تفسير الإمام الشافعي

سورة الممتحنة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)
الأم: المسلم يدل المشركين على عورة المسلمين:
قيل للشافعي: أرأيت المسلم يكتب إلى المشركين من أهل الحرب، بأن
المسلمين يريدون غزوهم، أو بالعورة من عوراتهم، هل يحل ذلك دمه، ويكون في ذلك دلالة على ممالأة المشركين - على المسلمين -؟
قال الشَّافِعِي رحمه الله: لا يحل دم من ثبتت له حرمة الإسلام، إلا أن
يقتل، أو يزني بعد إحصان، أو يكفر كفراً بيناً بعد إيمان، ثم يثبتَ على الكفر.
وليس الدلالة على عورة مسلم، ولا تأييد كافر بأن يحذِّر أن المسلمين يريدون منه غِرَّة ليحذرها، أو يتقدم في نكاية المسلمين بكفر بيِّنٍ.
فقلت للشافعي: - أي: قال الربيع: للشافعي -:
أقلت هذا خبراً أم قياساً؟
قال: قلته بما لا يسع مسلماً علمه عندي، أن يخالفه بالسنة المنصوصة بعد
الاستدلال بالكتاب.

(3/1335)


فقيل للشافعي: فاذكر السنة فيه.
قال: أخبرنا سلمان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن الحسن بن محمد.
عن عبيد اللَّه بن رافع قال سمعت علياً يقول: بعثنا رسوله الله - عزَّ وجلَّ أنا والمقداد والزبير فقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب".
فخرجنا تُعادي بنا خيلنا، فإذا نحن بالظعينة، ففلنا لها: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب، فقلنا لتخرجن الكتاب، أو لتلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا فيه:
"من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين ممن بمكة"
يخبر ببعض أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما هذا يا حاطب؟!
قال: لا تعجل على يا رسول اللَّه إني كنت امرأً ملصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها قرابائهم، ولم يكن لي بمكة قرابة، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً، واللَّه ما فعلته شكاً في ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"إنه قد صدق".
فقال عمر - رضي الله عنه - يا رسول الله.
دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله - عزَّ وجلَّ قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" الحديث.
قال فنزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: في هذا الحديث مع ما وصفنا لك، طرح الحكم
باستعمال الظنون؛ لأنه لما كان الكتاب

(3/1336)


1 - يحتمل أن يكون ما قال حاطب كما قال: من أنه لم يفعله شاكاً في
الإسلام -، وأنه فعله ليمنع أهله.
2 - ويحتمل أن يكون زلة لا رغبة عن الإسلام.
3 - واحتمل المعنى الأقبح - أي: النفاق -.
كان القول قوله، فيما احتمل فعله، وحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه بأن لم يقتله.
ولم يستعمل عليه الأغلب، ولا - أعلم - أحداً أتى في مثل هذا أعظم في الظاهر من هذا؛ لأن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مباين في عظمته لجميع الآدميين بعده، فإذا كان من خابر المشركين بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد غرَّتهم فصدَّقه، - على - ما عاب عليه - من ذلك غير مستعمل عليه - الأغلب مما يقع في النفوس، فيكون لذلك مقبولاً كان من بعده في أقل من حاله، وأولى أن يقبل منه مثل ما قبل منه.
قيل للشافعي: أفرأيت إن قال قائل: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قد صدق"
إنما تركه لمعرفته بصدقه، لا بأن فعله كان يحتمل الصدق وغيره.
فيقال له: قد علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن المنافقين كاذبون، وحقن دماءهم بالظاهر، فلو كان حكم النبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاطب بالعلم بصدقه، كان حكمه على المنافقين: القتل بالعلم بكذبهم، ولكنه إنما حكم في كل بالظاهر.
وتولى الله - عزَّ وجلَّ منهم السرائر، ولئلا يكون لحاكم بعده أن يدع حكماً له مثل ما وصفت من علل أهل الجاهلية، وكل ما حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو عام حتى يأتي عنه دلالة على أنه أراد به خاصاً، أو عن جماعة المسلمين الذين لا يمكن فيهم أن يجهلوا له سنة، أو يكون ذلك موجوداً في كتاب الله - عز وجل -.

