تفسير البغوي طيبة

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)

سُورَةُ التَّحْرِيمِ مَدَنِيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) }
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هُشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ [وَيُحِبُّ] (2) الْعَسَلَ وَكَانَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ جَازَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَاحْتَبَسَ عِنْدَهَا أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لِي: أَهَدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةَ عَسَلٍ فَسَقَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا شَرْبَةً، فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَوْدَةَ، وَقُلْتُ: إِذَا دَخَلَ عَلَيْكِ فَإِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ فَقُولِي لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ: لَا فَقُولِي لَهُ: مَا هَذِهِ الرِّيحُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ، فَإِنَّهُ سَيَقُولُ: سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، فَقُولِي لَهُ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، وَسَأَقُولُ ذَلِكَ وَقَوْلِيهِ أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى سَوْدَةَ، تَقُولُ سَوْدَةُ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ كِدْتُ أَنْ أَبَادِيهِ بِالَّذِي قُلْتِ لِي وَإِنَّهُ لَعَلَى الْبَابِ، فَرَقًا مِنْكِ فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ قَالَ: لَا قُلْتُ: فَمَا بَالُ هَذِهِ الرِّيحِ! قَالَ: سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، قَالَتْ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيَّ قُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَدَخَلَ عَلَى صَفِيَّةَ
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة التحريم بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: أنزلت بالمدينة سورة النساء و (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) . انظر: الدر المنثور: 8 / 213.
(2) زيادة من "أ".

(8/159)


فَقَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ قَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَّا أَسْقِيكَ مِنْهُ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهِ تَقُولُ سَوْدَةُ: سُبْحَانَ اللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ، قَالَتْ: قُلْتُ لَهَا اسْكُتِي (1)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّبَّاحُ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: زَعْمَ عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ عَبِيدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ سُمِعَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْتَقُلْ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ، فَنَزَلَتْ: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لك تبتغي مرضات أَزْوَاجِكَ" إِلَى قَوْلِهِ: "إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ" لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} لِقَوْلِهِ: بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا (2)
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ بِإِسْنَادِهِ وَقَالَ: قَالَ: لَا وَلَكِنْ كُنْتُ أَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَلَنْ أَعُودَ لَهُ، وَقَدْ حَلَفْتُ لَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا يَبْتَغِي بِذَلِكَ مَرْضَاةَ أَزْوَاجِهِ (3) .
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ حَفْصَةَ اسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زِيَارَةِ أَبِيهَا فَأَذِنَ لَهَا، فَلَمَّا خَرَجَتْ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَارِيَتِهِ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ فَأَدْخَلَهَا بَيْتَ حَفْصَةَ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَلَمَّا رَجَعَتْ حَفْصَةُ وَجَدَتِ الْبَابَ مُغْلَقًا فَجَلَسَتْ عِنْدَ الْبَابِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَجْهُهُ يَقْطُرُ عَرَقًا، وَحَفْصَةُ تَبْكِي فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ فَقَالَتْ: إِنَّمَا أَذِنْتَ لِي مِنْ أَجْلِ هَذَا أَدْخَلْتَ أَمَتَكَ بَيْتِي، ثُمَّ وَقَعْتَ عَلَيْهَا فِي يَوْمِي وَعَلَى فِرَاشِي، أَمَا رَأَيْتَ لِي حُرْمَةً وَحَقًّا؟ مَا كُنْتَ تَصْنَعُ هَذَا بِامْرَأَةٍ مِنْهُنَّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَيْسَتْ هِيَ جَارِيَتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ لِي؟ اسْكُتِي فَهِيَ حَرَامٌ عَلَيَّ أَلْتَمِسُ بِذَاكَ رِضَاكِ، فَلَا تُخْبِرِي بِهَذَا امْرَأَةً مِنْهُنَّ. فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَعَتْ حَفْصَةُ الْجِدَارَ الَّذِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: أَلَّا أُبَشِّرُكِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
__________
(1) أخرجه البخاري في الطلاق، باب (لم تحرم ما أحل الله لك) 9 / 374-375، ومسلم في الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق برقم (1474) : 2 / 1101-1102.
(2) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة التحريم - باب (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) 8 / 656، ومسلم في الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق برقم: (1474) 2 / 1100، والمصنف في شرح السنة: 9 / 226.
(3) أخرجه البخاري في الطلاق، باب (لم تحرم ما أحل الله لك) 9 / 374.

(8/162)


قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)

حَرَّمَ عَلَيْهِ أَمَتَهُ مَارِيَةَ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَرَاحَنَا مِنْهَا وَأَخْبَرَتْ عَائِشَةَ بِمَا رَأَتْ، وَكَانَتَا مُتَصَافِيَتَيْنِ مُتَظَاهِرَتَيْنِ عَلَى سَائِرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَغَضِبَتْ عَائِشَةُ فَلَمْ تَزَلْ بِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى حَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (1) "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ" يَعْنِي الْعَسَلَ وَمَارِيَةَ "تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" وَأَمْرَهُ أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ وَيُرَاجِعَ أَمَتَهُ، فَقَالَ:
{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) }
{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أَيْ بَيَّنَ وَأَوجَبَ أَنْ تُكَفِّرُوهَا إِذَا حَنِثْتُمْ وَهِيَ مَا ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ {وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ} وَلِيُّكُمْ وَنَاصِرُكُمْ {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي لَفْظِ التَّحْرِيمِ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ هُوَ بِيَمِينٍ، فَإِنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ حَرَّمْتُكِ، فَإِنَّ نَوَى بِهِ طَلَاقًا فَهُوَ طَلَاقٌ، وَإِنَّ نَوَى بِهِ ظِهَارًا فَظِهَارٌ. وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمَ ذَاتِهَا أَوْ أَطْلَقَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ بِنَفْسِ اللَّفْظِ. وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ لِجَارِيَتِهِ فَإِنَّ نَوَى عِتْقًا عُتِقَتْ، وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمَ ذَاتِهَا أَوْ أَطْلَقَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَإِنْ قَالَ لِطَعَامٍ: حَرَّمْتُهُ عَلَى نَفْسِي فَلَا شَيْءِ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَمِينٌ، فَإِنْ قَالَ ذلك لزوجته 168/ب أَوْ جَارِيَتِهِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ مَا لَمْ يَقْرَبْهَا كَمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَهَا. وَإِنْ حَرَّمَ طَعَامًا فَهُوَ كَمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَهُ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَأْكُلْ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَائِشَةَ وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هُشَامٌ عَنْ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ حَكِيمٍ، وَهُوَ يَعْلَى بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ فِي الْحَرَامِ: يُكَفِّرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ" (2) (الْأَحْزَابِ-21) . {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} وَهُوَ تَحْرِيمُ فَتَاتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَوْلُهُ لِحَفْصَةَ: لَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا.
__________
(1) انظر: الطبري: 28 / 157، ابن كثير: 4 / 387، الدر المنثور: 8 / 216-217.
(2) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة التحريم - باب (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ... ) 8 / 656، ومسلم في الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق برقم: (1473) 2 / 1100.

(8/163)


وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَسَرَّ أَمْرَ الْخِلَافَةِ بَعْدَهُ فَحَدَّثَتْ بِهِ حَفْصَةُ (1) . قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَسَرَّ إِلَيْهَا أَنَّ أَبَاكِ وَأَبَا عَائِشَةَ يَكُونَانِ خَلِيفَتَيْنِ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: أَسَرَّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي (2) .
{فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} أَخْبَرَتْ بِهِ حَفْصَةُ عَائِشَةَ {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} أَيْ أَطْلَعَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَى أَنَّهَا أَنْبَأَتْ بِهِ {عَرَّفَ بَعْضَهُ} قَرَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَالْكِسَائِيُّ: "عَرَفَ" بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ، أَيْ: عَرَفَ بَعْضَ الْفِعْلِ الَّذِي فَعَلَتْهُ مِنْ إِفْشَاءِ سِرِّهِ، أَيْ: غَضِبَ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهَا وَجَازَاهَا بِهِ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ: لِأَعْرِفَنَّ لَكَ مَا فَعَلْتَ، أَيْ: لِأُجَازِيَنَّكَ عَلَيْهِ، وَجَازَاهَا بِهِ عَلَيْهِ بِأَنْ طَلَّقَهَا فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ قَالَ: لَوْ كَانَ فِي آلِ الْخَطَّابِ خَيْرٌ لَمَا طَلَّقَكِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَجَاءَ جِبْرِيلُ وَأَمَرَهُ بِمُرَاجَعَتِهَا وَاعْتَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ شَهْرًا وَقَعَدَ فِي مَشْرُبَةِ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ مَارِيَةَ، حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ (3) .
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفْصَةَ وَإِنَّمَا هَمَّ بِطَلَاقِهَا فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ: لَا تُطَلِّقْهَا فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ وَإِنَّهَا مِنْ نِسَائِكَ فِي الْجَنَّةِ، فَلَمْ يُطَلِّقْهَا.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "عَرَّفَ" بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: عَرَّفَ حَفْصَةَ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ، أَيْ أَخْبَرَهَا بِبَعْضِ الْقَوْلِ الَّذِي كَانَ مِنْهَا.
{وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} يَعْنِي لَمْ يُعَرِّفْهَا إِيَّاهُ، وَلَمْ يُخْبِرْهَا بِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: مَا اسْتَقْصَى كَرِيمٌ قَطُّ (4) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى الْكَرَاهِيَةَ فِي وَجْهِ حَفْصَةَ أَرَادَ أَنْ يَتَرَاضَاهَا فَأَسَرَّ إِلَيْهَا شَيْئَيْنِ: تَحْرِيمَ الْأَمَةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَتَبْشِيرَهَا بِأَنَّ الْخِلَافَةَ بَعْدَهُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَفِي أَبِيهَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأَخْبَرَتْ بِهِ حَفْصَةُ عَائِشَةَ وَأَطْلَعَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَيْهِ، عَرَّفَ [بَعْضَهُ] (5) حَفْصَةَ وَأَخْبَرَهَا بِبَعْضِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ عَائِشَةُ وَهُوَ تَحْرِيمُ الْأَمَةِ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ، يَعْنِي ذِكْرَ الْخِلَافَةِ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْتَشِرَ ذَلِكَ فِي النَّاسِ {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} أَيْ
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 219 لابن مردويه.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 218 لابن عساكر، وما انفرد به فهو ضعيف.
(3) قال الحافظ - ابن حجر - في الكافي الشاف ص (175) "لم أره هكذا وهو عند الحاكم وغيره بغير ذكر سببه".
(4) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 219 لابن مردويه عن على رضي الله عنه.
(5) ساقط من "أ".

(8/164)


إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)

أَخْبَرَ حَفْصَةَ بِمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ {قَالَتْ} حَفْصَةُ {مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} أَيْ: مَنْ أَخْبَرَكَ بِأَنِّي أَفْشَيْتُ السِّرَّ؟ {قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ}
{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) }
{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} أَيْ مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِيذَاءِ. يُخَاطِبُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أَيْ زَاغَتْ وَمَالَتْ عَنِ الْحَقِّ وَاسْتَوْجَبْتُمَا التَّوْبَةَ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَالَتْ قُلُوبُهُمَا بِأَنْ سَرَّهُمَا مَا كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اجْتِنَابِ جَارِيَتِهِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمَا: "إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا" حَتَّى حَجَّ وَحَجَجْتُ مَعَهُ وَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِإِدَاوَةٍ، فتبَّرَّزَ ثُمَّ جَاءَ فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْهَا فَتَوَضَأَ فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنِ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمَا: "إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا"؟ فَقَالَ: وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ هَمَا عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ.
ثُمَّ اسْتَقْبَلَ عُمَرُ الْحَدِيثَ يَسُوقُهُ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْزِلُ يَوْمًا وأَنْزِلُ يَوْمًا فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِمَا حَدَثَ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْوَحْيِ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الْأَنْصَارِ إِذَا هُمْ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ فَصَخِبَتْ عَلَيَّ امْرَأَتِي فَرَاجَعَتْنِي فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي فَقَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أَرَاجِعَكَ! فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لِتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ. فَأَفْزَعَنِي وَقَلْتُ: خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ.
ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي [فَنَزَلْتُ] (1) فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ لَهَا: أَيْ حَفْصَةُ أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: خِبْتِ وَخَسِرْتِ، أَفَتَأْمَنِينَ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ تَعَالَى لِغَضَبِ رَسُولِهِ فَتَهْلَكِي لَا تَسْتَكْثِرِي لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ وَلَا تَهْجُرِيهِ وَسَلِينِي
__________
(1) زيادة من "ب".

