تفسير التستري خطبة الكتاب
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اللهم صلّ على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم أخبرنا الشيخ الواعظ أبو نصر أحمد بن
عبد الجبار بن محمد بن أحمد بن محمد بن أبي النصر البلدي إجازة
عليه، شافهني بها في دارة يوسف أن جدّه الإمام أبا بكر محمد بن
أحمد البلدي أخبره قال: حدثنا الفقيه أبو نصر أحمد بن علي بن
إبراهيم الطائفي الصفّار قال: حدثنا أبو القاسم علي بن أحمد بن
محمد بن الحسن الوضّاحي، حدثنا أبو العباس عبد الرحمن بن الحسن
بن عمر البلخي ببلخ في سكة ساسان، وقال أبو يوسف أحمد بن محمد
بن قيس السجزي:
سمعت أبا محمد بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى في سنة خمس
وسبعين ومائتين يقول:
حدثنا محمد بن سوار عن أبي عاصم النبيل عن بشر عن عكرمة عن ابن
عباس رضي الله عنهما قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
فيم النجاة غدا؟ فقال: «عليك بكتاب الله عزَّ وجلَّ، فإن فيه
نبأ من كان قبلكم وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم من دينكم الذي
تعبدكم به الله عزَّ وجلَّ، به تصلون إلى المعرفة، ومن يرد
الهدى في غيره يضلّه الله، هو أمر الله الحكيم، وهو الصراط
المستقيم، وهو الشفاء النافع، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته
أن قالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى
الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً
«1» [الجن: 1- 2] .
هو الذي ظاهره أنيق وباطنه عميق، وهو الذي يعجز عنه كل فهم
لقول الله تعالى:
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ
الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا
قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا
قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ
وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاف: 29- 30] فسأله رجل عن
علم الله تعالى في عباده: هل هو شيء بدا له من بعد ما خلقهم،
أو كان من قبل أن يخلقوا؟ فقال: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ
[البروج: 21] أي كتاب محكم فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: 22]
قبل أن يخلقوا
__________
(1) سنن الترمذي: باب ما جاء في فضل القرآن، حديث رقم 2906،
وسنن الدارمي: حديث رقم 1331، وشعب الإيمان 2/ 326 (رقم 836) ،
3/ 71 (رقم 1935) ، ومصنف ابن أبي شيبة، حديث 30007.
(1/15)
وأن الله عز وجل فرغ من علم عباده وما
يعملون قبل أن خلقهم، ولم يجبرهم على المعصية، ولا أكرههم على
الطاعة، ولا أهملهم من تدبيره، بل نبه على ما تواعد به من كذب
بقدره فقال:
فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:
29] على وجه التهدد، إذ لا حول لهم ولا قوة إلا بما سبق علمه
فيهم أنه سيكون منه بهم، ولهم قال الله تعالى: وَإِذا أَرادَ
اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ [الرعد: 11]
فالخير من الله تعالى أمر، وإليه الولاية فيه، والشر من الله
نهي، وإليه العصمة فيه.
قال سهل رضي الله عنه: وما من آية في القرآن إلّا ولها أربعة
معان، ظاهر وباطن وحدّ ومطلع، فالظاهر التلاوة، والباطن الفهم،
والحد حلالها وحرامها، والمطلع إشراف القلب على المراد بها
فقها من الله عزَّ وجلَّ. فالعلم الظاهر علم عام، والفهم
لباطنه، والمراد به خاص، قال تعالى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ
لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [النساء: 78] أي لا يفقهون
خطابا.
قال سهل: فلا بد للعبد من مولاه، ولا بد له من كتابه، ولا بد
له من نبيه صلى الله عليه وسلّم، إذ قلبه معدن توحيده، وصدره
نور من جوهره أخذ قواه من معدنه إلى هيكله، فمن لم يكن عنده
شيء يتبع به أو أضرب عنه كذلك لم تكن الجنة منزلا له، وإذا لم
يكن الله معه وناصره فمن معه، وإذا لم يكن القرآن إمامه، ولم
يكن النبي صلى الله عليه وسلّم له شافعا من يشفع له، وإذا لم
يكن في الجنة فهو في النار.
