تفسير الطبري
جامع البيان ت شاكر الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ
فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا
يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ
شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
معاصيه="حكيم" فيما دبَّر في خلقه، وفيما
حكم وقضَى بينهم من أحكامه، كما:
4778 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" والله عزيز حكيم"،
يقول: عزيز في نقمته، حكيم في أمره.
* * *
وإنما توعَّد الله تعالى ذكره بهذا القول عباده، لتقديمه قبل
ذلك بيان ما حرَّم عليهم أو نهاهم عنه، من ابتداء قوله:" ولا
تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ" إلى قوله:" وللرجال عليهن درجة"
ثم أتبع ذلك بالوعيد ليزدجر أولو النُّهى، وليذكر أولو الحجى،
فيتقوا عقابه، ويحذروا عذابه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم: هو دلالة على عدد الطلاق الذي يكون للرجل فيه
الرجعة على زوجته، والعدد الذي تبين به زوجته منه.
* * *
* ذكر من قال إن هذه الآية أنزلت لأن أهل الجاهلية وأهل
الإسلام قبل نزولها لم يكن لطلاقهم نهاية تبين بالانتهاء إليها
امرأته منه ما راجعها في عدتها منه، فجعل الله تعالى ذكره لذلك
حدًّا، حرَّم بانتهاء الطلاق إليه على الرجل
__________
(1) ومرة أخرى فلينظر الناظر كيف يكون ربط معاني الآيات بعضها
ببعض وأنه برهان على أن هذا المفسر الإمام يربط معاني هذه
الآيات الطوال جميعًا من أول الآية: 221 إلى الآية: 228.
(4/538)
امرأتَه المطلقة، إلا بعد زوج، وجعلها
حينئذ أملك بنفسها منه. (1)
* * *
* (2) ذكر الأخبار الواردة بما قلنا في ذلك:
4779 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن هشام بن عروة، عن
أبيه قال: كان الرجل يطلق ما شاء ثم إن راجع امرأته قبل أن
تنقضي عدتها كانت امرأته، فغضب رجل من الأنصار على امرأته،
فقال لها: لا أقربُك ولا تحلّين مني. قالت له: كيف؟ قال:
أطلِّقك، حتى إذا دنا أجلك راجعتك، ثم أطلقك، فإذا دنا أجلك
راجعتك. قال: فشكت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل
الله تعالى ذكره:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف"الآية.
4780 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن
أبيه، قال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: لا
أؤيك، ولا أدَعك
__________
(1) عند هذا الموضع انتهى التقسيم القديم في النسخة التي نقلت
عنها نسختنا العتيقة ويلي هذا ما نصه:
"وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرًا
على الأصل
بلغ السماعُ من أوله لمحمد وعلى ابني أحمد بن عيسى السعدي
وأحمد بن عمر الجهاري (؟؟) ونصر بن الحسين الطبري، ومحمد بن
علي الأبهري بقراءة محمد بن أحمد بن عيسى على الإمام أبي الحسن
الخصيبي وهو ينظر في كتابه، عن أبي محمد الفرغاني عن أبي جعفر
الخصيبي في شعبان سنة ثمان وأربعمئة"
(2) ابتداء هذا التقسيم:
"بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ يَسِّرْ"
(4/539)
تحلّين. فقالت له: كيف تصنع؟ قال: أطلقك،
فإذا دنا مُضِىُّ عدتك راجعتُك، فمتى تحلّين؟ فأتت النبي صلى
الله عليه وسلم، فأنزل الله:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو
تسريح بإحسان"، فاستقبله الناس جديدًا، من كان طلق ومن لم يكن
طلق. (1)
4781 - حدثنا محمد بن يحيى قال، أخبرنا عبد الأعلى قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قال، كان أهل الجاهلية كان الرجل يطلِّق الثلاث
والعشر وأكثر من ذلك، ثم يراجعُ ما كانت في العِّدة، فجعل الله
حد الطلاق ثلاث تطليقات. (2)
4782 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قال، كان أهل الجاهلية يطلِّق أحدهم امرأته ثم يراجعها، لا
حَّد في ذلك، هي امرأته ما راجعها في عدتها، (3) فجعل الله حد
ذلك يصير إلى ثلاثة قروء، وجعل حدَّ الطلاق ثلاث تطليقات.
4783 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:" الطلاق مرتان"، قال كان الطلاق- قبل أن يجعل الله
الطلاق ثلاثًا- ليس له أمد يطلق الرجل امرأته مائة، ثم إن أراد
أن يراجعها قبل أن تحلّ، كان ذلك له، وطلق رجلٌ امرأته، حتى
إذا كادت أن تحلّ ارتجعها، ثم استأنفَ بها طلاقًا بعد ذلك
ليضارّها بتركها، حتى إذا كان قبل انقضاء عدتها راجعها. وصنع
ذلك مرارًا، فلما علم الله ذلك منه، جعل الطلاق ثلاثًا، مرتين،
ثم بعد المرتين إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان.
4784 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، أما
قوله:
__________
(1) الحديثان: 4779، 4780- هما في معنى واحد بإسنادين إلى هشام
بن عروة وهما مرسلان لأن عروة بن الزبير تابعي. وقد ثبت الحديث
وصح موصولا كما سنذكر إن شاء الله.
وجرير- في الإسناد الأول: هو ابن عبد الحميد الضبي. وابن
إدريس- في الإسناد الثاني: هو عبد الله بن إدريس الأودي.
والحديث رواه الترمذي 2: 219 عن أبي كريب محمد بن العلاء -شيخ
الطبري في الإسناد الثاني- بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظه أحاله
على الرواية الموصولة، كما سيأتي.
ورواه أيضًا -بنحوه- مالك في الموطأ ص: 588 عن هشام بن عروة عن
أبيه. مرسلا وكذلك رواه الشافعي عن مالك. (مسند الشافعي بترتيب
الشيخ عابد السندي 2: 34) .
ورواه البيهقي في السنن الكبرى 7: 333 من طريق الشافعي عن
مالك.
ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن جعفر بن عون عن هشام مرسلا.
كما نقله عنه ابن كثير 1: 537- 538 وكذلك رواه البيهقي 7: 444
من طريق أبي أحمد محمد بن عبد الواب. عن جعفر ابن عون.
وكذلك رواه ابن أبي حاتم -في تفسيره- عن هارون بن إسحاق عن
عبدة بن سليمان عن هشام ابن عروة عن أبيه مرسلا. نقله عنه ابن
كثير 1: 537.
وأما الرواية الموصولة: فإنه رواه الترمذي 2: 218- 219 عن
قتيبة بن سعيد عن يعلى بن ابن شيب عن هشام بن عروة عن أبيه عن
عائشة -بنحوه- مرفوعًا متصلا.
ورواه الحاكم 2: 279- 280 من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب عن
يعلى بن شيب به، نحوه وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد.
ولم يتكلم أحد في يعقوب بن حميد بحجة". وتعقبه الذهبي فقال:
"قد ضعفه غير واحد"! وهذا عجب من الحافظ الذهبي كأن الحديث
انفرد بوصله يعقوب هذ، حتى يقرر الخلاف بين توثيقه وتضعيفه،
وأمامه في الترمذي رواية قتيبة عن يعلى!!
ورواه أيضًا البيهقي 7: 333 من طريق يعقوب بن حميد عن يعلى به.
ثم قال: ورواه أيضًا قتيبة بن سعيد والحميدى عن يعلى بن شبيب
وكذلك قال محمد بن إسحاق بن يسار بمعناه وروى نزول الآية فيه-
عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة".
ورواية ابن إسحاق -التي أشار إليها البيهقي- ذكرها ابن كثير 1:
538 من رواية ابن مردويه من طريق سلمة بن الفضل عن محمد بن
إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة".
وذكر ابن كثير أيضًا -قبل ذلك بأسطر- أنه رواه ابن مردويه"من
طريق محمد بن سليمان عن يعلى بن شبيب مولى الزبير، عن هشام بن
عروة عن أبيه عن عائشة. فذكره بنحوه ما تقدم". يريد رواية عبد
بن حميد عن جعفر بن عون.
فهذان ثقتان روياه عن هشام بن عروة مرفوعًا والرفع زيادة تقبل
من الثقة كما هو معروف. ولا يعل المرفوع بالموقوف بل يكون
الموقوف ميدا للمرفوع ومؤكدًا لصحته.
فيعلى بن شبيب الأسدي مولى آل الزبير: ثقة: ذكره ابن حبان في
الثقات. وترجمه البخاري في الكبير 20 / 40 / 20 / 418 - 419
وابن أبي حاتم في 4/2/301- فلم يذكرا فيه جرحا. وقد رواه
الأسدي. الملقب"لوين".
ومحمد بن إسحاق بن يسار: ثقة لا حجة لمن تكلم فيه.
