تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ
حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
فتأويل الكلام على هذا المعنى: وما كنتم =
من قبل هداية الله إياكم لما هداكم له من ملة خليله إبراهيم
التي اصطفاها لمن رضي عنه من خلقه = إلا من الضالين.
* * *
ومنهم من يوجه تأويل"إن" إلى"قد".
فمعناه على قول قائل هذه المقالة: واذكروا الله أيها المؤمنون
كما ذكركم بالهدى، فهداكم لما رضيه من الأديان والملل، وقد
كنتم من قبل ذلك من الضالين.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ
أَفَاضَ النَّاسُ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، ومن المعني
بالأمر بالإفاضة من حيث أفاض الناس؟ ومن"الناس" الذين أمروا
بالإفاضة من موضع إفاضتهم؟
فقال بعضهم: المعني بقوله:" ثم أفيضوا"، قريش ومن ولدته قريش،
الذين كانوا يسمون في الجاهلية"الحمس"، أمروا في الإسلام أن
يفيضوا من عرفات، وهي التي أفاض منها سائر الناس غير الحمس.
وذلك أن قريشا ومن ولدته قريش، كانوا يقولون:"لا نخرج من
الحرم". فكانوا لا يشهدون موقف الناس بعرفة معهم، فأمرهم الله
بالوقوف معهم.
* ذكر من قال ذلك:
3831 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن عبد
الرحمن الطفاوي، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه. عن عائشة
قالت: كانت
(4/184)
قريش ومن كان على دينها -وهم الحمس- يقفون
بالمزدلفة يقولون:"نحن قطين الله! "، وكان من سواهم يقفون
بعرفة. فأنزل الله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس" (1)
3832 - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال:
حدثني أبي، قال: حدثنا أبان، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن
عروة: أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان كتبت إلي في قول النبي
صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار:"إني أحمس" (2) وإني لا
أدري أقالها النبي أم لا؟ غير أني سمعتها تحدث عنه. والحمس:
ملة قريش- وهم مشركون- ومن ولدت قريش في خزاعة وبني كنانة.
كانوا لا يدفعون من عرفة، إنما كانوا يدفعون من المزدلفة وهو
المشعر الحرام، وكانت بنو عامر حمسا، وذلك أن قريشا ولدتهم،
ولهم قيل:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، وأن العرب كلها كانت
تفيض من عرفة إلا الحمس، كانوا يدفعون إذا أصبحوا من المزدلفة.
(3)
__________
(1) الحديث: 3831 - محمد بن عبد الرحمن الطفاوي بضم الطاء
المهملة: ثقة من شيوخ أحمد وابن المديني وغيرهما.
والحديث رواه البخاري 8: 139 (فتح) عن ابن المديني عن محمد بن
خازم عن هشام به، مطولا قليلا. وكذلك رواه مسلم 1: 348 عن يحيى
بن يحيى عن أبي معاوية وهو محمد بن خازم به.
القطين اسم جماعة واحدهم قاطن والجمع قطان: وهم سكان الدار
المقيمون بها لا يبرحونها وقولهم"نحن قطين الله" فيه محذوف أي:
قطين بيت الله وحرمه. ولو حمل على قولهم: القطين هم الخدم لكان
معناه: خدم الله والقائمون بأمر بيته، بلا حاجة إلى تقدير
محذوف. وهو جيد أيضًا.
(2) انظر الآثار السالفة من رقم: 3077- 3087 ففيها خبر
الأنصاري ومقالة رسول الله له.
(3) الحديث: 3832 -أبان: هو ابن يزيد العطار وهو ثقة وثقه ابن
معين والنسائي وغيرهما.
وهذا الحديث بهذا السياق -لم أجده في موضع آخر. ومعناه ثابت في
الحديث الذي قبله، وفي حديث مطول آخر، رواه البخاري 3: 411-
413 (فتح) . من طريق علي بن مسهر. ومسلم: 348ن من طريق أبي
أسامة- كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه.
وانظر أيضًا ما مضى في الطبري: 3077- 3087.
وقول عروة -هنا-"غير أني سمعتها تحدث عنه": يريد به
خالته"عائشة أم المؤمنين" وأنها تحدث ذلك عن رسول اله صلى الله
عليه وسلم. وهذا واضح من سياق القول ومن سائر الروايات الأخر.
ولعله عبر عنهما بالضمير لسبق ذكرهما في سؤال عبد الملك بن
مروان الذي يجيبه بهذا القول.
(4/185)
3833 - حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال:
حدثنا أبو توبة، قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن سفيان، عن
حسين بن عبيد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كانت العرب
تقف بعرفة، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة، فأنزل الله:" ثم
أفيضوا من حيث أفاض الناس"، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم
الموقف إلى موقف العرب بعرفة. (1)
3834 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عبد الملك، عن
عطاء:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس" من حيث تفيض جماعة الناس.
3835 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم، قال: حدثنا عمرو بن
قيس، عن عبد الله بن طلحة، عن مجاهد قال: إذا كان يوم عرفة هبط
الله إلى
__________
(1) الحديث: 3833 - أحمد بن محمد الطوسي شيخ الطبري: روى عنه
في لتاريخ 1: 8، 17 باسم"أحمد بن محمد بن حبيب". ثم في 1: 67
باسم"أحمد بن محمد الطوسي" كما هنا. ثم في 1: 209 باسم"أحمد بن
محمد بن حبيب الطوسي". فتعين أنه هو وهو مترجم لتهذيب وتاريخ
بغداد 5: 108- 109، باسم"أحمد بن محمد بن نيزك بن حبيب أبو
جعفر يعرف بالطوسي". وهو من شيوخ لترمذي وذكره ابن حبان في
الثقات. و"نيزك": بكسر النون وفتح الزاي بينهما ياء تحتية، كما
ضبط في التقريب والخلاصة.
أبو توبة: هو الربيع بن نافع الحلبي سكن طرسوس وهو ثقة صدوق
حجة كما قال أبو حاتم وهو من شيوخه وشيوخ الإمام أحمد وأبي
داود وغيرهم.
أبو إسحاق الفزاري: هو الحافظ الحجة شيخ الإسلام إراهيم بن
محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة بن حصن وهو الثقة المأمون
الإمام. شيخه سفيان: هو الثوري.
حسين بن عبيد اله: هو حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس
بن عبد المطلب وهو ضعيف ضعفه ابن معين وابن المديني وأبو حاتم
وغيرهم. ولعله نسب هنا إلى جده بل لعل الأصل"بن عبد الله"
فحرفها الناسخون. وإنما جزمت بأنه هو: لأنه هو الذي يروي عن
عكرمة ويروي عنه الثوري كما في ترجمته عند ابن أبي حاتم
1/2/57. ثم ما في هذه الطبقة من الرواة من يسمى"حسين بن عبيد
الله". بل ليس في التهذيب ولا في الكبير ولا عند ابن أبي حاتم
من يدعي ذلك. نعم هناك رواة بهذا الاسم في لسان الميزان وكلهم
متأخرون عن هذه الطبقة.
وهذا الحديث لم أجده في غير الطبري، ولم ينسبه السيوطي 1: 227
لغيره.
(4/186)
السماء الدنيا في الملائكة، فيقول: هلم إلي
عبادي، آمنوا بوعدي وصدقوا رسلي! فيقول: ما جزاؤهم؟ فيقال: أن
تغفر لهم. فذلك قوله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا
الله إن الله غفور رحيم".
3836 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح = وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة،
قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح = عن مجاهد:" ثم أفيضوا من
حيث أفاض الناس"، قال: عرفة. قال: كانت قريش تقول نحن:" الحمس
أهل الحرم، ولا نخلف الحرم، ونفيض عن المزدلفة"، فأمروا أن
يبلغوا عرفة.
3837 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، قال قتادة: وكانت قريش
وكل حليف لهم وبني أخت لهم، لا يفيضون من عرفات، إنما يفيضون
من المغمس، ويقولون:"إنما نحن أهل الله، فلا نخرج من حرمه"،
فأمرهم الله أن يفيضوا من حيث أفاض الناس من عرفات، وأخبرهم أن
سنة إبراهيم وإسمعيل هكذا: الإفاضة من عرفات.
3838 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، قال: كانت العرب تقف
بعرفات، فتعظم قريش أن تقف معهم، فتقف قريش بالمزدلفة، فأمرهم
الله أن يفيضوا مع الناس من عرفات.
3839 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع قوله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، قال: كانت قريش
وكل ابن أخت وحليف لهم، لا يفيضون مع الناس من عرفات، يقفون في
الحرم ولا يخرجون منه، يقولون:"إنما نحن أهل حرم الله فلا نخرج
من حرمه"؛
(4/187)
فأمرهم الله أن يفيضوا من حيث أفاض الناس;
وكانت سنة إبراهيم وإسمعيل الإفاضة من عرفات.
3840 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد
الله بن أبي نجيح، قال: كانت قريش - لا أدري قبل الفيل أم بعده
- ابتدعت أمر الحمس، رأيا رأوه بينهم، (1) قالوا: نحن بنو
إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت، وقاطنو مكة وساكنوها، (2)
فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلنا، ولا تعرف له
العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون
الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم" (3) وقالوا:
قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم، فتركوا الوقوف على
عرفة، والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج
ودين إبراهيم، ويرون لسائر الناس أن يقفوا عليها، وأن يفيضوا
منها، إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم، فليس ينبغي لنا أن نخرج
من الحرمة، ولا نعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس - والحمس: أهل
الحرم.
ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكني الحل مثل الذي لهم
بولادتهم إياهم، فيحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم
عليهم. وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك. ثم ابتدعوا
في ذلك أمورا لم تكن، حتى قالوا:"لا ينبغي للحمس أن يأقطوا
الأقط، ولا يسلأوا السمن وهم حرم، (4) ولا يدخلوا بيتا من شعر،
ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حراما". ثم
رفعوا في ذلك (5) فقالوا:"لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من
طعام جاءوا به معهم من الحل
__________
(1) في سيرة ابن هشام: "رأيا رأوه وأداروه".
(2) في سيرة ابن هشام: "وقطان مكة وساكنها".
(3) في سيرة ابن هشام: "بحرمتكم".
(4) في سيرة ابن هشام: "أن يأتقطوا" ائتقط الأقط: اتخذه
والأقط: شيء يتخذ من اللبن المخيض، يطبخ ثم يترك حتى يمصل وهو
من ألبان الإبل خاصة. وسلأ السمن: طبخه وعالجه فأذاب زبده.
والحرم (بضمتين) جمع حرام. رجل حرام: محرم.
(5) رفعوا في ذلك: زادوا وغالوا.
(4/188)
في الحرم، (1) إذا جاءوا حجاجا أو عمارا،
ولا يطوفون بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس،
فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة". فحملوا على ذلك
العرب فدانت به، وأخذوا بما شرعوا لهم من ذلك، (2) فكانوا على
ذلك حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله- حين
أحكم له دينه وشرع له حجه: (3) " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس
واستغفروا الله إن الله غفور رحيم" - يعني قريشا، و"الناس"
العرب- فرفعهم في سنة الحج إلى عرفات، والوقوف عليها، والإفاضة
منها. فوضع الله أمر الحمس- وما كانت قريش ابتدعت منه- عن
الناس بالإسلام حين بعث الله رسوله. (4)
3841 - حدثنا بحر بن نصر، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن
أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قال: كانت
قريش تقف بقزح، وكان الناس يقفون بعرفة، قال: فأنزله الله:" ثم
أفيضوا من حيث أفاض الناس".
* * *
وقال آخرون: المخاطبون بقوله:" ثم أفيضوا"، المسلمون كلهم،
والمعني بقوله:" من حيث أفاض الناس"، من جمع، وبـ "الناس"،
إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام.
* ذكر من قال ذلك.
3842 - حدثت عن القاسم بن سلام، قال: حدثنا هارون بن معاوية
الفزاري، عن أبي بسطام عن الضحاك، قال: هو إبراهيم. (5)
__________
(1) في سيرة ابن هشام: "من الحل إلى الحرم".
(2) هذه الجملة غير موجودة بنصها في سيرة ابن هشام.
(3) في المطبوعة: "حجته" وفي سيرة ابن هشام: "وشرع له سنن
حجه".
(4) الأثر: 3840 -في سيرة ابن هشام 1: 211- 216 وفي السيرة
زيادات وقد أثبتنا الاختلاف آنفًا.
(5) الخبر: القاسم بن سلام بتشديد اللام: هو أبو عبيد الإمام
الحجة صاحب كتاب الأموال وغيره من المؤلفات.
مروان بن معاوية الفزاري: مضت ترجمته: 1222، 3322. ووقع في
المطبوعة هنا"هارون""مروان". وهو خطأ واضح. و"مروان الفزاري"
من شيوخ القاسم بن سلام كما في ترجمته الممتعة في تاريخ بغداد
12: 403- 406.
أبو بسطام: هو مقاتل بن حيان النبطي البلخي وهو ثقة بينا ذلك
في المسند: 3107.
الضحاك: هو ابن مزاحم الهلالي الخراساني وهو ثقة ما ذكرنا في
المسند: 2262.
وهذا الخبر أشار إليه ابن كثير 1: 469 أنه"حكاه ابن جرير عن
الضحاك بن مزاحم فقط". وهم السيوطي 1: 227، فذكره من رواية
الطبري عن ابن عباس؟ ولعله سبق ذهنه لكثرة رواية الضحاك عن ابن
عباس؟؟
(4/189)
قال أبو جعفر: والذي نراه صوابا من تأويل
هذه الآية، أنه عنى بهذه الآية قريش ومن كان متحمسا معها من
سائر العرب لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله.
وإذ كان ذلك كذلك فتأويل الآية: فمن فرض فيهن الحج، فلا رفث
ولا فسوق ولا جدال في الحج، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس،
واستغفروا الله إن الله غفور رحيم، وما تفعلوا من خير يعلمه
الله.
وهذا، إذ كان ما وصفنا تأويله فهو من المقدم الذي معناه
التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم، على نحو ما تقدم بياننا
في مثله، (1) ولولا إجماع من وصفت إجماعه على أن ذلك تأويله.
لقلت: أولى التأويلين بتأويل الآية ما قاله الضحاك من أن الله
عنى بقوله:" من حيث أفاض الناس"، من حيث أفاض إبراهيم. لأن
الإفاضة من عرفات لا شك أنها قبل الإفاضة من جمع، وقبل وجوب
الذكر عند المشعر الحرام. وإذ كان ذلك لا شك كذلك، وكان الله
عز وجل إنما أمر بالإفاضة من الموضع الذي أفاض منه الناس، بعد
انقضاء ذكر الإفاضة من عرفات، وبعد أمره بذكره عند المشعر
الحرام، ثم قال بعد ذلك:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"= كان
معلوما بذلك أنه لم يأمر بالإفاضة إلا من الموضع الذي لم
يفيضوا منه، دون الموضع الذي قد أفاضوا منه، وكان الموضع الذي
قد
__________
(1) انظر فهرس المباحث العربية في الجزءين السالفين.
(4/190)
أفاضوا منه فانقضى وقت الإفاضة منه، لا وجه
لأن يقال:"أفض منه".
فإذ كان لا وجه لذلك، وكان غير جائز أن يأمر الله جل وعز بأمر
لا معنى له، كانت بينة صحة ما قاله من التأويل في ذلك، وفساد
ما خالفه، لولا الإجماع الذي وصفناه، وتظاهر الأخبار بالذي
ذكرنا عمن حكينا قوله من أهل التأويل.
* * *
فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه:"والناس"
جماعة،"وإبراهيم" صلى الله عليه وسلم واحد، والله تعالى ذكره
يقول:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"؟
قيل: إن العرب تفعل ذلك كثيرا، فتدل بذكر الجماعة على الواحد.
(1) ومن ذلك قول الله عز وجل: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ
النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [آل عمران:
173] والذي قال ذلك واحد، وهو فيما تظاهرت به الرواية من أهل
السير- نعيم بن مسعود الأشجعي، (2) ومنه قول الله عز وجل: (يَا
أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا
صَالِحًا) [المؤمنون: 51] قيل: عنى بذلك النبي صلى الله عليه
وسلم= ونظائر ذلك في كلام العرب أكثر من أن تحصى. (3)
* * *
__________
(1) انظر فهرس المباحث العربية في الجزءين السالفين.
(2) انظر الاستيعاب: 301 وابن سعد 2/1/42 وتاريخ الطبري 3: 41-
42 ولكن الطبري لم يذهب هذا المذهب في تفسير الآية من سورة آل
عمران 4: 118- 121 (بولاق) .
(3) سيعود الطبري بعد أسطر فيذكر تتمة تفسير هذا الشطر من
الآية.
(4/191)
القول في تأويل قوله تعالى:
{وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإذا أفضتم من عرفات
منصرفين إلى منى فاذكروا الله عند المشعر الحرام، وادعوه
واعبدوه عنده، كما ذكركم بهدايته فوفقكم لما ارتضى لخليله
إبراهيم، فهداه له من شريعة دينه، بعد أن كنتم ضلالا عنه.
* * *
وفي" ثم" في قوله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، من التأويل
وجهان:
أحدهما ما قاله الضحاك من أن معناه: ثم أفيضوا فانصرفوا راجعين
إلى منى من حيث أفاض إبراهيم خليلي من المشعر الحرام، وسلوني
المغفرة لذنوبكم، فإني لها غفور، وبكم رحيم. كما:-
3843 - حدثني إسماعيل بن سيف العجلي، قال: حدثنا عبد القاهر بن
السري السلمي، قال: حدثنا ابن كنانة- ويكنى أبا كنانة-، عن
أبيه، عن العباس بن مرداس السلمي، قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: دعوت الله يوم عرفة أن يغفر لأمتي ذنوبها، فأجابني
أن قد غفرت، إلا ذنوبها بينها وبين خلقي. فأعدت الدعاء يومئذ،
فلم أجب بشيء، فلما كان غداة المزدلفة قلت: يا رب، إنك قادر أن
تعوض هذا المظلوم من ظلامته، وتغفر لهذا الظالم! فأجابني أن قد
غفرت. قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقلنا: يا
رسول الله، رأيناك تضحك في يوم لم تكن تضحك فيه! قال:"ضحكت من
عدو الله إبليس لما سمع بما سمع إذ هو يدعو بالويل والثبور،
ويضع التراب على رأسه" (1)
__________
(1) الحديث: 3843 - إسماعيل بن سيف العجلي: لم أستطع التحقق من
معرفته. فلم أجد في كتب التراجم إلا"إسماعيل بن سيف أبو
إسحاق"- هكذا في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 1/1/176 وأنه
سأل أباه عنه، فقال: "هو مجهول". وله ترجمة في لسان الميزان 1:
409- 410 بل ثنتان ورجح الحافظ أنهما لشخص واحد. -فيما يظهر
لي- من هذه الطبقة ولكني لا أجزم أنه هو شيخ الطبري هذا.
عبد القاهر بن السري السلمي البصري: قال ابن معين: "صالح"
وذكره ابن شاهين في الثقات.
ابن كنانة: هو عبد الله بن كنانة بن عباس بن مرداس، كما تبين
اسمه من التخريج -فيما يأتي- وكما ذكر في التراجم. وهو مجهول
كما في التقريب والخلاصة. والمراد أنه مجهول الحال. وفي
التهذيب: "قال البخاري" لم يصح حديثه". ولم يترجم له ابن أبي
حاتم في العبادلة ولا في الأبناء مع أنه ذكره في ترجمة أبيه،
كما سيأتي ولم أجد كنيته" أبا كنانة" إلا في هذا الموضع فستفاد
منه.
أبوه"كنانة بن العباس": ترجمه البخاري في الكبير 4/1/236 قال:
"كنانة بن عباس بن مرداس عن أبيه. روى عنه ابنه". وبنحو ذلك
ترجمه ابن أبي حاتم 3/2/169. ولم يذكرا فيه جرحا ولم يسميا
ابنه. وبنحو هذا ذكره ابن حبان في الثقات ص: / 317 ولم يسم
ابنه أيضًا. ثم ذكره في كتاب المجروحين في الورقة: 192 قال:
"كنانة بن العباس بن مرداس السلمي يروي عن أبيه روى عنه ابنه:
منكر الحديث جدا فلا أدري: التخليط في حديثه منه، أو من ابنه؟
أو من أيهما كان فهو ساقط الاحتجاج بما روى لعظم ما أتى من
المناكير عن المشاهير"!! هكذا قال ابن حبان مهولا في غير موضع
التهويل! فما ذكر العلماء الحفاظ لكنانة غير هذا الحديث
الواحد. وما هو بمنكر المعنى وإن كان الإسناد إليه فيه ضعف
بجهالة حال عبد الله ابن كنانة. وكنانة هذا قال فيه ابن مندة:
"يقال إن لكنانة صحبة" ولذلك ذكره الحافظ في الإصابة 5: 318 في
القسم الثاني ممن لهم رؤية وأشار إلى خطأ ابن حبان بأنه ذكره
في الثقات"ثم غفل فذره في الضعفاء".
والحديث رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند: 16276
(4: 14- 15 حلبي) عن إبراهيم بن الحجاج الناجي. ورواه ابن
ماجه: 3013 عن أيوب بن محمد الهاشمي. ورواه البيهقي 5: 118 من
طريق أبي داود الطيالسي -ثلاثتهم عن عبد القاهر بن السري"حدثنا
عبد الله ابن كنانة بن عباس بن مرداس السلمي" - إلخ، كما في
رواية ابن ماجه. وفي روايتي عبد الله بن أحمد والبيهقي: "حدثني
ابن كنانة بن العباس بن مرداس". وكذلك روى أبو داود في السنن:
5234- قطعة منه، عن عيسى بن إبراهيم البركي، وعن أبي الوليد
الطيالسي كلاهما عن عبد القاهر بن السري. وذكره المنذري في
الترغيب والترهيب 2: 127- 128 من رواية ابن ماجه ثم من رواية
البيهقي. ثم نقل عن البيهقي أنه قال: "وهذا الحديث له شواهد
كثيرة، وقد ذكرناها في كتاب البعث. فإن صح بشواهده ففيه الحجة.
وإن لم يصح، فقد قال الله تعالى: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)
. وظلم بعضهم بعضا دون الشرك. انتهى". وذكره السيوطي 1: 230
ونسبه أيضًا للطبراني. والضياء المقدسي في المختارة.
(4/192)
3844 - حدثني مسلم بن حاتم الأنصاري، قال:
حدثنا بشار بن بكير الحنفي، قالا حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد
عن نافع، عن ابن عمر، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
عشية عرفة، فقال:"أيها الناس إن الله تطول عليكم في مقامكم
هذا، فقبل محسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، ووهب
(4/193)
مسيئكم لمحسنكم، إلا التبعات فيما بينكم،
أفيضوا على اسم الله. فلما كان غداة جمع قال:"أيها الناس، إن
الله قد تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل من محسنكم، ووهب
مسيئكم لمحسنكم، والتبعات بينكم عوضها من عنده أفيضوا على اسم
الله. فقال أصحابه: يا رسول الله، أفضت بنا بالأمس كئيبا
حزينا، وأفضت بنا اليوم فرحا مسرورا! قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:"إني سألت ربي بالأمس شيئا لم يجد لي به، سألته
التبعات فأبى علي، فلما كان اليوم أتاني جبريل قال: إن ربك
يقرئك السلام ويقول التبعات ضمنت عوضها من عندي". (1)
* * *
فقد بين هذان الخبران أن غفران الله التبعات التي بين خلقه
فيما بينهم، إنما هو غداة جمع، وذلك في الوقت الذي قال جل
ثناؤه:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله"،
لذنوبكم، فإنه غفور لها حينئذ، تفضلا منه عليكم، رحيم بكم.
* * *
__________
(1) الحديث: 3844 - مسلم بن حاتم أبو حاتم الأنصاري: ثقة من
شيوخ أبي داود والترمذي وثقه الترمذي والطبراني.
بشار بن بكير الحنفي: لم أجد له ترجمة بعد طول البحث والتتبع،
حتى لقد ظننته محرفا لولا أن وجدته مذكورا أيضًا في إسناد هذا
الحديث في الحلية لأبي نعيم.
عبد العزيز بن أبي رواد المكي: ثقة معروف بالورع والصلاح
والعبادة. ومن تكلم فيه من أجل رأيه فلا حجة له.
والحديث رواه أبو نعيم في الحلية 8: 199 بإسنادين: من طريق أبي
هشام عبد الرحيم بن هارون الغساني ومن طريق بشار بن بكير
الحنفي -كلاهما عن عبد العزيز بن أبي رواد. ثم قال: "السياق
لبشار بن بكير وحديث أبي هاشم فيه اختصار. . . غريب تفرد به
عبد العزيز عن نافع ولم يتابع عليه".
وذكر المنذري في الترغيب والترهيب 2: 127 نحو معناه من حديث
عبادة بن الصامت ثم قال: "رواه الطبراني في الكبير ورواته محتج
بهم في الصحيح إلا أن فيهم رجلا لم يسم". وكذلك ذكره الهيثمي
في الزوائد 3: 256- 257. ثم ذكر كلاهما بعده حديثا بنحوه لأنس
بن مالك ونسباه لأبي يعلى. وقال الهيثمي: "وفيه صالح المري وهو
ضعيف" وكذلك ذكرهما السيوطي 1: 230 دون بيان تعليلهما.
(4/194)
فَإِذَا قَضَيْتُمْ
مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ
أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ
(200)
والآخر منهما:" ثم أفيضوا" من عرفة إلى
المشعر الحرام، فإذا أفضتم إليه منها فاذكروا الله عنده كما
هداكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ
ذِكْرًا}
قال أبو جعفر: يعني بقول جل ثناؤه:" فإذا قضيتم مناسككم "،
فإذا فرَغتم من حَجكم فذبحتم نَسائككم، فاذكروا الله (1)
* * *
يقال منه:"نسك الرجل يَنسُك نُسْكًا ونُسُكًا ونسيكة
ومَنْسَكًا"، إذا ذبح نُسُكه، و"المنسِك" اسم مثل"المشرق
والمغرب"، فأما"النُّسْك" في الدين، فإنه يقال منه:" ما كان
الرجل نَاسكًا، ولقد نَسَك، ونَسُك نُسْكًا نُسُكًا ونَساكة"،
(2) وذلك إذا تقرَّأ. (3)
* * *
وبمثل الذي قلنا في معنى"المناسك" في هذا الموضع قال مجاهد:
3845 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فإذا قَضَيتم مَناسككم"، قال: إهراقة
الدماء. (4)
__________
(1) انظر تفسير"قضى" فيما سلف 2: 542، 543.
(2) انظر تفسير"نسك" فيما سلف من 3: 75- 80/ ثم هذا الجزء وفي
النسك الذي هو الذبح. مصادر لم تذكر في كتب اللغة.
(3) تقرأ الرجل: تفقه وتنسك فهو قارئ ومتقرى وقراء (بضم القاف
وتشديد الراء) .
(4) "إهراقة" مصدر هراق الدم يهريقه، هراقة وإهراقة وهو سفحه
وصبه.
(4/195)
3846 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو
حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وأما قوله:" فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشدَّ ذكرًا"، فإنّ
أهل التأويل اختلفوا في صفة" ذكر القوم آباءهم"، الذين أمرَهم
الله أن يجعلوا ذكرهم إياه كذكرهم آباءَهم أو أشد ذكرًا.
فقال بعضهم: كان القوم في جاهليتهم بعد فراغهم من حجهم
ومناسكهم يجتمعون فيتفاخرون بمآثر آبائهم، فأمرهم الله في
الإسلام أن يكون ذكرُهم بالثناء والشكر والتعظيم لربهم دون
غيره، وأن يُلزموا أنفسهم من الإكثار من ذكره، نظيرَ ما كانوا
ألزموا أنفسهم في جاهليتهم من ذكر آبائهم.
* ذكر من قال ذلك:
3847 - حدثنا تميم بن المنتصر، قال: حدثنا إسحاق بن يوسف، عن
القاسم بن عثمان، عن أنس في هذه الآية، قال: كانوا يذكرون
آباءهم في الحج، فيقول بعضهم: كان أبي يطعم الطعام، ويقول
بعضهم: كان أبي يضرب بالسيف! ويقول بعضهم: كان أبي جزَّ نواصي
بني فلان!.
3848 - حدثني محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا
سفيان. عن عبد العزيز، عن مجاهد قال: كانوا يقولون: كان آباؤنا
ينحرون الجُزُر، ويفعلون كذا! فنزلت هذه الآية:" أذكروا الله
كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا":
3849 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا
سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل:" فاذكروا الله كذركم آباءكم أو
أشد ذكرًا"، قال: كان أهل الجاهلية يذكرون فَعَال آبائهم.
3850 - حدثنا أبو كريب، قال: سمعت أبا بكر بن عياش، قال: كان
(4/196)
أهل الجاهلية إذا فَرغوا من الحج قاموا عند
البيت فيذكرون آباءَهم وأيامهم: كان أبي يُطعم الطعام! وكان
أبي يفعل! فذلك قوله:" فاذكروا الله كذكركم آباءكم"= قال أبو
كريب: قلت ليحيى بن آدم: عمن هو؟ قال: حدثنا أبو بكر بن عياش،
عن عاصم، عن أبي وائل.
3851 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرني
حجاج عمن حدثه، عن مجاهد في قوله:" اذكروا الله كذكركم
آباءكم"، قال: كانوا إذا قَضَوا مناسكهم وقفوا عند الجَمرة
فذكروا آباءهم، وذكروا أيامهم في الجاهلية وفَعال آبائهم،
فنزلت هذه الآية.
3852 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن عبد الملك، عن قيس،
عن مجاهد في قوله:" فاذكروا الله كذكركم آباءكم" قال: كانوا
إذا قضوا مناسكهم وَقفوا عند الجمرة، وذكروا أيامهم في
الجاهلية وفعال آبائهم. قال: فنزلت هذه الآية.
3853 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فإذا قَضيتم مناسككم فاذكروا الله
كذكركم آباءكم"، قال: تفاخرت العرب بَينها بفعل آبائها يوم
النحر حين فَرَغوا فأمروا بذكر الله مكانَ ذلك.
3854 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
3855 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد،
عن قتادة:" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم"
قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا قضوا مناسكهم بمنىً قعدوا
حِلَقًا فذكروا صنيعَ آبائهم في الجاهلية وفَعالَهم به، يخطب
خطيبهم ويُحدِّث محدثهم، فأمر الله عز وجل المسلمين أن يذكروا
الله كذكر أهل الجاهلية آباءهم أو أشد ذكرًا.
(4/197)
3856 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا
عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" فاذكروا
الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا" قال: كانوا إذا قضوا مناسكهم
اجتمعوا فافتخروا، وذكروا آباءهم وأيامها، فأمروا أن يجعلوا
مكان ذلك ذكرَ الله، يذكرونه كذكرهم آبائهم، أو أشد ذكرًا.
3857 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف،
عن سعيد بن جبير وعكرمة قالا كانوا يذكرون فعل آبائهم في
الجاهلية إذا وَقفوا بعرفة، فنزلت هذه الآية.
3858 - حدثنا القاسم، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج:
أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدًا يقول ذلك يومَ النحر،
حين ينحرون. قال: قال" فاذكروا الله كذكركم آبائكم" قال: كانت
العرب يوم النحر حين يفرُغون يَتفاخرون بفَعَال آبائها، فأمروا
بذكر الله عز وجل مكانَ ذلك:
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فاذكروا الله كذكر الأبناءِ
والصِّبيانِ الآباءَ.
* ذكر من قال ذلك:
3859 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال:
حدثنا شعبة، عن عثمان بن أبي رواد، عن عطاء أنه قال في هذه
الآية:" كذكركم آباءَكم" قال: هو قول الصبيّ: يا أباه!.
3860 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا زهير، عن
جويبر، عن الضحاك:" فاذكروا الله كذكركم آباءكم" يعني بالذكر،
ذكر الأبناء الآباء.
3861 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن
ابن جريج، قال: قال لي عطاء:" كذكركم آباءكم": أبَهْ! أمَّهْ!.
(4/198)
3862 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين،
قال: حدثنا صالح بن عمر، عن عبد الملك، عن عطاء، قال: كالصبي،
يَلهج بأبيه وأمه.
3863 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع قوله:" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم
أو أشدّ ذكرًا"، يقول: كذكر الأبناء الآباءَ أو أشد ذكرًا.
3864 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي،
قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" فإذا قضيتم
مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا"، يقول: كما
يذكر الأبناء الآباء.
3865 - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا
عُبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:" كذكركم آباءكم" يعني
ذكر الأبناء الآباء.
* * *
وقال آخرون: بل قيل لهم:" اذكروا الله كذكركم آباءكم"، لأنهم
كانوا إذا قضوا مناسكهم فدعوا ربَّهم، لم يذكروا غير آبائهم،
فأمروا من ذكر الله بنظير ذكر آباءهم.
* ذكر من قال ذلك:
3866 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال:
حدثنا أسباط، عن السدي:" فإذا قَضيتم مناسككم فاذكروا الله
كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا"، قال: كانت العرب إذا قَضت
مناسكها، وأقاموا بمنى، يقومُ الرجل فيسأل الله ويقول:"اللهم
إن أبي كان عظيم الجفنة عَظيم القبة، كثير المال، فأعطني مثل
ما أعطيتَ أبي!! "، ليس يذكر الله، إنما يذكر آباءه، ويسأل أن
يُعطى في الدنيا.
* * *
(4/199)
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في
تأويل ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمرَ عباده المؤمنين
بذكره بالطاعة له في الخضوع لأمره والعبادة له، بعد قَضاء
مَناسكهم. وذلك"الذكر" جائز أن يكون هو التكبير الذي أمرَ به
جل ثناؤه بقوله: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ
مَعْدُودَاتٍ) [سورة البقرة:203] الذي أوجبه على من قضى نُسكه
بعد قضائه نُسكه، فألزمه حينئذ مِنْ ذِكْره ما لم يكن له
لازمًا قبل ذلك، وحثَّ على المحافظة عليه مُحافظة الأبناء على
ذكر الآباء في الآثار منه بالاستكانة له والتضرع إليه بالرغبة
منهم إليه في حوائجهم كتضرُّع الولد لوالده، والصبي لأمه
وأبيه، أو أشد من ذلك، إذ كان ما كان بهم وبآبائهم من نعمة
فمنه، وهو وليه.
وإنما قلنا:"الذكر" الذي أمر الله جل ثناؤه به الحاجَّ بعد
قضاء مَناسكه بقوله:" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم
آباءكم أو أشد ذكرًا":"جائزٌ أن يكون هو التكبير الذي وَصفنا"،
من أجل أنه لا ذكر لله أمرَ العباد به بعد قَضاء مَناسكهم لم
يكن عليهم من فرضه قبل قضائهم مناسكهم، سوى التكبير الذي خصَّ
الله به أيام منى.
فإذ كان ذلك كذلك، وكان معلومًا أنه جل ثناؤه قد أوجبَ على
خلقه بعد قَضائهم مناسكهم من ذكره ما لم يكن واجبًا عليهم قبل
ذلك، وكان لا شيء من ذكره خَصّ به ذلك الوقت سوى التكبير الذي
ذكرناه= كانت بَيِّنةً صحةُ ما قلنا من تأويل ذلك على ما
وصفنا.
* * *
(4/200)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا
لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإذا قَضيتم مناسككم أيها
المؤمنون فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا، وارغبوا
إليه فيما لديه من خير الدنيا والآخرة بابتهال وتمسكن، واجعلوا
أعمالكم لوجهه خالصًا ولطلب مرضاته، وقولوا:" ربنا آتنا في
الدنيا حَسنةً وفي الآخرة حَسنة وقنا عذاب النار"، ولا تكونوا
كمن اشترى الحياةَ الدنيا بالآخرة، فكانت أعمالهم للدنيا
وزينتها، فلا يسألون ربهم إلا متاعها، ولا حظَّ لهم في ثواب
الله، ولا نصيبَ لهم في جناته وكريم ما أعدَّ لأوليائه، كما
قال في ذلك أهل التأويل.
3867 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال:
حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل:" فمن الناس من يقول ربَّنا
آتنا في الدنيا"، هب لنا غنمًا! هب لنا إبلا! " وماله في
الآخرة من خلاق".
3868 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا
سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل، قال: كانوا في الجاهلية يقولون:"
هبْ لنا إبلا! "، ثم ذكر مثله.
3869 - حدثنا أبو كريب، قال: سمعت أبا بكر بن عياش في قوله:"
فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا ومَا له في الآخرة من
خَلاق"، قال: كانوا = يَعني أهلَ الجاهلية = يقفون - يعني بعد
قضاء مناسكهم - فيقولون:" اللهم ارزقنا إبلا! اللهم ارزقنا
غنمًا! "، فأنزل الله هذه الآية:" فمن الناس من يقول ربّنا
آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق" = قال أبو كريب: قلت
ليحيى بن آدم: عمن هو؟ قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم،
عن أبي وائل.
(4/201)
3870 - حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا
إسحاق، عن القاسم بن عثمان، عن أنس:" فمن الناس من يقول رَبنا
آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق"، قال: كانوا يطوفون
بالبيت عُراة فيدعون فيقولون:" اللهم اسقنا المطر، وأعطنا على
عدونا الظفر، ورُدَّنا صَالحين إلى صالحين!.
3871 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى:" فمن الناس
من يقول ربنا آتنا في الدنيا" نَصرًا ورزقًا، ولا يسألون
لآخرتهم شيئًا.
3872 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
3873 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة
في قول الله:" فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له
في الآخرة من خلاق"، فهذا عبدٌ نَوَى الدنيا، لها عملَ، ولها
نَصِب.
3874 - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي في قوله:" فمن الناس من يقول رَبنا آتنا في الدنيا وما
له في الآخرة من خلاق"، قال: كانت العرب إذا قضت مناسكها
وأقامت بمنى لا يذكر اللهَ الرجلُ منهم، وإنما يذكر أباه،
ويسأل أن يُعطَي في الدنيا.
3875 - حدثني يونس، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في
قوله:" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد
ذكرًا"، قال كانوا أصنافًا ثلاثة في تلك المواطن يومئذ: رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وأهلُ الكفر، وأهلُ النفاق. فمن
الناس من يقول:" ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من
خَلاق" إنما حجوا للدنيا والمسألة، لا يريدون الآخرة، ولا
يؤمنون بها= ومنهم من يقول:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة"،
الآية= قال: والصنف الثالث:" ومنَ الناس مَن يُعجبك قوله في
الحياة الدنيا" الآية.
(4/202)
وَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي
الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
وأما معنى"الخلاق" فقد بيناه في غير هذا
الموضع، وذكرنا اختلافَ المختلفين في تأويله والصحيحَ لدينا من
معناه بالشواهد من الأدلة وأنه النصيب، بما فيه كفاية عن
إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً
وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الحسنة" التي ذكر
الله في هذا الموضع.
فقال بعضهم. يعني بذلك: ومن الناس مَن يقول: ربَّنا أعطنا
عافية في الدنيا وعافية في الآخرة.
* ذكر من قال ذلك:
3876 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال أخبرنا عبد الرازق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" ربنا آتنا في الدنيا حسنةً
وفي الآخرة حسنة"، قال: في الدنيا عافيةً، وفي الآخرة عافية.
قال قتادة: وقال رجل:" اللهم ما كنتَ معاقبي به في الآخرة
فعجِّله لي في الدنيا"، فمرض مرضًا حتى أضنى على فراشه، (2)
فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم شأنُه، فأتاه النبي عليه
السلام، فقيل له: إنه دعا بكذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم:"إنه لا طاقة لأحد بعقوبه الله، ولكن قُل:" ربنا آتنا في
الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة وقنا عَذاب النار". فقالها، فما
لبث إلا أيامًا= أو: يسيرًا =حتى بَرَأ.
__________
(1) انظر ما سلف 2: 452- 454.
(2) أضنى الرجل: إذا لزم الفراش من الضنى وهو شدة المرض حتى
ينحل الجسم.
(4/203)
3877 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سعيد بن
الحكم، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني حميد، قال: سمعت
أنس بن مالك يقول: عاد رَسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا قد
صار مثل الفرْخ المنتوف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
هل كنت تدعو الله بشيء؟ - أو تسأل الله شيئًا؟ قال: قلت:"اللهم
ما كنت مُعاقبي به في الآخرة فعاقبني به في الدنيا! ". قال:"
سبحان الله! هل يستطيع ذلك أحد أو يطيقه؟ فهلا قلت:" اللهم
آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنةً وقنا عذاب النار؟ ".
