تفسير السمرقندي بحر العلوم

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)

سورة النبأ
وهي أربعون آية مكية

[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4)
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5)
قوله تعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما بعث، جعلوا يتساءلون فيما بينهما، ويقولون ما الذي جاء به هذا الرجل. فنزل عَمَّ يَتَساءَلُونَ يعني: عما ذا يتساءلون.
ثم قال: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ يعني: يتساءلون عن الخبر العظيم، وهو القرآن كقوله: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [ص: 68] ويقال: معناه عن ماذا يتحدثون، وعن أي شيء يتحدثون. ثم قال: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ يعني: خبراً عظيماً. وقال الزجاج: أصله عَمَّا يَتَسَاءلُونَ ثم بين فقال: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ يعني: عن أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم. وقيل: عن القرآن.
وقيل عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ يعني: عن البعث والدليل قوله تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ: 17] ثم بين لهم الأمر الذي كانوا يتساءلون، وهو البعث.
ثم قال عز وجل: الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ يعني: مصدقاً ومكذباً. يعني: بالبعث بعضهم مصدق، وبعضهم مكذب. ويقال: بالقرآن، ويقال: بمحمد صلّى الله عليه وسلم. ثم قال الله تعالى:
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ يعني: سيعرفون ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ يعني: سيعرفون ذلك الوعيد، على أثر الوعيد، يعني: سيعلمون عند الموت وفي الآخرة، ويتبين لهم بالمعاينة. قرأ ابن عامر ستعلمون، بالتاء على وجه المخاطبة. وقرأ الباقون بالياء، على معنى الخبر عنهم.

[سورة النبإ (78) : الآيات 6 الى 23]
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10)
وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ مَآءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15)
وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20)
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23)

(3/536)


ثم ذكر صنعه، ليستدلوا بصنعه على توحيده. فقال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً يعني: فراشاً ومقاماً. ويقال: موضع القرار، ويقال: معناه ذللنا لهم الأرض، ليسكنوها ويسيروا فيها. وَالْجِبالَ أَوْتاداً يعني: أوتدها وأثبتها. ثم قال: وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً يعني:
أصنافاً وأضداداً، ذكراً وأنثى. ويقال: ألواناً بيضاً، وسوداً، وحمراً وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً يعني: راحة لأبدانكم وأصله التمدد، فلذلك سمي السبت، لأنه قيل لبني إسرائيل: استريحوا فيه. ويقال: سباتاً يعني: سكوناً وانقطاعاً عن الحركات.
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً يعني: سكوناً يسكنون فيه. ويقال: ستراً يستر كل شيء وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً يعني: مطلباً للمعيشة وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً يعني: سبع سموات غلاظاً، كل سماء مسيرة خمسمائة عام وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً يعني: وقاداً مضيئة وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ يعني: من السحاب، سمي معصرات لأنها تعصر الماء. ويقال: المعصرات هي الرياح. يعني: ذوات الأعاصير. كقوله: إعصاراً فيه نار.
ثم قال عز وجل: مَاء ثَجَّاجاً يعني: سيالاً ويقال: منصباً كبيراً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً يعني: بالماء حبوباً كثيرة للناس، ونباتاً للدواب من العشب والكلأ وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً يعني: شجرها ملتفاً بعضها في بعض، فأعلم الله تعالى قدرته، أنه قادر على البعث. فقال:
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً يعني: يوم القيامة ميقاتاً، وميعاداً للأولين والآخرين يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً يعني: جماعة جماعة. وروي في بعض الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أنه قال: يبعث الله تعالى الناس صوراً مختلفة، بعضهم على صورة الخنزير، وبعضهم على صورة القردة، وبعضهم وجوههم كالقمر ليلة البدر.
ثم قال عز وجل: وَفُتِحَتِ السَّماءُ يعني: أبواب السماء فَكانَتْ أَبْواباً يعني:
صارت طرقاً. قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم وَفُتِحَتِ بالتخفيف، والباقون بالتشديد، وهو لتكثير الفعل، والتخفيف بفتح مرة واحدة. ثم قال عز وجل: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ يعني: قلعت من أماكنها فَكانَتْ سَراباً يعني: فصارت كالسراب، تسير في الهواء كالسراب في الدنيا إِنَّ