(2) قوله: "كان أهل الجاهلية، كان الرجل. . . " قد مضى برقم:
4751 في حديث قتادة أيضًا بنفس هذا الإسناد -مثل هذا التعبير
العربي الفصيح، كما أشرنا إليه في التعليق ص: 522
(3) في المخطوطة: "ما داحقها في عدتها" تصحيف فيما أظن ولكن
كيف يجيء مثل هذا التصحيف من كاتب!!
(4/540)
" الطلاق مرتان"، فهو الميقات الذي يكون
عليها فيه الرجعة.
4785 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة
في قوله:" الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" قال:
إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته فيطلقها تطليقتين، فإن أراد أن
يراجعها كانت له عليها رجعة، فإن شاء طلقها أخرى، فلم تحلّ له
حتى تنكح زوجًا غيره.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية على هذا الخبر الذي ذكرنا عدد
الطلاق الذي لكم أيها الناس فيه على أزواجكم الرجعة= إذا كن
مدخولا بهن= تطليقتان. ثم الواجب على من راجع منكم بعد
التطليقتين، إمساكٌ بمعروف، أو تسريح بإحسان، لأنه لا رجعة له
بعد التطليقتين إن سرحها فطلقها الثالثة.
* * *
وقال آخرون إنما أنزلت هذه الآية على نبيّ الله صلى الله عليه
وسلم تعريفًا من الله تعالى ذكره عبادَه سنة طلاقهم نساءهم إذا
أرادوا طلاقهن- لا دلالةً على العدد الذي تبين به المرأة من
زوجها. (1)
* ذكر من قال ذلك:
4786 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مطرف، عن أبي
إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله في قوله:" الطلاق مرّتان
فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" قال: يطلقها بعد ما تطهر من
قبل جماع، ثم يدعها حتى تطهر مرة أخرى، ثم يطلقها إن شاء، ثم
إن أراد أن يراجعها راجعها، ثم إن شاء طلقها، وإلا تركها حتى
تتم ثلاث حيض وتبينُ منه به. (2)
4787 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله
__________
(1) في المطبوعة: "لا دلالة على القدر" تصحيف وتحريف، والصواب
من المخطوطة.
(2) الأثر: 4786 -أخرجه النسائي في السنن 6: 140 بغير هذا
اللفظ وكذلك البيهقي في السنن 7: 332 وابن ماجه 1: 651.
(4/542)
بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي
بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف
أو تسريح بإحسان" قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين، فليتق
الله في التطليقة الثالثة، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن
صحابتها، أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئًا.
4788 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف
أو تسريح بإحسان"، قال: يطلق الرجل امرأته طاهرًا من غير جماع،
فإذا حاضت ثم طهرت فقد تم القرء، ثم يطلق الثانية كما يطلق
الأولى، إن أحب أن يفعل، (1) فإذا طلق الثانية ثم حاضت الحيضة
الثانية فهما تطليقتان وقرءان، (2) ثم قال الله تعالى ذكره في
الثالثة:" إمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان"، فيطلقها في ذلك
القرء كله إن شاء حين تجمع عليها ثيابها. (3)
4789 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه- إلا أنه قال: فحاضت الحيضة
الثانية، كما طلق الأولى، فهذان تطليقتان وقرءان، ثمّ قال:
الثالثة- وسائرُ الحديث مثل حديث محمد بن عمرو، عن أبى عاصم.
* * *
قال أبو جعفر: وتأويل الآية على قول هؤلاء: سنة الطلاق التي
سننتها وأبحتها لكم إن أردتم طلاقَ نسائكم، أن تطلقوهن ثنتين
في كل طهر واحدة، ثمّ الواجب بعد ذلك عليكم: إما أن تمسكوهنّ
بمعروف، أو تسرحوهن بإحسان.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "فإن أحب أن يفعل" بزيادة الفاء
وهو لا يستقيم.
(2) قوله: /"وقرءان" هو مثنى"قرء".
(3) في المخطوطة"تجمع عليه" وهو خطأ. يقال: جمعت علي ثيابي إذ
لبست الثياب التي تبرز بها إلى الناس من إزار ورداء وعمامة.
وجمعت المرأة ثيابها: لبست الدرع والملحقة والخمار. وكني
بقوله: "جمعت عليها ثيابها" عن غسلها من حيضتها ولبسها ثيابها
في طهر.
(4/543)
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بظاهر التنزيل
ما قاله عروة وقتادة ومن قال مثل قولهما من أن الآية إنما هي
دليل على عدد الطلاق الذي يكون به التحريم، وبُطولُ الرجعة
فيه، والذي يكون فيه الرجعة منه. وذلك أن الله تعالى ذكره قال
في الآية التي تتلوها: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ
مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) ، فعرَّف عباده
القدرَ الذي به تحرُم المرأة على زوجها إلا بعد زوجٍ- ولم يبين
فيها الوقتَ الذي يجوز الطلاق فيه، والوقتَ الذي لا يجوز ذلك
فيه، فيكون موجَّهًا تأويلُ الآية إلى ما روي عن ابن مسعود
ومجاهد ومن قال بمثل قولهما فيه.
* * *
وأما قوله:" فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، فإنّ في تأويله
وفيما عُني به اختلافًا بين أهل التأويل.
فقال بعضهم: عنى الله تعالى ذكره بذلك الدلالة على اللازم
للأزواج المطلقات اثنتين (1) بعد مراجعتهم إياهن من التطليقة
الثانية- من عشرتهن بالمعروف، أو فراقهن بطلاق. (2)
* ذكر من قال ذلك:
4790 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
ابن جريج قال، قلت لعطاء:"الطلاق مرتان"، قال: يقول عند
الثالثة: إما أن يمسك بمعروف، وإما أن يسرح بإحسان. وغيره
قالها (3) قال: وقال مجاهد: الرجل أملك بامرأته في تطليقتين من
غيره، فإذا تكلم الثالثة فليست منه بسبيل، وتعتدّ لغيره.
__________
(1) في المخطوطة: "اللازم للأزواج المطلقات اثنتين" وفي
المطبوعة: "اللازم للأزواج المطلقات" والذي أثبته أجود
العبارات الثلاث.
(2) في المخطوطة: "أو بفراقهن" بزيادة"باء" لا محل لها هنا.
(3) في المطبوعة: "وغيرها قالها" والصواب من المخطوطة - ويعني:
وغيره قال هذه المقالة، ثم ذكر مقالة مجاهد في تأويل الآية.
هذا ما رأيت إلا أن يكون في الكلام تصحيف.
(4/544)
4791 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو
معاوية، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين قال، أتى النبي صلى
الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله أرأيت قوله:" الطلاق
مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" فأين الثالثة؟ قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:"إمساكٌ بمعروف، أو تسريحٌ بإحسان" هي
الثالثة".
4792 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، وعبد
الرحمن بن مهدي، قالا حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي
رزين قال، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول
الله،"الطلاق مرتان"، فأين الثالثة؟ قال:"إمساك بمعروف، أو
تسريح بإحسان".
4793 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا الثوري، عن إسماعيل، عن أبي رزين قال، قال رجل: يا رسول
الله، يقول الله:" الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف" فأين الثالثة؟
قال:"التسريح بإحسان". (1)
__________
(1) الأحاديث: 4791- 4793 كلها حديث واحد بأسانيد ثلاثة. وهو
حديث مرسل ضعيف كما سنذكر إن شاء الله.
* سفيان في الإسناد الثاني: هو الثوري كما في الإسناد الثالث.
* إسماعيل بن سميع -بضم السين مصغرًا- الحنفي: ثقة مأمون كما
قال ابن معين. ومن تكلم فيه فإنما تكلم من أجل أنه كان يرى رأي
الخوارج.
* أبو رزين -بفتح الراء وكسر الزاي: هو الأسدي أسد خزيمة
واسمه"مسعود" وهو تابعي كوفي ثقة. وبعضهم يقول: "مسعود بن
مالك" فيشتبه براو آخر اسمه"مسعود بن مالك بن معبد" مولى سعيد
بن جبير وهو متأخر عن أبي رزين. وقد حققنا ذلك مفصلا في
المسند: 3551، 7432م، وفي الاستدراك فيه: 707.
* و"أبو رزين الأسدي" هذا تابعي كما قلنا. وهو غير"أبي رزين
العقيلي" ذاك صحابي اسمه"لقيط بن عامر" مضت ترجمته: 3223.
* والإسناد: 4793- هو في تفسير عبد الرزاق ص: 28- 29. وفيه:
"أسمع الله يقول" بدل"يقول الله" وكذلك هو في المصنف لعبد
الرزاق ج 3 ص 301.
* والحديث ذكره ابن كثير 1: 538- 539 من رواية بن أبي حاتم.
