تفسير السمرقندي
بحر العلوم قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ
أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا
سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ
فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)
وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً
وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى
اللَّهِ شَطَطًا (4)
سورة الجن
وهي ثمان وعشرون آية مكية
[سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ
فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى
الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً
(2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً
وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى
اللَّهِ شَطَطاً (4)
قوله تعالى قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ يعني: قل يا محمد أوحى الله
إلي، وأخبرني الله تعالى في القرآن. أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ
مِنَ الْجِنِّ، وهم تسعة من أهل نصيبين، من أهل اليمن، من
أشرافهم. والنفر ما بين الثلاثة إلى العشرة. وروى سعيد بن
جبير، عن ابن عباس قال: انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم
مع طائفة من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين
الشياطين وبين السماء أي: بين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب،
فقالوا: ما هذا إلا لشيء حدث فضربوا مشارق الأرض ومغاربها،
يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء. فوجدوا النفر
الذين خرجوا نحو تهامة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم بنخلة،
وهو يصلي مع أصحابه صلاة الفجر، فاستمعوا منه، فقالوا: هذا
والله الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم
فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى
الرُّشْدِ، فأنزل الله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ
اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ يعني: طائفة وجماعة من الجن،
فقالوا: إِنَّا سَمِعْنا يعني: قالوا بعد ما رجعوا إلى قومهم.
إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يعني: عزيزاً شريفاً كريماً،
ويقال: عزيزاً لا يوجد مثله.
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ يعني: يدعو إلى الهدى، وهو الإسلام.
ويقال: إلى الصواب، والتوحيد، والأمر والنهي. ويقال: يدل على
الحق. فَآمَنَّا بِهِ يعني: صدقنا بالقرآن. ويقال: آمنا بالله
تعالى. وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً يعني: إبليس، يعني:
لن نشرك بعبادته أحداً من خلقه.
ثم قال عز وجل: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا أي: ارتفع عظمة
ربنا ويقال: ارتفع ذكره، ويقال: ارتفع ملكه وسلطانه. مَا
اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً يعني: لم يتخذ زوجة ولا ولداً،
(3/503)
وَأَنَّا ظَنَنَّا
أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
(5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ
بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ
ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا
(7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ
حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ
مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ
لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ
أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ
رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ
ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ
لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ
هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ
فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا
رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا
الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا
(14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا
(15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ
لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ
وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا
صَعَدًا (17)
كما زعم الكفار. واتفق القراء في قوله:
أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ على نصب الألف، لأن معناه قل:
أوحي إلي بأنه استمع. واتفقوا في قوله: إِنَّا سَمِعْنا على
الكسر، لأنه على معنى الابتداء.
واختلفوا فيما سوى ذلك. قرأ حمزة، والكسائي، وابن عامر كلها
بالنصب بناء على قوله:
أَنَّهُ اسْتَمَعَ، إلا في حرفين أحدهما فَإِنَّ لَهُ نارَ
جَهَنَّمَ بالكسر، والأخرى قوله: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ بالكسر على معنى الابتداء. وقرأ أبو عمرو،
وابن كثير كلها بالكسر، إلا في أربعة أحرف: قُلْ أُوحِيَ
إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ، وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا، وَأَنَّ
الْمَساجِدَ، وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ.
قرأ عاصم في رواية أبي بكر، ونافع في إحدى الروايتين هكذا، إلا
في قوله وأنه لما قام عبد الله وإنما اختاروا الكسر لهذه
الأحرف، بناء على قوله: إِنَّا سَمِعْنا وقال أبو عبيد: ما كان
من قول الجن، فهو كسر، ومعناه وقالوا: إنه تعالى وقالوا:
أَنَّهُ كانَ يَقُولُ وما كان محمولاً على قوله أوحى فهو نصب
على معنى أوحي إلي أنه ثم قال: وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ
سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً يعني: جاهلنا يعني: إبليس-
لعنه الله- ويقال: وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا يعني:
كفرة الجن. عَلَى اللَّهِ شَطَطاً يعني: كذباً وجوراً من
المقال.
[سورة الجن (72) : الآيات 5 الى 17]
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ
عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ
الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ
رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ
يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ
فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8)
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ
يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9)
وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ
أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا
الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً
(11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي
الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا
سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ
فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا
الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ
فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14)
وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15)
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ
ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ
ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17)
ثم قال عز وجل: وَأَنَّا ظَنَنَّا يعني: حسبنا أَنْ لَنْ
تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً يعني:
نتوهم أن أحداً لا يكذب على الله، وإلى هاهنا حكاية كلام الجن.
(3/504)
يقول الله تعالى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ
مِنَ الْإِنْسِ يعني: في الجاهلية يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ
الْجِنِّ، وذلك أن الرجل إذا نزل في فضاء من الأرض، كان يقول
أعوذ بسيد هذا الوادي، فيكون في أمانهم تلك الليلة.
فَزادُوهُمْ رَهَقاً يعني: زادوا للجن عظمة وتكبروا، ويقولن:
بلغ من سُؤُدُدنا أن الجن والإنس يطلبون منا الأمان،
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ يعني: كفار الجن حسبوا
كما حسبتم يا أهل مكة، أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً
يعني: بعد الموت، يعني:
إنهم كانوا غير مؤمنين، كما أنكم لا تؤمنون. ويقال: إنهم ظنوا
كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً يعني: رسولاً. فقد أرسل محمدا
صلّى الله عليه وسلم.
ثم رجع إلى كلام الجن، فقال: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ
يعني: صعدنا وأتينا السماء لاستراق السمع. فَوَجَدْناها
مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً يعني: حفاظاً أقوياء من الملائكة.
وَشُهُباً يعني: رُمينا نجماً متوقداً. وَأَنَّا كُنَّا
نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ يعني: كنا نقعد فيما مضى
للاستماع من الملائكة، ما يقولون فيما بينهم من الكوائن.
فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً يعني:
نجماً مضيئاً. والرصد: الذي أرصد للرجم يعني: النجم. وروى عبد
الرزاق، عن معمر قال: قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في
الجاهلية؟ قال: نعم.
قلت: أفرأيت قوله: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ
شِهاباً رَصَداً قال: غلظ وشدد أمرها حين بُعث النبيّ صلّى
الله عليه وسلم. قال الجن بعضهم لبعض: وَأَنَّا لاَ نَدْرِي
أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ؟ يعني:
يبعثه فلم يؤمنوا فيهلكوا أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ
رَشَداً؟ يعني: خيراً وصواباً، فيؤمنوا ويهتدوا.
ويقال: لا ندري أخيراً أريد بأهل الأرض أو الشرحين حرست
السماء، ورُمينا بالنجوم، وَمُنعنا السمع؟ ويقال: أريد عذاباً
بمن في الأرض، بإرسال الرسول بالتكذيب له، أو أراد بهم ربهم
خيراً ببيان الرسول لهم هدى وبياناً.
ثم قال عز وجل: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ يعني: الموحدين
والمسلمين. وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ يعني: ليسوا بموحدين. كُنَّا
طَرائِقَ قِدَداً يعني: فينا أهواء مختلفة وملل شتى. وقال
القتبي: يعني: فرقاً مختلفة، وكل فرقة قدة مثل القطعة في
التقدير، والطرائق: جمع الطريق.
قوله تعالى: وَأَنَّا ظَنَنَّا يعني: علمنا وأيقنا أَنْ لَنْ
نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ يعني: لا يفوت أحد من الله
تعالى. وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً، لا يقدر الهرب منه.
قال الله عزّ وجلّ: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى يعني:
القرآن يقرؤه محمد صلّى الله عليه وسلم، آمَنَّا بِهِ يعني:
صدقنا بالقرآن ويقال: بالنبي صلّى الله عليه وسلم ويقال: صدقنا
بالله تعالى فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ قال بعضهم هذا من كلام
الله تعالى للنبي صلّى الله عليه وسلم فمن يصدق بوحدانية الله
تعالى، فَلا يَخافُ بَخْساً يعني: نقصاناً من ثواب عمله، وَلا
رَهَقاً يعني: ذهاب عمله. وهذا كقوله تعالى فَلا يَخافُ
ظُلْماً وَلا هَضْماً. [طه: 112] ويقال: هذا كلام الجن بعضهم
لبعض، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا
رَهَقاً. والرهق: الظلم أن يجعل ثواب عمله لغيره. والبخس
النقصان من ثواب عمله.
(3/505)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ
لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ
لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ
عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا
أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ
ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ
اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)
إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ
فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ
فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا
(24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ
يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا
يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى
مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا
رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى
كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
قوله تعالى: وَأَنَّا مِنَّا
الْمُسْلِمُونَ يعني: المصدقين بوحدانية الله تعالى، وَمِنَّا
الْقاسِطُونَ يعني: العادلين عن طريق الهدى ويقال:
الْقاسِطُونَ يعني: الجائرين. يقال:
قسط الرجل، إذا جار. وأقسط، إذا عدل. كقوله تعالى: إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. ثم قال:
فَمَنْ أَسْلَمَ يعني: أقر بوحدانية الله تعالى وأخلص بالتوحيد
له، فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً يعني: نوراً وتمنوا وقصدوا
ثواباً.
ثم قال عز وجل: أَمَّا الْقاسِطُونَ
يعني: العادلين عن الطريق، الجائزين، كانُوا لِجَهَنَّمَ
حَطَباً
يعني: وقوداً- قال الله تعالى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى
الطَّرِيقَةِ. قال مقاتل: لو استقاموا على طريقة الهدى، يعني:
أهل مكة، لَأَسْقَيْناهُمْ مَّاء غَدَقاً يعني: كثيراً من
السماء، كقوله: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا
وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ [الأعراف: 96] ثم قال عز وجل: لِنَفْتِنَهُمْ
فِيهِ يعني: لنبتليهم به، كقوله: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ
النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً [الزخرف: 33] الآية. وقال قتادة:
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ، يعني:
آمنوا لوسّع الله عليهم الرزق وقال القتبي: هذا مثل ضربه الله
تعالى للزيادة في أموالهم ومواشيهم، كقوله: وَلَوْلا أَنْ
يَكُونَ النَّاسُ ثم قال: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ
يعني:
توحيد ربه ويقال: يكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلم والقرآن،
يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً يعني: يكلفه الصعود على جبل أملس.
وقال مقاتل: عَذاباً صَعَداً أي: شدة العذاب. وقال القتبي:
يعني: شاقاً وقال قتادة: صعوداً من عذاب الله تعالى، لا راحة
فيه.
[سورة الجن (72) : الآيات 18 الى 28]
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ
أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ
كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما
أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي
لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي
لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ
دُونِهِ مُلْتَحَداً (22)
إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ
فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ
فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ
رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى
غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ
فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
رَصَداً (27)
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ
بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)
(3/506)
ثم قال عز وجل: وَأَنَّ الْمَساجِدَ
لِلَّهِ. قال الحسن: يعني: الصلاة لله تعالى وقال قتادة: كانت
اليهود والنصارى يدخلون كنائسهم، ويشركون بالله تعالى. فأمر
الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يخلص الدعوة له إذا
دخل المسجد. وقال القتبي: قوله: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ
يعني:
السجود لله. ويقال: هي المساجد بعينها يعني: بنيت المساجد،
ليعبدوا الله تعالى فيها. فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً
يعني: لا تعبدوا أحداً غير الله تعالى. قرأ حمزة، والكسائي،
وعاصم يَسْلُكْهُ بالياء، والباقون بالنون، وكلاهما يرجع إلى
معنى واحد. يقال: سلكت الخيط في الإبرة وأسلكته، إذا أدخلته.
قوله عز وجل: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يعني:
محمدا صلّى الله عليه وسلم لما قام إلى الصلاة ببطن نخلة.