وقوله: «صدره نور» أي موضع النور. «من جوهره» : وهو أصل محل
النور في الصدر الذي منه ينتشر النور في جميع الصدر. وإضافة
الجوهر إلى الله تعالى ليس المراد ذاته، وإنما هي على طريق
الملك. «أخذ قواه» : يعني قوى النور من معدنه، وهو الصدر وما
حل مصدق. «إلى هيكله» : يعني إلى جوارحه، وإنما عنى بها نور
الطاعات التي في الجوارح، فمن لم يكن عنده شيء من الهداية سمع
به، أي فهم به.
وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «القرآن شافع مشفّع وما حل
مصدق، فمن شفع له القرآن نجا، ومن محل به هلك» «1» . وقال سهل:
إن الله تعالى أنزل القرآن على نبيه صلّى الله عليه وسلّم،
وجعل قلبه معدنا لتوحيده والقرآن، فقال: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ [الشعراء: 193- 194] وكلفه
تبليغه والبيان عنه ليعلم المؤمنون به ما أنزل إليهم، فمن آمن
به وعلم تبيانه وعمل بحكمه كان كامل الإيمان لله تعالى، ومن
آمن به وقرأه ولم يعمل بعلم ما فيه لم يكمل أجره. والناس في
قراءة القرآن على ثلاثة مقامات فقوم أعطوا الفهم بقيامهم بأداء
الأمر واجتناب النهي من
__________
(1) نوادر الأصول 3/ 260.
(1/16)
الظاهر والباطن، وصدقهم فيه بنور بصيرة
اليقين، وهو سكون القلب إلى الله تعالى في كل حال وعلى كل حال،
فليس لهؤلاء همة في الألحان ولا في التطريب بطيبة الصوت تكلفا،
إنما همهم التفهّم وطلب المزيد من الله تعالى فهما لأمره
ونهيه. والمراد من أحكام فرضه وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم،
فهم بعلمه عاملون، وبالله مستعينون، وعلى آدابه صابرون كما
أمرهم بقوله: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا [الأعراف:
128] أي استعينوا بالله على أمر الله بالسنة فرضا، أي سنة
الله، واصبروا على آدابه باطنا وظاهرا، كي يكسبكم فهما وفطنة.
والمراد منه تفضلا لا يبالون بطيب حنجرة الأصوات، فهم الذين
أعطاهم الله تعالى فهم القرآن، هم خاصة الله وأولياؤه، لا هم
للدنيا، ولا الدنيا منهم في شيء، ولا فيما في الجنة رغبوا، أخذ
منهم الدنيا فلم يبالوا، وهبها لهم فردوها كما ردها نبيهم صلّى
الله عليه وسلّم لمّا عرضت عليه، طرحوا أنفسهم بين يديه رضى
وسكونا إليه وقالوا: لا بد لنا منك أنت أنت، لا نريد سواك، فهم
المتفردون بالله كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «سيروا،
سبق المفردون إلى رحمة الله، قالوا: ومن المفردون يا رسول
الله؟ قال: الذين اهتروا بالذكر لله تعالى، يأتون يوم القيامة
خفافا قد حط الذكر عنهم أثقالهم» «1» . قال سهل: هم المشايخ
المهترون «2» في الذكر بالذكر لله تعالى، مجالسون كما قال
النبي صلى الله عليه وسلّم: يقول الله تعالى: «أنا جليس من
ذكرني حيثما التمسني عبدي وجدني» «3» ، وقال تعالى: فَأَيْنَما
تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115] .
باب صفات طلاب فهم القرآن
قال الله عزّ وجلّ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ
(192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء: 192- 194] قال سهل:
فعلى مقدار النور الذي قسمه الله تعالى له يجد هداية قلبه
وبصيرته، فظهر على صفاته أنوار نوره، قال الله تعالى: وَمَنْ
لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ
[النور: 40] فالقرآن حبل الله بين الله وبين عباده، من تمسك به
نجا، لأن الله تعالى جعل القرآن نورا وقال: وَلكِنْ جَعَلْناهُ
نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشورى: 52]
ومعنى جعلنا: بيّنّا ما فيه من محكم ومتشابه، وحلال وحرام،
وأمر ونهي، كما قال الله عزّ وجلّ:
__________
(1) نوادر الأصول 3/ 64.