وعبد بن حميد وسعيد ابن منصور وابن مردويه- بأسانيدهم، كلهم عن
أبي رزين بنحوه مرسلا. وكذلك رواه البيهقي 7: 340 بإسناده من
رواية سعيد بن منصور.
* وهم الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وهمًا شديدًا إذ نسب هذا
الحديث المرسل لرواية المسند فقال: "ورواه الإمام أحمد أيضًا".
* والحديث ذكره السيوطي 1: 277 وزاد نسبته لوكيع. وأبي داود في
ناسخه وابن المنذر والنحاس.
* وسيقول أبو جعفر بعد قليل مشيرا إلى هذا الحديث: "فإن اتباع
الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بنا من غيره".
وهذا ذهاب منه إلى الاحتجاج بالحديث المرسل. وهو مذهب يختاره
بعض اهل العلم.
* وقد رددت على أبي جعفر -رحمه الله- في كتاب نظام الطلاق في
الإسلام في الفقرة: 29 بعد أن ذكرت كلامه- فقلت: "ونعم إن
الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بنا من غيره وعلى
العين والرأس ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام إذا كان صحيحًا
ثابتًا. ولكن خبر أبي رزين هذا غير صحيح فإنه مرسل غير موصول.
لأن أبا رزين الأسدي تابعي وليس صحابيًا. والمرسل لا حجة فيه،
لأنه عن راو مجهول ثم إنه خبر باطل المعنى جدًا. وحاشا رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يفسر الطلقة الثالثة بهذا، وهي
ثابتة في الآية التي بعدهافي سياق الكلام: (فإن طلقها فلا تحل
له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره) . وإلا كانت طلقة رابعة. وهو
خلاف المعلوم من الدين بالضرورة".
(4/545)
4794 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد
قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد:" أو تسريح بإحسان"
قال في الثالثة.
4795 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق،
عن معمر، عن قتادة قال: كان الطلاق ليس له وقت حتى أنزل الله:"
الطلاق مرتان" قال: الثالثة:" إمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ
بإحسان".
* * *
وقال آخرون منهم: بل عنى الله بذلك الدلالة على ما يلزمهم لهن
بعد التطليقة الثانية من مراجعة بمعروف أو تسريح بإحسان، بترك
رجعتهن حتى تنقضي عدتهن، فيصرن أملك لأنفسهن. وأنكروا قول
الأولين الذين قالوا: إنه دليل على التطليقة الثالثة.
* ذكر من قال ذلك:
4796 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
في قوله: ذلك:" فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، إذا طلق واحدة
أو اثنتين، إما أن يمسك ="ويمسك": يراجع = بمعروف، وإما سكت
عنها
(4/546)
حتى تنقضي عدتها فتكون أحق بنفسها.
4797 - حدثنا علي بن عبد الأعلى قال، حدثنا المحاربي، عن
جويبر، عن الضحاك:" أو تسريح بإحسان" والتسريحُ: أن يدعها حتى
تمضي عدتها. (1)
4798 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا
جويبر، عن الضحاك في قوله:" الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو
تصريح بإحسان"، قال: يعني تطليقتين بينهما مراجعة، فأمر أن
يمسك أو يسرّح بإحسان. قال: فإن هو طلقها ثالثة فلا تحل له حتى
تنكح زوجًا غيره.
* * *
قال أبو جعفر: وكأن قائلي هذا القول الذي ذكرناه عن السدي
والضحاك ذهبوا إلى أنّ معنى الكلام: الطلاق مرتان، فإمساك في
كل واحدةٍ منهما لهن بمعروف، أو تسريحٌ لهن بإحسان.
وهذا مذهب مما يحتمله ظاهرُ التنزيل، لولا الخبرُ الذي ذكرته
عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي رواه إسماعيل بن سميع، عن
أبي رزين، فإنّ اتباع الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أولى بنا من غيره.
فإذْ كان ذلك هو الواجب، فبيِّنٌ أن تأويلَ الآية: الطلاقُ
الذي لأزواج النساء على نسائهم فيه الرجعة، مرتان. ثم الأمرُ
بعد ذلك إذا راجعوهن في الثانية، إما إمساكٌ بمعروف، وإما
تسريح منهم لهن بإحسان بالتطليقة الثالثة حتى تبينَ منهم،
فيبطل ما كان لهم عليهنّ من الرجعة، ويصرن أملك بأنفسهن منهن.
(2)
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما ذلك الإمساك الذي هو بمعروف؟
قيل: هو ما:-
__________
(1) الأثر: 4797-"علي بن عبد الأعلى" لم أجد في شيوخ الطبري من
يسمى"علي ابن عبد الأعى" وسيأتي في الأثر: 4799"علي بن عبد
الأعلى المحاربي" ورقم: 4804. والذي يكثر الرواية عنه في
التفسير هو"محمد بن عبد الأعلى الصنعاني فلا أدري ما الصواب.
(2) في المطبوعة: "أملك لأنفسهن" وأثبت ما في المخطوطة.
(4/547)
4799 - حدثنا به علي بن عبد الأعلى
المحاربي قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن جويبر،
عن الضحاك في قوله:" فإمساك بمعروف"، قال: المعروف: أن يحسن
صحبتها. (1)
4800 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فإمساك
بمعروف"، قال: ليتق الله في التطليقة الثالثة، فإما أن يمسكها
بمعروف فيحسن صحابتها.
* * *
فإن قال: فما التسريح بإحسان؟
قيل: هو ما:-
4801 - حدثني به المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" أو تسريح بإحسان"، قيل: يسرحها،
ولا يظلمها من حقها شيئًا. (2)
4802 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" فإمساك بمعروف أو تسريح
بإحسان"، قال: هو الميثاق الغليظ. (3)
4803 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:" أو تسريح بإحسان" قال: الإحسان: أن يوفيها حقها، فلا
يؤذيها، ولا يشتمها.
4804 - حدثنا علي بن عبد الأعلى قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد
المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك:" أو تسريحٌ بإحسان"، قال:
التسريح بإحسان:
__________
(1) الأثر: 4799- انظر التعليق السالف على الأثر رقم: 4797.
(2) الأثر: 4800، 4801- هما بعض الأثر السالف رقم: 4787. وفي
المطبوعة والمخطوطة في رقم: 4801"قيل: يسرحها. . . " والصواب
ما أثبت.
(3) سيأتي تفسير"الميثاق الغليظ" بعد قليل في رقم: 4805.
(4/548)
أن يدعها حتى تمضي عِدَّتها، ويعطيها مهرًا
إن كان لها عليه إذا طلَّقها. فذلك التسريح بإحسان، والمتعة
على قَدْر الميسرة.
4805 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في
قوله:" وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"قال قوله:" فإمساك بمعروف أو
تسريحٌ بإحسان".
* * *
فإن قال: فما الرافع للإمساك والتسريح؟
قيل: محذوف اكتُفي بدلالة ما ظهر من الكلام من ذكره، ومعناه:
الطلاق مرتان، فالأمر الواجبُ حينئذ به إمساك بمعروف، أو تسريح
بإحسان. وقد بينا ذلك مفسرًا في قوله: (فَاتِّبَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) [سورة البقرة:
178] فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ
تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا
أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" ولا يحل لكم أن تأخذوا
مما أتيتموهن شيئا"، ولا يحل لكم أيها الرجال، أن تأخذوا من
نسائكم، إذا أنتم أردتم طلاقهن- لطلاقكم وفراقكم إياهن (2)
شيئا مما أعطيتموهن من الصداق، وسقتم إليهن، بل الواجب عليكم
تسريحهن بإحسان، وذلك إيفاؤهن حقوقهن من الصداق والمتعة وغير
ذلك مما يجب لهن عليكم"إلا أن يخافا إلا يقيما حدود الله".
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 3: 372.
(2) في المطبوعة: "بطلاقكم" بالباء والصواب من المخطوطة.
(4/549)
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة
ذلك، فقرأه بعضهم:"إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله"، وذلك
قراءة معظم أهل الحجاز والبصرة بمعنى إلا أن يخاف الرجل
والمرأة أن لا يقيما حدود الله، وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي
بن كعب: (إلا أن يظنا ألا يقيما حدود الله) .
4806- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر قال، أخبرني ثور، عن ميمون بن مهران قال: في حرف أبي بن
كعب أن الفداء تطليقة. قال: فذكرت ذلك لأيوب، فأتينا رجلا عنده
مصحف قديم لأبي خرج من ثقة، فقرأناه فإذا فيه: (إلا أن يظنا
ألا يقيما حدود الله، فإن ظنا ألا يقيما حدود الله فلا جناح
عليهما فيما افتدت به لا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) .
