تفسير البغوي طيبة

الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)

سُورَةُ الْحَاقَّةِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) }
{الْحَاقَّةُ} يَعْنِي الْقِيَامَةَ سُمِّيَتْ حَاقَّةً لِأَنَّهَا حَقَّتْ فَلَا كَاذِبَةَ لَهَا. وَقِيلَ لِأَنَّ فِيهَا حَوَاقُّ الْأُمُورِ وَحَقَائِقُهَا وَلِأَنَّ فِيهَا يَحِقُّ الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ، أَيْ يَجِبُ يُقَالُ: حَقَّ عَلَيْهِ الشَّيْءُ إِذَا وَجَبَ يَحِقُّ [حُقُوقًا] (2) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ" (الزُّمَرِ-71) قَالَ الْكِسَائِيُّ: "الْحَاقَّةُ" يَوْمُ الْحَقِّ. {مَا الْحَاقَّةُ} هَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّفْخِيمُ لِشَأْنِهَا كَمَا يُقَالُ: زَيْدٌ مَا زَيدٌ عَلَى التَّعْظِيمِ لِشَأْنِهِ. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} أَيْ أَنَّكَ لَا تَعْلَمُهَا إِذْ لَمْ تُعَايِنْهَا وَلَمْ تَرَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَهْوَالِ. {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: بِالْقِيَامَةِ سُمِّيَتْ قَارِعَةً لِأَنَّهَا تَقْرَعُ قُلُوبَ الْعِبَادِ بِالْمَخَافَةِ. وَقِيلَ: كَذَّبَتْ بِالْعَذَابِ الَّذِي أَوْعَدَهُمْ نَبِيُّهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فَقَرَعَ قُلُوبَهُمْ. {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} أَيْ بِطُغْيَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ. قِيلَ: هِيَ مَصْدَرٌ، وَقِيلَ: نَعْتٌ أَيْ بِفِعْلِهِمُ الطَّاغِيَةِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ، كَمَا قَالَ: "كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا" (الشَّمْسِ-11) وَقَالَ قَتَادَةُ: بِالصَّيْحَةِ الطَّاغِيَةِ، وَهِيَ الَّتِي جَاوَزَتْ مَقَادِيرَ الصِّيَاحِ فَأَهْلَكَتْهُمْ. وَقِيلَ: طَغَتْ عَلَى الخُزَّانِ [فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَيْهَا سَبِيلٌ وَلَمْ يَعْرِفُوا كَمْ خَرَجَ مِنْهَا] (3) كَمَا طَغَى الْمَاءُ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ.
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الحاقة بمكة. انظر: الدر المنثور: 8 / 263.
(2) في "ب" حقا.
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".

(8/204)


وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)

{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) }

(8/208)


وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)

{وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) }
{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} عَتَتْ عَلَى خُزَّانِهَا فَلَمْ تُطِعْهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَيْهَا سَبِيلٌ، وَجَاوَزَتِ الْمِقْدَارَ فَلَمْ يَعْرِفُوا كَمْ خَرَجَ مِنْهَا. {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ} أَرْسَلَهَا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: سَلَّطَهَا عَلَيْهِمْ {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} قَالَ وَهْبٌ: هِيَ الْأَيْامُ الَّتِي تُسَمِّيهَا الْعَرَبُ أَيْامَ الْعَجُوزِ، ذَاتُ بَرْدٍ وَرِيَاحٍ شَدِيدَةٍ. قِيلَ: سُمِّيَتْ عَجُوزًا لِأَنَّهَا فِي عَجُزِ الشِّتَاءِ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ عَجُوزًا مِنْ قَوْمِ عَادٍ دَخَلَتْ سِرْبًا فَتَبِعَتْهَا الرِّيحُ، فَقَتَلَتْهَا الْيَوْمَ الثَّامِنَ مِنْ نزولِ الْعَذَابِ وَانْقَطَعَ الْعَذَابُ {حُسُومًا} قَالَ مُجَاهِدُ وَقَتَادَةُ: مُتَتَابِعَةً لَيْسَ لَهَا فَتْرَةٌ، فَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنْ حَسْمِ الْكَيِّ وَهُوَ أَنْ يُتَابَعَ عَلَى مَوْضِعِ الدَّاءِ بِالْمِكْوَاةِ حَتَّى يَبْرَأَ، ثُمَّ قِيلَ لِكُلِّ شَيْءٍ تُوبِعَ: حَاسِمٌ وَجَمْعُهُ حُسُومٌ، مِثْلَ شَاهِدٍ وَشُهُودٌ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: حُسُومًا دَائِمَةً. وَقَالَ النَّضِرُ بْنُ شُمَيْلٍ: حَسَمَتْهُمْ قَطَعَتْهُمْ وَأَهْلَكَتْهُمْ، وَالْحَسْمُ: الْقَطْعُ وَالْمَنْعُ وَمِنْهُ حَسْمُ الدَّاءِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: [الَّذِي تُوجِبُهُ الْآيَةُ فَعَلَى مَعْنَى] (1) تَحْسِمُهُمْ حُسُومًا تُفْنِيهِمْ وَتُذْهِبْهُمْ. وَقَالَ عَطِيَّةُ: حُسُومًا كَأَنَّهَا حَسَمَتِ الْخَيْرَ عَنْ أَهْلِهَا {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا} أَيْ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي وَالْأَيْامِ {صَرْعَى} هَلْكَى جَمْعُ صَرِيعٍ {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} سَاقِطَةٍ، وَقِيلَ: خَالِيَةِ الْأَجْوَافِ. {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} أَيْ مِنْ نَفْسٍ بَاقِيَةٍ، يَعْنِي: لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ. {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ} قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، أَيْ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ جُنُودِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْبَاءِ، أَيْ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} أَيْ: قُرَى قَوْمِ لُوطٍ، يُرِيدُ: أَهَّلَ الْمُؤْتَفِكَاتِ. وَقِيلَ يُرِيدُ الْأُمَمَ الَّذِينَ ائْتَفَكُوا بِخَطِيئَتِهِمْ، أَيْ أُهْلِكُوا بِذُنُوبِهِمْ {بِالْخَاطِئَةِ} أَيْ بِالْخَطِيئَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَهِيَ الشِّرْكُ. {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} يَعْنِي لُوطًا وَمُوسَى {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} نَامِيَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: شَدِيدَةً. وَقِيلَ: زَائِدَةً عَلَى عَذَابِ الْأُمَمِ. {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} أَيْ عَتَا وَجَاوَزَ حَدَّهُ حَتَّى عَلَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَارْتَفَعَ فَوْقَهُ، يَعْنِي زَمَنَ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".