(8/165)


مَا بَدَا لَكِ، وَلَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ [جَارَتُكِ] (1) [أَوْضَأَ] (2) مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يُرِيدُ عَائِشَةَ -.
قَالَ عُمَرُ: وَكُنَّا تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ لِتَغْزُوَنَا فَنَزَلَ صَاحِبِي الْأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ فَرَجَعَ إِلَيْنَا عِشَاءً فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا وَقَالَ: أَثَمَّ هُوَ؟
فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: قَدْ حَدَثَ الْيَوْمَ أَمْرٌ عَظِيمٌ؟ فَقُلْتُ: مَا هُوَ أَجَاءَ غَسَّانُ! قَالَ: لَا بَلْ أَعْظَمُ مِنْهُ وَأَهْوَلُ، طَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ. فَقُلْتُ: قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ.
فَجَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي وَصَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْرُبَةً فَاعْتَزَلَ فِيهَا فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِيَ تَبْكِي، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ أَلَمْ أَكُنْ حَذَّرْتُكِ؟ أَطَلَّقَكُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَتْ: لَا أَدْرِي هَا هُوَ ذَا مُعْتَزِلٌ فِي الْمَشْرُبَةِ. فَجِئْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ فَإِذَا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ، فَجَلَسْتُ معهم قليلا 169/أثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَجِئْتُ الْمَشْرُبَةَ الَّتِي فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لِغُلَامٍ لَهُ أَسْوَدَ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ فَكَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: كَلَّمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ، فَانْصَرَفْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ فَقُلْتُ إِلَى الْغُلَامِ فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ فَاسْتَأْذَنَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ [فَرَجَعْتُ فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْغُلَامَ فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَاسْتَأْذَنَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ فَقَالَ: قَدْ ذَكَّرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ] (3) .
فَلَمَّا وَلَّيْتُ مُنْصَرِفًا قَالَ إِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي فَقَالَ: قَدْ أَذِنَ لَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَرَفَعَ إِلَيَّ بَصَرَهُ فَقَالَ: لَا فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ أَسْتَأْنِسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَنِي وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَنِي وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا: لَا يَغُرَّنَّكَ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ [أَوْضَأَ] (4) مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يُرِيدُ عَائِشَةَ -فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَسُّمَةً أُخْرَى، فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ يَبْتَسِمُ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ
__________
(1) في "ب" جاريتك.
(2) في "أ" أرضى.
(3) زيادة من "ب".
(4) في "أ" أرضى.

(8/166)


ثَلَاثَةٍ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ قَدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا مِنَ الدُّنْيَا وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ.
فَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: "أَوْ فِي هَذَا أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ إِنَّ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلُوا طَيِّبَاتِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا".
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِي.
فَاعْتَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ حِينَ أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ قَالَ: مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا -مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حِينَ عَاتَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَبَدَأَ بِهَا فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ كُنْتَ أَقْسَمْتَ أَنْ لَا تَدَخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا وَإِنَّمَا أَصْبَحْتَ مِنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهَا عَدًّا! فَقَالَ: الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، وَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً.
قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ التَّخْيِيرَ فَبَدَأَ بِي أَوَّلَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ، فَاخْتَرْتُهُ ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ كُلَّهُنَّ فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهَا حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُخَيِّرَ أَزْوَاجَهُ فَبَدَأَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا عَلَيْكِ [أَنْ لَا تَعْجَلِي] (2) حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ قَالَتْ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ" إِلَى تَمَامِ الْآيَتَيْنِ، فَقُلْتُ: أَوَ فِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ (3)
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ
__________
(1) أخرجه البخاري في المظالم، باب الغرفة والعلية المشرفة وغير المشرفة في السطوح وغيرها: 5 / 114-116 واللفظ له، ومسلم في الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن وقوله تعالى: (وإن تظاهرا عليه) برقم (1479) 2 / 1111-1113.
(2) في "أ" (أن تستعجلي) .
(3) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة الأحزاب، باب (قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا) 8 / 519.

(8/167)


عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)

الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ سِمَاكِ [بْنِ زُمَيْلٍ] (1) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا اعْتَزَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَالَ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ؟ فَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَكَ وَمَلَائِكَتَهُ وَجِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَأَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَكَ. وَقَلَّمَا تَكَلَّمْتُ -وَأَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى -بِكَلَامٍ إِلَّا رَجَوْتُ أَنَّ اللَّهَ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: "عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ". "وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ" (2) .
قَوْلُهُ: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} أَيْ تَتَظَاهَرَا وَتَتَعَاوَنَا عَلَى أَذَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِتَخْفِيفِ الظَّاءِ، وَالْآخَرُونَ بِتَشْدِيدِهَا.
{فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ} أَيْ وَلِيُّهُ وَنَاصِرُهُ: {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبِيِّ بْنِ كَعْبٍ: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (3) قَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمُ الْمُخْلِصُونَ الَّذِي لَيْسُوا بِمُنَافِقِينَ. {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} قَالَ مُقَاتِلٌ: بَعْدَ اللَّهِ وَجِبْرِيلَ "وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ" أَيْ: أَعْوَانٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا مِنَ الْوَاحِدِ الَّذِي يُؤَدِّي عَنِ الْجَمْعِ، كَقَوْلِهِ: "وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا" (النَّسِاءِ-69) .
{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) }
{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} أَيْ: وَاجِبٌ مِنَ اللَّهِ إِنْ طَلَّقَكُنَّ رَسُولُهُ {أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ} خَاضِعَاتٍ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ {مُؤْمِنَاتٍ} مُصَدِّقَاتٍ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ {قَانِتَاتٍ} طَائِعَاتٍ، وَقِيلَ: دَاعِيَاتٍ. وَقِيلَ: مُصَلِّيَاتٍ {تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ} صَائِمَاتٍ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: مُهَاجِرَاتٍ وَقِيلَ: يَسِحْنَ مَعَهُ حَيْثُ مَا سَاحَ {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} وَهَذَا فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْقُدْرَةِ لَا عَنِ الْكَوْنِ لِأَنَّهُ قَالَ: "إِنْ طَلَّقَكُنَّ" وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُطَلِّقُهُنَّ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: "وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ
__________
(1) هكذا في "أ" وفي "ب" (ابن أبي زميل) وكلاهما خطأ والصحيح (أبي زميل) كما في التهذيب وعند مسلم.
(2) قطعة من حديث طويل أخرجه مسلم في الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن ... برقم (1479) 2 / 1105-1108.
(3) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 223 لابن عساكر، وقد أشار في مقدمة الجامع إلى أن العزو لابن عساكر مؤذن بالضعف.

(8/168)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)

قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ" (مُحَمَّدٍ-38) وَهَذَا فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ أُمَّةٌ خَيْرٌ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) }

(8/169)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ} قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ بِالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَاكُمُ اللَّهُ تعالى عنه 169/ب وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ {وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} يَعْنِي: مُرُوهُمْ بِالْخَيْرِ وَانْهُوهُمْ عَنِ الشَّرِّ وَعَلِّمُوهُمْ وَأَدِّبُوهُمْ تَقُوهُمْ بِذَلِكَ نَارًا {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ} يَعْنِي خَزَنَةَ النَّارِ {غِلَاظٌ} فِظَاظٌ عَلَى أَهْلِ النَّارِ {شِدَادٌ} أَقْوِيَاءُ يَدْفَعُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بِالدَّفْعَةِ الْوَاحِدَةِ سَبْعِينَ أَلْفًا فِي النَّارِ وَهُمُ الزَّبَانِيَةُ، لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ فِيهِمُ الرَّحْمَةَ {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} قَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: "نُصُوحًا" بِضَمِّ النُّونِ، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِفَتْحِهَا أَيْ: تَوْبَةً ذَاتَ نُصْحٍ تَنْصَحُ صَاحِبَهَا بِتَرْكِ الْعَوْدِ إِلَى مَا تَابَ مِنْهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهَا قَالَ عُمَرُ وَأُبَيٌّ وَمُعَاذٌ: "التَّوْبَةُ النَّصُوحُ" أَنْ يَتُوبَ ثُمَّ لَا يَعُودَ إِلَى الذَّنْبِ، كَمَا لَا يَعُودُ اللَّبَنُ إِلَى الضَّرْعِ (1) .
قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ نَادِمًا عَلَى مَا مَضَى؛ مُجْمِعًا عَلَى أَلَّا يَعُودَ فِيهِ (2) .
قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَنْ يَسْتَغْفِرَ بِاللِّسَانِ وَيَنْدَمَ بِالْقَلْبِ وَيُمْسِكَ بِالْبَدَنِ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: تَوْبَةً تَنْصَحُونَ بِهَا أَنْفُسَكُمْ.
قَالَ الْقُرَظِيُّ: يَجْمَعُهَا أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ وَالْإِقْلَاعُ بِالْأَبْدَانِ وَإِضْمَارُ تَرْكِ الْعَوْدِ
__________
(1) قال ابن حجر في المطالب العالية: 3 / 390: أخرجه أحمد بن منيع في مسنده، وإسناده صحيح موقوف. ورواه الطبري: 28 / 167.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 227 لعبد بن حميد.

(8/169)


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)

بِالْجَنَانِ وَمُهَاجَرَةُ سَيِّئِ الْإِخْوَانِ.
{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} أَيْ لَا يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ بِدُخُولِ النَّارِ {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} عَلَى الصِّرَاطِ {يَقُولُونَ} إِذْ طَفِئَ نُورُ الْمُنَافِقِينَ {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) }
ثُمَّ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلصَّالِحِينَ وَالصَّالِحَاتِ مِنَ النِّسَاءِ فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ} وَاسْمُهَا وَاعِلَةُ {وَامْرَأَةَ لُوطٍ} وَاسْمُهَا وَاهِلَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَالِعَةُ وَوَالِهَةُ.
{كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} وَهُمْا نُوحٌ وَلُوطٌ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ {فَخَانَتَاهُمَا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ وَإِنَّمَا كَانَتْ خِيَانَتُهُمَا أَنَّهُمَا كَانَتَا عَلَى غَيْرِ دِينِهِمَا فَكَانَتِ امْرَأَةُ نُوحٍ تَقُولُ لِلنَّاسِ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ، وَإِذَا آمَنَ بِهِ أَحَدٌ أَخْبَرَتْ بِهِ الْجَبَابِرَةَ وَأَمَّا امْرَأَةُ لُوطٍ [فَإِنَّهَا كَانَتْ] (1) تَدُلُّ قَوْمَهُ عَلَى أَضْيَافِهِ إِذَا نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ بِاللَّيْلِ أَوْقَدَتِ النَّارَ، وَإِذَا نَزَلَ بِالنَّهَارِ دَخَّنَتْ لِيَعْلَمَ قَوْمُهُ أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَسَرَّتَا النِّفَاقَ وَأَظْهَرَتَا الْإِيمَانَ.
{فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} لَمْ يَدْفَعَا عَنْهُمَا مَعَ نُبُوَّتِهِمَا عَذَابَ اللَّهِ {وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".