* * *
والعرب قد تضع"الظن" موضع"الخوف"،"والخوف" موضع"الظن" في
كلامها، لتقارب معنييهما، (1) كما قال الشاعر: (2)
أتاني كلام عن نصيب يقوله ... وما خفت يا سلام أنك عائبي (3)
بمعنى: ما ظننت.
* * *
__________
(1) هذا بيان فلما تصيبه في كتب اللغة وانظر معاني القرآن
للفراء 1: 145- 146 ففيه بيان أوفى.
(2) هو أبو الغول الطهوي وهو شاعر إسلامي كان في الدولة
المروانية.
(3) البيت في نوادر أبي زيد: 46 ومعاني القرآن للفراء 1: 146
وسيأتي في التفسير 5: 40 (بولاق) ولم أجد خبر"نصيب" و"سلام"
وربما كان نصيب هذا هو أبو الحجناء نصيب الأسود مولى عبد
العزيز بن مروان. فإن أبا الغول، كما أسلفت شاعر إسلامي كان في
الدولة المروانية وهجا حمادا (الأغاني 5: 162) وقال له أيضًا
فيما روى أبو زيد في نوادره ص: 46.
ولقد ملأت على نصيب جلده بمساءة إن الصديق يعاتب
(4/550)
وقرأه آخرون من أهل المدينة والكوفة: (إلا
أن يخافا ألا يقيما حدود الله) .
فأما قارئ ذلك كذلك من أهل الكوفة، (1) فإنه ذكر عنه أنه قرأه
كذلك (2) اعتبارا منه بقراءة ابن مسعود، وذكر أنه في قراءة ابن
مسعود: (إلا أن تخافوا ألا يقيما حدود الله) . وقراءة ذلك
كذلك، اعتبارا بقراءة ابن مسعود التي ذكرت عنه، خطأ وذلك أن
ابن مسعود إن كان قرأه كما ذكر عنه، فإنما أعمل الخوف في"أن"
وحدها، وذلك غير مدفوعة صحته، كما قال الشاعر: (3)
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها
(4) ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
(5)
فأما قارئه:" إلا أن يخافا" بذلك المعنى، فقد أعمل في متروكة
تسميته، (6) وفي"أن"- فأعمله في ثلاثة أشياء: المتروك الذي هو
اسم ما لم يسم فاعله، وفي"أن" التي تنوب عن شيئين، (7) ولا
تقول العرب في كلامها:" ظنا أن يقوما".
ولكن قراءة ذلك كذلك صحيحة، على غير الوجه الذي قرأه من ذكرنا
قراءته كذلك، اعتبارا بقراءة عبد الله الذي وصفنا، ولكن على أن
يكون مرادا به إذا
__________
(1) هو الإمام الكوفي الحبر حمزة بن حبيب الزياتأحد القراء
السبعة.
(2) الذي ذكر هذا هو الفراء في معاني القرآن 1: 146 ولكن عبارة
الفراء تدل على أنه ظن ذلك واستخرجه لا أن حمزة قرأها كذلك
يقينا غير شك. ونص الفراء: "وأما ما قال فإنه إن كان أراد
اعتبار قراءة عبد الله فلم تصبه- والله أعلم". فإن يكن الطبري
أخذه عن الفراء فهذا كلام الفراء وإن اخذه من غيره فهو ثقة
فيما ينقل.
(3) هو أبو محجن الثقفي.
(4) ديوانه: 23 ومعاني القرآن للفراء 1: 146 والخزانة 3: 550
وغيرها كثير وخبر أبي محجن في الخمر وحبها مشهور.
(5) هذا البيت شاهد للنحاة على تخفيف"أن" لوقوعها بعد الخوف
بمعنى العلم واليقين واسمها ضمير شأن محذوف، أو ضمير متكلم
وجملة"لا أذوقها" في محل رفع، خبرها.
(6) يعني أن الفعل قد عمل في نائب الفاعل وفي جملة"أن المخففة
من"أن" كما سيظهر من بيان كلامه. وقد بين ذلك أيضًا الفراء في
معاني القرآن 1: 146- 147.
(7) يعني بقوله: "أن التي تنوب عن شيئين" أنها في موضع
المفعولين، تسد مسدهما.
(4/551)
قرئ كذلك: إلا أن يخاف بأن لا يقيما حدود
الله- أو على أن لا يقيما حدود الله، فيكون العامل في"أن"
غير"الخوف"، ويكون"الخوف"، عاملا فيما لم يسم فاعله. (1) وذلك
هو الصواب عندنا من القراءة (2) لدلالة ما بعده على صحته، وهو
قوله:" فإن خفتم ألا يقيما حدود الله"، فكان بينا أن الأول
بمعنى: إلا أن تخافوا أن لا يقيما حدود الله.
* * *
فإن قال قائل: وأية حال الحال التي يخاف عليهما أن لا يقيما
حدود الله، حتى يجوز للرجل أن يأخذ حينئذ منها ما آتاها؟
قيل: حال نشوزها وإظهارها له بغضته، حتى يخاف عليها ترك طاعة
الله فيما لزمها لزوجها من الحق، ويخاف على زوجها - بتقصيرها
في أداء حقوقه التي ألزمها الله له - تركه أداء الواجب لها
عليه. فذلك حين الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله فيطيعاه
فيما ألزم كل واحد منهما لصاحبه، والحال التي أباح النبي صلى
الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخذ ما كان آتى زوجته إذ
نشزت عليه، بغضا منها له، كما:-
4807 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان
قال، قرأت على فضيل، عن أبي حريز أنه سأل عكرمة، هل كان للخلع
أصل؟ قال: كان ابن عباس يقول: إن أول خلع كان في الإسلام، أخت
عبد الله بن أبي، أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالت: يا رسول الله لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا! إني رفعت
جانب الخباء، فرأيته أقبل في عدة، فإذا هو أشدهم سوادا،
وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها! قال زوجها: يا رسول الله، إني
أعطيتها أفضل مالي! حديقة، فإن ردت على حديقتي! قال:"ما
تقولين؟ " قالت: نعم،
__________
(1) هذا كله قد بينه الفراء في معاني القرآن 1: 146- 147 كما
أسلفنا.
(2) في المطبوعة: "في القراءة" والأجود ما في المخطوطة.
(4/552)
وإن شاء زدته! قال: ففرق بينهما. (1)
4808 - حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا أبو
عمرو السدوسي، عن عبد الله- يعني ابن أبي بكر-، عن عمرة عن
عائشة: أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، (2)
فضربها فكسر نغضها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد
الصبح، فاشتكته، فدعا رسول الله ثابتا، فقال: خذ بعض مالها
وفارقها. قال: ويصلح ذاك يا رسول الله؟ قال: نعم. قال، فإني
أصدقتها حديقتين، وهما بيدها. فقال النبي صلى الله عليه
وسلم:"خذهما وفارقها. ففعل. (3)
__________
(1) الحديث: 4807- المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي: ثقة روى
عنه الأئمة: ابن مهدي وعبد الرزاق وأحمد وإسحاق وغيرهم.
فضيل- بالتصغير: هو ابن ميسرة الأزدي العقيلي وهو ثقة وثقه ابن
معين وغيره.
أبو حريز: هو عبد الله بن الحيسين الأزدي البصري، قاضي سجستان
وهو مختلف فيه، والحق أنه ثقة وثقه ابن معين وأبو زرعة
وغيرهما.
و"أبو حريز": بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وآخره زاي معجمة.
ووقع في المطبوعة وابن كثير وفتح الباري"أبو جرير" وهو تصحيف
ووقع في الإصابة"ابن جرير" وهو خطأ إلى خطأ.
وهذا الحديث صحيح الإسناد. وقد نقله ابن كثير 1: 542 عن هذا
الموضع. وذكره السيوطي 1: 280- 281 ولم ينسباه لغير الطبري
ونقله الحافظ في الفتح 9: 351 قال: "وفي رواية معتمر بن
سليمان. . . " فذكر نحوه مع شيء من الاختلاف في اللفظ. فدل على
أنه نقله من رواية أخرى. ولكنه لم يبين من خرجه كعادته. سها
رحمه الله. وأشار إليه في الإصابة 8: 40 في السطر 3 وما بعده.
منسوبا للطبري فقط.
وقد ثبت نحو معناه من حديث ابن عباس. رواه البخاري 9: 349-
352. بأسانيد. ونقله ابن كثير عن روايات البخاري 1: 541- 542
ثم قال: "وهذا الحديث من أفراد البخاري من هذا الوجه". ثم نقل
نحوه من رواية الإمام أبي عبد الله بن بطة بإسناده عن قتادة عن
عكرمة عن ابن عباس. ثم ذكر أنه رواه ابن مردويه في تفسيره،
وابن ماجه ثم قال: "وهو إسناد جيد مستقيم". ورواية ابن ماجه -
هي في السنن برقم: 2056.