(1)
* * *
وقال آخرون: بل عَنى الله عز وجل بـ "الحسنة" - في هذا الموضع-
في الدنيا، العلمَ والعبادة، وفي الآخرة: الجنة.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الحديث: 3877 -سعيد بن الحكم: هو"سعيد بن أبي مريم الجمحي"
مضت الإشارة إليه في: 22 وهو ثقة حجة. "يحيى بن أيوب" هو
الغافقي أبو العباس المصري وهو ثقة حافظ أخرج له أصحاب الكتب
الستة.
حميد: هو ابن أبي حميد الطويل وهو تابعي ثقة، سمع من أنس بن
مالك، وسمع من ثابت البناني عن أنس. وزعم بعضهم أنه لم يسمع من
أنس إلا أحاديث قليلة وأن سائرها إنما هو"عن ثابت عن أنس". ورد
الحافظ ذلك ردا شديدا، وقال: "قد صرح حميد بسماعه من أنس بشيء
كثير. وفي صحيح البخاري من ذلك جملة".
وإنما فصلت هذا لأن رواية هذا الحديث هنا فيها تصريح حميد
بسماعه من أنس. ولكنه رواه أحمد ومسلم من حديث حميد، عن ثابت
عن أنس. فلعله سمعه من أنس ومن ثابت عن أنس:
فرواه أحمد في المسند: 12074 (3: 107 حلبي) عن ابن أبي عدي
وعبد الله بن بكر السهمي - كلاهما عن حميد عن ثابت عن أنس.
وكذلك رواه مسلم 2: 309 من طريق ابن أبي عدي عن حميد ثم من
طريق خالد بن الحارث عن حميد.
وذكره ابن كثير 1: 472- 473 من رواية المسند. ثم قال: "انفرد
بإخراجه مسلم" يعني انفرد به عن البخاري.
وذكره السيوطي 1: 233 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي شيبة
والترمذي والنسائي وأبي يعلى وابن حبان وابن أبي حاتم والبيهقي
في الشعب. ولكنه وهم فنسبه أيضًا للبخاري ولم أجده فيه، مع جزم
ابن كثير بانفراد مسلم بروايته.
(4/204)
3878 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين،
قال: حدثنا عباد، عن هشام بن حسان، عن الحسن:" ومنهم من يقول
رَبنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة"، قال: الحسنة في
الدنيا: العلمُ والعبادةُ، وفي الآخرة: الجنة.
3879 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا
هشيم، عن سفيان بن حسين، عن الحسن في قوله:" ربنا آتنا في
الدنيا حَسنة، وفي الآخرة حَسنةً، وقنا عذابَ النار"، قال:
العبادة في الدنيا، والجنة في الآخرة.
3880 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن واقد العطار،
قال: حدثنا عباد بن العوام، عن هشام، عن الحسن في قوله:" ربنا
آتنا في الدنيا حَسنة"، قال: الحسنة في الدنيا: الفهمُ في كتاب
الله والعلم.
3881 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت سفيان
الثوري يقول [في] هذه الآية:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي
الآخرة حَسنة"، قال: الحسنة في الدنيا: العلمُ والرزق الطيب،
وفي الآخرة حَسنة الجنة.
* * *
وقال آخرون:"الحسنة" في الدنيا: المال، وفي الآخرة: الجنة.
* ذكر من قال ذلك:
3882 - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:"
ومنهم مَنْ يقول رَبنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة
وقنا عذاب النار"، قال: فهؤلاء النبي صلى الله عليه وسلم
والمؤمنون.
3883 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا
أسباط، عن السدي" ومنهم من يَقول رَبنا آتنا في الدنيا حَسنة
وفي الآخرة حَسنة"، هؤلاء المؤمنون; أما حسنة الدنيا فالمال،
وأما حَسنة الآخرة فالجنة.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله
جل ثناؤه أخبر عن قوم من أهل الإيمان به وبرسوله، ممن حجَّ
بَيته، يسألون ربهم
(4/205)
أُولَئِكَ لَهُمْ
نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
الحسنة في الدنيا، والحسنة في الآخرة، وأن
يقيهم عذاب النار. وقد تجمع"الحسنةُ" من الله عز وجل العافيةَ
في الجسم والمعاش والرزق وغير ذلك، والعلم والعبادة.
وأما في الآخرة، فلا شك أنها الجَّنة، لأن من لم يَنلها يومئذ
فقد حُرم جميع الحسنات، وفارق جميع مَعاني العافية.
وإنما قلنا إن ذلك أولى التأويلات بالآية، لأن الله عز وجل لم
يخصص بقوله - مخبرًا عن قائل ذلك- من معاني"الحسنة" شيئًا، ولا
نصب على خُصوصه دلالة دالَّةً على أن المراد من ذلك بعض دون
بعض، فالواجب من القول فيه ما قلنا: من أنه لا يجوز أن يُخَصّ
من معاني ذلك شيء، وأن يحكم له بعمومه على ما عَمَّه الله.
* * *
وأما قوله:" وقنا عذاب النار"، فإنه يعني بذلك: اصرف عنا عَذاب
النار.
* * *
ويقال منه:"وقيته كذا أقيه وِقاية وَوَقاية ووِقاء"، ممدودًا،
وربما قالوا:" وقاك الله وَقْيًا"، إذا دفعت عنه أذى أو
مكروهًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا
كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"أولئك" الذين يقولون بعد
قضاء مناسكهم:" ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة
وَقِنا عذاب النار"، رغبةً منهم إلى الله جل ثناؤه فيما عنده،
وعلمًا منهم بأن الخيرَ كله من عنده، وأن الفضل بيده يؤتيه من
يَشاء. فأعلم جل ثناؤه أنّ لهم نصيبًا وحظًّا من حجِّهم
ومناسكهم، وثوابًا جزيلا على عملهم الذي كسبوه، وبَاشروا
معاناته بأموالهم وأنفسهم،
(4/206)
خاصًّا ذلك لهم دون الفريق الآخر، الذين
عانوا ما عانوا من نَصَب أعمالهم وتعبها، وتكلَّفوا ما تكلفوا
من أسفارهم، بغير رغبةٍ منهم فيما عند رَبهم من الأجر والثواب،
ولكن رجاء خسيس من عَرض الدنيا، وابتغاء عَاجل حُطامها. كما:-
3884 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد،
عن قتادة في قوله:" فمن الناسَ من يقول رَبنا آتنا في الدنيا
وما له في الآخرة من خَلاق"، قال: فهذا عبد نوى الدنيا، لها
عمل ولها نَصِب،" ومنهم من يقول رَبنا آتنا في الدنيا حَسنة
وفي الآخرة حَسنة وقنا عذابَ النار. أولئك لَهم نصيب مما
كسبوا"، أي حظٌّ من أعمالهم.
3885 - وحدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد
في:" فمن الناس مَن يَقول رَبنا آتنا في الدنيا ومَاله في
الآخرة من خَلاق"، إنما حَجُّوا للدنيا والمسألة، لا يريدون
الآخرة ولا يؤمنون بها،" ومنهم مَن يقول رَبنا آتنا في الدنيا
حسنةً وفي الآخرة حَسنةً وقنا عذاب النار"، قال: فهؤلاء النبي
صلى الله عليه وسلم والمؤمنون=" أولئك لهم نصيبٌ مما كسبوا
والله سريع الحساب"، لهؤلاء الأجرُ بما عملوا في الدنيا.
* * *
وأما قوله:" والله سريع الحساب"، فإنه يعني جل ثناؤه: أنه محيط
بعمل الفريقين كليهما اللذين من مسألة أحدهما:" رَبنا آتنا في
الدنيا"، ومن مسألة الآخر:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي
الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"، فَمُحْصٍ له بأسرع الحساب، (1)
ثم إنه مجازٍ كلا الفريقين على عمله.
وإنما وصف جل ثناؤه نفسه بسرعة الحساب، لأنه جل ذكره يُحصى ما
يُحصى من أعمال عباده بغير عَقد أصابع، ولا فكرٍ ولا رَوية،
فِعلَ العَجَزة الضَّعَفة من الخلق، ولكنه لا يخفى عليه شيء في
الأرض ولا في السماء، ولا يَعزب عنه مثقال ذرة فيهما، ثم هو
مُجازٍ عبادَه على كل ذلك. فلذلك امتدح
__________
(1) قوله: "فمحص" عطف على قوله: "أنه محيط. . . "
(4/207)
نفسه جل ذكره بسرعة الحساب، (1) وأخبر خلقه
أنه ليس لهم بمِثْلِ، فيحتاجَ في حسابه إلى عَقد كف أو وَعْي
صَدر.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فلذلك جل ذكره امتدح بسرعة الحساب"، والذي
أثبت أشبه بالصواب إن شاء الله.
(4/208)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ
فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ
فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ
لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا
اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}
قال أبو جعفر: يعني جَلّ ذكره: أذكروا الله بالتوحيد والتعظيم
في أيام مُحصَيات، وهي أيام رَمي الجمار. أمر عباده يومئذ
بالتكبير أدبارَ الصلوات، وعند الرمي مع كل حصاة من حَصى
الجمار يرمي بها جَمرةً من الجمار.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:
* ذكر من قال ذلك:
3886 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا هشيم، عن أبي بشر،
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:" واذكروا الله في أيام
معدودات"، قال: أيام التشريق.
3887 - حدثني محمد بن نافع البصري، قال: حدثنا غندر: قال:
حدثنا شعبة، عن هشيم، عن أبى بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن
عباس، مثله. (1)
3888 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي،
قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" واذكروا الله في
أيام معدودات"، يعني الأيام المعدودات أيامَ التشريق، وهي
ثلاثة أيام بعد النحر.
__________
(1) الأثر: 3887 -"محمد بن نافع البصري" هو محمد بن أحمد بن
نافع العبدي القيسي أبو بكر بن نافع البصري مشهور بكنيته.
مترجم في التهذيب"غندر" هو محمد بن جعفر الهذلي مولاهم أبو عبد
الله البصري. مترجم في التهذيب.
(4/208)
3889 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو
صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن
عباس قوله:" واذكروا الله في أيام معدودات"، يعني أيام
التشريق.
3890 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال:
حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
3891 - وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مخلد، عن ابن جريج، عن
عمرو بن دينار، عن ابن عباس: سمعه يوم الصَّدَر يَقول بعد ما
صدر يُكبر في المسجد ويتأول:" واذكروا الله في أيام مَعدودات".
3892 - حدثنا علي بن داود، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" واذكروا
الله في أيام معدودات"، يعني أيام التشريق.
3893 - حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري، قال: أخبرنا إسحاق،
عن شريك، عن أبي إسحاق، عن عطاء بن أبي رباح في قول الله عز
وجل:" واذكروا الله في أيام معدودات"، قال: هي أيام التشريق.
3894 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن طلحة بن عمرو، عن
عطاء، مثله.
3895 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" واذكروا الله في
أيام معدودات"، قال أيام التشريق بمنى.
3896 - حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن
ليث، عن مجاهد وعطاء قالا هي أيام التشريق.
3897 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا
سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
(4/209)
3898 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير،
عن منصور، عن مجاهد، مثله.
3899 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا
سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: الأيام المعدودات: أيام
التشريق.
3900 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى، عن سفيان، عن منصور،
عن إبراهيم، مثله.
3901 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا يونس،
عن الحسن، قال: الأيام المعدودات: الأيام بعد النحر.
3902 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا
شعبة، قال: سألت إسماعيل بن أبي خالد عن"الأيام المعدودات"،
قال: أيام التشريق.
3903 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، فقال:
حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" واذكروا الله في أيام معدودات"،
كنا نُحدَّث أنها أيام التشريق.
3904 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" واذكروا الله في أيام
معدودات"، قال: هي أيام التشريق.
3905 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال:
حدثنا أسباط، عن السدي:" أما الأيام المعدوداتُ": فهي أيام
التشريق.
3906 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع، مثله.
3907 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن مالك، قال:"
الأيام المعدودات"، ثلاثة أيامٍ بعد يوم النحر.
3908 - حدثت عن حسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن
(4/210)
خالد، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال:
سمعت الضحاك يقول في قوله:" في أيام معدودات" قال: أيام
التشريق الثلاثة.
3910 - حدثني ابن البرقي، قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة، قال:
سألت ابن زيد عن" الأيام المعدودات" و"الأيام المعلومات"،
فقال:"الأيام المعدودات" أيام التشريق،"والأيام المعلومات"،
يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق.
* * *
وإنما قلنا: إنّ"الأيام المعدودات"، هي أيام منى وأيام رمي
الجمار لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
كان يقول فيها: إنها أيام ذكر الله عز وجل.
* ذكر الأخبار التي رويت بذلك:
3911 - حدثني يعقوب بن إبراهيم وخلاد بن أسلم، قال: حدثنا
هشيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: أيام التشريق أيام طُعْمٍ
وذِكْر". (1)
__________
(1) الحديث: عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: ثقة وثقه
أحمد وغيره وتكلم فيه آخرون من قبل حفظه.
والحديث رواه أحمد في المسند: 7134 عن هشيم بهذا الإسناد.
ورواه أيضًا: 9008 (2: 387 حلبي) عن عفان عن أبي عوانة عن عمر
بن أبي سلمة.
ورواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 428 من طريق سعيد بن منصور
عن هشيم به.
ولم ينفرد عمر بن أبي سلمة بروايته. فرواه ابن ماجه: 1719 من
طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وقال البوصيري في
زوائده: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
وسيأتي عقب هذا من رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.
(4/211)
3912 - حدثنا خلاد، قال: حدثنا روح، قال:
حدثنا صالح، قال: حدثني ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي
هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعثَ عبد الله بن
حُذافة يطوف في منى:"لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب
وذكر الله عز وجل". (1)
3912م - وحدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن المفضل=
وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية= قالا جميعًا،
حدثنا خالد، عن أبي قلابة، عن أبي المليح، عن عائشة: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذ الأيام أيام أكل وشرب وذكر
الله.
3913 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن ابن أبي ليلى، عن
عطاء، عن عائشة، قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
صوم أيام التشريق وقال: هي أيام أكل وشرب وذكر الله. (2)
3914 - حدثني يعقوب، قال: حدثني هشيم، عن عبد الملك بن أبي
سليمان، عن عمرو بن دينار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بَعث بشر بن سُحَيم، فنادى في أيام التشريق، فقال: إن هذه
الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله. (3)
__________
(1) الحديث: 3912 - روح: هو ابن عبادة. صالح: هو ابن أبي
الأخضر اليمامي. وهو ثقةن تكلموا في روايته عن الزهري بما ليس
بقادح. وهو كان خادما لزهري فالظاهر أن يكون عرف عن الزهري ما
لم يعرف غيره.
والحديث رواه أحمد في المسند: 10674، 10930 (2: 513، 535 حلبي)
عن روح ابن عبادة بهذا الإسناد. وكذلك رواه الطحاوي 1: 428
ونسباه للطبري فقط.
وانظر ما مضى: 3471 وما يأتي: 3916.
(2) الحديث: 3913 - خالد: هو ابن مهران الحذاء. أبو قلابة: هو
الجرمي عبد الله ابن زيد. أبو المليح: هو ابن أسامة الهذلي.
وهذا إسناد صحيح ليست له علة.
ويشهد له ما روى البخاري 4: 211 (فتح) من طريق الزهري عن عروة
عن عائشة - وعن سالم عن ابن عمر قالا: "لم يرخص في أيام
التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدى" وهو مرفوع حكما -على
الراجح- وإن كان لفظه لفظ الموقوف.
وقد مضى معناه مرفوعا لفظا من وجه آخر، عن الزهري عن سالم عن
ابن عمر.
وانظر الحديث التالي لهذا.
(3) الحديث: 3914 - ابن أبي ليلى: هو محمد بن عبد الرحمن.
عطاء: هو ابن أبي رباح وهذا إسناد حسن.
والحديث رواه الطحاوي 1: 428 من طريق سعيد بن منصور عن هشيم
بهذا الإسناد. وذكره ابن كثير 1: 475 ولم يذكر تخريجه. وذكره
السيوطي 1: 235 منسوبا للطبري فقط.
(4/212)
3915 - حدثني يعقوب. قال: حدثنا هشيم، عن
سفيان بن حسين، عن الزهري، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه
وسلم عبد الله بن حذافة بن قيس فنادى في أيام التشريق فقال:"إن
هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله، إلا من كان عليه صومٌ من
هَدْي". (1)
3916 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق،
عن حكيم بن حكيم، عن مسعود بن الحكم الزُّرَقي، عن أمه قالت:
لكأني أنظر إلى عليٍّ رضي الله عنه على بغلة رسول الله صلى
الله عليه وسلم البيضاء حين وقف على شِعْب الأنصار وهو
يقول:"أيها الناس إنها ليست بأيام صيام، إنما هي أيام أكل وشرب
وذكر". (2)
* * *
__________
(1) الحديث: 3915 - هذا إسناد مرسل لأن عمرو بن دينار تابعي.
ولكن الحديث ورد من طريقه متصلا صحيحًا وكذلك من غير طريقه:
فرواه أحمد في المسند: 15496 (3: 415 حلبي) عن محمد بن جعفر عن
شعبة عن عمرو بن دينار"عن نافع بن جبير بن مطعم عن رجل من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم:
أنه بعث بشر بن سحيم فأمره أن ينادي: ألا إنه لا يدخل الجنة
إلا نفس مؤمن وإنها أيام أكل وشرب يعني أيام التشريق".
ورواه أحمد أيضًا بنحوه (4: 235 حلبي) عن سريج عن حماد بن زيد
عن عمرو بن دينار عن نافع بن جبير عن بشر بن سحيم. وكذلك رواه
الطحاوي 1: 429 عن ابن خزيمة عن حجاج بن منهال عن حماد بن زيد
به.
ورواه شعبة أيضًا عن حبيب بن أبي ثابت عن نافع بن جبير وروايته
في مسند الطيالسي 1299 ومسند أحمد: 15497 (3: 415 حلبي)
والطحاوي 1: 429.
وكذلك رواه سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن نافع بن جبير
وروايته في المسند: 15495 (3: 415 حلبي) وفيه أيضًا (4: 235
حلبي) وسنن ابن ماجه: 1730 وقال البوصيري في زوائده: "رواه ابن
خزيمة في صحيحه". وكذلك رواه البيهقي 4: 298.
(2) الحديث: 3916 - مضى بهذا الإسناد: 3471.
حكيم بن حكيم بفتح الحاء فيهما بن عباد بن حنيف: ثقة وثقه ابن
حبان والعجلي وغيرهما وصحح له الترمذي وابن خزيمة. وترجمه
البخاري في الكبير 2/1/17 وابن أبي حاتم 1/2/202 فلم يذكرا فيه
جرحا.
مسعود بن الحكم بن الربيع الزرقي الأنصاري المدني: تابعي ثقة
يعد في جلة التابعين وكبارهم. وأمه صحابية معروفة.
والحديث رواه ابن سعد في الطبقات 2/1/134 عن إسماعيل بن
إبراهيم -وهو ابن علية- بهذا الإسناد.
ورواه الحاكم في المستدرك 1: 434- 435 من طريق أحمد بن حنبل عن
عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق بهذا الإسناد. وقال
الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". ووافقه
الذهبي.
وهذا الإسناد -من طريق الإمام احمد: ليس من طريق رواية المسند
بل من طريق آخر عنه ولم يذكر هذا الإسناد في المسند. ولكنه
رواه بإسناد آخر:
فرواه في المسند: 708 عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن
ابن إسحاق: "حدثني عبد اله بن أبي سلمة عن مسعود بن الحكم
الأنصاري ثم الزرقي عن أمه أنها حدثته. . . " فذكر الحديث.
وهذا إسناد صحيح أيضًا. فلابن إسحاق فيه شيخان سمعه منهما:
حكيم بن حكيم وعبد الله بن أبي سلمة الماجشون- كلاهما عن مسعود
بن الحكم.
وانظر أيضًا في المسند: 567، 821، 824.
(4/213)
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: إن النبي صلى
الله عليه وسلم إذ قال في أيام منى: إنها أيام أكل وشرب وذكر
الله، لم يخبر أمَّته أنها"الأيام المعدودات" التي ذكرها الله
في كتابه، فما تنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عنى
بقوله:"وذكْر الله"،"الأيامَ المعلومات"؟
قيل: غير جائز أن يكون عنى ذلك. لأن الله لم يكن يُوجب
في"الأيام المعلومات" من ذكره فيها ما أوجبَ في"الأيام
المعدودات". وإنما وصف"المعلومات" جل ذكره بأنها أيام يذكر
فيها اسم الله على بهائم الأنعام، فقال: (لِيَشْهَدُوا
مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ)
[الحج: 28] ، فلم يوجب في"الأيام المعلومات" من ذكره كالذي
أوجبه في"الأيام المعدودات" من ذكره، بل أخبر أنها أيام ذكره
علىَ بهائم الأنعام. فكان معلومًا= إذ قال صلى الله عليه وسلم
لأيام التشريق:" إنها أيام أكل وشرب وذكر الله" فأخرج قوله:"
وذكر الله" مطلقًا بغير شرط، ولا إضافة، إلى أنه الذكر على
بهائم الأنعام = أنه عنى بذلك الذكر الذي ذكره الله في كتابه،
فأوجبه على عباده مطلقًا بغير شرط ولا إضافة إلى معنى
في"الأيام المعدودات"، وأنه لو كان أراد بذلك صلى الله عليه
وسلم
(4/214)
وصف"الأيام المعلومات" به، لوصل قوله:"
وذكر"، إلى أنه ذكر الله على ما رزقهم من بهائم الأنعام، كالذي
وصف الله به ذلك، ولكنه أطلق ذلك باسم الذكر من غير وصله بشيء،
كالذي أطلقه تبارك وتعالى باسم الذكر، فقال:" واذكروا الله في
أيام معدودات" فكان ذلك من أوضح الدليل على أنه عنى بذلك ما
ذكره الله في كتابه وأوجبه في"الأيام المعدودات".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ
فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ
لِمَنِ اتَّقَى}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم: معناه: فمن تعجل في يَومين من أيام التشريق فنفر
في اليوم الثاني فلا إثم عليه في نَفْره وتعجله في النفر، ومن
تأخر عن النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق إلى اليوم
الثالث حتى ينفر في اليوم الثالث فلا إثم عليه في تأخره.
* ذكر من قال ذلك.
3917 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا
هشيم، عن عطاء، قال: لا إثم عليه في تعجيله، ولا إثم عليه في
تأخيره.
3918 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال. حدثنا هشيم، عن
عوف، عن الحسن، مثله.
3919 - حدثنا أحمد، قال. حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا هشيم، عن
مغيره، عن عكرمة، مثله.
3920 - حدثني محمد بن عمرو، قال. حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
(4/215)
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" فمن
تعجَّل في يومين"، يوم النَّفر،" فلا إثم عليه"، لا حرج عليه،"
ومن تأخر فلا إثم عليه".
3921 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال:
حدثنا أسباط، عن السدي: أما:"من تعجَّل في يومين فلا إثم
عليه"، يقول: من نَفَر في يومين فلا جُناح عليه، ومن تأخر فنفر
في الثالث فلا جناح عليه.
3922 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:" فمن تعجَّل في يومين"، يقول: فمن تعجَّل في يومين- أي:
من أيام التشريق="فلا إثم عليه"، ومن أدركه الليل بمنى من
اليوم الثاني من قيل أن ينفر، فلا نَفْر له حتى تزول الشمس من
الغد=" ومن تأخر فلا إثم عليه"، يقول: من تأخر إلى اليوم
الثالث من أيام التشريق فلا إثم عليه.
3923 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال. أخبرنا عبد الرزاق، قال.
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" فمن تعجَّل في يومين فلا إثم
عليه"، قال: رخَّص الله في أن ينفروا في يومين منها إن شاءوا،
ومن تأخر في اليوم الثالث فلا إثم عليه.
3924 - حدثني محمد بن المثنى، قال. حدثنا محمد بن جعفر، قال.
حدثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم أنه قال في هذه الآية:" فمن
تعجل في يومين فلا إثم عليه"، قال في تعجيله.
3925 - حدثني هناد بن السريّ، قال: حدثنا ابن أبى زائدة، قال:
حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم قال:" لا إثم عليه"، لا
إثم على من تعجل، ولا إثم على من تأخر.
3926 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا
إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم، قال: هذا في التعجيل.
3927 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا
شريك وإسرائيل، عن زيد بن جبير، قال: سمعت ابن عمر يقول: حلَّ
النَّفر في يومين لمن اتقى.
(4/216)
3928 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع،
عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس:" فمن تجعل
في يومين فلا إثم عليه" في تعجله،" ومن تأخر فلا إثم عليه" في
تأخره.
3929 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أللمكي أن ينفر في النفْر
الأول؟ قال: نعم، قال الله عز وجل:" فمن تعجل في يومين فلا إثم
عليه"، فهي للناس أجمعين.
3930 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن
منصور، عن إبراهيم:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، قال:
ليس عليه إثم
3931 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس:" فمن تعجل في يومين" بعد يوم النحر،" فلا
إثم عليه"، بقول: من نَفَر من منى في يومين بعد النحر فلا إثم
عليه،"ومن تأخر فلا إثم عليه" في تأخره، فلا حرج عليه. (1)
3932 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن
إبراهيم:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه" في تعجله،" ومن
تأخر فلا إثم عليه" في تأخره.
* * *
وقال آخرون: بل معناه: فمن تعجل في يومين فهو مغفور له لا إثم
عليه، ومن تأخر كذلك.
* ذكر من قال ذلك:
3933 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا
إسرائيل،
__________
(1) الأثر: 3931 - كان في المطبوعة"حدثنا علي قال حدثنا أبو
صالح. . . " و"علي" تصحيف"المثنى" وهعو إسناد دائر في الطبري
أقربه رقم: 2893.
(4/217)
عن ثوير، عن أبيه، عن عبد الله:" فمن
تعجَّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال:
ليس عليه إثم.
3934 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال حدثنا
سفيان، عن حماد. عن إبراهيم، عن عبد الله:" فمن تعجل في يومين
فلا إثم عليه"، أي غفر له" ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: غُفر
له.
3935 - حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا
مسعر، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله:" فمن تعجل في يومين
فلا إثم عليه"، أي غفر له.
3936 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا المحاربي= وحدثنا أحمد بن
إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد= جميعًا، عن سفيان، عن حماد، عن
إبراهيم، عن عبد الله في قوله:" فمن تعجل في يومين فلا إثم
عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: قد غُفر له.
3937 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن سفيان، عن حماد،
عن إبراهيم في قوله:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر
فلا إثم عليه"، قد غفر له.
3938 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا
شعبة، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله قال في هذه الآية:"
فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه" قال:
برئ من الإثم.
3939 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا
حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن الحسن، عن ابن عمر:" فمن تعجل
في يومين فلا إثم عليه" قال: رجع مغفورًا له.
(4/218)
3940 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية،
عن ليث، عن مجاهد في قوله:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عَليه
ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: قد غفر له.
3941 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا
سفيان، عن جابر، عن أبي عبد الله، عن ابن عباس:" فمن تعجل في
يومين فلا إثم عليه"، قال: قد غفر له، إنهم يتأولونها على غير
تأويلها، إن العمرة لتكفِّر ما معها من الذنوب فكيف بالحج!.
3942 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل،
عن أبي حصين، عن إبراهيم وعامر:" فمن تعجل في يومين فلا إثم
عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قالا غفر له.
3943 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن
ابن جريج، قال: حدثني من أصدقه، عن ابن مسعود قوله:" فلا إثم
عليه"، قال: خرج من الإثم كله" ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال:
برئ من الإثم كله، وذلك في الصَّدَر عن الحج = قال ابن جريج:
وسمعت رجلا يحدث عن عطاء بن أبي رباح، عن على بن أبي طالب رضي
الله عنه أنه قال:" فلا إثم عليه"، قال. غفر له،" ومن تأخر فلا
إثم عليه"، قال: غُفر له.
3944 - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال. حدثنا
أسود بن سوادة القطان، قال: سمعت معاوية بن قُرة قال: يَخرج من
ذنوبه. (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 3944 - لم أجد"أسود بن سوادة القطان"، ولعله"سوادة
بن أبي الأسود القطان" وهو الذي يروي عنه أبو نعيمن واسمه"عبد
الله" ويقال مسلم بن مخارق القطان. ترجمه في التهذيب.
(4/219)
وقال آخرون: معنى ذلك:" فمن تعجل في يومين
فعلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه"، فيما بينه وبين السنة
التي بَعدها.
* ذكر من قال ذلك:
3945 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا
إسحاق بن يحيى بن طلحه، قال: سألت مجاهدًا عن قول الله عز
وجل:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"،
قال: لمن في الحج، ليس عليه إثم حتى الحج من عام قابل.
* * *
وقال آخرون: بل معناه. فلا إثم عليه إن اتقى الله فيما بقي من
عمره.
* ذكر من قال ذلك:
3946 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا أبو جعفر
الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية:" فمن تعجل في يومين
فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: ذهب إثمه كله إن
اتقى فيما بقي.
3947 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
المغيرة، عن إبراهيم، مثله.
3948 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع، عن أبي العالية، مثله.
3949 - حدثني يونس، قاله: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في
قوله:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم
عليه"، قال: لمن اتقى بشرط.
3950 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال:
حدثنا أسباط، عن السدي:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، لا
جُناح عليه ="ومن تأخر" إلى اليوم الثالث فلا جناح عليه لمن
اتقى= وكان ابن عباس يقول: وددت أنّي من هؤلاء، ممن يُصيبه
اسمُ التقوى.
3951 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج،
قال:
(4/220)
قال ابن جريج: هي في مصحف عبد الله:"
لِمَنِ اتَّقَى اللهَ".
3952 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية،
عن علي، عن ابن عباس:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن
تأخر فلا إثم عليه"، فلا حرج عليه، يقول: لمن اتقى معاصيَ الله
عز وجل. (1)
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك:" فمن تعجل في يومين" من أيام
التشريق" فلا إثم عليه"، أي فلا حرج عليه في تعجيله النفْر، إن
هو اتقى قَتْل الصيد حتى ينقضي اليوم الثالث، ومن تأخر إلى
اليوم الثالث فلم ينفر فلا حرج عليه.
* ذكر من قال ذلك:
3953 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال:
أخبرنا محمد بن أبي صالح:" لمن اتقى" أن يصيب شيئًا من الصيد
حتى يمضي اليوم الثالث.
3954 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال:
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" فمن تعجل في يومين فلا إثم
عليه"، ولا يحل له أن يقتل صيدًا حتى تخلو أيام التشريق.
* * *
وقال آخرون: بل معناه:"فمن تعجل في يومين" من أيام التشريق
فنفر"فلا إثم عليه"، أي مغفورٌ له-"ومن تأخر" فنفر في اليوم
الثالث"فلا إثم عليه"، أي مغفور له إن اتقى على حجه أن يصيبَ
فيه شيئًا نهاه الله عنه.
* ذكر من قال ذلك:
3955 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، فال: حدثنا سعيد، عن قتادة
__________
(1) الأثر: 3952 - في المطبوعة: "حدثنا علي، قال حدثنا عبد
الله". وقوله"علي" تصحيف والصواب ما أثبتنا، وانظر الأثر
السالف رقم: 3931 والتعليق عليه.
(4/221)
قوله:" لمن اتقى"، قال: يقول لمن اتقى على
حجه = قال قتادة: ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول: من اتقى في
حجه غفر له ما تقدم من ذنبه - أو: ما سلف من ذنبه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال: تأويل
ذلك:"فمن تعجل في يومين" من أيام منى الثلاثة فنفر في اليوم
الثاني"فلا إثم عليه"، لحطِّ الله ذنوبَه، إن كان قد اتقى الله
في حجه، فاجتنب فيه ما أمره الله باجتنابه، وفعل فيه ما أمره
الله بفعله، وأطاعه بأدائه على ما كلفه من حدوده ="ومن تأخر"
إلى اليوم الثالث منهن فلم ينفر إلى النفر الثاني حتى نفر من
غد النفر الأول،"فلا إثم عليه"، لتكفير الله له ما سلف من
آثامه وإجرامه، وإن كان اتقى الله في حجه بأدائه بحدوده.
وإنما قلنا أن ذلك أولى تأويلاته [بالصحة] ، لتظاهر الأخبار عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ومن حجّ هذا البيت فلم
يرفُثْ ولم يفسُقْ خرَج من ذنوبه كيوم ولدته أمه = وأنه قال
صلى الله عليه وسلم:"تابعوا بين الحجّ والعمرة، فإنهما ينفيان
الذنوب كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد والذهب والفضة".
3956 - حدثنا عبد الله بن سعيد الكندي، قال: حدثنا أبو خالد
الأحمر، قال: حدثنا عمرو بن قيس، عن عاصم، عن شقيق، عن عبد
الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تابعوا بين الحج
والعمرة فإنهما ينفيان الفقرَ والذنوبَ كما ينفي الكِيرُ
خَبَثَ الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثوابُ دون
الجنة". (1)
__________
(1) الحديث: 3956 - عبد الله بن سعيد الكندي أبو سعيد الأشج:
ثقة حافظ من شيوخ أصحاب الكتب الستة. أبو خالد الأحمر: هو
سليمان بن حيان -بالياء التحتية- الأزدي وهو ثقة من شيوخ أحمد
وإسحاق أخرج له جماعة. عمرو بن قيس: هو الملائي. عاصم: هو ابن
أبي النجود. شقيق: هو ابن سلمة أبو وائل الأسدي عبد الله: هو
ابن مسعود.
والحديث رواه احمد في المسند: 3669 عن أبي خالد الأحمر بهذا
الإسناد ورواه الترمذي 2: 78 والنسائي 2: 4- كلاهما من طريق
أبي خالد الأحمر.
وذكره السيوطي 1: 211 وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن خزيمة
وابن حبان.
الكير: زق أو جلد غليظ ذو حافات ينفخ فيه الحداد، ليؤرث النار.
وخبث الحديد وغيره: هو ما ينفيه الكير والنار من الحديد إذا
أذيب وهو ما لا خير فيه منه.
(4/222)
3957 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم
بن بشير، عن عمرو بن قيس، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله عن
النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. (1)
3958 - حدثنا الفضل بن الصباح، قال:. حدثنا ابن عيينة، عن عاصم
بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، عن عمر
يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تابعوا بين الحج
والعمرة، فإنّ متابعة ما بينهما تنفي الفقر والذنوبَ كما ينفي
الكيرُ الخبَثَ= أو: خبَثَ الحديد". (2)
3959 - حدثنا إبراهيم بن سعيد، قال: حدثنا سعد بن عبد الحميد،
قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن صالح مولى
التوأمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إذا قضيتَ حجَّك فأنت مثل ما ولدتك أمك. (3)
* * *
__________
(1) الحديث: 3957 - وهذا إسناد آخر صحيح لهذا الحديث لم أجده
عند غير الطبري. وهو يدل على أن عاصم بن أبي النجود رواه عن
شيخين، هما أبو وائل وزر بن حبيش-: كلاهما عن ابن مسعود.
(2) الحديث: 3958 - عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن
الخطاب: ضعيف وقد بينا ضعفه في شرح المسند: 128، 5229.
والحديث رواه ابن ماجه: 2887 بإسنادين من طريق ابن عيينة ومن
طريق عبيد الله بن عمر- كلاهما عن عاصم بن عبيد الله. وقال
البوصيري في زوائده: "مدار الإسنادين على عاصم ابن عبيد الله،
وهو ضعيف. والمتن صحيح من حديث ابن مسعود رواه الترمذي
والنسائي"، يريد الحديثين السابقين.
وذكره السيوطي 1: 211 وزاد لابن أبي شيبة، والبيهقي.
(3) الحديث: 3959 - إبراهيم بن سعيد هو الجوهري. مضى في: 3355.
سعد بن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله الأنصاري المدني: ضعفه
ابن حبان جدا وقال ابن معين: "ليس به بأس". والذي أرجحه أنه
ثقة، فإن البخاري ترجمه في الكبير 2/2/62 فلم يذكر فيه حرجا
ولم يذكره هو ولا النسائي في الضعفاء وترجمه ابن أبي حاتم
2/1/92 فلم يجرحه أيضًا.
صالح مولى التوأمة: هو صالح بن نبهان، مضى في 1020 تصحيح رواية
من سمع منه قديما قبل تغير حفظه. وموسى بن عقبة سمع منه قديما،
كما بينا في شرح المسند: 2604.
وهذا الحديث. بهذا الإسناد - لم أجده في موضع آخر من المراجع
من حديث ابن عباس. ومعناه ثابت في أحاديث أخر صحاح. انظر
الترغيب والترهيب 2: 105- 113 ومجمع الزوائد 3: 207- 209، 274-
277، وانظر ما سلف من رقم: 3718- 3728.
(4/223)
= وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بذكر
جميعها الكتاب، مما ينبئ عنه أنّ من حجّ فقضاه بحدوده على ما
أمره الله، فهو خارج من ذنوبه، كما قال جل ثناؤه:" فلا إثم
عليه لمن اتقى" الله في حجه. فكان في ذلك من قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم ما يوضح عن أن معنى قوله جل وعزّ:" فلا إثم
عليه"، أنه خارجٌ من ذنوبه، محطوطة عنه آثامه، مغفورَةٌ له
أجْرامه= وأنه لا معنى لقول من تأول قوله:" فلا إثم عليه"، فلا
حرج عليه في نفره في اليوم الثاني، ولا حرج عليه في مقامه إلى
اليوم الثالث. لأن الحرَج إنما يوضع عن العامل فيما كان عليه
ترْك عمله، فيرخّص له في عمله بوضع الحرَج عنه في عمله؛ أو
فيما كان عليه عمله، فيرخَّص له في تركه بوضع الحرج عنه في
تركه. فأما ما على العامل عَمله فلا وَجه لوضع الحرَج عنه فيه
إن هو عَمله، وفرضُه عَملُه، لأنه محال أن يكون المؤدِّي فرضًا
عليه، حرجا بأدائه، (1) فيجوز أن يقال: قد وضعنا عنك فيه
الحرَج.
وإذ كان ذلك كذلك= وكان الحاج لا يخلو عند من تأوّل قوله:" فلا
إثم عليه" فلا حرج عليه، أو فلا جناح عليه، من أن يكون فرضه
النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق، فوضع عنه الحرَج في
المقام، أو أن يكون فرضَه المقام،
__________
(1) قوله: "حرجًا" على وزن"فرح" بمعنى آثم وقد مضى في الجزء 2:
423 استعمال هذه الصيغة وعلقت عليه أن أهل اللغة ينكرون ذلك
ويقولون بل هو"حارج" ولقد أعاد الطبري استعمالها هنا مرة أخرى،
ورأيت أيضًا القاضي الباقلاني قد استعملها في كتابه التمهيد ص:
221، فقال: ". . . لم يكن الإمام بذلك مأثومًا ولا حرجًا"
وكأني رأيت الشافعي قد استعملها أيضًا في الأم، ولكن ذهب عني
مكانها.
(4/224)
إلى اليوم الثالث، فوضع عنه الحرج في النفر
في اليوم الثاني، فإن يكن فرضه في اليوم الثاني من أيام
التشريق المقام إلى اليوم الثالث منها، فوضع عنه الحرج في نفره
في اليوم الثاني منها - وذلك هو التعجُّل الذي قيل:" فمن
تعجَّل في يومين فلا إثم عليه"- فلا معنى لقوله على تأويل من
تأوّل ذلك:" فلا إثم عليه"، فلا جناح عليه،" ومن تأخر فلا إثمَ
عليه". لأن المتأخر إلى اليوم الثالث إنما هو متأخّرٌ عن أداء
فرض عليه، تاركٌ قبولَ رُخصة النفر، فلا وجه لأن يقال:"لا حرج
عليك في مقامك على أداء الواجب عليك"، لما وصفنا قبل- أو يكون
فرضُه في اليوم الثاني النفر، فرُخِّص له في المقام إلى اليوم
الثالث، فلا معنى أن يقال:" لا حرج عليك في تعجُّلك النفر الذي
هو فرضك وعليك فعله"، للذي قدمنا من العلة.