(8/208)


لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)

نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ {حَمَلْنَاكُمْ} أَيْ حَمَلْنَا آبَاءَكُمْ وَأَنْتُمْ فِي أَصْلَابِهِمْ {فِي الْجَارِيَةِ} فِي السَّفِينَةِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْمَاءِ.
{لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) }
{لِنَجْعَلَهَا} أَيْ لِنَجْعَلَ تِلْكَ الْفَعْلَةَ الَّتِي فَعَلْنَا مِنْ إِغْرَاقِ قَوْمِ نُوحٍ وَنَجَاةِ مَنْ حَمَلْنَا مَعَهُ {لَكُمْ تَذْكِرَةً} عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً {وَتَعِيَهَا} قَرَأَ الْقَوَّاسُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَسُلَيْمٍ عَنْ حَمْزَةَ بِاخْتِلَاسِ الْعَيْنِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِهَا أَيْ تَحْفَظُهَا {أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} أَيْ: حَافِظَةٌ لِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. قَالَ قَتَادَةُ: [أُذُنٌ] (1) سَمِعَتْ وَعَقَلَتْ مَا سَمِعَتْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لِتَحْفَظَهَا كُلُّ أُذُنٍ فَتَكُونُ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً لِمَنْ يَأْتِي بَعْدُ (2) . {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى. {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} رُفِعَتْ مِنْ أَمَاكِنِهَا {فَدُكَّتَا} كُسِرَتَا {دَكَّةً} كَسْرَةً {وَاحِدَةً} فَصَارَتَا هَبَاءً [مَنْثُورًا] (3) . {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} قَامَتِ الْقِيَامَةُ. {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} ضَعِيفَةٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهْيُهَا: تَشَقُّقُهَا (4) . {وَالْمَلَكُ} يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ {عَلَى أَرْجَائِهَا} نَوَاحِيهَا وَأَقْطَارِهَا ما لم 173/ب يَنْشَقَّ مِنْهَا واحدها: "رجا" مقصورًا وَتَثْنِيَتُهُ رِجَوَانِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: تَكُونُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى حَافَّتِهَا حَتَّى يَأْمُرَهُمُ الرَّبُّ فَيَنْزِلُونَ فَيُحِيطُونَ بِالْأَرْضِ وَمَنْ عَلَيْهَا {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ} أَيْ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ يَعْنِي الْحَمْلَةَ {يَوْمَئِذٍ} يَوْمَ الْقِيَامَةِ {ثَمَانِيَةٌ} أَيْ ثَمَانِيَةُ أَمْلَاكٍ.
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّهُمُ الْيَوْمَ أَرْبَعَةٌ فَإِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيَّدَهُمُ اللَّهُ بِأَرْبَعَةٍ أُخْرَى، فَكَانُوا
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) معاني القرآن للفراء: 3 / 181.
(3) في "ب" منبثا.
(4) في الموضع المتقدم.

(8/209)


ثَمَانِيَةً عَلَى صُورَةِ الْأَوْعَالِ مَا بَيْنَ أَظْلَافِهِمْ إِلَى رُكَبِهِمْ كَمَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ" (1) .
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "لِكُلِّ مَلَكٍ مِنْهُمْ وَجْهُ رَجُلٍ وَوَجْهُ أَسَدٍ وَوَجْهُ ثَوْرٍ وَوَجْهُ نَسْرٍ" (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْهَيْثَمِ التُّرَابِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْخَالِدِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ [الْحَنْظَلِيُّ] (3) حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْعَلَاءِ، عَنْ عَمِّهِ شُعَيْبِ بْنِ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمِيرَةَ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبَدِ الْمَطْلَبِ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَطْحَاءِ فَمَرَّتْ سَحَابَةٌ فَقَالَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتُدْرُونَ مَا هَذَا؟ قُلْنَا: السَّحَابُ. قَالَ: وَالْمُزْنُ؟ قُلْنَا: وَالْمُزْنُ، قَالَ: وَالْعَنَانُ؟ فَسَكَتْنَا فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَبَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَذَلِكَ غِلَظُ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ، وَفَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَحْرٌ بَيْنَ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [ثُمَّ بَيْنَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَوَعَالٍ بَيْنَ أَظْلَافِهِنَّ وَرُكَبِهِنَّ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ] (4) ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ الْعَرْشُ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ تَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ، لَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ شَيْءٌ" (5) .
وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمِيرَةَ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ عَنِ الْعَبَّاسِ.
وَرَوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ" أَيْ: ثَمَانِيَةُ صُفُوفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا يَعْلَمُ
__________
(1) أخرجه الطبري: 29 / 59 وليس فيه "على صورة الأوعال ما بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء" وهو خبر مقطوع. قال صاحب البحر المحيط: 8 / 324 "وذكروا في صفات هؤلاء الثمانية أشكالا متكاذبة ضربنا عن ذكرها صفحا".
(2) أخرجه عبد الرزاق في التفسير: 2 / 314 عن عبد الله بن وهب عن أبيه. وزاد السيوطي في الدر المنثور: 8 / 270 عزوه لعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن وهب أيضا. وذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية: 3 / 391 وعزاه لإسحاق وقال: موقوف ضعيف الإسناد. وقال البوصيري: ضعيف لجهالة بعض رواته.
(3) في "أ" الخطابي، والصحيح ما أثبت كما في "تهذيب التهذيب".
(4) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(5) حديث ضعيف رواه أبو داود في السنة، باب في الجهمية: 7 / 91-93 وقال المنذري: في إسناده الوليد بن أبي ثور، ولا يحتج بحديثه، وأخرجه الترمذي في تفسير سورة الحاقة: 9 / 234-236، وقال: "هذا حديث حسن غريب" روى الوليد ابن أبي ثور عن سماك نحوه ورفعه، وروى شريك عن سماك بعض هذا الحديث ووقفه ولم يرفعه، وأخرجه ابن ماجه في المقدمة: 1 / 69، والإمام أحمد في المسند: 1 / 206 وابن أبي عاصم في السنة: 1 / 253، والبيهقي في الأسماء والصفات: 2 / 142-143، وابن خزيمة في التوحيد ص: (68) والآجري في الشريعة ص: (292) والدارمي في الرد على الجهمية ص: (19) والذهبي في العلو للعلي الغفار ص (33) وصححه الحاكم: 2 / 288،412، وتعقبه الذهبي فقال: يحيى بن العلاء: واه، وعبد الله بن عميرة فيه جهالة. قال البخاري: لا يعرف له سماع من الأحنف بن قيس، ويحيى بن العلاء متهم بالوضع. انظر: ظلال الجنة في تخريج السنة للألباني: 1 / 254، النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد ص: (283) .

(8/210)


يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)

عِدَّتَهُمْ إِلَّا اللَّهُ (1) .
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) }
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} عَلَى اللَّهِ {لَا تَخْفَى} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "لَا يَخْفَى" بِالْيَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ {مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} أَيْ فِعْلَةٌ خَافِيَةٌ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْكُمْ شَيْءٌ. قَالَ أَبُو مُوسَى: يُعْرَضُ النَّاسُ ثَلَاثَ عَرَضَاتٍ، فَأَمَّا عَرْضَتَانِ فَجِدَالٌ وَمَعَاذِيرٌ وَأَمَّا الْعُرْضَةُ الثَّالِثَةُ فَعِنْدَهَا تَطَايُرُ الصُّحُفِ فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ وَآخِذٌ بِشَمَالِهِ (2) وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} تَعَالَوِا اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ الْهَاءُ فِي "كِتَابِيَهْ" هَاءُ الْوَقْفِ. {إِنِّي ظَنَنْتُ} عَلِمْتُ وَأَيْقَنْتُ {أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} أَيْ: [أَنِّي] (3) أُحَاسَبُ فِي الْآخِرَةِ. {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ} حَالَةٍ مِنَ الْعَيْشِ {رَاضِيَةٍ} مَرْضِيَّةٍ كَقَوْلِهِ: "مَاءٍ دَافِقٍ" (الطَّارِقِ-6) يُرِيدُ: يَرْضَاهَا بِأَنْ لَقِيَ الثَّوَابَ وَأَمِنَ الْعِقَابَ. {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} رَفِيعَةٍ. {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} ثِمَارُهَا قَرِيبَةٌ لِمَنْ يَتَنَاوَلُهَا [فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ يَنَالُهَا] (4) قَائِمًا وَقَاعِدًا وَمُضْطَجِعًا يَقْطَعُونَ كَيْفَ شَاءُوا. وَيُقَالُ لَهُمْ:
__________
(1) أخرجه الطبري: 29 / 58. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 269 أيضا لابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) أخرجه الطبري: 29 / 59، والإمام أحمد: 4 / 414 عن أبي موسى الأشعري، وعبد الرزاق في التفسير: 2 / 314، وابن ماجه في الزهد، باب ذكر البعث: 2 / 1430. قال في الزوائد: رجال الإسناد ثقات، إلا أنه منقطع، والحسن لم يسمع من أبي موسى. قاله علي بن المديني وأبو حاتم وأبو زرعة. ورواه الترمذي في القيامة: 7 / 111-112 عن أبي هريرة وقال: لا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وأشار إلى حديث أبي موسى فقال: وقد رواه بعضهم عن علي بن علي وهو الرفاعي عن الحسن عن أبي موسى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الحافظ في الفتح: 11 / 403: "أخرجه البيهقي في "البعث" بسند حسن عن عبد الله بن مسعود موقوفا".
(3) ساقط من "ب".
(4) زيادة من "ب".