وقوله: "أخت عبد الله بن أبي": هي جميلة بنت عبد الله بن أبي
ابن سلول رأس المنافقين. وهي أخت عبد الله بن عبد الله بن أبي
ابن سلول الصحابي الجليل. نسبت هي وأخوها إلى جدهما اختصارا.
وهذا هو الصحيح الذي رجحه الحافظ وغيره.
ولم يذكر في هذه الرواية -في الطبري- اسم زوجها الذي اختلعت
منه، وهو ثابت بن قيس بن شماس كما دلت على ذلك الروايات الأخر.
وقد ولدت لزوجها ثابت هذا ابنه محمد بن ثابت وهو مترجم في
الإصابة 6: 152 وابن سعد 5: 58- 59. وقد جزم بأن أمه هي جميلة
بنت عبد الله ابن أبي". وقد أبت أمه أن ترضعه بما أبغضت أباه
فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"فبزق في فيه وحنكه
وسماه محمدا. وقال: اختلف به فإن الله رازقه. فأتيته اليوم
الأول والثاني والثالث فإذا امرأة من العرب تسأل عن ثابت بن
قيس فقلت: ما تريدين منه؟ أنا ثابت. فقالت: أريت في منامي كأني
أرضع ابنا له يقال له: محمد فقال: فأنا ثابت وهذا ابني محمد.
قال: وإذا درعها يعتصر من لبنها". رواه الحاكم في المستدرك 2:
210- 211 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه
الذهبي وهو إسناد صحيح متصل لأن السياق يدل على أن محمدا هذا
سمعه من أبيه وحدث به عنه. وقد ذكره الحافظ في ترجمته في
الإصابة، بنحو من هذا.
وهو ييد أن المختلعة من ثابت هي جميلة هذه.
ووقع في المطبوعة: "فلتردد على حديقتي". والصواب ما أثبتنا:
"فإن ردت علي حديقتي". صححناه من المخطوطة وابن كثير والسيوطي.
وجواب الشرط محذوف كما هو ظاهر. وهذا فصيح كثير في كلام
البلغاء.
وانظر: 4810.
(2) في المطبوعة: "بنت سهل" وأثبت ما في المخطوطة.
(3) الحديث: 4808- أبو عامر: هو العقدي. عبد الملك بن عمرو.
أبو عمرو السدوسي: هو سعيد بن سلمة بن أبي الحسام المدني وهو
ثقة. قال أبو سلمة التبوذكي: "ما رأيت كتابا أصح من كتابه".
وذكره ابن حبان في الثقات. ولم يعرفه ابن معين حق معرفته كما
حكى عنه ابن أبي حاتم وضعفه النسائي. ولكن ترجمه البخاري في
الكبير 2/1/438 فلم يذكر فيه حرجا. وهذا كاف في توثيقه خصوصا
وقد أخرج له مسلم في صحيحه.
ولم يجزم البخاري بأن سعيد بن سلمة هو أبو عمرو راوي هذا
الحديث، فقال: "وقال أبو عامر: حدثنا أبو عمرو السدوسي المدني.
فلا أدري هو هذا أم غيره؟ ".
وترجم في التهذيب في الأسماء 4: 41- 42 وفي الكنى 12: 181- 182
وأثبت الحافظ بالدلائل القوية أنهما راو واحد كما سيتبين من
التخريج إن شاء الله.
عبد الله: هو ابن أبي بكر بن عمرو بن حزم.
والحديث رواه أبو داود: 2228 عن محمد بن معمر -شيخ الطبري فيه-
بهذا الإسناد.
وذكره ابن كثير 1: 541 عن أبي داود والطبري. ثم قال: "وأبو
عمرو السدوسي: هو سعيد بن سلمة بن أبي الحسام".
وذكره الحافظ في التهذيب 4: 41- 42 موجزا من رواية أبي داود ثم
قال: "وروى هذا الحديث أحمد بن محمد بن شعيب الرجالي عن محمد
بن معمر عن أبي عامر العقدي عن سعيد بن سلمة عن عبد الله بن
أبي بكر بإسناده. فدلت هذه الرواية على أن أبا عمرو المذكور في
رواية أبي داود-: هو سعيد بن سلمة". ثم قال: "وسيأتي في الكنى
ما يقرر أنهما واحد" ثم قال في"الكنى" من التهذيب 12: 181-
182: "روى أبو محمد بن صاعد في الجزء الخامس من حديثه. حدثنا
محمد ابن معمر القيسي حدثنا أبو عامر العقدي حدثنا أبو عمرو
السدوسي هو سعيد بن سلمة. حدثنا هشام بن علي السيرافي بالبصرة
حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا سعيد بن سلمة بن أبي الحسام
حدثني عبد الله بن أبي بكر- فذكر ذلك الحديث بعينه. فتعين أن
أبا عمرو المديني السدوسي المذكور هو سعيد بن سلمة".
ورواه أيضًا البيهقي 7: 315 من طريق هشام بن علي، عن عبد الله
بن رجاء: "أخبرنا سعيد بن سلمة بن أبي الحسام حدثنا عبد الله
بن أبي بكر. . . " فذكره بزيادة في آخره.
وهذه الطريق مثل الطريق التي حكاها الحافظ آنفًا عن أبي محمد
بن صاعد وهي تيد ما قاله وقلناه.
وذكره السيوطي 1: 280، وزاد نسبته لعبد الرزاق ولم أجده في
التفسير ولا في المنصف لعبد الرزاق ولعله خفي على موضعه في
واحد منهما.
قوله"فكسر نغصها"- النغص، بضم النون وسكون الغين المعجمة وآخره
ضاد معجمة: العظم الرقيق على طرف الكتف. وهذا هو الصواب في هذا
الحرف هنا. وثبت في المطبوعة"بعضها" وكذلك في النسخ المطبوعة
من سنن أبي داود إلا في نسخة بهامش طبعة الهند ذكرت على
الصواب. وهو الصحيح الثابت في مخطوطة الشيخ عابد السندي واضحة
مضبوطة لا تحتمل تصحيفا. وييد ذلك ويقويه: أن رواية
البيهقي"فكسر يدها" وأما كلمة"بعضها"- فإنها قلقة في هذا
الموضع غير مستساغة.
وانظر الحديث التالي لهذا.
(4/553)
4809 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا روح قال،
حدثنا مالك، عن يحيى، عن عمرة أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل
الأنصارية: أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم رآها عند بابه بالغلس، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم من هذه؟ قالت: أنا حبيبة بنت سهل، لا أنا ولا
ثابت بن قيس!! = لزوجها= فلما جاء ثابت قال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم: وهذه حبيبة بنت سهل تذكر ما شاء الله أن تذكر!
. فقالت حبيبة: يا رسول الله، كل ما أعطانيه عندي. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: خذ منها. فأخذ منها، وجلست في بيتها.
(1)
__________
(1) الحديث: 4809- ابن بشار: هو محمد بن بشار شيخ الطبري
وأصحاب الكتب الستة مضت ترجمته في: 304 ووقع في المطبوعة"أبو
يسار"!! وهو تصحيف قبيح. صحح من المخطوطة. روح: هو ابن عبادة.
يحيى- شيخ مالك: هو الأنصاري. النجاري مضت ترجمته: 2154 ووقع
هناك في ترجمته"البخاري" وهو خطأ مطبعي. ومضى على الصواب في:
3395. وهو"يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو بن سهل بن ثعلبة".
فتكون"بيبة بنت سهل بن ثعلبة" صاحبة الحديث والقصة- عمة
جده"قيس بن عمرو".
والحديث في الموطأ ص: 564. ورواه الشافعي عن مالك في الأم 5:
101، 179.
ورواه أحمد في المسند 6: 433- 434 (حلبي) عن عبد الرحمن بن
مهدي عن مالك. ورواه أبو داود 2227، عغن القعنبي عن مالك ورواه
النسائي 2: 104 من طريق ابن القاسم عن مالك ورواه ابن حبان في
صحيحه 6: 436- 437 (من مخطوطة الإحسان) من طريق أبي مصعب أحمد
بن أبي بكر، عن مالك ورواه البيهقي 7: 312- 313 من طريق أبي
داود.
ورواه عبد الرزاق في المصنف (مخطوط مصور) ج 4 في الورقة: 17 عن
ابن جريج عن يحيى بن سعيد به.
ورواه الشافعي في الأم -في الموضعين عقب روايته عن مالك- عن
سفيان بن عيينة عن يحيى ابن سعيد.
ورواه ابن سعد في الطبقات 8: 326 في ترجمة"حبيبة"- عن يزيد بن
هرون عن يحيى بن سعيد عن عمرة: "أن حبيبة بنت سهل. . . " فذكره
مرسلا.