(8/170)


وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)

قَطَعَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ طَمَعَ كُلِّ مَنْ يَرْكَبُ الْمَعْصِيَةَ أَنْ يَنْفَعَهُ صَلَاحُ غَيْرِهِ.
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) }
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ مَعْصِيَةَ غَيْرِهِ لَا تَضُرُّهُ إِذَا كَانَ مُطِيعًا فَقَالَ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} وَهِيَ آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا غَلَبَ مُوسَى السَّحَرَةَ آمَنَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَلَمَّا تَبَيَّنَ لِفِرْعَوْنَ إِسْلَامُهَا أَوْتَدَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا بِأَرْبَعَةِ أَوْتَادٍ وَأَلْقَاهَا فِي الشَّمْسِ.
قَالَ سَلْمَانُ: كَانَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ تُعَذَّبُ بِالشَّمْسِ فَإِذَا انْصَرَفُوا عَنْهَا أَظَلَّتْهَا الْمَلَائِكَةُ (1) .
{إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} فَكَشْفَ اللَّهُ لَهَا عَنْ بَيْتِهَا فِي الْجَنَّةِ حَتَّى رَأَتْهُ.
وَفِي الْقِصَّةِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ أَمَرَ بِصَخْرَةٍ عَظِيمَةٍ لِتُلْقَى عَلَيْهَا فَلَمَّا أَتَوْهَا بِالصَّخْرَةِ قَالَتْ: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ فَأَبْصَرَتْ بَيْتَهَا فِي الْجَنَّةِ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، وَانْتُزِعَ رُوحُهَا فَأُلْقِيَتِ الصَّخْرَةُ عَلَى جَسَدٍ لَا رُوحَ فِيهِ وَلَمْ تَجِدْ أَلَمًا.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ كَيْسَانَ: رَفَعَ اللَّهُ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِلَى الْجَنَّةِ فَهِيَ فِيهَا تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ.
{وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} قَالَ مُقَاتِلٌ: وَعَمَلِهِ يَعْنِي الشِّرْكَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ "وَعَمَلِهِ" قَالَ: جِمَاعُهُ. {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الْكَافِرِينَ. {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ} أَيْ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا وَلِذَلِكَ ذَكَرَ الْكِنَايَةَ {مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} يَعْنِي الشَّرَائِعَ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لِلْعِبَادِ بِكَلِمَاتِهِ الْمُنَزَّلَةِ {وَكُتُبِهِ} قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَحَفْصٌ: "وَكُتُبِهِ" عَلَى الْجَمْعِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "وَكِتَابِهِ" عَلَى التَّوْحِيدِ. وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْكَثْرَةُ أَيْضًا. وَأَرَادَ بِكُتُبِهِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَدَاودَ وَعِيسَى
__________
(1) أخرجه الطبري: 28 / 171، وأبو يعلى: 6 / 53، قال ابن حجر في المطالب العالية: 3 / 390 صحيح موقوف.

(8/171)


عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} أَيْ مِنَ الْقَوْمِ الْقَانِتِينَ الْمُطِيعِينَ لِرَبِّهَا وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ مِنَ الْقَانِتَاتِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: "مِنَ الْقَانِتِينَ" أَيْ مِنَ الْمَصَلِّينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالْقَانِتِينَ رَهْطَهَا وَعَشِيرَتَهَا فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ صَلَاحٍ مُطِيعِينَ لِلَّهِ.
وَرُوِّينَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ" (1) .
__________
(1) صحيح أخرجه الترمذي في المناقب، فضل خديجة رضي الله عنها: 10 / 389-390 وقال: "هذا حديث صحيح" وصححه الحاكم: 3 / 157، وعبد الرزاق: 11 / 430، والطحاوي في مشكل الآثار: 1 / 50، وأبو نعيم في الحلية: 2 / 344، والإمام أحمد: 3 / 135، والمصنف في شرح السنة: 19 / 157.

(8/172)


تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)

سُورَةُ الْمُلْكِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) }
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْمَوْتَ فِي الدُّنْيَا وَالْحَيَاةَ فِي الْآخِرَةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَرَادَ مَوْتَ الْإِنْسَانِ وَحَيَاتَهُ فِي الدُّنْيَا جَعَلَ اللَّهُ الدُّنْيَا دَارَ حَيَاةٍ وَفَنَاءٍ، وَجَعْلَ الْآخِرَةَ دَارَ جَزَاءٍ وَبَقَاءٍ (2) .
قِيلَ إِنَّمَا قَدَّمَ الْمَوْتَ لِأَنَّهُ إِلَى الْقَهْرِ أَقْرَبُ: وَقِيلَ: قَدَّمَهُ لِأَنَّهُ أَقْدَمُ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَتْ فِي حُكْمِ الْمَوْتِ كَالنُّطْفَةِ وَالتُّرَابِ وَنَحْوِهِمَا ثُمَّ اعْتَرَضَتْ عَلَيْهَا الْحَيَاةُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَلَقَ الْمَوْتَ عَلَى صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ لَا يَمُرُّ بِشَيْءٍ وَلَا يَجِدُ رِيحَهُ شَيْءٌ إِلَّا مَاتَ وَخَلَقَ الْحَيَاةَ عَلَى صُورَةِ فَرَسٍ بَلْقَاءَ [أُنْثَى] (3) وَهِيَ الَّتِي كَانَ جِبْرِيلُ وَالْأَنْبِيَاءُ يَرْكَبُونَهَا لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ وَلَا يَجِدُ رِيحَهَا شَيْءٌ إِلَّا حَيِيَ، وَهِيَ الَّتِي أَخَذَ السَّامِرِيُّ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِهَا فَأَلْقَى عَلَى الْعِجْلِ فَحَيِيَ.
{لِيَبْلُوَكُمْ} فِيمَا بَيْنَ [الْحَيَاةِ إِلَى الْمَوْتِ] (4) {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
__________
(1) أخرج ابن الضريس والبخاري وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت بمكة تبارك الملك. انظر: الدر المنثور: 8 / 230.
(2) انظر: الدر المنثور: 8 / 234.
(3) ساقط من "أ".
(4) في "ب" الموت والحياة.

(8/173)


الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)

مَرْفُوعًا: " أَحْسَنُ عَمَلًا" أَحْسَنُ عَقْلًا وَأَوْرَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، وَأَسْرَعُ فِي طاعة الله 170/أ
وَقَالَ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ "أَحْسَنُ عَمَلًا" أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ. وَقَالَ: الْعَمَلُ لَا يُقْبَلُ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا الْخَالِصُ: إِذَا كَانَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ: إِذَا كَانَ عَلَى السُّنَّةِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيُّكُمْ أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَأَتْرَكُ لَهَا.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَمْ يُوقِعِ الْبَلْوَى عَلَى "أَيٍّ" [إِلَّا] (1) وَبَيْنَهُمَا إِضْمَارٌ كَمَا تَقُولُ بَلَوْتُكُمْ لِأَنْظُرَ أَيُّكُمْ أَطْوَعُ (2) . وَمِثْلُهُ: "سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ" (الْقَلَمِ-40) أَيْ: سَلْهُمْ وَانْظُرْ أَيَّهُمْ فَـ"أَيُّ": رُفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ "وَأَحْسَنُ" خَبَرُهُ {وَهُوَ الْعَزِيزُ} فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ عَصَاهُ {الْغَفُورُ} لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ.
{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) }
{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} طَبَقًا عَلَى طَبَقٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "مِنْ تَفَوُّتٍ" بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ بِلَا أَلِفٍ، وَقَرَأَ الْأَخَرُونَ بِتَخْفِيفِ الْوَاوِ وَأَلِفٍ قَبْلَهَا. وَهُمَا لُغَتَانِ كَالتَّحَمُّلِ وَالتَّحَامُلِ وَالتَّطَهُّرِ وَالتَّطَاهُرِ. وَمَعْنَاهُ: مَا تَرَى يَا ابْنَ آدَمَ فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنَ اعْوِجَاجٍ وَاخْتِلَافٍ وَتَنَاقُضٍ بَلْ هِيَ مُسْتَقِيمَةٌ مُسْتَوِيَةٌ. وَأَصْلُهُ مِنَ "الْفَوْتِ" (3) وَهُوَ أَنْ يَفُوتَ بَعْضُهَا بَعْضًا لِقِلَّةِ اسْتِوَائِهَا {فَارْجِعِ الْبَصَرَ} كَرِّرِ النَّظَرَ، مَعْنَاهُ: انْظُرْ ثُمَّ ارْجِعْ {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} شُقُوقٍ وَصُدُوعٍ.
{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ {يَنْقَلِبْ} يَنْصَرِفْ وَيَرْجِعْ {إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا} صَاغِرًا ذَلِيلًا مُبْعَدًا لَمْ يَرَ مَا يَهْوَى {وَهُوَ حَسِيرٌ} كَلِيلٌ مُنْقَطِعٌ لَمْ يُدْرِكْ مَا طَلَبَ. وَرُوِيَ عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: السَّمَاءُ الدُّنْيَا مَوْجٌ مَكْفُوفٌ وَالثَّانِيَةُ مَرْمَرَةٌ بَيْضَاءُ وَالثَّالِثَةُ حَدِيدٌ وَالرَّابِعَةُ [صَفْرَاءُ] (4) وَقَالَ: نُحَاسٌ وَالْخَامِسَةُ فِضَّةٌ وَالسَّادِسَةُ ذَهَبٌ وَالسَّابِعَةُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ بَيْنَ [السَّمَاءِ] (5) السَّابِعَةِ إِلَى الْحُجُبِ السَّبْعَةِ صَحَارِي مِنْ نُورٍ (6) .
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) معاني القرآن للفراء: 3 / 169.
(3) في "أ" القرب: وهو تصحيف.
(4) في "ب" صفر.
(5) ساقط من "ب".
(6) انظر:البحر المحيط: 8 / 298 وقد عقب على الرواية فقال: " ... والسابعة من زمردة بيضاء،يحتاج إلى نقل صحيح، وقد كان بعض من ينتمي إلى الصلاح - وكان أعمى لا يبصر موضع قدميه - يخبر أنه يشاهد السماوات على بعض أوصاف مما ذكرنا ".

(8/176)


وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)

{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) }
{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} أَرَادَ الْأَدْنَى مِنَ الْأَرْضِ وَهِيَ الَّتِي يَرَاهَا النَّاسُ. {بِمَصَابِيحَ} [أَيِ: الْكَوَاكِبَ وَاحِدُهَا: مِصْبَاحٌ وَهُوَ السِّرَاجُ سُمِّيَ الْكَوْكَبُ مِصْبَاحًا] (1) لِإِضَاءَتِهِ {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا} مَرَامِيَ {لِلشَّيَاطِينِ} إِذَا اسْتَرَقُوا السَّمْعَ {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ} فِي الْآخِرَةِ {عَذَابَ السَّعِيرِ} النَّارَ الْمُوقَدَةَ. {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا} وَهُوَ أَوَّلُ نَهِيقِ الْحِمَارِ وَذَلِكَ أَقْبَحُ الْأَصْوَاتِ {وَهِيَ تَفُورُ} تَغْلِي بِهِمْ كَغَلْيِ الْمِرْجَلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَفُورُ بِهِمْ كَمَا يَفُورُ الْمَاءُ الْكَثِيرُ بِالْحَبِّ الْقَلِيلِ.
{تَكَادُ تَمَيَّزُ} تَنْقَطِعُ {مِنَ الْغَيْظِ} مِنْ تَغِيُّظِهَا عَلَيْهِمْ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: تَكَادُ تَنْشَقُّ غَيْظًا عَلَى الْكُفَّارِ {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} سُؤَالَ تَوْبِيخٍ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} رَسُولٌ يُنْذِرُكُمْ.
{قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا} لِلرُّسُلِ (2) {مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ}
{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ} مِنَ الرُّسُلِ مَا جَاءُونَا بِهِ {أَوْ نَعْقِلُ} مِنْهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ الْهُدَى أَوْ نَعْقِلُهُ فَنَعْمَلُ بِهِ {مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} قَالَ الزَّجَّاجُ: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ سَمْعَ مَنْ يَعِي وَيَتَفَكَّرُ أَوْ نَعْقِلُ عَقْلَ مَنْ يُمَيِّزُ وَيَنْظُرُ مَا كُنَّا مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
{فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا} بُعْدًا {لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْكِسَائِيُّ "فَسُحُقًا"
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) في "أ" للرسول.