يَدْعُوهُ يعني: يصلي لله تعالى، ويقرأ كتابه. كادُوا
يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً يعني:
يركب بعضهم بعضاً، ويقع بعضهم على بعض. ثم قال عز وجل: قُلْ
إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي. قرأ حمزة، وعاصم: قُلْ إِنَّما
أَدْعُوا رَبِّي على معنى الأمر، يعني: قل يا محمد إنما أدعوا
ربي، يعني: أعبده. وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً. قرأ الباقون
على معنى الخبر عنهم. قرأ ابن عامر في رواية هشام عَلَيْهِ
لِبَداً بضم اللام، والباقون بكسرها ومعناهما واحد. وقال
القتبي:
يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً أي: يتلبدون به رغبة في استماع
القرآن. يقال: لبدت به، أي: لصقت به، ومعناه: كادوا أن يلصقوا
به.
قوله تعالى: قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا
رَشَداً يعني: لا أقدر لكم خذلاناً ولا هداية. قوله تعالى:
قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ يعني: لن
يمنعني من عذاب الله أحد إن عصيته، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ
مُلْتَحَداً يعني: ملجأ ولا مفراً. إِلَّا بَلاغاً مِنَ
اللَّهِ وَرِسالاتِهِ يعني: فذلك الذي يجيرني من عذاب الله
ويقال في الآية تقديم، ومعناه قل: لا أملك لكم ضرا إلا أن
أبلغكم رسالات ربي، يعني: ليس بيدي شيء من الضر والنفع
والهداية، إلا بتبليغ الرسالة.
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في التوحيد، ولم يؤمن به،
فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً أي:
مقيمين في النار أبداً، يعني: دائماً. وقد تم الكلام. ثم قال
عز وجل: حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ من العذاب يعني:
لما رأوا العذاب، ويقال: معناه أمهلهم حتى إذا رأوا ما يوعدون
في الدنيا وفي الآخرة، فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً
يعني: مانعاً من العذاب.
وَأَقَلُّ عَدَداً يعني: رجالاً.
فقالوا: متى هذا العذاب الذي تعدنا يا محمد؟ فنزل: قُلْ إِنْ
أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ يعني: ما أدري أقريب ما
توعدون من العذاب، أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً؟ يعني:
أجلاً ينتهي إليه.
(3/507)
قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ يعني: هو
عالم الغيب، فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً يعني:
هو الذي يعلم وقت نزول العذاب، ولا يطلع على غيبه أحداً من
خلقه. قوله تعالى: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ يعني: إلا
من اختار لرسالته، فإنه يطلعه على ما يشاء من الغيب، ليكون
دلالة لنبوته. فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ رَصَداً يعني: من الملائكة بين يدي رسول الله صلّى
الله عليه وسلم ومن خلفه، ليحفظوه من الشياطين لِيَعْلَمَ أَنْ
قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ يعني:
ليعلموا الرسول أن الذي أنزل إليه من رسالات الله وذلك أن
الملائكة لو لم يرصدوهم، لما يستمعوا حين يقرأ جبريل، ثم يفشون
ذلك قبل أن يخبرهم الرسول، فلا يكون بينهم وبين الأنبياء فرق،
ولا يكون للأنبياء دلالة، ثم لا يقبل قولهم.
وروى أسباط، عن السدي في قوله: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ
رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ رَصَداً إذا بعث إليه تعالى نبياً، جعل معه حفظة من
الملائكة. فإذا جاء الوحي من الله تعالى، قالت الملائكة: هذا
من الله. فإذا جاءه الشيطان، قالت الحفظة: هذا من الشيطان.
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ يعني:
ليعلم الجن أن الرسل قد أبلغوا الرسالة لأنهم تمازحوا من
استراق السمع. وقال سعيد بن جبير: لم يجيء جبريل قط بالقرآن،
إلا ومعه أربعة من الحفظة. ثم قال عز وجل: وَأَحاطَ بِما
لَدَيْهِمْ يعني: الله تعالى عالم بما عند الأنبياء ويقال:
عالم بهم. وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً يعني: عدد الملائكة،
وعلم نزول العذاب ووقته وغير ذلك والله أعلم، وصلى الله على
سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
(3/508)
يَا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)
نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي
عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ
أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي
النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ
وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)
سورة المزمل
وهي عشرون آية مكية
[سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً
(2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ
عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ
ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً
(6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ
اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ يعني الملتف في ثيابه
وأصله في اللغة المتزمل وهو الذي يتزمل في الثياب وكل من التف
بثوبه فهو متزمل وقد تزمل فأدغمت التاء في الزاء وشددت الزاء
فقيل مزمل يعني: النبي صلّى الله عليه وسلم قُمِ اللَّيْلَ
يعني: قم الليل للصلاة إِلَّا قَلِيلًا من الليل نِصْفَهُ يعني
قم نصفه فاكتفى بذكر الفعل الأول من الثاني لأنه دليل عليه
أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا يعني أو انقص من النصف قليلاً
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ يعني: زد على النصف يعني ما بين الثلث إلى
الثلثين ثم قال: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا يعني: توسل
فيه وقال الحسن بينه إذا قرأته فلما نزلت هذه الآية شق ذلك على
المسلمين فنزلت الرخصة في آخر السورة، وقال مقاتل هذا قبل أن
يفرض الصلوات الخمس، وقال الضحاك: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ
تَرْتِيلًا قال: اقرأه حرفاً حرفاً وقال مجاهد: أحب الناس إلى
الله تعالى في القراءة أعقلهم عنه قوله تعالى: إِنَّا
سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا يعني: سننزل عليك القرآن
بالأمر والنهي يعني: يثقل لما فيه من الأمر والنهي والحدود
وكان هذا في أول الأمر ثم سهل الله تعالى الأمر في قيام الليل،
وقال قتادة في قوله: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا
ثَقِيلًا قال: يثقل الله فرائضه وحدوده. ويقال: يعني: قيام
الليل ثقيل على المجرمين، ويقال: ثقيل على من خالفه، ويقال:
ثقيل في الميزان خفيف على اللسان، ويقال: نزوله ثقيل كما قال:
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ [الحشر: 21]
الآية وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلّى الله
عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها وما
تستطيع أن تترحك حتى يسري عنه أي: يذهب عنه ثم قال: إِنَّ
ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً
(3/509)
رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا
(9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا
جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ
وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا
وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا
(13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ
الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا
إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا
إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ
فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ
كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)
السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ
سَبِيلًا (19)
يعني: ساعات الليل أشد موافقة للقراءة
وأسمع، ويقال هي أشد نشاطاً من النهار إذا كان الرجل محتسباً،
ويقال: هي أوفى لقلوبهم وَأَقْوَمُ قِيلًا وأبين وأصوب وأثبت
قراءة، وقال القتبي: ناشئة الليل يعني: ساعاته وهي مأخوذة من
نشأت أي: ابتداء شيئاً بعد شيء فكأنه قال: إن ساعات الليل
الناشئة فاكتفى بالوصف من الاسم قوله تعالى: أَشَدُّ وَطْئاً
يعني:
أثقل على المصلي من ساعات النهار فأخبر أن الثواب على قدر
الشدة وأقوم قيلاً يعني: أخلص للقول وأسمع له لأن الليل تهدأ
فيه الأصوات وتنقطع فيه الحركات قرأ أبو عمرو وابن عامر أشد
وطأ بكسر الواو ومد الألف والباقون بنصب الواو بغير مد فمن قرأ
بالكسر يعني: أشد وطأ أي: موافقة لقلة السمع يعني: أن القرآن
في الليل يتواطأ فيه قلب المصلي ولسانه وسمعه على التفهم يعني:
أبلغ في القيام وأبين في القول. ويقال: أغلظ على اللسان. قوله
تعالى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا يعني:
فراغاً طويلاً بقضاء حوائجك فيه ففرغ نفسك لصلاة الليل، وقال
القتبي: سبحاً أي: تصرفاً إقبالاً وإدباراً بحوائجك وأشغالك
قوله عز وجل: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ يعني: اذكر توحيد ربك
ويقال: فاذكر ربك. ويقال: صل لربك وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ
تَبْتِيلًا يعني: أخلص إليه إخلاصاً في دعائك بعبادتك وهو قول
مجاهد وقتادة ويقال: وتبتل إليه تبتيلا يعني: انقطع إليه وأصل
التبتل القطع قيل لمريم العذراء البتول لأنها انقطعت إلى الله
تعالى في العبادة.
[سورة المزمل (73) : الآيات 9 إلى 19]
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ
فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ
وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي
وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً
(11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذَا
غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13)
يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ
كَثِيباً مَهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً
شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً
(15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً
وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً
يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ
كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18)
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ
سَبِيلاً (19)
ثم قال عز وجل: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قرأ حمزة وابن
عامر والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر رب المشرق بالكسر
والباقون رب بالضم فمن قرأ بالكسر وتبعه قوله واذكر اسم ربك رب
المشرق والمغرب ومن قرأ بالضم فهو على الابتداء ويقال: معناه:
هو رب المشرق
(3/510)
والمغرب. ثم قال: لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ
وقد ذكرناه فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا يعني: ولياً وحافظاً وناصراً
وكفيلاً ثم قال عز وجل: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ يعني:
على ما يقولون من التكذيب والإذاء وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً
جَمِيلًا يعني: اعتزلهم اعتزالاً حصناً بلا جزع ولا فحش ثم
قال: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ هذا كلام على ما جرت به
عادات الناس لأن الله تعالى لا يحول بينه وبين إرادته أحد ولكن
معناه: فوض أمورهم إليَّ يعني: أمور المكذبين أُولِي
النَّعْمَةِ يعني: ذا المال والغنى وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا
يعني: أجلهم يسيراً لأن الدنيا كلها قليل يعني: إلى قوم
القيامة ثم بين ما لهم من العقوبة يوم القيامة فقال عز وجل:
إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا يعني: قيوداً في الآخرة، ويقال:
عقوبة من ألوان العذاب وَجَحِيماً ما عظم من النار وَطَعاماً
ذَا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً يعني: ذا شوك مستمسك في الحلق
لا يدخل ولا يخرج فيبقى في الحلق ومع ذلك لهم عذاب أليم قول
الله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ يوم تتحرك وتتزلزل صار
اليوم منصوباً لنزع الخافض يعني: هذه العقوبة في يوم ترجف
الأرض وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا يعني:
صارت الجبال رملاً سائلاً وهو كقوله: فكانت هباءً منبثاً ثم
قال: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً
عَلَيْكُمْ يعني: محمدا صلّى الله عليه وسلم يشهد عليكم بتبليغ
الرسالة كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا يعني: موسى
بن عمران فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ يعني: كذبه ولم يقبل
قوله:
فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا يعني: عاقبناه عقوبة شديدة وهو
الغرق فهذا تهديد لهم يعني: إنكم إن كذبتموه فهو قادر على
عقوبتكم قوله عز وجل: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ
يعني: توجدون في الآخرة إن كفرتم في الدنيا، ويقال فيه تقديم
ومعناه: إن كفرتم في الدنيا كيف تحذرون وتنجون. يَوْماً
يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً يعني: يوم القيامة من هيبته يشيب
الصبيان وهذا على وجه المثل لأن يوم القيامة لا يكون فيه ولدان
ولكن معناه أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان هناك صبي يشيب رأسه
من الهيبة ويقال: هذا وقت الفزع قبل أن ينفخ في الصور نفخة
الصعق ثم قال عز وجل: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ يعني: انشقت
السماء من هيبة الرحمن كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا يعني: كائناً
في البعث ثم قال: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ يعني: هذه الصورة
موعظة فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا يعني: من
أراد أن يؤمن ويتخذ بذلك التوحيد إلى ربه مرجعاً فليفعل وقال
أهل اللغة في قوله: السماء منفطر به ولم يقل منفطرة به
فالتذكير على وجهين: أحدهما:
أنه انصرف إلى المعنى ومعنى السماء السقف كقوله وَجَعَلْنَا
السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً [الأنبياء: 32] ، والثاني: أن
معناه السماء ذات الانفطار كما يقال امرأة مرضع أي: ذات رضع
على وجه النسب. ويقال: قوله السماء منفطر به يعني: فيه شيء في
يوم القيامة، ويقال:
يعني: بالله تعالى يعني: من هيبته قوله تعالى: إِنَّ هذِهِ
تَذْكِرَةٌ يعني: إن هذه الآيات التي ذكرت موعظة بليغة فمن شاء
اتخذ إلى ربه سبيلا يعني: من شاء أن يرغب فليرغب فقد أمكن له
لأنه أظهر الحجج والدلائل.