ثم رواه عن عارم بن الفضل عن حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد
-فذكره معضلا حذف منه التابعية والصحابية وقد تبين من الروايات
السابقة أن هذا والذي قبله متصلان على ما في ظاهرهما من
الانقطاع. وذكره متصلا ابن كثير 1: 541 والسيوطي 1: 280.
(4/555)
4810 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن
واضح قال، حدثنا الحسن بن واقد، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح،
عن جميلة بنت أبي ابن سلول، أنها كانت عند ثابت بن قيس فنشزت
عليه، فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا جميلة،
ما كرهت من ثابت؟ قالت: والله ما كرهت منه دينا ولا خلقا، إلا
أني كرهت دمامته! فقال لها: أتردين الحديقة" قالت: نعم! فردت
الحديقة وفرق بينهما. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في شأنهما- أعني في
شأن ثابت بن قيس وزوجته هذه.
__________
(1) الحديث: 4810- يحيى بن واضح: هو أبو تميلة مضت ترجمته في:
392.
الحسين بن واقد المروزي قاضي مرو: ثقة وثقه ابن معين وأثنى
عليه أحمد. وقال فيه ابن المبارك: "ومن لنا مثل الحسين". ووقع
في المطبوعة"الحسن" وهو خطأ بين. ثابت: هو البناني.
عبد الله بن رباح الأنصاري: تابعي ثقة، وثقه ابن سعد والنسائي
وغيرهما وقال ابن خراش: "وهو رجل جليل".
وهذا الإسناد صحيح. ولم أجده إلا عند الطبري هنا وعند ابن عبد
البر في الاستيعاب فرواه ابن عبد البر ص: 732- 733 عن عبد
الوارث بن سفيان عن قاسم بن أصبغ عن أحمد بن زهير عن محمد بن
حميد الرازي -شيخ الطبري هنا- بهذا الإسناد.
وقد تبين من هذه الأحاديث الأربعة: 4807- 4810 ومن غيرها من
الروايات الصحيحة -الاختلاف فيمن اختلعت من ثابت بن قيس بن
شماس: أهي جميلة بنت عبد الله بن أبي سلول أم حبيبة بنت سهل؟
فالراجح أنهما كلتاهما اختلعتا منه. وهو الذي رجحه الحافظ في
الفتح 9: 350 وارتضاه. قال: "والذي يظهر أنهما قصتان وقعتا
لامرأتين. لشهرة الخبرين وصحة الطريقين واختلاف السياقين".
وانظر الإصابة 8: 39- 40، 42، 49.
(4/556)
4811 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين
قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، نزلت هذه الآية في ثابت بن
قيس وفي حبيبة قال، وكانت اشتكته إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تردين عليه حديقته؟
فقالت: نعم! فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له،
فقال: ويطيب لي ذلك؟ قال:"نعم"، قال ثابت: قد فعلت فنزلت:" ولا
يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما
حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما
افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها".
* * *
وأما أهل التأويل فإنهم اختلفوا في معنى"الخوف" منهما أن لا
يقيما حدود الله.
فقال بعضهم: ذلك هو أن يظهر من المرأة سوء الخلق والعشرة
لزوجها، فإذا ظهر ذلك منها له، حل له أن يأخذ ما أعطته من فدية
على فراقها.
* ذكر من قال ذلك:
4812 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ولا يحل لكم أن
تأخذوا مما آتيتموهن شيئا"، إلا أن يكون النشوز وسوء الخلق من
قبلها، فتدعوك إلى أن تفتدي منك، فلا جناح عليك فيما افتدت به.
4813 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، قال ابن جريح:
أخبرني هشام بن عروة أن عروة كان يقول: لا يحل الفداء حتى يكون
الفساد من قبلها، ولم يكن يقول:"لا يحل له"، حتى تقول:"لا أبر
لك قسما، ولا اغتسل لك من جنابة".
4814 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج قال،
(4/557)
أخبرني عمرو بن دينار قال، قال جابر بن
زيد: إذا كان الشر من قبلها حل الفداء. (1)
4815- حدثنا الربيع بن سليمان قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني
ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة أن أباه كان يقول إذا كان سوء
الخلق وسوء العشرة من قبل المرأة فذاك يحل خلعها.
4816 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا محمد بن كثير، عن حماد، عن
هشام، عن أبيه أنه قال: لا يصلح الخلع، حتى يكون الفساد من قبل
المرأة.
4817 - حدثنا عبد الحميد بن بيان القناد قال، حدثنا محمد بن
يزيد، عن إسماعيل، عن عامر في امرأة قالت لزوجها: لا أبر لك
قسما، ولا أطيع لك أمرا، ولا أغتسل لك من جنابة! قال: ما هذا-
وحرك يده-"لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا"!! إذا كرهت
المرأة زوجها فليأخذه وليتركها.
4818 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب،
عن سعيد بن جبير أنه قال في المختلعة: يعظها، فإن انتهت وإلا
هجرها، فإن انتهت وإلا ضربها، فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى
السلطان، فيبعث حكما من أهله وحكما من أهلها، فيقول الحكم الذي
من أهلها: تفعل بها كذا وتفعل بها كذا! ويقول الحكم الذي من
أهله: تفعل به كذا وتفعل به كذا. فأيهما كان أظلم رده السلطان
وأخذ فوق يده، وإن كانت ناشزا أمره أن يخلع.
4819 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" الطلاق مرتان فإمساك
بمعروف" إلى قوله:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به". قال: إذا
كانت المرأة راضية مغتبطة مطيعة، فلا يحل له أن يضربها، حتى
تفتدي منه. فإن أخذ منها شيئا على ذلك، فما أحذ منها فهو حرام،
وإذا كان النشوز والبغض والظلم من قبلها، فقد حل له أن يأخذ
منها ما افتدت به.
__________
(1) في المطبوعة: "إذا كان النشز" كأنه ظنه مصدر"نشز" ولكن
المصدر"نشوز" لا غير وهذا وهم من الطابع. أما المخطوطة ففيها
ما أثبته وهو الصواب المحض.
(4/558)
4820 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا
عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله:" ولا يحل لكم
أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود
الله"، قال: لا يحل للرجل أن يخلع امرأته إلا أن تؤتى ذلك
منها، (1) فأما أن يكون يضارها حتى تختلع، فإن ذلك لا يصلح،
ولكن إذا نشزت فأظهرت له البغضاء، وأساءت عشرته، فقد حل له
خلعها.
4821 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا
جويبر، عن الضحاك في قوله:" ولا يحل لكم أن تأخذوا مما
آتيتموهن شيئا"، قال: الصداق" إلا أن يخافا ألا يقيما حدود
الله" - وحدود الله أن تكون المرأة ناشزة، فإن الله أمر الزوج
أن يعظها بكتاب الله، فإن قبلت وإلا هجرها، والهجران أن لا
يجامعها ولا يضاجعها على فراش واحد، ويوليها ظهره ولا يكلمها،
فإن أبت غلظ عليها القول بالشتيمة لترجع إلى طاعته، (2) فإن
أبت فالضرب ضرب غير مبرح، فإن أبت إلا جماحا فقد حل له منها
الفدية.
* * *
وقال آخرون: بل"الخوف" من ذلك: أن لا تبر له قسما، ولا تطيع له
أمرا، وتقول: لا أغتسل لك من جنابة، ولا أطيع لك أمرا فحينئذ
يحل له عندهم أخذ ما آتاها على فراقه إياها.
* ذكر من قال ذلك:
4822 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن
سليمان، عن أبيه قال، قال الحسن: إذا قالت:"لا أغتسل لك من
جنابة، ولا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا"، فحينئذ حل الخلع.
4823 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال، إذا قالت المرأة لزوجها: لا أبر
لك قسما، ولا أطيع
__________
(1) في المطبوعة: إلا أن يرى ذلك" وهي لا شيء. وفي المخطوطة:
"إلا أن لك لوني" غير منقوطة وهذا صواب قراءتها إن شاء الله.
(2) في المطبوعة: "غلظ عليها" والجيد من المخطوطة ما أثبته.
(4/559)
لك أمرا، ولا أغتسل لك من جنابة، ولا أقيم
حدا من حدود الله"، فقد حل له مالها.
4824 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة،
عن محمد بن سالم قال، سألت الشعبي، قلت: متى يحل للرجل أن يأخذ
من مال امرأته؟ قال: إذا أظهرت بغضه وقالت:"لا أبر لك قسما،
ولا أطيع لك أمرا".
4825 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي
أنه كان يعجب من قول من يقول: لا تحل الفدية حتى تقول:"لا
أغتسل لك من جنابة". وقال: إن الزاني يزني ثم يغتسل! .
4826 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن
إبراهيم في الناشز قال، إن المرأة ربما عصت زوجها، ثم أطاعته،
ولكن إذا عصته فلم تبر قسمه، فعند ذلك تحل الفدية.