وكذلك لا معنى لقول من قال: معناه:" فمن تعجل في يومين فلا إثم
عليه" ولا حرج عليه في نفره ذلك، إن اتقى قتل الصيد إلى انقضاء
اليوم الثالث. لأن ذلك لو كان تأويلا مسلَّمًا لقائله لكان في
قوله:" ومن تأخر فلا إثم عليه"، ما يُبطل دعواه، لأنه لا خلاف
بين الأمة في أن الصيد للحاجّ بعد نفره من منى في اليوم الثالث
حلال، فما الذي من أجله وَضَع عنه الحرج في قوله:" ومن تأخر
فلا إثم عليه"، إذا هو تأخر إلى اليوم الثالث ثم نفر؟ هذا، مع
إجماعِ الحجة على أن المحرم إذا رمى وذبح وحلق وطافَ بالبيت،
فقد حلَّ له كل شيء، وتصريحِ الرواية المروية عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم بنحو ذلك، (1) التي:-
3960 - حدثنا بها هناد بن السري الحنظلي، قال: حدثنا عبد
الرحيم بن سليمان، عن حجاج، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن
حزم، عن عمرة قالت: سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها متى
يحلّ المحرم؟ فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا
رَميتم وذبحتم وحلقتم، حلّ لكم كل شيء إلا النساء=
__________
(1) في المطبوعة: "الرواية المروية" ورددتها إلى عبارة الطبري
التي يكثر استعمالها، انظر ما سلف 4: 33ن س: 19 وفي مواضع
كثيرة لم استطع أن أجدها الآن.
(4/225)
قال: وذكر الزهري، عن عمرة، عن عائشة، عن
النبي صلى الله عليه وسلم، مثله. (1)
وأما الذي تأوّل ذلك أنه بمعنى:" لا إثم عليه إلى عام قابل"،
فلا وجه لتحديد ذلك بوقت، وإسقاطه الإثمَ عن الحاجّ سنة
مستقبَلة، دون آثامه السالفة. لأن الله جل ثناؤه لم يحصُر ذلك
على نفي إثم وقت مستقبَل بظاهر التنزيل، ولا على لسان الرسول
عليه الصلاة والسلام، بل دلالةُ ظاهر التنزيل تُبين عن أن
المتعجّل في اليومين والمتأخر لا إثم على كل واحد منهما في
حاله التي هو بها دون غيرها من الأحوال.
والخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم يصرِّح بأنه بانقضاء حجه
على ما أمر به، خارجٌ من ذنوبه كيوم ولدته أمه. ففي ذلك = من
دلالة ظاهر التنزيل، وصريح قول الرسول صلى الله عليه وسلم=
دلالة واضحة على فساد قول من قال: معنى قوله:" فلا إثم عليه"،
فلا إثم عليه من وقت انقضاء حجه إلى عام قابل.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: ما الجالب"اللام" في قوله:"
لمن أتقى"؟ وما معناها؟
قيل: الجالبُ لها معنى قوله:" فلا إثم عليه". لأن في قوله:"
فلا إثم عليه" معنى: حططنا ذنوبه وكفَّرنا آثامه، فكان في ذلك
معنى: جعلنا تكفيرَ الذنوب لمن اتقى الله في حجه، فترك ذكر"
جعلنا تكفير الذنوب"، اكتفاء بدلالة قوله:" فلا إثم عليه".
وقد زعم بعض نحوييّ البصرة أنه كأنه إذا ذكر هذه الرخصة فقد
أخبر عن أمر، فقال:" لمن اتقى" أي: هذا لمن اتقى. وأنكرَ
بعضُهم ذلك من قوله، وزعم أن الصفة لا بد لها من شيء تتعلق به،
(2) لأنها لا تقوم بنفسها، ولكنها فيما زعم من صلة" قول"
متروك، فكان معنى الكلام عنده" قلنا": (3) " ومن تأخر فلا
__________
(1) الحديث: 3960 - هناد بن السري الدارمي: مضت ترجمته: 2058.
وقد نسب هنا حنظليا كما نسبه البخاري في الكبير. وكلاهما صحيح
فهو من بني"دارم بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم". انظر
جمهرة ابن حزم ص: 211، 217.
حجاج: هو ابن أرطأة وهو ثقة على الراجح عندنا كما ذكرنا في:
2299.
وقد روى الحجاج هذا الحديث بإسنادين: فرواه عن أبي بكر بن محمد
بن عمرو بن حزم عن عمرة، وهي بنت عبد الرحمن -وهي خالة أبي بكر
بن حزم- عن عائشة وذكر لفظ الحديث. ثم رواه عن الزهري عن عمرة
عن عائشة"مثله". فلم يذكر لفظه. وهذا من تحري الحجاج بن أرطأة
ودققه كما سيبين مما يجيء.
فالحديث -من رواية أبي بكر بن حزم- رواه أحمد في المسند 6: 143
(حلبي) عن يزيد ابن هارون عن الحجاج بهذا الإسناد نحوه. ولكن
ليس فيه كلمة"وذبحتم". وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 5:
136 من طريق مالك بن يحيى عن يزيد بن هارون، ثم قال: "ورواه
محمد بن أبي بكر، عن يزيد بن هارون فزاد فيه: وذبحتم فقد حل
لكم كل شيء، الطيب والثياب إلا النساء". ثم ذكر البيهقي إسناده
به إلى محمد بن أبي بكر. ثم أعله البيهقي وسنذكر ما قال
والجواب عنه، إن شاء الله.
وقد سها السيوطي، حين ذكر هذا الحديث في زوائد الجامع الصغير
(1: 117 من الفتح الكبير) فنسبه لصحيح مسلم -مع البيهقي) وهذا
خطأ يقينا، فإنه ليس في صحيح مسلم.
وأما من رواية الحجاج عن الزهري: فرواه أبو داود في السنن:
1978 عن مسدد عن عبد الواحد بن زياد عن الحجاج عن الزهري عن
عمرة عن عائشة مرفوعا بلفظ: "إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل
له كل شيء إلا النساء". ثم أعله أبو داود فقال: "هذا حديث
ضعيف. والحجاج لم ير الزهري ولم يسمع منه". وهذا تعليل جيد من
أبي داود فقد روى ابن أبي حاتم في كتاب المراسيل ص: 18 بإسناده
عن هشيم قال: "قال لي الحجاج بن أرطأة: سمعت من الزهري؟ قلت:
نعم قال: لكني لم أسمع منه شيئًا".
وأما البيهقي فإنه أعلى رواية الحجاج عن أبي بكر بن حزم تعليلا
لا أراه مستقيما. قال عقب روايته: "وهذا من تخليطات الحجاج بن
أرطأة وإنما الحديث عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه
وسلم كما رواه سائر الناس عن عائشة". ثم ذكر حديثها قالت: "طيب
رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم، ولحله قبل أن
يفيض -بأطيب ما وجدت من الطيب". وهو حديث صحيح رواه مسلم.
وما نرى إعلال ذاك بهذا هذا حديث فعلي، من حكاية عائشة وذاك
حديث قولي من روايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل منهما
مؤيد لصحة الآخر، فأتى يستقيم التعليل؟
وقد ورد نحو هذا الحديث أيضًا من حديث ابن عباس مرفوعا: "إذا
رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء". رواه أحمد في
المسند: 2090، 3204، 3491. ولكنه بإسناد منقطع لأنه من رواية
الحسن العرني عن ابن عباس. وهو لم يسمع من ابن عباس كما قال
البخاري في الصغير ص 136. ولكنه يصلح على كل حال شاهدا لهذا
الحديث.
(2) الصفة: هي حرف الجر وهي حروف الصفات وانظر ما سلف 1: 299
تعليق: 1 ثم 3: 475 تعليق: 1.
(3) في المطبوعة: "فكان معنى الكلام عنده"ما قلنا" بزيادة"ما"
وهو خطأ بين بدل عليه سياق هذا التأويل.
(4/226)
إثم عليه لمن اتقى"، وقام قوله:" ومن تأخر
فلا إثم عليه"، مقامَ"القول".
وزعم بعضُ أهل العربية أنّ موضع طرْح الإثم في المتعجِّل،
فجُعل في المتأخر= وهو الذي أدَّى ولم يقصر= مثل ما جُعل على
المقصِّر، كما يقال في الكلام:"إن تصدقت سرًّا فحسنٌ، وإن
أظهرتَ فحسنٌ"، وهما مختلفان، لأن المتصدق علانية إذا لم يقصد
الرياء فحسن، وإن كان الإسرار أحسن.
وليس في وصف حالتي المتصدقين بالحُسن وصف إحداهما بالإثم. وقد
أخبر الله عز وجل عن النافرين بنفي الإثم عنهما، ومحال أن ينفي
عنهما إلا ما كان في تركه الإثم على ما تأوَّله قائلو هذه
المقالة. وفي إجماع الجميع على أنهما جميعًا لو تركا النفر
وأقاما بمنىً لم يكونا آثمين، ما يدل على فساد التأويل الذي
تأوله من حكينا عنه هذا القول.
وقال أيضًا: فيه وجهٌ آخر، وهو معنى نهي الفريقين عن أن
يُؤثِّم أحدُ الفريقين الآخر، كأنه أراد بقوله:" فلا إثم
عليه"، لا يقل المتعجل للمتأخر:" أنت آثم"، ولا المتأخر
للمتعجل:"أنت آثم"، بمعنى: فلا يؤثِّمنَّ أحدهما الآخر.
وهذا أيضًا تأويل لقول جميع أهل التأويل مخالفٌ، وكفى بذلك
شاهدًا على خطئه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واتقوا الله أيها المؤمنون
فيما فَرض عليكما من فرائضه، فخافوه في تضييعها والتفريط فيها،
وفيما نهاكم عنه في حجكم ومناسككما أن ترتكبوه أو تأتوه وفيما
كلفكم في إحرامكم لحجكم أن تقصِّروا في
(4/228)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ
اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ
(204)
أدائه والقيام به،"واعلموا أنكم إليه
تحشرون"، فمجازيكم هو بأعمالكم- المحسن منكم بإحسانه، والمسيء
بإساءته- وموفٍّ كل نفس منكم ما عملت وأنتم لا تظلمون.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ
قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى
مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}
قال أبو جعفر: وهذا نعت من الله تبارك وتعالى للمنافقين، بقوله
جل ثناؤه: ومن الناس من يعجبك يا محمد ظاهرُ قوله وعلانيته،
ويستشهد الله على ما في قليه، وهو ألدُّ الخصام، جَدِلٌ
بالباطل.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية.
فقال بعضهم. نزلت في الأخنس بن شرِيق، قدِم على رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فزعم أنه يريد الإسلام، وحلف أنه ما قدم إلا
لذلك، ثم خرج فأفسد أموالا من أموال المسلمين.
* ذكر من قال ذلك:
3961 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال:
حدثنا أسباط، عن السدي:" ومن الناس من يُعجبك قولُه في الحياة
الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألدُّ الخصام"، قال:
نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي- وهو حليفٌ لبني زُهره- وأقبل
إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فأظهر له الإسلام،
فأعجبَ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك منه، وقال: إنما جئت
أريد الإسلام، والله يعلم أنّي صادق! = وذلك قوله:" ويشهد الله
على ما في قلبه"= ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم
فمرَّ بزرع لقوم من المسلمين وُحُمر، فأحرق الزرع،
(4/229)
وعقر الحُمُرُ، فأنزل الله عز وجل:" وإذا
تولى سعَى في الأرض ليُفسد فيها ويُهلك الحرْثَ والنسل".
وأما"ألد الخصام" فأعوجُ الخصام، وفيه نزلت: (وَيْلٌ لِكُلِّ
هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة: 1] ونزلت فيه: (وَلا تُطِعْ كُلَّ
حَلافٍ مَهِينٍ) إلى (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) [القلم:
10-13] (1)
* * *
وقال آخرون: بل نزل ذلك في قوم من أهل النفاق تكلموا في السرية
التي أصيبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرَّجيع.
* ذكر من قال ذلك:
3962 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن أبى
إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال:
حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما أصيبت هذه
السرية أصحاب خُبَيْب بالرجيع بين مكة والمدينة، فقال رجال من
المنافقين: يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا هكذا! (2) لا
هم قعدوا في بيوتهم، ولا هم أدَّوْا رسالة صاحبهم! فأنزل الله
عز وجلّ في ذلك من قول المنافقين، وما أصاب أولئك النفر في
الشهادة والخير من الله:" ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة
الدنيا" = أي: ما يُظهر بلسانه من الإسلام =" ويشهد الله على
ما في قلبه" = أي من النفاق- (3) " وهو ألد الخصام" أي: ذو
جدال إذا كلمك وراجعك =" وإذا تولى"- أي: خرج من عندك=" سعىَ
في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحَرثَ والنسل والله لا يحب
الفساد"- أي:
__________
(1) الأثر رقم: 3961 - لم يذكر الطبري في تفسير"سورة الهمزة"
و"سورة القلم" هذا الخبر من أن الآيتين نزلتا في الأخنس بن
شريق. وهذا دليل آخر على صدق ما أخبروا به عنه أنه قد اختصر
هذا التفسير اختصارًا كبيرًا، كما جاء في أخباره.
وسيأتي بعض هذا الاثر برقم: 3978.
(2) في المطبوعة: "هؤلاء المقتولين". والصواب من سيرة ابن
هشام. وبعد هذا في ابن هشام: "لا هم قعدوا في أهليهم".
(3) مكان هذا التفسير في نص ابن هشام: "وهو مخالف لما يقول
بلسانه".
(4/230)
لا يحبّ عمله ولا يرضاه=" وإذا قيل له اتق
الله أخذته العزة بالإثم فحسْبُه جهنم ولبئس المهاد ومن الناس
من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله"= الذين شروا أنفسهم لله
بالجهاد في سبيل الله والقيام بحقه، حتى هلكوا على ذلك- يعني
هذه السرّية.
3963 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن
إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى
ابن عباس- أو: عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس- قال: لما أصيبت
السرية التي كان فيها عاصم ومرْثد بالرَّجيع، قال رجال من
المنافقين:- ثم ذكر نحو حديث أبي كريب. (1)
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك جميعَ المنافقين، وعنى بقوله:" ومن
الناس من يُعجبك قوله في الحياة
__________
(1) الأثر: 3962، 3963 - سيرة ابن هشام 3: 183- 184 وسيأتي
بعضه برقم 3973ن ثم رقم: 3980.
(4/231)
الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه"،
اختلافَ سريرته وعلانيته.
* ذكر من قال ذلك:
3964 - حدثني محمد بن أبي معشر، قال: أخبرني أبى أبو معشر
نجيح، قال: سمعت سعيدًا المقبري يذاكر محمد بن كعب، فقال سعيد:
إنّ في بعض الكتب أن لله عبادًا ألسنتهم أحلى من العسل،
وقلوبهم أمرُّ من الصَّبِر، لبسوا للناس مسوكَ الضأن من اللين،
(1) يجترُّون الدنيا بالدين، قال الله تبارك وتعالى: أعليّ
يجترءون، وبي يغترُّون!! وعزتي لأبعثنّ عليهم فتنة تترك
الحليمَ منهم حيران!! فقال محمد بن كعب: هذا في كتاب الله جل
ثناؤه. فقال سعيد: وأين هو من كتاب الله؟ قال: قول الله عز
وجل:" ومنَ الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله
على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد
فيها ويهلك الحرثَ والنسل والله لا يحبَ الفساد" فقال سعيد: قد
عرفتَ فيمن أنزلت هذه الآية! فقال محمد بن كعب: إن الآية تنزل
في الرجل، ثم تكون عامة بعدُ.
3965 - حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال:
أخبرني الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال،
عن القرظي، عن نَوْفٍ- وكان يقرأ الكتب- قال: إني لأجد صفة ناس
من هذه الأمة في كتاب الله المنزل:" قومٌ يجتالون الدنيا
بالدين، (2) ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرُّ من الصَّبر،
يلبسون للناس لباسَ مُسوك الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب، فعليّ
يجترءون! وبي يغترُّون! حلفت بنفسي لأبعثنّ عليهم فتنةً تترك
الحليم فيهم حيران". قال القرظي: تدبرتها في القرآن فإذا هم
المنافقون، فوجدتها:" ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة
الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام"، (وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ
خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) (3) [الحج: 11]
3966 - وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر عن قتادة قوله:" ومن الناس من يعجبك قوله في
الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه" قال: هو المنافق.
3967 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
__________
(1) الصبر (بفتح الصاد وكسر الباء) : عصارة شجر مر. والمسوك
جمع مسك (بفتح فسكون) : الجلد جلد الغنم وغيرها.
(2) في الأصل: "يحتالون" والصواب ما أثبت. اجتال الرجل الشيء:
إذا ذهب به وطرده وساقه. واجتال الجيش أموالهم: ذهب بها.
(3) الأثر: 3965 - خالد بن يزيد الجمحي أبو عبد الرحيم المصري
كان فقيها مفتيا. ثقة مات سنة 139. مترجم في التهذيب. و"نوف"
هو نوف بن فضالة الحميري البكالي، كان ثقة رواية للقصص وهو ابن
امرأة كعب الأحبار، مات ما بين التسعين إلى المئة. مترجم في
التهذيب.
(4/232)
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ومن الناس من
يُعجبك قوله"، قال: علانيته في الدنيا، ويُشهد الله في
الخصومة، إنما يريد الحق.
3968 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبى جعفر، عن أبيه، عن
الربيع قوله:" ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا
ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام"، قال: هذا عبد كان
حسن القول سيئ العمل، يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحسن
له القول،" وإذا تولَّى سَعَى في الأرض ليُفسد فيها".
3969 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن
ابن جريج، قال: قلت لعطاء:" ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة
الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه"، قال. يقول قولا في قلبه
غيره، والله يعلم ذلك.
* * *
وفي قوله:" ويُشهد الله على ما في قلبه"، وجهان من القراءة:
فقرأته عامة القرأة:" ويُشهد الله على ما في قلبه"، بمعنى أن
المنافق الذي يُعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم قولُه،
يستشهدُ الله على ما في قلبه، أن قوله موافقٌ اعتقادَه، وأنه
مؤمن بالله ورسوله وهو كاذب. كما:-
3970 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:"
ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا" إلى" والله لا يحب
الفساد"، كان رجلٌ يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول:
أي رسول الله أشهد أنك جئت بالحق والصدق من عند الله! قال: حتى
يُعجب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله. ثم يقول: أما والله يا
رسولَ الله، إنّ الله ليعلم ما في قلبي مثلُ ما نطق به لساني!
فذلك قوله:" ويُشهد الله على ما في قلبه". قال: هؤلاء
المنافقون، وقرأ قول الله تبارك وتعالى: (إِذَا جَاءَكَ
الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ)
حتى بلغ: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) [المنافقون: 1]
بما يشهدون أنك رسول الله.
* * *
(4/233)
وقال السدي:" ويُشهد الله على ما في قلبه"،
يقول: الله يعلم أني صادق، أني أريد الإسلام.
3971 - حدثني بذلك موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، عن
أسباط.
* * *
وقال مجاهد: ويُشهد الله في الخصومة، إنما يريد الحق.
3972 - حدثني بذلك محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال:
حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عنه.
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ)
بمعنى: والله يشهد على الذي في قلبه من النفاق، وأنه مضمرٌ في
قلبه غير الذي يُبديه بلسانه وعلى كذبه في قلبه. وهي قراءة ابن
مُحَيْصن، وعلى ذلك المعنى تأوله ابن عباس. وقد ذكرنا الرواية
عنه بذلك فيما مضى في حديث أبي كريب، عن يونس بن بكير عن محمد
بن إسحاق الذي ذكرناه آنفًا. (1)
* * *
والذي نختار في ذلك من قول القرأة قراءة من قرأ:" ويشهد الله
على ما في قلبه"، بمعنى يستشهد الله على ما في قلبه، لإجماع
الحجة من القرأةِ عليه.
* * *
__________
(1) انظر رقم: 3962.
(4/234)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ
أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) }
قال أبو جعفر:"الألد" من الرجال: الشديد الخصومة، يقال في"
فعلت" منه:" قد لَدَدْتَ يا هذا، ولم تكن ألدَّ، فأنت تلُدُّ
لَدَدًا ولَدَادةً". (1) فأما إذا غلب من خاصمه، فإنما يقال
فيه:" لدَدْت يا فلانُ فلانًا فأنت تَلُدُّه لَدًّا، ومنه قول
الشاعر:
ثُمَّ أُرَدِّي بِهِمُ من تُرْدِي ... تَلُدُّ أقْرَانَ
الخُصُومِ اللُّدِّ (2)
* * *
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويله: أنه ذو جدال.
* ذكر من قال ذلك:
3973 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن ابن
إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، قال: حدثني سعيد بن جبير
أو عكرمة، عن ابن عباس:" وهو ألد الخصام"، أي: ذو جدال، إذا
كلمك وراجعك. (3)
3974 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:" وهو ألد الخصام"، يقول: شديد القسوة في معصية الله
جَدِلٌ بالباطل،
__________
(1) قوله: "لدادة" مصدر لم أجده في كتب اللغة التي بين يدي.
(2) لم أعرف قائله. والبيت الثاني في اللسان (لدد) روايته"ألد
أقران". والبيتان جميعا في معاني القرآن للفراء 1: 123 بتقديم
البيت الثاني على الأول، وروايته: "اللُّدّ أقران الرجال
اللُّدِّ"
وكأنه تصحيف وخطأ وصوابه"ألد" كما في اللسان. وكان في
الطبري"ثم أردى وبهم. . " بزيادة واو، والصواب ما في معاني
القرآن.
(3) هو بعض الأثر السالف رقم: 3962.
(4/235)
وإذا شئتَ رأيته عالم اللسان جاهلَ العمل،
يتكلم بالحكمة، ويعمل بالخطيئة.
3975 - حدثنا الحسن بن يحيى. قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" وهو ألد الخصام"، قال: جَدِلٌ
بالباطل.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك أنه غير مستقيم الخصومة، ولكنه
معوَجُّها.
* ذكر من قال ذلك:
3976 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" وهو ألد الخصام"، قال: ظالم
لا يستقيم.
3977 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن
ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد،
قال:"الألدُّ الخصام"، الذي لا يستقيم على خصومة.
3978 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال:
حدثنا أسباط، عن السدي:"ألد الخصام"، أعوجُ الخصام. (1)
* * *
قال، أبو جعفر: وكلا هذين القولين متقاربُ المعنى، لأن
الاعوجاجَ في الخصومة من الجدال واللدد.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وهو كاذبٌ في قوله.
* ذكر من قال ذلك:
3979 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا وكيع، عن
بعض أصحابه، عن الحسن، قال:"الألد الخصام"، الكاذب القول.
* * *
وهذا القول يحتمل أن يكون معناه معنى القولين الأولين إن كان
أراد به
__________
(1) هو بعض الأثر السالف رقم: 3961.
(4/236)
وَإِذَا تَوَلَّى
سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ
وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
قائله أنه يخاصم بالباطل من القول والكذب
منه جدلا واعوجاجًا عن الحق.
* * *
وأما"الخصام" فهو مصدر من قول القائل:"خاصمت فلانًا خصامًا
ومخاصمة".
* * *
وهذا خبر من الله تبارك وتعالى عن المنافق الذي أخبر نبيه
محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه يُعجبه إذا تكلم قِيلُه ومنطقه،
ويستشهد الله على أنه محقّ في قيله ذلك، لشدة خصومته وجداله
بالباطل والزور من القول.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي
الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:" وإذا تولى"، وإذا أدبر
هذا المنافق من عندك يا محمد منصرفًا عنك. (1) كما:-
3980 - حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد
بن إسحاق، قال حدثني محمد بن أبي محمد قال: حدثني سعيد بن جبير
أو عكرمة، عن ابن عباس:" وإذا تولى"، قال: يعني: وإذا خرج من
عندك"سعى". (2)
* * *
وقال بعضهم: وإذا غضب.
* ذكر من قال ذلك:
3981 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج قال:
__________
(1) انظر معنى"التولي" فيما سلف 2: 162- 163، 298، 535/ ثم 3:
115، 131.
(2) الأثر: 3980 - هو بعض الأثر السالف رقم: 3962.
(4/237)
قال ابن جريج في قوله:" وإذا تولى"، قال:
إذا غضب.
* * *
فمعنى الآية: وإذا خرَج هذا المنافق من عندك يا محمد غضْبان،
عَمل في الأرض بما حرَّم الله عليه، وحاول فيها معصيةَ الله،
وقطعَ الطريق وإفسادَ السبيل على عباد الله، كما قد ذكرنا
آنفًا من فعل الأخنس بن شريق الثقفي، الذي ذكر السدي أن فيه
نزلت هذه الآية، من إحراقه زرع المسلمين وقتله حُمرهم. (1)
* * *
و"السعي" في كلام العرب العمل، يقال منه:"فلان يسعى على أهله"،
يعني به: يعمل فيما يعود عليهم نفعه، ومنه قول الأعشى:
وَسَعَى لِكِنْدَةَ سَعْيَ غَيْرِ مُوَاكِلٍ ... قَيْسٌ
فَضَرَّ عَدُوَّها وَبَنَى لَهَا (2)
يعني بذلك: عمل لهم في المكارم.
* * *
وكالذي قلنا في ذلك كان مجاهد يقول.
3982 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله" وإذا تولى سعى"،
قال: عمل.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى"الإفساد" الذي أضافه الله عز وجل
إلى هذا المنافق.
فقال بعضهم: تأويله ما قلنا فيه من قطعه الطريق وإخافته
السبيل، كما قد ذكرنا قبل من فعل الأخنس بن شريق.
* * *
__________
(1) انظر الأثر رقم: 3961 السالف.
(2) ديوانه: 25، وكان في المطبوعة"ونبالها" وهو خطأ وقيس هو
قيس بن معد يكرب الكندي، كان يكثر مدحه والثناء عليه.
(4/238)
وقال بعضهم: بل معنى ذلك قطع الرحم وسفك
دماء المسلمين.
* ذكر من قال ذلك:
3983 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن
ابن جريج في قوله:" سعَى في الأرض ليفسد فيها"، قطع الرحم،
وسفك الدماء، دماء المسلمين، فإذا قيل: لم تَفعل كذا وكذا؟ قال
أتقرب به إلى الله عز وجل.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنّ الله
تبارك وتعالى وَصَف هذا المنافقَ بأنه إذا تولى مدبرًا عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم عَمِل في أرض الله بالفساد. وقد يدخل
في"الإفساد" جميع المعاصي، (1) وذلك أن العمل بالمعاصي إفسادٌ
في الأرض، فلم يخصص الله وصفه ببعض معاني"الإفساد" دون بعض.
وجائزٌ أن يكون ذلك الإفساد منه كان بمعنى قطع الطريق، وجائز
أن يكون غير ذلك. وأيّ ذلك كان منه فقد كان إفسادًا في الأرض،
لأن ذلك منه لله عز وجل معصية. غير أن الأشبه بظاهر التنزيل أن
يكون كان يقطع الطريقَ ويُخيف السبيل. لأن الله تعالى ذكره
وصَفه في سياق الآية بأنه" سَعى في الأرض ليفسد فيها ويُهلك
الحرث والنسل"، وذلك بفعل مخيف السبيل، أشبهُ منه بفعل قَطَّاع
الرحم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ
وَالنَّسْلَ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في وجه"إهلاك" هذا المنافق،
الذي وصفه الله بما وصفَه به من صفة"إهلاك الحرث والنسل".
__________
(1) انظر معنى"الإفساد في الأرض" فيما سلف 1: 287- 290، 416 ثم
معنى"الفساد" فيما سيأتي: 243، 244.
(4/239)
فقال بعضهم: كان ذلك منه إحراقًا لزرع قوم
من المسلمين وعقرًا لحمُرهم.
3984 - حدثني بذلك موسى بن هارون، قال: حدثني عمرو بن حماد،
قال: حدثنا أسباط عن السدي. (1)
* * *
وقال آخرون بما:-
3985 - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثام، قال: حدثنا النضر
بن عربي، عن مجاهد:" وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسد فيها
ويُهلك الحرث والنسل" الآية. قال: إذا تولى سعى في الأرض
بالعدوان والظلم، فيحبس الله بذلك القطرَ، فيُهلك الحرثَ
والنسلَ والله لا يحب الفساد. قال: ثم قرأ مجاهد: (ظَهَرَ
الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي
النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ) [الروم: 41] قال: ثم قال: أما والله ما هو بحركم
هذا، ولكن كل قرية على ماءٍ جارٍ فهو"بحر". (2)
* * *
والذي قاله مجاهد، وإن كان مذهبًا من التأويل تحتمله الآية،
فإن الذي هو أشبهُ بظاهر التنزيل من التأويل ما ذكرنا عن
السدي، فلذلك اخترناه
* * *
وأما"الحرث" فإنه الزرع، والنسل: العقب والولد.
* * *
"وإهلاكه الزرع" إحراقه. وقد يجوز أن يكون كان كما قال مجاهد
باحتباس القطر من أجل معصيته ربَّه وَسعيه بالإفساد في الأرض.
وقد يحتمل أن يكون كان بقتله القُوَّام به والمتعاهدين له حتى
فسد فهلك. وكذلك جائز في معنى:" إهلاكه النسل": أن يكون كانَ
بقتله أمهاته أو آباءه التي منها يكون النسل، فيكون في
__________
(1) يعني الأثر السالف رقم: 3961.
(2) الأثر: 3985 - سيأتي هذا الأثر في تفسير الآية من سورة
الروم ج: 21: 32 (بولاق) .
(4/240)
قتله الآباء والأمهات انقطاع نسلهما.
وجائزٌ أن يكون كما قال مجاهد، غير أن ذلك وإن كان تحتمله
الآية، فالذي هو أولى بظاهرها ما قاله السدي غير أن السدي ذكر
أن الذي نزلت فيه هذه الآية إنما نزلت في قتله حُمُرَ القوم من
المسلمين وإحراقه زرعًا لهم. وذلك وإن كان جائزًا أن يكون
كذلك، فغير فاسد أن تكون الآية نزلت فيه، والمراد بها كلُّ من
سلك سبيله في قتل كل ما قَتل من الحيوان الذي لا يحلّ قتله
بحال، والذي يحلّ قتله في بعض الأحوال - إذا قتله بغير حق، بل
ذلك كذلك عندي، لأن الله تبارك وتعالى لم يخصُص من ذلك شيئًا
دون شيء بل عمَّه.
وبالذي قلنا في عموم ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
3986 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا
حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي أنه سأل ابن عباس:"
ويهلك الحرث والنسل"، قال: نسلَ كل دابة.
3987 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: حدثنا
إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، أنه سأل ابن عباس: قال:
قلت أرأيت قوله:" الحرث والنسل"؟ قال: الحرث حرثكم، والنسل:
نسل كل دابة.
3988 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي
إسحاق، عن التميمي، قال: سألت ابن عباس عن"الحرث والنسل"،
فقال: الحرثُ: مما تحرثون، والنسلُ: نسل كلّ دابة.
3989 - حدثنا ابن حميد، قال. حدثنا حكام، عن عمرو، عن مطرِّف،
عن أبي إسحاق، عن رجل من تميم، عن ابن عباس، مثله. (1)
__________
(1) الآثار: 3986- 3989. "التميمي"، قد مضى ما كتبه أخي السيد
أحمد في التعليق على الأثر رقم: 2095. ولكن ظهر من الأثر رقم.
3989، أنه رجل من بني تميم - مجهول الاسم فيما يظهر، كان يسأل
ابن عباس كما كان يسأله أصحاب المسائل من الأمة وذلك بين في
مسند أبي داود الطيالسي رقم: 2739 ص 358.
(4/241)
3990 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي،
قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" ويهلك
الحرثَ والنسل"، فنسلَ كل دابة، والناس أيضًا.
3991 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: ثنى
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ويهلك الحرث"، قال: نبات
الأرض،" والنسل" من كل دابة تمشي من الحيوان من الناس والدواب.
3992 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" ويهلك الحرث"، قال: نبات
الأرض،" والنسل": نسل كل شيء.
3993 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري،
قال: حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، قال: الحرثُ النبات،
والنسل: نسل كل دابة.
3994 - حدثني عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع:" ويهلك الحرث"، قال:"الحرث" الذي يحرثه
الناس: نباتُ الأرض،" والنسل" نسل كل دابة.
3995 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن
ابن جريج، قال: قلت لعطاء:" ويهلكَ الحرثَ والنسل"، قال:
الحرث: الزرع، والنسل من الناس والأنعام، قال: يقتُل نسْل
الناس والأنعام= قال: وقال مجاهد: يبتغي في الأرض هلاك الحرث-
نباتَ الأرض- والنسل من كل شيء من الحيوان.
3996 - حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا
جويبر، عن الضحاك في قوله:" ويهلك الحرثَ والنسل"، قال: الحرث:
الأصل، والنسل: كل دابة والناس منهم. (1)
__________
(1) قوله: "الحرث: الأصل" معنى قلما تصيبه في كتب اللغة بينا،
ولكنه أتى فيها معترضا كقولهم: "الحرث أصل جردان الحمار" وهذا
تخصيص، وهذا الأثر دال على عموم معنى"الحرث" أنه: الأصل وهو
جيد في مجاز اللغة.
(4/242)
3997 - حدثني ابن عبد الرحيم البرقيّ، قال:
حدثنا عمرو بن أبي سلمة، قال، (1) سئل سعيد بن عبد العزيز
عن"فساد الحرث والنسل" وما هما: أيُّ حرث، وأيُّ نسل؟ قال
سعيد: قال مكحول: الحرث: ما تحرثون، وأما النسل: فنسْل كل شيء.
* * *
قال أبو جعفر: وقد قرأ بعض القرأة:"ويهلكُ الحرث والنسل" برفع
"يهلك"، = على معنى: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا
ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، ويهلك الحرثَ
والنسل، وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسد فيها، والله لا يجب
الفساد= فيردُّ"ويُهلكُ" على"ويشهدُ الله" عطفًا به عليه.
وذلك قراءةٌ عندي غير جائزة، وإن كان لها مخرج في العربية،
لمخالفتها لما عليه الحجة مجمعةٌ من القراءة في ذلك، قراءةَ"
ويهلكَ الحرثَ والنسل"، وأن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب ومصحفه -
فيما ذكر لنا: (2) "ليفسد فيها وليهلك الحرث والنسل"، وذلك من
أدل الدليل على تصحيح قراءة من قرأ ذلك" ويهلك" بالنصب، عطفًا
به على:" ليفسدَ فيها".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ
(205) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والله لا يحب المعاصيَ،
وقطعَ السبيل، وإخافة الطريق.
* * *
و"الفساد" مصدر من قول القائل:"فسد الشيء يفسُد"، نظير قولهم:
__________
(1) في المطبوعة"عمر بن أبي سلمة" والصواب ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "فيما ذكرنا" وهو لا يستقيم.
(4/243)
وَإِذَا قِيلَ لَهُ
اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ
جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
"ذهب يذهب ذهابًا". ومن العرب من يجعل
مصدر"فسد""فسودًا"، ومصدر"ذهب يذهب ذُهوبًا". (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ
اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ
وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإذا قيل = لهذا المنافق
الذي نعَتَ نعتَه لنبيه عليه الصلاة والسلام، وأخبره أنه
يُعجبه قوله في الحياة الدنيا=: اتق الله وخَفْهُ في إفسادك في
أرْض الله، وسعيكَ فيها بما حرَّم الله عليك من معاصيه،
وإهلاكك حروث المسلمين ونسلهم- استكبر ودخلته عِزة وحَمية بما
حرّم الله عليه، وتمادى في غيِّه وضلاله. قال الله جل ثناؤه:
فكفاه عقوبة من غيه وضلاله، صِلِيُّ نارِ جهنم، ولبئس المهاد
لصاليها.
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية.
فقال بعضهم: عنى بها كل فاسق ومنافق.
* ذكر من قال ذلك:
3998 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا جعفر بن
سليمان، قال: حدثنا بسطام بن مسلم، قال: حدثنا أبو رجاء
العطارديّ قال: سمعت عليًّا في هذه الآية:" ومن الناس من
يُعجبك قوله في الحياة الدنيا" إلى:" والله رؤوف بالعباد"، قال
علي:"اقتَتَلا وربِّ الكعبة".
__________
(1) انظر معنى"الإفساد في الأرض" 1: 287- 290، 416 وما سلف
قريبًا: 239. وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1: 124.
(4/244)
3999 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب،
قال: قال ابن زيد في قوله:" وإذا قيلَ له اتق الله أخذته العزة
بالإثم" إلى قوله:" والله رؤوف بالعباد"، قال: كان عمر بن
الخطاب رضي الله عنه إذا صلى السُّبْحة وفرغ، دخل مربدًا له،
(1) فأرسل إلى فتيان قد قرأوا القرآن، منهم ابن عباس وابن أخي
عيينة، (2) قال: فيأتون فيقرأون القرآن ويتدارسونه، فإذا كانت
القائلة انصرف. قال فمرُّوا بهذه الآية:" وإذا قيل له اتق الله
أخذته العزة بالإثم"،" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاءَ مرضَات
الله والله رؤوفٌ بالعباد"= قال ابن زيد: وهؤلاء المجاهدون في
سبيل الله= فقال ابن عباس لبعض من كان إلى جنبه: اقتتل
الرجلان؟ فسمع عمر ما قال، فقال: وأيّ شيء قلت؟ قال: لا شيء يا
أمير المؤمنين! قال: ماذا قلت؟ اقتَتل الرجلان؟ قال فلما رأى
ذلك ابن عباس قال: أرى ههنا مَنْ إذا أُمِر بتقوى الله أخذته
العزة بالإثم، وأرى من يَشري نفسه ابتغاءَ مرضاة الله، يقوم
هذا فيأمر هذا بتقوى الله، فإذا لم يقبل وأخذته العزة بالإثم،
قال هذا: وأنا أشتري نفسي! فقاتله، فاقتتل الرجلان! فقال عمر:
لله بلادك يا بن عباس. (3)
* * *
وقال آخرون: بل عنى به الأخنس بن شريق، وقد ذكرنا من قال ذلك
فيما مضى. (4)
* * *
__________
(1) السبحة: صلاة التطوع والنافلة وذكر الله، تقول: "قضيت
سبحتي" والمريد: قضاء وراء البيوت برتفق بهن كالحجرة في الدار
وهو أيضًا موضع التمر يجفف فيه لينشف يسميه أهل المدينة مريدا
وهو المراد هنا.
(2) ابن أخي عيينة، هو الحر بن قيس بن حصين الفزاري ويقال:
الحارث بن قيس والأول أصح. وروى البخاري من طريق الزهري عن
عبيد اله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: قدم عيينة بن حصن فنزل
على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر -
الحديث. ترجم في الإصابة وغيرها.
(3) في المطبوعة: "لله تلادك" بالتاء في أوله ولا معنى له،
والصواب ما أثبت. وفي الدر المنثور 1: 241 -"لله درك". والعرب
تقول: "لله در فلان، ولله بلاده".
(4) انظر الأثر رقم: 3961.
(4/245)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ
رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
وأما قوله:" ولبئس المهاد"، فإنه يعني:
ولبئس الفراشُ والوِطاء جهنمُ التي أوعدَ بها جل ثناؤه هذا
المنافق، ووطَّأها لنفسه بنفاقه وفجوره وتمرُّده على ربه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي
نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: ومن الناس من يبيع نفسه بما وعد
الله المجاهدين في سبيله وابتاع به أنفسهم بقوله: (إِنَّ
اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة: 111] .
* * *
وقد دللنا على أن معنى"شرى" باع، في غير هذا الموضع بما أغنى
عن إعادته. (1)
* * *
وأما قوله:" ابتغاءَ مرضات الله" فإنه يعني أن هذا الشاري يشرى
إذا اشترى طلبَ مرضاة الله.
ونصب"ابتغاء" بقوله:"يشري"، فكأنه قال. ومن الناس من يَشري
[نفسه] من أجل ابتغاء مرضاة الله، ثم تُرك" من أجل" وعَمل فيه
الفعل.
وقد زعم بعض أهل العربية أنه نصب ذلك على الفعل، (2)
على"يشرى"، كأنه قال: لابتغاء مرضاة الله، فلما نزع"اللام" عمل
الفعل، قال: ومثله: (حَذَرَ الْمَوْتِ) [البقرة: 19] (3) وقال
الشاعر وهو حاتم:
__________
(1) انظر ما سلف 2: 341- 343ن 455 وفهارس الغة.
(2) قوله: "على الفعل" أي أنه مفعول لأجله وقد مضى مثله"على
التفسير للفعل" 1: 354 تعليق: 4.
(3) انظر القول في إعراب هذه الكلمة فيما سلف 1: 354- 355.
