تفسير الإمام
الشافعي سورة القيامة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الله عزَّ وجلَّ: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ
سُدًى (36)
الأم: باب (إبطال الاستحسان) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولا يجوز له - أي: لأحدٍ - أن يحكم
ولا يفتي
بالاستحسان، إذ لم يكن الاستحسان واجباً، ولا في واحد من هذه
المعاني. فإن قال قائل: فما يدل على أن لا يجوز أن يستحسن إذا
لم يدخل الاستحسان في هذه المعاني مع ما ذكرت في كتابك هذا؟
قيل: قال اللَّه - عز وجل -: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ
يُتْرَكَ سُدًى) الآية.
فلم يختلف أهل العلم بالقرآن فيما علمت، أن السُّدَى:
الذي لا يؤمر ولا ينهى.
ومن أفتى أو حكم بما لم يؤمر به، فقد أجاز لنفسه أن يكون في
معاني
السدى، وقد أعلمه اللَّه أنه لم يتركه سدى! ورأى أن قال: أقول
بما شئت، وادعى ما نزل القرآن بخلافه في هذا، وفي السنن، فخالف
منهاج النبيين، وعوام حكم جماعة مَن روي عنه من العالمين.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: في قول اللَّه - عز وجل -:
(أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) الآية.
إن من حكم أو أفتى بخبر لازم أو قياس عليه فقد أدَّى ما
كُلِّف،
(3/1412)
وحكم وأفتى من حيث أمر، فكان النص مؤدياً
ما أمر به نصاً، وفي القياس
مؤدياً ما أمر اجتهاداً، وكان مطيعاً لله في الأمرين، ثم
لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - أمرهم بطاعة اللَّه، ثم رسوله، ثم الاجتهاد، فيروى أنه
- صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ - رضي الله عنه -: بم تقضي؟
"، قال: بكتاب اللَّه.
قال: "فإن لم يكن في كتاب الله؟ ".
قال: بسنة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -.
قال: "فإن لم يكن؟ ".
قال: أجتهد.
قال: "الحمد لله الدي وفق رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- " الحديث.
وقال: "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران.
وإن أخطا فله أجر" الحديث.
فأعلم أن للحاكم الاجتهاد والمقيس في موضع الحكم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ومن استجاز أن يحكم أو يفتي بلا
خبر لازم، ولا
قياس عليه، كان محجوجاً بأن معنى قوله: أفعل ما هويت، وإن لم
أومر به، خالف معنى الكتاب والسنة، فكان محجوجاً على لسانه،
ومعنى ما لم أعلم فيه مخالفاً.
الرسالة: باب (كيف البيان؟) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وكذلك أخبرهم عن قضائه فقال:
(أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) الآية.
والسُّدى: الذي لا يؤمر ولا ينهى.
وهذا يدل على أنه ليس لأحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- أن يقول إلا بالاستدلال بما وصفتُ في هذا، وفي العدل وفي
جزاء الصيد، ولا يقول بما استحسن، فإن القول بما استحسن شيء
يحدثه لا على مثال سبق.
(3/1413)
سورة الإنسان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الله عزَّ وجلَّ: (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ)
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في التفسير في آيات
متفرقة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال الله تعالى:. . . (مِنْ
نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ)
الآية، فقيل - والله أعلم -: نطفة الرجل مختلطة بنطفة المرأة.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وما اختلط سَمَّته العرب أمشاجاً.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ
يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)
الأم: جماع الوفاء بالنذر والعهد ونقضه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: جماع الوفاء بالنذر وبالعهد، كان
بيمين أو
غيرها، في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)
(3/1414)
وفي قوله تعالى: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ
وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) الآية.
وقد ذكر اللَّه - عز وجل - الوفاء بالعقود بالأيمان في غير آية
من كتابه. ..
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وهذا من سَعَة لسان العرب الذي
خوطبت به.
وظاهره عام على كل عقد، ويشبه - واللَّه أعلم - أن يكون أراد
الله - عزَّ وجلَّ أن يُوفي - بكل عقد كان بيمين أو غير يمين -
وكل عقدٍ نُذِرَ، إذا كانت في العقد لله طاعة، ولم يكن فيما
أمر بالوفاء به معصية.
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ
مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)
الأم: في المرأة تسبى ثم يسبى زوجها:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد أذن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما فقالت: إن أمي أتتني
وهي راغبة في عهد قريش، أفَأصِلُها؟
قال: نعم " الحديث.
وأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب - رضي
الله عنه - فكسا ذا قرابة له - مشركاً - بمكة.
وقال اللَّه - عز وجل -: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى
حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) الآية.
(3/1415)
اختلاف الحديث: باب (عطية الرجل لولده) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد حمد اللَّه جل ثناؤه على إعطاء
المال والطعام في
وجوه الخير، وأمر بهما، فقال:
(وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ) الآية.
وقال: (مِسْكِينًا وَيَتِيمًا) الآية.
فإذا جاز هذا للأجنبيين وذوي القربى فلا أقرب من الولد.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير
والمعاني في الطهارات والصلوات) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ومعقول أن السعي - في هذا الموضع
-: العمل لا
السعي على الأقدام، قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ سَعْيَكُمْ
لَشَتَّى) الآية
وقال عز وجل: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا
سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) الآية وقال: (وَكَانَ سَعْيُكُمْ
مَشْكُورًا) الآية.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ
اللَّهُ)
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير
والمعاني في آيات متفرقة) :
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن حيان القاضي، أخبرنا محمد بن عبد
الرحمن بن زياد قال: أخبرني أبو يحيى الساجي (أو فيما أجاز لي
مشافهة) قال: حدثنا الربيع قال:
(3/1416)
سمعت الشَّافِعِي رحمه الله يقول: في كتاب
الله - عزَّ وجلَّ المشيئة له دون خلقه.