(2) جاء في المصدر السابق: (المهتر إذا نطق يشبه كلامه كلام من
لم يستعمله عقله، لأن العقل يخرج الكلام على اللسان بتدبير
وتؤدة وتأن، وهذا المهتر إنّما ينطق به، فكأنه الماء على لسانه
يجري، حتى يشبه الهذيان في بعض أحواله، وهو في الباطن مع الله
تعالى من أصفى الناطقين وأصدقهم. والمهتر في اللغة: الشيخ
الكبير الذي قد أفند عقله ... ) .
(3) شعب الإيمان 1/ 451.
(1/17)
إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا
[الزخرف: 3] أي بينّاه بلسان عربي مبين، يعني بحروف المعجم
التي بينها الله لكم، بها تعرفون ظاهرا وباطنا. وقال الله
تعالى: وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ
[الأعراف: 157] يعني القرآن الذي قلب النبي صلى الله عليه
وسلّم معدنه. قيل له: ما معنى قوله: «القرآن حبل الله بين الله
وبين عباده» ؟ قال: لا طريق لهم إليه إلّا به، وبفهم ما خاطبهم
فيه للمراد منهم به، والعمل بالعلم لله مخلصين فيه، والاقتداء
بسنة محمد صلّى الله عليه وسلّم المبعوث إليهم، كما قال تعالى:
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80]
يعني من يطع الرسول صلّى الله عليه وسلّم في سنته فقد أطاع
الله في فرائضه.
وقال ابن عباس «1» رضي الله عنهما: أنزل الله تعالى القرآن
جملة واحدة إلى سماء الدنيا، ثم نجّمه الله تعالى على النبي
صلى الله عليه وسلّم خمس آيات وأقل وأكثر «2» . قوله سبحانه
وتعالى:
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ
لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ
[الواقعة: 75- 77] وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لم ينزل
القرآن في شهر ولا في شهرين، ولا في سنة ولا في سنتين، بل كان
بين نزول أوله ونزول آخره عشرون سنة أو ما شاء الله من ذلك،
وذلك لأن لإسرافيل مكانا في العرش خافض بصره وحوله الملائكة
السّفرة الكرام البررة ولوح من زمرّد، فإذا أراد الله أمرا كان
في ذلك اللوح، فقرع ذلك جبينه ينظر ما فيه، فبعث الرسل، فذلك
قوله: فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: 22] لأن القرآن أنزل جملة
واحدة على السّفرة الكرام الكاتبين، فنجّمته السّفرة الكرام
الكاتبون على جبريل عليه السلام عشرين سنة، فنجّمه جبريل عليه
السلام على النبي صلى الله عليه وسلّم كذلك «3» ، فقال
المشركون: لولا نزل الله عليه القرآن جملة واحدة، فقال الله
تعالى: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الفرقان: 32] أي
ليكون ذلك جوابا لما يسألونك عنه. إذ لو أنزلناه جملة واحدة لم
يكن عندك جواب سؤالهم. وقال سهل: أنزل الله القرآن على خمسة
أخماس خمس محكم وخمس متشابه وخمس حلال وخمس حرام وخمس أمثال.
فالمؤمن العارف بالله تعالى يعمل بمحكمه، ويؤمن بمتشابهه،
ويحلّ حلاله،
__________
(1) عبد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي (3 ق هـ-
68 هـ) : حبر الأمة، الصحابي الجليل، نشأ في بدء عصر النبوة.
روى الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وشهد
مع علي الجمل وصفين.
(الإصابة: ت 4772 والحلية 1/ 314) .
(2) البرهان في علوم القرآن 1/ 128 والإتقان 1/ 146، 156 وفي
شعب الإيمان 2/ 331 أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
(تعلموا القرآن خمسا خمسا، فإن جبريل عليه السلام نزل القرآن
على النبي صلى الله عليه وسلّم خمسا خمسا) .