(4/246)
وَأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ
إدِّخَارَهُ ... وَأُعْرِضُ عَنْ قَوْلِ الَّلئِيمِ تَكَرُّمَا
(1)
وقال: لما أذهب"اللام" أعمل فيه الفعل.
وقال بعضهم: أيُّما مصدر وُضع موضعَ الشرط، (2) وموضع"أن"
فتحسن فيها"الباء" و"اللام"، فتقول:"أتيتك من خوف الشرّ -ولخوف
الشر- وبأن خفتُ الشرَّ"، فالصفة غير معلومة، فحذفت وأقيم
المصدرُ مقامها. (3) قال: ولو كانت الصفة حرفًا واحدًا بعينه،
لم يجز حذفها، كما غير جائز لمن قال:"فعلت هذا لك ولفلان" أن
يسقط"اللام".
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية فيه ومن عنى بها.
فقال بعضهم: نزلت في المهاجرين والأنصار، وعنى بها المجاهدون
في سبيل الله.
* ذكر من قال ذلك:
4000 - حدثنا الحسين بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" ومن الناس من يشري نفسه
ابتغاء مرضات الله"، قال: المهاجرون والأنصار.
* * *
وقال بعضهم: نزلت في رجال من المهاجرين بأعيانهم.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) ديوانه: 24، من أبيات جياد كريمة وسيبويه 1: 184، 464
ونوادر أبي زيد: 110ن الخزانة 1: 491 والعيني 3: 75 وغيرها.
وفي البيت اختلاف كثير في الرواية، والشاهد فيه نصب"ادخاره"
على أنه مفعول له.
(2) قوله: "الشرط" كأنه فيما أظن أراد به معنى العلة والعذر
يعني أنه علة وسببًا أو عذرًا لوقوع الفعل.
(3) "الصفة" هي حرف الجر. وانظر ما سلف آنفًا 1: 299 وفهرس
المصطلحات في الأجزاء السالفة.
(4/247)
4001 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين،
قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة:" ومن الناس مَنْ يشري
نفسه ابتغاء مرضات الله"، قال: نزلت في صُهيب بن سنان، وأبي
ذرّ الغفاري جُندب بن السَّكن أخذ أهل أبي ذرّ أبا ذرّ، فانفلت
منهم، فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجع مهاجرًا
عرَضوا له، وكانوا بمرِّ الظهران، فانفلت أيضًا حتى قدم على
النبي عليه الصلاة والسلام. وأما صُهيب فأخذه أهله، فافتدى
منهم بماله، ثم خرج مهاجرًا فأدركه قُنقذ بن عُمير بن جُدعان،
فخرج له مما بقي من ماله، وخلَّى سبيله. (1)
4002 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبى جعفر، عن أبيه، عن
الربيع قوله:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"
الآية، قال: كان رجل من أهل مكة أسلم، فأراد أن يأتي النبي صلى
الله عليه وسلم ويهاجر إلى المدينة، فمنعوه وحبسوه، فقال لهم:
أعطيكم داري ومالي وما كان لي من شيء! فخلُّوا عني، فألحق بهذا
الرجل! فأبوْا. ثم إنّ بعضهم قال لهم: خذوا منه ما كان له من
شيء وخلُّوا عنه! ففعلوا، فأعطاهم داره وماله، ثم خرج; فأنزل
الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة:" ومن
الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"، الآية. فلما دنا من
المدينة تلقاه عُمر في رجال، فقال له عمر: رَبح البيعُ! قال:
وبيعك فلا يخسر! قال: وما ذاك؟ قال: أنزل فيك كذا وكذا. (2)
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك كل شار نفسه في طاعة الله وجهادٍ في
سبيله، أو أمرٍ بمعروف.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الأثر: 4001 - في الدر المنثور 1: 240، في المطبوعة: "منقذ
بن عمير" وهو خطأ وقد ذكر قنفد بن عمير، أبو طالب في قصيدته
المشهورة وذكر ابن هشام نسبه في سيرته (انظر 1: 295، 301) .
وقد أسلم قنفد بن عمير، وله صحبة، وولاه عمر مكة، ثم عزله.
(2) الأثر: 4002 - في تفسير البغوي 1: 481- 482، مع اختلاف في
اللفظ.
(4/248)
4003 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا
حسين بن الحسن أبو عبد الله، قال: حدثنا أبو عون، عن محمد،
قال: حمل هشام بن عامر على الصف حتى خرقه، فقالوا: ألقى بيده!!
فقال أبو هريرة:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله".
(1)
4004 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، قال:
حدثنا إسرائيل، عن طارق بن عبد الرحمن، عن قيس بن أبي حازم، عن
المغيرة، قال: بعث عمر جيشًا فحاصروا أهل حصن، وتقدم رجل من
بجيلة، فقاتل، فقُتِل، فأكثر الناس فيه يقولون: ألقى بيده إلى
التهلكة! قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال:
كذبوا، أليس الله عز وجل يقول:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء
مرضات الله والله رءوف بالعباد"؟
4005 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا هشام،
عن قتادة، قال: حَمل هشام بن عامر على الصّف حتى شقَّه، فقال
أبو هريرة:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله".
4006 - حدثنا سوار بن عبد الله العنبري، قال: حدثنا عبد الرحمن
بن مهدي، قال: حدثنا حزم بن أبي حزْم، قال: سمعت الحسن قرأ:"
ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف
بالعباد"، أتدرون فيم أنزلت؟ نزلت في أن المسلم لقي الكافرَ
فقال له:"قل لا إله إلا الله"، فإذا قلتها عصمتَ دمك
__________
(1) الأثر: 4003 - حسين بن الحسن أبو عبد الله النصري روى عن
ابن عون وغيره، وروى عنه أحمد والفلاس وبندار وغيرهم. كان من
المعدودين من الثقات وكان يحفظ عن ابن عون. توفي سنة 188ن
مترجم في التهذيب. و"أبو عون" كنية"ابن عون" - عبد الله بن عون
المزني مولاهم. "ومحمد" هو محمد بن سيرين وهشام بن عامر بن
أمية الأنصاري كان اسمه في الجاهلية"شهابًا" فغيره رسول الله
صلى الله عليه وسلم. وكان ذلك منه في غزاة كابل انظر الإصابة
وغيرها. وقوله: "ألقى بيده" أي: ألقى بيده إلى التهلكة، كما هو
مبين في الروايات الأخرى، وانظر ما سيأتي رقم: 4005، مختصرًا.
(4/249)
ومالك إلا بحقهما! فأبى أن يقولها، فقال
المسلم: والله لأشرِيَنَّ نفسي لله! فتقدم فقاتل حتى قتل. (1)
4007 - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا زياد
بن أبي مسلم، عن أبي الخليل، قال: سمع عُمر إنسانًا قرأ هذه
الآية:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"، قال:
استرجع عُمر فَقال: إنا لله وإنا إليه رَاجعون! قام رجلٌ يأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر فقُتل. (2)
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بظاهر هذه الآية من التأويل، ما
روي عن عمر بن الخطاب وعن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله
عنهم، من أن يكون عُنى بها الأمرُ بالمعروف والناهي عن المنكر.
وذلك أن الله جل ثناؤه وصَف صفة فريقين: أحدهما منافقٌ يقول
بلسانه خلافَ ما في نفسه، وإذا اقتدر على معصية الله ركبها،
وإذا لم يقتدر رَامَها، وإذا نُهى أخذته العزّة بالإثمٌ بما هو
به إثم، والآخر منهما بائعٌ نفسه، طالب من الله رضا الله. فكان
الظاهر من التأويل أن الفريقَ الموصوف بأنه شرى نفسه لله وطلب
رضاه، إنما شراها للوثُوب بالفريق الفاجر طلبَ رضا الله. فهذا
هو الأغلب الأظهر من تأويل الآية.
وأما ما رُوي من نزول الآية في أمر صُهيب، فإنّ ذلك غير
مستنكرٍ، إذ كان غيرَ مدفوع جوازُ نزول آية من عند الله على
رسوله صلى الله عليه وسلم بسبب من الأسباب، والمعنيُّ بها كلُّ
من شمله ظاهرها.
__________
(1) الأثر: 4006 -"حزم بن أبي حزم" القطعي أبو عبد الله البصري
روى عن الحسن وغيره، قال أبو حاتم: صدوق لا بأس به، وهو من
ثقات من بقى من أصحاب الحسن، مات سنة 75. مترجم في التهذيب.
وكان في المطبوعة: "حزام بن أبي حزم" وهو خطأ.
(2) الأثر: 4007 -"زياد بن أبي مسلم" أبو عمر الفراء البصري،
روى عن صالح أبي الخليل وأبي العالية والحسن. مترجم في
التهذيب. "وأبو الخليل": صالح بن أبي مريم الضبعي مولاهم
تابعي، مترجم في التهذيب.
(4/250)
فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إنّ الله
عز وجل وصف شاريًا نفسَه ابتغاء مرضاته، فكل من باعَ نفسه في
طاعته حتى قُتل فيها، أو استقتل وإن لم يُقتل، (1) فمعنيٌّ
بقوله:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"- في جهاد
عدو المسلمين كان ذلك منه، أو في أمرٍ بمعروف أو نهي عن منكر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ
(207) }
قد دللنا فيما مضى على معنى"الرأفة"، بما أغنى عن إعادته في
هذا الموضع، وأنها رقة الرحمة (2)
* * *
فمعنى ذلك: والله ذو رحمة واسعة بعبده الذي يشري نفسه له في
جهاد من حادَّه في أمره من أهل الشرك والفُسوق وبغيره من عباده
المؤمنين في عاجلهم وآجل معادهم، فينجز لهم الثواب على ما
أبلوا في طاعته في الدنيا، ويسكنهم جناته على ما عملوا فيها من
مرضاته.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى السلم في هذا الموضع.
فقال بعضهم: معناه: الإسلام.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "واستقتل" بواو العطف، وهو فاسد، والصواب ما
أثبت.
(2) انظر ما سلف 3: 171، 172.
(4/251)
4008 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو
عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز
وجل:" ادخلوا في السِّلم"، قال: ادخلوا في الإسلام.
4009 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:" ادخلوا في السلم"، قال: ادخلوا
في الإسلام.
4010 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي،
قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" ادخلوا في السلم
كافة"، قال: السلم: الإسلام.
4011 - حدثني موسى بن هارون، قال: أخبرنا عمرو، قال: حدثنا
أسباط، عن السدي:" ادخلوا في السلم"، يقول: في الإسلام.
4012 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن النضر بن عربي، عن
مجاهد: ادخلوا في الإسلام.
4013 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في
قوله:" ادخلوا في السلم". قال: السلم: الإسلام.
4014 - حدثت عن الحسين بن فرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن
خالد، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول:"
ادخلوا في السلم": في الإسلام.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ادخلوا في الطاعة.
* ذكر من قال ذلك:
4015 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع:" ادخلوا في السلم"، يقول: ادخلوا في الطاعة.
* * *
وقد اختلف القرأة في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل
الحجاز:"ادخلوا في السَّلم" بفتح السين، وقرأته عامة قرأة
الكوفيين بكسر السين.
(4/252)
فأما الذين فتحوا"السين" من"السلم"، فإنهم
وجهوا تأويلها إلى المسالمة، بمعنى: ادخلوا في الصلح والمساومة
وترك الحرب وإعطاء الجزية.
وأما الذين قرءوا ذلك بالكسر من"السين" فإنهم مختلفون في
تأويله.
فمنهم من يوجهه إلى الإسلام، بمعنى ادخلوا في الإسلام كافة،
ومنهم من يوجّهه إلى الصلح، بمعنى: ادخلوا في الصلح، ويستشهد
على أن"السين" تكسر، وهي بمعنى الصلح بقول زهير ابن أبي سلمى:
وَقَدْ قُلْتُمَا إنْ نُدْرِكِ السِّلْمَ وَاسِعًا ... بِمَالٍ
وَمَعْرُوفٍ مِنَ الأمْرِ نَسْلَمِ (1)
وأولى التأويلات بقوله:" ادخلوا في السلم"، قول من قال: معناه:
ادخلوا في الإسلام كافة.
وأمّا الذي هو أولى القراءتين بالصواب في قراءة ذلك، فقراءة من
قرأ بكسر "السين" لأن ذلك إذا قرئ كذلك - وإن كان قد يحتمل
معنى الصلح - فإن معنى الإسلام: ودوام الأمر الصالح عند العرب،
أغلبُ عليه من الصلح والمسالمة، وينشد بيت أخي كندة:
دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ لَمّا ... رَأَيْتُهُمُ
تَوَلَّوْا مُدْبِرينَا (2)
__________
(1) ديوانه: 16 من معلقته النبيلة. والضمير في"قلتما" للساعيان
في الصلح وهما الحارث ابن عوف وهرم بن سنان، وذلك في حرب عبس
وذبيان. وقوله: "واسعًا" أي: قد استقر الأمرواطمأنت النفوس
فاتسع للناس فيه ما لا يتسع لهم في زمن الحرب. وكان الحارث
وهرم قد حملا الحمالة في أموالهما، ليصطلح الناس.
(2) من أبيات لامرئ القيس بن عابس الكندي وتروى لغيره. المؤتلف
والمختلف: 9 والوحشيات: 75 وغيرهما وكان امرؤ القيس قد وفد على
رسول الله صلى اله عليه وسلم ولم يرتد في أيام أبي بكر، وأقام
على الإسلام وكان له في الردة غناء وبلاء، وقد قال الأبيات في
زمن الردة وقبل البيت: أَلاَ أَبْلِغْ أبَا بَكْرٍ رَسُولاً
... وَأَبْلِغْهَا جَمِيعَ المُسْلِمِينَا
فَلَسْتُ مُجَاوِرًا أَبَدًا قَبِيلاً ... بِمَا قَالَ
الرَّسُولُ مُكَذِّبِينَا
دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ حَتَّى رَأَيْتُهُمُ أَغَارُوا
مُفْسِدينَا
(4/253)
بكسر السين، بمعنى: دعوتهم للإسلام لما
ارتدُّوا، وكان ذلك حين ارتدت كندة مع الأشعث (1) بعد وَفاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كان أبو عمرو بن العلاء يقرأ سائرَ ما في القرآن من
ذكر"السلم" بالفتح سوى هذه التي في سورة البقرة، فإنه كان
يخصُّها بكسر سينها توجيهًا منه لمعناها إلى الإسلام دون ما
سواها.
وإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل في قوله:" ادخلوا في السلم"
وصرفنا معناه إلى الإسلام، لأن الآية مخاطب بها المؤمنون، فلن
يعدوَ الخطاب إذ كان خطابًا للمؤمنين من أحد أمرين:
إما أن يكون خطابًا للمؤمنين بمحمد المصدقين به وبما جاء به،
فإن يكن ذلك كذلك، فلا معنى أن يقال لهم وهم أهل
الإيمان:"ادخلوا في صلح المؤمنين ومسالمتهم"، لأن المسالمة
والمصالحة إنما يؤمر بها من كان حربًا بترك الحرب، فأما
الموالي فلا يجوز أن يقال له:"صالح فلانا"، ولا حرب بينهما ولا
عداوة.
= أو يكون خطابًا لأهل الإيمان بمن قبل محمد صلى الله عليه
وسلم من الأنبياء المصدِّقين بهم، وبما جاءوا به من عند الله
المنكرين محمدًا ونبوته، فقيل لهم:" ادخلوا في السلم"، يعني به
الإسلام، لا الصُّلح. لأن الله عز وجل إنما أمر عباده بالإيمان
به وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإلى الذي
دعاهم دون المسالمة والمصالحة. بل نهي نبيه صلى الله عليه وسلم
في بعض الأحوال عن دعاء أهل الكفر إلى الصلح (2) فقال: (فَلا
تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ
وَاللَّهُ
__________
(1) هو الأشعث بن قيس الكندين وكان وفد على رسول الله صلى الله
عليه وسلم في السنة العاشرة في سبعين راكبا من كندة ثم ارتد
فيمن ارتد من العرب. وقاتل في الردة حتى هزم ثم استسلم وأسر
وقدموا به على أبي بكر فقال له أبو بكر: ماذا تراني أصنع بك؟
فإنك قد فعلت ما علمت قال الأشعث: تمن علي فتفكني من الحديد
وتزوجني أختك فإني قد راجعت وأسلمت. فقال أبو بكر: قد فعلت!
فزوجه ام فروة بنت أبي قحافة، فكان بالمدينة حتى فتح العراق.
ثم شهد الفتوح حتى مات سنة 40، وله ثلاث وستون سنة.
(2) في المطبوعة: ". . عن دعاء أهل الكفر إلى الإسلام" وهو خطأ
لا شك فيه، سبق قلم الكاتب فوضع"الإسلام" مكان"الصلح" ومحال أن
ينهى الله نبيه عن دعاء أحد إلى الإسلام والسياق دال على
الصواب كما ترى.
(4/254)
مَعَكُمْ) [محمد: 35] وإنما أباحَ له صلى
الله عليه وسلم في بعض الأحوال إذا دعَوه إلى الصلح ابتداءَ
المصالحة، فقال له جل ثناؤه: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ
فَاجْنَحْ لَهَا) [الأنفال: 61] فأما دعاؤهم إلى الصُّلح
ابتداءً، فغير موجود في القرآن، فيجوزُ توجيه قوله:" ادخلوا في
السلم" إلى ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فأيّ هذين الفريقين دعى إلى
الإسلام كافة؟
قيل قد اختلف في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: دعى إليه المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما
جاء به.
* * *
وقال آخرون: قيل: دُعي إليه المؤمنون بمن قبل محمد صلى الله
عليه وسلم من الأنبياء المكذبون بمحمد.
* * *
فإن قال: فما وجه دعاء المؤمن بمحمد وبما جاء به إلى الإسلام؟
قيل: وجه دُعائه إلى ذلك الأمرُ له بالعمل بجميع شرائعه،
وإقامة جميع أحكامه وحدوده، دون تضييع بعضه والعمل ببعضه. وإذا
كان ذلك معناه، كان قوله" كافة" من صفة"السلم"، ويكون تأويله:
ادخلوا في العمل بجميع معاني السلم، ولا تضيعوا شيئًا منه يا
أهل الإيمان بمحمد وما جاء به.
وبنحو هذا المعنى كان يقول عكرمة في تأويل ذلك.
4016 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن عكرمة قوله:" ادخلوا في السلم كافة"، قال: نزلت
في ثعلبة، وعبد الله بن سلام وابن يامين وأسد وأسَيْد ابني كعب
وسَعْيَة بن عمرو (1)
__________
(1) في المطبوعة: "شعبة" وفي الدر المنثور: "سعيد" والذي في
أسماء يهود: "سعية" و"سعنة" وأكثر هذه الأسماء من أسماء يهود
مما يصعب تحقيقها ويطول، لكثرة الاختلاف فيها.
(4/255)
وقيس بن زيد- كلهم من يهود- قالوا: يا رسول
الله، يوم السبت يومٌ كنا نعظمه، فدعنا فلنُسبِت فيه! وإن
التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها بالليل! فنزلت:" يا أيها
الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان"
(1)
* * *
فقد صرح عكرمة بمعنى ما قلنا في ذلك من أن تأويل ذلك دعاء
للمؤمنين إلى رَفض جميع المعاني التي ليست من حكم الإسلام،
والعمل بجميع شرائع الإسلام، والنهي عن تضييع شيء من حدوده.
* * *
وقال آخرون: بل الفريق الذي دُعي إلى السلم فقيل لهم:"ادخلوا
فيه" بهذه الآية هم أهل الكتاب، أمروا بالدخول في الإسلام.
* ذكر من قال ذلك:
4017 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن
ابن جريج، قال. قال ابن عباس في قوله:" ادخلوا في السلم كافة"،
يعني أهل الكتاب.
4018 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن
خالد يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في
قول الله عز وجل:" ادخلوا في السلم كافة"، قال: يعني أهل
الكتاب.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله
جل ثناؤه أمر الذين آمنوا بالدخول في العمل بشرائع الإسلام
كلها، وقد يدخل في"الذين آمنوا" المصدِّقون بمحمد صلى الله
عليه وسلم، وبما حاء به، والمصدقون بمن قبله من الأنبياء
والرسل، وما جاءوا به، وقد دعا الله عز وجل كلا الفريقين إلى
العمل بشرائع الإسلام وحدوده، والمحافظة على فرائضه التي
فرضها، ونهاهم عن تضييع
__________
(1) الأثر: 4016 - في الدر المنثور 1: 241.
(4/256)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا
تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ
مُبِينٌ (208)
شيء من ذلك، فالآية عامة لكل من شمله
اسم"الإيمان"، فلا وجه لخصوص بعض بها دون بعض.
وبمثل التأويل الذي قلنا في ذلك كان مجاهد يقول.
4019 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" ادخلوا في السلم
كافة"، قال: ادخلوا في الإسلام كافة، ادخلوا في الأعمال كافة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {كَافَّةً}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله (1) " كافة" عامة، جميعًا،
كما:-
4020 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:" في السلم كافة" قال: جميعًا.
4021 - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
السدي:" في السلم كافة"، قال: جميعًا.
4022 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع" في السلم كافة"، قال: جميعًا= وعن أبيه، عن قتادة
مثله.
4023 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع بن الجراح، عن النضر،
عن مجاهد، ادخلوا في الإسلام جميعًا.
4024 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج،
قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس:" كافة"،: جميعًا.
__________
(1) في المطبوعة: "جل ثناؤه: كافة" بإسقاط"بقوله" وهذا سياق
الكلام.
(4/257)
4025 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب،
قال: قال ابن زيد:" كافة" جميعًا، وقرأ. (وَقَاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً)
[التوبة: 36] جميعًا.
4026 - حدثت عن الحسين، قال. سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد،
قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:"
ادخلوا في السلم كافة"، قال: جميعًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ
الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه. بذلك: اعملوا أيها المؤمنون
بشرائع الإسلام كلها، وادخلوا في التصديق به قولا وعملا ودعوا
طرائق الشيطان وآثاره أن تتبعوها فإنه لكم عدو مبين لكم
عداوته. (1) وطريقُ الشيطان الذي نهاهم أن يتبعوه هو ما خالف
حكم الإسلام وشرائعه، ومنه تسبيت السبت وسائر سنن أهل الملل
التي تخالف ملة الإسلام.
* * *
وقد بينت معنى"الخطوات" بالأدلة الشاهدة على صحته فيما مضى،
فكرهت إعادته في هذا المكان. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"عدو مبين" فيما سلف 3: 300.
(2) انظر ما سلف 3: 301، 302.
(4/258)
فَإِنْ زَلَلْتُمْ
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ
زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أخطأتم الحق، (1)
فضللتم عنه، وخالفتم الإسلام وشرائعه، من بعد ما جاءتكم حُجَجي
وبيِّنات هداي، واتضحت لكم صحة أمر الإسلام بالأدلة التي قطعت
عذركم أيها المؤمنون = فاعلموا أن الله ذو عزة، لا يمنعه من
الانتقام منكم مانع، ولا يدفعه عن عقوبتكم على مخالفتكما أمره
ومعصيتكم إياه دافع ="حكيم" فيما يفعل بكم من عقوبته على
معصيتكم إياه، بعد إقامته الحجة عليكم، وفي غيره من أموره.
* * *
وقد قال عدد من أهل التأويل إن"البينات" هي محمد صلى الله عليه
وسلم والقرآن. (2)
وذلك قريب من الذي قلنا في تأويل ذلك، لأن محمدًا صلى الله
عليه وسلم والقرآن، من حجج الله على الذين خوطبوا بهاتين
الآيتين. غير أن الذي قلناه في تأويل ذلك أولى بالحق، لأن الله
جل ثناؤه، قد احتج على من خالف الإسلام من أحبار أهل الكتاب
بما عهد إليهم في التوراة والإنجيل، وتقدَّم إليه على ألسن
أنبيائهم بالوَصاةِ به، فذلك وغيرُه من حجج الله تبارك وتعالى
عليهم مع ما لزمهم من الحجج بمحمد صلى الله عليه وسلم
وبالقرآن. فلذلك اخترنا ما اخترنا من التأويل في ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* * *
* ذكر أقوال القائلين في تأويل قوله:" فإن زللتم": (3)
4027 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا
أسباط، عن السدي في قوله:" فإن زللتم"، يقول: فإن ضللتم.
__________
(1) انظر معنى"زل" فيما سلف 1: 524- 525.
(2) انظر ما سلف في تفسير"البينات" 2: 318، 354/ ثم 3: 249-
151.
(3) انظر معنى"زل" فيما سلف 1: 524- 525.
(4/259)
هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ
وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ (210)
4028 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي،
قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"
فإن زللتم" قال: الزلل: الشرك.
* * *
ذكر أقوال القائلين في تأويل قوله:" من بعد ما جاءتكم
البينات": (1)
4029 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال:
حدثنا أسباط، عن السدي:" من بعد ما جاءتكم البينات"، يقول: من
بعد ما جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم.
4030 - وحدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن
ابن جريج:" فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات"، قال: الإسلام
والقرآن.
* * *
4031 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع:" فاعلموا أن الله عزيز حكيم"، يقول: عزيز في نقمته،
حكيم في أمره. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ
يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ
وَالْمَلائِكَةُ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: هل ينظرُ المكذِّبون بمحمد
صلى الله عليه وسلم وما جاء به، إلا أن يأتيهم الله في ظُلل من
الغمام والملائكة؟.
* * *
ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله:" والملائكة".
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير"البينات" 2: 318، 354/ ثم 3: 249-
251.
(2) انظر معنى"عزيز" و"حكيم" في فهرس اللغة.
(4/260)
فقرأ بعضهم:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله
في ظلل من الغمام والملائكة"، بالرفع، عطفًا بـ "الملائكة" على
اسم الله تبارك وتعالى، على معنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم
الله والملائكةُ في ظلل من الغمام.
* ذكر من قال ذلك:
4032 - حدثني أحمد بن يوسف عن أبي عبيد القاسم بن سلام، قال:
حدثنا عبد الله بن أبي جعفر الرازي، عن أبيه، عن الربيع بن
أنس، عن أبي العالية قال- في قراءة أبيّ بن كعب:"هل ينظرون إلا
أن يأتيهم الله والملائكةُ في ظلل من الغمام"، قال: تأتي
الملائكة في ظلل من الغمام، ويأتي الله عزّ وجل فيما شاء.
4033 - وقد حدثت هذا الحديث عن عمار بن الحسن، عن عبد الله بن
أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم
الله في ظلل من الغمام والملائكة" الآية، وقال أبو جعفر
الرازي: وهي في بعض القراءة:"هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله
والملائكة في ظلل من الغمام"، كقوله: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ
السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنَزَّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً)
[الفرقان: 25]
* * *
وقرأ ذلك آخرون:"هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من
الغمام والملائكةِ" بالخفض عطفًا بـ "الملائكة" على"الظلل"،
بمعنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وفي
الملائكة.
* * *
وكذلك اختلفت القرأة في قراءة"ظلل"، فقرأها بعضُهم:"في ظُلَل"،
وبعضهم:"في ظلال".
فمن قرأها" في ظُلل"، فإنه وجهها إلى أنها جمع"ظُلَّة"،
و"الظُلَّة"، تجمع"ظُلل وظِلال"، كما تجمع"الخُلَّة"،"خُلَل
وخِلال"، و"الجلَّة"، جُلَلٌ وجلال".
(4/261)
وأما الذي قرأها"في ظلال"، فإنه جعلها
جمع"ظُلَّة"، كما ذكرنا من جمعهم"الخلة""خلال".
وقد يحتمل أن يكون قارئه كذلك، وجَّهه إلى أنّ ذلك جمع"ظِلّ"،
لأن"الظلُّة" و"الظِّل" قد يجمعان جميعًا"ظِلالا".
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي:" هل ينظرون إلا
أن يأتيهم الله في ظُللٍ من الغمام"، لخبر روي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن من الغمام طاقات يأتي الله
فيها محفوفًا. (1) فدل بقوله"طاقات"، على أنها ظلل لا ظلال،
لأن واحد"الظلل""ظلة"، وهي الطاق= واتباعًا لخط المصحف. (2)
وكذلك الواجبُ في كل ما اتفقت معانيه واختلفتْ في قراءته
القرأة، ولم يكن على إحدى القراءتين دلالة تنفصل بها من الأخرى
غير اختلاف خطّ المصحف، فالذي ينبغي أن تؤثر قراءته منها ما
وافق رَسم المصحف.
* * *
وأما الذي هو أولى القراءتين في:" والملائكة"، فالصواب بالرفع،
عطفًا بها على اسم الله تبارك وتعالى، على معنى: هل ينظرون إلا
أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وإلا أن تأتيهم الملائكة،
على ما روي عن أبيّ بن كعب، لأن الله جل ثناؤه قد أخبر في غير
موضع من كتابه أن الملائكة تأتيهم، فقال جل ثناؤه: (وَجَاءَ
رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر: 22] ، وقال: (هَلْ
يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ
يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ)
[الأنعام: 158] فإن أشكلَ على امرئ قول الله جل ثناؤه:
(وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) فظن أنه مخالفٌ معناه معنى قوله:"
هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة"،
__________
(1) سيأتي في الأثر رقم: 4038.
(2) قوله: "واتباعا. . . " معطوف على موضع قوله: "لخبر روي عن
رسول الله. . . "
(4/262)
إذ كان قوله:"والملائكة" في هذه الآية بلفظ
جمع، وفي الأخرى بلفظ الواحد. فإن ذلك خطأ من الظنّ، وذلك
أن"الملك" في قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ) بمعنى
الجميع، ومعنى"الملائكة". والعرب تذكر الواحد بمعنى الجميع،
فتقول:"فلان كثير الدرهم والدينار"= يراد به: الدراهم
والدنانير= و"هلك البعير والشاةُ"، بمعنى جماعة الإبل والشاء،
فكذلك قوله:" والملك" بمعنى"الملائكة".
* * *
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في قوله:" ظُلل من
الغمام"، وهل هو من صلة فعل الله جل ثناؤه، أو من صلة
فعل"الملائكة"، ومن الذي يأتي فيها؟ فقال بعضهم: هو من صلة فعل
الله، ومعناه: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام،
وأن تأتيهم الملائكة.
* ذكر من قال ذلك:
4034 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" هل ينظرون إلا أن
يأتيهم الله في ظلل من الغمام"، قال: هو غير السحاب (1) لم يكن
إلا لبني إسرائيل في تيههم حين تاهوا، وهو الذي يأتي الله فيه
يوم القيامة.
4035 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتاده:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل
من الغمام"، قال: يأتيهم الله وتأتيهم الملائكة عند الموت.
4036 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن
ابن جريج، قال: قال عكرمة في قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم
الله في ظلل من الغمام"، قال: طاقات من الغمام، والملائكة
حوله= قال ابن جريج، وقال غيره: والملائكةُ بالموت
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الغمام" فيما سلف 2: 90، 91، وما سيأتي قريبا:
266.
(4/263)
وقول عكرمة هذا، وإن كان موافقًا قولَ من
قال: إن قوله: في ظُلل من الغمام" من صلة فعل الرب تبارك
وتعالى الذي قد تقدم ذكرناه، فإنه له مخالف في صفة الملائكة.
وذلك أن الواجب من القراءة = على تأويل قول عكرمة هذا
في"الملائكة" = الخفضُ، لأنه تأول الآية: هل ينظرون إلا أن
يأتيهم الله في ظلل من الغمام وفي الملائكة، لأنه زعم أن الله
تعالى يأتي في ظلل من الغمام والملائكةُ حوله.
هذا إن كان وجَّه قوله:"والملائكة حوله"، إلى أنهم حول الغمام،
وجعل"الهاء" في"حوله" من ذكر"الغمام". وإن كان وجَّه
قوله:"والملائكة حوله" إلى أنهم حول الرب تبارك وتعالى،
وجعل"الهاء" في"حوله" من ذكر الرب عز جل، فقوله نظيرُ قول
الآخرين الذين قد ذكرنا قولهم، غيرُ مخالفهم في ذلك.
* * *
وقال آخرون: بل قوله:" في ظلل من الغمام" من صلة
فعل"الملائكة"، وإنما تأتي الملائكة فيها، وأما الرب تعالى
ذكره فإنه يأتي فيما شاء.
* ذكر من قال ذلك:
4037 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع في قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في
ظلل من الغمام والملائكة" الآية، قال: ذلك يوم القيامة، تأتيهم
الملائكة في ظلل من الغمام. قال: الملائكة يجيئون في ظلل من
الغمام، والرب تعالى يجيء فيما شاء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من وجَّه
قوله:" في ظُلل من الغمام" إلى أنه من صلة فعل الرب عز وجل،
وأن معناه: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام،
وتأتيهم الملائكة، لما:-
4038 - حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا إبراهيم بن المختار،
عن ابن جريج، عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن
ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من الغمام
طاقات يأتي الله فيها محفوفًا، وذلك
(4/264)
قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في
ظلل من الغمام والملائكة وقُضي الأمر". (1)
* * *
وأما معنى قوله:" هل ينظرون"، فإنه ما ينظرون، وقد بيّنا ذلك
بعلله فيما مضى من كتابنا هذا قبل. (2)
* * *
ثم اختلف في صفة إتيان الرب تبارك وتعالى الذي ذكره في قوله:"
هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله".
فقال بعضهم: لا صفة لذلك غير الذي وصَف به نفسه عز وجل من
المجيء والإتيان والنزول، وغيرُ جائز تكلُّف القول في ذلك لأحد
إلا بخبر من الله جل جلاله، أو من رسول مرسل. فأما القول في
صفات الله وأسمائه، فغيرُ جائز لأحد من جهة الاستخراج إلا بما
ذكرنا.
* * *
وقال آخرون: إتيانه عز وجل، نظيرُ ما يعرف من مجيء الجائي من
موضع إلى موضع، وانتقاله من مكان إلى مكان.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله"، يعني
به: هل ينظرون إلا أن يأتيهم أمرُ الله، كما يقال:"قد خشينا أن
يأتينا بنو أمية"، يراد به: حُكمهم.
* * *
__________
(1) الحديث: 4038 -زمعة بن صالح الجندي- بفتح الجيم والنون-
اليماني: ضعيف ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما. وفصلنا ذلك في شرح
المسند: 2061.
سلمة بن وهرام -بفتح الواو وسكون الهاء- اليماني: ثقة، وإنما
تكلموا فيه من أجل أحاديث رواها عنه زمعة بن صالح، والحمل فيها
على زمعة.
وهذا الحديث ضعيف، كما ترى وذكره السيوطي 1: 241- 242 ونسبه
لابن جرير والديلمي فقط.
ونقل قبله نحو معناه، موقوفًا على ابن عباس ونسبه لعبد بن
حميد، وأبي يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم. ولعله موقوفًا
أشبه بالصواب.
وانظر الحديث بعده: 4039.
(2) كأنه يريد ما سلف 2: 485، من أن حروف الاستفهام تدخل بمعنى
الجحد. ولم أجد موضعًا مما يشير إليه غير هذا. وانظر اللسان
مادة (هلل) .
(4/265)
وقال آخرون: بل معنى ذلك: هل ينظرون إلا أن
يأتيهم ثوابه وحسابه وعذابه، كما قال عز وجل: (بَلْ مَكْرُ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) [سبأ: 33] وكما يقالَ:"قطع الوالي
اللص أو ضربه"، وإنما قطعه أعوانُه.
* * *
وقد بينا معنى"الغمام" فيما مضى من كتابنا هذا قبل فأغنى ذلك
عن تكريره، (1) لأن معناه ههنا هو معناه هنالك.
* * *
قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذًا: هل ينظر التاركون الدخول في
السلم كافة (2) والمتبعون خُطوات الشيطان، إلا أن يأتيهم الله
في ظلل من الغمام، فيقضي في أمرهم ما هو قاضٍ.
4939 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد
المحاربي، عن إسماعيل بن رافع المديني، عن يزيد بن أبي زياد،
عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: توقفون موقفًا واحدًا يوم
القيامة مقدار سَبعين عامًا، لا يُنظر إليكم ولا يُقضي بينكم،
قد حُصر عليكم، فتبكون حتى ينقطع الدمع، ثم تدمعون دمًا،
وتبكون حتى يبلغ ذلك منكم الأذقان، أو يلجمكم فتصيحون، ثم
تقولون: من يشَفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا؟ فيقولون من أحقُّ
بذلك من أبيكم آدم؟ جبل الله تُربته، وخلَقه بيده، ونفخ فيه من
روحه، وكلَّمه قِبَلا (3) فيؤتى آدم، فيطلبَ ذلك إليه، فيأبى،
ثم يستقرئون الأنبياء نبيًّا نبيًّا، كلما جاءوا نبيًا أبى،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حتى يأتوني، فإذا جاءوني
خرجت حتى آتي الفَحْص= قال أبو هريرة: يا رسول الله، وما
الفَحْص؟ قال: قُدّام العرش= فأخرّ ساجدًا، فلا أزال ساجدًا
__________
(1) انظر ما سلف 2: 90- 91، وما مضى قريبا: 263.
(2) في المطبوعة: "هل ينظرون التاركون. . " والصواب ما أثبت.
(3) "كلمة قبلا" (بكسر القاف وفتح الباء) أي عيانا ومقابلة، لا
من وراء حجاب ومن غير أن يولى أمره او كلامه أحدًا من
الملائكة.
(4/266)
حتى يبعث الله إليَّ ملَكًا، فيأخذ بعضديّ
فيرفعني، ثم يقول الله لي: يا محمد! فأقول: نعم! وهو أعلم.
فيقول: ما شأنك؟ فأقول: يا رب وعدتني الشفاعة، فشفِّعني في
خلقك، فاقض بينهم. فيقول: قد شفَّعتك، أنا آتيكم فأقضي بينكم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فأنصرف حتى أقف مع الناس،
فبينا نحن وقوفٌ سمعنا حِسًّا من السماء شديدًا، فهالنا، فنزل
أهل السماء الدنيا بمثلَيْ من في الأرض من الجن والإنس، حتى
إذا دنوا من الأرض أشرقَت الأرضُ بنورهم، وأخذوا مَصافَّهم،
فقلنا لهم: أفيكم ربُّنا؟ قالوا: لا! وهو آتٍ. ثم نزل أهل
السماء الثانية بمثْليْ من نزل من الملائكة، وبمثلي من فيها من
الجنّ والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم،
وأخذوا مصافهم، فقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: لا! وهو آتٍ. ثم
نزل أهل السماء الثالثة بمثلي من نزل من الملائكة، وبمثلي من
في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض
بنورهم، وأخذوا مَصافَّهم، فقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: لا!
وهو آتٍ، ثم نزل أهلُ السموات على عدد ذلك من التضعيف، حتى نزل
الجبار في ظُلل من الغمام والملائكة، ولهم زجَلٌ من تسبيحهم
يقولون:" سبحان ذي الملك والملكوت! سبحان ربّ العرش ذي
الجبروت! سبحان الحي الذي لا يموت! سبحان الذي يُميت الخلائق
ولا يموت! سبوح قدوس، رب الملائكة والروح! قدّوس قدّوس! سبحان
ربنا الأعلى! سبحان ذي السلطان والعظمة! سبحانه أبدًا أبدًا"!
فينزل تبارك وتعالى، يحملُ عرشه يومئذ ثمانية، وهم اليوم
أربعا، أقدامهم على تُخوم الأرض السفلى والسموات إلى حُجَزهم،
والعرشُ على مناكبهم. فوضع الله عز وجل عرشه حيث شاء من الأرض،
ثم ينادي مناد نداءً يُسمع الخلائق، فيقول: يا معشر الجن
والإنس إني قد أنصتُّ منذ يوم خلقتكم إلى يومكم هذا، أسمع
كلامكم، وأبصر أعمالكم، فأنصتوا إلىّ، فإنما هو صُحُفكم
وأعمالكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير
ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه! فيقضي الله عز وجل بين خلقه الجن
والإنس والبهائم، فإنه ليقتصُّ يومئذ للجمَّاءِ من ذات
القَرْن". (1)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الخبر يدلّ على خطأ قول قتادة في تأويله
قوله:" والملائكة" أنه يعني به الملائكة تأتيهم عند الموت.
لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنهم يأتونهم بعد قيام الساعة في
موقف الحساب، حين تشقَّقُ السماء، وبمثل ذلك روي الخبر
__________
(1) الحديث: 4039 - هذا حدث ضعيف من جهتين: من جهة إسماعيل بن
رافع ومن جهة الرجل المبهم من الأنصار ثم هذا السياق فيه
نكارة.