(8/177)


إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)

بِضَمِّ الْحَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ الرُّعُبِ وَالرُّعْبِ وَالسُّحُتِ وَالسُّحْتِ.
{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) }

(8/178)


وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)

{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) }
{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَنَالُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْبِرُهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا قَالُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ كَيْ لَا يَسْمَعَ إِلَهُ مُحَمَّدٍ (1) .
فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} أَلَّا يَعْلَمُ مَا فِي الصُّدُورِ مَنْ خَلَقَهَا {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} لَطِيفٌ عِلْمُهُ فِي الْقُلُوبِ الْخَبِيرُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْوَسْوَسَةِ. وَقِيلَ "مَنْ" يَرْجِعُ إِلَى الْمَخْلُوقِ، أَيْ أَلَّا يَعْلَمَ اللَّهُ مَخْلُوقَهُ؟
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا} سَهْلًا لَا يَمْتَنِعُ الْمَشْيُ فِيهَا بِالْحُزُونَةِ {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: فِي جِبَالِهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فِي آكَامِهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي طُرُقِهَا وَفِجَاجِهَا. قَالَ الْحَسَنُ: فِي سُبُلِهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فِي أَطْرَافِهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِي نَوَاحِيهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي جَوَانِبِهَا (2) وَالْأَصْلُ فِي الْكَلِمَةِ الْجَانِبُ، وَمِنْهُ مَنْكِبُ الرَّجُلِ وَالرِّيحُ النَّكْبَاءُ وَتَنَكَّبَ فُلَانٌ [أَيْ جَانَبَ] (3) {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} مِمَّا خَلَقَهُ رِزْقًا لَكُمْ فِي الْأَرْضِ. {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} أَيْ: وَإِلَيْهِ تُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ. ثُمَّ خَوَّفَ الْكُفَّارَ فَقَالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ: عَذَابَ مَنْ فِي السَّمَاءِ إِنْ عَصَيْتُمُوهُ {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} قَالَ الْحَسَنُ: تَتَحَرَّكُ بِأَهْلِهَا. وَقِيلَ: تَهْوِي بِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحَرِّكُ الْأَرْضَ عِنْدَ الْخَسْفِ بِهِمْ حَتَّى تُلْقِيَهُمْ إِلَى أَسْفَلَ، تَعْلُو عَلَيْهِمْ وَتَمُرُّ فَوْقَهُمْ. يُقَالُ: مَارَ يَمُورُ، أَيْ: جَاءَ وَذَهَبَ.
__________
(1) انظر: زاد المسير: 8 / 321.
(2) معاني القرآن للفراء: 3 / 171.
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".

(8/178)


أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)

{أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) }
{أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} رِيحًا ذَاتَ حِجَارَةٍ كَمَا فَعَلَ بِقَوْمِ لُوطٍ. {فَسَتَعْلَمُونَ} فِي الْآخِرَةِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ {كَيْفَ نَذِيرِ} أَيْ إِنْذَارِي إِذَا عَايَنْتُمُ الْعَذَابَ.
{وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يَعْنِي كُفَّارَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أَيْ إِنْكَارِي عَلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ.
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} تَصُفُّ أَجْنِحَتَهَا فِي الْهَوَاءِ {وَيَقْبِضْنَ} أَجْنِحَتَهَا بَعْدَ الْبَسْطِ {مَا يُمْسِكُهُنَّ} فِي حَالِ الْقَبْضِ [وَالْبَسْطِ] (1) أَنْ يَسْقُطْنَ {إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ}
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ} اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ مَنَعَةٌ لَكُمْ {يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} يَمْنَعُكُمْ مِنْ عَذَابِهِ وَيَدْفَعُ عَنْكُمْ مَا أَرَادَ بِكُمْ. {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} أَيْ فِي غُرُورٍ مِنَ الشَّيْطَانِ يَغُرُّهُمْ بِأَنَّ الْعَذَابَ لَا يَنْزِلُ بِهِمْ.
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} أَيْ مِنَ الَّذِي يَرْزُقُكُمُ الْمَطَرَ إِنْ أَمْسَكَ اللَّهُ [عَنْكُمْ] (2) {بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ} تَمَادٍ فِي الضَّلَالِ {وَنُفُورٍ} تَبَاعُدٍ مِنَ الْحَقِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُفُورٍ. ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلًا فَقَالَ: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} رَاكِبًا رَأْسَهُ فِي الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ أَعْمَى الْقَلْبِ وَالْعَيْنِ لَا يُبْصِرُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وَهُوَ الْكَافِرُ. قَالَ قَتَادَةُ: أكبَّ على 170/ب الْمَعَاصِي فِي الدُّنْيَا فَحَشَرَهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) في "ب" عليكم.

(8/179)


قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)

يَوْمَ الْقِيَامَةِ {أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا} مُعْتَدِلًا يُبْصِرُ الطَّرِيقَ وَهُوَ {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَهُوَ الْمُؤْمِنُ. قَالَ قَتَادَةُ: يَمْشِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَوِيًّا.
{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) }

(8/180)


فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29)

{فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) }
{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَشْكُرُونَ رَبَّ هَذِهِ النِّعَمِ. {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ، عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ} يَعْنِي: الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ -عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ -وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْعَذَابَ بِبَدْرٍ {زُلْفَةً} أَيْ قَرِيبًا وَهُوَ [اسْمٌ يُوصَفُ بِهِ الْمَصْدَرُ يَسْتَوِي فِيهِ] (1) الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ [وَالْجَمِيعُ] (2) {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} اسْوَدَّتْ وَعَلَيْهَا كَآبَةٌ، وَالْمَعْنَى قُبِّحَتْ وُجُوهُهُمْ بِالسَّوَادِ، يُقَالُ: سَاءَ الشَّيْءُ يَسُوءُ فَهُوَ سَيِّئٌ إذا قبح، وسيئ يُسَاءُ إِذَا قُبِّحَ {وَقِيلَ} لَهَا أَيْ قَالَ الْخَزَنَةُ {هَذَا} أَيْ هَذَا الْعَذَابُ {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} تَفْتَعِلُونَ مِنَ الدُّعَاءِ تَدَّعُونَ وَتَتَمَنَّوْنَ أَنَّهُ يُعَجَّلُ لَكُمْ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ تَدْعُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ قَتَادَةَ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ مِثْلُ تَذْكُرُونَ وَتَذَكَّرُونَ.
{قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ الَّذِينَ يَتَمَنَّوْنَ [هَلَاكَكَ] (3) {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ} مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {أَوْ رَحِمَنَا} فَأَبْقَانَا وَأَخَّرَ آجَالنَا {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فَإِنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ فَعَذَّبَنِي وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَغَفَرَ لَنَا فَنَحْنُ -مَعَ إِيمَانِنَا -خَائِفُونَ أَنْ يُهْلِكَنَا بِذُنُوبِنَا لِأَنَّ حُكْمَهُ نَافِذٌ فِينَا فَمَنْ يُجِيرُكُمْ وَيَمْنَعُكُمْ مِنْ عَذَابِهِ وَأَنْتُمْ كَافِرُونَ؟ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
__________
(1) في "ب" اسم مصدر يوصف به.
(2) في "ب" والجمع.
(3) في "أ" هلاكهم. والصحيح ما أثبت من "ب".

(8/180)


قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)

{قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ} الَّذِي نَعْبُدُهُ {آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ} قَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِالْيَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ. {مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أَيْ سَتَعْلَمُونَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ مَنِ الضَّالُّ مِنَّا نَحْنُ أَمْ أَنْتُمْ؟
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30) }
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} غَائِرًا ذَاهِبًا فِي الْأَرْضِ لَا تَنَالُهُ الْأَيْدِي وَالدِّلَاءُ. قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي مَاءَ زَمْزَمٍ {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} ظَاهِرٍ تَرَاهُ الْعُيُونُ وَتَنَالُهُ [الْأَيْدِي] (1) وَالدِّلَاءُ. وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَعِينٍ أَيْ جَارٍ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي أَبُو الْحَسَنِ الْفَارِسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الْبَزَّازُ، حَدَّثَنَا [مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى] (2) حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبَّاسٍ الْجُشَمِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ سُورَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا هِيَ إِلَّا ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرِجْلٍ فَأَخْرَجَتْهُ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ، وَهِيَ سُورَةُ تَبَارَكَ" (3) .
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) أخرجه أبو داود في الصلاة (أبواب قراءة القرآن) باب في عدد الآي: 2 / 116، والترمذي في فضائل القرآن، باب ما جاء في سورة الملك: 8 / 200-201 وقال: "هذا حديث حسن" والنسائي في التفسير: 2 / 454، وابن ماجه في الأدب، باب ثواب القرآن برقم: (3786) 2 / 1244، وعبد بن حميد في المنتخب ص (421) . وروى له الطبراني شاهدا في "الصغير" و"الأوسط" عن أنس ورجاله رجال الصحيح: انظر: مجمع الزوائد: 7 / 127. قال المنذري: وقد ذكره البخاري في التاريخ الكبير من رواية عباس الجشمي عن أبي هريرة كما أخرجه أبو داود ومن ذكره معه. وقال: لم يذكر سماعا من أبي هريرة، يريد أن عباسا الجشمي روى هذا الحديث عن أبي هريرة ولم يذكر فيه أنه سمعه من أبي هريرة.

(8/181)


ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)

سُورَةُ الْقَلَمِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) }
{ن} اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْحُوتُ الَّذِي عَلَى ظَهْرِهِ الْأَرْضُ. وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلٍ وَالسُّدِّيِّ وَالْكَلْبِيِّ (2) .
وَرَوَى أَبُو ظَبْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ فَبَسَطَ الْأَرْضَ عَلَى ظَهْرِهِ فَتَحَرَّكَ النُّونُ فَمَادَتِ الْأَرْضُ، فَأُثْبِتَتْ بِالْجِبَالِ وَإِنَّ الْجِبَالَ لَتَفْخَرُ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (3) .
وَاخْتَلَفُوا فِي اسْمِهِ، فَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: [اسْمُهُ] (4) يَهْمُوتُ. وَقَالَ الْوَاقِدَيُّ: لُيُوثَا. وَقَالَ كَعْبٌ: لُوِيثَا. وَعَنْ عَلِيٍّ: اسْمُهُ بَلْهَوثُ.
__________
(1) في "ب" مدنية. أخرج ابن الضريس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة. ثم يزيد الله فيها ما شاء، وكان أول ما نزل من القرآن (اقرأ باسم ربك) ثم (المزمل) ثم (المدثر) . وأخرج النحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت سورة (ن والقلم) بمكة. انظر: الدر المنثور: 8 / 240.
(2) لعله لا يصح شيء من ذلك في تفسير نون بالحوت الذي عليه الأرضون السبع، أو أنه الدواة، أو أنه لوح من نور، أو أنه آخر حرف من حروف الرحمن؛ أو أنه نهر من أنهار الجنة. انظر: البحر المحيط: 8 / 307. روح المعاني للآلوسي: 29 / 23.
(3) أخرجه عبد الرزاق في التفسير: 2 / 307، والطبري: 29 / 14، والحاكم: 2 / 498 وصححه وزاد السيوطي في الدر المنثور: 8 / 240-241 عزوه للفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في "العظمة" والبيهقي في "الأسماء والصفات" والخطيب في "تاريخه" والضياء في "المختارة" وهو موقوف على ابن عباس.
(4) ساقط من "ب".