(8/211)


كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)

{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) }
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ} قَدَّمْتُمْ لِآخِرَتِكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ {فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} الْمَاضِيَةِ يُرِيدُ أَيْامَ الدُّنْيَا. {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} قَالَ ابْنُ السَّائِبِ: تُلْوَى يَدُهُ الْيُسْرَى [مِنْ صَدْرِهِ] (1) خَلْفَ ظَهْرِهِ ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَهُ. وَقِيلَ: تُنْزَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى مِنْ صَدْرِهِ إِلَى خَلْفِ ظَهْرِهِ ثُمَّ يُعْطَى كتابه؛ {فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ كِتَابَهُ لِمَا يَرَى فِيهِ مِنْ قَبَائِحِ أَعْمَالِهِ. {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} يَقُولُ: يَا لَيْتَ الْمَوْتَةَ الَّتِي مُتُّهَا فِي الدُّنْيَا كَانَتِ الْقَاضِيَةُ الْفَارِغَةُ مِنْ كُلِّ مَا بَعْدَهَا وَالْقَاطِعَةُ لِلْحَيَاةِ، فَلَمْ أَحْيَ بَعْدَهَا. وَ"الْقَاضِيَةُ" مَوْتٌ لَا حَيَاةَ بَعْدَهُ يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ لِلْحِسَابِ. قَالَ قَتَادَةُ: يَتَمَنَّى الْمَوْتَ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ أَكْرَهَ مِنَ الْمَوْتِ. {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} لَمْ يَدْفَعْ عَنِّي مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْئًا. {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} ضَلَّتْ عَنِّي حُجَّتِي، عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: زَالَ عَنِّي مِلْكِي وَقُوَّتِي. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي حِينَ شَهِدَتْ عَلَيْهِ الْجَوَارِحُ بِالشِّرْكِ، يَقُولُ اللَّهُ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} اجْمَعُوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ. {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} أَيْ: أَدْخِلُوهُ الْجَحِيمَ. {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} فَأَدْخِلُوهُ فِيهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَبْعُونَ ذِرَاعًا بِذِرَاعِ الْمَلَكِ، فَتَدْخُلُ فِي دُبُرِهِ وَتَخْرُجُ مِنْ مَنْخَرِهِ (2) . وَقِيلَ: تَدْخُلُ فِي فِيهِ وَتَخْرُجُ مِنْ
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) أخرجه الطبري: 29 / 63-64. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 274 لابن أبي حاتم والبيهقي في البعث والنشور.

(8/212)


إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)

دُبُرِهِ. وَقَالَ نَوْفٌ الْبَكَالِيُّ: سَبْعُونَ ذِرَاعًا كُلُّ ذِرَاعٍ سَبْعُونَ بَاعًا كُلُّ بَاعٍ أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَكَّةَ، وَكَانَ فِي رَحْبَةِ الْكُوفَةِ (1) وَقَالَ سُفْيَانُ: كُلُّ ذِرَاعٍ سَبْعُونَ ذِرَاعًا. قَالَ الْحَسَنُ: اللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذِرَاعٍ هُوَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي السَّمْحِ، عَنْ عِيسَى بْنِ هِلَالٍ الصَّدَفِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ أَنَّ [رُضَاضَةً] (2) مِثْلَ هَذِهِ -وَأَشَارَ إِلَى مِثْلِ الْجُمْجُمَةِ -أُرْسِلَتْ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ لَبَلَغَتِ الْأَرْضَ قَبْلَ اللَّيْلِ، وَلَوْ أَنَّهَا أُرْسِلَتْ مِنْ رَأْسِ السِّلْسِلَةِ لَسَارَتْ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ أَصْلَهَا أَوْ قَعْرَهَا" (3) .
وَعَنْ كَعْبٍ قَالَ: لَوْ جُمِعَ حَدِيدُ الدُّنْيَا مَا وَزَنَ حَلَقَةً مِنْهَا.
{إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) }
__________
(1) أخرجه الطبري: 29 / 63، وعبد الرزاق في التفسير: 2 / 315. وعزاه السيوطي في الدر: 8 / 273-274 لابن المبارك وهناد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2) في المخطوطتين "رضاضة" وعند ابن كثير كذلك. وفي شرح السنة "رضراضة" وأما عند الترمذي والإمام أحمد والطبري فـ"رصاصة" وقد شرحها المباركفوري بأنها قطعة من الرصاص.
(3) أخرجه الترمذي في صفة جهنم، باب ما جاء في صفة طعام أهل النار: 7 / 313-314 وقال: "هذا حديث إسناده حسن صحيح" والإمام أحمد: 2 / 197، والطبري: 29 / 64، والمصنف في شرح السنة: 15 / 248-249.

(8/213)


فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)

{فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) }
{إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} لَا يُطْعِمُ الْمِسْكِينَ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِذَلِكَ. {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ} قَرِيبٌ يَنْفَعُهُ وَيَشْفَعُ لَهُ. {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} وَهُوَ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْغَسْلِ، كَأَنَّهُ غُسَالَةُ جُرُوحِهِمْ وَقُرُوحِهِمْ. قَالَ الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ: هُوَ شَجَرٌ يَأْكُلُهُ أَهْلُ النَّارِ. {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} أَيِ: الْكَافِرُونَ. {فَلَا أُقْسِمُ} "لَا" رَدٌّ لِكَلَامِ الْمُشْرِكِينَ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ كَمَا يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ أُقْسِمُ

(8/213)


إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)

{بِمَا تُبْصِرُونَ} أَيْ بِمَا تَرَوْنَ وَبِمَا لَا تَرَوْنَ. قَالَ قَتَادَةُ: أَقْسَمَ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ [الْمَخْلُوقَاتِ] (1) وَالْمَوْجُودَاتِ. وَقَالَ: أَقْسَمَ بِالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقِيلَ: "مَا تُبْصِرُونَ" مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَ"مَا لَا تُبْصِرُونَ" مَا فِي بَطْنِهَا. وَقِيلَ: "مَا تُبْصِرُونَ" مِنَ الْأَجْسَامِ وَ"مَا لَا تُبْصِرُونَ" مِنَ الْأَرْوَاحِ. وَقِيلَ: "مَا تُبْصِرُونَ" الْإِنْسُ وَ"مَا لَا تُبْصِرُونَ" الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ. وَقِيلَ النِّعَمُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ. وَقِيلَ: "مَا تُبْصِرُونَ" مَا أَظْهَرَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ وَاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ: و"مَا لَا تُبْصِرُونَ" مَا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ فَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ أَحَدًا.
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) }
{إِنَّهُ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ َ} أَيْ تِلَاوَةُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 174/أقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ: "يُؤْمِنُونَ وَيَذْكُرُونَ" بِالْيَاءِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ، وَأَرَادَ بِالْقَلِيلِ نَفْيَ إِيمَانِهِمْ أَصْلًا كَقَوْلِكَ لِمَنْ لَا يَزُورُكَ: قَلَّمَا تَأْتِينَا. وَأَنْتَ تُرِيدُ: لَا تَأْتِينَا أَصْلًا. {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ} تَخَرَّصَ وَاخْتَلَقَ {عَلَيْنَا} مُحَمَّدٌ {بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} وَأَتَى بِشَيْءٍ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ. {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} قِيلَ "مِنْ" صِلَةٌ مَجَازُهُ: لَأَخَذْنَاهُ وَانْتَقَمْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ أَيْ بِالْحَقِّ، كَقَوْلِهِ: "كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ" (الصَّافَّاتِ-28) أَيْ: مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَأَخَذْنَاهُ بِالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ. قَالَ الشَّمَّاخُ فِي عَرَابَةُ مَلِكِ الْيَمَنِ: إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عُرَابَةُ بِاليَمِينِ (2)
أَيْ بِالْقُوَّةِ، عَبَّرَ عَنِ الْقُوَّةِ بِالْيَمِينِ لِأَنَّ قُوَّةَ كُلِّ شَيْءٍ فِي مُيَامِنِهِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَأَخَذْنَا بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَهُوَ مِثْلُ مَعْنَاهُ: لَأَذْلَلْنَاهُ وَأَهَنَّاهُ كَالسُّلْطَانِ إِذَا أَرَادَ الِاسْتِخْفَافَ
__________
(1) في "ب" المكنونات.
(2) البيت للشماخ، وعرابة هو ابن أوس الحارثي الأنصاري من سادات المدينة أسلم صغيرا وتوفي بالمدينة نحو سنة ستين.