فإسماعيل بن رافع بن عويمر المدني: ضعيف جدًا، ضعفه أحمد وابن
معين وأبو حاتم وابن سعد وغيرهم وذكره ابن حبان في كتاب
المجروحين رقم: 42 (مخطوط مصور) وقال: "كان رجلا صالحا، إلا
أنه يقلب الأخبار حتى صار الغالب على حديثه المناكير التي يسبق
إلى القلب أنه كالمعتمد لها".
وهذا الحديث أشار إليه ابن كثير 1: 474- 475 وقال: "وهو حديث
مشهور ساقه غير واحد من أصحاب المسانيد وغيرهم"! وما وجدته في
شيء مما بين يدي من المراجع فلا أدري كيف كان هذا؟ .
ولإسماعيل بن رافع هذا حديث آخر، في معنى هذا الحديث أطول منه
جدًا. ذكره ابن كثير في التفسير 3: 337- 342 من رواية الطبراني
في كتابه (المطولات) بإسناده من طريق أبي عاصم النبيل عن
إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي عن أبي
هريرة مرفوعا. ثم قال ابن كثير بعد سياقه بطوله: "هذا حديث
مشهور وهو غريب جدا، ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة وفي
بعض أفاظه نكارة. تفرد به إسماعيل بن رافع قاص أهل المدينة وقد
اختلف فيه: فمنهم من وثقه ومنهم من ضعفه. ونص على نكارة حديثه
غير واحد من الأئمة كأحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي وعمرو بن
علي الفلاس ومنهم من قال فيه: هو متروك وقال ابن عدي: أحاديثه
كلها فيها نظر إلا انه يكتب حديثه في جملة الضعفاء قلت:
[القائل ابن كثير] : وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث على
وجوه كثيرة وقد أفردتها في جزء على حدة. وأما سياقه فغريب
جدًا، ويقال أنه جمعه من أحاديث كثيرة وجعله سياقًا واحدًا
فأنكر عليه بسبب ذلك. وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي
يقول: إنه رأى للوليد بن مسلم مصنفًا قد جمعه كالشواهد لبعض
مفردات هذا الحديث. فاله أعلم".
ثم جاء صدر الدين بن أبي العز قاضي القضاة -تلميذ ابن كثير-
فأشار إلى هذين الحديثين: حديث الطبري الذي هنا، وحديث
الطبراني الذي ذكره شيخه ابن كثير إشارة واحدة في شرح الطحاوية
ص: 171- 172 بتحقيقنا كأنه اعتبرهما حديثًا واحدًا، فذكر بعض
سياق الحديث المطول ثم قال: "رواه الأئمة: ابن جرير في تفسيره
والطبراني وأبو يعلى الموصلي والبيهقي" فكان شأنه في ذلك موضع
نظر، لأن رواية الطبراني إنما هي في كتاب آخر غير معاجمة
الثلاثة كما نقل ابن كثير ثم لم أجده في كتاب الأسماء والصفات
للبيهقي. ثم لم يذكره صاحب الزوائد. ولو كان في أحد معاجم
الطبراني او في مسند أبي يعلى الموصلي كما يوهمه إطلاق ابن أبي
العز- لذكره صاحب الزوائد بما التزم من ذلك في كتابه.
(4/267)
عن جماعة من الصحابة والتابعين، كرهنا
إطالة الكتاب بذكرهم وذكر ما قالوا في ذلك،= ويوضحُ أيضًا صحة
ما اخترنا في قراءة قوله:" والملائكة" بالرفع على معنى:
وتأتيهم الملائكة = ويُبينُ عن خطأ قراءة من قرأ ذلك بالخفض،
لأنه أخبر صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تأتي أهل القيامة في
موقفهم حين تَفَطَّر السماء، قبل أن يأتيهم ربُّهم، في ظلل من
الغمام. إلا أن يكون قارئ ذلك ذهب إلى أنه عز وجل عنى بقوله
ذلك: إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وفي الملائكة الذين
يأتون أهلَ الموقف حين يأتيهم الله في ظلل من الغمام، فيكون
ذلك وجهًا من التأويل، وإن كان بعيدًا من قول أهل العلم،
ودلالة الكتاب وآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى اللَّهِ
تُرْجَعُ الأمُورُ (210) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وفُصِل القضاء بالعدل بين
الخلق، (1) على ما ذكرناه قبلُ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم: من أخْذ الحق لكلّ مظلوم من كل ظالم، حتى القصاص
للجمّاء من القرناء من البهائم". (2)
وأما قوله:" وإلى الله تُرجع الأمور"، فإنه يعني: وإلى الله
يؤول القضاء بين خلقه يوم القيامة، والحكم بينهم في أمورهم
التي جرت في الدنيا، من ظلم بعضهم بعضًا، واعتداءِ المعتدي
منهم حدودَ الله، وخلافَ أمره، وإحسانِ المحسن منهم، وطاعته
إياه فيما أمرَه به- فيفصلُ بين المتظالمين، ويجازي أهل
الإحسان بالإحسان،
__________
(1) انظر معنى"قضى" و"القضاء" فيما سلف 2: 542، 543.
(2) انظر الأثر السالف رقم: 4039.
(4/269)
وأهل الإساءة بما رأى، ويتفضل على من لم
يكن منهم كافرًا فيعفو. ولذلك قال جل ثناؤه:" وإلى الله تُرجع
الأمور"، وإن كانت أمور الدنيا كلها والآخرةِ، من عنده مبدؤها،
وإليه مصيرها، إذْ كان خلقُه في الدنيا يتظالمون، ويلي النظرَ
بينهم أحيانًا في الدنيا بعضُ خلقه، فيحكم بينهم بعضُ عبيده،
فيجوزُ بعضٌ ويعدل بعضٌ، ويصيبُ واحد ويخطئ واحد، ويمكَّن من
تنفيذ الحكم على بعض، ويتعذَّر ذلك على بعض، لمنعة جانبه
وغلبته بالقوة. فأعلم عبادَه تعالى ذكره أن مرجع جميع ذلك إليه
في موقف القيامة، فينصف كُلا من كُلٍّ، ويجازي حق الجزاء كُلا
حيثُ لا ظلمَ ولا مُمْتَنَعَ من نفوذ حكمه عليه، وحيث يستوي
الضعيف والقويّ، والفقير والغني، ويضمحل الظلم وينزلُ سلطان
العدل.
* * *
وإنما أدخل جل وعزّ" الألف واللام" في"الأمور"، لأنه جل ثناؤه
عنى بها جميع الأمور، ولم يعن بها بعضًا دون بعض، فكان ذلك
بمعنى قول القائل:"يعجبني العسل- والبغل أقوى من الحمار"،
فيدخل فيه"الألف واللام"، لأنه لم يُقصد به قصد بعض دون بعض،
إنما يراد به العموم والجمع.
* * *
(4/270)
سَلْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ
يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {سَلْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: سل يا محمد بني إسرائيل =
الذين لا ينتظرون - بالإنابة إلى طاعتي، والتوبة إليّ بالإقرار
بنبوتك وتصديقك فيما جئتهم به من عندي- إلا إن آتيهم في ظلل من
الغمام وملائكتي، فأفصلُ القضاء بينك وبين من آمن بك وصدَّقك
بما أنزلت إليك من كتبي، وفرضت
(4/270)
عليك وعليهم من شرائع ديني، وبينهم = كم
جئتهم به من قبلك من آية وعلامة، على ما فرضتُ عليهم من
فرائضي، فأمرتهم به من طاعتي، وتابعتُ عليهم من حججي على أيدي
أنبيائي ورسلي من قبلك، مؤيِّدةً لهم على صدقهم، بيِّنةً أنها
من عندي، واضحةً أنها من أدلتي على صدق نُذُري ورُسلي فيما
افترضت عليهم من تصديقهم وتصديقك، فكفروا حُجَجي، وكذَّبوا
رسلي، وغيَّروا نعمي قِبَلهم، وبدَّلوا عهدي ووصيتي إليهم.
* * *
وأما"الآية"، فقد بينت تأويلها فيما مضى من كتابنا بما فيه
الكفاية (1) وهي ها هنا. ما:-
4040 - حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" سل بني إسرائيل
كم آتيناهم من آيه بينة"، ما ذكر الله في القرآن وما لم يذكر،
وهم اليهود.
4041 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع قوله:" سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آيه بينة"، يقول:
آتاهم الله آيات بينات: عصا موسى ويده، وأقطعهم البحر، وأغرق
عدوَّهم وهم ينظرون، وظلَّل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المنّ
والسلوى، وذلك من آيات الله التي آتاها بني إسرائيل في آيات
كثيرة غيرها، خالفوا معها أمر الله، فقتلوا أنبياء الله ورسله،
وبدلوا عهده ووصيته إليهم، قال الله:" ومن يُبدِّل نعمة الله
من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب".
* * *
قال أبو جعفر: وإنما أنبأ الله نبيه بهذه الآيات، فأمره بالصبر
على من كذَّبه، واستكبر على ربه، وأخبره أنّ ذلك فعل من قبْله
من أسلاف الأمم قبلهم بأنبيائهم،
__________
(1) انظر ما سلف معنى"الآية" 1: 106/ ثم 2: 397- 398، 553/ ثم
3: 184. ومعنى"بينة" في 2: 318، 397/ ثم 3: 249/ وهذا الجزء 4:
259، 260.
(4/271)
مع مظاهرته عليهم الحجج، وأنّ من هو بين
أظهُرهم من اليهودُ إنما هم من بقايا من جرت عادتهم [بذلك] ،
ممن قص عليه قصصهم من بني إسرائيل. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ
اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ (211) }
قال أبو جعفر: يعني"بالنعم" جل ثناؤه: الإسلام وما فرض من
شرائع دينه.
ويعني بقوله:" ومن يُبدّل نعمة الله" ومن يغير ما عاهد الله في
نعمته التي هي الإسلام، (2) من العمل والدخول فيه فيكفر به،
فإنه مُعاقبه بما أوْعد على الكفر به من العقوبة، والله شديدٌ
عقابه، أليم عذابه.
* * *
فتأويل الآية إذًا يا أيها الذين آمنوا بالتوراة فصَدَّقوا
بها، ادخلوا في الإسلام جميعًا، ودعوا الكفر، وما دعاكم إليه
الشيطان من ضلالته، وقد جاءتكم البينات من عندي بمحمد، وما
أظهرت على يديه لكم من الحجج والعِبَرِ، فلا تبدِّلوا عهدي
إليكم فيه وفيما جاءكم به من عندي في كتابكم بأنه نبي ورسولي،
فإنه من يبدِّل ذلك منكم فيغيره فإنى له معاقب بالأليم من
العقوبة.
وبمثل الذي قلنا في قوله:" ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما
جاءته"، قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) ما بين القوسين زيادة، أخشى أن تكون لازمة حتى يستقيم
الكلام.
(2) انظر معنى"التبديل" فيما سلف 3: 396.
(4/272)
زُيِّنَ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
4042- حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو
عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"
ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته"، قال: يكفر بها.
4043 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
4044 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال:
حدثنا أسباط، عن السدي:" ومن يبدِّل نعمة الله"، قال: يقول: من
يبدِّلها كفرًا.
4045 - حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع"
ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته"، يقول: ومن يكفُر
نعمتَه من بعد ما جاءته.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: زيِّن للذين كفروا حبُّ
الحياة الدنيا العاجلة اللذات، (1) فهم يبتغون فيها المكاثرة
والمفاخرة، ويطلبون فيها الرياسات والمباهاة، ويستكبرون عن
اتباعك يا محمد، والإقرار بما جئت به من عندي، تعظُّمًا منهم
على من صدَّقك واتبعك، ويسخرون بمن تبعك من أهل، الإيمان،
والتصديق بك، في تركهم المكاثرة، والمفاخرة بالدنيا وزيتها من
الرياش والأموال،
__________
(1) في المطبوعة: "العاجلة في الذنب" وهو كلام بلا معنى. وقد
سمى الله الدنيا"العاجلة" لتعجيله الذين يحبونها ما يشاء من
زينتها ولذتها، وهو يشير بذلك إلى قوله تعالى: {مَنْ كَانَ
يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ
لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا
مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [سورة الإسراء: 18] .
(4/273)
بطلب الرياسات وإقبالهم على طلبهم ما عندي
برفض الدنيا وترك زينتها، والذين عملوا لي= وأقبلوا على طاعتي،
ورفضوا لذات الدنيا وشهواتها، اتباعًا لك، وطلبًا لما عندي،
واتقاءً منهم بأداء فرائضي، وتجنُّب معاصيَّ = فوق الذين كفروا
يوم القيامة، بإدخال المتقين الجنة، وإدخال الذين كفروا النار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة منهم.
* ذكر من قال ذلك:
4046 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن
ابن جريج قوله:" زُيِّن للذين كفروا الحياة الدنيا"، قال:
الكفار يبتغون الدنيا ويطلبونها =" ويسخرون من الذين آمنوا"،
في طلبهم الآخرة - قال ابن جريج: لا أحسبه إلا عن عكرمة، قال:
قالوا: لو كان محمد نبيًا كما يقول، لاتبعه أشرافنا وساداتنا!
والله ما اتبعه إلا أهل الحاجة مثل ابن مسعود!
4047 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" والذين اتقوا فوقهم يوم
القيامة"، قال:"فوقهم" في الجنة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ
بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) }
قال أبو جعفر: ويعني بذلك: والله يعطي الذين اتقوا يوم القيامة
من نعمه وكراماته وجزيل عطاياه، بغير محاسبة منه لهم على ما
منّ به عليهم من كرامته.
* * *
فإن قال لنا قائل: وما في قوله:" يرزق من يشاء بغير حساب" من
المدح؟ قيل: المعنى الذي فيه من المدح، الخيرُ عن أنه غير خائف
نفادَ خزائنه،
(4/274)
كَانَ النَّاسُ
أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا
فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ
فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ
مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
فيحتاج إلى حساب ما يخرج منها، إذ كان
الحساب من المعطي إنما يكون ليعلم قَدْر العطاء الذي يخرج من
ملكه إلى غيره، لئلا يتجاوز في عطاياه إلى ما يُجحف به، فربنا
تبارك وتعالى غيرُ خائف نفادَ خزائنه، ولا انتقاصَ شيء من
ملكه، بعطائه ما يعطي عبادَه، فيحتاج إلى حساب ما يعطي، وإحصاء
ما يبقي. فذلك المعنى الذي في قوله:" والله يرزق من يشاء بغير
حساب"
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً
فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ
وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الأمة": في هذا
الموضع، (1) وفي"الناس" الذين وصفهم الله بأنهم: كانوا أمة
واحدة.
فقال بعضهم: هم الذين كانوا بين آدم ونوح، وهم عشرة قرون، كلهم
كانوا على شريعة من الحق، فاختلفوا بعد ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
4048 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا
همام بن منبه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان بين نوح وآدم
عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله
النبيين مبشرين ومنذرين، قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله"كان
الناس أمةً واحدةً فاختلفوا". (2)
__________
(1) انظر معنى (الأمة) فيما سلف 1: 221/ ثم 3: 74ن 100، 128ن
141.
(2) الأثر: 4048 -رواه الحاكم في المستدرك 2: 546- 547 وقال:
"هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
(4/275)
4049 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا
عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" كان الناس
أمة واحدة"، قال: كانوا على الهدى جميعًا، فاختلفوا، فبعث الله
النبيين مبشرين ومنذرين، فكان أوَّلَ نبي بُعث نوحٌ.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل"الأمة" على هذا القول الذي ذكرناه عن ابن
عباس"الدين"، كما قال النابغة الذبياني:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَهَلْ
يَأثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهْوَ طَائِعُ? (1)
يعني ذا الدين.
* * *
فكان تأويل الآية على معنى قول هؤلاء: كان الناس أمَّة مجتمعة
على ملة واحدة ودين واحد فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين
ومنذرين.
* * *
وأصل"الأمة"، الجماعة تجتمع على دين واحد، ثم يُكتفى بالخبر
عن"الأمة" من الخبر عن"الدين"، لدلالتها عليه، كما قال جل
ثناؤه: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)
[سورة المائدة:48 سورة النحل: 93] ، يراد به أهل دين واحد وملة
واحدة. فوجه ابن عباس في تأويله قوله:" كان الناس أمة واحدة"،
إلى أن الناس كانوا أهل دين واحد حتى اختلفوا.
* * *
وقال آخرون: بل تأويل ذلك كان آدم على الحقّ إمامًا لذريته،
فبعث الله النبيين في ولده. ووجهوا معنى"الأمة" إلى طاعة لله،
والدعاء إلى توحيده واتباع أمره، من قول الله عز وجل (إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا) [سورة
النحل: 120] ، يعني بقوله"أمة"، إمامًا في الخير يُقتدى به،
ويُتَّبع عليه.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) ديوانه: 40، واللسان (أمم) من قصيدته المشهورة في اعتذاره
للنعمان. يقول: أيتهجم على الإثم ذو دين، وقد أطاع الله واخبت
له، فيحلف لك كاذبا يمين غموس كالتي حلفت بها، لأنفي عن قلبك
الريبة في أمري.
(4/276)
4050 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو
عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" كان الناس
أمة واحدة"، قال: آدم.
4051 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا
سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
4052 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد قوله:" كان الناس أمة واحدة"، قال: آدم،
قال: كان بين آدم ونوح عشرة أنبياء، فبعث الله النبيين مبشرين
ومنذرين، قال مجاهد: آدم أمة وحدَه، (1)
* * *
وكأنّ من قال هذا القول، استجاز بتسمية الواحد باسم الجماعة
لاجتماع أخلاق الخير الذي يكون في الجماعة المفرَّقة فيمن سماه
بـ "الأمة"، كما يقال:"فلان أمة وحده"، يقول مقام الأمة.
وقد يجوز أن يكون سماه بذلك لأنه سبب لاجتماع الأسباب من الناس
على ما دعاهم إليه من أخلاق الخير، (2) فلما كان آدم صلى الله
عليه وسلم سببًا لاجتماع من اجتمع على دينه من ولده إلى حال
اختلافهم (3) سماه بذلك"أمة".
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك كان الناس أمة واحدة على دين واحد يوم
استخرَج ذرية آدمَ من صلبه، فعرضهم على آدم.
* ذكر من قال ذلك:
4053 - حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع
__________
(1) في المطبوعة: "أمة واحدة" في الموضعين وهو خطأ والصواب ما
أثبت. وذلك ما جاء في حديث قس بن ساعدة: "إنه يبعث يوم القيامة
أمة وحده" ويقال أيضًا: "هو أمة على حدة" كالذي في الحديث:
"يبعث يوم القيامة زيد بن عمرو بن نفيل أمه على حدة".
(2) في لمطبوعة: "سبب لاجتماع الأسباب من الناس" وهو تصحيف.
والأشتات المتفرقون، ومثله: شتى.
(3) قوله: "إلى حال اختلافهم" أي: إلى ان صارت حالهم إلى
الاختلاف والتفرق.
(4/277)
قوله:" كان الناس أمة واحدة"- وعن أبيه، عن
الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، قال: كانوا أمة واحدة
حيث عُرضوا على آدم، ففطَرهم يومئذ على الإسلام، وأقرُّوا له
بالعبودية، وكانوا أمة واحدة مسلمين كلهم، ثم اختلفوا من بعد
آدم= فكان أبيّ يقرأ:"كان الناسُ أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله
النبيين مبشرين ومنذرين" إلى"فيما اختلفوا فيه". وإن الله إنما
بعث الرسل وأنزل الكتب عند الاختلاف.
4054 - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في
قوله:" كان الناس أمة واحدة"، قال: حين أخرجهم من ظهر آدم لم
يكونوا أمة واحدة قطُّ غيرَ ذلك اليوم="فبعث الله النبيين"،
قال: هذا حين تفرقت الأمم.
* * *
وتأويل الآية على هذا القول نظيرُ تأويل قول من قال يقول ابن
عباس: إن الناس كانوا على دين واحد فيما بين آدمَ ونوح- وقد
بينا معناه هنالك; إلا أن الوقت الذي كان فيه الناس أمة واحدة
مخالفٌ الوقتَ الذي وقَّته ابن عباس.
* * *
وقال آخرون بخلاف ذلك كله في ذلك، وقالوا: إنما معنى قوله:"
كان الناس أمة واحدة"، على دين واحد، فبعث الله النبيين.
* ذكر من قال ذلك:
4055 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي،
قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" كان الناس أمة
واحدة"، يقول: كان دينًا واحدًا، فبعث الله النبيين مبشرين
ومنذرين.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في هذه الآية بالصواب أن يقال
إن الله عز وجل أخبر عباده أن الناس كانوا أمة واحدة على دين
واحد وملة واحدة. كما:-
(4/278)
4056 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا
عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" كان الناس أمة
واحدة"، يقول: دينًا واحدًا على دين آدم، فاختلفوا، فبعث الله
النبيين مبشرين ومنذرين.
* * *
= وكان الدينُ الذي كانوا عليه دينَ الحق، كما قال أبي بن كعب،
كما:-
4057 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال:
حدثنا أسباط، عن السدي، قال: هي في قراءة ابن مسعود:"اختلفوا
عنه" عن الإسلام. (1)
* * *
= فاختلفوا في دينهم، (2) فبعث الله عند اختلافهم في دينهم
النبيين مبشرين ومنذرين،"وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس
فيما اختلفوا فيه"، رحمة منه جل ذكره بخلقه واعتذارًا منه
إليهم.
وقد يجوز أن يكون ذلك الوقت الذي كانوا فيه أمة واحدة من عهد
آدم إلى عهد نوح عليهما السلام، كما روي عكرمة، عن ابن عباس،
وكما قاله قتادة.
وجائزٌ أن يكون كان ذلك حين عَرض على آدم خلقه. وجائزٌ أن يكون
كان ذلك في وقت غير ذلك- ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر يثبت
به الحجة على أيِّ هذه الأوقات كان ذلك. فغيرُ جائز أن نقول
فيه إلا ما قال الله عز وجل: من أن الناس كانوا أمة واحدة،
فبعث الله فيهم لما اختلفوا الأنبياءَ والرسل. ولا يضرُّنا
__________
(1) الأثر: 4057 - سيأتي هذا الأثر برقم: 4063 وكان نصه هنا
كنصه هناك ولكنه تصحيف نساخ فيما أظن، كما سيأتي. كان في
المطبوعة"اختلفوا فيه - على الإسلام".
(2) في المطبوعة: "واختلفوا في دينهم" بالواو والصواب بالفاء
وهو من كلام الطبري، لا من الأثر وهو من سياق قوله قبل: "وكان
الدين الذي كانوا عليه دين الحق. . . فاختلفوا. . "
(4/279)
الجهل بوقت ذلك، كما لا ينفعُنَا العلمُ
به، إذا لم يكن العلم به لله طاعةً، (1)
غير أنه أي ذلك كان، فإن دليلَ القرآن واضحٌ على أن الذين أخبر
الله عنهم أنهم كانوا أمة واحدة، إنما كانوا أمة واحدة على
الإيمان ودين الحق دون الكفر بالله والشرك به. وذلك إن الله جل
وعز قال في السورة التي يذكر فيها"يونس": (وَمَا كَانَ
النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا
كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا
فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [يونس: 19] . فتوعَّد جل ذكره على
الاختلاف لا على الاجتماع، ولا على كونهم أمة واحدة، ولو كان
اجتماعُهم قبل الاختلاف كان على الكفر ثم كان الاختلاف بعد
ذلك، لم يكن إلا بانتقال بعضهم إلى الإيمان، ولو كان ذلك كذلك
لكان الوعد أولى بحكمته جل ثناؤه في ذلك الحال من الوعيد لأنها
حال إنابة بعضهم إلى طاعته، ومحالٌ أن يتوعد في حال التوبة
والإنابة، ويترك ذلك في حال اجتماع الجميع على الكفر والشرك.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:" فبعثَ الله النبيين مبشرين
ومنذرين"، فإنه يعني أنه أرسل رسلا يبشرون من أطاع الله بجزيل
الثواب، وكريم المآب= ويعني بقوله:" ومنذرين"، ينذرون من عصى
الله فكفر به، بشدّة العقاب، وسوء الحساب والخلود في النار="
وأنزل معهم الكتابَ بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه"،
يعني بذلك: ليحكم الكتاب- وهو التوراة- بين الناس فيما اختلف
المختلفون فيه. فأضاف جل ثناؤه"الحكم" إلى"الكتاب"، وأنه الذي
يحكم بين الناس دون النبيين والمرسلين، إذْ كان مَنْ حَكم من
النبيين والمرسلين بحُكم، إنما يحكم بما دلَّهم عليه الكتاب
الذي أنزل الله عز وجل، فكان الكتاب بدلالته على ما دلَّ وصفه
على صحته من الحكم، حاكمًا بين الناس، وإن كان الذي يفصل
القضاء بينهم غيرُه.
* * *
__________
(1) هذه حجة رجل تقي ورع عاقل. بصير بمواضع الزلل في العقول
وبمواطن الجرأة على الحق من أهل الجرأة الذين يتهجمون على
العلم بغيًا بالعلم. ولو عقل الناس لأمسكوا فضل ألسنتهم ولكنهم
قلما يفعلون.
(4/280)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا
اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:" وما اختلف فيه"، وما
اختلف في الكتاب الذي أنزله وهو التوراة=" إلا الذين أوتوه"،
يعني، بذلك اليهودَ من بني إسرائيل، وهم الذين أوتوا التوراة
والعلم بها= و"الهاء" في قوله:"أوتوه" عائدة على"الكتاب" الذي
أنزله الله=" من بعد ما جاءتهم البينات"، يعني بذلك: من بعد ما
جاءتهم حجج الله وأدلته أنّ الكتابَ الذي اختلفوا فيه وفي
أحكامه عند الله، وأنه الحق الذي لا يسعهم الاختلاف فيه، ولا
العمل بخلاف ما فيه.
فأخبر عز ذكره عن اليهود من بني إسرائيل أنهم خالفوا الكتابَ
التوراةَ، واختلفوا فيه على علم منهم، ما يأتون متعمِّدين
الخلاف على الله فيما خالفوه فيه من أمره وحكم كتابه.
ثم أخبر جل ذكره أن تعمُّدهم الخطيئة التي أتوها، (1) وركوبهم
المعصية التي ركبوها من خلافهم أمرَه، إنما كان منهم بغيًا
بينهم.
* * *
و"البغي" مصدر من قول القائل:"بغى فلانٌ على فلان بغيًا"، إذا
طغى واعتدى عليه فجاوز حدّه، ومن ذلك قيل للجرح إذا أمدّ،
وللبحر إذا كثر ماؤه ففاض، وللسحاب إذا وقع بأرض فأخصبت:
"بَغَى" كل ذلك بمعنى واحد، وهي زيادته وتجاوز حده. (2)
* * *
فمعنى قوله جل ثناؤه:" وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد
ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم"، من ذلك. يقول: لم يكن اختلاف
هؤلاء المختلفين من اليهود من بني إسرائيل في كتابي الذي
أنزلته مع نبييِّ عن جهل منهم به، بل كان
__________
(1) في المطبوعة: "تعمدهم الخطيئة التي أنزلها"، وهو تصحيف
وكلام بلا معنى.
(2) انظر معنى"البغي" فيما سلف 1: 342.
(4/281)
اختلافهم فيه، وخلافُ حكمه، من بعد ما ثبتت
حجته عليهم، بغيًا بينهم، طلبَ الرياسة من بعضهم على بعض،
واستذلالا من بعضم لبعض. كما:-
4058 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع قال: ثم رجع إلى بني إسرائيل في قوله:" وما
اختلف فيه إلا الذين أوتوه" يقول: إلا الذين أوتوا الكتابَ
والعلم=" من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم"، يقول: بغيًا
على الدنيا وطلبَ ملكها وزخرفها وزينتها، أيُّهم يكون له الملك
والمهابة في الناس، فبغى بعضُهم على بعض، وضرب بعضُهم رقاب
بعض.
* * *
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل العربية في"مِنْ" التي في قوله:"
من بعد ما جاءتهم البينات" ما حكمها ومعناها؟ وما المعنى
المنتسق في قوله:" وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما
جاءتهم البينات بغيًا بينهم"؟
فقال بعضهم:"من"، ذلك للذين أوتوا الكتاب، وما بعده صلة له.
غيرَ أنه زعم أن معنى الكلام: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه،
بغيًا بينهم، من بعد ما جاءتهم البينات. وقد أنكر ذلك بعضهم
فقال: لا معنى لما قال هذا القائل، ولا لتقديم"البغي" قبل"من"،
لأن"من" إذا كان الجالب لها"البغي"، فخطأ أن تتقدمه لأن"البغي"
مصدر، ولا تتقدم صلة المصدر عليه. وزعم المنكر ذلك أن"الذين"
مستثنى، وأنّ"من بعد ما جاءتهم البينات" مستثنى باستثناء آخر،
وأن تأويل الكلام: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه، ما اختلفوا
فيه إلا بغيًا ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينات =
فكأنه كرر الكلام توكيدًا.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني أشبه بتأويل الآية، لأن القوم
لم يختلفوا إلا من بعد قيام الحجة عليهم ومجيء البينات من عند
الله، وكذلك لم يختلفوا إلا بغيًا، فذلك أشبه بتأويل الآية.
* * *
(4/282)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَهَدَى
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ
الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:" فهدى الله"، فوفق [الله]
الذي آمنوا (1) وهم أهل الإيمان بالله وبرسوله محمد صلى الله
عليه وسلم المصدّقين به وبما جاء به أنه من عند الله لما اختلف
الذين أوتوا الكتاب فيه.
وكان اختلافهم الذي خذلهم الله فيه، وهدى له الذين آمنوا بمحمد
صلى الله عليه وسلم فوفقتهم لإصابته:"الجمُعة"، ضلوا عنها وقد
فُرضت عليهم كالذي فُرض علينا، فجعلوها"السبت"، فقال صلى الله
عليه وسلم:"نحن الآخِرون السابقون"، بيدَ أنهم أوتوا الكتاب من
قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، وهذا اليوم الذي اختلفوا فيه،
فهدانا الله له فلليهود غدًا وللنصارى بعد غد".
4059 - حدثنا بذلك محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن
إسحاق، عن عياض بن دينار الليثي، قال: سمعت أبا هريرة يقول:
قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم. فذكر الحديث. (2)
4060- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة:" فهدى الله
الذين آمنوا لما
__________
(1) انظر معنى"هدى" فيما سلف 1: 166- 170، 230، 249، 549- 551،
وانظر فهارس اللغة في الأجزاء السالفة، في معنى هذه الكلمة وفي
معنى"الإيمان".
(2) الحديث: 4059 - محمد بن حميد الرازي شيخ الطبري: معروف مضت
الرواية عنه كثيرا. ووقع في المطبوعة هنا"أحمد بن حميد" وهو
غلط وتحريف.
عياض بن دينار الليثي: تابعي ثقة سمع من أبي هريرة. وقد وثقه
ابن إسحاق في حديث آخر. رواه عنه في المسند: 7481 وترجمه
البخاري في الكبير 4/1/22 وذكره ابن حبان في ثقات التابعين ص:
299 (من كتاب الثقات المخطوط المصور) .
وهذا حديث صحيح معروف مشهورن من حديث أبي هريرةن ثبت عنه من
غير وجه. ونظر الحديث الذي عقبه.
(4/283)
اختلفوا فيه من الحق بإذنه"، قال: قال
النبي صلى الله عليه وسلم: نحن الآخرون الآولون يوم القيامة،
نحن أوّل الناس دخولا الجنة بيد أنهم أوتوا الكتابَ من قبلنا
وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه
فهذا اليوم الذي هدانا الله له والناس لنا فيه تبع، غدًا
اليهود، وبعد غد للنصارى". (1)
* * *
* وكان مما اختلفوا فيه أيضًا ما قال ابن زيد، وهو ما:-
4061 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب،
قال: قال ابن زيد في قوله:" فهدى الله الذين آمنوا" للإسلام،
واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي
إلى بيت المقدس، فهدانا للقبلة.
واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعضَ يوم، وبعضهم بعض ليلة،
وهدانا الله له. واختلفوا في يوم الجمعة، فأخذت اليهود السبت
وأخذت النصارى الأحد، فهدانا الله له. واختلفوا في إبراهيم،
فقالت اليهود كان يهوديًا، وقالت النصارى كان نصرانيًا! فبرأه
الله من ذلك، وجعله حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين للذين
يدَّعونه من أهل الشرك. (2) واختلفوا في عيسى، فجعلته اليهود
لِفِرْية، وجعلته النصارى ربًا، فهدانا الله للحق فيه. فهذا
الذي قال جل ثناؤه:" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من
الحق بإذنه".
* * *
قال أبو جعفر: (3) فكانت هداية الله جل ثناؤه الذين آمنوا
بمحمد، وبما
__________
(1) الحديث: 4060 -هو في تفسير عبد الرزاق ص 23ن بهذا الإسناد
وكذلك رواه أحمد في المسند: 7692ن عن عبد الرزاق.
* ورواه الشيخان وغيرهما. فانظر المسند أيضًا: 7213، 7308،
7393، 7395، 7693، وما أشرنا إليه هناك من التخريج في مواضع
متعددة.
(2) في المطبوعة: "الذين يدعونه" والصواب ما أثبت.
(3) في المطبوعة: قال: فكانت هداية الله جل ثناؤه. . . " يتوهم
القارئ أن هذا الآتي إنما هو من الأثر السالف وليس ذلك كذلكن
بل هو من كلام أبي جعفر، كما يدل عليه سياقه الآتي، وكما يتبين
من رواية هذا الأثر السالف في تفسير ابن كثير 1: 489: 490
والدر المنثور 1: 243. فلذلك فصلت بين الكلامين وجعلت صدر
الكلام: "قال أبو جعفر".
(4/284)
جاء به لما اختلف -هؤلاء الأحزاب من بنى
إسرائيل الذين أوتوا الكتاب- فيه من الحق بإذنه أنْ وفقهم
لإصابة ما كان عليه مَنْ الحق من كان قبل المختلفين الذين وصف
الله صفتهم في هذه الآية، إذ كانوا أمة واحدة، وذلك هو دين
إبراهيم الحنيف المسلم خليل الرحمن، فصاروا بذلك أمة وَسطًا،
كما وصفهم به ربهم ليكونوا شهداء على الناس. كما:-
4062- حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي
جعفر، عن أبيه عن الربيع:" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا
فيه"، فهداهم الله عند الاختلاف، أنهم أقاموا على ما جاءت به
الرسل قبل الاختلاف: أقاموا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا
شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فأقاموا على الأمر
الأول الذي كان قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف، فكانوا شهداء
على الناس يوم القيامة، كانوا شهداء على قوم نوح، وقوم هود،
وقوم صالح، وقوم شعيب، وآل فرعون، أن رسلهم قد بلَّغوهم، وأنهم
كذَّبوا رسلهم. وهي في قراءة أبي بن كعب: (وَلِيَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) يوم القيامة (وَاللَّهُ يَهْدِي
مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) . فكان أبو العالية
يقول في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن.
4063 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال:
حدثنا أسباط، عن السدي:" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا
فيه"، يقول: اختلف الكفار فيه، فهدى الله الذي آمنوا للحق من
ذلك; وهي في قراءة ابن مسعود:" فهدى الله الذين آمنوا لما
اختلفوا عنه"، عن الإسلام. (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 4063 - انظر الأثر السالف رقم: 4057 والتعليق عليه.
وكان في المطبوعة هنا وهناك: "لما اختلفوا فيه على الإسلام"،
وهو غير بين المعنى والذي أثبته هو نص ما في القرطبي 3: 33
والدر المنثور 1: 243.
(4/285)
قال أبو جعفر: وأمّا قوله:" بإذنه"، فإنه
يعني جل ثناؤه بعلمه بما هداهم له، وقد بينا معنى"الإذن" إذْ
كان بمعنى العلم في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته ههنا.
(1)
* * *
وأما قوله:" والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم"، فإنه يعني
به: والله يسدّد من يشاء من خلقه ويُرشده إلى الطريق القويم
على الحق الذي لا اعوجاج فيه، كما هدى الذين آمنوا بمحمد صلى
الله عليه وسلم، لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه بغيًا
بينهم، فسددهم لإصابة الحق والصواب فيه.
* * *
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية البيان الواضح على صحة ما قاله
أهل الحقّ: من أن كل نعمة على العباد في دينهم آو دنياهم، فمن
الله جل وعز.
* * *
فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله:" فهدى الله الذين آمنوا لما
اختلفوا فيه"؟ أهداهم للحق، أم هداهم للاختلاف؟ فإن كان هداهم
للاختلاف فإنما أضلهم! وإن كان هداهم للحق، فيكف قيل،" فهدى
الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه"؟
قيل: إن ذلك على غير الوجه الذي ذهبتَ إليه، وإنما معنى ذلك:
فهدى الله الذين آمنوا للحقّ فيما اختلف فيه من كتاب الله
الذين أوتوه، فكفر بتبديله بعضُهم، وثبت على الحق والصواب فيه
بعضهم- وهم أهل التوراة الذين بدّلوها- فهدى الله مما للحقّ
بدَّلوا وحرَّفوا، الذين آمنوا من أمة محمد صلى الله عليه
وسلم.
* * *
قال أبو جعفر: فإن أشكل ما قلنا على ذي غفلة، فقال وكيف يجوز
أن يكون ذلك كما قلت، و"مِنْ" إنما هي في كتاب الله في"الحق"
و"اللام" في قوله:" لما اختلفوا فيه"، وأنت تحول"اللام"
في"الحق"، و"من" في"الاختلاف"، في التأويل الذي تتأوله فتجعله
مقلوبًا؟
__________
(1) انظر ما سلف 2: 449- 450.
(4/286)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ
خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ
وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ
نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
قيل: ذلك في كلام العرب موجودٌ مستفيضٌ،
والله تبارك وتعالى إنما خاطبَهم بمنطقهم، فمن ذلك قول الشاعر:
(1)
كَانَتْ فَرِيضَةُ مَا تَقُول كما ... كَانَ الزِّنَاءُ
فَريضَةَ الرَّجْمِ (2)
وإنما الرجم فريضة الزنا. وكما قال الآخر:
إنّ سِرَاجًا لَكَرِيمٌ مَفْخَرُهْ ... تَحْلَى به العَيْنُ
إذَا مَا تَجْهَرُهْ (3)
وإنما سراجٌ الذي يحلى بالعين، لا العين بسراج.
* * *
وقد قال بعضهم: إن معنى قوله" فهدى الله الذين آمنوا لما
اختلفوا فيه من الحق"، أن أهلَ الكتب الأوَل اختلفوا، فكفر
بعضهم بكتاب بعض، وهي كلها من عند الله، فهدى الله أهلَ
الإيمان بمحمد للتصديق بجميعها.
وذلك قولٌ، غير أن الأوّل أصح القولين. لأن الله إنما أخبر
باختلافهم في كتاب واحد.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا
الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ
قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ
وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ
قَرِيبٌ (214) }
قال أبو جعفر: وأما قوله:" أم حسبتم"، كأنه استفهم بـ "أم" في
ابتداء لم يتقدمه حرف استفهام، لسبوق كلام هو به متصل، (4) ولو
لم يكن قبله كلام
__________
(1) هو النابغة الجعدي.
(2) سلف تخريج البيت في 3: 311، 312.
(3) سلف تخريج الشعر في 3: 312.
(4) في المطبوعة: "لمسبوق كلام" وهو فاسد المعنى وذلك أن أحد
شروط"أم" في الاستفهام: أن تكون نسقًا في الاستفهام لتقدم ما
تقدمها من الكلام (انظر ما سلف 2: 493) وقوله"لسبوق" هذا مصدر
لم يرد في كتب اللغة، ولكني رأيت الطبري وغيره يستعمله وسيأتي
في نص الطبري بعد 2: 240، 246 (بولاق) .
(4/287)
يكون به متصلا وكان ابتداءً لم يكن إلا
بحرف من حروف الاستفهام; لأن قائلا لو كان قال مبتدئًا كلامًا
لآخر:"أم عندك أخوك"؟ لكان قائلا ما لا معنى له. ولكن لو
قال:"أنت رجل مُدِلٌّ بقوتك أم عندك أخوك ينصرك؟ " كان مصيبًا.
وقد بينَّا بعض هذا المعنى فيما مضى من كتابنا هذا بما فيه
الكفاية عن إعادته.