(8/182)


وَقَالَتِ الرُّوَاةُ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَفَتْقَهَا بَعَثَ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ مَلَكًا فَهَبَطَ إِلَى الْأَرْضِ حَتَّى دَخَلَ تَحْتَ الْأَرْضِينَ السَّبْعَ فَوَضَعَهَا عَلَى عَاتِقِهِ، إِحْدَى يَدَيْهِ بِالْمُشْرِقِ وَالْأُخْرَى بِالْمَغْرِبِ، بَاسِطَتَيْنِ قَابِضَتَيْنِ عَلَى الْأَرْضِينَ السَّبْعَ، حَتَّى ضَبَطَهَا فَلَمْ يَكُنْ لِقَدَمَيْهِ مَوْضِعُ قَرَارٍ، فَأَهْبَطَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْفِرْدَوْسِ ثَوْرًا لَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفَ قَرْنٍ وَأَرْبَعُونَ أَلْفَ قَائِمَةٍ، وَجُعِلَ قَرَارُ قَدَمَيِ الْمَلِكِ عَلَى سَنَامِهِ، فَلَمْ تَسْتَقِرَّ قَدَمَاهُ فَأَخَذَ اللَّهُ يَاقُوتَةً خَضْرَاءَ مِنْ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْفِرْدَوْسِ غِلَظُهَا مَسِيرَةُ خَمْسمِائَةِ عَامٍ فَوَضَعَهَا بَيْنَ سَنَامِ الثَّوْرِ إِلَى أُذُنِهِ فَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهَا قَدَمَاهُ، وَقُرُونُ ذَلِكَ الثَّوْرِ خَارِجَةُ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَمَنْخِرَاهُ فِي الْبَحْرِ فَهُوَ يَتَنَفَّسُ كُلَّ يَوْمٍ نَفَسًا فَإِذَا تَنَفَّسَ مَدَّ الْبَحْرُ وَإِذَا [رَدَّ] (1) نَفَسَهُ جَزَرَ الْبَحْرُ فَلَمْ يَكُنْ لِقَوَائِمِ الثَّوْرِ مَوْضِعَ قَرَارٍ [فَخَلَقَ] (2) اللَّهُ تَعَالَى صَخْرَةً كَغِلَظِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ وَسَبْعِ أَرْضِينَ فَاسْتَقَرَّتْ قَوَائِمُ الثَّوْرِ عَلَيْهَا وَهِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ " [يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ] فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ" وَلَمْ يَكُنْ لِلصَّخْرَةِ مُسْتَقَرٌّ، فَخَلَقَ اللَّهُ نُونًا وَهُوَ الْحُوتُ الْعَظِيمُ، فَوَضْعَ الصَّخْرَةَ عَلَى ظَهْرِهِ وَسَائِرُ جَسَدِهِ خَالٍ وَالْحُوتُ عَلَى الْبَحْرِ، وَالْبَحْرُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ، وَالرِّيحُ عَلَى الْقُدْرَةِ. يُقَالُ: فَكُلُّ الدُّنْيَا كُلُّهَا بِمَا عَلَيْهَا حَرْفَانِ قَالَ لَهَا الْجَبَّارُ: [جَلَّ جَلَالُهُ] (3) كَوْنِي فَكَانَتْ (4) .
قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: إِنَّ إِبْلِيسَ تَغَلْغَلَ إِلَى الْحُوتِ الَّذِي عَلَى ظَهْرِهِ الْأَرْضُ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: أَتَدْرِي مَا عَلَى ظَهْرِكَ يَا لُوِيثَا مِنَ الْأُمَمِ وَالدَّوَابِّ وَالشَّجَرِ وَالْجِبَالِ لَوْ نَفَضْتَهُمْ أَلْقَيْتَهُمْ عَنْ ظَهْرِكَ، فَهَمَّ لُوِيثَا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَبَعَثَ اللَّهُ دَابَّةً فَدَخَلَتْ مَنْخِرِهِ فَوَصَلَتْ إِلَى دِمَاغِهِ فَعَجَّ الْحُوتُ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا فَأَذِنَ لَهَا اللَّهُ فَخَرَجَتْ. قَالَ كَعْبٌ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لِيَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ إِنْ هَمَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَادَتْ كَمَا كَانَتْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نُونٌ آخَرُ حُرُوفِ الرَّحْمَنِ، وَهِيَ رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: النُّونُ الدَّوَاةُ.
__________
(1) في "أ" مد.
(2) في "ب" فجعل.
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(4) هذا وأمثاله - مما سيأتي - من وضع أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء بالرسل كما قال الشيخ محمد بن محمد أبو شهبة في كتابه "الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير" ص: (305) . وانظر: تفسير ابن كثير: 4 / 401-402.

(8/186)


مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)

وَقِيلَ: هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ. وَقِيلَ: فَاتِحَةُ السُّورَةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: افْتِتَاحُ اسْمِهِ نُورٌ وَنَاصِرٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: أَقْسَمَ اللَّهُ بِنُصْرَتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ (1) .
{وَالْقَلَمِ} [هُوَ] (2) الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ بِهِ الذِّكْرَ، وَهُوَ قَلَمٌ مِنْ نُورٍ طُولُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَيُقَالُ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهِ الْقَلَمَ وَنَظَرَ إِلَيْهِ فَانْشَقَّ بِنِصْفَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: اجْرِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَجَرَى عَلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ بِذَلِكَ. {وَمَا يَسْطُرُونَ} يَكْتُبُونَ أَيْ مَا تَكْتُبُ الْمَلَائِكَةُ الْحَفَظَةُ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ.
{مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) }
{مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [هُوَ] (3) جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ "يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ" (الْحِجْرِ-6) فَأَقْسَمَ اللَّهُ بِالنُّونِ وَالْقَلَمِ وَمَا يَكْتُبُ مِنَ الْأَعْمَالِ فَقَالَ: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} بِنُبُوَّةِ رَبّكِ {بِمَجْنُونٍ} أَيْ: إِنَّكَ لَا تَكُونُ مَجْنُونًا وقد أنعم 171/أاللَّهَ عَلَيْكَ بِالنُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ. وَقِيلَ: بِعِصْمَةِ رَبِّكَ. وَقِيلَ: هُوَ كَمَا يُقَالُ: مَا أَنْتَ بِمَجْنُونٍ [وَالْحَمْدُ لِلَّهِ] (4) وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَا أَنْتَ بِمَجْنُونٍ وَالنِّعْمَةُ لِرَبِّكَ، كَقَوْلِهِمْ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَيْ: وَالْحَمْدُ لَكَ.
{وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} أَيْ: مَنْقُوصٍ وَلَا مَقْطُوعٍ بِصَبْرِكِ عَلَى افْتِرَائِهِمْ عَلَيْكَ.
{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: دِينٌ عَظِيمٌ لَا دِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ وَلَا أَرْضَى عِنْدِي مِنْهُ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ آدَابُ الْقُرْآنِ.
سُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ (5) .
__________
(1) أخرج هذه الروايات الطبري: 29 / 15-16.
(2) ساقط من "أ".
(3) في "ب" هذا.
(4) في "أ" بحمد الله.
(5) أخرج مسلم في باب جامع صلاة الليل من كتاب صلاة المسافرين وقصرها مطولا برقم: (746) 1 / 513 عن حكيم ابن أفلح قال لعائشة - رضي الله عنها: "يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: فإن خلق نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان القرآن". وباللفظ الذي ساقه المصنف أخرجه: أحمد: 6 / 91، والبيهقي: 2 / 499، والطبري: 29 / 13.

(8/187)


وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مَا كَانَ يَأْتَمِرُ بِهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَيَنْتَهِي عَنْهُ مِنْ نَهْيِ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى إِنَّكَ عَلَى الْخُلُقِ الَّذِي أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ.
وَقِيلَ: سَمَّى اللَّهُ خُلُقَهُ عَظِيمًا لِأَنَّهُ امْتَثَلَ تَأْدِيبَ اللَّهِ إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ: "خُذِ العفو" (الأعراف-198) الْآيَةَ.
وَرُوِّينَا عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي لِتَمَامِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَتَمَامِ مَحَاسِنِ الْأَفْعَالِ" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ [حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ] (2) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا وَأَحْسَنَهُمْ خُلُقًا لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلَا بِالْقَصِيرِ (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْجَوْزَجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ الشَّاشِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيُّ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ [وَمَا] (4) قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ: لِمَ تَرَكْتَهُ؟ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا وَلَا مَسَسْتُ خَزًّا [قَطُّ] (5) وَلَا حَرِيرًا وَلَا شَيْئًا [كَانَ] (6) أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا شَمَمْتُ مِسْكًا وَلَا عِطْرًا كَانَ أَطْيَبَ مِنْ عَرَقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (7) .
__________
(1) أخرجه المصنف في شرح السنة: 13 / 202 عن جابر - رضي الله عنه - وفيه يوسف بن محمد بن المنكدر، وهو ضعيف. قال الهيثمي في المجمع: 8 / 188: "رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عمر بن إبراهيم القرشي، وهو ضعيف" وللحديث شواهد بألفاظ متعددة عند الإمام أحمد: 2 / 381، والإمام مالك في الموطأ: 2 / 904، والبخاري في الأدب المفرد ص: (84) ، وابن سعد في الطبقات: 1 / 192-193، والحاكم في المستدرك: 2 / 613. وانظر: شرح السنة مع تعليق الأرناؤوط: 13 / 202، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (45) 1 / 75، مشكاة المصابيح برقم: (5770) كشف الخفاء للعجلوني: 1 / 244-245، تخريج أحاديث الإحياء للعراقي وابن السبكي والزبيدي برقم: (1595) مجمع الزوائد: 8 / 188.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) أخرجه البخاري في المناقب، باب صفة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 6 / 564، ومسلم في الفضائل، باب في صفة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومبعثه وسنه برقم: (2447) 4 / 1824-1825.
(4) ساقط من "أ".
(5) ساقط من "أ".
(6) ساقط من "أ".
(7) أخرجه الترمذي في البر، باب ما جاء في خلق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 6 / 156-157 وقال: "هذا حديث حسن صحيح، ومسلم في الفضائل، باب كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحسن الناس خلقا برقم: (2309) 4 / 1804.

(8/188)


أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الصَّيْرَفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْبَرْنِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ: "خِيَارُكُمْ أَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا".
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الصَّيْرَفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ مَلَّاسٍ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ، حَدَّثَنَا حُمِيدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَقَالَ: يَا أُمَّ فُلَانٍ اجْلِسِي فِي أَيِّ سِكَكِ الْمَدِينَةِ شِئْتِ أَجْلِسْ إِلَيْكِ، قَالَ: فَفَعَلَتْ فَقَعَدَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى [قَضَى] (1) حَاجَتَهَا (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: [حَدَّثَنَا] (3) مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا حُمِيدٌ الطَّوِيلُ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: إِنْ كَانَتِ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ (4) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي شُرَيْحٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغْوَيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ التَّغْلِبِيُّ، عَنْ زَيْدِ [ابْنِ الْعَمِّيِّ] (5) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَافَحَ الرَّجُلَ لَمْ يَنْزِعْ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ [حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَنَزِعُ يَدَهُ] (6) وَلَا يَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنْ وَجْهِهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَصْرِفُ وَجْهَهُ [عَنْ وَجْهِهِ] (7) وَلَمْ يُرَ مُقَدِّمًا رُكْبَتَيْهِ بَيْنَ يَدَيْ جَلِيسٍ لَهُ (8) .
__________
(1) في "ب" قضت.
(2) أخرجه مسلم في الفضائل، باب قرب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الناس وتبركهم به برقم: (2326) 4 / 1812-1813، والمصنف في شرح السنة: 13 / 240.
(3) في "ب" قال:.
(4) أخرجه البخاري في الأدب، باب الكبر: 10 / 489.
(5) في "ب" الأعمى.
(6) ساقط من "أ".
(7) ساقط من "أ".
(8) أخرجه ابن ماجه في الأدب، باب إكرام الرجل جليسه برقم (3716) وقال في الزوائد: مدار الحديث على زيد العمي، وهو ضعيف وابن سعد في الطبقات: 1 / 378. قال الألباني: "ضعيف إلا جملة المصافحة فهي ثابتة" انظر: صحيح ابن ماجه: 2 / 304.