(3) الإتقان 1/ 147.
(1/18)
ويحرّم حرامه، ويعقل أمثاله «1» ، كما قال:
وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 43] أي أهل
العلم بالله تعالى والمعرفة به خاصة.
قال سهل: في القرآن آيتان ما أشدّهما على من يجادل في القرآن،
وهما قوله تعالى: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا
الَّذِينَ كَفَرُوا [غافر: 4] أي يماري في آيات الله ويخاصم
بهوى نفسه وطبع جبلّة عقله، قال تعالى: وَلا جِدالَ فِي
الْحَجِّ [البقرة: 197] أي لا مراء في الحج. والثانية قوله:
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ
بَعِيدٍ [البقرة: 176] .
قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «معاشر الناس، لا تجادلوا في
القرآن فإن جادل به المؤمن المهتدي أصاب، وإن جادل به المنافق
المفتري أقام حجّة بالقياس والهوى بغير صواب» .
وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «شرار عباد الله يتبعون شرار
المسائل ليمتحنوا بها عباد الله أعناتا» «2» .
والله تعالى خصمهم يوم القيامة، لأن كل سائل مسؤول يوم القيامة
ما أردت به.
وقال سهل: العجب كل العجب لمن قرأ القرآن ولم يعمل به، ولم
يجتنب ما نهاه الله عنه، أما استحيا من الله ومحاربته ومخالفته
وأمره ونهيه بعد علمه به؟ فأي شيء أعظم من هذه المحاربة؟ ألم
يسمع وعده ووعيده؟ ألم يسمع ما وعد الله به من النكال فيرحم
نفسه ويتوب؟
ألم يسمع قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] فيجهد في الإحسان؟
ألم يسمع قوله: «ورحمتي سبقت عذابي» فيرغب في رحمته.
وقال سهل: اللهم أنت أكرمتهم بالموهبة الجميلة، وخصصتهم بهذه
الفضيلة، اللهم فاعف عنا وعنهم، ثم قال: إن الله تعالى ما
استولى وليا من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم إلّا علّمه
القرآن إما ظاهرا وإما باطنا، قيل له: إن الظاهر نعرفه،
فالباطن ما هو؟ قال: فهمه، وإن فهمه هو المراد. قال أبو بكر
السّجزي: سمع مني هذه الحكاية الجنيد «3» فقال: صدق سهل، كان
عندنا ببغداد عبد أسود عجميّ اللسان، نسأله عن القرآن آية آية،
فيجيبنا عن ذلك بأحسن جواب، وهو لا يحفظ القرآن، وتلك دلالة
ولايته.
__________
(1) في المستدرك على الصحيحين 2/ 317: (.... ونزل القرآن من
سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر وآمر، وحلال وحرام، ومحكم
ومتشابه، وأمثال. فأحلوا حلاله ... ) . [.....]
(2) المدخل إلى السنن الكبرى ص 230، رقم 307 وجامع العلوم
والحكم ص 93.
(3) الجنيد بن محمد بن الجنيد البغدادي الخزاز (ت 297 هـ 910
م) : صوفي، من علماء الدين، مولده ونشأته ووفاته ببغداد. أول
من تكلم في علم التوحيد ببغداد. من آثاره: «رسائل» ، و «دواء
الأرواح» .
(الحلية 10/ 255 وتاريخ بغداد 7/ 241) .
(1/19)
قال سهل: روي عن ابن مسعود «1» رضي الله
تعالى عنه أنه قال: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا
الناس نائمون، وبصيامه إذا الناس يفطرون، وبحزنه إذا الناس
يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يتكلمون،
فينبغي أن يكون حامل القرآن باكيا حزينا حكيما عالما، لا جافيا
ولا غائلا «2» ، يعني أن لا يكون كذابا. قال سهل: أخبرني محمد
بن سوار «3» أنه حج سنة من السنين فرأى أيوب السّختياني «4» قد
ابتدأ بأول القرآن مصليا، وإذا بناحية منه رجل من أهل البصرة
مستقبل الكعبة قد ابتدأ بسورة: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ
[المطففين: 1] وهو يردد قوله تعالى: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ
أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ [المطففين: 4] قال: فبلغ أيوب
السختياني إلى ثلثي القرآن وذلك الرجل يردد هذه الآية، فلما
كان عند السحر بلغ أيوب «الفيل» ، وانتهى الرجل إلى قوله:
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين: 6]
وغشي عليه، فتقدمنا إلى الرجل فوجدناه ميتا.