(3/537)


لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)

جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً
أي: رصداً لكل كافر ويقال: سجنا ومحبسا لِلطَّاغِينَ مَآباً أي:
للكافرين مرجعاً، يرجعون إليها.
لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً يعني: ماكثين فيها أبداً دائماً. والأحقاب وأحدها حقب، والحقب ثمانون سنة، واثنا عشر شهراً، وكل شهر ثلاثون يوماً، وكل يوم منها مقدار ألف سنة مما تعدون بأهل الدنيا، فهذا حقب واحد، والأحقاب هو التأييد كلما مضى حقب، دخل حقب آخر. وإنما ذكر أحقاباً، لأن ذلك كان أبعد شيء عندهم. فذكر وتكلم بما تذهب إليه أوهامهم ويعرفونه، وهو كناية عن التأبيد، أي: يمكثون فيها أبداً. قرأ حمزة لبثين بغير ألف. والباقون لابثين بالألف، ومعناهما واحد.

[سورة النبإ (78) : الآيات 24 الى 40]
لاَّ يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لاَ يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28)
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33)
وَكَأْساً دِهاقاً (34) لاَّ يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38)
ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)
ثم قال عز وجل: لاَّ يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً يعني: لا يكون فيها برد يمنعهم من حرها.
وقال القتبي: البرد النوم. وقال الزجاج: يجوز أن يكون البرد نوماً، ويجوز أن يكون معناه: لا يذوقون فيها برد ريح، ولا ظل وَلا شَراباً يعني: شراباً ينفعهم إِلَّا حَمِيماً يعني: ماءً حاراً قد انتهى حره وَغَسَّاقاً يعني: زمهريراً. وقال الزجاج: الغساق ما يغسق من جلودهم، أي: ما يسيل وقد قيل الشديد البرد. قرأ حمزة، والكسائي وعاصم في رواية حفص، وغساقاً بالتشديد. والباقون بالتخفيف، ومعناهما واحد.
ثم قال: جَزاءً وِفاقاً يعني: العقوبة موافقة لأعمالهم، لأن أعظم الذنوب الشرك نعوذ بالله، وأعظم العذاب النار، ووافق الجزاء العمل. ثم قال: إِنَّهُمْ كانُوا لاَ يَرْجُونَ حِساباً

(3/538)


يعني: لا يخافون البعث بعد الموت. ويقال: كانوا لا يرجون ثواب الآخرة، أنهم كانوا ينكرون البعث. قوله تعالى: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً يعني: جحدوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم، وبالقرآن كذاباً يعني: تكذيباً وجحوداً. ثم قال: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً يعني: أثبتناه في اللوح المحفوظ فَذُوقُوا يعني: يقال لهم: فذوقوا العذاب فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً.
ثم بين حال المؤمنين فقال عز وجل: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً يعني: نجاة من النار إلى الجنة. ويقال: المفاز بمعنى الفوز. يعني: موضع النجاة حَدائِقَ وَأَعْناباً يعني: لهم حدائق في الجنة، والحدائق ما أحيط بالجدار، وفيه من النخيل والثمار، وأعناباً يعني: كروماً وَكَواعِبَ أَتْراباً والكواعب، الجواري مفلكات الثديين أَتْراباً مستويات في الميلاد والسن. وقال أهل اللغة: الكواعب النساء، قد كعب ثديهن وَكَأْساً دِهاقاً كل إناء فيه شراب فهو كأس، فإذا لم يكن فيه شراب فليس بكأس، كما يقال للمائدة إذا كان عليها طعام مائدة، وإذا لم يكن فيها طعام خوان يقال دِهاقاً يعني: سائغاً. وقال الكلبي: وَكَأْساً دِهاقاً يعني: إناء فيه خمر ملآن متتابعاً. وهذا قول عطية وسعيد، والعباس بن عبد المطلب، - رضي الله عنهم-، ومجاهد، وإبراهيم النخعي.
لاَّ يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً يعني: حلفاً وباطلاً. ويقال: ولا يسمعون في مشربها فحشاً خبثا وَلا كِذَّاباً يعني: تكذيباً في شربها. يعني: لا يكذبون فيها. قرأ الكسائي كذاباً بالتخفيف، يعني: لا يكذب بعضهم بعضاً. وقرأ الباقون بالتشديد فهو من التكذيب ثم قال:
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ يعني: ثواباً من ربك عَطاءً حِساباً يعني: كثيراً وقال مجاهد: عطاء من الله، حساباً بما عملوا. وقال أهل اللغة: حساباً أي: كثيراً. كما يقال: أعطينا فلاناً عطاء حساباً، أي: كثيراً. وأصله أن يعطيه حتى يقول حسبي. وقال الزجاج: حساباً. أي: ما يكفيهم، يعني: فيه ما يشتهون.
ثم قال: رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: خالق السموات والأرض. قرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو، رب السموات والأرض بضم الباء والباقون بالكسر فمن قرأ بالضم فمعناه هو رب السموات والأرض ومن قرأ بالكسر فهو على معنى الصفة أي: جزاء من ربك رب السموات والأرض وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ يعني: الرحمن هو رب السموات والأرض لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً يعني: لا يملكون الكلام بالشفاعة، إلا بإذنه يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ قال الضحاك: هو جبريل. وقال قتادة عن ابن عباس، وخلق على صورة بني آدم. ويقال: هو خلق واحد، يقوم صفاً واحداً وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا يعني: صفوفاً. ويقال: الروح لا يعلمه إلا الله، كما قال قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85] .
ثم قال عز وجل: لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ يعني: لا يتكلمون بالشفاعة،