(8/189)


أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْخُزَاعِيُّ، أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا ضَرَبَ خَادِمًا وَلَا امْرَأَةً (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُمَلَّكٍ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ تُحَدِّثُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ أَثْقَلَ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُلُقٌ حَسَنٌ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ" (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَّانِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ يَزِيدَ [الْأَوْدِيُّ] (4) سَمِعْتُ أَبِي يقول سمعت أبي
__________
(1) أخرجه الترمذي في الشمائل المحمدية، باب في خلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع شرح الباجوري ص: (201) ، ومسلم في الفضائل، باب مباعدته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للآثام واختياره من المباح أسهله وانتقامه لله عند انتهاك حرماته برقم (2328) 4 / 1814 ما عدا ما ساقه المصنف في آخر روايته: (ولا ضرب خادما ولا امرأة) .
(2) أخرجه البخاري في اللباس، باب البرود والحبر والشملة: 10 / 275، ومسلم في الزكاة، باب إعطاء من سأل بفحش وغلظة برقم: (1057) 2 / 730-731.
(3) أخرجه الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق: 6 / 140-141 وقال: "هذا حديث حسن صحيح" وأبو داود مختصرا في الأدب، باب في حسن الخلق: 7 / 172، والإمام أحمد: 6 / 442، وصححه ابن حبان في موارد الظمآن برقم: (1920) صفحة: (474) والمصنف في شرح السنة: 13 / 78-79، وذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته.
(4) في "أ" الأزدي والصحيح ما أثبتناه كما في "تهذيب التهذيب".

(8/190)


فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)

هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: "أَتُدْرُونَ مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ الْأَجْوَفَانِ: الْفَرْجُ وَالْفَمُ، أَتُدْرُونَ مَا أَكْثَرُ مَا يَدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يَدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ: تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الصَّيْرَفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ [بْنِ عَبْدِ] (2) الْحَكَمِ، أَخْبَرَنَا أَبِي وَشُعَيْبٌ قَالَا حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ [ابْنِ] (3) الْهَادِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ قَائِمِ اللَّيْلِ وَصَائِمِ النَّهَارِ" (4) .
{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ (6) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} فَسَتُرَى يَا مُحَمَّدُ وَيَرَوْنَ -يعني أهل 171/ب مَكَّةَ -إِذَا نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ.
{بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} قِيلَ مَعْنَاهُ: بِأَيِّكُمُ الْمَجْنُونُ، فَـ"الْمَفْتُونُ" مَفْعُولٌ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، كَمَا يُقَالُ: مَا بِفُلَانٍ مَجْلُودٌ وَمَعْقُولٌ، أَيْ جَلَادَةٌ وَعَقْلٌ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الضَّحَّاكِ وَرِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقِيلَ الْبَاءُ بِمَعْنَى "فِي" مَجَازُهُ: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ فِي أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ الْمَجْنُونُ فِي فَرِيقِكَ أَمْ فِي فَرِيقِهِمْ؟.
وَقِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى "مَعَ" وَ"الْمَفْتُونُ" هُوَ الشَّيْطَانُ. [وَالْمَعْنَى: مَعَ أَيِّكُمُ الشَّيْطَانُ] (5) مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أَمْ مَعَ الْكَافِرِينَ؟ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ (6) .
وَقَالَ الْآخَرُونَ: زَائِدَةٌ، مَعْنَاهُ: أَيُّكُمُ الْمَفْتُونُ؟ أَيِ الْمَجْنُونُ الَّذِي فُتِنَ بِالْجُنُونِ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ.
__________
(1) أخرجه الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق: 6 / 142 بلفظ: (سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أكثر ما يدخل الناس الجنة.. الحديث) وقال: "هذا حديث صحيح غريب" وابن حبان برقم: (1923) ص: (475) ، والمصنف في شرح السنة: 13 / 79.
(2) ساقط من "أ".
(3) في "أ" أبي، والصحيح ما أثبت.
(4) أخرجه أبو داود في الأدب، باب في حسن الخلق: 7 / 172، وابن حبان برقم: (1927) ص: (475) والحاكم: 1 / 6، والمصنف في شرح السنة: 13 / 81.
(5) ما بين القوسين من "ب".
(6) في "ب" قتادة.

(8/191)


إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) }
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} ، يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَهُ إِلَى دِينِ آبَائِهِ فَنَهَاهُ أَنْ يُطِيعَهُمْ.
{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} قَالَ: الضَّحَّاكُ لَوْ تَكْفُرُ فَيَكْفُرُونَ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَوْ تَلِينُ لَهُمْ فَيَلِينُونَ لَكَ. قَالَ الْحَسَنُ: لَوْ تُصَانِعُهُمْ فِي دِينِكَ فَيُصَانِعُونَكَ فِي دِينِهِمْ. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: لَوْ تُنَافِقُ وَتُرَائِي فَيُنَافِقُونَ وَيُرَاءُونَ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَرَادُوا أَنْ تَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ مُدَّةً وَيَعْبُدُونَ اللَّهَ مُدَّةً.
{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} كَثِيرِ الْحَلِفِ بِالْبَاطِلِ. قَالَ [مُقَاتِلٌ: يَعْنِي] (1) الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ. وَقِيلَ: الْأُسُودُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ {مَهِينٍ} ضَعِيفٍ حَقِيرٍ. قِيلَ: هُوَ فَعِيلٌ مِنَ الْمَهَانَةِ وَهِيَ قِلَّةُ الرَّأْي وَالتَّمْيِيزِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَذَّابٌ. وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَكْذِبُ لِمَهَانَةِ نَفْسِهِ عَلَيْهِ.
{هَمَّازٍ} مُغْتَابٍ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ بِالطَّعْنِ وَالْغَيْبَةِ. قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الَّذِي يَغْمِزُ بِأَخِيهِ فِي الْمَجْلِسِ، كَقَوْلِهِ: "هُمَزَةٍ" {مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} قَتَّاتٍ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ بَيْنَ النَّاسِ لِيُفْسِدَ بَيْنَهُمْ.
{مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} بِخَيْلٍ بِالْمَالِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ" أَيْ لِلْإِسْلَامِ يَمْنَعُ وَلَدَهُ وَعَشِيرَتَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ يَقُولُ: لَئِنْ دَخَلَ وَاحِدٌ مِنْكُمْ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ لَا أَنْفَعُهُ بِشَيْءٍ أَبَدًا {مُعْتَدٍ} ظَلُومٍ يَتَعَدَّى الْحَقَّ {أَثِيمٍ} فَاجِرٍ. {عُتُلٍّ} الْعُتُلُّ: الْغَلِيظُ الْجَافِي. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْفَاحِشُ الْخُلُقِ السَّيِّئُ الْخُلُقِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ الشَّدِيدُ الْخُصُومَةِ فِي الْبَاطِلِ (2) وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ الشَّدِيدُ فِي كَفْرِهِ، وَكُلُّ شَدِيدٍ عِنْدَ الْعَرَبِ عُتُلٌّ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْعُتُلِ وَهُوَ الدَّفْعُ بِالْعُنْفِ. قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: "الْعُتُلُّ" الْأَكُولُ الشَّرُوبُ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ [فِي كُفْرِهِ] (3) لَا يَزِنُ فِي الْمِيزَانِ شَعِيرَةً، يَدْفَعُ الْمَلَكُ مِنْ أُولَئِكَ سَبْعِينَ أَلْفًا فِي النَّارِ دَفْعَةً
__________
(1) في "أ" قيل.
(2) معاني القرآن للفراء: 3 / 173.
(3) ساقط من "ب".

(8/192)


أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)

وَاحِدَةً (1) {بَعْدَ ذَلِكَ} أَيْ مَعَ ذَلِكَ، يُرِيدُ مَعَ مَا وَصَفْنَاهُ بِهِ {زَنِيمٌ} وَهُوَ الدَّعِيُّ [الْمُلْصَقُ] (2) بِالْقَوْمِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ. قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مَعَ [هَذَا] (3) هُوَ دَعِيٌّ فِي قُرَيْشٍ وَلَيْسَ مِنْهُمْ. قَالَ مُرَّةُ الْهَمْدَانِيُّ: إِنَّمَا ادَّعَاهُ أَبُوهُ بَعْدَ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: "الزَّنِيمُ" الَّذِي لَهُ زَنَمَةٌ كَزَنَمَةِ الشَّاةِ.
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: نُعِتَ فَلَمْ يُعْرَفْ حَتَّى قِيلَ زَنِيمٌ فَعُرِفَ، وَكَانَتْ لَهُ زَنَمَةً فِي عُنُقِهِ يُعْرَفُ بِهَا (4) .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُعْرَفُ بِالشَّرِّ كَمَا تُعْرَفُ الشَّاةُ بِزَنَمَتِهَا (5) .
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ أَحَدًا وَلَا ذَكَرَ مِنْ عُيُوبِهِ مَا ذَكَرَ مِنْ عُيُوبِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَأَلْحَقَ بِهِ عَارًا لَا يُفَارِقُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (6) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ الْوَاعِظُ، حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ زَنْجَوَيْهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْهِلَالِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ الْعَدَنِيُّ عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ الْقَيْسِيُّ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ [مُسْتَكْبِرٍ] (7) " (8) .
{أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) }
{أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ وَيَعْقُوبُ: "أَإِنْ" بِالِاسْتِفْهَامِ. ثُمَّ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ يُخَفِّفَانِ الْهَمْزَتَيْنِ بِلَا مَدٍّ وَيَمُدُّ الْهَمْزَةَ الْأُولَى أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ وَيُلَيْنُونَ الثَّانِيَةَ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِلَا اسْتِفْهَامٍ عَلَى الْخَبَرِ، فَمَنْ قَرَأَ بِالِاسْتِفْهَامِ فَمَعْنَاهُ: أَلَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ؟
__________
(1) أخرجه الطبري: 29 / 24.
(2) في "أ" الملحق.
(3) في "ب" ما.
(4) أخرجه الطبري: 29 / 26.
(5) أخرجه الطبري: 29 / 25.
(6) انظر: القرطين لابن مطرف الكناني: 2 / 176.
(7) في "أ" متكبر. وما أثبت هو الصحيح كما في البخاري وشرح السنة.
(8) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة القلم - باب (عتل بعد ذلك زنيم) 8 / 662 وفي الأدب، باب الكبر، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء برقم: (2853) 4 / 2190، والمصنف في شرح السنة: 13 / 169.