(3/1337)


قال الله عزَّ وجلَّ: (إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ)
الأم: جماع الوفاء بالنذر والعهد ونقضه:
قال - الشَّافِعِي رحمه الله: صالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشاً بالحديبية على أن يرد من جاء منهم، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى في امرأة جاءته منهم مسلمة: (إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) الآية.
ففرض الله - عز وجل - عليهم أن لا ترد النساء، وقد أعطوهم رد من جاء منهم، وهن منهم.
فحبسهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمر الله - عز وجل -.
الأم (أيضاً) : جماع الهُدنَة على أن يرد الإمام من جاء بلده مسلماً أو مشركاً:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ذكر عدد من أهل العلم بالمغازي، أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - هادن قريشاً عام الحديبية، على أن يأمن بعضهم بعضاً، وأن من جاء قريشاً من المسلمين مرتداً لم يردوه عليه، ومن جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة منهم
رده عليهم، ولم يعطهم أن يرد عليهم من خرج منهم مسلماً إلى غير المدينة في بلاد الإسلام والشرك، وإن كان قادراً عليه، ولم يذكر أحد منهم أنه أعطاهم في مسلم غير أهل مكة شيئاً من هذا الشرط. . .

(3/1338)


حتى جاءته أم كلثوم ابنة عقبة بن أبي معيط، مسلمة مهاجرة، فنسخ اللَّه - عز وجل - الصلح في النساء، وأنزل اللَّه تبارك وتعالى: (إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ) الآية كلها وما بعدها.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ويجوز للإمام من هذا، ما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل في الرجال دون النساء؛ لأن الله - عزَّ وجلَّ نسخ ردَّ النساء إن كن في الصلح، ومنع أن يرددن بكل حال.
الأم (أيضاً) : أصل نقض الصلح فيما لا يجوز:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقدمت عليهم أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط.
مسلمة مهاجرة، فجاء أخواها يطلبانها فمنعها منهما، وأخبر أن اللَّه - عز وجل - نقض الصلح في النساء، وحكم فيهن غير حكمه في الرجال.
وإنما ذهبتُ - القول: للشافعي - إلى أن النساء كن في صلح الحديبية، بأنه لو لم يدخل ردهن في الصلح، لم يعط أزواجهن فيهن عوضاً - واللَّه تعالى أعلم -.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وذكر بعض أهل التفسير، أن هذه الآية نزلت فيها:
(إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ)
قرأ الربيع الآية، ومن قال إن النساء كن في الصلح قال: بهذه الآية مع الآية التي في: (بَرَآءَة) .
الأم (أيضاً) : جماع الصلح في المؤمنات:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه - عز وجل -:
(إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ)
قرأ الربيع الآية.

(3/1339)


قال الشَّافِعِي رحمه الله: وكان بيناً في الآية منع المؤمنات المهاجرات من أن
يرددن إلى دار الكفر، وقطع العصمة بالإسلام بينهن وبين أزواجهن، ودلت السنة على أن قطع العصمة إذا انقضت عددهن ولم يسلم أزواجهن من المشركين.
وكان بيناً فيها: أن يرد على الأزواج نفقاتهم، ومعقول فيها أن نفقاتهم التي
ترد نفقات: اللائي ملكوا عقدهن، وهي: المهور، إذا كان قد أعطوهن إياها.
وبين أن الأزواج الذين يعطون النفقات؛ لأنهم الممنوعون من نسائهم.
وأن نساءهم المأذون للمسلمين بأن ينكحوهن إذا آتوهن أجورهن؛ لأنه لا
إشكال عليهم في أن ينكحوا غير ذوات الأزواج، إنما كان الإشكال في نكاح ذوات الأزواج حتى قطع اللَّه - عز وجل - عصمة الأزواج بإسلام النساء، وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك بمضي العدة قبل إسلام الأزواج، فلا يُؤتى أحد نفقته من امرأة
فاتت إلا ذوات الأزواج، وقد قال اللَّه - عز وجل - للمسلمين:
(وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) الآية، فأبانهن من المسلمين، وأبان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له أن ذلك بمضي
العدة، فكان الحكم في إسلام الزوج، الحكم في إسلام المرأة لا يختلفان.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: (وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا) .
يعني - واللَّه أعلم - أن أزواج المشركات من المؤمنين إذا منعهم المشركون إتيان أزواجهم بالإسلام، أوتوا ما دفع إليهن الأزواج من المهور، كما يؤدي
المسلمون ما دفع أزواج المسلمات من المهور وجعله اللَّه - عز وجل - حكماً بينهم.
الأم (أيضاً) : نكاح نساء أهل الكتاب وتحريم إمائهم:
قال الشَّافِعِي - رحمه الله -: قال اللَّه تبارك وتعالى؛ (إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) إلى: (وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) الآية.