وقد اختلف الناس في طلب فهم القرآن، فقوم طلبوا فهم القرآن
بتكرار درسه ليستخرجوا فهم ظاهر أحكامه، فمنهم مقلّ ومنهم مكثر
عالم عامل لله تعالى بمنازل الجنة، وعامل لله تعالى إيجابا،
وعالم به لا عامل له، وقوم طلبوه لحفظ التلاوة والتعليم لغيره،
منهم سليم في فعله، ومنهم مغتر بربه، ورجل كثير الدرس له
ومراده تعلم طلب الألحان، ويريد أن يشار إليه، ويكسب من حطام
الدنيا، فهو من أخسر الثلاثة عند الله تعالى. قال سهل: وأخبرني
محمد بن سوار عن عمرو بن مرداس «5» عن أبي هريرة «6» رضي الله
تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
__________
(1) عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي ( ... - 32 هـ)
: صحابي، من أكابرهم فضلا وعقلا، من السابقين إلى الإسلام. كان
خادم رسول الله الأمين وصاحب سره. ولي بيت مال الكوفة.
(الإصابة ت 4955 والحلية 1/ 124) .
(2) شعب الإيمان 2/ 290 (رقم 1807) وكتاب الزهد لابن أبي عاصم
ص 162 ونسب هذا القول إلى سفيان الثوري في المدخل إلى السنن
الكبرى ص 339 (رقم 557) .
(3) محمد بن سوار: يقال إنه كان خال سهل بن عبد الله التستري.
روي عن ابن عيينة، وعنه سهل. (تهذيب التهذيب 9/ 186) .
(4) أيوب السختياني: أيوب بن أبي تميمة كيسان السختياني
البصري، أبو بكر (66- 131 هـ) : سيد فقهاء عصره. تابعي، من
النساك الزهاد، من حفاظ الحديث. كان ثبتا ثقة. (الحلية 3/ 3) .
(5) عمرو بن مرداس: من رواة الحديث عن بلال وأبي هريرة.
(الإصابة ت 6515) .
(6) أبو هريرة: عبد الرحمن بن صخر الدوسي (20 ق هـ- 59 هـ) :
صحابي، كان أكثر الصحابة حفظا للحديث ورواية له. لزم صحبة
النبي صلى الله عليه وسلّم. ولي إمرة المدينة مدة، ثم البحرين.
(الإصابة، الكنى ت 1179 والحلية 1/ 376) .
(1/20)
«اقرؤوا القرآن بلحون العرب من غير تكلف
لغيرها، ولا تقرءوه بلحون أهل الكنائس والبيع وأهل الأهواء
والبدع، فإني وأمتي الأتقياء براء من التكلف، وإنه سيأتي أقوام
من بعدي يرجّعون فيه أصواتهم ترجع القينات بالأغاني، مفتونة
قلوبهم فتانة لقلب السامع، أولئك هم الغافلون» «1» . قال سهل:
وإني أخاف بعد ثلاثمائة إلى ما فوقها أن يندرس القرآن بالتشاغل
بالألحان والقصائد والأغاني، قيل له: وكيف ذلك يا أبا محمد؟
فقال: لأنهم ما أحدثوا هذه الألحان والقصائد والأغاني إلّا
للتكسّب بها، حتى ملك إبليس قلوبهم، كما ملك قلوب شعراء
الجاهلية، وحرموا فهم القرآن والعمل لله به. وقد حكى محمد بن
سوار عن ابن أبي ذئب «2» عن محمد بن عبد الرحمن «3» عن ثوبان
«4» أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: «سماع الأغاني
ينسي القرآن ويشغل عن الذكر» . قال أبو بكر: كان أبو سعيد
الخراز «5» مقيما بمكة، وكان من أشد الناس محبة للسماع من
قصائد الجذل وأشعار الغزل، فأخبرني غلامه أبو الأذنين أنه رآه
بعد موته في المنام، وقال له: ما فعل الله بك يا أبا سعيد؟
فقال: غفر لي بعد توبيخ وددت أنه أمر بي إلى النار ولم يوبخني.