* * *
فمعنى الكلام: أم حسبتم أنكم أيها المؤمنون بالله ورسله تدخلون
الجنة، ولم يصبكم مثلُ ما أصاب مَن قبلكم مِن أتباع الأنبياء
والرسل من الشدائد والمحن والاختبار، فتُبتلوا بما ابتُلوا
واختبروا به من"البأساء"- وهو شدة الحاجة والفاقة ="والضراء"
-وهي العلل والأوصاب (1) - ولم تزلزلوا زلزالهم- يعني: ولم
يصبهم من أعدائهم من الخوف والرعب شدة وجهدٌ حتى يستبطئ القوم
نصر الله إياهم، فيقولون: متى الله ناصرنا؟ ثم أخبرهم الله أن
نصره منهم قريبٌ، وأنه مُعليهم على عدوِّهم، ومظهرهم عليه،
فنجَّز لهم ما وعدهم، وأعلى كلمتهم، وأطفأ نار حرب الذين
كفروا.
* * *
وهذه الآية - فيما يزعم أهل التأويل- نزلت يومَ الخندق، حين
لقي المؤمنون ما لَقوا من شدة الجهد، من خوف الأحزاب، وشدة أذى
البرد، وضيق العيش الذي كانوا فيه يومئذ، يقول الله جل وعز
للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا
وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا) إلى قوله: (وَإِذْ زَاغَتِ
الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ
بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ
وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا) [الأحزاب: 9-11]
__________
(1) انظر معنى"البأساء والضراء" فيما سلف 3: 349- 352.
(4/288)
* ذكر من قال نزلت هذه الآية يوم الأحزاب:
4064 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا
أسباط، عن السدي:" أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل
الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا"، قال: نزل
هذا يوم الأحزاب حين قال قائلهم:" ما وعدنا الله ورسوله إلا
غرورا" [الأحزاب: 12]
4065 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" ولما يأتكم مثل الذين خلوا من
قبلكم مسَّتهم البأساءُ والضراء وزلزلوا"، قال: نزلت في يوم
الأحزاب، أصاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بلاءٌ
وحصرٌ، فكانوا كما قال الله جل وعزّ: (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ
الْحَنَاجِرَ)
* * *
وأما قوله:" ولما يأتكم"، فإنّ عامة أهل العربية يتأوّلونه
بمعنى: ولم يأتكم، ويزعمون أن"ما" صلة وحشو، وقد بينت القول
في"ما" التي يسميها أهل العربية"صلة"، ما حكمها؟ في غير هذا
الموضع بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
وأما معنى قوله:" مثل الذين خلوا من قبلكم"، فإنه يعني: شبه
الذين خلوا فمضوا قبلكم. (2)
* * *
وقد دللت في غير هذا الموضع على أن"المثل"، الشبه. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر ما سلف 1: 405، 406/ ثم 2: 230، 331. وقوله: "صلة" أي
زيادة، كما سلف شرحها مرارا، فاطلبها في فهرس المصطلحات.
(2) انظر تفسير"خلا" فيما سلف 3: 100، 128، 129.
(3) انظر ما سلف: 1: 403.
(4/289)
4066 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" أم حسبتم أن تدخلوا الجنة
ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء
وزلزلوا" ... (1)
4067 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن
عبد الملك بن جريج، قال قوله:" حتى يقول الرسول والذين آمنوا"،
قال: هو خيرُهم وأعلمهم بالله.
* * *
وفي قوله:" حتى يقول الرسول"، وجهان من القراءة: الرفع،
والنصب. ومن رفع فإنه يقول: لما كان يحسُن في موضعه"فعَل" أبطل
عمل"حتى" فيها، لأن"حتى" غير عاملة في"فعل"، وإنما تعمل
في"يفعل"، وإذا تقدمها"فعل"، وكان الذي بعدها"يفعل"، وهو مما
قد فُعل وفُرغ منه، وكان ما قبلها من الفعل غير متطاول،
فالفصيح من كلام العرب حينئذ الرفع في"يفعل" وإبطال عمل"حتى"
عنه، وذلك نحو قول القائل:" قمت إلى فلان حتى أضربُه"، والرفع
هو الكلام الصحيح في"أضربه"، إذا أراد: قمت إليه حتى ضربته،
إذا كان الضرب قد كانَ وفُرغ منه، وكان القيام غيرَ متطاول
المدة. فأمَّا إذا كان ما قبل"حتى" من الفعل على لفظ"فعل"
متطاول المدة، وما بعدها من الفعل على لفظ غير منقضٍ، فالصحيح
من الكلام نصب"يفعل"، وإعمال"حتى"، وذلك نحو قول القائل:"ما
زال فلان يطلبك حتى يكلمك = وجعل ينظر إليك حتى يثبتك"،
فالصحيح من الكلام - الذي لا يصح غيره- النصبُ بـ "حتى"، كما
قال الشاعر: (2)
مَطَوْتُ بِهِمْ حَتَّى تَكِلَّ مَطِيُّهمْ ... وَحَتَّى
الجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بِأَرْسَانِ (3)
__________
(1) الأثر: 4066 - هذا أثر ناقص، ولم أجد تمامه في مكان آخر.
(2) هو امرؤ القيس.
(3) ديوانه: 186، ومعاني القرآن للفراء 1: 133 وسيبويه 1: 417/
2: 203، ورواية سيبويه: "سريت بهم" وفي الموضع الثاني منه روى:
"حَتَّى تَكِلَّ غَزِيّهم"
مطا بالقوم يمطو مطوًا: مد بهم وجد في السير. يقول: جد بهم
ورددهم في السير حتى كلت مطاياهم فصارت من الإعياء إلى حال لا
تحتاج معها إلى أرسان تقاد بها، وصار راكبوها من الكلال إلى
إلقاء الأرسان وطرحها على الخيل. لا يبالون من تبعهم وإعيائهم،
كيف تسير، ولا إلى أين.
(4/290)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا
يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ
فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
فنصب"تكل"، والفعل الذي بعد"حتى" ماض، لأن
الذي قبلها من"المطو" متطاول.
والصحيح من القراءة - إذْ كان ذلك كذلك-:"وزلزلوا حتى يقولَ
الرسول"، نصب"يقول"، إذ كانت"الزلزلة" فعلا متطاولا مثل"المطو
بالإبل".
وإنما"الزلزلة" في هذا الموضع: الخوف من العدو، لا"زلزلة
الأرض"، فلذلك كانت متطاولة وكان النصبُ في"يقول" وإن كان
بمعنى"فعل" أفصحَ وأصحَّ من الرفع فيه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ
قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ
وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ
عَلِيمٌ (215) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك أصحابك يا محمد، أي
شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به؟، وعلى مَن ينفقونه فيما
ينفقونه ويتصدقون به؟ فقل لهم: ما أنفقتم من أموالكم وتصدقتم
به، فأنفقوه وتصدقوا به واجعلوه لآبائكم وأمهاتكم وأقربيكم،
ولليتامى منكم، والمساكين، وابن السبيل، فإنكم ما تأتوا من خير
وتصنعوه إليهم فإن الله به عليم، وهو مُحْصيه لكم حتى
يوفِّيَكم أجوركم عليه يوم القيامة، ويثيبكم = على ما أطعتموه
بإحسانكم = عليه.
* * *
__________
(1) قد استوفى الكلام في"حتى" الفراء في معاني القرآن 1: 132-
138 واعتمد عليه الطبري في أكثر ما قاله في هذا الموضع.
(4/291)
و"الخير" الذي قال جل ثناؤه في قوله:" قل
ما أنفقتم من خير"، هو المال الذي سأل رسولَ الله صلى الله
عليه وسلم أصحابُه من النفقة منه، فأجابهم الله عنه بما أجابهم
به في هذه الآية.
* * *
وفي قوله:"ماذا"، وجهان من الإعراب.
أحدهما: أن يكون"ماذا" بمعنى: أيّ شيء؟، فيكون نصبًا
بقوله:"ينفقون".
فيكون معنى الكلام حينئذ: يسألونك أيَّ شيء ينفقون؟، ولا
يُنصَب بـ "يسألونك". والآخر منهما الرفع. وللرفع في"ذلك"
وجهان: أحدهما أن يكون"ذا" الذي مع"ما" بمعنى"الذي"، فيرفع"ما"
ب"ذا" و"ذا" لِ"ما"، و"ينفقون" من صلة"ذا"، فإن العرب قد
تصل"ذا" و"هذا"، كما قال الشاعر: (1)
عَدَسْ! مَا لِعَبَّادٍ عَلَيْكِ إمَارَةٌ ... أمنْتِ وهذَا
تَحْمِلِينَ طَلِيقُ! (2)
فـ "تحملين" من صلة"هذا".
فيكون تأويل الكلام حينئذ: يسألونك ما الذي ينفقون؟
والآخر من وجهي الرفع أن تكون"ماذا" بمعنى أيّ شيء،
فيرفع"ماذا"،
__________
(1) هو يزيد بن مفرغ الحميري.
(2) تاريخ الطبري 6: 178 والأغاني 17: 60 (ساسي) ومعاني القرآن
للفراء 1: 138 والخزانة: 2: 216، 514 واللسان (عدس) من أبيات
في قصة يزيد بن مفرغ مع عباد بن زياد بن أبي سفيان، وكان
معاوية ولاه سجستان فاستصحب معه يزيد بن مفرغ فاشتغل عنه بحرب
الترك. فغاظ ذلك ابن مفرغ واستبطأ جائزته، فبسط لسانه في لحية
عباد وكان عباد عظيم اللحية فقال: ألاَ لَيْتَ اللِّحَى كانت
حشيشًا ... فنَعْلِفَها خيولَ المسلمينَا
فعرف عباد ما أراد فطلبه منه، فهجاه وهجا معاوية باستلحاق زياد
بن أبي سفيان فأخذه عبيد الله بن زياد اخو عباد، فعذبه عذابًا
قبيحًا، وأرسله إلى عباد، ثم أمرهما معاوية بإطلاقه فلما انطلق
على بغلة البريد، قال هذا الشعر الذي أوله هذا البيت.
وقوله: "عدس" زجر للبغلة، حتى صارت كل بغلة تسمى"عدس". والشعر
شعر جيد فاقرأه في المراجع السالفة.
(4/292)
وإن كان قوله:" ينفقون" واقعًا عليه، (1)
إذ كان العاملُ فيه، وهو"ينفقون"، لا يصلح تقديمه قبله، وذلك
أن الاستفهامَ لا يجوز تقديم الفعل فيه قبل حرف الاستفهام، كما
قال الشاعر: (2)
ألا تَسْأَلانِ المَرْءَ مَاذَا يُحَاِولُ ... أَنَحْبٌ
فَيُقْضَى أَمْ ضلالٌ وَبَاطِلُ (3)
وكما قال الآخر: (4)
وَقَالُوا (5) تَعَرَّفْهَا المَنَازِلَ مِنْ مِنًى ... وَمَا
كُلُّ مَنْ يَغْشَى مِنًى أَنَا عَارِفُ (6)
فرفع"كل" ولم ينصبه"بعارف"، إذ كان معنى قوله:"وما كلُّ من
يغشى منىً أنا عارف" جحودُ معرفه من يغشى منيً، فصار في معنى
ما أحد. (7) وهذه الآية [نزلت] (8) - فيما ذكر- قبل أن يفرض
الله زكاةَ الأموال.
* ذكر من قال ذلك:
4068 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال:
حدثنا
__________
(1) سلف أن"الوقوع" هو تعدي الفعل إلى المفعول، فانظر فهرس
المصطلحات وما سلف 2: 108، 198.
(2) هو لبيد بن ربيعة.
(3) ديوانه: 2/27 القصيدة: 41، وسيبويه 1: 405 والخزانة 2: 556
ومعاني القرآن للفراء 1: 139 وغيرها. والشاهد فيه أنه رفع"نحب"
وهو مردود على"ما" في"ماذا". فدل ذلك على أن"ذا" بمعنى"الذي"
وما بعده من صلته، فلا يعمل فيما قبله. والنحب: النذر. يقول:
أعليه نذر في طول سعيه الذي ألزم به نفسه؟ والنحب: الحاجة وهي
صحيحة المعنى في مثل هذا البيت يقول: أهي حاجة لا بد منها
يقضيها بسعيه، أم هي اماني باطلة يتمناهان لو استغنى عنها
وطرحها لما خسر شيئًا، ولسارت به الحياة سيرًا بغير حاجة إلى
هذا الجهاد المتواصل، والاحتيال المتطاول؟
(4) هو مزاحم العقيلي.
(5) هو مزاحم العقيل
(6) ديوانه: 28، وسيبويه 1: 36ن 73، شاهدا على نصب"كل" ورفعها
ومعاني القرآن للفراء 1: 139 وقال: لم"أسمع أحدًا نصب" كل وشرح
شواهد المغني: 328.
وقوله: "تعرفها المنازل" بنصبها على حذف الخافض أو الظرف أي
تعرف صاحبتك بالمنازل من منى. فيقول: لا أعرف أحدًا يعرفها ممن
يغشى مني فأسأله عنها.
(7) انظر أكثر ما مضى في معاني القرآن للفراء 138- 140.
(8) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، ليستقيم الكلام.
(4/293)
أسباط، عن السدي:" يسألونك ماذا ينفقون قل
ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين"، قال: يوم نزلت هذه
الآية لم تكن زكاة، وإنما هي النفقةُ ينفقها الرجل على أهله،
والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة.
4069 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج،
قال: قال ابن جريج: سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم
أينَ يضعون أموالهم؟ فنزلت:" يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم
من خير فللوالدين والأقربين واليتامىَ والمساكين وابن السبيل"،
فذلك النفقةُ في التطوُّع، والزكاةُ سوى ذلك كله= قال: وقال
مجاهد: سألوا فأفتاهم في ذلك:" ما أنفقتم من خير فللوالدين
والأقربين" وما ذكر معهما.
4070 - حدثنا محمد بن عمرو، قال حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني
عيسى، قال: سمعت ابن أبي نجيح في قول الله:" يسألونك ماذا
ينفقون"، قال: سألوه فأفتاهم في ذلك:" فللوالدين والأقربين"
وما ذكر معهما.
4071 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد =
وسألته عن قوله:" قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين"=
قال: هذا من النوافل، قال: يقول: هم أحق بفضلك من غيرهم.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله السدي =: من أنه لم يكن يوم نزلت
هذه الآية زكاةٌ، وإنما كانت نفقةً ينفقها الرجل على أهله،
وصدقةً يتصدق بها، ثم نسختها الزكاة = قولٌ ممكن أن يكون كما
قال: وممكن غيره. ولا دلالة في الآية على صحة ما قال، لأنه
ممكن أن يكون قوله:" قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين"
الآية، حثًا من الله جل ثناؤه على الإنفاق على من كانت نفقته
غيرَ واجبة من الآباء والأمهات والأقرباء، ومن سمي معهم في هذه
الآية، وتعريفًا من
(4/294)
الله عبادَه مواضع الفضل التي تُصرف فيها
النفقات، كما قال في الآية الأخرى: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى
حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ
وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ
وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ) [سورة البقرة: 177] .
وهذا القول الذي قلناه في قول ابن جريج الذي حكيناه.
* * *
وقد بينا معنى المسكنة، ومعنى ابن السبيل فيما مضى، فأغنى ذلك
عن إعادته. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"المسكين" فيما سلف 2: 137، 293/ ثم 3: 345 =
ومعنى"اليتامى" فيما سلف 2: 292/ ثم 3: 345 = ومعنى"ابن
السبيل" فيما سلف 3: 345.
(4/295)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا
شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا
وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ (216)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه بقوله: " كتب عليكم القتال"،
فُرض عليكم القتال، يعني قتال المشركين=" وهو كُرْهٌ لكم".
* * *
واختلف أهل العلم في الذين عُنوا بفرض القتال.
فقال بعضهم: عنى بذلك أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم
خاصةً دون غيرهم.
* ذكر من قال ذلك:
4072 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن
ابن جريج، قال: سألت عطاء قلت له:" كتب عليكم القتال وهو
كُرْهٌ لكم"، أواجبٌ الغزوُ على الناس من أجلها؟ قال: لا! كُتب
على أولئك حينئذ.
4073 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا
(4/295)
خالد، عن حسين بن قيس، عن عكرمة، عن ابن
عباس في قوله:" كتب عليكم القتال وهو كره لكم"، قال نسختها
(قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) [سورة البقرة: 285]
* * *
قال أبو جعفر: وهذ اقول لا معنى له، لأن نسخَ الأحكام من قبل
الله جل وعزّ، لا من قبل العباد، وقوله:" قالوا سمعنا وأطعنا"،
خبر من الله عن عباده المؤمنين وأنهم قالوه لا نسخٌ منه.
4074 - حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثنا معاوية بن عمرو، قال:
حدثنا أبو إسحاق الفزاري، قال: سألت الأوزاعي عن قول الله عز
وجل:" كتب عليكم القتال وهو كره لكم"، أواجبٌ الغزو على الناس
كلهم؟ قال: لا أعلمه، ولكن لا ينبغي للأئمة والعامة تركه، فأما
الرجل في خاصة نفسه فلا. (1)
* * *
وقال آخرون: هو على كل واحد حتى يقوم به من في قيامه الكفاية،
فيسقطُ فرض ذلك حينئذ عن باقي المسلمين، كالصلاة على الجنائز
وغسلهم الموتى ودفنهم، وعلى هذا عامة علماء المسلمين.
* * *
قال أبو جعفر: وذلك هو الصواب عندنا لإجماع الحجة على ذلك،
ولقول الله عز وجل: (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً
وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) [سورة النساء: 95] ، فأخبر
جل ثناؤه أنّ الفضل للمجاهدين، وأن لهم وللقاعدين الحسنى، ولو
كان القاعدون مضيِّعين فرضًا لكان لهم السُّوأى لا الحسنى.
* * *
__________
(1) الأثر: 4074 - محمد بن إسحاق بن جعفر الصاغاني نزل بغداد
وكان وجه مشايخ بغداد وكان أحد الحفاظ الأثبات المتقنين مات
سنة 270، وروى عنه الطبري في المذيل (انظر المنتخب من ذيل
المذيل: 104) ومعاوية بن عمرو بن المهلب الأزدي روى عنه
البخاري، توفي ببغداد سنة 215. وكلاهما مترجم في التهذيب.
(4/296)
وقال آخرون: هو فرضٌ واجبٌ على المسلمين
إلى قيام الساعة.
* ذكر من قال ذلك:
4075- حدثنا حُبَيش بن مبشر قال: حدثنا روح بن عبادة، عن ابن
جريج، عن داود بن أبي عاصم، قال: قلت لسعيد بن المسيب: قد أعلم
أن الغزو واجبٌ على الناس! فسكت، وقد أعلم أنْ لو أنكر ما قلت
لبيَّن لي. (1)
* * *
وقد بينا فيما مضى معنى قوله:"كتب" بما فيه الكفاية. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وهو ذو كره لكم، فترك
ذكر"ذو" اكتفاء بدلالة قوله:"كره لكم"، عليه، كما قال:
(وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [سورة يوسف: 83]
وبنحو الذي قلنا في ذلك روي عن عطاء في تأويله.
* ذكر من قال ذلك:
4076 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن عطاء في قوله:" وهو كره لكم" قال: كُرّه إليكم
حينئذ.
* * *
"والكره" بالضم: هو ما حمل الرجلُ نفسه عليه من غير إكراه أحد
إياه عليه،"والكَرْهُ" بفتح"الكاف"، هو ما حمله غيره، فأدخله
عليه كرهًا. وممن حكي عنه هذا القول معاذ بن مسلم.
__________
(1) الأثر: 4075 - حبيش بن مبشر بن أحمد الطوسي الفقيه، كان
ثقة من عقلاء البغداديين مات سنة 258، مترجم في التهذيب وتاريخ
بغداد. وكان في المطبوعة: "حسين بن ميسر" وليس في الرواة من
يعرف بذلك.
(2) انظر ما سلف 3: 357، 364، 365.
(4/297)
4077 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق،
قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، عن معاذ بن مسلم، قال:
الكُرْه المشقة، والكَرْه الإجبار.
* * *
وقد كان بعض أهل العربية يقول:"الكُره والكَره" لغتان بمعنى
واحد، مثل:"الغُسْل والغَسْل" و"الضُّعف والضَّعف"، و"الرُّهبْ
والرَّهبْ". وقال بعضهم:"الكره" بضم"الكاف" اسم و"الكره"
بفتحها مصدر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا
وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ
شَرٌّ لَكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تكرهوا القتالَ، فإنكم
لعلكم أن تكرهوه وهو خيرٌ لكم، ولا تحبوا تركَ الجهاد، فلعلكم
أن تحبوه وهو شر لكم، كما:-
4078 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال:
حدثنا أسباط، عن السدي:" كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن
تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم"،
وذلك لأن المسلمين كانوا يكرهون القتال، فقال:"عسى أن تكرهوا
شيئًا وهو خيرٌ لكم" يقول: إن لكم في القتال الغنيمةَ والظهور
والشهادة، ولكم في القعود أن لا تظهروا على المشركين، ولا
تُستْشهدوا، ولا تصيبوا شيئًا.
4079 - حدثني محمد بن إبراهيم السلمي، قال: حدثني يحيى بن محمد
بن مجاهد، قال: أخبرني عبيد الله بن أبي هاشم الجعفي، قال:
أخبرني عامر بن واثلة قال: قال ابن عباس: كنت رِدْفَ النبي صلى
الله عليه وسلم، فقال: يا ابن عباس ارضَ عن الله بما قدَّرَ،
وإن كان خلافَ هواك، فإنه مثبَتٌ في كتاب الله. قلت: يا رسول
الله، فأين؟ وقد قرأت القرآن! قال: في قوله:" وعسى
(4/298)
أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن
تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون" (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ (216) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والله يعلم ما هو خيرٌ لكم،
مما هو شر لكم، فلا تكرهوا ما كتبتُ عليكم من جهاد عدوكم،
وقتال من أمرتكم بقتاله، فإني أعلم أنّ قتالكم إياهم، هو خيرٌ
لكم في عاجلكم ومعادكم، وترككم قتالهم شر لكم، وأنتم لا تعلمون
من ذلك ما أعلم، يحضّهم جل ذكره بذلك على جهاد أعدائه،
ويرغِّبهم في قتال من كفر به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ
الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ
وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك يا محمد أصحابُك عن
الشهر الحرام = وذلك رَجبٌ = عن قتالٍ فيه.
__________
(1) الحديث: 4079 - هذا إسناد مظلم والمتن منكر! لم أجد
ترجمة"يحيى بن محمد بن مجاهد" ولا"عبيد الله بن أبي هاشم" ولا
أدري ما هما. ولفظ الحديث لم أجده، ولا نقله أحد +من ينقل عن
الطبري.
(4/299)
وخفضُ"القتال" على معنى تكرير"عن" عليه،
وكذلك كانت قراءةُ عبد الله بن مسعود فيما ذكر لنا. وقد:-
4080 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن الربيع قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه"،
قال: يقول: يسألونك عن قتال فيه، قال: وكذلك كان يقرؤها:"عن
قتال فيه".
* * *
= قال أبو جعفر:"قل" يا محمد:"قتالٌ فيه"- يعني في الشهر
الحرام"كبيرٌ"، أي عظيمٌ عند الله استحلاله وسفك الدماء فيه.
ومعنى قوله:" قتال فيه"، قل القتال فيه كبير. وإنما قال:"قل
قتالٌ فيه كبيرٌ"، لأن العرب كانت لا تقرعُ فيه الأسنَّة،
فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يَهيجه تعظيما له،
وتسميه مضر"الأصمَّ" (1) لسكون أصوات السلاح وقعقعته فيه.
وقد:-
4081 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، قال:
حدثنا شعيب بن الليث، قال: حدثنا الليث، قال: حدثنا الزبير، عن
جابر قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر
الحرام إلا أن يُغْزَى، أو يَغزو حتى إذا حضر ذلك أقامَ حتىّ
ينسلخ.
* * *
وقوله جل ثناؤه:" وصَدٌّ عن سبيل الله". ومعنى"الصدّ" عن
الشيء، المنع منه، والدفع عنه، ومنه قيل:" صدّ فلان بوجهه عن
فلان"، إذا أعرض عنه فمنعه من النظر إليه.
* * *
وقوله:" وكفرٌ به"، يعني: وكفر بالله، و"الباء" في"به" عائدة
على اسم الله الذي في"سبيل الله". وتأويل الكلام: وصدٌّ عن
سبيل الله، وكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراج أهل المسجد
الحرام- وهم أهله وولاته- أكبرُ عند الله من القتال في الشهر
الحرام.
__________
(1) يعني شهر رجب، وهو رجب الأصم.
(4/300)
فـ "الصدُّ عن سييل الله" مرفوع بقوله:"
أكبر عند الله". وقوله:" وإخراج أهله منه" عطف على"الصد". ثم
ابتدأ الخبر عن الفتنة فقال:" والفتنة أكبر من القتل"، يعني:
الشرك أعظم وأكبرُ من القتل، (1) يعني: مِنْ قَتل ابن الحضرميّ
الذي استنكرتم قتله في الشهر الحرام.
* * *
قال أبو جعفر: وقد كان بعض أهل العربية يزعم أن قوله:" والمسجد
الحرام" معطوف على"القتال" وأن معناه: يسألونك عن الشهر
الحرام، عن قتال فيه، وعن المسجد الحرام، فقال الله جل ثناؤه:"
وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله" من القتال في الشهر الحرام.
(2)
وهذا القول، مع خروجه من أقوال أهل العلم، قولٌ لا وجهَ له.
لأن القوم لم يكونوا في شك من عظيم ما أتى المشركون إلى
المسلمين في إخراجهم إياهم من منازلهم بمكة، فيحتاجوا إلى أن
يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إخراج المشركين إياهم
من منازلهم، وهل ذلك كان لهم؟ بل لم يدَّع ذلك عليهم أحدٌ من
المسلمين، ولا أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
ذلك.
وإذ كان ذلك كذلك، فلم يكن القوم سألوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلا عَمَّا ارتابوا بحكمه (3) كارتيابهم في أمر قتل
ابن الحضرمي، إذ ادَّعوا أن قاتله من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم قتله في الشهر الحرام، فسألوا عن أمره، لارتيابهم في
حكمه. فأما إخراجُ المشركين أهلَ الإسلام من المسجد الحرام،
فلم يكن فيهم أحدٌ شاكًّا أنه كان ظلمًا منهم لهم فيسألوا عنه.
ولا خلاف بين أهل التأويل جميعًا أن هذه الآية نزلت
__________
(1) انظر معنى"الفتنة" فيما سلف 3: 565، 566 ثم 570ن 571 وفهرس
اللغة في الأجزاء السالفة.
(2) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 141.
(3) في المطبوعة: "وإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن القوم سألوا
رسول الله. . . " والصواب ما أثبت، وإلا اختل الكلام اختلالا
شديدًا.
(4/301)
على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبب
قتل ابن الحضرمي وقاتله.
* ذكر الرواية عمن قال ذلك:
4082 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن
إسحاق، قال: حدثني الزهري، ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير،
قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش في رجب
مَقْفَلَه من بدر الأولى، وبعثَ معه بثمانية رهط من المهاجرين،
ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتابًا، وأمره أن لا ينظر
فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره، ولا يستكره من
أصحابه أحدًا.
= وكان أصحابُ عبد الله بن جحش من المهاجرين من بني عبد شمس
أبو حذيفة [بن عتبة] بن ربيعة- (1) ومن بني أمية- بن عبد شمس،
ثم من حلفائهم: عبد الله بن جحش بن رئاب، وهو أمير القوم،
وعكاشة بن محصن بن حُرثان أحد بني أسد بن خزيمة- ومن بني نوفل
بن عبد مناف عتبة بن غزوان حليف لهم - ومن بني زهرة بن كلاب:
سعد بن أبي وقاص- ومن بني عدي بن كعب عامر بن ربيعة حليف لهم،
وواقد بن عبد الله بن مناة بن عرين (2) بن ثعلبة بن يربوع بن
حنظلة، وخالد بن البكير أحد بني سعد بن ليث حليف لهم- ومن بني
الحارث بن فهر: سهيل بن بيضاء.
= فلما سار عبدُ الله بن جحش يومين فتح الكتاب ونظر فيه، فإذا
فيه: "إذا نظرت إلى كتابي هذا، (3) فسرْ حتى تنزل نخلة بين مكة
والطائف،
__________
(1) الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام ونص ابن هشام: "أبو
حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس -ومن حلفائهم: عبد الله بن
جحش" بإسقاط: "ومن بني أمية" فتركت ما في الطبري على حاله لأنه
صحيح المعنى أيضًا.
(2) في المطبوعة: ". . . عبد الله بن مناة بن عويم" وأثبت ما
في نص ابن هشام وهو الموافق لما أجمعت عليه كتب السير
والأنساب.
(3) في المطبوعة: "إذا نظرت إلى كتابي. . . " وأثبت ما في هشام
وتاريخ الطبري وهو الصواب.
(4/302)
فترصَّد بها قريشًا، وتعلَّمْ لنا من
أخبارهم". فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال:" سمعا
وطاعة"، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن أمضي إلى نخلة فأرصد بها قريشًا حتى آتيه منهم بخبر،
وقد نهاني أن أستكره أحدًا منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة
ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماضٍ لأمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى ومضى معه أصحابه، فلم
يتخلَّف عنه [منهم] أحد، وسلك على الحجاز، حتى إذا كان
بمَعْدِن فوق الفُرع يقال له بُحْران، (1) أضلّ سعد بن أبي
وقاص وعتبة بن غزوان بعيرًا لهما كانا عليه يعتقبانه، (2)
فتخلَّفا عليه في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى
نزل بنخلة، فمرت به عيرٌ لقريش تحمل زبيبًا وأدَمًا وتجارةً من
تجارة قريش (3) فيها منهم عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله
بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميان،
والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة فلما رآهم القوم هابوهم،
وقد نزلوا قريبًا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وقد كان حلق
رأسه، فلما رأوه أمنوا وقالوا: عُمّار! فلا بأس علينا منهم.
(4) وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من جمادى، (5) فقال
القوم: والله لئن تركتم القومَ هذه الليلة ليدخُلُنَّ الحرم
فليمتنعُنَّ به منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام!
فتردّد القوم فهابوا الإقدام عليهم، ثم شجُعوا عليهم، وأجمعوا
على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم. فرمى واقدُ بن عبد
الله التميمي عمرَو بن الحضرميّ بسهم فقتله، واستأسرَ عثمان بن
عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبد الله فأعجزهم.
=وقدم عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدموا
على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وقد ذكر بعض آل عبد
الله بن جحش أنّ عبد الله بن جحش قال لأصحابه: إنّ لرسول الله
صلى الله عليه وسلم مما غنمتم الخمُس.
وذلك قبل أن يُفرضُ الخمس من الغنائم، فعزل لرسول الله صلى
الله عليه وسلم خُمس العير، وقسم سائرها على أصحابه فلما قدموا
على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أمرتكم بقتال في
الشهر الحرام! فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك
شيئًا فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، سُقط في
أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنَّفهم المسلمون فيما
صنعوا، وقالوا لهم: صنعتم ما لم تؤمروا به وقاتلتم في الشهر
الحرام ولم تؤمروا بقتال! وقالت قريش: قد استحلّ محمد وأصحابه
الشهر الحرام، فسفكوا فيه الدمَ، وأخذوا فيه الأموال وأسروا.
[فيه الرجال] (6) فقال من يردُّ ذلك عليهم من المسلمين ممن كان
بمكة إنما أصابوا ما أصابوا في جمادى! (7) وقالت يهود -تتفاءل
بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم-: عمرو بن الحضرمي قتله
واقد بن عبد الله! " عمرو"، عمرت الحرب! و"الحضرميّ"، حَضَرت
الحربُ! " وواقد بن عبد الله"، وقدت الحرب! فجعل الله عليهم
ذلك وبهم.
= فلما أكثر الناسُ في ذلك أنزل الله جل وعز على رسوله:"
يسألونك عن الشهر
__________
(1) في المطبوعة: "نجران" وهو خطأ صرف.
(2) "يتعقبانه": أي يركبه هذا عقبة وهذا عقبة، أي هذا نوبة
وهذا نوبة.
(3) العير: القافلة من الإبل والحمير والبغال تخرج للميرة
فيمتار عليها. والأدم جمع أديم: وهو الجلد المدبوغ.
(4) عمار: معتمرون. والاعتمار والعمرة زيارة البيت الحرام
وأداء حقه، في أي شهر كان. وهو غير الحج يقال عنه"اعتمر" ولم
يسمع"عمر" ولكن جاء"عمار" جمع"عامر" على هذا الثلاثي المتروك.
(5) هكذا في المطبوعة: "آخر يوم من جمادى" وفي نص ابن هشام
وتاريخ الطبري"آخر يوم من رجب" وهو أصح النصين، ولم أغيرها،
لأنه سيأتي بعد ما يدل على أن الرواية هنا هكذا.
(6) الزيادة بين القوسين من نص ابن هشام، وتاريخ الطبري.
(7) انظر ص: 303 التعليق: 5 ونص ابن هشام والطبري"في شعبان".
(4/303)
الحرام قتال فيه"،
أي: عن قتالٍ فيه" قل قتال فيه كبيرٌ" إلى قوله:" والفتنة أكبر
من القتل"، أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام، فقد صدوكم عن
سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجُكم عنه إذ
أنتم أهله وولاته، أكبرُ عند الله من قتل من قتلتم منهم،"
والفتنة أكبر من القتل"، أي: قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه
حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، وذلك أكبر عند الله من
القتل=" ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن
استطاعوا"، أي: هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا
نازعين. فلما نزل القرآن بهذا من الأمر، وفرَّج الله عن
المسلمين ما كانوا فيه من الشَّفَق، (1) قبض رسول الله صلى
الله عليه وسلم العيرَ والأسيرين. (2)
4083 - حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط عن السدي:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال
فيه كبيرٌ"، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية -
وكانوا سبعةَ نفر - وأمَّر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي،
وفيهم عمار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسعد بن أبي
وقاص،
__________
(1) الشفق (لفتح الشين والفاء) والإشقاق: الخوف والحذر.
(2) الأثر: 4082 - هو نص ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق 2:
252- 254 ورواه الطبري في تاريخه 2: 262- 263.
(4/305)
وعتبة بن غزوان السلمي حليف لبني نوفل،
وسهيل بن بيضاء، وعامر بن فهيرة، وواقد بن عبد الله اليربوعي،
حليفٌ لعمر بن الخطاب. وكتب مع ابن جحش كتابًا وأمره أن لا
يقرأه حتى ينزل [بطن] مَلَل، (1) فلما نزل ببطن ملل فتحَ
الكتاب، فإذا فيه: أنْ سِرْ حتى تنزل بطن نخلة، (2) فقال
لأصحابه: من كان يريد الموت فليمضِ وليوص، فإني موصٍ وماضٍ
لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسار وتخلّف عنه سعد بن
أبي وقاص وعتبة بن غزوان، أضلا راحلةً لهما، فأتيا بُحران
يطلبانها، (3) وسار ابن جحش إلى بطن نخلة، فإذا هم بالحكم بن
كيسان، وعبد الله بن المغيرة، والمغيرة بن عثمان، وعمرو بن
الحضرمي، فاقتتلوا، فأسَرُوا الحكم بن كيسان، وعبد الله بن
المغيرة، وانفلت المغيرة، وقُتل عمرو بن الحضرميّ، قتله واقد
بن عبد الله. فكانت أوّل غنيمةٍ غنمها أصحاب محمد صلى الله
عليه وسلم.
= فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين وما غنموا من الأموال،
أراد أهل مكة أن يفادوا بالأسيرين، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: حتى ننظر ما فعل صاحبانا! فلما رجع سعد وصاحبه فادَى
بالأسيرين، ففجَر عليه المشركون وقالوا: محمد يزعم أنه يتَّبع
طاعة الله، وهو أول من استحلَّ الشهر الحرام، وقتل صاحبنا في
رجب! فقال المسلمون: إنما قتلناه في جُمادى! - وقيل: في أول
ليلة من رجب، وآخر ليلة من جمادى - وغمد المسلمون سيوفهم حين
دخل رَجب. فأنزل الله جل وعز يعيِّر أهل مكة:" يسألونك عن
الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه كبير" لا يحل، وما صنعتم
أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام، حين
كفرتم بالله، وصددتم عنه محمدًا وأصحابه، وإخراجُ أهل المسجد
الحرام منه، حين أخرجوا محمدًا، أكبر من القتل عند الله،
والفتنة - هي الشرك - أعظم عند الله من القتل في الشهر الحرام،
فذلك قوله:" وصد عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرامِ وإخراج
أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل". (4)
4084 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال، حدثنا المعتمر
بن سليمان التيمي، عن أبيه: أنه حدثه رجل، عن أبي السوار،
يحدثه عن جندب بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أنه بعث رَهطًا، فبعثَ عليهم
__________
(1) الزيادة بين القوسين من رواية الطبري في تاريخه.
(2) في تاريخه: "بطن نخل" في هذا الموضع منه، وفيما يليه"بطن
نخلة".
(3) في المطبوعة: "نجران" وهو خطأ مضى مثله ص: 303 والصواب من
التاريخ.
(4) الأثر: 4083 - رواه الطبري في تاريخه 2: 263- 264.
(4/306)
أبا عبيدة. فلما أخذ لينطلق، بكى صَبابةً
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبعث رجلا مكانه يقال له
عبد الله بن جحش، وكتب له كتابًا، وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى
يبلغ كذا وكذا:" ولا تكرهنَّ أحدًا من أصحابك على السير معك".
فلما قرأ الكتاب استرجعَ وقال: سمعًا وطاعة لأمر الله ورسوله!
فخبَّرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب، فرجع رجلان ومضَى بقيتهم.
فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا ذلك اليوم: أمن رَجب أو
من جمادى؟ فقال المشركون للمسلمين: فعلتم كذا وكذا في الشهر
الحرام! فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فحدّثوه الحديث، فأنزل
الله عز وجل:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه
كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراجُ
أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبرُ من القتل"- والفتنة هي
الشرك. وقال بعضُ الذين - أظنه قال -: كانوا في السرية: والله
ما قتله إلا واحد! فقال: إن يكن خيرًا فقد وَلِيت! وإن يكن
ذنبًا فقد عملت! (1)
4085 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:" يسألونك عن الشهر الحرام
قتالٍ فيه"، قال: إن رجلا من بني تميم أرسله النبي صلى الله
عليه وسلم في سرية، فمرّ بابن الحضرميّ يحمل خمرًا من الطائف
إلى مكة، فرماه بسهم فقتله. وكان بين قريش ومحمد عَقْدٌ، فقتله
في آخر يوم من جُمادى الآخرة وأول يوم من رجب، فقالت قريش: في
الشهر الحرام! ولنا عهد! فأنزل الله جل وعز:" قتالٌ فيه كبير
وصدٌّ عن سبيل الله وكُفر به" وصد عن المسجد الحرام" وإخراجُ
أهله منه أكبر عند الله" من قتل ابن الحضرميّ، والفتنة كفرٌ
بالله، وعبادة الأوثان أكبر من هذا كله.
__________
(1) الأثر: 4084 رواه الطبري في تاريخه 2: 264- 265- وسيأتي
تمامه برقم: 4102.
(4/307)
4086 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا
عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري وعُثمان الجزريّ، وعن مقسم
مولى ابن عباس قال: لقي واقد بنُ عبد الله عمرَو بنَ الحضرميّ
في أول ليلة من رجب، وهو يرى أنه من جمادى، فقتله، وهو أول
قتيل من المشركين. فعيَّر المشركون المسلمين فقالوا: أتقتلون
في الشهر الحرام! فأنزل الله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال
فيه قل قتالٌ فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد
الحرام" = يقول: وصد عن سبيل الله وكفرٌ بالله =" والمسجد
الحرام" = وصد عن المسجد الحرام =" وإخراج أهله منه أكبر عند
الله"، من قتل عمرو بن الحضرميّ =" والفتنة"، يقول: الشرك الذي
أنتم فيه أكبر من ذلك أيضا = قال الزهري وكان النبي صلى الله
عليه وسلم فيما بلغنا يحرِّم القتالَ في الشهر الحرام، ثم
أحِلّ [له] بعدُ. (1)
4087 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" يسألونك عن الشهر
الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير"، وذلك أن المشركين صدوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم وردُّوه عن المسجد الحرام في شهر
حرام، ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل. فعاب
المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم القتالَ في شهر
حرام،
__________
(1) الحديث: 4086 - هذا حديث مرسل، مروي بإسنادين عن اثنين من
التابعين، هما: الزهري ومقسم مولى ابن عباس.