(3/1340)


قال الشَّافِعِي رحمه الله: فزعم بعض أهل العلم بالقرآن أنها نزلت في
مهاجرة من أهل مكة فسماها بعضهم ابنة عقبة بن أبي معيط، وأهل مكة أهل
أوثان، وأن قول اللَّه - عز وجل -: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)
نزلت فيمن هاجر من أهل مكة مؤمناً، - قال الربيع -: وإنما نزلت في الهدنة.
الأم (أيضاً) : فسخ نكاح الزوجين يسلم أحدهما:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى: (إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) إلى قوله: (وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) .
وقال تبارك وتعالى:
(وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: نزلت في الهدنة التي كانت بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أهل مكة وهم أهل أوثان
وعن قول اللَّه - عز وجل -: (فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ)
فاعرضوا عليهن الإيمان، فإن قبلن وأقررن به فقد علمتموهن مؤمنات.
وكذلك علم بني آدم الظاهر:
وقال تبارك وتعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ)
يعني: بسرائرهن في إيمانهن وهذا يدل على أن لم يُعط أحد من بَني آدم
أن يحكم على غير ظاهر.
ومعنى الآيتين واحد، فإن كان الزوجان وثنيين فأيهما أسلم أولاً.
فالجماع ممنوع حتى يسلم المتخلف عن الإسلام منهما، لقول اللَّه تعالى:
(لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) الآية.

(3/1341)


وقوله: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) الآية.
فاحتملت العقدة أن تكون
منفسخة إذا كان الجماع ممنوعاً بعد إسلام أحدهما، فإنه لا يصلح لواحد منهما إذا كان أحدهما مسلماً والآخر مشركاً أن يبتدئ النكاح، واحتملت العقدة أن لا تنفسخ إلا أن يثبت المتخلف عن الإسلام منهما على المتخلف عنه، مدة من المدد، فيفسخ النكاح إذا جاءت تلك المدة قبل أن يسلم، ولم يكن يجوز أن يقال: لا تنقطع العصمة بين الزوجين حتى يأتي على المتخلف منهما عن الإسلام مدة قبل أن يسلم إلا بخبر لازم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأخبرنا جماعة من أهل العلم من قريش، وأهل
الغازي وغيرهم، عن عدد قبلهم، أن أبا سفيان بن حرب أسلم بمرٍّ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظاهر عليهما، فكانت بظهوره وإسلام أهلها دار الإسلام، وامرأته هند بنت عتبة كافرة بمكة، ومكة يومئذ دار حرب، ثم قدم عليها يدعوها إلى الإسلام، فأخذت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضال.
فأقامت أياماً قبل أن تسلم ثم أسلمت، وبايعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وثبتا على النكاح.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأخبِرنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة، فأسلم أكثر أهلها، وصارت دار الإسلام، وأسلمت امرأة عكرمة بن أبي جهل، وامرأة صفوان بن أمية، وهرب زوجاهما ناحية البحر (من طريق اليمن) كافرين إلى بلد كفر، ثم جاءا فأسلما بعد مدة، وشهد صفوان حنيناً كافراً، فاستقرَّا على النكاح، وكان ذلك كله ونساؤهن مدخول بهن لم تنقض عددهن، ولم أعلم
مخالفاً في أن المتخلف عن الإسلام منهما، إذا انفضت عدة المرأة قبل أن يسلم
انقطعت العصمة بينهما، وسواء خرج المسلم منهما من دار الحرب، وأقام
المتخلف فيها، أو خرج المتخلف عن الإسلام، أو خرج معاً، أو أقاما معاً، لا تصنع الدار في التحريم والتحليل شيئاً، إنما يصنعه اختلاف الدينين.