(3/539)


إلا من أذن له الرحمن بالشفاعة وَقالَ صَواباً يعني: لا إله إِلاَّ الله يعني: من كان معه من التوحيد، وهو من أهل الشفاعة. ثم قال عز وجل: ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ يعني: القيامة كائنة فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ يعني: من شاء وجد واتخذ بذلك التوحيد إِلى رَبِّهِ مَآباً يعني: مرجعاً.
ويقال: من شاء اتخذ بالطاعة إلى ربه مرجعاً.
ثم خوفهم فقال: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
يعني: خوفناكم بعذاب قريب، وهو يوم القيامة. ثم خوف المؤمنين، ووصف ذلك اليوم وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ
يعني: ما عملوا من الخير والشر يعني: ينظر المؤمن إلى عمله، وينظر الكافر إلى عمله يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
يعني: لو كنت بهماً منها فأكون تراباً، أستوي بالأرض. وذلك، إن الله تعالى يقول للسباع والبهائم، كوني تراباً فعند ذلك، يتمنى الكافرا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً.
وروى عبد الله بن عمر، عن أبي هريرة- رضي الله عنه-، أنه قال: إن الله يحشر البهائم والدواب والناس، ثم يقتص لبعضهم من بعض، حتى يقتص للشاة. الجماء من الشاة القرناء.
ثم إن الله تعالى يقول لها: كوني تراباً، فيراها الكافر ويتمنى أن يكون مثلها تراباً. ويقول: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
يعني: يا ليتني لم أبعث كقوله: يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ [الحاقة: 25] إلى قوله:
يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ [الحاقة: 27] والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وسلم.

(3/540)


وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)

سورة النازعات
وآياتها ست وأربعون آية مكية

[سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
قوله تعالى: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً قال مقاتل يعني: ملك الموت ينزع روح الكافر من صدره، كما ينزع السفود الكثير الشعب من الصوف. فيخرج نفسه من حلقه منها العروق، كالغريق في الماء وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً ملك الموت، ينشط روح الكافر من قدمه إلى حلقه.
وقال الكلبي: وَالنَّازِعاتِ يعني: ملك الموت وأعوانه غَرْقاً كرهاً. يقال: غرقت نفسه في صدره وذلك، أنه ليس من كافر يحضره الموت، إلا عرضت عليه جهنم، فيراها قبل أن يخرج نفسه، فيرى فيها أقواماً، مرة ينغمسون، ومرة يرتفعون. فعند ذلك، تغرق روحه في جسده. وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً يعني: الملائكة الذين يقبضون أرواح المؤمنين بالتيسير، وذلك أنه ما من مؤمن يحضره الموت، إلا ويرى منزلته في الجنة. ويرى فيها أقواماً من أهل معرفته، وهم يدعون إلى أنفسهم، فعند ذلك ينشط إلى الخروج. ويقال النَّازِعاتِ الملائكة تنزع النفس أغراقاً، كما يغرق النازع في القوس وَالنَّاشِطاتِ الملائكة تقبض نفس المؤمن، كما ينشط العقال. وقال عطاء: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً يعني: ألقى وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً يعني:
الأوهاق.
ثم قال: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً يعني: الملائكة الذين يقبضون أرواح الصالحين، يسلونها سلاً رقيقاً، ويتركونها حتى تستريح رويداً. ويقال: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً يعني: السفن تجري

