تفسير الإمام الشافعي

سورة طه
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الله عزَّ وجلَّ: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)
مناقب الشافعى: باب (ما يستدل به على معرفة الشَّافِعِي بأصول الكلام وصحه اعتقاده فيها) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ثم معنى قوله في الكتاب: (مَن فِى السمَآءِ)
مَنْ فوق السماء على العرش، كما قال: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) الآية، وكل ما علا فهو سماء والعرش أعلا السماوات، فهو على
العرش - سبحانه وتعالى - كما أخبر بلا كيف، بائن من خلقه، غير مماس من خلقه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) .
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
الأم: باب (إبطال الاستحسان) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: إن الله - عزَّ وجلَّ حكم على عباده حكمين:

(3/1063)


1 - حكماً فيما بينهم وبينه، - وحكماً فيما بينهم في دنياهم، فحكم
على عباده فيما بينهم وبينه - أن أثابهم وعاقبهم على ما أسروا، كما فعل بهم فيما أعلنوا، وأعلمهم إقامة للحجة عليهم، وبينها لهم أنه عَلِم سرائرهم وعلم علانيتهم، فقال: (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) الآية، وقال: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) . الآية.
وخلقه لا يعلمون إلا ما شاء - عز وجل -، وحجب
علم السرائر عن عباده.
2 - وبعث فيهم رسلاً، فقاموا باحكامه على خلقه، وأبان لرسله وخلقه -
أن - أحكام خلقه في الدنيا على ما أظهروا.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
الأم: باب (الساعات التي تكره فيها الصلاة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن الله - عزَّ وجلَّ يقول: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)
وأمرُه - صلى الله عليه وسلم - "أن لا يمنع أحد طاف بالبيت، وصلى أي ساعة شاء. ."
الحديث - بمعناه -، وصلى المسلمون على جنائزهم بعد الصبح والعصر.

(3/1064)


قال الشَّافِعِي رحمه الله: وفيما روت أم سلمة من: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، صلى في بينها ركعتين بعد العصر، كان يصليها بعد الظهر فَشُغِل عنهما بالوفد، فصلاهما بعد العصر.." الحديث - بمعناه -.
الرسالة: النهي عن معنى يشبه الذي قبله في شيء ويفارقه في شيء غيره
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، أن
رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله يقول: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) " الحديث.
وحدَّث أنس بن مالك، وعمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: مثل معنى حديث ابن المسيب وزاد أحدهما:
"أو نام عنها" الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فليصلها إذا ذكرها"
فجعل ذلك وقتاً لها، وأخبر به عن الله تبارك وتعالى، ولم يستثني وقتاً من الأوقات يدعها فيه بعد ذكرها.
أخبرنا ابن عيينة، عن أبي الزبير، عن عبد اللَّه بن باباه، عن جبير بن
مطعم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"يا بني عبد مناف، من ولي منكم من أمر الناس شيئاً

(3/1065)


فلا يمنعن أحداً طاف بهذا البيت وصلَّى، أي ساعة شاء، من ليل أو نهار"
الحديث.
أخبرنا عبد المجيد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: مثل معناه، وزاد فيه: "يا بنى عبد المطلب، يا بنى عبد مناف"
ثم ساق الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فأخبر جبير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بإباحة الطواف بالبيت، والصلاة له في أي ساعة ما شاء الطائف والمصلِّي.
وهذا يبين أنه إنَّما نهى عن المواقيت التي نهى عنها، عن الصلاة التي لا تلزم
بوجه من الوجوه، فأما ما لزم فلم ينه عنه، بل أباحه - صلى الله عليه وسلم -.
وصلى المسلمون على جنائزهم عامة بعد العصر والصبح؛ لأنها لازمة.
وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - طاف بعد الصبح، ثم نظر فلم يَرَى الشمس طلعت، فركب حتى أتى ذا طِوَى وطلعت الشمس، فأناخ فصلى، فنهى عن الصلاة للطواف بعد العصر وبعد الصبح كما نهى عما لا يلزم من الصلاة.