(8/214)


ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)

بِبَعْضِ مَنْ يُرِيدُ يَقُولُ لِبَعْضِ أَعْوَانِهِ: خُذْ بِيَدِهِ فَأَقِمْهُ.
{ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) }
{ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ نِيَاطَ الْقَلْبِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحَبْلُ الَّذِي فِي الظَّهْرِ. وَقِيلَ هُوَ عِرْقٌ يَجْرِي فِي الظَّهْرِ حَتَّى يَتَّصِلَ بِالْقَلْبِ، فَإِذَا انْقَطَعَ مَاتَ صَاحِبُهُ. {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} مَانِعِينَ يَحْجِزُونَنَا عَنْ عُقُوبَتِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنْ مُحَمَّدًا لَا يَتَكَلَّفُ الْكَذِبَ لِأَجْلِكُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَوْ تَكَلَّفَهُ لَعَاقَبْنَاهُ وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى دَفْعِ عُقُوبَتِنَا عَنْهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: "حَاجِزِينَ" بِالْجَمْعِ وَهُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ ردًا عَلَى مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ: "لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ" (الْبَقَرَةِ-285) . {وَإِنَّهُ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} أَيْ لَعِظَةٌ لِمَنِ اتَّقَى عِقَابَ اللَّهِ. {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَنْدَمُونَ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بِهِ.
{وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ.
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} .

(8/215)


سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)

سُورَةُ الْمَعَارِجِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) }
{سَأَلَ سَائِلٌ} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ: "سَالَ" بِغَيْرِ هَمْزٍ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْهَمْزِ، فَمَنْ هَمَزَ فَهُوَ مِنَ السُّؤَالِ، وَمَنْ قَرَأَ بِغَيْرِ هَمْزٍ قِيلَ: هُوَ لُغَةٌ فِي السُّؤَالِ، يُقَالُ: سَالَ يَسَالُ مَثَلُ خَافَ يَخَافُ [يَعْنِي] (2) سَالَ يَسَالُ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ وَجَعَلَهَا أَلِفًا.
وَقِيلَ: هُوَ مِنَ السَّيْلِ، وَالسَّايِلُ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ جَهَنَّمَ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: "بِعَذَابٍ" قِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى "عَنْ" كَقَوْلِهِ: "فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا" (الْفُرْقَانِ-59) [أَيْ عَنْهُ خَبِيرًا] (3)
وَمَعْنَى الْآيَةِ: سَأَلَ سَائِلٌ عَنْ عَذَابٍ {وَاقِعٍ} نَازِلٍ كَائِنٍ عَلَى مَنْ يُنَزَّلْ وَلِمَنْ ذَلِكَ الْعَذَابُ فَقَالَ اللَّهُ مُبِينًا مُجِيبًا لِذَلِكَ السَّائِلِ: {لِلْكَافِرِينَ} وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَمَّا خَوَّفَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَذَابِ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَنْ أَهَلُ هَذَا الْعَذَابِ؟ وَلِمَنْ هُوَ؟ سَلُوا عَنْهُ مُحَمَّدًا فَسَأَلُوهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: "سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ" أَيْ: هُوَ لِلْكَافِرِينَ، هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. وَقِيلَ: الْبَاءُ صِلَةٌ وَمَعْنَى الْآيَةِ: دَعَا دَاعٍ وَسَأَلَ سَائِلٌ عَذَابًا وَاقِعًا لِلْكَافِرِينَ، أَيْ: عَلَى الْكَافِرِينَ، اللَّامُ بِمَعْنَى "عَلَى" وَهُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ حَيْثُ دَعَا
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة سأل بمكة. انظر: الدر المنثور: 8 / 277.
(2) في "أ" بمعنى.
(3) ما بين القوسين زيادة من "ب".

(8/216)


مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)

عَلَى نَفْسِهِ وَسَأَلَ الْعَذَابَ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ" الْآيَةَ (الْأَنْفَالِ-32) فَنَزَلَ بِهِ مَا سَأَلَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقُتِلَ صَبْرًا، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: {لَيْسَ لَهُ} أَيْ لِلْعَذَابِ {دَافِعٌ} مَانِعٌ.
{مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) }
{مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ ذِي السَّمَاوَاتِ، سَمَّاهَا مَعَارِجَ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَعْرُجُ فِيهَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ذِي الدَّرَجَاتِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذِي الْفَوَاضِلِ وَالنِّعَمِ [وَمَعَارِجُ: الْمَلَائِكَةُ] (1) . {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ} قَرَأَ الْكِسَائِيُّ "يَعْرُجُ" بِالْيَاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "تَعْرُجُ" بِالتَّاءِ {وَالرُّوحُ} يَعْنِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {إِلَيْهِ} أَيْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} مِنْ سِنِي الدُّنْيَا لَوْ صَعِدَ غَيْرُ الْمَلَكِ وَذَلِكَ أَنَّهَا تَصْعَدُ مُنْتَهَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَسْفَلِ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ إِلَى مُنْتَهَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ.
رَوَى لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ مِقْدَارَ هَذَا خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ (2) .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَوْ سَارَ بَنُو آدَمَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى مَوْضِعِ الْعَرْشِ لَسَارُوا خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَأَرَادَ أَنَّ مَوْقِفَهُمْ لِلْحِسَابِ حَتَّى يُفْصَلُ بَيْنَ النَّاسِ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا، لَيْسَ يَعْنِي بِهِ مِقْدَارَ طُولِهِ هَذَا دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ أَوَّلٌ وَلَيْسَ لَهُ آخِرٌ لِأَنَّهُ يَوْمٌ مَمْدُودٌ، وَلَوْ كَانَ لَهُ آخِرٌ لَكَانَ مُنْقَطِعًا.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَى الْكَافِرِينَ مِقْدَارَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (3) .
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(2) أخرجه الطبري: 29 / 71.
(3) أخرجه الطبري: 29 / 71. وعزاه ابن كثير في التفسير: 4 / 420 لابن أبي حاتم. وساق أربعة أقوال في معنى (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) فلتنظر. وعزاه صاحب الدر المنثور: 8 / 279 لابن المنذر والبيهقي في البعث والنشور.