(3/541)


في الماء. ويقال: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً يعني: الملائكة جعل نزولها في السماء كالسباحة.
ويقال: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً يعني: النجوم الدوارة. كما قال: وكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 33] ثم قال: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً يعني: الملائكة الذين يسبقون إلى الخير والدعاء.
ويقال: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً بالخير يعني: أرواح المؤمنين يعرج بها إلى السماء، سراعاً يفتح لها أبواب السماء. ويقال: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً يعني: خيول الغزاة.
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً يعني: الملائكة الذين جعل إليهم تدبير الخلق، وهم جبريل وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، عليهم السلام. أما جبريل فعلى الوحي، وإنزال الرحمة، والعذاب على الخلائق بأمر الله وأما ميكائيل فعلى الأمطار والنبات، يقسم على البلاد والعباد بإذن الله. وأما عزرائيل، وهو ملك الموت، فعلى قبض الأرواح عند انقضاء أجلهم بإذن الله تعالى. وإما إسرافيل، فعلى النفخ في الصور متى أمره الله تعالى، فهذا كله قسم، وجواب القسم مضمر، فكأنه أقسم بهذه الأشياء، أنهم يبعثون يوم القيامة، لأن في الكلام دليلاً عليه، وهو قوله: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ يعني: لتبعثن يوم القيامة في يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ يعني:
الصيحة الأولى.
تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ يعني: الصيحة الثانية، يعني: النفخة الأولى للصعق، والنفخة الأخرى للبعث. وروي عن يزيد بن ربيعة، عن الحسن في قوله: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قال: هما النفختان، فأما الأولى: فيميت الأحياء، وأما الثانية: فتحيي الموتى. ثم تلا وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: 68] ثم نفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون، وأصل الرجفة الحركة يعني: تزلزلت الأرض زلزلة شديدة عند النفخة الأولى، والرادفة كل شيء تجيء بعد شيء، فهو يردفه.
ثم قال: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ يعني: خائفة خاشعة من هول ذلك اليوم. ويقال:
يعني: ذليلة. ويقال: زائلة عن مكانها. أَبْصارُها خاشِعَةٌ يعني: أبصار الخلائق ذليلة.
ويقال: أبصار القلوب خاشعة. ثم ذكر قول الكفار، وإنكارهم البعث فقال: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ تعجباً منهم، وفي الآية تقديم ومعناه: أإنا لمردودون في الحياة بعد الموت. ويقال: أإنا لمردودون في الحافرة، أي: إلى أول أمرنا. يقال: رجع فلان في حافرته، وعلى حافرته أي: رجع من حيث جاء.
ثم قال: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً يعني: بعد ما كنا عظاماً بالية. قرأ حمزة، والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر إِذَا كُنَّا عظاما ناخرة بالألف، والباقون بغير ألف. قال بعضهم:
معناهما واحد هما لغتان. وقال بعضهم: الناخرة التي أكلت أطرافها، وبقيت أوساطها، والنخرة التي قد فسدت كلها. وقال مجاهد: عظاماً نخرة، أو مرفوتة كما قال في قوله:

(3/542)


هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)

عِظاماً وَرُفاتاً قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ يعني: إن كانوا كما يقولون، فنحن بخسران قوله تعالى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ يعني: يبعثهم صيحة واحدة، وهو نفخ إسرافيل في الصور فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ يعني: على وجه الأرض يعني: هم قيام على ظهر الأرض. ويقال:
سميت الأرض ساهرة، لقيام الخلق، وسهرهم عليها.

[سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 26]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26)
ثم وعظهم بما أصاب فرعون في النكال في الدنيا فقال: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى يعني: قد أتاك خبر موسى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ يعني: بالوادي المطهر طُوىً اسم الوادي اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى يعني: علا وتكبر وكفر فقال الله تعالى: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى يعني: ألم يأن لك أن تسلم. ويقال: معناه هل ترغب في توحيد ربك، وتشهد أن لا إله إلا الله، وتزكي نفسك من الكفر، والشرك. قرأ ابن كثير، ونافع إلى أن تزكى بتشديد الزاء، لأن أصله تتزكى، وأدغمت التاء في الزاء، وشددت. والباقون بالتخفيف، لأنه حذف إحدى التائين، وتركت مخففة.
ثم قال: وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى يعني: أدعوك إلى توحيد ربك فتخشى. يعني:
تخاف عذابه فتسلم فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى يعني: العصا، واليد، وسائر الآيات. فَكَذَّبَ وَعَصى يعني: كذب الآيات، ولم يقبل قول موسى- عليه السلام- ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى يعني:
أدبر عن التوحيد، وسعى في هلاك موسى فَحَشَرَ يعني: فجمع أهل المدينة فَنادى يعني: فخاطب فَقالَ لهم اعبدوا أصنامكم التي كنتم تعبدون، فإن هؤلاء أربابكم الصغار.
أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى يعني: فعاقبه بعقوبة الدنيا والآخرة، وهي الغرق وعقوبة الآخرة وهي النار. ويقال: الآخرة والأولى. يعني: العقوبة بالكلمة الأولى، والكلمة الأخرى، فأما الأولى قوله: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي والأخرى قوله:
أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وكان بين الكلمتين أربعون سنة. ويقال: قوله أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى كان في الابتداء، حيث أمرهم بعبادة الأصنام، ثم نهاهم عن ذلك، وأمرهم بأن لا يعبدوا غيره.
وقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ثم قال: إِنَّ فِي ذلِكَ يعني: في هلاك فرعون وقومه لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى يعني: لعظة لمن يريد أن يعتبر، ويسلم.

(3/543)


أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)

[سورة النازعات (79) : الآيات 27 الى 41]
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31)
وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36)
فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)
ثم وعظ أهل مكة فقال: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ يعني: أبعثكم بعد الموت أشد، أم خلق السماء في المشاهدة عند الناس، خلق السماء أشد. فالذي هو قادر على خلق السماء، قادر على البعث. ثم قال: بَناها يعني: خلق السماء مرتفعة رَفَعَ سَمْكَها أي: سقفها بغير عمد فَسَوَّاها يعني: سوى خلقها. ويقال: خلقها مستوية، بلا صدع ولا شق وَأَغْطَشَ لَيْلَها يعني: أظلم ليلها وَأَخْرَجَ ضُحاها يعني: أنوار ضحاها، وشمسها ونهارها، فإنها راجعة إلى السماء.
ثم قال عز وجل: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها يعني: بعد خلق الأرض السماء، وبسط الأرض ومدها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها يعني: من الأرض ماءها. يعني: عيونها للناس وَمَرْعاها للدواب والأنعام. قال القتبي: هذا من جوامع الكلم، حيث ذكر شيئين على جميع ما يخرج من الأرض قوتاً، ومتاعاً للأنعام من العنب، والشجر، والحب، والتمر، والملح والنار، لأن النار من العيدان، والملح من الماء.
ثم قال عز وجل: وَالْجِبالَ أَرْساها يعني: أوتدها وأثبتها مَتاعاً لَكُمْ يعني: منفعة لكم وَلِأَنْعامِكُمْ فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى يعني: الصيحة العظمى، وإنما سميت الطامة، لأنها طمت وعلت فوق كل شيء يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى يعني: يعلم بكل شيء عمله في الدنيا. ويقال: يوم ينظر الإنسان في كتابه، بما عمل في الخير والشر وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ يعني: أظهرت الجحيم لِمَنْ يَرى يعني: لمن وجب له فَأَمَّا مَنْ طَغى يعني: كفر وعلا وتكبر. وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا يعني: اختار ما في الدنيا على الآخرة. ويقال: اختار العمل للدنيا على الآخرة فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى يعني: مأوى من كان هكذا.
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ يعني: خاف المقام بين يدي ربه وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى يعني: منع نفسه عن معاصي الله تعالى، وعمل بخلاف ما تهوى في الحرام فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى يعني: مأوى من كان هكذا. قال علي بن أبي طالب، - رضي الله عنه- أخوف ما

(3/544)


يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)

أخاف عليكم اثنان: طول الأمل، واتباع الهوى. فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق.