(3/1342)


الأم (أيضاً) : ما جاء في نكاح إماء المسلمين وحرائر أهل الكتاب وإمائهم:
أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله تبارك وتعالى: (إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) الآية.
وقال اللَّه تبارك وتعالى:
(وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ)
فنهى الله - عزَّ وجلَّ في هاتين الآيتين عن نكاح نساء المشركين، كما نهى عن إنكاح رجالهم. ..
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فقال بعض الناس: لم قلت لا يحل نكاح إماء أهل
الكتاب؛ فقلت: استدلالاً بكتاب اللَّه - عز وجل -.
قال: وأين ما استدللت به منه؟
فقلت: قال اللَّه تبارك وتعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ)
وقال: (إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ) الآية.
فقلنا نحن وأنتم: لا يحل لمن لزمه اسم كفر، نكاح مسلمة
حرة، ولا أمة بحال أبداً، ولا يختلف في هذا أهل الكتاب وغيرهم من المشركين؛ لأن الآيتين عامتان، واسم المشرك لازم لأهل الكتاب وغيرهم من المشركين.
الأم (أيضاً) : المدَّعي والمدَّعَى عليه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه - عز وجل -: (إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ)

(3/1343)


ثم قال: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الآية، فأحلَّ صنفاً واحداً من المشركات بشرطين.
أحدهما: أن تكون المنكوحة من أهل الكتاب.
والثاني: أن تكون حرة؛ لأنه لم يختلف المسلمون في أن قول اللَّه - عز وجل -: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) .
هن: الحرائر.
الأم (أيضاً) : كتاب (إبطال الاستحسان) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ففرض - اللَّه - على نبيه أن يقاتل أهل الأوثان
حتى يسلموا، وأن يحقن دماءهم إذا أظهروا الإسلام ثم بين اللَّه، ثم رسوله أن لا يعلم سرائرهم في صدقهم بالإسلام إلا اللَّه، فقال اللَّه - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -:
(إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ)
قرأ الربيع إلى قوله: (فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) الآية.
يعني: واللَّه أعلم بصدقهن بإيمانهن.
وقال: (عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ) يعني: ما أمرتكم أن تحكموا به فيهن إذا أظهرن الإيمان، لأنكم لا تعلمون من صدقهن بالإيمان ما يعلم اللَّه، فاحكموا لهن بحكم الإيمان في أن لا ترجعوهن إلى الكفار: (لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) الآية.
الأم (أيضاً) : الخلاف في السبايا:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله تبارك وتعالى:
(فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) الآية.
فلم يفرق بين المرأة تسلم قبل زوجها، ولا الرجل يسلم قبل امرأته.

(3/1344)


الأم (أيضاً) : ما جاء في نكاح المحدودين:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن كن - أي: الزانيات - على الشرك فهن
محرمات على زناة المسلمين وغير زناتهم، وإن كن أسلمن فهن بالإسلام
محرمات على جميع المشركين، لقول الله تعالى: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) الآية.
الأم (أيضاً) : باب (في الحربي يسلم)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والآية في الممتحنة مثلها، قال الله تعالى:
(فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) الآية.
فسوَّى بينهما، وكيف فرقتم بينهما؟ - الخطاب هنا: لمن
يحاوره الشَّافِعِي رحمه اللَّه وهو قول ابن شهاب -. ..
قال الشَّافِعِي رحمه الله: هذه الآية في معنى تلك، لا تعدو هاتان الآيتان أن
تكونا تدلان على أنه إذا اختلف دينا الزوجين فكان لا يحل للزوج جماع زوجته لاختلاف الدينين، فقد انقطعت العصمة بينهما، أو يكون لا يحل له في تلك الحال، ويتم انقطاع العصمة إن جاءت عليها مدة، ولم يسلم المتخلف عن الإسلام منهما.