(8/220)


فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)

أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَرَجِ الْمُظَفَّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَمْزَةُ بْنُ يُوسُفَ السَّهْمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُدَيٍّ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ أَبِي السَّمْحِ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ: فَمَا أَطْوَلَ هَذَا الْيَوْمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا" (1) .
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَوْ وَلِيَ مُحَاسَبَةَ الْعِبَادِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ غَيْرُ اللَّهِ لَمْ يُفْرَغْ مِنْهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٍ. قَالَ عَطَاءٌ: وَيَفْرُغُ اللَّهُ مِنْهُ فِي مِقْدَارِ نِصْفِ يَوْمٍ مِنْ أَيْامِ الدُّنْيَا.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ عَنِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: يَقُولُ لَوْ وَلَّيْتُ حِسَابَ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَطَوَّقْتُهُمْ مُحَاسَبَتَهُمْ لَمْ يَفْرُغُوا مِنْهُ إِلَّا بَعْدَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَأَنَا أَفْرُغُ مِنْهَا فِي سَاعَةٍ [وَاحِدَةٍ] (2) مِنَ النَّهَارِ.
وَقَالَ يَمَانٌ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فِيهِ خَمْسُونَ مَوْطِنًا، كُلُّ مَوْطِنٍ أَلْفُ سَنَةٍ. وَفِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ كَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ.
{فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) }
{فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} يَا مُحَمَّدُ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَهَذَا قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْقِتَالِ. {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا} يَعْنِي الْعَذَابَ {وَنَرَاهُ قَرِيبًا} لِأَنَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ. {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} كَعَكِرِ الزَّيْتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَالْفِضَّةِ إِذَا أُذِيبَتْ. {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} كَالصُّوفِ الْمَصْبُوغِ. وَلَا يُقَالُ: "عِهْنٌ" إِلَّا لِلْمَصْبُوغِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَالصُّوفِ الْمَنْفُوشِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَالصُّوفِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ أضعف الصوف 174/ب وَأَوَّلُ مَا تَتَغَيَّرُ
__________
(1) أخرجه الطبري: 29 / 72، والإمام أحمد: 3 / 75، وابن حبان في موارد الظمآن ص: (638) والمصنف في شرح السنة: 15 / 129. وذكره ابن كثير في التفسير: 4 / 420 وقال: إن دراجا وشيخه ضعيفان.
(2) ساقط من "ب".

(8/221)


وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)

الْجِبَالُ تَصِيرُ رَمْلًا مَهِيلًا ثُمَّ عِهْنًا مَنْفُوشًا، ثُمَّ تَصِيرُ هَبَاءً مَنْثُورًا.
{وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) }

(8/222)


يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16)

{يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) }
{وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} قَرَأَ الْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ "لَا يُسْأَلُ" بِضَمِّ الْيَاءِ أَيْ: لَا يُسْأَلُ حَمِيمٌ عَنْ حَمِيمٍ، أَيْ لَا يُقَالُ لَهُ: أَيْنَ حَمِيمُكَ؟ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ، أَيْ: لَا يَسْأَلُ قَرِيبٌ قَرِيبًا لِشَغْلِهِ بِشَأْنِ نَفْسِهِ. {يُبَصَّرُونَهُمْ} يَرَوْنَهُمْ، وَلَيْسَ فِي الْقِيَامَةِ مَخْلُوقٌ إِلَّا وَهُوَ نُصْبُ عَيْنِ صَاحِبِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَيُبْصِرُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ وَقَرَابَتَهُ فَلَا يَسْأَلُهُ، وَيُبَصَّرُ حَمِيمَهُ فَلَا يُكَلِّمُهُ لِاشْتِغَالِهِ بِنَفْسِهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَتَعَارَفُونَ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ ثُمَّ لَا يَتَعَارَفُونَ بَعْدَهُ.
وَقِيلَ: "يُبَصَّرُونَهُمْ" يُعَرَّفُونَهُمْ، أَيْ: يُعَرَّفُ الْحَمِيمُ حَمِيمَهُ حَتَّى يَعْرِفَهُ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَسْأَلُهُ عَنْ شَأْنِهِ لِشَغْلِهِ بِنَفْسِهِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: يُعَرَّفُونَهُمْ أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَبِبَيَاضِ وَجْهِهِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَبِسَوَادِ وَجْهِهِ {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ} يَتَمَنَّى الْمُشْرِكُ {لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} {وَصَاحِبَتِهِ} زَوْجَتِهِ {وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ} عَشِيرَتِهِ الَّتِي فَصَلَ مِنْهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَبِيلَتُهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَقْرِبَاؤُهُ الْأَقْرَبُونَ {الَّتِي تُؤْوِيهِ} أَيِ الَّتِي تَضُمُّهُ وَيَأْوِي إِلَيْهَا. {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ} ذَلِكَ الْفِدَاءُ مِنْ عَذَابِ [رَبِّكَ] (1) . {كَلَّا} لَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْءٌ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: {إِنَّهَا لَظَى} وَهِيَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ. وقيل: هِيَ الدِّرَكَةُ الثَّانِيَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَتَلَظَّى أَيْ: تَتَلَهَّبُ. {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ "نَزَّاعَةً" نَصَبَ عَلَى الْحَالِ وَالْقَطْعِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالرَّفْعِ أَيْ هِيَ نَزَّاعَةٌ لِلشَّوَى، وَهِيَ [الْأَطْرَافُ] (2) الْيَدَانِ وَالرِّجْلَانِ [وَسَائِرُ] (3) الْأَطْرَافِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لِجُلُودِ الرَّأْسِ. وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرٍ عَنْهُ: [تَنْزِعُ] (4) اللَّحْمَ دُونَ الْعِظَامِ.
__________
(1) في "ب" الله.
(2) ساقط من "ب".
(3) ساقط من "ب".
(4) ساقط من "ب".

(8/222)


تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)

قَالَ مُقَاتِلٌ: تَنْزِعُ النَّارُ الْأَطْرَافَ فَلَا تَتْرُكُ لَحْمًا وَلَا جِلْدًا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَنْزِعُ الْجِلْدَ وَاللَّحْمَ عَنِ الْعَظْمِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْعَصَبُ وَالْعَقِبُ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لِأُمِّ الرَّأْسِ تَأْكُلُ الدِّمَاغَ كُلَّهُ ثُمَّ يَعُودُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ تَعُودُ لِأَكْلِهِ فَذَلِكَ دَأْبُهَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: لِمَكَارِمِ خَلْقِهِ وَأَطْرَافِهِ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لِمَحَاسِنِ وَجْهِهِ.
وَقَالَ ابْنُ [جَرِيرٍ] (1) "الشَّوَى" جَوَارِحُ الْإِنْسَانِ مَا لَمْ يَكُنْ مَقْتَلًا يُقَالُ: رَمَى فَأَشْوَى إِذَا أَصَابَ الْأَطْرَافَ وَلَمْ يصب المقتل (2) .
{تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) }
{تَدْعُوا} أَيِ: النَّارُ إِلَى نَفْسِهَا {مَنْ أَدْبَرَ} عَلَى الْإِيمَانِ {وَتَوَلَّى} عَنِ الْحَقِّ فَتَقُولُ إِلَيَّ يَا مُشْرِكُ إِلَيَّ يَا مُنَافِقُ إِلَيَّ إِلَيَّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَدْعُو الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ بِأَسْمَائِهِمْ بِلِسَانٍ فَصِيحٍ ثُمَّ تَلْتَقِطُهُمْ كَمَا يَلْتَقِطُ الطَّيْرُ الْحَبَّ. حُكِيَ عَنِ الْخَلِيلِ: أَنَّهُ قَالَ: تَدْعُو أَيْ تُعَذِّبُ. وَقَالَ: قَالَ أَعْرَابِيٌّ لِآخَرَ: دَعَاكَ اللَّهُ أَيْ عَذَّبَكَ اللَّهُ. {وَجَمَعَ} أَيْ: جَمَعَ الْمَالَ {فَأَوْعَى} [أَمْسَكَهُ] (3) فِي الْوِعَاءِ وَلَمْ يُؤَدِّ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ. {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} رَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [قَالَ] (4) "الْهَلُوعُ" الْحَرِيصُ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: شَحِيحًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ضَجُورًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ: بَخِيلًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: جَزُوعًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ضَيِّقَ الْقَلْبِ. وَالْهَلَعُ: شِدَّةُ الْحِرْصِ وَقِلَّةُ الصَّبْرِ. وَقَالَ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَفْسِيرُهُ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} أَيْ: إِذَا أَصَابَهُ الْفَقْرُ لَمْ يَصْبِرْ، وَإِذَا أَصَابَ الْمَالَ لَمْ يُنْفِقْ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: خَلَقُ اللَّهُ الْإِنْسَانَ يُحِبُّ مَا يَسُرُّهُ وَيَهْرَبُ مِمَّا يَكْرَهُ، ثُمَّ تَعَبَّدَهُ بِإِنْفَاقِ مَا يُحِبُّ وَالصَّبْرِ عَلَى مَا يَكْرَهُ. ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ:
__________
(1) في "ب" جبير والصحيح ما أثبت من "أ".
(2) ذكره الطبري: 29 / 76.
(3) ساقط من "أ".
(4) ساقط من "ب".