(3/511)
إِنَّ رَبَّكَ
يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ
وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ
وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ
تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ
الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ
يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ
وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا
تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ
خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
[سورة المزمل (73) : آية 20]
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ
اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ
مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ
لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ
مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى
وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ
اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما
تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ
اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
ثم قال عز وجل: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى
مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ قرأ حمزة
والكسائي وابن كثير وعاصم ونصفه وثلثه كلاهما بالنصب والباقون
بالكسر فمن قرأ بالنصب فهو على تفسير الأدنى كما قال: أدنى من
ثلثي الليل وكان نصفه وثلثه تفسير لذلك الأدنى ومن قرأ بالكسر
فمعناه: أدنى من نصفه وثلثه وقال الحسن لما نزل قوله قُمِ
اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا فكان قيام الليل فريضة فقام بها
المؤمنون حولاً فأجهدهم ذلك وما كلهم قام بها فأنزل الله تعالى
رخصة إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى إلى قوله:
عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فصار تطوعاً ولا بد من قيام الليل.
فذلك قوله: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى
مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ
مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ يعني: وجماعة من المؤمنين معك تقومون
نصف الليل وثلثه وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ
يعني: يعلم ساعات الليل والنهار عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ
يعني: أن لن تطيعوه ولم تقدروا أن تحفظوا ما فرض الله عليكم
على الدوام ويقال: معناه: لن تطيقوا حفظ ساعات الليل فَتابَ
عَلَيْكُمْ يعني: تجاوز عنكم ورفع عنكم وجوب القيام فَاقْرَؤُا
ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ في صلاة الليل ويقال: فَاقْرَؤُا
ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ في جميع الصلوات عَلِمَ أَنْ
سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى علم الله تعالى أن منكم مرضى لا
يقدرون على قيام الليل وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ
يعني: يسافرون في الأرض يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يعني:
في طلب المعيشة يطلبون الرزق من الله تعالى وفي الآية دليل أن
الكسب الحلال بمنزلة الجهاد لأنه جمع مع الجهاد في سبيل الله،
وروى إبراهيم عن علقمة قال- قال رسول الله صلّى الله عليه
وسلم: «مَا مِنْ جَالِبٍ يَجْلِبُ طَعَامَاً مِنْ بَلَدٍ إلَى
بَلَدٍ فَيَبِيعَهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ إلاَّ كَانَتْ
مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ الله تَعَالَى مَنْزِلَةَ الشَّهِيدِ» ثم
قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ يعني: من
القرآن وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يعني: الصلوات الخمس وَآتُوا
الزَّكاةَ يعني: الزكاة المفروضة وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً
حَسَناً يعني: تصدقوا من أموالكم بنية خالصة من المال الحلال
وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ يعني: ما تعملون
من عمل من الأعمال الصالحة يعني: تتصدقون بنية خالصة تَجِدُوهُ
عِنْدَ اللَّهِ يعني: تجدوا ثوابه في الآخرة. هُوَ خَيْراً
وَأَعْظَمَ أَجْراً يعني:
(3/512)
الصدقة خير من الإمساك وأعظم ثواباً من
معاملتكم وتجارتكم في الدنيا، وروي عن عمر بن الخطاب- رضي الله
عنه- أنه اتخذ له حيساً- يعني: تمراً بلبن فجاءه مسكين فأخذه،
ودفعه إليه فقال بعضهم: ما يدري هذا المسكين ما هذا فقال عمر:
لكن رب المسكين يدري ما هو فكأنه تأول قوله تعالى: وَما
تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ
اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ثم قال عز وجل:
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ يعني: اطلبوا المغفرة لذنوبكم بالرجوع
إلى الله تعالى إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعني: لمن تاب
رحيماً بعد التوبة والله أعلم بالصواب.
(3/513)
يَا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ
(3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ
يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
سورة المدثر
وهي ست وخمسون آية مكية
[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ
فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)
فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ يعني: محمدا صلّى الله
عليه وسلم وقد تدثر بثوبه وأصله المتدثر بثيابه إذا نام فأدغمت
التاء في الدال وشددت وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن
عبد الله قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يحدث عن
فترة الوحي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: في حديثه:
«فَبَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي إذْ سَمِعْتُ صَوتاً مِنَ
السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا المَلِكُ الَّذِي
جَاءَنِي بِحراء جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيَ بَيْنَ السَّمَاءِ
والأَرْضِ فَخَشَيْتُ فَرَجِعْتُ إِلَى أَهْلِي فَقُلْتُ
زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَدَثَرُونِي فَنَزَلَ يَا أَيُّهَا
المُدَّثِّرُ» قُمْ فَأَنْذِرْ يعني: فخوف قومك وادعهم إلى
التوحيد ويقال:
قُمْ فَأَنْذِرْ يعني: قم فصلِّ لله ويقال: قُمْ فَأَنْذِرْ
يعني: خوفهم بالعذاب إن لم يوحدوا يعني: ادعهم من الكفر إلى
الإيمان ثم قال عز وجل: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ يعني: فعظمه عما
يقولون فيه عبدة الأوثان. ويقال: فكبر يعني: فكبر للصلاة ثم
قال: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ يعني:
طهر قلبك بالتوبة عن الذنوب والمعاصي وهذا قول قتادة وقال
مقاتل: يعني: قلبك فطهر بالتوبة وكانت العرب تقول للرجل إذا
أذنب دنس الثياب وقال الفراء: يعني: ثيابك فقصر.