(3/1345)


الأم (أيضاً) : المرأة تسلم قبل زوجها، والزوج قبل المرأة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإن قال - أي: المحاور - فما الكتاب؟
قيل: قال الله - عز وجل -: (فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) الآية.
فلا يجوز في هذه الآية إلا أن يكون اختلاف الدينين يقطع العصمة ساعة اختلفا، أو يكون يقطع العصمة بينهما اختلاف الدينين والثبوت على الاختلاف إلى مدة.
والمدة لا تجوز إلا بكتاب اللَّه، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد دلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
على ما وصفنا وجمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المسلمة قبل زوجها، والمسلم قبل امرأته، فحكم فيهما حكماً واحداً، فكيف جاز أن يفرق بينهما؛ وجمع اللَّه بينهما فقال:
(لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) الآية.
فإن قال قائل: فإنما ذهبنا إلى قول اللَّه - عز وجل -
(وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) الآية، فهي كالآية قبلها.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا)
الأم: جماع الصلح في المومنات:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: تالا اللَّه تعالى: (وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا) الآية.
يعني - واللَّه أعلم -: أن أزواج المشركات من

(3/1346)


المؤمنين، إذا منعهم المشركون إتيان أزواجهم بالإسلام، أوتوا ما دفع إليهن
الأزواج من المهور، كما يؤدي المسلمون ما دفع أزواج المسلمات من المهور، وجعله اللَّه - عز وجل - حكماً بينهم.
ثم حكم لهم في مثل ذا المعنى حكماً ثانياً، فقال عز وعلا: (وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ) الآية، -
واللَّه تعالى أعلم - يريد: فلم تعفوا عنهم، إذا لم يعفوا عنكم مهور نسائكم: (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا) الآية.
كأنه يعني: من مهورهن إذا فاتت امرأة مشرك أتتنا
مسلمة قد أعطاها مائة في مهرها، وفاتت امرأة مشركة إلى الكفار قد أعطاها
مائة، حسبت - مائة المسلم بمائة المشرك، فقيل: تلك العقوبة.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ويكتب بذلك إلى أصحاب عهود المشركين حتى
يعطي المشرك ما قاصصناه به؛ من مهر امرأته للمسلم، الذي فاتت امرأته إليهم ليس له غير ذلك.
الأم (أيضاً) : تفريع أمر نساء المهادنين:
أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: إذا جاءت المرأة الحرة من نساء أهل الهدنة مسلمة
مهاجرة من دار الحرب، إلى موضع الإمام من دار الإسلام، أو دار الحرب، فمن طلبها من ولي سوى زوجها منع منها بلا عوض، وإذا طلبها زوجها بنفسه، أو طلبها غيره بوكالته، مُنِعَهَا، وفيها قولان:

(3/1347)


أحدهما: يعطى العوض، والعوض ما قال الله عزَّ وجلَّ:
(فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ومثل ما أنفقوا يحتمل - واللَّه تعالى أعلم -: ما
دفعوا بالصداق لا النفقة غيره، ولا الصداق كله إن كانوا لم يدفعوه.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإذا جاءت امرأة رجل قد نكحها بمائتين، فأعطاها
مائة ردت إليه مائة، وإن نكحها بمائة فأعطاها خمسين، ردت إليه خمسون؛ لأنها لم تأخذ منه الصداق إلا خمسين، وإن نكحها بمائة ولم يعطها شيئاً من الصداق لم نرد إليه شيئاً؛ لأنه لم ينفق بالصداق شيئاً.
ولو أنفق - بغيره - من عرس وهدية وكرامة، لم يعط من ذلك شيئاً؛ لأنه
تطوع به، ولا ينظر في ذلك إلى مهر مثلها إن كان زادها عليه، أو نقصها منه؛ لأن اللَّه - عز وجل - أمر بأن يُعطَوا مثل ما أنفقوا، وُيعطى الزوج هذا الصداق من سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفيء والغنيمة، دون ما سواه من المال؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود فيكم" الحديث.
يعني - واللَّه أعلم - في مصلحتكم؛ وبأن الأنفال تكون عنه.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولو قدم الزوج مسلماً وهي في العدة كان أحق
بها، ولو قدم يطلبها مشركاً ثم أسلم قبل أن تنقضي عدتها كانت زوجته، ورُجع عليه بالعوض، فأخذ منه إن كان أخذه، ولو طلب العوض فأعطيه، ثم لم يسلم حتى تنقضي عدتها، ثم أسلم فله العوض؛ لأنها قد بانت منه بالإسلام في ملك النكاح، ولو نكحها بعد لم نرجع عليه بالعوض؛ لأنه إنما ملكها بعقدٍ غيره.