(8/193)


إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)

{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) }

(8/194)


سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17)

{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) }
{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أَيْ جَعَلَ مُجَازَاةَ النِّعَمِ الَّتِي خُوِّلَهَا مِنَ الْبَنِينَ وَالْمَالِ الْكُفْرَ بِآيَاتِنَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَلَإِنْ كَانَ ذَا مَالِ وَبَنِينَ [تُطِيعُهُ] (1) .
وَمَنْ قَرَأَ عَلَى الْخَبَرِ فَمَعْنَاهُ: لَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ لِأَنَّ {كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} (2) أَيْ: لَا تُطِعْهُ لِمَالِهِ وَبَنِيهِ "إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ".
ثُمَّ أَوْعَدَهُ فَقَالَ: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} وَ"الْخُرْطُومُ": الْأَنْفُ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ: أَيْ نُسَوِّدُ وَجْهَهُ، فَنَجْعَلُ لَهُ عَلَمًا فِي الْآخِرَةِ يُعْرَفُ بِهِ، وَهُوَ سَوَادُ الْوَجْهِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: خَصَّ الْخُرْطُومَ بِالسِّمَةِ فَإِنَّهُ فِي مَذْهَبِ الْوَجْهِ لِأَنَّ بَعْضَ الشَّيْءِ يُعَبِّرُ بِهِ عَنْ كُلِّهِ (3) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَنَخْطِمُهُ بِالسَّيْفِ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ (4) وَقَالَ قَتَادَةُ: سَنُلْحِقُ بِهِ شَيْئًا لَا يُفَارِقُهُ.
قَالَ الْقُتَيْبِيُّ تَقُولُ الْعَرَبُ لِلرَّجُلِ سَبَّ الرَّجُلَ سَبَّةً قَبِيحَةً: قَدْ وَسَمَهُ مَيْسَمَ سُوءٍ. يُرِيدُ: أَلْصَقَ بِهِ عَارًا لَا يُفَارِقُهُ، كَمَا أَنَّ السِّمَةَ لَا يَنْمَحِي وَلَا يَعْفُو أَثَرُهَا وَقَدْ أَلْحَقَ اللَّهُ بِمَا ذَكَرَ مِنْ عُيُوبِهِ عَارًا لَا يُفَارِقُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَالْوَسْمِ عَلَى الْخُرْطُومِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْكِسَائِيُّ: سَنَكْوِيهِ عَلَى وَجْهِهِ.
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} يَعْنِي اخْتَبَرْنَا أَهْلَ مَكَّةَ بِالْقَحْطِ وَالْجُوعِ {كَمَا بَلَوْنَا} ابْتَلَيْنَا {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ" قَالَ: كَانَ بُسْتَانٌ بِالْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ الضِّرْوَانُ دُونَ صَنْعَاءَ بِفَرْسَخَيْنِ، يَطَؤُهُ أَهْلُ الطَّرِيقِ، كَانَ غَرَسَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، وَكَانَ لِرَجُلٍ فَمَاتَ فَوَرِثَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ لَهُ، وَكَانَ
__________
(1) في "ب" تطغيه.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) معاني القرآن للفراء: 3 / 174.
(4) ذكره الطبري: 29 / 28.

(8/194)


وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22)

يَكُونُ لِلْمَسَاكِينِ إِذَا صَرَمُوا نَخْلَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ تَعَدَّاهُ الْمِنْجَلُ فَلَمْ يَجُزَّهُ وَإِذَا طَرَحَ مِنْ فَوْقِ النَّخْلِ إِلَى الْبِسَاطِ فَكُلُّ شَيْءٍ يَسْقُطُ عَلَى الْبِسَاطِ فَهُوَ أَيْضًا لِلْمَسَاكِينِ، وَإِذَا حَصَدُوا زَرْعَهُمْ فَكُلُّ شَيْءٍ تَعَدَّاهُ الْمِنْجَلُ فَهُوَ لِلْمَسَاكِينِ وَإِذَا دَاسُوهُ كَانَ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ يَنْتَثِرُ أَيْضًا فَلَمَّا مَاتَ الْأَبُ وَوَرِثَهُ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةُ [عَنْ أَبِيهِمْ] (1) فَقَالُوا: وَاللَّهِ إِنَّ الْمَالَ لَقَلِيلٌ، وَإِنَّ الْعَيَّالَ لَكَثِيرٌ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْأَمْرُ يُفْعَلُ إِذْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا وَالْعِيَالُ قَلِيلًا فَأَمَّا إِذَا قَلَّ الْمَالُ وَكَثُرَ الْعِيَالُ فَإِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَفْعَلَ هَذَا فَتَحَالَفُوا بَيْنَهُمْ يَوْمًا لَيَغْدُوُنَّ غَدْوَةً قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ فَلْيَصْرِمُنَّ نَخْلَهُمْ وَلَمْ يَسْتَثْنُوا يَقُولُ: لَمْ يَقُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَغَدَا الْقَوْمُ بِسُدْفَةٍ مِنَ اللَّيْلِ إِلَى جَنَّتِهِمْ لِيَصْرِمُوهَا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الْمَسَاكِينُ، فَرَأَوْهَا مُسَوَّدَةً وَقَدْ طَافَ عَلَيْهَا مِنَ اللَّيْلِ طَائِفٌ مِنَ الْعَذَابِ فَأَحْرَقَهَا فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (2) فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ أَقْسَمُوا} حَلَفُوا {لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} 172/ألَيَجُذُّنَّهَا وَلَيَقْطَعُنَّ ثَمَرَهَا إِذَا أَصْبَحُوا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ الْمَسَاكِينُ
{وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) }
{وَلَا يَسْتَثْنُونَ} وَلَا يَقُولُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
{فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ} عَذَابٌ {مِنْ رَبِّكَ} لَيْلًا وَلَا يَكُونُ الطَّائِفُ إِلَّا بِاللَّيْلِ، وَكَانَ ذَلِكَ الطَّائِفُ نَارًا نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ فَأَحْرَقَتْهَا {وَهُمْ نَائِمُونَ}
{فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} كَاللَّيْلِ الْمُظْلِمِ الْأَسْوَدِ. قَالَ الْحَسَنُ: أَيْ صَرَمَ مِنْهَا الْخَيْرَ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: كَالصُّبْحِ الصَّرِيمِ مِنَ اللَّيْلِ وَأَصْلُ "الصَّرِيمِ" الْمَصْرُومُ، مِثْلَ: قَتِيلٍ وَمَقْتُولٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ قُطِعَ فَهُوَ صَرِيمٌ [فَاللَّيْلُ صَرِيمٌ] (3) وَالصُّبْحُ صَرِيمٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْصَرِمُ عَنْ صَاحِبِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَالرَّمَادِ الْأَسْوَدِ بِلُغَةِ خُزَيْمَةَ.
{فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ} نَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَمَّا أَصْبَحُوا.
{أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ} يَعْنِي الثِّمَارَ وَالزُّرُوعَ وَالْأَعْنَابَ {إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} قَاطِعِينَ لِلنَّخْلِ.
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) انظر: البحر المحيط: 8 / 311، القرطبي: 18 / 239-240، زاد المسير: 8 / 335.
(3) ساقط من "أ".

(8/195)


فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28)

{فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) }
{فَانْطَلَقُوا} مَشَوْا إِلَيْهَا {وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} يَتَسَارُّونَ، يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سِرًّا {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ} "الْحَرْدُ" فِي اللُّغَةِ يَكُونُ بِمَعْنَى الْقَصْدِ وَالْمَنْعِ وَالْغَضَبِ، قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: عَلَى جِدٍّ وَجَهْدٍ.
وَقَالَ الْقُرَظِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: عَلَى أَمْرٍ مُجْتَمَعٍ عَلَيْهِ قَدْ أَسَّسُوهُ بَيْنَهُمْ. وَهَذَا عَلَى مَعْنَى الْقَصْدِ لِأَنَّ الْقَاصِدَ [إِلَى الشَّيْءِ] (1) جَادٌّ مُجْمِعٌ عَلَى الْأَمْرِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْقُتَيْبيُّ: غَدَوْا وَنِيَّتُهُمْ عَلَى مَنْعِ الْمَسَاكِينِ، يُقَالُ: حَارَدَتِ السَّنَةُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَطَرٌ وَحَارَدَتِ النَّاقَةُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا لَبَنٌ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَسُفْيَانُ: عَلَى حَنَقٍ وَغَضَبٍ مِنَ الْمَسَاكِينِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: عَلَى قُدْرَةٍ {قَادِرِينَ} عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى جَنَّتِهِمْ وَثِمَارِهَا لَا يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ أَحَدٌ.
{فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} أَيْ لَمَّا رَأَوْا الْجَنَّةَ مُحْتَرِقَةً قَالُوا: إِنَّا لَمُخْطِئُونَ الطَّرِيقَ، أَضْلَلْنَا مَكَانَ جَنَّتِنَا لَيْسَتْ هَذِهِ بِجَنَّتِنَا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} حُرِمْنَا خَيْرَهَا وَنَفْعَهَا بِمَنْعِنَا الْمَسَاكِينَ وَتَرْكِنَا الِاسْتِثْنَاءَ.
{قَالَ أَوْسَطُهُمْ} أَعْدَلُهُمْ وَأَعْقَلُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} هَلَّا تُسْتَثْنُونَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَرْكَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِمْ: "لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ" وَسَمَّى الِاسْتِثْنَاءَ تَسْبِيحًا لِأَنَّهُ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ وَإِقْرَارٌ بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ.
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: كَانَ اسْتِثْنَاؤُهُمْ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَقِيلَ: هَلَّا تُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَتَقُولُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَشْكُرُونَهُ عَلَى مَا أَعْطَاكُمْ. وَقِيلَ: هَلَّا تَسْتَغْفِرُونَهُ مِنْ فِعْلِكُمْ.
__________
(1) في "ب" للشيء.

(8/196)


قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)

{قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) }
{قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا} نَزَّهُوهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا فِيمَا فَعَلَ وَأَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالظُّلْمِ فَقَالُوا: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} بِمَنْعِنَا الْمَسَاكِينَ.
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ} يَلُومُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي مَنْعِ الْمَسَاكِينِ حُقُوقَهُمْ، وَنَادَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بالويل: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} فِي مَنْعِنَا حَقَّ الْفُقَرَاءِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: طَغَيْنَا نِعَمَ اللَّهِ فَلَمْ نَشْكُرْهَا وَلَمْ نَصْنَعْ مَا صَنَعَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ.
ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا: {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: بَلَغَنِي أَنَّ الْقَوْمَ أَخْلَصُوا وَعَرَفَ اللَّهُ مِنْهُمُ الصِّدْقَ فَأَبْدَلَهُمْ بِهَا جَنَّةً يُقَالُ لَهَا الْحَيَوَانُ فِيهَا عِنَبٌ يَحْمِلُ الْبَغْلُ مِنْهُ عُنْقُودًا وَاحِدًا (1) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} أَيْ: كَفِعْلِنَا بِهِمْ نَفْعَلُ بِمَنْ تَعَدَّى حُدُودَنَا وَخَالَفَ أَمْرَنَا {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ثُمَّ أَخْبَرَ بِمَا عِنْدَهُ لِلْمُتَّقِينَ فَقَالَ: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّا نُعْطَى فِي الْآخِرَةِ أَفْضَلَ مِمَّا تُعْطَوْنَ فَقَالَ اللَّهُ تَكْذِيبًا لَهُمْ: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ} نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ {فِيهِ} فِي هَذَا الْكِتَابِ {تَدْرُسُونَ} تَقْرَءُونَ.
{إِنَّ لَكُمْ فِيهِ} فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ {لَمَا تَخَيَّرُونَ} تَخْتَارُونَ وَتَشْتَهُونَ.
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 8 / 313.