والمشيئة: إرادة اللَّه، يقول الله عزَّ وجلَّ: (وَمَا
تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) الآية.
فأعلم خلقه: أن المشيئة له.
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في إثبات
المشيئة لله تعالى وهي من صفات الذات) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: إن مشيئة العباد هي إلى اللَّه
تعالى، ولا يشاؤون إلا
أن يشاء الله رب العالمين، فإن الناس لم يخلقوا أعمالهم، وهي
خَلْقٌ من خَلْقِ الله تعالى - أفعال العباد - وإن القدر خيره
وشره من اللَّه - عز وجل -، وإن عذاب القبر حق، ومساءلة أهل
القبور حق، والبعث حق، والحساب حق، والجنة والنار، وغير ذلك
مما جاءت به السنن، فظهرت على ألسنة العلماء وأتباعهم من بلاد
المسلمين حق.
(3/1417)
سورة المرسلات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)
الأم: باب (القراءة في المغرب) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد
اللَّه بن
عبد اللَّه بن عتبة، عن ابن عباس، عن أم الفضل بنت الحارث رضي
اللَّه عنهم سمعته يقرأ: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) الحديث.
فقالت: يا بني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة أنها لآخر ما
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في المغرب.
فقلت للشافعي: فإنا نكره أن يقرأ في المغرب بالطور والمرسلات،
ونقول: يقرأ بأقصر منهما فقال: وكيف تكرهون ما رويتم أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فعله؟!
الأمر رويتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخالفه، فاخترتم
إحدى الروايتين على الأخرى؟!
أو رأيتم لو لم أستدل على ضعف مذهبكم في كل شيء، إلا أنكم
تروون
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً ثم تقولون نكرهه، ولم
ترووا غيره، فأقول: إنكم اخترتم غيره عن النبي؟
لا أعلم أن أحسن حالكم أنكم قليلو العلم ضعفاء المذهب.
(3/1418)
قال الله عزَّ وجلَّ: (هَذَا يَوْمُ لَا
يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)
إحياء علوم الدين:
روى عبد اللَّه بن محمد البلوي: كنت أنا وعمر بن نباته جلوساً
نتذاكر
العُبَّاد والزهاد، فقال لي عمر: ما رأيت أورع ولا أفصح من
محمد بن إدريس الشَّافِعِي - رحمه الله -، فرحت أنا وهو
والحارث بن لبيد إلى الصفا، وكان الحارث تلميذاً لصالح المري،
فافتتح يقرأ، وكان حسن الصوت، فقرأ هذه الآية عليه:
(هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ
فَيَعْتَذِرُونَ (36) .. الآيتان.
فرأيت الشَّافِعِي - رحمه الله - وقد تغير لونه واقشعر جلده،
واضطرب اضطراباً شديداً وخرَّ مغشياً عليه، فلما أفاق جعل
يقول: أعوذ بك من مقام الكاذبين، وإعراض الغافلين، اللهم خضعت
للك قلوب العارفين، وذلَّت لك رقاب المشتاقين، إلهي هب لي
جودك.
وجللني بسترك، واعف عن تقصيري بكرم وجهك.
قال: ثم مشى وانصرفنا.
(3/1419)
قال الله عزَّ وجلَّ: (هَذَا يَوْمُ
الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38)
مناقب الشافعى: باب (ما يستدل به على اجتهاد الشافعى في طاعة
ربه وزهده في الدنيا) :
أخبرني محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم قال: جلسنا يوماً
نتذاكر الزُّهاد
والعبَّاد، وما بلغ من فصاحتهم حتى ذكرنا ذا النون، فبينما نحن
كذلك إذ دخل علينا عمر بن نباته فقال: فيما تشاجرون؟
فقلنا: نتذاكر الزهاد والعبَّاد وما بلغ من فصاحتهم حتى ذكرنا
ذا النون. فقال: واللَّه ما رأيت رجلاً قط أفصح ولا أورع من
محمد بن إدريس الشَّافِعِي رحمة اللَّه عليه.
ثم قال: خرجت أنا وهو والحارث بن لبيد ذات يوم إلى الصفا
فافتتح الحارث، وكان غلاماً لصالح المري، فقرأ:
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
(هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ)
فرأيت الشَّافِعِي قد اضطرب، ثم بكى بكاء شديداً، ثم لم يتمالك
أن قال:
إلهي، أعوذ بك من مقال الكاذبين، وإعراض الغافلين، إلهي، لك
خضعت
قلوب العارفين، وذلَّت هيبة المشتاقين، إلهي هب لي جودك،
وجللني بسترك، واعف عن توبيخي بكرم وجهك، يا أرحم الراحمين.
(3/1420)
مناقب الشَّافِعِي: عبادته وكثرة قراءته
للقرآن:
وروى الحافظ ابن عساكر أن الشَّافِعِي رحمه اللَّه قرأ يوماً
هذه الآية:
(هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38)
فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (40) .. الآيات.
فلم يزل يبكي حتى غُشِيَ عليه، رحمه اللَّه.
(3/1421)
|