وقال الزجاج لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسة وإن كان طويلاً
لا يؤمن أن يصيبه النجاسة ويقال: يعني: لا تقصر فتكون غادراً
دنس الثياب وقال مجاهد: وثيابك فطهر يعني: نفسك فطهر ويقال:
عملك فأخلص ويقال: ظنك فحسن ثم قال: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ
يعني: المأثم فاترك ويقال: الرجز فاهجر يعني: ارفض عبادة
الأوثان قرأ عاصم في رواية حفص والرجز بضم الزاء والباقون بكسر
الزاء ومعناهما واحد وهم الأوثان يعني: فارفض عبادة الأوثان
(3/514)
ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا
(12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا
(14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ
لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ
فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ
قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ
وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ
هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ
الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا
سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ
لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا
جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا
جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا
لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ
الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ
اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ
يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ
رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ
(31)
ويقال: الرجز العذاب كقوله تعالى: رِجْزاً
مِنَ السَّماءِ [البقرة: 59] ومعناه كل شيء يحرك إلى عذاب الله
تعالى فاتركه ثم قال عز وجل: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ يعني:
لا تعط شيئاً قليلاً تطلب به أكثر وأفضل في الدنيا وقال الحسن
ولا تمنن تستكثر يعني: ولا تمنن بعملك على ربك تستكثره وقال
مجاهد لا تعط مالك رجاء فضل من الثواب في الدنيا وقال الضحاك
لا تعط ولتعطى أكثر منه قوله تعالى: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ
يعني: اصبر على أمر ربك قال إبراهيم النخعي: اصبر لعظمة ربك
وقال مقاتل: ولربك فاصبر يعني: يعزي نبيه صلّى الله عليه وسلم
ليصبر على أذاهم ويقال: فاصبر نفسك في عبادة ربك فَإِذا نُقِرَ
فِي النَّاقُورِ يعني: اصبر فعن قريب ينفخ في الصور. فَذلِكَ
يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ
يعني: شديداً على الكافرين غير يسير يعني: غير هين وفي الآية
دليل أن ذلك اليوم يكون على المؤمنين هيناً وهذا كقوله تعالى:
وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً [الفرقان: 26] لأن
الكفار يقطع رجاؤهم في جميع الوجوه.
[سورة المدثر (74) : الآيات 11 الى 31]
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً
مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ
تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)
كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ
صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ
قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)
ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ
وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ
(24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ مَا سَقَرُ (27) لا
تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها
تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما
جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا
لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ
الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ
بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي
مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما
هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31)
ثم قال: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً يعني: اترك هذا الذي
خلقته وحيداً وفوض أمره إليَّ وهو الوليد بن المغيرة خلقه الله
تعالى وحيداً بغير مال ولا ولد وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً
مَمْدُوداً يعني: ورزقته مالاً كثيراً قال مجاهد كان له مائة
ألف دينار وكان بنوه عشرة وقال بعضهم: كان ماله أربعة آلاف
درهم ثم قال عز وجل: وَبَنِينَ شُهُوداً يعني: حضوراً لا
يغيبون عنه في التجارة ولا غيرهم وقال بعضهم: ذرني ومن خلقت
وحيداً يعني: إنه لم يكن من قريش وكان
(3/515)
ملصقاً بهم لأنه ذكر أن أباه المغيرة تبناه
بعد ما أتت ثمانية أشهر ولم يكن منه كما قال الله تعالى
عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) [القلم: 13] وَجَعَلْتُ
لَهُ مَالاً مَمْدُوداً يعني: غير منقطع عنه وبنين شهوداً لا
يغيبون عنه ولا يحتاجون إلى التصرف وكان له عشرة من البنين
وهذا قول الكلبي وغيره وقال مقاتل: سبع بنين وَمَهَّدْتُ لَهُ
تَمْهِيداً يعني: بسطت له في المال والخير بسطاً ويقال: أمهلت
له إمهالاً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ يعني: يطمع أن أزيد
ماله وولده. وذلك أنه تفاخر على رسول الله صلّى الله عليه وسلم
وقال لي: مالاً ممدوداً ولي عشرة من البنين فلا يزال يزداد
مالي وبني فنزل ثم يطمع أن أزيد يعني: أن أزيد وهو يعصيني
كَلَّا يعني: وهو رد عليه يعني: لا أزيد فما أزداد ماله بعد
ذلك ولا ولده ولكن أخذ في النقصان فهلك عامة ماله وولده قوله
تعالى: إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً يعني: مكذباً معرضاً
عنها معاندا ثم قال عز وجل: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً يعني: يكلف
في النار صعود جبل من صخرة ملساء في الباب الخامس تسمى سقر
فإذا بلغ رأس العقبة دخل دخان في حلقة فيخرج من جوفه ما كان في
جوفه من الأمعاء فإذا سقط في أسفل العقبة سقي من الحميم فإذا
بلغ أعلاه انحط منه إلى أسفله من مسيرة سبعين سنة وقال مجاهد:
سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً يعني: مشقة من العذاب وقال الزجاج:
سأحمله على مشقة من العذاب ويقال: سأكلفه الصعود على عقبة شاقة