[سورة النازعات (79) : الآيات 42 الى 46]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ يعني: يسألونك عن قيام الساعة أَيَّانَ مُرْساها أي: وقت قيامها. وأصله أي: أوان ظهورها ووقتها. قال الله تعالى للنبي صلّى الله عليه وسلم: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها يعني: دع ما أنت وذاك دع ذلك إلى الله، ثم قال: إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها يعني: عند ربك علم قيامها. وروى سفيان، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة- رضي الله عنها-.
قالت: لم يزل النبي صلّى الله عليه وسلم، يسأل عن الساعة، حتى نزل فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها يعني: عند ربك علم قيامها، وانتهى عند ذلك.
ثم قال عز وجل: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها يعني: أنت مخوف بالقرآن، من يخاف قيام الساعة، وليس عليك أن تعرف متى وقتها. ثم قال عز وجل: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها يعني:
قيام الساعة لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها يعني: كأنهم لبثوا في قبورهم مقدار عشية، وهو قدر آخر النهار، أو ضحاها وهو قدر أول النهار. ويقال: كأنهم لم يلبثوا في الدنيا، إلا مقدار العشية، أو مقدار الضحى. قرأ أبو عمرو في إحدى الروايتين إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ بالتنوين، والباقون بغير تنوين. فمن قرأ بالتنوين، جعل من في موضع النصب. يعني: منذر الذي يخشاها. ومن قرأ بغير تنوين، جعل من في موضع خفض. بالإضافة. والله الموفق بمنه وكرمه، وصلى الله على سيدنا محمد.

(3/545)


عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)

سورة عبس
وهي اثنتان وأربعون آية مدنية

[سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)
قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى أي: كلح وأعرض بوجهه. يعني: النبيّ صلّى الله عليه وسلم وروى هشام بن عروة قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم جالساً، ومعه عتبة بن ربيعة، في ناس من وجوه قريش، وهو يحدثهم بحديث. فجاء ابن أم مكتوم على تلك الحال، فسأله عن بعض ما ينفع به، فكره النبي صلّى الله عليه وسلم أن يقطع كلامه، وقال في رواية مقاتل، كان اسم ابن أم مكتوم عمر بن قيس. وقال في رواية الكلبي، كان اسمه عبد الله بن شريح. فقال: يا رسول الله، علمني مما علمك الله تعالى. فأعرض عنه شغلاً بأولئك القوم، لحرصه على إسلامهم فنزل عَبَسَ وَتَوَلَّى. وهو بلفظ المغايبة، تعظيما للنبي صلّى الله عليه وسلم عَبَسَ محمد صلّى الله عليه وسلم وجهه وَتَوَلَّى يعني: وأعرض أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى يعني: إن جاءه الأعمى. ويقال: حين جاء الأعمى، وهو ابن أم مكتوم.
ثم قال: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى يعني: وما يدريك يا محمد، لعله يصلي أو يفلح، فيعمل خيراً فيتعظ بالقرآن. ويقال: يعني: يزداد خيراً. أَوْ يَذَّكَّرُ يعني: يتعظ بالقرآن فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى يعني: العظة. ثم قال: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى يعني: استغنى بنفسه عن ثواب الله. ويقال: استغنى بماله ونفسه، عن دينك وعظمتك فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى يعني: تقبل بوجهك عليه. ويقال تصدى يعني: تعرض. يقال: فلان تصدى لفلان، إذا تعرض له ليراه. قرأ عاصم أَوْ يَذَّكَّرُ تنفعه الذكرى بنصب العين، جعله جواباً لعله يتذكر فتنفعه الذكرى. وقرأ الباقون

(3/546)


قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)