فقلت له: ولم ذلك؟ قال: أوقفني الحق بين يديه من وراء حجاب
الخوف، وقال لي: حملت أمري على ليلى وسعدى، ولولا أنك وقفت لي
وقفة أردتني بها لأمرت بك إلى النار، فلما أن زال حجاب الخوف
إلى حجاب الرضا قلت: يا إلهي لم أجد من يحمل عني ما حملتني
غيرك فأشرت إليك، قال: صدقت، وأمر بي إلى الجنة، والله أعلم.
__________
(1) نوادر الأصول 3/ 255 وشعب الإيمان 2/ 540 (رقم 2649) ومجمع
الزوائد 7/ 169 والمعجم الأوسط 7/ 183.
(2) ابن أبي ذئب: محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة، من بني عامر
(80- 158 هـ) : تابعي، من رواة الحديث من أهل المدينة، كان
يفتي بها. (الأعلام 6/ 189) .
(3) محمد بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي بالولاء ( ... - 123
هـ) : مقرىء أهل مكة بعد ابن كثير، وأعلم قرائها بالعربية، كان
لا بأس به في الحديث. (الأعلام 6/ 189) .
(4) ثوبان بن يجدد، أبو عبد الله ( ... - 54 هـ) : مولى رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم، اشتراه النبي ثم أعتقه، فلم يزل
يخدمه إلى أن مات، فخرج ثوبان إلى الشام، واستقر بحمص، وتوفي
بها. (الأعلام 2/ 102) .
(5) أبو سعيد الخراز: عبد الرحيم بن عبد الله بن عبد الرحيم بن
البرقي ( ... - 286 هـ) : شيخ الصوفية، وراوي السيرة. قال
السلمي: هو إمام القوم في كل فن من علومهم. (سير أعلام النبلاء
13/ 420 وتذكرة الحفاظ 2/ 637) . وثمت رجل آخر اسمه أبو سعيد
الخراز، وهو أحمد بن عيسى البغدادي الصوفي ( ... - 277 أو 286
هـ) من كبار شيوخ الصوفية، وأحد المذكورين بالورع والمراقبة،
وحسن الرعاية والمجاهدة. (تاريخ بغداد 4/ 276) .
(1/21)
فصل في قوله بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ
قال أبو بكر: سئل سهل عن معنى: «بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ»
فقال:
الباء بَهاء الله عزَّ وجلَّ. والسين سناء الله عزَّ وجلَّ.
والميم مجد الله عزّ وجلّ «1» .
والله: هو الاسم الأعظم الذي حوى الأسماء كلها، وبين الألف
واللام منه حرف مكنى غيب من غيب إلى غيب، وسر من سر إلى سر،
وحقيقة من حقيقة إلى حقيقة. لا ينال فهمه إلاَّ الطاهر من
الأدناس، الآخذ من الحلال قواماً ضرورة الإيمان.
والرحمن: اسم فيه خاصية من الحرف المكنى بين الألف واللام.
والرحيم: هو العاطف على عباده بالرزق في الفرع والابتداء في
الأصل رحمة لسابق علمه القديم.
قال أبو بكر: أي بنسيم روح الله اخترع من ملكه ما شاء رحمة
لأنه رحيم. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «الرحمن
الرحيم» اسمان رقيقان أحدهما أرقُّ من الآخر «2» ، فنفى الله
تعالى بهما القنوط عن المؤمنين من عباده.
__________
(1) نسب هذا القول إلى النبي عيسى عليه السلام في الفردوس،
بمأثور الخطاب 1/ 229 وانظر مثل هذا القول في تأويل مشكل
القرآن ص 309. [.....]
(2) نسب هذا القول إلى ابن عباس رضي الله عنه في عمدة الحفاظ
2/ 80 (رحم) .
(1/22)
|