والصعود والكؤود بمعنى واحد ثم ذكر خبث أفعاله الذي يستوجب به
العقوبة فقال: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ يعني: إنه فكر في أمر
محمد صلّى الله عليه وسلم وقدر في أمره وقال ساحر يقول الله عز
وجل: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ يعني: فلعن كقوله: قُتِلَ
الْخَرَّاصُونَ (10) [الذاريات: 10] . ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ
قَدَّرَ وذلك حين اجتمعوا في دار الندوة ليدبروا أمر محمد صلّى
الله عليه وسلم وقالوا: هذه أيام الموسم والناس مجتمعون وقد
فشا قول هذا الرجل في الناس وهم سائلون عنه فماذا تجيبون
وتردون عليهم فقالوا نقول إنه مجنون وقال بعضهم: إنهم يأتونه
ويكلمونه فيجدونه فصيحاً عاقلاً فيكذبونكم فقالوا: نقول شاعر
قال بعضهم: هم العرب وقد رأوا الشعراء وقوله: لا يشبه الشعر
فيكذبونكم قالوا: نقول كاهن قال بعضهم: إنهم لقوا الكهان وإذا
سمعوا قوله وهو يستثني في كلامه المستقبل فيكذبونكم ففكر
الوليد بن المغيرة ثم أدبر عنهم ثم رجع إليهم وقال: فكرت في
أمره فإذا هو ساحر يفرق بين المرء وزوجه وأقربائه فاجتمع رأيهم
على أن يقولوا: ساحر فقتل كيف قدر يعني: كيف قدر بمحمد صلّى
الله عليه وسلم بالسحر ثم قتل يعني لعن مرة أخرى أي: اللعنة
على أثر اللعنة كيف قدر هذا التقدير الذي قال للكفرة إنه ساحر
ثُمَّ نَظَرَ يعني: ثم نظر في أمر محمد صلّى الله عليه وسلم
ثُمَّ عَبَسَ يعني: عبس وجهه أي: كلح وتغير لون وجهه وقال
الزجاج: ثم عبس وجهه وَبَسَرَ أي:
نظر بكراهة شديدة ثُمَّ أَدْبَرَ يعني: أعرض عن الإيمان
وَاسْتَكْبَرَ يعني: تكبر عن الإيمان ثم قال: إِنْ هذا إِلَّا
سِحْرٌ يُؤْثَرُ يعني: تأثره من صاحب اليمامة يعني: يرويه عن
مسيلمة الكذاب ويقال: معناه: ما هذا الذي يقول: إلا سحر يرويه
عن جابر ويسار ويقال عن أهل
(3/516)
كَلَّا وَالْقَمَرِ
(32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا
أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا
لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ
يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)
إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ
(40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)
قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ
نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ
الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)
حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ
الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ
مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)
فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ
لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ
(54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا
أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ
الْمَغْفِرَةِ (56)
بابل: إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ
يعني: ما هذا القرآن إلا قول الآدمي قال الله تعالى:
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ يعني: سأدخله سقر قال مقاتل: يعني: الباب
الخامس وقال الكلبي: هو اسم من أسماء النار وَما أَدْراكَ مَا
سَقَرُ تعظيماً لأمرها ثم بين قال: لاَ تُبْقِي وَلا تَذَرُ
يعني: لا تبقي لحماً إلا أكلته ولا تذرهم إذا أعيدوا فيها
خلقاً جديداً، ويقال: لا تبقى ولا تذر يعني: لا تميت ولا تحيي،
ويقال: لا تبقى اللحم ولا العظم ولا الجلد إلا أحرقته ولا تذر
لحماً ولا عظماً ولا جلداً أي: تدعه محرقاً بل تجده خلقاً
جديدا ثم قال عز وجل: لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ يعني: حراقة
للأجساد شواهة للوجوه نزاعة للأعضاء وأصله في اللغة التسويد
ويقال: لاحته الشمس إذا غيرته وذلك أن الشيء إذا كان فيه دسومة
فإذا أحرق اسود ثم قال: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ يعني:
على النار تسعة عشر من الملائكة مسلطون من رؤساء الخزنة وأما
الزبانية فلا يحصى عددهم كما قال في سياق الآية: وَما يَعْلَمُ
جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ. وإنما أراد تسعة عشر ملكاً ومعهم
ثمانية عشر أعينهم كالبرق الخاطف ويخرج لهب النار من أفواههم
فنزعت عنهم الرأفة غضاب على أهلها يدفع أحدهم سبعين ألفاً فلما
نزلت هذه الآية قال الوليد بن المغيرة لعنه الله: أنا أكفيكم
خمسة وكل ابن لي يكفي واحداً منهم وسائر أهل مكة يكفي أربعة
منهم وقال رجل من المشركين وكان له قوة وأنا أكفيكموهم وحدي
أدفع عشرة بمنكبي هذا وتسعة بمنكبي الأيسر فألقيهم في النار
حتى يحترقوا وتجوزون حتى تدخلون الجنة فنزلت هذه الآية وَما
جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً يعني: ما سلطنا
أعوان النار إلا ملائكة زبانية غلاظ شداد لا يغلبهم أحد وَما
جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ يعني: ما ذكرنا قلة عددهم وهم تسعة عشر
إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعني: بلية لهم
لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وذلك أن أهل
الكتاب وجدوا في كتابهم أن مالكاً رئيسهم وثمانية عشر من
الرؤساء فبين لهم أنما يقوله النبيّ صلّى الله عليه وسلم
يقوله: بالوحي وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً يعني:
تصديقاً وعلماً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
يعني: يعلموا أنه حق وعدتهم كذلك وَالْمُؤْمِنُونَ أيضاً لا
يشكون في ذلك وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
يعني: المنافقين وَالْكافِرُونَ يعني: المشركين مَاذَا أَرادَ
اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يعني: بذكر خزنة جهنم تسعة عشر يقول
الله تعالى: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ يعني: يخذله
ولا يؤمن به أمناً له وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ يعني: يوفقه لذلك
وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ يعني: من يعلم قوة
جنود ربك وكثرتها إلا هو يعني: الله تعالى ويقال: وما يعلم
يعني: لا يعلم عدد جموع ربك إلا الله تعالى: وَما هِيَ إِلَّا
ذِكْرى لِلْبَشَرِ يعني: الدلائل والحجج في القرآن ويقال: ما
هي يعني: القرآن ويقال: وما هي يعني: سقر إلا ذكرى للبشر يعني:
عظه للخلق ثم أقسم الله تعالى لأجل سقر.