(8/223)


إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)

{إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) }
{إِلَّا الْمُصَلِّينَ} اسْتَثْنَى الْجَمْعَ مِنَ الْوُحْدَانِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ [كَقَوْلِهِ: "إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا"] (1) . {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} يُقِيمُونَهَا فِي أَوْقَاتِهَا يَعْنِي الْفَرَائِضَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ أَخْبَرَهُ قَالَ: سَأَلْنَا عُقْبَةَ بْنُ عَامِرٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: "الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ" أَهُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ أَبَدًا؟ قَالَ: لَا وَلَكِنَّهُ إِذَا صَلَّى لَمْ يَلْتَفِتْ عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ شِمَالِهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ (2) . {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ: "بِشَهَادَاتِهِمْ" عَلَى الْجَمْعِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ [بِشَهَادَاتِهِمْ] (3) [عَلَى التَّوْحِيدِ] (4) {قَائِمُونَ} أَيْ يَقُومُونَ فِيهَا بِالْحَقِّ أَوْ لَا يَكْتُمُونَهَا وَلَا يُغَيِّرُونَهَا.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(2) أخرجه الطبري: 29 / 80. وابن المبارك حدث عن ابن لهيعة قبل الاختلاط. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 284 لابن المنذر.
(3) ساقط من "أ".
(4) ساقط من "ب".

(8/224)


وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)

{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) }
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} .
{فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا} أَيْ: فَمَا بَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا، كَقَوْلِهِ: "فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ" (الْمُدَّثِّرِ-49) {قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} مُسْرِعِينَ مُقْبِلِينَ إِلَيْكَ مَادِّي أَعْنَاقِهِمْ وَمُدِيمِي النَّظَرِ إِلَيْكَ مُتَطَلِّعِينَ نَحْوَكَ.
نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ حَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُونَ كَلَامَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَيُكَذِّبُونَهُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا لَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَيَجْلِسُونَ عِنْدَكَ وَهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا يَسْتَمِعُونَ (1) . {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} حِلَقًا وَفِرَقًا، وَ"الْعِزِينُ" جَمَاعَاتٌ فِي تَفْرِقَةٍ، وَاحِدَتُهَا عِزَةٌ. {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ أَيَطْمَعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخُلَ جَنَّتِي كَمَا يُدْخُلُهَا الْمُسْلِمُونَ وَيَتَنَعَّمَ فِيهَا وَقَدْ كَذَّبَ نَبِيِّي؟ {كَلَّا} لَا يَدْخُلُونَهَا. ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} أَيْ: مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ، نَبَّهَ النَّاسَ عَلَى أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُونَ وَيَسْتَوْجِبُونَ الْجَنَّةَ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عُثْمَانَ الرَّحَبِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ جِحَاشٍ [الْقُرَشِيِّ] (2) قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَصَقَ يَوْمًا فِي كَفِّهِ وَوَضَعَ عَلَيْهَا إِصْبَعَهُ فَقَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "ابْنَ آدَمَ أَنىَّ تُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ، حَتَّى إذا سوَّيتُك 175/أوَعَدَلْتُكَ وَمَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ، وَلِلْأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 8 / 335.
(2) زيادة من "أ".

(8/225)


قُلْتَ أَتَصَدَّقُ وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ" (1)
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ [مِنْ أَجْلِ مَا يَعْمَلُونَ وَهُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ.
وَقِيلَ: "مَا" بِمَعْنَى "مَنْ" مَجَازُهُ: إِنَّا] (2) خَلَقْنَاهُمْ مِمَّنْ يَعْلَمُونَ وَيَعْقِلُونَ لَا كَالْبَهَائِمِ.
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 286 للبيهقي في الشعب عن بشير والصحيح بشر.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".

(8/226)


فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)

{فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44) }
{فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} يَعْنِي مَشْرِقَ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيْامِ السَّنَةِ وَمَغْرِبَهُ {إِنَّا لَقَادِرُونَ} {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} عَلَى أَنْ نَخْلُقَ أَمْثَلَ مِنْهُمْ وَأَطْوَعَ لِلَّهِ [وَرَسُولِهِ] (1) {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا} فِي بَاطِلِهِمْ {وَيَلْعَبُوا} فِي دُنْيَاهُمْ {حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ. {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} مِنَ الْقُبُورِ {سِرَاعًا} إِلَى إِجَابَةِ الدَّاعِي {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ} قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ [وَابْنُ عَبَّاسٍ] (2) وَحَفْصٌ: "نُصُبٍ" بِضَمِّ النُّونِ وَالصَّادِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ يَعْنُونَ إِلَى شَيْءٍ مَنْصُوبٍ، يُقَالُ: فَلَانٌ نَصْبَ عَيْنِي. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِلَى عَلَمٍ وَرَايَةٍ. وَمَنْ قَرَأَ بِالضَّمِّ، قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكِسَائِيُّ: يَعْنِي إِلَى أَوْثَانِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ [كَقَوْلِهِ: "وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ" (الْمَائِدَةِ-3) (3) قَالَ الْحَسَنُ: يُسْرِعُونَ إِلَيْهَا أَيُّهُمْ يَسْتَلِمُهَا أَوَّلًا {يُوفِضُونَ} يُسْرِعُونَ. {خَاشِعَةً} ذَلِيلَةً خَاضِعَةً {أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} يَغْشَاهُمْ هَوَانٌ {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) زيادة من "أ".
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".

(8/226)


إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)

سُورَةُ نُوحٍ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) }
{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} أَيْ: بِأَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الْمَعْنَى: إِنَّا أَرْسَلْنَاهُ لِيُنْذِرَهُمْ بِالْعَذَابِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا. {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أُنْذِرُكُمْ وَأُبَيِّنُ لَكُمْ [رِسَالَةَ اللَّهِ بِلُغَةٍ تَعْرِفُونَهَا] (2) . {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} "مِنْ" صِلَةٌ، أَيْ: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ. وَقِيلَ: يَعْنِي مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكُمْ إِلَى وَقْتِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ بَعْضُ ذُنُوبِهِمْ {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أَيْ: يُعَافِيكُمْ إِلَى مُنْتَهَى آجَالِكُمْ فَلَا يُعَاقِبْكُمْ {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يَقُولُ: آمِنُوا قَبْلَ الْمَوْتِ تَسْلَمُوا [مِنَ الْعَذَابِ] (3) فَإِنَّ أَجْلَ الْمَوْتِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ وَلَا يُمْكِنُكُمُ الْإِيمَانُ. {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} نِفَارًا وَإِدْبَارًا عَنِ الْإِيمَانِ [وَالْحَقِّ] (4) .
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة نوح بمكة. انظر: الدر المنثور: 8 / 288.
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(4) زيادة من "ب".