(3/1066)


قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإذا كان بعمر - رضي الله عنه - أن يؤخر الصلاة للطواف، فإنما تركها لأن ذلك له؛ ولأنه لو أراد منزلاً بذي طوى لحاجة كان واسعاً إن شاء الله، ولكن سمع النهي جملة عن الصلاة، وضرب (المنكدر) عليها بالمدينة بعد العصر، ولم يسمع ما يدل على أنه إنما نهى عنها للمعنى الذي وصفنا، فكان يجب عليه ما فعل.
ويجب على من علم المعنى الذي نهى عنه، والمعنى الذي أبيحت فيه، أن
إباحتها بالمعنى الذي أباحها فيه خلاف المعنى الذي نهى فيه عنها، كما وصفتُ
مما روى علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث، إذا سمع النهي، ولم يسمع سبب النهي.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن قال قائل: فقد صنع أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -، كما صنع عمر - رضي الله عنه -؟
قلنا: والجواب فيه كالجواب في غيره.
قال: فإن قال قائل: فهل من أحد صنع خلاف ما صنعا؟
قيل: نعم، ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، والحسن، والحسين، وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، وقد سمع ابن عمر النهي من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أخبرنا ابن عيينه، عن عمرو بن دينار قال:
"رأيت أنا وعطاء بن رباح، ابن عمر رضي الله عنهما طاف بعد الصبح، وصلى قبل أن تطلع الشمس" الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا سفيان، عن عمار الدُّهني عن أبي شعبة:
أن الحسن والحسين طافا بعد العصر وصليا.
أخبرنا مسلم، وعبد المجيد،

(3/1067)


عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، قال: رأيت ابن عباس رضي الله عنهما طاف بعد العصر وصلَّى.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإنَّما ذكرنا تفرق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا ليستدل مَن عَلِمَه على أن تفرقهم فيما لرسول الله فيه سنة، لا يكون إلا على هذا المعنى، أو على أن لا تبلغ السنة من قال خلافها منهم، أو تأويلِ تحتمله السنة، أو ما أشبه ذلك مما قد يرى قائله له فيه عذراً - إن شاء الله -، وإذا ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشيء فهو اللازم لجميع من عرفه، لا يقويه ولا يوهنه شيء غيره، بل
الفرض الذي على الناس اتباعه، ولم يجعل الله لأحد معه أمراً يخالف أمره.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
مختصر المزني: باب (البكاء على الميت) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأرخص الله تعالى في البكاء بلا ندب ولا نياحه.
لما في النوح من تجديد الحزن، ومنع الصبر، وعظيم الإثم.
وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه"
وذكر ذلك ابن عباس لعائشة رضي الله عنهما، فقالت: رحم الله
عمر، والله ما حدَّث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"ان الله ليعذب الميت ببكاء أهله عليه ولكن قال:
"إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه" الحديث.

(3/1068)


وقالت عائشة رضي الله عنها: حسبكم القرآن (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) .
وقال ابن عباس عند ذلك: الله (أَضْحَكَ وَأَبْكَى) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ما روت عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشبه بدلالة الكتاب والسنة قال اللَّه - عز وجل -:
(أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) الآية.
وقال: (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى) الآية.
وقال عليه الصلاة والسلام لرجل في ابنه:
"إنه لا يجنى عليك ولا تجنى عليه " الحديث.
وما زيد في عذاب الكافر فباستيجابه له، لا بذنب غيره.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في التفسير في آيات متفرقةً سوى ما مضى:
أخبرنا أبو عبد الرحمن السُّلَّمي قال: سمعت أبا الحسن بن مُقَسِّم (ببغداد)
يقول: سمعت أحمد بن علي بن سعيد البزار يقول: سمعت أبا ثور يقول:

(3/1069)


سمعت الشَّافِعِي رحمه الله بقول: الفصاحة إذا استعملتها في الطاعة أشفى
وأكفى في البيان، وأبلغ في الإعذار، لذلك دعا موسى ربه فقال: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) .
لما علم أن الفصاحة أبلغُ في البيان.

(3/1070)