[سورة المدثر (74) : الآيات 32 الى 56]
كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33)
وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ
(35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36)
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ
الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ
الْمُجْرِمِينَ (41)
مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ
الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ
بِيَوْمِ الدِّينِ (46)
حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ
الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ
مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)
فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً
مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لاَّ يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53)
كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55)
وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ
التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
(3/517)
فقال: كَلَّا رداً عليهم وَالْقَمَرِ يعني:
وخالق القمر وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ يعني: ذهب أقسم بخالق
الليل وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ أقسم بخالق الصبح إِنَّها
لَإِحْدَى الْكُبَرِ يعني: سقر إحدى الكبر العظام وباب من
أبواب النار قرأ نافع وحمزة وعاصم في رواية حفص والليل إذ بغير
ألف أدبر بالألف والباقون إذا بالألف دبر بغير ألف وهما لغتان
ومعناهما واحد دبر وأدبر ويقال دبر النهار وأدبر ودبر الليل
وأدبر وقال مجاهد: سألت ابن عباس عن قوله وَاللَّيْلِ إِذْ
أَدْبَرَ فسكت حتى إذا كان آخر الليل قال يا مجاهد هذا حين دبر
الليل ويقال: الليل إذا أدبر يعني: إذا جاء بعد النهار والصبح.
إذا أسفر يعني: استضاء بأنها أي: سقر لإحدى الكبر يعني: أن سقر
لأعظم درجات في النار نَذِيراً لِلْبَشَرِ يعني: محمداً صلّى
الله عليه وسلم نذيراً للخلق وإنما صار نعتاً لأنه معناه تم
نذيراً للبشر، ويقال: إن العذاب الذي ذكر نذيراً للبشر قوله
تعالى:
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ يعني:
يتقدم في الخير أو يتأخر إلى المعصية فبينا لكم فهذا وعيد لكم
لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الطاعة أو يتأخر إلى المعصية كقوله:
فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:
29] ويقال: معناه: لمن شاء منكم أن يتقدم إلى التوبة فليوحد أو
يتأخر عن التوبة فليقم على الكفر يعني: نذيراً لمن شاء. ثم
قال: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ يعني: كل كافر
مرتهن بعمله إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ يعني: لكن أصحاب
اليمين فإنهم ليسوا مرتهنين بعملهم يعني: الذين أعطوا كتابهم
بأيمانهم ويقال: هم الذين عن يمين العرش، ويقال: كل نفس بما
كسبت رهينة عند المحاسبة إلا أصحاب اليمين قال علي بن أبي طالب
رضي الله عنه: هم أطفال المسلمين يعني: ليس عليهم حساب لأنهم
لم يعملوا شيئاً ثم قال:
فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ يعني: إنهم في بساتين يتساءلون
عَنِ الْمُجْرِمِينَ يعني: يرون أهل
(3/518)
النار يسألونهم مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ
يعني: ما الذي أدخلكم في سقر فأجابهم أهل النار:
قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ يعني: لم نك نقر بالصلاة
ولم نؤدها وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ يعني: كنا لا نقر
بالفرائض والزكاة ولا نؤديها. وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ
الْخائِضِينَ يعني: كنا نستهزئ بالمسلمين ونخوض بالباطل ونرد
الحق مع المبطلين المستهزئين وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ
الدِّينِ يعني: بيوم الحساب حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ يعني:
الموت والقيامة قوله تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ
الشَّافِعِينَ يعني: لا يسألهم شفاعة الأنبياء وشفاعة الملائكة
فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ فما للمشركين
يعرضون عن القرآن والتوحيد كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ
يشبههم بالحمر الوحشية المذعورة حين فروا من القرآن وكذبوا به
قرأ نافع وابن عامر مستنفرة بنصب الفاء والباقون بالكسر فمن
قرأ بالنصب فمعناه منفرة فإن الصائد نفرها ومن قرأ بالكسر
ومعناه نافرة ويقال: نفر واستنفر بمعنى واحد ثم قال: فَرَّتْ
مِنْ قَسْوَرَةٍ فقال أبو هريرة رضي الله عنه: يعني: الأسد
وقال سعيد بن جبير رضي الله عنهم القناص يعني: الصيادين وقال
قتادة:
القسورة النبل يعني: الرمي بالسهام وهو حس الناس وأصواتهم ثم
قال عز وجل: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يعني: أهل
مكة أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً وذلك أن كفار مكة قالوا
إن الرجل من بني إسرائيل إذا أذنب ذنباً يصبح وذنبه وكفارته
مكتوب عند رأسه فهل ترينا مثل ذلك إن كنت رسولا فنزل بَلْ
يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً
مُنَشَّرَةً يعني: صحفاً مكتوب فيها جرمه وتوبته ويقال: نزلت
في شأن عبد الله بن أمية المخزومي حين قال: لن نؤمن حتى تنزل
علينا كتابا نقرؤه قال الله تعالى: كَلَّا يعني: هذا لا يكون
لهم أبداً ثم ابتداء فقال:
بَلْ لاَّ يَخافُونَ الْآخِرَةَ يعني: البعث يعني: لكن لا
يخافون عذاب الآخرة كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ يعني: حقاً إن
القرآن عظة للخلق فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ يعني: من شاء أن يتعظ
به فليتعظ وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ يعني: إلا أن
يشاء اللَّهُ لهم، ويقال إلا أن يشاء الله منهم قرأ نافع وما
تَذَكَّرُونَ بالتاء على معنى المخاطبة والباقون بالياء على
معنى الخبر عنهم ثم قال عز وجل:
هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ يعني: هو أهل أن
يتقي ولا يشرك به ويوحد ولا يعصى وأهل المغفرة يعني: هو أهل أن
يغفر لمن أطاعه ولا يشرك ويقال: هو أهل أن يتقي وأهل المغفرة
لمن اتقى والله الموفق.
(3/519)
|