(8/227)


وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)

{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) }

(8/230)


يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)

{يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) }
{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ} إِلَى الْإِيمَانِ بِكَ {لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} لِئَلَّا يَسْمَعُوا دَعْوَتِي {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} غَطَّوْا بِهَا وُجُوهَهُمْ لِئَلَّا يَرَوْنِي {وَأَصَرُّوا} عَلَى كُفْرِهِمْ {وَاسْتَكْبَرُوا} عَنِ الْإِيمَانِ بِكَ {اسْتِكْبَارًا} {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا} مُعْلِنًا بِالدُّعَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِأَعْلَى صَوْتِي. {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ} كَرَّرْتُ الدُّعَاءَ مُعْلِنًا {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الرَّجُلَ بَعْدَ الرَّجُلِ أُكَلِّمُهُ سِرًا بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَدْعُوهُ إِلَى عِبَادَتِكَ وَتَوْحِيدِكَ. {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} وَذَلِكَ أَنْ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوهُ زَمَانًا طَوِيلًا حَبَسَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمَطَرَ وَأَعَقَمَ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَهَلَكَتْ أَمْوَالُهُمْ وَمَوَاشِيهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ نُوحٌ: اسْتَغْفَرُوا رَبَّكُمْ مِنَ الشِّرْكِ، أَيِ اسْتَدْعَوْا الْمَغْفِرَةَ بِالتَّوْحِيدِ، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا.
وَرَوَى مُطَرِّفٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عُمْرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ خَرَجَ يَسْتَسْقِي بِالنَّاسِ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ حَتَّى رَجَعَ، فَقِيلَ لَهُ: مَا سَمِعْنَاكَ اسْتَسْقَيْتَ؟ فَقَالَ. طَلَبْتُ الْغَيْثَ [بِمَجَادِيحِ] (1) السَّمَاءِ الَّتِي يُسْتَنْزَلُ بِهَا الْمَطَرُ، ثُمَّ قَرَأَ: "اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا" (2) .
__________
(1) واحدها مجدح، والياء زائدة للإشباع، والقياس أن يكون واحدها مجداح، فأما مجدح فجمعه مجادح. والمجدح: نجم من النجوم، قيل: هو الدبران. وقيل: هو ثلاثة كواكب كالأثافي، تشبيها بالمجدح الذي له ثلاث شعب، وهو عند العرب من الأنواء الدالة على المطر، فجعل الاستغفار مشبها بالأنواء، مخاطبة لهم بما يعرفونه لا قولا بالأنواء، وجاء بلفظ الجمع لأنه أراد الأنواء جميعها التي يزعمون أن من شأنها المطر. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير: 1 / 243.
(2) أخرجه الطبري: 29 / 93-94، وذكره ابن كثير في تفسيره: 4 / 426. قال الحافظ ابن حجر في الكافي الشاف ص: (177) "رجاله ثقات إلا أنه منقطع".

(8/230)


وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19)

{وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) }
{وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} قَالَ عَطَاءٌ: يُكَثِّرْ أَمْوَالَكُمْ وَأَوْلَادَكُمْ {وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: لَا تَرَوْنَ لِلَّهِ عَظَمَةً. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَا لَكَمَ لَا تُعَظِّمُونَ اللَّهَ حَقَّ عَظَمَتِهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا تَخَافُونَ اللَّهَ حَقَّ عَظَمَتِهِ.
وَ"الرَّجَاءُ" بِمَعْنَى الْخَوْفِ، وَ"الْوَقَارُ" الْعَظَمَةُ اسْمٌ مِنَ التَّوْقِيرِ وَهُوَ التَّعْظِيمُ.
قَالَ الْحَسَنُ: لَا تَعْرِفُونَ لِلَّهِ حَقًا وَلَا تَشْكُرُونَ لَهُ نِعْمَةً.
قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: مَا لَكَمَ لَا تَرْجُونَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ أَنْ يُثِيبَكُمْ عَلَى تَوْقِيرِكُمْ إِيَّاهُ خَيْرًا. {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} تَارَاتٍ حَالًا بَعْدَ حَالٍ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً إِلَى تَمَامِ الْخَلْقِ. {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا كَمَا يُقَالُ: أَتَيْتُ بَنِي تَمِيمٍ، وَإِنَّمَا أَتَى بَعْضَهُمْ، وَفُلَانٌ مُتَوَارٍ فِي دُورِ بَنِي فُلَانٍ وَإِنَّمَا هُوَ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وُجُوهُهُمَا إِلَى السَّمَاوَاتِ، وَضَوْءُ الشَّمْسِ وَنُورُ الْقَمَرِ فِيهِنَّ وَأَقْفِيَتُهُمَا إِلَى الْأَرْضِ (1) . وَيُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (2) .
{وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} مِصْبَاحًا مُضِيئًا. {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} أَرَادَ مَبْدَأَ خَلْقِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَالنَّاسُ وَلَدُهُ، وَقَوْلُهُ: "نَبَاتًا" اسْمٌ جُعِلَ فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ أَيْ إِنْبَاتًا قَالَ الْخَلِيلُ: مَجَازُهُ: أَنْبَتَكُمْ فَنَبَتُّمْ نَبَاتًا. {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} بَعْدَ الْمَوْتِ {وَيُخْرِجُكُمْ} مِنْهَا يَوْمَ الْبَعْثِ أَحْيَاءً {إِخْرَاجًا} {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} فَرَشَهَا وَبَسَطَهَا لَكُمْ.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في التفسير 2 / 319.
(2) ذكره الحافظ في الكافي الشاف ص: (177) وقال: موقوف.

(8/231)


لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)

{لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) }
{لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} طُرُقًا وَاسِعَةً. {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} لَمْ يُجِيبُوا دَعْوَتِي {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} يَعْنِي: اتَّبَعَ السَّفَلَةُ وَالْفُقَرَاءُ الْقَادَةَ وَالرُّؤَسَاءَ الَّذِينَ لَمْ يَزِدْهُمْ كَثْرَةُ الْمَالِ وَالْوَلَدِ إِلَّا ضَلَالًا فِي الدُّنْيَا وَعُقُوبَةً فِي الْآخِرَةِ. {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} أَيْ كَبِيرًا عَظِيمًا يُقَالُ: كَبِيرٌ وَكِبَارٌ بِالتَّخْفِيفِ كُبَّارٌ بِالتَّشْدِيدِ، كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَمَا يُقَالُ: أَمْرٌ عَجِيبٌ وَعُجَابٌ وَعُجَّابٌ بِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ أَشَدُّ فِي الْمُبَالَغَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى مَكْرِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالُوا قَوْلًا عَظِيمًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ وَقِيلَ: مَنَعَ الرُّؤَسَاءُ أَتْبَاعَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِنُوحٍ [وَحَرَّضُوهُمْ] (1) عَلَى قَتْلِهِ. {وَقَالُوا} لَهُمْ {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} أَيْ لَا تَتْرُكُوا عِبَادَتَهَا {وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِضَمِّ الْوَاوِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا {وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} هَذِهِ أَسْمَاءُ آلِهَتِهِمْ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هَذِهِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ صَالِحِينَ كَانُوا بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا كَانَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ يَقْتَدُونَ بِهِمْ وَيَأْخُذُونَ بَعْدَهُمْ بِأَخْذِهِمْ فِي الْعِبَادَةِ فَجَاءَهُمْ إِبْلِيسُ وَقَالَ لَهُمْ: لَوْ صَوَّرْتُمْ صُوَرَهُمْ كَانَ أَنْشَطَ لَكُمْ وَأَشْوَقَ إِلَى الْعِبَادَةِ، فَفَعَلُوا ثُمَّ نَشَأَ قَوْمٌ بَعْدَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ إِبْلِيسُ: إِنَّ الَّذِينَ مَنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ فَعَبَدُوهُمْ، فَابْتِدَاءُ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ كَانَ مِنْ ذَلِكَ (2) .
وَسُمِّيَتْ تِلْكَ الصُّوَرُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ لِأَنَّهُمْ صَوَّرُوهَا عَلَى صور أولئك 175/ب الْقَوْمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: صَارَتِ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ فِي قَوْمِ نُوحٍ [تُعْبَدُ] (3) فِي الْعَرَبِ [بَعْدَهُ] (4) أَمَّا وَدٌّ فَكَانَتْ
__________
(1) في "ب" وحرشوهم.
(2) عزاه صاحب الدر المنثور: 8 / 294 لعبد بن حميد.
(3) ساقط من "ب".
(4) زيادة من "ب".