(3/1348)


وفيه قول ثان: لا يعطى الزوج المشرك الذي جاءت زوجته مسلمة
العوض، ولو شرط الإمام برد النساء كان الشرط منتقضاً، ومن قال هذا قال: إن شرط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل الحديبية إذا دخل فيه أن يرد من جاءه منهم.
وكان النساء منهم كان شرطاً صحيحاً، فنسخه اللَّه ثم رسوله لأهل الحديبية، ورد عليهم فيما نسخ منه العوض، ولما قضى الله ثم رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن لا ترد النساء، لم يكن لأحدٍ ردهن، ولا عليه عوض فيهن؛ لأن شرط من شرط رد النساء بعد نسخ اللَّه - عز وجل -، ثم رسوله لها باطل، ولا يعطى بالشرط الباطل شيء.

(3/1349)


سورة الصف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
الأم: أصل فرض الجهاد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولما مضت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدة من هجرته، أنعم الله تعالى فيها على جماعة باتباعه، حدثت لهم بها مع عون اللَّه قوة بالعدد، لم تكن قبلها، ففرض اللَّه تعالى عليهم الجهاد بعد إذ كان إباحة لا فرضاً - ثم ذكر الآيات المتعلقة بالجهاد - ومنها: وقال اللَّه تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) الآية، وقال: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الآية.
مع ما ذكر به فَرضَ الجهاد وأوجب على المتخلّف عنه.

(3/1350)


قال الله عزَّ وجلَّ: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
الأم: كتاب (الجزية) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقضى - الله تعالى - أن أظهر دينه على الأديان.
فقال - عز وجل -: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) .
وقد وصفنا بيان كيف يظهره على الدين في غير هذا
الموضع.
الأم (أيضاً) : في إظهار دين النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأديان:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) الآية.
أخبرنا ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا
قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله" الحديث - وبسط الكلام حول هذا الموضوع -.

(3/1351)


سورة الجمعة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الله عزَّ وجلَّ: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)
الأم: كتاب (الجزية) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) الآية.
وكان في ذلك ما دل على أنه بعث إلى خلقه؛ لأنهم كانوا أهل كتاب أو أميين.
الأم (أيضاً) : الأصل فيمن تؤخذ الجزية منه ومن لا تؤخذ:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: بعث اللَّه - عز وجل رسوله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، وهي بلاد قومه، وقومه أميون، وكذلك من كان حولهم من بلاد العرب، ولم يكن فيهم من العجم إلا مملوك، أو أجير، أو مجتاز، أو من لا يُذكر، قال اللَّه تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) الآية.
فلم يكن من الناس أحد في أول ما بُعِثَ، أعدى له من عوام قومه، ومن حولهم.

(3/1352)


الأم (أيضاً) : باب (حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه - عز وجل -: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) الآية، قال - أي: المحاور - فقد علمنا أن الكتاب كتاب الله، فما الحكمة؟
قلت: سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال: أفيحتمل أن يكون يعلمهم الكتاب جملة والحكمة خاصة وهي
أحكامه؟
قلت تعني بأن يبين لهم عن اللَّه - عز وجل - مثل ما بين لهم في جملة الفرائض، من الصلاة والزكاة والحج وغيرها، فيكون اللَّه قد أحكم فرائض من فرائضه بكتابه، وبين كيف هي على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
قال: إنه ليحتمل ذلك.
قلت: فإن ذهبت - به - هذا المذهب فهي في معنى الأول قبله، الذي لا تصل إليه إلا بخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال: فإن ذهبت مذهب تكرير الكلام؟
قلت: وأيهم أولى به ذكر (الكتاب والحكمة) أن يكون شيئين، أو شيئاً واحداً.
قال: يحتمل أن يكونا كما وصفت كتاباً وسنة، فيكونا شيئين، ويحتمل أن
يكونا شيئاً واحداً.
قلت: فأظهرهما أولاهما، وفي القرآن دلالة على ما قلنا، وخلاف ما
ذهبت إليه.
قال: وأين هي؟
قلت قوله اللَّه - عز وجل -: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) .
فأخبر أنه يتلى في بيوتهن شيئان.