فرواه معمر عن الزهري ورواه عن عثمان الجزري عن مقسم. وهو ثابت
في تفسير عبد الرزاق، ص: 26. وزدنا منه [الواو] في قوله: "وعن
مقسم"، وكلمة [له] في آخر الحديث في قوله" ثم أحل [له] بعد".
وعثمان الجزري: هو"عثمان بن ساج" ترجم له ابن أبي حاتم
3/1/153، وهو غير"عثمان ابن عمرو بن ساج" الذي ترجم له ابن أبي
حاتم 3/1/162. وقد خلط بينهما الحافظ المزي في التهذيب، وتعقبه
الحافظ ابن حجر. وانظر ما كتبنا في ذلك، في شرح المسند: 2562.
مقسم -بكسر الميم وسكون القاف وفتح السين-: هو ابن بجرة، مولى
عبد الله بن الحارث بن نوفل. وإنما قيل له"مولى ابن عباس"
للزومه له. وهو تابعي ثقة.
(4/308)
فقال الله جل وعز:" وصدٌّ عن سبيل الله
وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله" من
القتل فيه = وأنّ محمدًا بعث سرية، فلقوا عمرو بن الحضرمي وهو
مقبل من الطائف آخرَ ليلة من جمادى، وأول ليلة من رجب = وأن
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يظنون أنّ تلك الليلة من
جمادى، وكانت أول رجب ولم يشعروا، فقتله رجلٌ منهم واحدٌ =
وأنّ المشركين أرسلوا يُعيرونه بذلك فقال الله جل وعز:"
يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير" وغير
ذلك أكبر منه،" صد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج
أهله منه" إخراجُ أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب محمدٌ،
والشرك بالله أشدُّ.
4088 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
سفيان، عن حصين، عن أبي مالك: قال لما نزلت:" يسألونك عن الشهر
الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير" إلى قوله:" والفتنة أكبرُ
من القتل"، استكبروه. فقال: والفتنة = الشرك الذي أنتم عليه
مقيمون = أكبر مما استكبرتم.
4089 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي
جعفر، عن أبيه، عن حصين، عن أبي مالك الغفاري قال: بعث رسول
الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش في جيش، فلقي ناسًا
من المشركين ببطن نخلة، والمسلمون يحسَبون أنه آخر يوم من
جمادى وهو أول يوم من رجب، فقتل المسلمون ابنَ الحضرميّ، فقال
المشركون: ألستم تزعمون أنكم تحرِّمون الشهرَ الحرام والبلدَ
الحرام، وقد قتلتم في الشهر الحرام! فأنزل الله:" يسألونك عن
الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه" إلى قوله" أكبر عند الله"
من الذي استكبرتم من قتل ابن الحضرمي، و"الفتنة" - التي أنتم
عليها مقيمون، يعني الشركَ -" أكبر من القتل".
4090 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
قتادة قال:
(4/309)
وكان يسميها (1) - يقول: لقي واقدُ بن عبد
الله التميمي عمرو بن الحضرمي ببطن نخلةَ فقتله.
4091 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، قلت لعطاء قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال
فيه"، فيمن نزلت؟ قال: لا أدري = قال ابن جريج: وقال عكرمة
ومجاهد: في عمرو بن الحضرمي. قال ابن جريج، وأخبرنا ابن أبي
حسين، عن الزهري ذلك أيضًا.
4092 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال: قال مجاهد:" قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصد عن سبيل
الله وكفر به والمسجد الحرام"، - قال: يقول: صدٌ عن المسجد
الحرام" وإخراج أهله منه" - فكل هذا أكبر من قتل ابن الحضرمي
-" والفتنة أكبر من القتل" - كفرٌ بالله وعبادة الأوثان، أكبرُ
من هذا كله.
4093 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن
خالد، قال أخبرنا عبيد بن سليمان الباهلي، قال سمعت الضحاك بن
مزاحم يقول في قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل
قتالٌ فيه كبير"، كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قتلوا ابن
الحضرمي في الشهر الحرام، فعيّر المشركون المسلمين بذلك، فقال
الله: قتال في الشهر الحرام كبير، وأكبر من ذلك صد عن سبيل
الله وكفرٌ به، وإخراجُ أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام.
قال أبو جعفر: وهذان الخبران اللذان ذكرناهما عن مجاهد
والضحاك، ينبئان عن صحة ما قلنا في رفع"الصد" و"الكفر به"، (2)
وأن رافعه"أكبر عند الله". وهما يؤكدان صحّة ما روينا في ذلك
عن ابن عباس، ويدلان على خطأ من زعم أنه مرفوعٌ على العطف
على"الكبير"، وقولِ من زعم أن معناه: وكبيرٌ صدٌّ عن سبيل
الله،
__________
(1) هكذا في المطبوعة، وأظن الصواب: "وكان يسميهما".
(2) في المطبوعة"في رفع الصد به" والصواب ما أثبت.
(4/310)
وزعم أن قوله:"وإخراجُ أهله منه أكبر عند
الله"، خبر منقطع عما قبله مبتدأ.
* * *
4094 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا
إسمعيل بن سالم، عن الشعبي في قوله:" والفتنة أكبر من القتل"،
قال: يعني به الكفر.
4095 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:" وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله" من ذلك. ثم عيَّر
المشركين بأعمالهم أعمال السوء فقال:" والفتنة أكبر من القتل"،
أي الشرك بالله أكبر من القتل.
* * *
وبمثل الذي قلنا من التأويل في ذلك روي عن ابن عباس:
4096 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبى قال، حدثني عمي قال،
ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما قتل أصحابُ رسول الله
صلى الله عليه وسلم عمرَو بن الحضرمي في آخر ليلة من جُمادى
وأول ليلة من رجب، أرسل المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم يعيِّرونه بذلك، فقال:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ
فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، وغيرُ ذلك أكبر منه:" صدٌّ عن سبيل
الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبر" من الذي
أصابَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر: وأما أهل العربية فإنهم اختلفوا في الذي ارتفع
به قوله:" وصدٌّ عن سبيل الله".
فقال بعض نحويي الكوفيين: في رفعه وجهان: أحدهما، أن يكون"
الصدُّ" مردودًا على" الكبير"، يريد: قل القتالُ فيه كبيرٌ
وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ
(4/311)
به. وإن شئت جعلت" الصد"" كبيرًا"، يريد
به: قل القتالُ فيه كبير، وكبيرٌ الصدُّ عن سبيل الله والكفر
به. (1)
* * *
قال أبو جعفر: قال فأخطأ -يعني الفراء- في كلا تأويليه. وذلك
أنه إذا رفع" الصد" عطفًا به على" كبير"، يصير تأويل الكلام:
قل القتالُ في الشهر الحرام كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله، وكفرٌ
بالله. وذلك من التأويل خلافُ ما عليه أهل الإسلام جميعًا.
لأنه لم يدَّع أحد أن الله تبارك وتعالى جعل القتال في الأشهر
الحرم كفرًا بالله، بل ذلك غير جائز أن يُتَوَهَّم على عاقل
يعقل ما يقولُ أن يقوله. وكيف يجوز أن يقوله ذو فطرة صحيحة،
والله جل ثناؤه يقول في أثر ذلك:" وإخراجُ أهله منه أكبرُ عند
الله"؟! فلو كان الكلام على ما رآه جائزًا في تأويله هذا، لوجب
أن يكون إخراج أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام، كان أعظمَ
عند الله من الكفر به، وذلك أنه يقول في أثره:" وإخراجُ أهله
منه أكبر عند الله". وفي قيام الحجة بأن لا شيء أعظمُ عند الله
من الكفر به، ما يُبين عن خطأ هذا القول.
وأما إذا رفع" الصد"، بمعنى ما زعم أنه الوجه الآخر - وذلك
رفعه بمعنى: وكبير صدٌّ عن سبيل الله، ثم قيل:" وإخراجُ أهله
منه أكبرُ عند الله" - صار المعنى إلى أن إخراجَ أهل المسجد
الحرام من المسجد الحرام، أعظمُ عند الله من الكفر بالله
والصدِّ عن سبيله، وعن المسجد الحرام. ومتأوِّل ذلك كذلك، داخل
من الخطأ في مثل الذي دخل فيه القائلُ القولَ الأوّل: (2) من
تصييره بعض خلال الكفر أعظمَ عند الله
__________
(1) هو قول الفراء، كما سيأتي بعد في النص، وانظر معاني القرآن
1: 141. وقد رد الطبري كلام الفراء ردًا حكيما، وأظهر الفساد
الذي ينطوي عليه قول من يقول في القرآن، وهو لا يحكم النظر في
أحكام الله، فيظن كل جائز في العربية والنحو، جائزا أن يحمل
عليه كتاب الله. وردود الطبري تعلم المرء كيف يتخلق بأخلاق أهل
العلم والإيمان، من الأناة والتوقف والصبر والورع، أن تزل قدم
في هوة من الضلال والجهالة وسوء الرأي.
(2) في المطبوعة: "داخل من الخطأ مثل. . . " سقطت"في" من ناسخ
فيما أرجح.
(4/312)
من الكفر بعينه. وذلك مما لا يُخيل على
أحدٍ خطؤه وفسادُه (1) .
* * *
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول القولَ الأول في رفع"
الصد"، ويزعم أنه معطوف به على" الكبير"، ويجعل قوله:" وإخراج
أهله" مرفوعًا على الابتداء، وقد بينا فسادَ ذلك وخطأ تأويله.
* * *
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في قوله:" يسألونك عن
الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، هل هو منسوخٌ أم
ثابت الحكم؟
فقال بعضهم: هو منسوخ بقوله الله جل وعز: (وَقَاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً)
[سورة التوبة: 36] ، وبقوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)
[سورة التوبة: 5]
* ذكر من قال ذلك:
4097 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال: قال عطاء بن ميسرة: أحلَّ القتالَ في الشهر
الحرام في" براءة" قوله: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ
أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [سورة
التوبة: 36] : يقول: فيهن وفي غيرهن. (2)
4098 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن الزهري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم،
فيما بلغنا، يحرّم القتال في الشهر الحرام، ثم أحِلَّ بعد. (3)
__________
(1) أخال الشيء يخيل: اشتبه. يقال: "هذا الأمر لا يخيل على
أحد"، أي: لا يشكل على أحد. و"شيء مخيل"، أي مشكل.
(2) الأثر: 4097 -"عطاء بن ميسرة" هو عطاء بن أبي مسلم
الخراساني يقال اسم أبيه"عبد الله"، ويقال"ميسرة". مات سنة
135، وانظر الاختلاف فيه، والإشكال في أمره وأمر عطاء بن أبي
رباح في التهذيب في ترجمته.
(3) الأثر: 4098 - هو بعض الأثر السالف: 4086. وانظر التعليق
عليه.
(4/313)
وقال آخرون: بل ذلك حكم ثابتٌ = لا يحلّ
القتال لأحد في الأشهر الحرم بهذه الآية، لأن الله جعل القتال
فيه كبيرًا.
* ذكر من قال ذلك:
4099 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاجُ، عن
ابن جريج، (1) قال: قلت لعطاء:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ
فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، قلت: ما لهم! وإذ ذاك لا يحل لهم أن
يغزوا أهل الشرك في الشهر الحرام، ثم غزوهم بعد فيه؟ فحلف لي
عطاء بالله: ما يحل للناس أن يغزوا في الشهر الحرام، ولا أن
يقاتلوا فيه، وما يستحب. قال: ولا يدعون إلى الإسلام قبل أن
يقاتَلوا، ولا إلى الجزية، تركوا ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله عطاء بن ميسرة:
من أن النهي عن قتال المشركين في الأشهر الحرُم منسوخ بقول
الله جل ثناؤه: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ
اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ
وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ
كَافَّةً) [سورة التوبة: 36] .
وإنما قلنا ذلك ناسخٌ لقوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ
فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه غزَا هوازن بحُنين وثقيفًا بالطائف، وأرسل
أبا عامر إلى أوْطاس لحرب من بها من المشركين، في الأشهر
الحرُم، وذلك في شوال وبعض ذي القعدة، وهو من الأشهر الحرم.
فكان معلومًا بذلك أنه لو كان القتالُ فيهن حرامًا وفيه معصية،
كان أبعد الناس من فعله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) في المطبوعة: ". . . عن ابن جريج، عن مجاهد، قال قلت
لعطاء. . . "، فقوله: "عن مجاهد" خطأ وزيادة مفسدة، فحذفتها.
وانظر الأثر السالف رقم: 4901.
(4/314)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ
كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ
وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ
أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ
الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى
يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ
يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ
فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (217)
وأخرى، أن جميعَ أهل العلم بِسِيَر رسول
الله صلى الله عليه وسلم لا تتدافع أنّ بيعة الرضوان على قتال
قريش كانت في ذي القعدة، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما دعا
أصحابه إليها يومئذ، لأنه بلغه أن عثمان بن عفان قتله المشركون
إذ أرسله إليهم بما أرسله به من الرسالة، فبايع صلى الله عليه
وسلم على أن يناجز القومَ الحربَ ويحاربَهم، حتى رجع عثمان
بالرسالة، جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش الصلح،
فكفَّ عن حربهم حينئذ وقتالهم. وكان ذلك في ذي القعدة، وهو من
الأشهر الحرُم.
فإذ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ صحةُ ما قلنا في قوله:" يسألونك عن
الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، وأنه منسوخ.
فإذا ظنّ ظانّ أن النهي عن القتال في الأشهر الحرُم كان بعد
استحلال النبي صلى الله عليه وسلم إياهن لما وصفنا من حروبه.
فقد ظنّ جهلا. وذلك أن هذه الآية - أعني قوله:" يسألونك عن
الشهر الحرام قتال فيه" - في أمر عبد الله بن جحش وأصحابه، وما
كان من أمرهم وأمر القتيل الذي قتلوه، فأنزل الله في أمره هذه
الآية في آخر جمادى الآخرة من السنة الثانية من مَقْدَم رسول
الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ وهجرته إليها، وكانت وقعةُ
حُنين والطائف في شوال من سنة ثمان من مقدمه المدينة وهجرته
إليها، وبينهما من المدة ما لا يخفى على أحد.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ
حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: ولا يزال مشركو قريش يقاتلونكم
حتى يردوكم عن دينكم إن قدروا على ذلك، كما:-
(4/315)
4100 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة
قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني الزهري ويزيد بن رومان، عن
عروة بن الزبير:" ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم
إن استطاعوا"، أي: هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غيرُ تائبين
ولا نازعين = يعني: على أن يفتنوا المسلمين عن دينهم حتى
يردُّوهم إلى الكفر، كما كانوا يفعلون بمن قدروا عليه منهم قبل
الهجرة. (1)
4101 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" ولا
يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا"، قال:
كفار قريش.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ
دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:" ومن يرتدد منكم عن دينه"،
من يرجع منكم عن دينه، كما قال جل ثناؤه: (فَارْتَدَّا عَلَى
آثَارِهِمَا قَصَصًا) [سورة الكهف: 64] يعني بقوله:"
فارتدَّا"، رجعا. ومن ذلك قيل:" استردّ فلان حقه من فلان"، إذا
استرجعه منه. (2)
وإنما أظهر التضعيف في قوله:" يرتدد" لأن لام الفعل ساكنة
بالجزم، وإذا
__________
(1) الأثر: 4100 - هو بعض الأثر السالف: 4082. والكلام من أول
قوله: "يعني: على أن يفتنوا. . . " ليس في سيرة ابن هشام، ولا
في تاريخ الطبري. فإما أن يكون من كلام الطبري، أو من كلام ابن
حميد، أو بعض رواة الأثر.
(2) انظر ما سلف 3: 163، وفهارس اللغة فيما سلف، ردد"
(4/316)
إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
سكِّنت فالقياس ترك التضعيف، وقد تضعَّف
وتدغم وهي ساكنة، بناء على التثنية والجمع.
* * *
وقوله:" فيمت وهو كافر"، يقول: من يرجع عن دينه دين الإسلام،"
فيمت وهو كافر"، فيمت قبل أن يتوب من كفره، فهم الذين حبَطت
أعمالهم.
* * *
يعني بقوله:" حبطت أعمالهم"، بطلت وذهبت. وبُطولها: ذهابُ
ثوابها، وبطول الأجر عليها والجزاء في دار الدنيا والآخرة.
* * *
وقوله:" وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"، يعني: الذين
ارتدُّوا عن دينهم فماتوا على كفرهم، هم أهل النار المخلَّدون
فيها. (1)
* * *
وإنما جعلهم" أهلها" لأنهم لا يخرجون منها، فهم سكانها
المقيمون فيها، كما يقال:" هؤلاء أهل محلة كذا"، يعني: سكانها
المقيمون فيها.
* * *
ويعني بقوله:" هم فيها خالدون"، هم فيها لابثون لَبْثًا، من
غير أمَدٍ ولا نهاية. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (218) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ذكره: إنّ الذين صَدَّقوا بالله
وبرسوله وبما جاء به = وبقوله:" والذين هاجروا" الذين هجروا
مُساكنة المشركين في أمصارهم
__________
(1) انظر معنى"أصحاب النار" فيما سلف 2: 286.
(2) انظر معنى"خالد" فيما سلف 2: 286- 287، وفهارس اللغة.
(4/317)
ومجاورتهم في ديارهم، فتحولوا عنهم، وعن
جوارهم وبلادهم، (1) إلى غيرها هجرة ... . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . ... (2) لما انتقل عنه إلى ما
انتقل إليه. وأصل المهاجرة:" المفاعلة" من هجرة الرجل الرجلَ
للشحناء تكون بينهما، ثم تستعمل في كل من هجر شيئًا لأمر كرهه
منه. وإنما سمي المهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم" مهاجرين"، لما وصفنا من هجرتهم دورَهم ومنازلهم كراهةً
منهم النزولَ بين أظهر المشركين وفي سلطانهم، بحيث لا يأمنون
فتنتهم على أنفسهم في ديارهم - إلى الموضع الذي يأمنون ذلك.
* * *
وأما قوله:" وجاهدوا" فإنه يعني: وقاتلوا وحاربوا.
* * *
وأصل" المجاهدة"" المفاعلة" من قول الرجل:" قد جَهَد فلان
فلانًا على كذا" -إذا كرَبَه وشقّ عليه-" يجهده جهدًا". فإذا
كان الفعل من اثنين، كل واحد منهما يكابد من صَاحبه شدة ومشقة،
قيل:" فلانٌ يجاهد فلانًا" - يعني: أن كل واحد منهما يفعل
بصاحبه ما يجهده ويشق عليه -" فهو يُجاهده مجاهدة وجهادًا".
* * *
وأما" سبيل الله"، فطريقه ودينه. (3)
* * *
__________
(1) كان الكلام في المطبوعة متصلا بما بعده في موضع هذه النقط،
ولكنه لا يستقيم ولا يطرد. ففصلت بين الكلامين. وظني أن سياق
الكلام وتمامه: "فتحوَّلوا عنهم وعن جوارهم وبلادهم إلى غيرها
هجرة، لما كرهوا من كفرهم وشركهم، وإيثارًا لجوار المؤمنين من
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم"، وسياق الكلام يدل على ذلك.
(2) مكان هذه النقط خرم لا شك فيه، كأن ناسخًا أسقط سطرًا أو
سطرين، وكان صدر الكلام فيما أتوهم. "هجر المكان يهجره هجرًا
وهجرانًا وهجرة: كرهه فخرج منه، تاركًا لما انتقل عنه إلى ما
انتقل إليه" - أو كلامًا هذا معناه.
(3) انظر معنى"سبيل الله" فيما سلف، 2: 497/ 3: 564، 583.
(4/318)
فمعنى قوله إذًا:" والذين هاجروا وجاهدوا
في سبيل الله"، والذين تحوَّلوا من سلطان أهل الشرك هجرةً لهم،
وخوفَ فتنتهم على أديانهم، وحاربوهم في دين الله ليدخلوهم فيه
وفيما يرضي الله =" أولئك يرجون رَحمه الله"، أي: يطمعون أن
يرحمهم الله فيدخلهم جنته بفضل رحمته إياهم.
=" والله غفور"، أي ساتر ذنوبَ عباده بعفوه عنها، متفضل عليهم
بالرحمة. (1)
* * *
وهذه الآية أيضًا ذُكر أنها نزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه.
* ذكر من قال ذلك:
4102 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن
سليمان، عن أبيه، أنه حدثه رجل، عن أبي السَّوار، يحدثه عن
جندب بن عبد الله قال: لما كان من أمر عبد الله بن جحش وأصحابه
وأمر ابن الحضرمي ما كان، قال بعض المسلمين: إن لم يكونوا
أصابوا في سفرهم -أظنه قال: - وِزْرًا، فليس لهم فيه أجرٌ.
فأنزل الله:" إنّ الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل
الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم". (2)
4103 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال،
حدثني الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: أنزل
الله عز وجل القرآنَ بما أنزلَ من الأمر، وفرَّج الله عن
المسلمين في أمر عبد الله بن جحش وأصحابه - يعني: في قتلهم ابن
الحضرمي - فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه
حين نزل القرآن، طمعوا في الأجر، فقالوا: يا رسول الله، أنطمعُ
أن تكون لنا غزوة نُعْطى فيها أجرَ المجاهدين؟ فأنزل الله عز
وجل فيهم:" إنّ الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل
الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفورٌ رحيمٌ".
__________
(1) انظر معنى"غفور" فيما سلف من مراجعه في فهارس اللغة (غفر)
.
(2) الأثر: 4102 - هو من تمام الأثر السالف رقم: 4084، وهو
بتمامه في الدر المنثور 1: 250
(4/319)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ
نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ
الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
فوضعهم الله من ذلك على أعظم الرجاء. (1)
4104 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قال: أثنى الله على أصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم
أحسنَ الثناء فقال:" إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في
سبيل الله أولئك يرجون رحمه الله والله غفورٌ رحيم"، هؤلاء
خيارُ هذه الأمة. ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون، وأنه من
رجَا طلب، ومن خاف هرب.
4105 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ
لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك أصحابك يا محمد عن
الخمر وشُربها.
* * *
و"الخمر" كل شراب خمَّر العقل فستره وغطى عليه. وهو من قول
القائل:" خَمَرت الإناء" إذا غطيته، و"خَمِر الرجل"، إذا دخل
في الخَمَر. ويقال:" هو في خُمار الناس وغُمارهم"، يراد به دخل
في عُرْض الناس. ويقال للضبع:" خامري أم عامر"، أي استتري. وما
خامر العقل من داء وسكر فخالطه وغَمَره فهو"خمر".
__________
(1) الأثر: 3103 - سيرة ابن هشام 2: 255، وهو تمام الأثر
السالف: 4082. وكان في المطبوعة هنا: "فوفقهم الله من ذلك. . .
"، والصواب ما أثبت من ابن هشام.
(4/320)
ومن ذلك أيضا"خِمار المرأة"، وذلك لأنها
تستر [به] رأسها فتغطيه. ومنه يقال:" هو يمشي لك الخمَر"، أي
مستخفيًا، كما قال العجاج:
فِي لامِعِ العِقْبَانِ لا يَأتي الْخَمَرْ ... يُوَجِّهُ
الأرْضَ وَيَسْتَاقُ الشَّجَرْ (1)
ويعني بقوله:" لا يأتي الخمر"، لا يأتي مستخفيًا ولا
مُسارَقةً، ولكن ظاهرًا برايات وجيوش. و"العقبان" جمع"عُقاب"،
وهي الرايات.
* * *
وأما"الميسر" فإنها"المفعل" من قول القائل:" يسَرَ لي هذا
الأمر"، إذا وجب لي" فهو يَيْسِر لي يَسَرًا وَميسِرًا" (2)
و"الياسر" الواجب، بقداح وَجب ذلك، أو فُتاحة أو غير ذلك. (3)
ثم قيل للمقامر،" ياسرٌ ويَسَر"، كما قال الشاعر:
فَبِتُّ كَأَنَّنِي يَسَرٌ غَبِينٌ ... يُقَلِّبُ، بَعْدَ مَا
اخْتُلِعَ، القِدَاحَا (4)
وكما قال النابغة: (5)
__________
(1) ديوانه: 17، من قصيدة يذكر فيها فتوح عمر بن عبيد الله بن
معمر التيمي، سلف منها بيتان في 2: 157. واقرأ التعليق هناك
رقم: 2. ولمعت الرايات: خفقت. وقوله: "يوجه الأرض" يعني جيش
عمر، أي يقشر وجهها من شدة وطئه وكثرته وسرعة سيره، يشبهه
بالسيل. يقال: " وجه المطر الأرض"، قشر وجهها وأثر فيه. وقوله:
"يستاق الشجر"، يقول: جيشه كالسيل المنفجر المتدافع يقشر
الأرض، ويختلع شجرها، ويسوقه.
(2) هذا المعنى لم أصبه في كتب اللغة، وأنا أظنه مجازًا
من"الميسر"، لا أصلا في اشتقاق الميسر منه، لأن حظ صاحب الميسر
واجب الأداء إذا خرج قدحه.
(3) في المطبوعة: "أو مباحه"، ولا معنى لها، وكأن الصواب ما
أثبت. والفتاحة (بضم الفاء) : الحكم بين الخصمين يختصمان إليك.
(4) لم أعرف قائله. والغبين والمغبون: الخاسر. واختلع (بالبناء
للمجهول) : أي قمر ماله وخسره، فاختلع منه، أي انتزع. والمخالع
المقامر، والمخلوع: المقمور ماله. يقول: إنه بات ليلته حزينًا
كاسفًا مطرقًا، إطراق المقامر الذي خسر كل شيء، فأخذ يقلب في
كفيه قداحه مطرقًا متحسرا على ما أصابه ونكبه.
(5) لم أجد البيت في شعر النابغة الذبياني، ولست أدري أهو
لغيره من النوابغ، أم هو لغيرهم.
(4/321)
أَوْ يَاسِرٌ ذَهَبَ القِدَاح بوَفْرِهِ
... أَسِفٌ تآكَلَهُ الصِّدِيقُ مُخَلَّعُ (1)
يعني"بالياسر": المقامر. وقيل للقمار"ميسر".
* * *
وكان مجاهد يقول نحو ما قلنا في ذلك.
4106 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" يسألونك عن الخمر
والميسر" قال: القمار، وإنما سمّي"الميسر" لقولهم:"أيْسِروا
واجْزُرُوا"، كقولك: ضع كذا وكذا.
4107- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: كل القمار من الميسر، حتى لعب
الصبيان بالجوز.
4108 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص قال: قال عبد
الله: إياكم وهذه الكِعاب الموسومة التي تزجرون بها زجرًا،
فإنهن من الميسر. (2)
4109 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال،
حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص مثله.
4110 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن نافع قال،
حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي الأحوص، عن عبد الله
أنه قال: إياكم وهذه الكعاب التي تزجرون بها زَجرًا، فإنها من
الميسر.
__________
(1) الوفر: المال الكثير الواسع. وأسف: حزين بالغ الحزن على ما
فاته، يقال هو: أسف وآسف وأسفان وأسيف. وفي المطبوعة: "بآكله"،
رجحت قراءتها"تآكله". والصديق، واحد وجمع. ومخلع: قد قمر مرة
بعد مرة، فهلك ماله وفني. وقوله: " تآكله الصديق"، تناهبوه
بينهم في الميسر وهم أصدقاؤه، وذلك أشد لحزنه لما يرى من
سرورهم، ولما يؤسفه من ضياع ماله، ويحزنه من لؤم صديقه.
(2) الكعاب والكعبات، جمع كعب وكعبة: وهي فصوص النرد وقوله:
"تزجرونها زجرًا" من الزجر، وهو الحث والدفع، أو من زجر الطير،
هو ضرب من العيافة والتكهن. يريد ما يكون معها من توقع الغيب
وتطلبه. والموسومة: التي وسمت بسمة تميزها تكون علامة فيها.
(4/322)
4111 - حدثني علي بن سعيد الكندي قال،
حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم، عن محمد بن سيرين قال: القمار
ميسرٌ.
4112 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر قال، حدثنا سفيان،
عن عاصم الأحول، عن محمد بن سيرين قال: كل شيء له خَطَرٌ = أو:
في خَطَر، أبو عامر شك = فهو من الميسر. (1)
4113 - حدثنا الوليد بن شجاع أبو همام قال، حدثنا علي بن مسهر،
عن عاصم، عن محمد بن سيرين قال: كل قمار ميسر، حتى اللعب
بالنَّرد على القيام والصِّياح والريشة يجعلها الرجل في رأسه.
4114 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن ابن سيرين
قال: كل لعب فيه قمار من شُرب أو صياح أو قيام، فهو من الميسر.
4115 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا خالد بن الحارث
قال، حدثنا الأشعث، عن الحسن أنه قال: الميسر القمار.
4116 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا المعتمر، عن ليث، عن
طاوس وعطاء قالا كل قمار فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان
بالكعاب والجوز.
4117 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن
سعيد قال: الميسر القمار.
4118 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا
عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص، عن عبيد الله قال: إياكم
وهاتين الكَعْبتين يُزجر بهما زجرًا، فإنهما من الميسر. (2)
4119 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن عليه، عن ابن
أبي
__________
(1) الخطر: الرهن يخاطر عليه، ويقال له"السبق، والندب"
(بالتحريك فيهما) ، وهو كله الذي يوضع في الرهان، فمن سبق أو
غلب أخذه.
(2) انظر التعليق السالف ص: 322، تعليق: 2.
(4/323)
عروبة، عن قتادة قال: أما قوله:"والميسر"،
فهو القمار كله.
4120 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال،
أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عبيد الله بن عمر: أنه
سمع عمر بن عبيد الله يقول للقاسم بن محمد: النرد" ميسر"،
أرأيت الشطرنج؟ ميسر هو؟ فقال القاسم: كل ما ألهى عن ذكر الله
وعن الصلاة فهو ميسر.
4121 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: الميسر القمار. كان الرجل في
الجاهلية يخاطر على أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله
وماله. (1)
4122 - حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي قال: الميسر القمار.
4123 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة قال: الميسر القمار.
4124 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال،
أخبرنا معمر، عن الليث، عن مجاهد وسعيد بن جبير قالا الميسر
القمار كله، حتى الجوز الذي يلعب به الصبيان.
4125 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال،
سمعت عبيد الله بن سليمان يحدث، عن الضحاك قوله:" والميسر"،
قال: القمار.
4126 - حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قال: الميسر القمار.
4127 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا أبو بدر شجاع
__________
(1) المخاطرة: المراهنة، وقمر الرجل صاحبه يقمره (بكسر الميم)
قمرًا: إذا لاعبه في القمار فغلبه.
(4/324)
بن الوليد قال، حدثنا موسى بن عقبة، عن
نافع: أن ابن عمر كان يقول: القمار من الميسر.
4128 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد قال: الميسرُ، قداح العرب وكِعابُ فارس =
قال: وقال ابن جريج: وزعم عطاء بن ميسرة: أن الميسر القمار
كله.
4129 - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد
بن عبد العزيز قال، قال مكحول: الميسر القمار.
4130 - حدثنا الحسين بن محمد الذارع قال، حدثنا الفضل بن
سليمان وشجاع بن الوليد، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر
قال: الميسر القمار.
* * *
وأما قوله:" قل فيهما إثم كبيرٌ ومنافع للناس"، فإنه يعني بذلك
جل ثناؤه: قل يا محمد لهم:" فيهما"، يعني في الخمر والميسر"
إثم كبير"، فالإثم الكبير الذي فيهما ما ذكر عن السدي فيما:-
4131 - حدثني به موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال،
حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله:" فيهما إثمٌ كبير"، فإثم
الخمر أنّ الرجل يشرَب فيسكر فيؤذي الناس. وإثم الميسر أن
يُقامر الرجلُ فيمنعَ الحق ويظلم.
4132 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" قل فيهما إثم كبير"، قال:
هذا أوَّل ما عِيبَتْ به الخمر.
4133 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" قل
فيهما إثم كبير"، يعني ما ينقُص من الدين عند من يشربها.
* * *
(4/325)
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل" الإثم
الكبير" الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في الخمر والميسر: (1)
في"الخمر" ما قاله السدي: (2) زوال عقل شارب الخمر إذا سكر من
شربه إياها حتى يعزب عنه معرفة ربه، وذلك أعظمُ الآثام. وذلك
معنى قول ابن عباس إن شاء الله. وأما في"الميسر"، فما فيه من
الشغل به عن ذكر الله وعن الصلاة، ووقوع العداوة والبغضاء بين
المتياسرين بسببه، كما وصف ذلك به ربنا جل ثناؤه بقوله:
(إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) [سورة
المائدة: 91]
* * *
وأما قوله:" ومنافع للناس"، فإن منافعَ الخمر كانت أثمانها قبل
تحريمها، وما يصلون إليه بشربها من اللذة، كما قال الأعشى في
صفتها.
لَنَا مِنْ ضُحَاها خُبْثُ نَفْسٍ وَكَأْبَةٌ ... وذِكْرَى
هُمُوم مَا تُغِبُّ أَذَاتُهَا ... وَعِنْد العِشَاءِ طِيبُ
نَفْسٍ وَلَذَّةٌ ... وَمَالٌ كَثِير، عِزَّةٌ نَشَوَاتُهَا
(3)
وكما قال حسان:
__________
(1) في المطبوعة: "والذي هو أولى بتأويل الآية الإثم الكبير"
بزيادة"الآية" سبق بها قلم ناسخ، وصواب العبارة في حذفها.
(2) في المطبوعة: "فالخمر ما قاله السدي. . . "، وسياق عبارته
يقتضي ما أثبت.
(3) ديوانه: 61، والأشربة لابن قتيبة: 70 والبيتان مصحفان
تصحيفًا قبيحًا في المطبوعة، في البيت الأول"صحاها" بالصاد
المهملة، و"ما تفك أداتها". وفي البيت الثاني"عده نشواتها" وفي
الأشربة"عدة"، وفي الديوان"غدوة نشواتها" (بضم الغين ونصب
التاء بفتحتين) . ونسخة الديوان أيضًا كثيرة التصحيف، فآثرت
قراءة الكلمة"عزة". وذلك أن الأعشى يقول قبل البيتين:
لَعَمْرُكَ إنَّ الرَّاحَ إِنْ كُنْتَ شاربًا ... لَمُخْتَلِفٌ
آصَالُها وَغَدَاتُها
ثم بين في البيت الثاني أنها في"الضحى" -وهو الغدوة- تعقب خبث
النفس والكآبة والهموم المؤذية. ثم أتبع ذلك بما يكون عند
العشي من طيب النفس واللذة - فلا معنى لإعادة ذكر"الغدوة" مرة
أخرى، بل إنه لو فعل لنقض على نفسه البيت السالف، فصارت الخمر
في الغدوة أو الضحى، مخبثة للنفس، ومبهجة لها في وقت واحد،
وهذا باطل.
فالصواب عندي أن تقرأ"عزة لنشواتها"، كقوله أيضًا: مِنْ
قَهْوَةٍ بَاتَتْ بِبَابِلَ صَفْوَةٍ ... تَدَعَ الفَتَى
مَلِكًا يَمِيلُ مُصَرَّعًا
ويؤيد ذلك أن ابن قتيبة قدم قبل الأبيات السالفة: "وقال في
الخمر أنها تمد في الأمنية" ثم ذكر الأبيات، فمعنى ذلك أنها
تريه أنه صار ملكًا عزيزًا يهب المال الكثير إذا انتشى.
وقوله: "ما تغب أذاتها" من قولهم: "غب الشيء" أي بعد وتأخر.
تقول: "ما يغبك لطفي" أي ما يتأخر عنك يومًا، بل يأتيك كل يوم،
تعني متتابعًا.
(4/326)
فَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا ...
وَأُسْدًا، مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ (1)
وأما منافع الميسر، فما يصيبون فيه من أنصِباء الجزور. وذلك
أنهم كانوا يياسرون على الجزور، وإذا أفلجَ الرجلُ منهم صاحبَه
نحره، ثم اقتسموا أعشارًا على عدد القداح، (2) وفي ذلك يقول
أعشى بني ثعلبة:
وَجَزُورِ أَيْسَارٍ دَعَوْتُ إلَى النَّدَى ... وَنِيَاطِ
مُقْفِرَةٍ أَخَافُ ضَلالَهَا (3)
* * *
__________
(1) ديوانه: 4، والكامل 1: 74، وغيرهما، ونهنهه عن الشيء: زجره
عنه وكفه ومنعه. أي: لا نخاف لقاء العدو.
(2) الأنصباء جمع نصيب. والمياسرة: المقامرة. وفلج سهم المقامر
وأفلج: فاز. وأعشار الجزور: الأنصباء. وكانوا يقسمونه عشرة
أجزاء.
(3) ديوانه: 23. الأيسار جمع يسر: وهو الذي يضرب القداح،
واللاعب أيضًا، وهو المراد هنا. ورواية الديوان"دعوت لحتفها"
والمقفرة: المفازة المقفرة. ونياط المفازة: بعد طريقها، كأنها
نيطت -أي وصلت- بمفازة أخرى، لا تكاد تنقطع. وهو بيت من أبيات
جياد يتمدح فيها الأعشى بفعله، يقول: وَسَبِيئَةٍ ممّا
تُعَتِّقُ بَابِلٌ ... كَدَمِ الذَّبِيحِ، سَلَبْتُهَا
جِرْيالَهَا
وَغَرِيبَةٍ تَأتِي المُلُوكَ حَكِيمَةٍ ... قَد قُلْتُهَا
لِيُقَالَ: مَنْ ذَا قالَهَا!!
وجَزُورِ أيْسَارٍ. . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
وكان الميسر عندهم من كرم الفعال.
(4/327)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
4134 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: المنافع ههنا ما يصيبون
من الجَزور.
4135 - حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي: أما منافعهُما، فإن منفعة الخمر في لذته
وثمنه، ومنفعة الميسر فيما يُصاب من القمار.
4136 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال حدثنا ابن أبي زائدة، عن
ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" قل فيهما إثمٌ كبيرٌ
ومنافعُ للناس"، قال: منافعهما قبل أن يحرَّما.
4137 - حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني
معاوية عن علي، عن ابن عباس:" ومنافع للناس"، قال: يقول فيما
يصيبون من لذتها وفرَحها إذا شربوها.
* * *
واختلف القرأة في قراءة ذلك:
فقرأه عُظْم أهل المدينة وبعضُ الكوفيين والبصريين:" قل فيهما
إثم كبيرٌ" بالباء، بمعنى قل: في شرب هذه، والقمار هذا، كبيرٌ
من الآثام.
وقرأه آخرون من أهل المصرين البصرة والكوفة:"قل فيهما إثمٌ
كثيرٌ"، بمعنى الكثرة من الآثام. وكأنهم رأوا أن"الإثم"
بمعنى"الآثام"، وإن كان في اللفظ واحدًا، فوصفوه بمعناه من
الكثرة. (1)
__________
(1) انظر معنى"الإثم" فيما سلف 3: 406 وما بعدها / ثم ص 550.
(4/328)
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك
بالصواب قراءة من قرأه "بالباء":" قل فيهما إثم كبير"، لإجماع
جميعهم على قوله:" وإثمهما أكبر من نفعهما"، وقراءته بالباء.
وفي ذلك دلالة بيّنة على أن الذي وُصف به الإثم الأول من ذلك،
هو العظم والكبَر، لا الكثرة في العدد. ولو كان الذي وصف به من
ذلك الكثرة، لقيل: وإثمهما أكثر من نفعهما.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ
نَفْعِهِمَا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك عز ذكره: والإثم بشرب [الخمر] هذه
والقمار هذا، أعظمُ وأكبرُ مضرة عليهم من النفع الذي يتناولون
بهما. وإنما كان ذلك كذلك، لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم
على بعض، وقاتَل بعضهم بعضًا، وإذا ياسرُوا وقع بينهم فيه
بسببه الشرُّ، فأدَّاهم ذلك إلى ما يأثمون به.
* * *
ونزلت هذه الآية في الخمر قبل أن يُصرَّح بتحريمها، فأضاف
الإثم جل ثناؤه إليهما، وإنما الإثم بأسبابهما، إذ كان عن
سببهما يحدث.
* * *
وقد قال عددٌ من أهل التأويل: معنى ذلك: وإثمهما بعد تحريمهما
أكبر من نفعهما قبل تحريمهما.
* ذكر من قال ذلك:
4138 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" وإثمهما أكبر من نفعهما"،
قال: منافعهما قبل التحريم، وإثمهما بعدَ ما حرِّما.