بالضم، جعلوه جواباً للفعل. قرأ نافع، وابن كثير تصدى بتشديد الصاد، لأن الأصل تتصدى، فأدغمت وشددت. والباقون بحذف التاء للتخفيف، فهذا كقوله فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى [النازعات: 18] .
ثم قال: وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى يعني: أي شيء عليك إن لم يوجد عتبة وأصحابه.
ويقال: لا يضرك إن لم يؤمن، ولم يصلح. ثم قال عز وجل: وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى يعني:
يسرع إلى الخير، ويعمل به، وهو ابن أم مكتوم. ويقال: يعني: يمشي برجليه وَهُوَ يَخْشى ربه فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى يعني: تشتغل، وتتلاهى وتتغافل. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، يكرم ابن أم مكتوم بعد نزول هذه الآية قوله تعالى: كَلَّا يعني: لا تفعل، ولا تقبل على من استغنى عن الله تعالى بنفسه، وتعرض عمن يخشى الله تعالى.
ثم قال: إِنَّها تَذْكِرَةٌ يعني: هذه الموعظة تذكرة. ويقال: هذه السورة تذكرة، يعني:
موعظة فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ يعني: ذكر المواعظ وذكره بلفظ التذكير، ولم يقل ذكرها، لأنه ينصرف إلى المعنى، لأن الموعظة إنما هي بالقرآن. يعني: فمن شاء أن يتعظ بالقرآن فليتعظ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ يعني: أن هذا القرآن فى صحف مكرمة. يعني: مطهرة مبجلة معظمة، وهو اللوح المحفوظ مَرْفُوعَةٍ يعني: مرتفعة مُطَهَّرَةٍ يعني: منزهة عن التناقض، والكذب والعيب. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ يعني: الكتبة الذين يكتبون في اللوح المحفوظ. ثم أثنى على الكتبة فقال: كِرامٍ على الله بَرَرَةٍ أي: مطيعين لله تعالى. ويقال: بررة من الذنوب. وقال القتبي: السفرة الكتبة. وأحدهما سافر، وإنما يقال للكاتب سافر، لأنه يبين الشيء ويوضحه.
ويقال: أسفر الصبح، إذا أضاء البررة جمع بار، مثل: كفرة وكافر.

[سورة عبس (80) : الآيات 17 الى 32]
قُتِلَ الْإِنْسانُ مآ أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)
فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31)
مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32)
ثم قال تعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ يعني: لعن الكافر بالله تعالى. يعني: عتبة وأصحابه، ومن كان مثل حاله إلى يوم القيامة. ما أكفره يعني: ما الذي أكفره، وهذا قول مقاتل. وقال الكلبي: يعني: أي شيء أكفره. قال نزلت في عتبة حيث قال: إني كفرت بالنجم إذ هوى. ويقال: ما أكفره، يعني: ما أشده في كفره. ثم قال: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ يعني:

(3/547)