4827 - حدثني موسى قال، (1) حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:" ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا"، لا يحل له
أن يأخذ من مهرها شيئا=" إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله"،
فإذا لم يقيما حدود الله، فقد حل له الفداء، وذلك أن
تقول:"والله لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا، ولا أكرم لك
نفسا، ولا أغتسل لك من جنابة"، فهو حدود الله، فإذا قالت
المرأة ذلك فقد حل الفداء للزوج أن يأخذه ويطلقها.
4828 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن
علي بن بذيمة، عن مقسم في قوله: (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما
آتيتموهن إلا أن يفحشن) [سورة النساء: 19] ، في قراءة ابن
مسعود، قال إذا عصتك وآذتك، فقد حل لك ما أخذت منها. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "حدثني يونس" وهو خطأ محض والصواب من
المخطوطة وهو مع ذلك إسناد دائر في التفسير لا يختلف عليه.
(2) الأثر: 4828- سيأتي هذا الأثر بنصه وإسناده في تفسير سورة
النساء 4: 212 (بولاق) وقد كان في المخطوطة والمطبوعة هنا". .
. ببعض ما آتيتموهن يقول إلا أن يفحش" وزيادة"يقول" من النساخ
والصواب من ذلك الموضع من تفسير آية النساء. وسيأتي هناك: "إذ
عضلتك وآذتك" والصواب ما هنا.
(4/560)
4829 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين،
قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله:" ولا يحل لكم
أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا"، قال: الخلع، قال: ولا يحل له
إلا أن تقول المرأة:" لا أبر قسمه ولا أطيع أمره"، فيقبله خيفة
أن يسيء إليها إن أمسكها، ويتعدى الحق. (1)
* * *
وقال آخرون: بل" الخوف" من ذلك أن تبتدئ له بلسانها قولا أنها
له كارهة. (2)
* ذكر من قال ذلك:
4830 - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، قال:
حدثنا أبي وشعيب بن الليث، عن الليث، عن أيوب بن موسى، عن عطاء
بن أبي رباح، قال: يحل الخلع أن تقول المرأة لزوجها:" إني
لأكرهك، وما أحبك، ولقد خشيت أن أنام في جنبك ولا أؤدي حقك" -
وتطيب نفسا بالخلع. (3)
* * *
وقال آخرون: بل الذي يبيح له أخذ الفدية، أن يكون خوف أن لا
يقيما حدود الله منهما جميعا لكراهة كل واحد منهما صحبة الآخر.
* ذكر من قال ذلك:
4831 - حدثنا حميد بن مسعدة قال: حدثنا بشر بن المفضل قال:
حدثنا داود، عن عامر = حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن
داود، قال: قال
__________
(1) في المطبوعة: "أو يتعدى الحق" والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "أن تبتذله بلسانها" جعل مكان"تبتدئ
له""تبتذله" كأن الناسخ أدمج الكلمتين وأخرج منهما كلمة واحدة.
وفي المخطوطة: "سرى" غير منقوطة ولو قرئت: "تنبري" لكان صوابا
أيضًا.
(3) في المطبوعة: "وتطيب نفسك" خطأ صرف والصواب من المخطوطة.
ويعني أن تقول المرأة ذلك للرجل ثم تطيب هي نفسا بالخلع.
(4/561)
عامر =: أحل له مالها بنشوزه ونشوزها.
4832 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: قال
ابن جريج، قال طاوس: يحل له الفداء ما قال الله تعالى ذكره،
ولم يكن يقول قول السفهاء:" لا أبر لك قسما"، ولكن يحل له
الفداء ما قال الله تعالى ذكره:" إلا أن يخافا ألا يقيما حدود
الله"، فيما افترض لكل واحد منهما على صاحبه في العشرة
والصحبة.
4833 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق،
قال: سمعت القاسم بن محمد يقول:" إلا أن يخافا ألا يقيما حدود
الله" قال: فيما افترض الله عليهما في العشرة والصحبة.
4834 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث،
قال: حدثني ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، قال: لا يحل
الخلع حتى يخافا أن لا يقيما حدود الله في العشرة التي بينهما.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال: لا يحل
للرجل أخذ الفدية من امرأته على فراقه إياها، حتى يكون خوف
معصية الله من كل واحد منهما على نفسه - في تفريطه في الواجب
عليه لصاحبه - منهما جميعا، على ما ذكرناه عن طاوس والحسن، ومن
قال في ذلك قولهما; لأن الله تعالى ذكره إنما أباح للزوج أخذ
الفدية من امرأته، عند خوف المسلمين عليهما أن لا يقيما حدود
الله.
* * *
فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت فالواجب أن يكون
حراما على الرجل قبول الفدية منها إذا كان النشوز منها دونه،
حتى يكون منه من الكراهة لها مثل الذي يكون منها؟ (1)
__________
(1) في المطبوعة: "منها له" بزيادة"له" وأثبت ما في المخطوطة.
(4/562)
قيل له: إن الأمر في ذلك بخلاف ما ظننت،
وذلك أن في نشوزها عليه داعية له إلى التقصير في واجبها
ومجازاتها بسوء فعلها به، وذلك هو المعنى الذي يوجب للمسلمين
الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله. فأما إذا كان التفريط من
كل واحد منهما في واجب حق صاحبه قد وجد وسوء الصحبة والعشرة قد
ظهر للمسلمين، فليس هناك للخوف موضع، إذ كان المخوف قد وجد.
وإنما يخاف وقوع الشيء قبل حدوثه، فأما بعد حدوثه فلا وجه
للخوف منه ولا الزيادة في مكروهه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا
حُدُودَ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى:" فإن
خفتم ألا يقيما حدود الله" - التي إذا خيف من الزوج والمرأة أن
لا يقيماها، حلت له الفدية من أجل الخوف عليهما تضييعها. (2)
فقال بعضهم: هو استخفاف المرأة بحق زوجها وسوء طاعتها إياه،
وأذاها له بالكلام.
* ذكر من قال ذلك:
4835 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" فإن خفتم ألا يقيما حدود الله
فلا جناح عليهما فيما افتدت به" قال: هو تركها إقامة حدود
الله، واستخفافها بحق
__________
(1) هذا من الفهم والبصر بطبائع البشر، قد علم الله أبا جعفر
كيف يقول في تفسير الكتاب وكيف ينتزع الحجة على الصواب من كل
وجه يكون البيان عنه دقيقا عسيرا على من لم يوقفه الله لفهمه
وإدراكه.
(2) في المطبوعة: "بصنيعها" وهو كلام فاسد بلا معنى مفهوم.
وكان في المخطوطة"بصنيعها" غير منقوطة فقرأها من قرأها بلا
روية. وقوله"تضييعها" مفعول به للمصدر وهو"الخوف" والمعنى من
أجل الخوف عليهما أن يضيعا حدود الله.
(4/563)
زوجها، (1) وسوء خلقها، فتقول له:" والله
لا أبر لك قسما، ولا أطأ لك مضجعا، ولا أطيع لك أمرا"، فإن
فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية.
4836 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبى بن أبي زائدة، عن يزيد
بن إبراهيم، عن الحسن في قوله:" فإن خفتم ألا يقيما حدود الله
فلا جناح عليهما فيما افتدت به" قال: إذا قالت:" لا اغتسل لك
من جنابة"، حل له أن يأخذ منها. (2)
4837 - حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا
ابن المبارك، قال: حدثنا يونس، عن الزهري قال: يحل الخلع حين
يخافا أن لا يقيما حدود الله، وأداء حدود الله في العشرة التي
بينهما.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فإن خفتم أن لا يطيعا الله.
* ذكر من قال ذلك:
4838 - حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن
عامر:" فإن خفتم ألا يقيما حدود الله" قال: أن لا يطيعا الله.
4839 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي،
قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الحدود: الطاعة.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: فإن خفتم ألا يقيما
حدود الله ما
__________
(1) في المطبوعة: "واستخفافها. . ز" بزيادة"الواو" والصواب من
المخطوطة وهو تفسير لقوله: "تركها إقامة حدود الله" كأن عاد
فقال: "وتركها إقامة حدود الله استخفافها. . . "
(2) الأثر: 4831-"يزيد بن إبراهيم التستري" أبو سعيد البصري
التميمي روى عن الحسن وابن سيرين. وابن أبي مليكة وعطاء وقتادة
وغيرهم. وروى عنه وكيع وبهز بن أسد وعبد الرحمن ابن مهدي وأبو
داود الطيالسي وغيرهم وهو ثقة ثبت من أوسط أصحاب الحسن وابن
سيرين. مات سنة 161.