4139 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع:"
(4/329)
ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما" ينزل
المنافعَ قبل التحريم، والإثم بعد ما حرِّم.
4140 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرني عبيد بن
سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:" وإثمهما أكبرُ من
نفعهما"، يقول: إثمهما بعد التحريم، أكبر من نفعهما قبل
التحريم.
4141 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"
وإثمهما أكبرُ من نفعهما"، يقول: ما يذهب من الدِّين والإثمُ
فيه، أكبر مما يصيبون في فرحها إذا شربوها.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا ما قلنا في ذلك من التأويل لتواتر
الأخبار وتظاهُرها بأن هذه نزلت قبل تحريم الخمر والميسر، فكان
معلومًا بذلك أن الإثم الذي ذكره الله في هذه الآية فأضافه
إليهما، إنما عنى به الإثم الذي يحدث عن أسبابهما - على ما
وصفنا - لا الإثم بعد التحريم.
* * *
* ذكر الأخبار الدالة على ما قلنا من أن هذه الآية نزلت قبل
تحريم الخمر:
4142 - حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
قيس، عن سالم، عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت:" يسألونك عن
الخمر والميسر قل فيها إثمٌ كبير ومنافع للناس" فكرهها قوم
لقوله:" فيها إثم كبير"، وشربها قوم لقوله:" ومنافع للناس"،
حتى نزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا
الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا
تَقُولُونَ) [سورة النساء: 43] ، قال: فكانوا يدعونها في حين
الصلاة ويشربونها في غير حين الصلاة، حتى نزلت: (إِنَّمَا
الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ
عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) [سورة المائدة: 90] فقال
عمر: ضَيْعَةً لك! اليوم قُرِنْتِ بالميسر!
(4/330)
4143 - حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا أبو
عامر قال، حدثنا محمد بن أبي حميد، عن أبي توبة المصري، قال،
سمعت عبد الله بن عمر يقول: أنزل الله عز وجل في الخمر ثلاثًا،
فكان أول ما أنزل:" يسألونك عن الخمر والميسر قُل فيهما إثم
كبير" الآية، فقالوا: يا رسول الله، ننتفع بها ونشربها كما قال
الله جل وعز في كتابه! ثم نزلت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ
سُكَارَى) الآية، قالوا: يا رسول الله، لا نشربها عند قرب
الصلاة. قال: ثم نزلت: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ) الآية، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: حُرِّمت الخمر". (1)
__________
(1) الحديث: 4143 - أبو عامر: هو العقدي -بفتح العين والقاف-
عبد الملك بن عمرو، وهو ثقة مأمون، روى عنه أحمد، وإسحاق، وابن
المديني، وغيرهم.
محمد بن أبي حميد الأنصاري الزرقي، واسم أبيه"إبراهيم": ضعيف
منكر الحديث، اتفقوا على تضعيفه.
أبو توبة المصري: لا يوجد راو بهذا الاسم، وإنما هو من تخليط
محمد بن أبي حميد. وصحته"أبو طعمة الأموي" بضم الطاء وسكون
العين المهملة، وهو مولى عمر بن عبد العزيز، شامي سكن مصر،
وكان قارئًا، يقرئ القرآن بمصر. وهو تابعي ثقة.
وهذا الحديث رواه الطيالسي في مسنده: 1957، عن محمد بن أبي
حميد"عن أبي توبة المصري"، عن ابن عمر. وزاد في آخره قصة شق
روايا الخمر، شقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر
وعمر. ثم لعن شاربها وعاصرها. إلخ.
ونقل ابن كثير في التفسير 3: 226، القسم الذي هنا فقط، عن مسند
الطيالسي. ولكنه حين رأى الغلط في الإسناد"عن أبي توبة المصري"
-تصرف تصرفًا سديدًا، فأثبته: "عن المصري"، ثم قال: "يعني أبا
طعمة". فلم يغير في أصل الإسناد، وأشار إلى ما هو الصواب.
وذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 314- 315، ونسبه للطيالسي،
والطبري، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في شعب
الإيمان.
والحديث الصحيح من رواية أبي طعمة: ما رواه أحمد في المسند:
5390، في قصة شق زقاق الخمر، ثم قوله صلى الله عليه وسلم:
"لعنت الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها،
والمحمولة إليه، وعاصرها، ومعتصرها، وآكل ثمنها"- من طريق ابن
لهيعة، عن أبي طعمة وقد فصلنا تخريجه في الاستدراك، رقم: 1765
في المسند.
ورواه ابن عبد الحكم، في فتوح مصر، أطول قليلا من رواية
المسند، ص 264 بإسنادين من طريق أبي شريح عبد الرحمن بن شريح،
عن شراحيل بن بكيل- ومن طريق ابن لهيعة، عن أبي طعمة، كلاهما
عن ابن عمر. وشراحيل بن بكيل: تابعي ثقة، ترجمه البخاري في
الكبير 2/2/256. وابن أبي حاتم 2/1/373. ولم يذكرا فيه جرحًا.
(4/331)
4144 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن
واضح قال، حدثنا الحسين، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن قالا
قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا
الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا
تَقُولُونَ) = و" يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبيرٌ
ومنافعُ للناس وإثمهما أكبر من نفعهما"، فنسختها الآية التي في
المائدة، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا
الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) ، الآية.
4145 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عوف،
عن أبي القَمُوص زيد بن علي قال: أنزل الله عز وجلّ في الخمر
ثلاثَ مرات. فأول ما أنزل قال الله:" يسألونك عن الخمر والميسر
قُل فيهما إثمٌ كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبرُ من نفعهما"،
قال: فشربها من المسلمين من شاء الله منهم على ذلك، حتى شرب
رجلان فدخلا في الصلاة فجعلا يَهْجُران كلامًا لا يدري عوف ما
هو، فأنزل الله عز وجل فيهما: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى
تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) ، فشربها من شربها منهم، وجعلوا
يتقونها عند الصلاة، حتى شربها - فيما زعم أبو القموص - رجلٌ،
فجعل ينوح على قتلى بدر:
تُحَيِّي بِالسَّلامَةِ أُمُّ عَمْروٍ ... وَهَلْ لَكِ بَعْدَ
رَهْطِكِ مِنْ سَلامِ (1)
__________
(1) سيأتي في تخريج هذا الأثر، أن رواية هذا الخبر تنسب هذا
الشعر لأبي بكر الصديق، ونفي عائشة لذلك. وهذه الأبيات بعض
أبيات من شعر لأبي بكر بن شعوب، اختلطت بشعر بحير بن عبد الله
بن عامر القشيري. ومراجع الأبيات جميعًا هي: سيرة ابن هشام 3:
30 وتاريخ ابن كثير 3: 341، والوحشيات لأبي تمام: 425،
والاشتقاق: 63، ونسب قريش: 301، ومن نسب لأمه (نوادر) : 82،
وكنى الشعراء (نوادر) : 282، والبخاري 5: 65، وفتح الباري 7:
201، والإصابة (ترجمة أبي بكر بن شعوب) ، وغيرها.
والبيت الأول والرابع والخامس، من أبيات رواها ابن هشام،
والبخاري لأبي بكر بن شعوب، من الشعر الذي ذكر فيه قتلى بدر،
والذي يقول في آخره: يُحَدِّثُنَا الرّسُولُ بأَنْ سَنَحْيَا
... وَكَيفَ حَيَاةُ أَصْدَاءٍ وَهَامِ!
وكان أبو بكر قد أسلم فيما يقال. أما البيتان الثاني والثالث
فهما من أبيات قالها بحير بن عبد الله القشيري، يرثي هشام بن
المغيرة، وكان شريفًا مذكورًا، وكانت قريش تؤرخ بموته، ولما
مات نادى مناد بمكة: "اشهدوا جنازة ربكم"! فقال بحير يرثيه
أبياتًا أولها: ذَرِيني أَصْطَبحْ يَا بَكْرُ، إِنِّي ...
رَأَيْتُ المَوْتَ نَقَّبَ عَنْ هِشَامِ
وقد رواها لبحير بن عبد الله، الآمدي في المؤتلف والمختلف،
وأبو تمام في الوحشيات، وابن دريد في الاشتقاق، ولكن المصعب في
نسب قريش روى هذا البيت والذي يليه لأبي بكر بن شعوب في رثاء
هشام. والصواب فيما أرجح مع من خالف المصعب. فإن البيتين
الثاني والثالث، ظاهر أنهما مقحمان هنا، وهما ليسا في رواية
الثقات، وفيهما ذكر هشام ورثاؤه، وهشام مات قبل الإسلام وقبل
يوم بدر بدهر طويل. وشهد بدرًا ولداه الحارث بن هشام، وأبو جهل
بن هشام = فلا معنى لذكره في رثاء قتلى بدر. هذا خلط في
الرواية، حتى لو صح أن البيتين لأبي بكر بن شعوب.
(4/332)
ذَرِيني أَصْطَبِحْ بَكْرًا، فَإنِّي ...
رَأَيْتُ المَوْتَ نَقَّبَ عَنْ هِشَامِ (1) وَوَدَّ بَنُو
المُغِيرَةِ لَوْ فَدَوْهُ ... بِأَلْفٍ مِنْ رِجَالٍ أَوْ
سَوَامِ ... كَأَيٍّ بالطَّو ... مِنْ الشِّيزَى يُكَلَّلُ
بالسَّنَامِ (2) كَأَيٍّ بالطَّوِىِّ طَوِيِّ بَدْرٍ ... مِنَ
الفِتْيَانِ والحُلَلِ الكِرَامِ (3)
قال: فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فزِعًا
يجرُّ رداءه من الفزع، حتى انتهى إليه، فلما عاينه الرجل، فرفع
رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا كان بيده ليضربه، قال:
أعوذ بالله من غضب الله ورسوله! والله لا أطعمُها
__________
(1) يروى: "يا بكر إني" و"يا هند إني".
(2) في المطبوعة: "كأني"، والصواب"كأي" أي: كم. ويروى"وكم لك
بالطوى" و"ماذا بالطوى". والطوى: البئر المطوية. والشيزى: خشب
أسود تعمل منه القصاع والجفان. والسنام سنام البعير من ظهره.
يقول: كم ألقي في هذه البئر من كريم مطعم. فجعل جفانه هي التي
ألقيت في القليب، كأن لا أحد بعده يخلفه في كرمه وفعاله
وإطعامه الضيف والفقير.
(3) في المطبوعة"كأني" وانظر التعليق السالف. ويروى: "من
القينات" جمع قينة، يقول ذهب اللهو فلا لهو بعدهم ولا منادمة،
ويروى، "والشرب الكرام".
هذا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر بعد النصر في
بدر أن تطرح القتلى في القليب (البئر) . في خبر مذكور في
السير.
(4/333)
أبدًا! فأنزل الله تحريمها: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ) إلى قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ) ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: انتهينا،
انتهينا!! (1)
4146 - حدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا إسحق الأزرق، عن زكريا،
عن سماك، عن الشعبي قال: نزلت في الخمر أربعُ آيات:" يسألونك
عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس"، فتركوها،
ثم نزلت: (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا)
[سورة النحل: 67] ، فشربوها ثم نزلت الآيتان في"المائدة":
(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ)
إلى قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)
4147 - حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي: قال نزلت هذه الآية:" يسألونك عن الخمر
والميسر" الآية، فلم يزالوا بذلك يشربونها، حتى صنع عبد الرحمن
بن عوف طعامًا، فدعا ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
فيهم علي بن أبي طالب، فقرأ: (قُلْ يَا أَيُّهَا
الْكَافِرُونَ) ، ولم يفهمها. فأنزل الله عز وجل يشدد في
الخمر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا
الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا
تَقُولُونَ) ، فكانت لهم حلالا يشربون من صلاة الفجر حتى يرتفع
النهار، أو ينتصف، فيقومون إلى صَلاة الظهر وهم مُصْحُون، (2)
ثم لا يشربونها حتى يُصَلوا العَتَمة - وهي
__________
(1) الحديث: 4145 -عبد الوهاب: هو ابن عبد المجيد الثقفي،
ترجمناه في: 2039. "عوف" هو ابن أبي جميلة الأعرابي، مضى في
2905. زيد بن علي أبو القموص، بفتح القاف وضم الميم: تابعي ثقة
قليل الحديث.
وروايته هذه مرسلة، لا تقوم بها حجة. وقد أشار إليها الحافظ في
الإصابة 7: 21، وأنه رواها الفاكهي في تاريخ مكة، عن يحيى بن
جعفر، عن علي بن عاصم، عن عوف بن أبي جميلة، عن أبي القموص.
وأشار إليها أيضًا في الفتح 7: 201 وجزم بتضعيفها، لمعارضتها
بما رواه الفاكهي نفسه، من وجه صحيح، عن عائشة، قالت: "والله
ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهلية ولا الإسلام، ولقد ترك هو
وعثمان شرب الخمر في الجاهلية". ثم قال الحافظ: "وهي أعلم بشأن
أبيها من غيرها. وأبو القموص لم يدرك أبا بكر، فالعهدة على
الواسطة. فلعله كان من الروافض". وهذا هو الحق.
(2) صحا السكران يصحو فهو صاح، وأصحى فهو مصح: ذهب سكره وأفاق.
(4/334)
العشاء - ثم يشربونها حتى ينتصف الليل،
وينامون، ثم يقومون إلى صلاة الفجر وقد صحوا - فلم يزالوا بذلك
يشربونها حتى صنع سعد بن أبي وقاص طعامًا، فدعا ناسًا من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم فيهم رجل من الأنصار، فشوى لهم رأس
بعير ثم دعاهم عليه، فلما أكلوا وشربوا من الخمر، سكروا وأخذوا
في الحديث. فتكلم سعد بشيء فغضب الأنصاري، فرفع لَحْي البعير
فكسر أنف سعد، (1) فأنزل الله نَسْخ الخمر وتحريمها وقال:
(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ)
إلى قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)
4148 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة - وعن رجل، عن مجاهد - في قوله:"
يسألونك عن الخمر والميسر"، قال: لما نزلت هذه الآية شربها بعض
الناس وتركها بعضٌ، حتى نزل تحريمها في"سورة المائدة".
4149 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" قل فيهما إثمٌ كبير"، قال:
هذا أول ما عِيبت به الخمر. (2)
4150 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا
سعيد، عن قتادة قوله:" يسألونك عن الخمر والميسر قُل فيهما إثم
كبير ومنافع للناس"، فذمَّهما الله ولم يحرِّمهما، لما أراد أن
يبلغ بهما من المدة والأجل. ثم أنزل الله في"سورة النساء" أشد
منها: (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى
تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) ، فكانوا يشربونها، حتى إذا حضرت
الصلاة سكتوا عنها، فكان السكر عليهم
__________
(1) اللحى (بفتح اللام وسكون الحاء) حائط الفم، وهما العظم
الذي فيه الأسنان من داخل الفم، وللبعير والإنسان وغيرهما:
لحيان، أعلى وأسفل.
(2) الأثر: 4149 - مضى بنصه هذا برقم: 4132.
(4/335)
حرامًا. ثم أنزل الله جل وعز في"سورة
المائدة" بعد غزوة الأحزاب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى (لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) فجاء تحريمها في هذه الآية، قليلها وكثيرها، ما
أسكر منها وما لم يسكر. وليس للعرب يومئذ عيش أعجبُ إليهم
منها. (1)
4151 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه عن الربيع قوله:" يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم
كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما"، قال: لما نزلت هذه
الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ربكم يُقدِّم في
تحريم الخمر، قال: ثم نزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى
تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
إنّ ربكم يقدِّم في تحريم الخمر. قال: ثم نزلت: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ) ، فحرّمت الخمر عند ذلك.
4152 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:" يسألونك عن الخمر والميسر" الآية كلها، قال: نسخت
ثلاثةً، (2) في"سورة المائدة"، وبالحدّ الذي حدَّ النبي صلى
الله عليه وسلم، وضَرْب النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قال: كان
النبي صلى الله عليه وسلم يضربهم بذلك حدًّا، ولكنه كان يعمل
في ذلك برأيه، ولم يكن حدًّا مسمًّى وهو حَدٌّ، وقرأ:
(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الآية. (3)
__________
(1) قوله: "عيش" مجاز حسن، لم تقيده كتب اللغة، ويعني به:
المتاع واللذة. وأصل"العيش": المطعم والمشرب وما تكون به
الحياة. فنقل إلى المتاع، ومثله ما جاء في الأثر: "لا عيش إلا
عيش الآخرة"، فأولى أن يفسر بالمتاع واللذة.
(2) يقال: "نسخت ثلاثًا"، أي ثلاث مرات من النسخ، ويجوز"نسخت
ثلاثة" كما هنا، أي ثلاثة نسوخ، لتذكير"النسخ".
(3) يعني أن آية البقرة هذه، نسختها آية المائدة نسخًا واحدًا،
ثم جعل الله حدها الضرب غير مسمى العدد، فكان نسخًا ثانيًا، ثم
اجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه في عدد الضرب وصورته،
فكان اجتهاده نسخًا ثالثًا.
(4/336)
القول في تأويل قوله تعالى:
{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بذلك: ويسألك يا محمد أصحابك: أيّ
شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به؟ فقل لهم يا محمد: أنفقوا
منها العفوَ.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى:" العفو" في هذا الموضع.
فقال بعضهم: معناه: الفضل.
* ذكر من قال ذلك:
4153 - حدثنا عمرو بن علي الباهلي قال، حدثنا وكيع = ح، وحدثنا
ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن
مقسم، عن ابن عباس قال: العفوُ ما فضل عن أهلك.
4154 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"قل العفو"، أي الفضْل.
4155 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة قال: هو الفضل.
4156 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا
عبد الملك، عن عطاء في قوله:"العفو"، قال: الفضل.
4157 - حدثنا موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي قال:"العفو"، يقول: الفضل.
4158 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: كان القوم يعملون
في كل
(4/337)
يوم بما فيه، فإن فضَل ذلك اليوم فَضْل عن
العيال قدَّموه، ولا يتركون عِيالهم جُوَّعًا ويتصدقون به على
الناس.
4159 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
يونس، عن الحسن في قوله:" ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو"،
قال: هو الفضل، فضل المال.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ما كان عفوًا لا يَبين على من أنفقه أو
تصدّق به.
* ذكر من قال ذلك:
4160 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس:" ويسألونك ماذا
ينفقون قل العفو"، يقول: ما لا يتبيَّن في أموالكم.
4161 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن جريج، عن طاوس في قول الله جل وعز:" ويسألونك ماذا ينفقون
قل العفو"، قال: اليسير من كل شيء.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: الوسط من النفقة، ما لم يكن إسرافًا ولا
إقتارًا.
* ذكر من قال ذلك:
4162 - حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر بن
المفضل، عن عوف، عن الحسن في قوله:" ويسألونك ماذا ينفقون قل
العفو"، يقول: لا تجهَد مالك حتى ينفد للناس.
4163 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال: سألت عطاء عن قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل
العفو"، قال: العفو في النفقة: أن لا تجهدَ مالك حتى ينفد
فتسأل الناس.
(4/338)
4164 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين
قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال سألت عطاء عن قوله:"
يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: العفو ما لم يسرفوا ولم
يَقتروا في الحق = قال: وقال مجاهد: العفو صدقة عن ظَهْر غنى.
4165 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا
عوف، عن الحسن في قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال:
هو أن لا تجهد مالك.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:" قل العفو"، خذ منهم ما أتوك به من شيء
قليلا أو كثيرًا.
* ذكر ذلك من قال ذلك:
4166 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" ويسألونك ماذا ينفقون قل
العفو"، يقول: ما أتوك به من شيء قليل أو كثير فاقبله منهم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ما طابَ من أموالكم.
* ذكر من قال ذلك:
4167 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: يقول:
الطيِّبَ منه، يقول: أفضلَ مالك وأطيبَه.
4168 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن
أبيه، عن قتادة قال: كان يقول: العفو، الفضل، يقول: أفضل مالك.
* * *
(4/339)
وقال آخرون: معنى ذلك: الصدقة المفروضة.
* ذكر من قال ذلك:
4169 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد = أو عيسى، عن قيس، عن مجاهد - شك
أبو عاصم = قول الله جل وعز:" قل العفو"، قال: الصدقة
المفروضة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال:
معنى"العفو": الفضلُ من مالِ الرجل عن نفسه وأهله في مؤونتهم
ما لا بد لهم منه. وذلك هو الفضل الذي تظاهرت به الأخبار عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإذن في الصدقة، وصَدقته في
وجوه البر: (1)
* ذكر بعض الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بذلك:
4170 - حدثنا علي بن مسلم قال، حدثنا أبو عاصم، عن ابن عجلان،
عن المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسول الله، عندي
دينار! قال:"أنفقه على نفسك. قال: عندي آخر! قال:"أنفقه على
أهلك. قال: عندي آخر! قال: أنفقه على ولدك! قال: عندي آخر؛
قال: فأنتَ أبْصَرُ! (2)
__________
(1) في المطبوعة: "وصدقة في وجوه البر". والصواب ما أثبت، يعني
أن التصدق بالعفو في وجوه البر، أما الزكاة المفروضة، فلها شأن
آخر، كما سيأتي بعد.
(2) الحديث: 4170 -علي بن مسلم بن سعيد أبو الحسن الطوسي، نزيل
بغداد: ثقة، روى عنه البخاري في صحيحه، وابن معين، وأبو داود،
وغيرهم، مترجم في التهذيب، وتاريخ بغداد 12 108- 109. أبو
عاصم: هو النبيل، الضحاك بن مخلد. ابن عجلان: هو محمد: مضت
ترجمته: 304. المقبري: هو سعيد بن أبي سعيد.
والحديث رواه أحمد في المسند: 7413، بزيادة في أوله، عن يحيى
-وهو القطان- عن ابن عجلان، به، نحوه. وقد بينا هناك تخريجه في
أبي داود، والنسائي، والمستدرك للحاكم، وابن حبان.
وذكره السيوطي 1: 253، ونسبه لهؤلاء والطبري، عدا المسند.
ونقله ابن كثير 1: 503 عن الطبري، ثم قال: "وقد رواه مسلم في
صحيحه". وقد وهم رحمه الله. فإن الحديث ليس في صحيح مسلم، على
اليقين. بعد طول التتبع مني ومن أخي السيد محمود.
(4/340)
4171 - حدثني محمد بن معمر البحراني قال،
حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا ابن جريج، قال، أخبرني أبو
الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: إذا كان أحدكم فقيرًا فليبدأ بنفسه، فإن كان
له فضل فليبدأ مع نفسه بمن يعول، ثم إن وجد فضلا بعد ذلك
فليتصدق على غيرهم". (1)
4172 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن هرون قال، حدثنا
محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن
جابر بن عبد الله قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ
ببيضة من ذهب أصابها في بعض المعادن، فقال: يا رسول الله، خذ
هذه مني صدقة، فوالله ما أصبحت أملك غيرها! فأعرض عنه، فأتاه
من ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه. ثم قال له مثل
ذلك، فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك، فقال: هاتها! مغضبًا،
فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابه شجَّه أو عقَره، ثم قال:"يجيء
أحدكم بماله كله يتصدق به، ويجلس يتكفف الناس!! إنما الصدقة عن
ظهر غِنًى. (2)
__________
(1) الحديث: 4171 -رواه أحمد في المسند: 14323 (3: 305 حلبي) ،
بنحوه، مع قضة في أوله - من طريق أيوب، عن أبي الزبير، عن
جابر.
ورواه مسلم 1: 274، نحو رواية المسند - من طريق الليث بن سعد،
عن أبي الزبير. ثم من طريق أيوب، عن أبي الزبير.
وذكره ابن كثير 1: 503، ونسبه لمسلم. وذكره السيوطي 1: 254،
ونسبه لمسلم والنسائي.
(2) الحديث: 4172 - عاصم بن عمر بن قتادة: مضى في: 1519. ووقع
في المطبوعة"عاصم عن عمر بن قتادة". وهو خطأ واضح.
والحديث رواه أبو داود: 1673، عن موسى بن إسمعيل، عن حماد -وهو
ابن سلمة- عن ابن إسحاق، بهذا الإسناد. ورواه الحاكم في
المستدرك 1: 413، من طريق موسى بن إسمعيل، به وقال: "هذا حديث
صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي 1: 253- 254، وزاد نسبته لابن سعد، وهو في طبقات
ابن سعد 4/2/19، من وجه آخر، من رواية"عمر بن الحكم بن ثوبان"،
عن جابر.
حذفه بالشيء رماه به. تكفف الناس: تعرض لمعروفهم باسطا يده،
ليتلقى منهم ما يتصدقون به عليه. وقوله: "عن ظهر غني" أي عن
غنى يستقيم به أمره ويقوى.
(4/341)
4173 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا
محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن إبراهيم المخرّمي قال: سمعت
أبا الأحوص يحدث، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: ارضَخْ من الفضل، وابدأ بمن تعول، ولا تُلام على
كَفاف". (1)
* * *
= وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستقصاء ذكرها الكتاب.
فإذا كان الذي أذن صلى الله عليه وسلم لأمته، الصدقةَ من
أموالهم بالفضل
__________
(1) الحديث: 4173 - إبرهيم المخرمي: هكذا ثبت في المطبوعة، ولا
يوجد راو -فيما أعلم- بهذا الاسم. والراجح عندي، بل الذي أكاد
أوقن به، أنه محرف عن"إبراهيم الهجري"، فالحديث حديثه. والرسم
مقارب. والهجري: هو إبرهيم بن مسلم العبدي الكوفي، وهو ضعيف.
ضعفه ابن عيينة، والبخاري، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم.
وهذا الحديث جزء من حديث، ذكره السيوطي 1: 254، قال: "أخرج أبو
يعلى، والحاكم وصححه، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: الأيدي ثلاثة، فيد الله العليا، ويد
المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى إلى يوم القيامة،
فاستعفف عن السؤال وعن المسألة ما استطعت، فإن أعطيت خيرًا
فلير عليك، وابدأ بمن تعول، وارضخ من الفضل، ولا تلام على
الكفاف".
وكذلك ذكره المنذري في الترغيب والترهيب 2: 10، وقال: "رواه
أبو يعلى، والغالب على روايته التوثيق. ورواه الحاكم، وصحح
إسناده".
وهكذا حكى السيوطي والمنذري تصحيح الحاكم إياه. ولنا على ذلك
تعقيب: أنه ليس في المستدرك تصحيحه -كما سيأتي. فإن لم يكن
السيوطي نقل عن المنذري وقلده، يكن في نسخة المستدرك المطبوعة
سقط التصحيح الذي حكياه.
وأول الحديث إلى قوله"ويد السائل السفلى" -رواه أحمد في
المسند: 4261، عن القاسم بن مالك، عن الهجري، عن أبي الأحوص،
عن عبد الله -وهو ابن مسعود- مرفوعًا. وذكر الهيثمي في مجمع
الزوائد 3: 97 أوله عن المسند وأبي يعلى، وزيادة آخره عن أبي
يعلى. وقال: "ورجاله موثقون".
ورواية الحاكم إياه - هي في المستدرك 1: 408، بثلاثة أسانيد،
لم يذكر لفظه فيها كاملا. بل ذكر في أولها أنه سقط عليه تمام
الحديث، ثم ذكر في الآخرين بعض الحديث، ولم يذكره كله. ولم
يذكر فيه تصحيحًا ولا تضعيفًا، ولا قال الذهبي شيئًا في ذلك في
مختصره.
رضخ له من ماله يرضخ رضخًا، ورضخ له رضيخة: أعطاه القليل
اليسير. والكفاف: هو الذي يكف المرء عن سؤال الناس: يقول: إذا
لم يكن عندك فضل مال تبذله، لم تلم على أن لا تعطي أحدًا.
(4/342)
عن حاجة المتصدق، فالفضل من ذلك هو"العفو"
من مال الرجل، (1) إذْ كان"العفو"، في كلام العرب، في المال
وفي كل شيء: هو الزيادة والكثرة - ومن ذلك قوله جل ثناؤه:" حتى
عَفَوْا" بمعنى: زادوا على ما كانوا عليه من العدد وكثروا، (2)
ومنه قول الشاعر: (3)
وَلكِنَّا نُعِضُّ السَّيْفَ منا ... بِأَسْوُقِ عَافِيَاتِ
الشَّحْمِ كُومِ (4)
يعني به: كثيرات الشحوم. ومن ذلك قيل للرجل:"خذ ما عفا لك من
فلان"، يراد به ما فضل فصفا لك عن جُهده بما لم يَجْهده = (5)
كان بيِّنًا أنّ الذي أذن الله به في قوله:" قل العفو" لعباده
من النفقة، فأذنهم بإنفاقه إذا أرادوا إنفاقه، هو الذي بيّن
لأمته رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوله:"خير الصدقة ما
أنفقت عن غنى"، وأذِنهم به.
* * *
فإن قال لنا قائل: وما تنكر أن يكون ذلك"العفو" هو الصدقة
المفروضة؟ (6)
__________
(1) في المطبوعة: "الفضل من ذلك. . . " بحذف الفاء، والفاء لا
بد منها ليستقيم الكلام.
(2) انظر ما قاله في معنى"عفا" فيما سلف: 3: 370.
(3) هو لبيد بن ربيعة.
(4) ديوانه قصيدة 2: 19، ثم يأتي في التفسير 9: 6 (بولاق) ،
وفي المطبوعة هنا"يعض السيف منا" وهو خطأ، والصواب ما في
الموضع الآخر والديوان. وهذا البيت من أبيات يفخر فيها
بإكرامهم الضيف، ولا سيما في الشتاء، يقول إذا جاء الشتاء
ببرده وقحطه: فَلاَ نَتَجَاوَزُ العَطِلاتِ مِنْها ... إلى
البَكْرِ المُقَارِبِ والكَزُوم
ولكنّا نُعِضّ السَّيْف. . . ... . . . . . . . . . . . . . .
. . . . .
والضمير في"منها" للإبل. يقول: لا نتجاوز عند الذبح فندع النوق
الطوال الأعناق السمينات، إلى بكر دنيء أو بكر هرم، ولكننا نعض
السيف، أي نضرب بالسيف حتى يعض في اللحم -بعراقيب السمينات
العظام الأسنمة، وهي الكوم، جمع كوماء.
(5) قوله: "كان بينا. . . " جواب قوله: "فإذا كان الذي أذن صلى
الله عليه وسلم. . . " كان بينا. . . "، وأذن هنا بمعنى: أعلم
وأخبر.
(6) "الصدقة المفروضة" يعني: الزكاة المفروضة.
(4/343)
قيل: أنكرنا ذلك لقيام الحجة على أنّ من
حلَّت في ماله الزكاة المفروضة فهلكَ جميعُ ماله إلا قَدْرُ
الذي لَزِم مالَه لأهل سُهْمان الصدقة، أنّ عليه أن يسلمه
إليهم، إذا كانَ هلاكُ ماله بعد تفريطه في أداء الواجب كان لهم
في ماله، إليهم. (1) وذلك لا شك أنه جُهْده - إذا سلّمه إليهم
- لا عفوُه. وفي تسمية الله جل ثناؤه ما علَّم عبادَه وَجْه
إنفاقهم من أموالهم"عفوا"، ما يبطل أن يكون مستحقًا اسم"جهد"
في حالة. وإذا كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ فسادُ قول من زعم أن
معنى"العفو" هو ما أخرجه رب المال إلى إمامه فأعطاه، كائنًا ما
كان من قليل ماله وكثيره، وقولِ من زعم أنه الصدقة المفروضة.
وكذلك أيضًا لا وَجه لقول من يقول إن معناه:"ما لم يتبيّن في
أموالكم"، (2) لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له أبو
لبابة:"إنّ من توبتي أن أنخلع إلى الله ورسوله من مالي صدقة"،
قال النبي صلى الله عليه وسلم:"يكفيك من ذلك الثلث! "، وكذلك
روي عن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له نحوًا
من ذلك. (3) والثلث لا شك أنه بيِّنٌ فَقْدُه من مال ذي المال،
ولكنه عندي كما قال جل ثناؤه: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا
لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ
قَوَامًا) [سورة الفرقان: 67] ، وكما قال جل ثناؤه لمحمد صلى
الله عليه وسلم: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى
عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ
مَلُومًا مَحْسُورًا) [سورة الإسراء: 29] ، وذلك هو ما حدَّه
صلى الله عليه وسلم فيما دون ذلك على قدر المال واحتماله.
* * *
ثم اختلف أهل العلم في هذه الآية: هل هي منسوخة أم ثابتة الحكم
على العباد؟ فقال بعضهم: هي منسوخة، نسختها الزكاة المفروضة.
* ذكر من قال ذلك:
4174 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال،
حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" يسألونك
ماذا ينفقون قل العفو"، قال: كان هذا قبل أن تفرض الصدقة.
4175 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" يسألونك ماذا ينفقون قل
العفو"، قال: لم تفرض فيه فريضة معلومة. ثم قال: (خُذِ
الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجَاهِلِينَ) [سورة الأعراف: 199] ، ثم نزلت الفرائض بعد ذلك
مسمَّاةً.
4176 - حدثني موسى بن هرون قال حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، هذه
نسختها الزكاة.
* * *
وقال آخرون: بل مُثْبَتة الحكم غير منسوخة.
* ذكر من قال ذلك:
4177 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد = أو عيسى، عن قيس = عن
مجاهد - شكّ أبو عاصم قال - قال: العفو الصدقة المفروضة.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن عباس على
ما رواه عنه عطية، من أن قوله:" قل العفو" ليس بإيجاب فرض فُرض
من الله حقًا في ماله، ولكنه إعلامٌ منه ما يرضيه من النفقة
مما يُسخطه، جوابًا منه لمن سأل نبيه
__________
(1) في المطبوعة: "الواجب كان لهم ما له إليهم"، وزيادة"في"
واجبة لتمام المعنى واستقامته يعني:. . . أداء الواجب في ماله
إليهم، وقوله: "كان لهم" صفة لقوله"الواجب".
(2) انظر هذا القول فيما سلف قريبًا ص: 338.
(3) حديث توبة أبي لبابة بن المنذر، وانخلاعه من ماله في
المسند 3: 452، 502 قال، لما تاب الله عليه في أمر غزوة بني
قريظة (انظر سيرة ابن هشام 3: 247، 248) يا رسول الله إن من
توبتي أن أهجر دار قومي، وأن أنخلع من مالي صدقة لله ولرسوله؛
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يجزئ عنك الثلث.
وأما خبر كعب بن مالك، فهو خبر الثلاثة الذين خلفوا (رواه
البخاري في غزوة بني قريظة 6: 7) ، فلما تاب الله عليه قال: إن
من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى رسوله! فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك.
(4/344)
محمدًا صلى الله عليه وسلم عما فيه له
رضًا. فهو أدبٌ من الله لجميع خلقه على ما أدَّبهم به في
الصدقات غير المفروضات ثابتُ الحكم، غيرُ ناسخ لحكم كان قبله
بخلافه، ولا منسوخ بحكم حدث بعده. فلا ينبغي لذي ورع ودين أن
يتجاوز في صدقات التطوعَ وهباته وعطايا النفل وصدقته، ما
أدَّبهم به نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:"إذا كان عند أحدكم
فضل فليبدأ بنفسه، ثم بأهله، ثم بولده"، ثم يسلك حينئذ في
الفضل مسالكه التي ترضي الله ويحبها. وذلك هو"القَوام" بين
الإسراف والإقتار، الذي ذكره الله عز وجل في كتابه = إن شاء
الله تعالى.
* * *
ويقال لمن زعم أن ذلك منسوخ: ما الدلالة على نسخه، وقد أجمع
الجميعُ لا خلاف بينهم: على أن للرجل أن ينفق من ماله صدقةً
وهِبهً ووصيةً، الثلثَ؟ فما الذي دل على أن ذلك منسوخ؟
فإن زعم أنه يعني بقوله:"إنه منسوخ"، أنّ إخراج العفو من المال
غير لازم فرضًا، وإن فرض ذلك ساقطٌ بوجود الزكاة في المال =
= قيل له: وما الدليل على أن إخراج العفو كان فرضًا فأسقطه
فرضُ الزكاة، ولا دلالة في الآية على أن ذلك كان فرضًا، إذ لم
يكن أمرٌ من الله عز ذكره، بل فيها الدلالة على أنها جوابُ ما
سأل عنه القوم على وَجه التعرف لما فيه لله الرضا من الصدقات؟
ولا سبيل لمدَّعي ذلك إلى دلالة توجب صحة ما ادَّعى.
* * *
قال أبو جعفر: وأما القرأة فإنهم اختلفوا في قراءة"العفو".
فقرأته عامة قرأة الحجاز وقرأة الحرمين وعُظم قرأة الكوفيين:"
قل العفو" نصبًا. وقرأه بعض قرأة البصريين:"قل العفو" رفعًا.
فمن قرأه نصبًا جعل"ماذا" حرفًا واحدًا، ونصبه بقوله:"
ينفقون"، على ما قد بيَّنت قبل
(4/346)
- (1) ثم نصب"العفو" على ذلك. فيكون معنى
الكلام حينئذ: ويسألونك أيّ شيء ينفقون؟
ومن قرأ رفعًا جعل"ما" من صلة"ذا"، ورفعوا"العفو". فيكون معنى
الكلام حينئذ: ما الذي ينفقون؟ قل: الذي ينفقون، العفو.
ولو نصب"العفو"، ثم جعل"ماذا" حرفين، بمعنى: يسألونك ماذا
ينفقون؟ قل: ينفقون العفو = ورفع الذين جعلوا"ماذا" حرفًا
واحدًا، بمعنى: ما ينفقون؟ قل: الذي ينفقون، خبرًا = (2) كان
صوابًا صحيحًا في العربية.
وبأي القراءتين قرئ ذلك، فهو عندي صواب، (3) لتقارب معنييهما،
مع استفاضة القراءة بكل واحدة منهما. غير أن أعجبَ القراءتين
إليّ، وإن كان الأمر كذلك، قراءةُ من قرأه بالنصب، لأن من قرأ
به من القرأة أكثر، وهو أعرف وأشهرُ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله عز ذكره:" كذلك يُبين الله لكم
الآيات"، هكذا يبين = أي: ما بينت لكم أعلامي وحُججي -
وهي"آياته" - في هذه السورة، وعرَّفتكم فيها ما فيه خلاصكم من
عقابي، وبينت لكم حدودي وفرائضي، ونبَّهتكم فيها على الأدلة
على وحدانيتي، ثم على حُجج رسولي إليكم، فأرشدتكم إلى ظهور
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء: 292، 293.
(2) يعني: ورفعوه على أنه خبر"الذي ينفقون".
(3) في المطبوعة: "قرئ ذلك عندي صواب" والصواب زيادة"فهو"، أو
يقول: "كان عندي صوابا". .
(4/347)
الهدى = فكذلك أبين لكم في سائر كتابي الذي
أنزلته على نبيِّي محمد صلى الله عليه وسلم آياتي وحُججي
وأوضحها لكم، لتتفكروا في وعدي ووعيدي، وثوابي وعقابي،
فتختاروا طاعتي التي تنالون بها ثوابي في الدار الآخرة، والفوز
بنعيم الأبد، (1) على القليل من اللذات واليسير من الشهوات،
بركوب معصيتي في الدنيا الفانية، التي من ركبها كان معاده
إليّ، ومصيره إلى ما لا قِبَل له به من عقابي وعذابي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
4178 - حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس:" كذلك يبين الله لكم
الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة"، قال: يعني في زوال
الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها.
4179 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" لعلكم تتفكرون في الدنيا
والآخرة"، قال يقول: لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة، فتعرفون
فضل الآخرة على الدنيا.
4180 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال: قوله:" كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون
في الدنيا والآخرة"، قال: أما الدنيا، فتعلمون أنها دار بلاء
ثم فناء، والآخرة دارُ جزاء ثم بقاء، فتتفكرون فتعملون للباقية
منهما = قال: وسمعت أبا عاصم يذكر نحو هذا أيضًا.
4181 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
__________
(1) في المطبوعة: "فتجاوزوا طاعتي. . . " وهو خطأ، والصواب ما
أثبت. يقال: "اخترت فلانًا على فلان"، بمعنى آثرته عليه.
وعدي"الاختيار" بقوله"على" لتضمنها معنى: "فضلت".
(4/348)
قوله: " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم
تتفكرون في الدنيا والآخرة"، وأنه من تفكر فيهما عرف فضل
إحداهما على الأخرى، وعرف أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء، وأن
الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء، فكونوا ممن يَصْرم حاجة الدنيا
لحاجة الآخرة.
* * *
(4/349)
|