هل يعلم من أي شيء خلقه الله تعالى. ويقال: أفلا يعتبر من أي شيء خلقه، ثم أعلمه ليعتبر في خلقه، فقال: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ يعني: خلقه في بطن أمه طوراً بعد طور.
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ يعني: يسره للخروج من بطن أمه. ويقال: يسره طريق الخير والشر. وقال مجاهد: هو مثل قوله إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الدهر: 3] ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ يعني: جعل له قبراً يوارى فيه. ويقال: أمر به ليعتبر، ويقال: فأقبره أي: جعله ممن يقبر، ولم يجعله ممن يلقى على وجه الأرض، كالبهائم ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ يعني: يبعثه في القبر إذا جاء وقته.
ثم قال: كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ يعني: لم يؤد ما أمره من التوحيد، وما هنا صلة كقوله فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران: 159] . وقال مجاهد: لما يقضي ما أمره، يعني: لا يقضي أحداً أبداً، كما افترض عليه. ثم أمرهم بأن يعتبروا بخلقه فقال: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ يعني: إلى رزقه ومن أي شيء يرزقه، وليعتبروا به أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا يعني: المطر. قرأ أهل الكوفة أنا صببنا، بنصب الألف. والباقون بالكسر فمن قرأ بالنصب جعله بدلاً عن الطعام، يعني: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ومن قرأ بالكسر، فهو على الاستئناف أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا يعني: المطر على الأرض المطر بعد المطر.
ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا يعني: شققناها بالنبات والشجر فَأَنْبَتْنا فِيها يعني: في الأرض ومعناه: أخرجنا من الأرض حَبًّا يعني: الحبوب كلها وَعِنَباً يعني: الكروم وَقَضْباً قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: القضبة وهو القت الرطب. وقال القتبي:
القضب القت، سمي قضباً لأنه يقضب مرة بعد مرة، أي: يقطع. وكذلك الفصيل، لأنه يفصل أي: يقطع. ويقال: وقضبنا يعني: جميع ما يقضب مثل القت. والكرات، وسائر البقول التي تقطع، فينبت من أصله وَزَيْتُوناً وهي شجرة الزيتون وَنَخْلًا يعني: النخيل وَحَدائِقَ غُلْباً قال عكرمة: غلاظ الرقاب. ألا ترى أن الرجل إذا كان غليظ الرقبة، يقال أغلب.
والحدائق واحدها حديقة غلباً أي: نخلاً غلاظاً طوالاً. ويقال: حدائق غلباً يعني: حيطان النخيل والشجر. وقال الكلبي: كل شيء أحبط عليه من نخيل أو شجر، فهو حديقة، وما لم يحط به فليس بحديقة. ويقال: الشجر الملتف بعضه في بعض.
ثم قال عز وجل: وَفاكِهَةً ويعني الثمر كلها وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «خُلِقْتُمْ مِنْ سَبْعٍ وَرُزِقْتُمْ مِنْ سَبْعٍ فَاسْجُدُوا لله عَلَى سَبْعٍ» ، وإنما أراد بقوله خلقتم من سبع يعني: مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ علقة، الآية والرزق من سبع وهو قوله: «فأنبتنا فيها حباً وعنباً» إلى قوله: «وفاكهة وأباً» ثم قال:
وَأَبًّا يعني: العنب وقال مجاهد: ما يأكل الدواب والأنعام وقال الضحاك هو التبن. مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ يعني الحبوب والفواكه منفعة لكم والكلأ والعشب منفعة لكم ولأنعامكم.

(3/548)


فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)

[سورة عبس (80) : الآيات 33 الى 42]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
ثم ذكر القيامة فقال: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ يعني: الصيحة تصخ الأسماع أي: تصمها فلا يسمع إلا ما يدعا به ويقال الصاخة اسم من أسماء يوم القيامة وكذلك الطامة والقارعة والحاقة ثم وصف ذلك اليوم فقال: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وفراره أنه يعرض عنه بنفسه وقال شهر بن حوشب يوم يفر المرء من أخيه يعني: هو هابيل يفر من أخيه قابيل وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ يعني: محمدا صلّى الله عليه وسلم من أمه وأبيه وإبراهيم من أبيه وَصاحِبَتِهِ يعني: لوط- عليه السلام- من امرأته وَبَنِيهِ يعني: نوح- عليه السلام- من ابنه، ويقال هذا في بعض أحوال يوم القيامة أن كل واحد منهم يشتغل بنفسه يعني: فلا ينظر المرء إلى أخيه وإلى أبيه وإلى ابنه ثم قال تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ يعني لكل إنسان شغل يشغله عن هؤلاء، وروي في الخبر أن عائشة- رضي الله عنها- قالت يا رسول الله كيف يحشر الناس قال: «حُفَاة عُرَاة» فقالت عائشة- رضي الله عنها- وا سوأتاه النساء مع الرجال حفاة عراة فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الآية لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ يعني: لكل واحد منهم عمل يشغله بنفسه عن غيره ثم قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ يعني: من الوجوه ما يكون في ذلك اليوم مشرقة مضيئة ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ يعني: مفرحة بالثواب وهم المؤمنون المطيعون وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ يعني: من الوجوه ما يعلوها السواد كالدخان وأصل الغبرة يعني: الغبار ثم قال عز وجل: تَرْهَقُها قَتَرَةٌ يعني: تلحقها قترة يعني: يغشاها الكسوف والسواد أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ يعني: أن أهل هذه الصفة هم الكفرة بالله تعالى الكذبة على الله تعالى ويقال ترهقها قترة يعني: المذلة والكآبة والفجرة يعني: الظلمة. والله الموفق بمنه وصلى الله على سيدنا محمد وآله.

(3/549)