(8/197)


أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)

{أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) }
{أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ} عُهُودٌ وَمَوَاثِيقٌ {عَلَيْنَا بَالِغَةٌ} مُؤَكَّدَةٌ عَاهَدْنَاكُمْ عَلَيْهَا فَاسْتَوْثَقْتُمْ بِهَا مِنَّا فَلَا يَنْقَطِعُ عَهْدُكُمْ {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ} فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ {لَمَا تَحْكُمُونَ} لِأَنْفُسِكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ. وَكَسَرَ "إِنَّ" فِي الْآيَتَيْنِ لِدُخُولِ اللَّامِ فِي خَبَرِهِمَا. ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
{سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} كَفِيلٌ لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا لِلْمُسْلِمِينَ؟
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} أَيْ عِنْدَهُمْ شُرَكَاءُ لِلَّهِ أَرْبَابٌ تَفْعَلُ هَذَا. وَقِيلَ: شُهَدَاءُ يَشْهَدُونَ لَهُمْ بِصِدْقِ مَا يَدَّعُونَهُ. {فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}
{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} قِيلَ: "يَوْمَ" ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ، أَيْ: فَلْيَأْتُوا بِهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِتَنْفَعَهُمْ وَتَشْفَعَ لَهُمْ "يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ" قِيلَ: عَنْ أَمْرٍ فَظِيعٍ شَدِيدٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَشَدُّ سَاعَةٍ فِي الْقِيَامَةِ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ" عَنْ شِدَّةِ الْأَمْرِ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: تَقُولُ الْعَرَبُ لِلرَّجُلِ إِذَا وَقَعَ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْجِدِّ وَمُقَاسَاةِ الشِّدَّةِ: شَمَّرَ عَنْ سَاقِهِ (1) وَيُقَالُ: إِذَا اشْتَدَّ الْأَمْرُ فِي الْحَرْبِ: كَشَفَتِ الْحَرْبُ عَنْ سَاقٍ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ [سُفْيَانَ] (2) حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنِي سُوِيدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي جَعْفَرُ، حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أُنَاسًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَعَمْ هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ؟ وَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: مَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ لِتَتْبَعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَغَيرُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَتُدْعَى الْيَهُودُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ
__________
(1) انظر: القرطين لابن مطرف الكناني: 2 / 177.
(2) في "أ" سليمان، والصحيح ما أثبتناه من "ب" كما ورد في سير أعلام النبلاء.

(8/198)


عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ فَيُقَالُ كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ، فَمَاذَا تَبْغُونَ؟ فَقَالُوا: عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ: أَلَّا تَرِدُونَ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ. ثُمَّ تُدْعَى النَّصَارَى فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَاذَا تَبْغُونَ؟ فَيَقُولُونَ: عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ: أَلَّا تَرِدُونَ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا قَالَ: فَمَاذَا تَنْتَظِرُونَ؟ لِتَتْبَعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ قَالُوا يَا رَبَّنَا فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ. فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نُعَوِّذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لِيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ، فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تُعَرِّفُونَهُ بِهَا فَيَقُولُونَ: نَعَمْ فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ نِفَاقًا وَرِيَاءً إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي الصُّورَةِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْجِسْرُ؟ قَالَ: دَحْضٌ مَزِلَّةٌ فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ وَحَسَكَةٌ يَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ، فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ وَمُكَرْدَسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ بِأَشُدِ لِلَّهِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فِي النَّارِ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتِ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقِهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ، فَيَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ في قلبه مثال نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبُّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ أَحَدًا ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبُّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ: إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي بِهَذَا الْحَدِيثِ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا" (النِّسَاءِ-40) فَيَقُولُ اللَّهُ: شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهْرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ نَهْرُ الْحَيَاةِ، فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، أَلَّا تُرُونَهَا تَكُونُ إِلَى الْحَجَرِ أَوْ إِلَى الشَّجَرِ مَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الشَّمْسِ أُصَيْفِرُ وَأُخَيْضِرُ، وَمَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ يَكُونُ أَبْيَضَ؟ قَالَ: فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِيمُ يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ مِنَ النَّارِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، ثُمَّ يَقُولُ: "ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ فَيَقُولُونَ رَبَّنَا: أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، فَيَقُولُ: لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا أَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ: رِضَائِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا" (1) .
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا" (2) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} يَعْنِي: الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ تَصِيرُ أَصْلَابُهُمْ كَصَيَاصِيِّ الْبَقَرِ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ السُّجُودَ.
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية برقم: (183) 1 / 167-171 وأخرج بعضه البخاري في التفسير - تفسير سورة النساء - باب (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) 8 / 249-250.
(2) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة القلم - باب (يوم يكشف عن ساق) 8 / 663-664 والمصنف في شرح السنة: 15 / 141.

(8/199)


خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)

{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) }
{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ مِنَ السُّجُودِ وَوُجُوهُهُمْ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} يَغْشَاهُمْ ذُلُّ النَّدَامَةِ وَالْحَسْرَةِ {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} قَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: يَعْنِي إِلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانُوا يَسْمَعُونَ حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ فَلَا يُجِيبُونَ {وَهُمْ سَالِمُونَ} أَصِحَّاءُ فَلَا يَأْتُونَهُ قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: وَاللَّهِ مَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا عَنِ الَّذِينَ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجَمَاعَاتِ.

(8/200)


فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)

{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) }
{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} أَيْ فَدَعْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ بِالْقُرْآنِ وَخَلِّ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ لَا تَشْغَلْ قَلْبَكَ بِهِمْ [كِلْهُمْ] (1) إِلَيَّ فَإِنِّي [أَكْفِيكَهُمْ] (2) [قَالَ وَمِثْلُهُ: "ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا" مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: لَا تَشْغَلْ قَلْبَكَ بِهِ وَكِلْهُ إِلَيَّ فَإِنِّي أُجَازِيهِ. وَمَثْلُهُ قَوْلُ الرَّجُلِ: ذَرْنِي وَإِيَّاهُ، لَيْسَ أَنَّهُ مَنَعَهُ مِنْهُ وَلَكِنَّ تَأْوِيلَهُ كِلْهُ، فَإِنِّي أَكْفِيكَ أَمْرَهُ] (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} سَنَأْخُذُهُمْ بِالْعَذَابِ {مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} ، فَعُذِّبُوا يَوْمَ بَدْرٍ. {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} اصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ لِقَضَاءِ رَبِّكَ {وَلَا تَكُنْ} فِي الضَّجَرِ وَالْعَجَلَةِ {كَصَاحِبِ الْحُوتِ} وَهُوَ يُونُسُ بْنُ مَتَّى {إِذْ نَادَى} رَبَّهُ [فِي] (4) بَطْنِ الْحُوتِ {وَهُوَ مَكْظُومٌ} مَمْلُوءٌ غَمًّا.
{لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ} أَدْرَكَتْهُ {نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ} حِينَ رَحِمَهُ وَتَابَ عَلَيْهِ {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ} لَطُرِحَ بِالْفَضَاءِ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ {وَهُوَ مَذْمُومٌ} يُذَمُّ وَيُلَامُ بِالذَّنْبِ [يُذْنِبُهُ] (5) .
{فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ} اصْطَفَاهُ {فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}
{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52) }
{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ أَرَادُوا أَنْ يُصِيبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَيْنِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ وَلَا مِثْلَ حُجَجِهِ.
وَقِيلَ: كَانَتِ الْعَيْنُ فِي بَنِي أَسَدٍ حَتَّى كَانَتِ النَّاقَةُ وَالْبَقَرَةُ السَّمِينَةُ تَمُرُّ بِأَحَدِهِمْ فَيُعَايِنُهَا ثُمَّ يَقُولُ: يَا جَارِيَةُ خُذِي الْمِكْتَلَ وَالدَّرَاهِمَ فَأْتِينَا بِشَيْءٍ مِنْ لَحْمِ هَذِهِ فَمَا تَبْرَحُ حَتَّى تَقَعَ
__________
(1) في "ب" وكله.
(2) في "ب" أكفيك أمره.
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(4) في "ب" من.
(5) في "ب" من.

(8/201)


بِالْمَوْتِ فَتُنْحَرَ (1) .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ يَمْكُثُ لَا يَأْكُلُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ يَرْفَعُ جَانِبَ خِبَائِهِ فَتَمُرُّ بِهِ الْإِبِلُ فَيَقُولُ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ إِبِلًا وَلَا غَنَمًا أَحْسَنَ مِنْ هَذِهِ، فَمَا تَذْهَبُ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى تَسْقُطَ مِنْهَا طَائِفَةٌ وَعِدَّةٌ، فَسَأَلَ الْكَفَّارُ هَذَا الرَّجُلَ أَنْ يُصِيبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَيْنِ وَيَفْعَلَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَعَصَمَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَأَنْزَلَ: "وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ" (2) أَيْ وَيَكَادُ وَدَخَلَتِ اللَّامُ فِي "ليزلقونك" لمكان 173/ب "إِنَّ" وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: "لَيَزْلِقُونَكَ" بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَالْآخَرُونَ بِضَمِّهَا وَهُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ: زَلَقَهُ يَزلُقُهُ زَلَقًا وَأَزْلَقَهُ يُزْلِقُهُ إِزْلَاقًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ: يُنْفِذُونَكَ، وَيُقَالُ: زَلِقَ السَّهْمُ: إِذَا أُنَفِذَ.
قَالَ السُّدِّيُّ: يُصِيبُونَكَ بعيونهم. قال النضير بْنُ شُمَيْلٍ: يُعِينُونَكَ. وَقِيلَ: يُزِيلُونَكَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَصْرَعُونَكَ. وَقِيلَ: يَصْرِفُونَكَ عَمًّا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَيْسَ يُرِيدُ أَنَّهُمْ يُصِيبُونَكَ بِأَعْيُنِهِمْ كَمَا يُصِيبُ الْعَائِنُ بِعَيْنِهِ مَا يُعْجِبُهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ إِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ نَظَرًا شَدِيدًا بِالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، يَكَادُ يُسْقِطُكَ (3) .
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْنِي مِنْ شِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ يَكَادُونَ بِنَظَرِهِمْ نَظَرَ الْبَغْضَاءِ أَنْ يَصْرَعُوكَ. وَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ فِي [كَلَامِ الْعَرَبِ] (4) يَقُولُ الْقَائِلُ: نَظَرَ إِلَيَّ نَظَرًا يَكَادُ يَصْرَعُنِي، وَنَظَرًا يَكَادُ يَأْكُلُنِي. يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى: أَنَّهُ قَرَنَ هَذَا النَّظَرَ بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} وَهْمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ ذَلِكَ أَشَدَّ الْكَرَاهِيَةِ فَيُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ بِالْبَغْضَاءِ {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} أَيْ يَنْسُبُونَهُ إِلَى الْجُنُونِ إِذَا سَمِعُوهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَمَا هُوَ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَوْعِظَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. قَالَ
__________
(1) انظر: الواحدي في أسباب النزول، ص: (509) .
(2) انظر: الواحدي في أسباب النزول ص: (510) .
(3) انظر: القرطين: 2 / 178.
(4) انظر: القرطين: 2 / 178.

(8/202)


الْحَسَنُ: دَوَاءُ إِصَابَةِ الْعَيْنِ أَنْ يَقْرَأَ الْإِنْسَانُ هَذِهِ الْآيَةَ (1) .
أَخْبَرْنَا أَبُو عَلِيٍّ حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ، أَخْبَرْنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّشٍ الزِّيَادِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، أَخْبَرْنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْعَيْنُ حَقٌّ" وَنَهَى عَنِ الْوَشْمِ (2) .
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا السَّيِّدُ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دَاوُدَ الْعَلَوِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَوَيْهِ بْنِ سَهْلٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا مَحْمُودُ [بْنُ آدَمَ الْمَرْوَزِيُّ] (3) حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ رَفَاعَةَ الزُّرَقِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَنِي جَعْفَرٍ تُصِيبُهُمُ الْعَيْنُ أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ؟ قَالَ: "نَعَمْ فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ يَسْبِقُ الْقَضَاءَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ" (4) .
__________
(1) ذكره صاحب البحر المحيط: 8 / 318.
(2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف: 11 / 18، والبخاري في الطب، باب العين حق: 10 / 203، والمصنف في شرح السنة: 12 / 103. وأخرج الجملة الأولى منه مسلم برقم: (2187) 4 / 1719.
(3) ساقط من "أ".
(4) أخرجه الترمذي في الطب، باب ما جاء في الرقية من العين: 6 / 219-220 وقال: "هذا حديث حسن صحيح" وابن ماجه في الطب، باب من استرقى من العين: 2 / 1160، والطحاوي في مشكل الآثار: 4 / 75، والمصنف في شرح السنة: 12 / 161-162. وفي الباب عن ابن عباس عند مسلم برقم: (2188) مرفوعا "العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا".

(8/203)