(3/1353)


قال: فهذا القرآن يتلى، فكيف تتلى الحكمة؟
قلت: إنما معنى التلاوة أن ينطق بالقرآن، والسنة كما ينطق بها.
قال: فهذه أبين في أن الحكمة غير القرآن من الأولى.
الزاهر باب (صفة الأئمة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: " وإن أمَّ أُمِّيٌّ بمن يقرأ أعاد القارئ) .
قال الأزهري: أراد الشَّافِعِي بالأُمِّيِّ هاهنا: الذي لا يحسن القراءة.
والأمي: - في كلام العرب - الذي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وأكثر العرب كانوا أميين.
قال اللَّه - عز وجل -: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ) الآية، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمياً، وكان مع ذلك حافظاً لكتاب اللَّه - عز وجل -، فكانت آية (معجزة) .
ومعنى أميته: أنه لم يكن يحسن الكتابة ولا يقرؤها، فقرأ على أصحابه
العرب أقاصيص الأم الخالية على ما أنزلها اللَّه - عز وجل -، ثم كررها على فريق بعد فريق بألفاظها لا بمعانيها، وليس في عرف الإنسان أن يسرد حديثاً، أو قصة طويلة ثم يعيدها إذا كررها بألفاظها، ولكنه يزيد وينقص وبغير الألفاظ.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
الأم: باب (جماع الأذان) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه تبارك وتعالى:
(إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) الآية.
فذكر اللَّه - عز وجل - الأذان للصلاة، وذكر يوم

(3/1354)


الجمعة فكان بيناً - واللَّه تعالى أعلم - أنه أراد المكتوبة بالآيتين معاً، وسن
رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - الأذان للمكتوبات، ولم يحفظ عنه أحد علمته أنه أمر بالأذان لغير صلاة مكتوبة، بل حفظ الزهري عنه أنه كان يأمر في العيدين المؤذن فيقول:
(الصلاةَ جامعة) ، ولا أذان إلا المكتوبة، وكذالك لا إقامة - أي: إلا المكتوبة -
فأما الأعياد، والخسوف، وقيام شهر رمضان فأحب أن يقال فيه: (الصلاةَ
جامعة) ، وإن لم يقل ذلك فلا شيء على من تركه إلا ترك الأفضل.
والصلاة على الجنائز، وكل نافلة - غير الأعياد والخسوف - بلا أذان
فيها ولا قول: (الصلاةَ جامعة) .
الأم (أيضاً) : صلاة الجماعة:
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
أخبرنا الشَّافِعِي محمد بن إدريس المطلبي قال: ذكر اللَّه تبارك وتعالى اسمه
الأذان بالصلاة، فقال - عز وجل -: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا)
وقال: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) الآية، فأوجب الله - والله أعلم - إتيان الجمعة، وسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأذان للصلوات المكتوبات.
فاحتمل أن يكون أوجب إتيان صلاة الجماعة في غير الجمعة، كما أمر
بإتيان الجمعة وترك البيع، واحتمل أن يكون أذن بها لتصلى بوقتها.

(3/1355)


الأم (أيضاً) : إيجاب الجمعة:
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
أخبرنا محمد بن ادرش الشَّافِعِي قال: قال اللَّه تبارك وتعالى: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) الآية.
وقال اللَّه - عز وجل -: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني صفوان بن
سليم، عن نافع بن جبير، وعطاء بن يسار، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "شاهد: يوم الجمعة، ومشهود: يوم عرفة" الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ودلت السنة من فرض الجمعة على ما دل عليه
كتاب الله تبارك وتعالى.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن
أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نحن الآخرون، ونحن السابقون، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه.
فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غداً، والنصارى بعد غدٍ" الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والتنزيل ثم السنة يدلان على إيجاب الجمعة. ..
وكانت العرب تسميه قبل الإسلام (عَرُوبَة) قال الشاعر:
نفسي الفداء لأقوامٍ همو خلطوا ... يوم العَرُوبة أزواداً بأزوادِ

(3/1356)


قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني سلمة بن
عبد الله الخطمي، عن محمد بن كعب القرظي، أنه سمع رجلاً من بني وائل
يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"تجب الجمعة على كل مسلم إلا امرأة، أو صبياً، أو مملوكاً" الحديث.
الأم (أيضاً) : من تجب عليه الجمعة بمسكنه
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإذا كان قومٌ ببلد يجمع أهلها، وجبت عليهم
الجمعة، على من يسمع النداء، من ساكني المصر أو قريباً منه، بدلالة الآية.
الأم (أيضاً) : متى يحرم البيع:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه تبارك وتعالى:
(إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والأذان الذي يجب على من عليه فرض الجمعة أن
يذر عنده البيع؛ الأذان الذي كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك الأذان الذي بعد الزوال، وجلوس الإمام على المنبر، فإن أذن مؤذن قبل جلوس الإمام

(3/1357)


على المنبر وبعد الزوال، لم يكن البيع منهياً عنه، كما ينهى عنه إذا كان الإمام على المنبر، وأكرهه؛ لأن ذلك الوقت الذي أحب للإمام أن يجلس فيه على المنبر، وكذلك إن أذن مؤذن قبل الزوال، والإمام على المنبر، لم ينه عن البيع، إنما ينهى عن البيع إذا اجتمع - أي: شرطان -:
1 - أن يؤذن بعد الزوال.
2 - والإمام على المنبر.
الأم (أيضاً) : المشي إلى الجمعة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا سفيان بن عينية، عن الزهري، عن سالم.
عن أبيه قال: ما سمعت عمر - رضي الله عنه - قط يقرؤها إلا: "فامضوا إلى ذكر الله" الحديث.
ومعقول أن السعي في هذا الموضع العمل.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني عبد اللَّه بن
عبد الرحمن بن جابر بن عتيك، عن جده جابر بن عتيك (صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إذا خرجت إلى الجمعة فامشي على هيئتك" الحديث.

(3/1358)


ترتيب مسند الشَّافِعِي: في صلاة الجمعة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثني عبد اللَّه بن أبي
لبيد، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة لورحنه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في ركعتي الجمعة سورة الجمعة والمنافقين" الحديث.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
الأم: ما جاء في أمر النكاح:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والأمر في الكتاب، والسنة، وكلام الناس يحتمل
معاني:
1 - أحدها: أن يكون اللَّه - عز وجل - حرم شيئاً ثم أباحه، فكان أمره إحلال ما حرم؛ كقوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) الآية، ونهى عن البيع عند النداء، ثم أباحه في وقت غير الذي حرم فيه.

(3/1359)


آداب الشَّافِعِي: ما في الزكاة والسير والبيوع، والعتق، والنكاح، والطلاق: قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) الآية، فأخبر سبحانه: أن البيع الذي كان محرماً عند النداء حلال حيث قضيت الصلاة، وليس بواجب أن ينتشروا.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
الأم: الخطبة قائماً:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فلم أعلم مخالفاً أنها نزلت في خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني جعفر بن
محمد، عن أبيه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة، وكان لهم سوق يقال لها البطحاء، كانت بنو سليم يجلبون إليها الخيل والإبل والغنم والسمن، فقدموا، فخرج إليهم الناس وتركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان لهم لهو إذا تزوج أحد

(3/1360)


من الأنصار ضربوا بالكَبَرِ (1) ، فعيرهم اللَّه بذلك فقال: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) الآية.
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في الطهارات والصلوات) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه - عز وجل -: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) الآية.
ولم أعلم مخالفاً أنها نزلت في خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم -
يوم الجمعة.
وجاء في رواية حرملة وغيره، عن حصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن
جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب يوم الجمعة قائماً، فانفتل الناس إليها حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً، فأنزلت هذه الآية.
وفي حديث كعب بن عَجرة: دلالة على أن نزولها كان في خطبته قائماً.
وفي حديث حصين:
"بينما نحن نصلي الجمعة" فإنه عبَّر بالصلاة عن
الخطبة.
__________
(1) الكَبَرُ: الطبل ذو الوجه الواحد. انظر المعجم الوسيط، ص / 807.

(3/1361)