(8/232)


وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)

لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَأَمَّا سُوَاعٌ فَكَانَتْ لِهُذَيْلٍ، وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لَبَنِي غَطِيفٍ بِالْجَرْفِ عِنْدَ سَبَإٍ وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ، وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرٍ لِآلِ ذِي الْكُلَاعِ (1) ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِهِ.
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ مُوسَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ قَوْلَهُ تَعَالَى: "وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا" قَالَ: كَانَتْ أَسْمَاءَ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ: أَنِ انْصِبُوا فَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا وَسَمَّوْهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَنُسِخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ (2) .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ تِلْكَ الْأَوْثَانَ دَفَنَهَا الطُّوفَانُ وَطَمَّهَا التُّرَابُ، فَلَمْ تَزَلْ مَدْفُونَةٌ حَتَّى أَخْرَجَهَا الشَّيْطَانُ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَكَانَتْ لِلْعَرَبِ أَصْنَامٌ أُخَرُ فَاللَّاتُ كَانَتْ لِثَقِيفٍ، وَالْعُزَّى لِسُلَيْمٍ وَغَطَفَانَ وَجَشْمٍ وَمَنَاةُ لِقَدِيدٍ، وَإِسَافُ وَنَائِلَةُ وَهُبَلُ لِأَهْلِ مَكَّةَ.
{وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) }
{وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} أَيْ: ضَلَّ بِسَبَبِ الْأَصْنَامِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ" (إِبْرَاهِيمَ-36) وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَضَلَّ كُبَرَاؤُهُمْ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} هَذَا دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بَعْدَمَا أَعْلَمَ اللَّهُ نُوحًا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: "أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ" (هُودٍ-36) . {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} أَيْ: مِنْ خَطِيئَاتِهِمْ وَ"مَا" صِلَةٌ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: "خَطَايَاهُمْ" وَكِلَاهُمَا جَمْعُ خَطِيئَةٍ {أُغْرِقُوا} بِالطُّوفَانِ {فَأُدْخِلُوا نَارًا} قَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الدُّنْيَا يُغْرَقُونَ مِنْ جَانِبٍ وَيَحْتَرِقُونَ مِنْ جَانِبٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فَأُدْخِلُوا نَارًا فِي الْآخِرَةِ {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} لَمْ يَجِدُوا أَحَدًا يَمْنَعُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة نوح، باب (ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق) 8 / 667.
(2) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة نوح، باب (ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق) 8 / 667. قال الحافظ - ابن حجر -: 8 / 669: "ثم قال هذا الشارح (يعني الصدفي) والصواب وهي. قلت: ووقع في رواية محمد بن ثور بعد قوله "وأما نسر فكانت لآل ذي الكلاع، قال: "ويقال هذه أسماء قوم صالحين" وهذا أوجه الكلام وصوابه، وقال بعض الشراح: محصل ما قيل في هذه الأصنام قولان: أحدهما أنها كانت في قوم نوح، والثاني أنها كانت أسماء رجال صالحين إلى آخر القصة. قلت: بل مرجع ذلك إلى قول واحد، وقصة الصالحين كانت مبتدأ عبادة قوم نوح هذه الأصنام ثم تبعهم من بعدهم على ذلك".

(8/233)


وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)

{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28) }
{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} أَحَدًا يَدُورُ فِي الْأَرْضِ فَيَذْهَبُ وَيَجِيءُ أَصْلُهُ مِنَ الدَّوَرَانِ وَقَالَ [ابْنُ قُتَيْبَةَ] (1) إِنَّ أَصْلَهُ مِنَ الدَّارِ، أَيْ: نَازِلُ دَارٍ (2) . {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: كَانَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ بِابْنِهِ إِلَى نُوحٍ فَيَقُولُ: احْذَرْ هَذَا فَإِنَّهُ كَذَّابٌ، وَإِنَّ أَبِي حَذَّرَنِيهِ فَيَمُوتُ الْكَبِيرُ وَيَنْشَأُ الصَّغِيرُ عَلَيْهِ {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَمُقَاتِلٌ، وَالرَّبِيعُ، وَغَيْرُهُمْ: إِنَّمَا قَالَ نُوحٌ هَذَا حِينَ أَخْرَجَ اللَّهُ كُلَّ مُؤْمِنٍ مِنْ أَصْلَابِهِمْ وَأَرْحَامِ نِسَائِهِمْ وَأَعْقَمَ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ وَأَيْبَسَ أَصْلَابَ رِجَالِهِمْ قَبْلَ الْعَذَابِ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً. [وَقِيلَ سَبْعِينَ سَنَةً] (3) وَأَخْبَرَ اللَّهُ نُوحًا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَا يَلِدُونَ مُؤْمِنًا فَحِينَئِذٍ دَعَا عَلَيْهِمْ نُوحٌ فَأَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، وَأَهْلَكَهُمْ كُلَّهُمْ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ صَبِيٌّ وَقْتَ الْعَذَابِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: "وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ" (الْفُرْقَانِ-37) وَلَمْ يُوجَدِ التَّكْذِيبُ مِنَ الْأَطْفَالِ (4) . {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} وَاسْمُ أَبِيهِ: لَمْكُ بْنُ مَتُّوشَلَخَ، وَاسْمُ أُمِّهِ: سَمْحَاءُ بِنْتُ أَنُوشَ، وَكَانَا مُؤْمِنَيْنِ [وَقِيلَ اسْمُهَا هَيْجَلُ بِنْتُ لَامُوشَ بْنِ مَتُّوشَلَخَ فَكَانَتْ بِنْتَ عَمِّهِ] (5) {وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ} دَارِيَ {مُؤْمِنًا} وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ: مَسْجِدِي. وَقِيلَ: سَفِينَتِي {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} هَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَصَدَّقَ الرُّسُلَ {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} هَلَاكًا وَدَمَارًا فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فَأَهْلَكَهُمْ.
__________
(1) في "ب" القتيبي.
(2) انظر: القرطين: 2 / 182.
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(4) ذكره صاحب البحر المحيط: 8 / 343 ثم قال: "وهذا لا يظهر لأنه قال: "إنك إن تذرهم يضلوا عبادك" الآية، فقوله: "ولا يلدوا إلا فاجرا وكفارا" يدل على أنه لم يعقم أرحام نسائهم، وقاله محمد بن كعب والربيع بن زيد ولا يظهر كما قلنا".
(5) ما بين القوسين ساقط من "ب".

(8/234)