آية من كتابه.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه
جَهدُه، حتى يشهد به أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض علية من التكبير، وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك.
وما ازداد من العلم باللسان، الذي جعل الله لسان من ختم به نبوته.
وأنزل به آخر كتبه، كان خيراً له، كما عليه يتعلم الصلاة والذكر فيها، ويأتي البيت وما أمر بإتيانه، ويتوجه لما وجه له، ويكون تبعاً فيما افترض عليه، وندب إليه، لا متبوعاً.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
الأم: المُكرَه على الرِّدَّة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله تبارك وتعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ)

(2/1018)


ولو أن رجلاً أسره العدو فكرهه على الكفر، لم تبن منه
امرأته، ولم يحكم عليه بشيء من حكم المرتد، قد أكره بعض من أسلم في
عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الكفر فقاله، ثم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ما عُذِّب به، فنزل
فيه هذا، ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - باجتناب زوجته، ولا بشيء مما على المرتد، ولو مات المكره على الكفر، ولم تظهر له توبة ببلاد الحرب ورثه ورثته المسلمون.
الأم (أيضاً) : الإكراه وما في معناه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه - عز وجل -: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وللكفر أحكام: كفراق الزوجة، وأن يقتل الكافر.
ويغنم ماله، فلما وضع اللَّه عنه، سقطت عنه أحكام الإكراه على القول كله، لأن الأعظم إذا سقط عن الناس سقط ما هو أصغر منه، وما يكون حكمه
بثبوته عليه.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: واجمراه: أن يصير الرجل في يدي من لا يقدر
على الامتناع منه.
من سلطان، أو لص، أو متغلب على واحد من هؤلاء، ويكون المكره
يخاف خوفاً عليه دلالة أنه؛ إن امتنع من قول ما أمر به الضرب المؤلم، أو أكثر منه، أو إتلاف نفسه.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإذا خاف هذا سقط عنه حكم ما أكره عليه من
قول، ما كان القول: شراء أو بيعاً أو إقراراً لرجل بحق، أو حد، أو إقراره

(2/1019)


بنكاح، أو عتقٍ أو طلاق، أو إحداث واحد من هذا وهو مكره، فأي هذا
أحدث وهو مكره، لم يلزمه.
الأم (أيضاً) : فرض الهجرة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولما فرض الله - عزَّ وجلَّ الجهاد على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وجاهد المشركين بعد إذ كان أباحه، وأثخن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أهل مكة، ورأوا كثرة من
دخل في دين اللَّه - عز وجل -، اشتدوا على من أسلم منهم، ففتنوهم عن دينهم، أو من فتنوا منهم، فعذر اللَّه من لم يقدر على الهجرة من المفتونين فقال: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) الآية، وبعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"إن الله جعل لكم مخرجاً ".
الأم (أيضاً) : أصل نقض الصلح فيما لا يجوز
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن ذهب ذاهب إلى: ردَّ أبي جندل بن سهيل إلى
أبيه، وعياش بن أبي ربيعة إلى أهله بما أعطاهم - أي: من شروط صلح الحديبية - قيل له: آباؤهم وأهلوهم أشفق الناس عليهم، وأحرص على سلامتهم، وأهلهم كانوا سَيَقُونهم بأنفسهم مما يؤذيهم، فضلاً على أن يكونوا متهمين على أن ينالوهم بتلف، أو أمر لا يحملونه من عذاب وإنما نقموا منهم خلافهم دينهم ودين آبائهم، فكانوا يئشددون عليهم ليتركوا دين الإسلام، وقد وضع الله - عز وجل - عنهم المأثم في الإكراه، فقال: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) الآية.

(2/1020)


الأم (أيضاً) : كتاب (إبطال الاستحسان) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال تبارك وتعالى فيمن فُتِنَ عن دينه: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) الآية، فطرح عنهم حبوط أعمالهم، والمأثم بالكفر إذا كانوا مكرهين، وقلوبهم على الطمأنينة بالإيمان وخلاف الكفر، وأمر بقتال الكافرين حتى يؤمنوا، وأبان ذلك جل وعز حتى يظهروا الإيمان.
مختصر المزنى: باب (جامع الإيمان)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولو حلف ليأكلن هذا الطعام غداً، فهلك قبل غدٍ.
لم يحنث للإكراه، قال اللَّه جل وعز: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) الآية، فعقلنا أن قول المكره كما لم يكن في
الحكم، وعقلنا أن الإكراه هو: أن يغلب بغير فعل منه فإذا تلف ما حلف عليه ليفعلن فيه شيئاً، بغير فعل منه، فهو في أكثر من الإكراه.
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على معرفة الشَّافِعِي بأصول الكلام وصحة اعتقاده منها)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: إن اللَّه جل ذكره فرض الإيمان على جوارح بني
آدم فقسمه فيها، وفرقه عليها، فليس من جارحة إلا وقد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به أختها بفرض من الله تعالى.

(2/1021)


فأما فرض الله على القلب من الإيمان: فالإقرار والمعرفة والعقد، والرضا
والتسليم بأن الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله من نبيٍّ أو كتاب.
فذلك ما فرض الله جل ثناؤه على القلب وهو عمله: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا) الآية.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا)
وقال عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ)
الأم: ما حرّم المشركون على أنفسهم:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ويقال: أنزل - الله تعالى - في ذلك: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) إلى قوله:
(أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ)
وهذا يشبه ما قيل. يعني: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمً)
أي: من بهيمة الأنعام، إلا ميتة أو دماً مسفوحاً منها وهي حية، أو ذبيحة كافر، وذكِر تحريم الخنزير معها، وقد قيل: ما كنتم تأكلون إلا كذا.

(2/1022)


وقال: (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا) إلى قوله: (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) الآيتان، وهذه الآية، في مثل معنى الآية التي قبلها.
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في الصيد والذبائح، وفي الطعام
والشراب:
أخبرنا أبو سعيد، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه جل ثناؤه فيما حَزم، ولم يَحِل بالذكاة:
(إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) الآية.
وذكر معها الآية / 119 من سورة الأنعام، والآية / 3 من سورة المائدة.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
أحكام القرآن: فصل (فين يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في آيات متفرقة) :
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن فنجويه (بالدامغان) ، أخبرنا الفضل
ابن الفضل الكندي، حدثنا زكريا بن يحيى الساجي قال: سمعت أبا عبد الله
(ابن أخي بن وهب) يقول:

(2/1023)


سمعت الشَّافِعِي يقول الأمة على ثلاثة وجوه:
1 - قوله تعالى: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ)
قال: على دين.
2 - وقوله تعالى: (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ)
قال: بعد زمان.
3 - وقوله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ)
قال: معلماً.

(2/1024)