(4/564)
أوجب الله عليهما من الفرائض، (1) فيما
ألزم كل واحد منهما من الحق لصاحبه، من العشرة بالمعروف،
والصحبة بالجميل، فلا جناح عليهما فيما افتدت به.
وقد يدخل في ذلك ما رويناه عن ابن عباس والشعبي، وما رويناه عن
الحسن والزهري، لأن من الواجب للزوج على المرأة - إطاعته فيما
أوجب الله طاعته فيه، (2) وأن لا تؤذيه بقول، (3) ولا تؤذيه
بقول (4) ، تمتنع عليه إذا دعاها لحاجته، فإذا خالفت ما أمرها
الله به من ذلك كانت قد ضيعت حدود الله التي أمرها بإقامتها.
(5)
* * *
وأما معنى" إقامة حدود الله"، فإنه العمل بها، والمخالفة
عليها، وترك تضييعها- وقد بينا ذلك فيما مضى قبل من كتابنا هذا
بما يدل على صحته. (6)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا
افْتَدَتْ بِهِ}
قال أبو جعفر: يعني قوله تعالى ذكره بذلك: فإن خفتم أيها
المؤمنون ألا يقيم الزوجان ما حد الله لكل واحد منهما على
صاحبه من حق، وألزمه له من فرض، وخشيتم عليهما تضييع فرض الله
وتعدي حدوده في ذلك فلا جناح حينئذ عليهما فيما افتدت به
المرأة نفسها من زوجها، ولا حرج عليهما= فيما أعطت هذه على
__________
(1) في المطبوعة: "فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله ما اوجب"
بزيادة"حدود الله" بين شقي الكلام والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: ". . . على المرأة إطاعته" وهو تغيير لا موجب
له، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: " وأن لا تؤذيه بقول"، بزيادة" أن"ليستقيم
لهم ما درجوا عليه من العبارة. وأبو جعفر يحسن أن يبين عن
نفسه.
(4) الأثر 5919 "محمد بن محمد العطار "، لعله محمد بن محمد بن
عمر بن الحكم يعرف بابن العطار ترجم له الخطيب في تاريخه 3:
203، 204 مات سنة 268. هذا إذا لم يكن في اسمه تحريف ويكون هو
" محمد بن مخلد العطار " مترجم في تاريخ بغداد 3: 30. و"أحمد"
هو: أحمد بن إسحاق الأهوازي شيخ الطبري، مضت ترجمته في رقم:
177، 1841 أو لعله أحمد بن يوسف التغلبي، كما سيأتي في رقم:
5954 وهو الأرجح عندي. "وأبو وائل" هو " أبو وائل القاص
المرادي الصنعاني اليماني" روى عن هانئ مولى عثمان. مترجم في
الكبير 4 / 2 452. ويقال هو نفسه " عبد الله بن بحير الصنعاني
القاص"، روى عن هانئ أيضًا مترجم في ابن أبي حاتم 2 / 2 / 15،
والتهذيب. وهذا الأثر في الدر المنثور 1: 323.
(5) في المطبوعة: ". . . أمرها بإدامتها" ثم"أما معنى إدامة
حدود الله" وهو خطأ ظاهر في هذا الموضع.
(6) انظر ما سلف في تفسير"إقامة الصلاة" 1: 241، و"حدود الله"
3: 546، 547
(4/565)
فراق زوجها إياها (1) ولا على هذا فيما أخذ
منها من الجعل والعوض عليه. (2)
* * *
فإن قال قائل: وهل كانت المرأة حرجة لو كان الضرار من الرجل
بها فيما افتدت به نفسها، (3) فيكون"لا جناح عليهما" فيما
أعطته من الفدية على فراقها (4) إذا كان النشوز من قبلها. (5)
قيل: لو علمت في حال ضراره بها ليأخذ منها ما آتاها أن ضراره
ذلك إنما هو ليأخذ منها ما حرم الله عليه أخذه على الوجه الذي
نهاه الله عن أخذه منها، ثم قدرت أن تمتنع من إعطائه بما لا
ضرر عليها في نفس، ولا دين، ولا حق عليها في ذهاب حق لها - لما
حل لها إعطاؤه ذلك، إلا على وجه طيب النفس منها بإعطائه إياه
على ما يحل له أخذه منها. لأنها متى أعطته ما لا يحل له أخذه
منها، وهي قادرة على منعه ذلك بما لا ضرر عليها في نفس، ولا
دين، ولا في حق لها تخاف ذهابه، فقد شاركته في الإثم بإعطائه
ما لا يحل له أخذه منها على الوجه الذي أعطته
__________
(1) في المخطوطة: "على موافق زوجها إياها" كلمة غير منقوطة ولا
مقروءة كأنها كانت"على مفارقة" ثم أفسدها ناسخ. والذي في
المطبوعة جيد أيضًا.
(2) انظر ما سلف في تفسير"الجناح" بالإثم والحرج 3: 230، 231/
وهذا الجزء 4: 162، 163
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "حتى افتدت" وهو لا يستقيم والذي
يدل عليه سياق الآية وسياق الكلام أن تكون"فيما افتدت". كما
أثبت وسياق الكلام: "وهل كانت المرأة حرجة. . . فيما افتدت به
نفسها""لو كان الضرار من الرجل بها".
وأما قوله: "حرجة" فهي: آثمة. وقد مضى آنفًا ما علقته على
استعمال أبي جعفر والباقلاني هذه الصفة وأنها صواب وإن عدها
أهل اللغة خطأ انظر ما سلف 2: 423 تعليق: 1/ ثم هذا الجزء 4:
224 تعليق 1/ ثم أيضًا ص: 475 تعليق 2/ ثم ما سيأتي في هذه
الصفحة والصفحات التالية.
(4) في المطبوعة: "فيكون لا جناح عليها" بإفراد الضمير
في"عليها" وهو خطأ مفسد لمعنى الكلام كما سيتبين ذلك في شرح
السؤال في التعليق التالي. والصواب من المخطوطة.
(5) رحم الله أبا جعفر: لشد ما وثق بتتبع كان قارئ لكل ما يقول
حتى إنه ليغمض أحيانا إغماضا يشق على المرء إذا لم يتتبع آثاره
في النظر والتفكير. وهذا الاعتراض الذي ساقه في صيغة سؤال
محتاج إلى بيان يكشف عن معناه وعن معنى جوابه إن شاء الله.
فهذا السؤال مبني على سؤال آخر وهو: كيف قيل: "لا جناح عليهما"
بالتثنية و"الجناح" على الرجل وحده في أخذه شيئا مما آتى
امرأته من مهر أو صداق. "فهذا الجناح" هو إتيانه ما حرم الله
عليه إتيانه من الأخذ فكيف جمع بينهما في وضع"الجناح" والجناح
على أحدهما دون الآخر؟
ولا يجوز ان يجمع بينهما في وضع"الجناح" وإسقاطه حتى يكون على
المرأة"جناح" في الإعطاء كجناح الرجل في الأخذ. فإذا صح أنه
محرم على المرأة إعطاء زوجها في حال من الأحوال صح عندئذ أن
يجمع بينهما في وضع"الجناح" فيقال: "فلا جناح عليهما" في الأخذ
والإعطاء.
فمن أجل ذلك سأل هذا السائل عن المرأة إذا أعطت زوجها من مالها
في الحال التي يكون ضرار الرجل فيها داعية إلى"الإعطاء" أتكون
آثمة بإعطائها ما أعطت أم غير آثمة؟ فإذا صح أنها آثمة
بالإعطاء في حال ضرار الرجل بها، جاز عندئذ أن يجمع بينهما
فيقال في حال نشوزها: "لا جناح عليهما" في الأخذ والإعطاء. * *
*
هذا ولم أجد أحدا تناول هذا السؤال بالتفصيل والبيان كما
تناوله أبو جعفر. وقد سأل مثل هذا السؤال أو قريبا منه الفراء
في معاني القرآن 1: 147 وأجاب عنه بجواب سيرده الطبري فيما
بعد. وتناوله الشافعي مختصرا من وجه آخر في الأم 5: 179 ولكن
جوابه عنه غير واضح ولا محكم أما الطبري فقد انفرد بها
الاستقصاء الدقيق لوجوه الفدية وإثم الرجل في الأخذ وإثم
المرأة في الإعطاء.
(4/566)
عليه. فلذلك وضع عنها الجناح إذا كان
النشوز من قبلها، (1) وأعطته ما أعطته من الفدية بطيب نفس،
ابتغاء منها بذلك سلامتها وسلامة صاحبها من الوزر والمأثم.
وهي= إذا أعطته على هذا الوجه= باستحقاق الأجر والثواب من الله
تعالى= أولى إن شاء الله من الجناح والحرج، (2) ولذلك قال
تعالى ذكره:" فلا جناح عليهما" فوضع الحرج عنها فيما أعطته على
هذا الوجه من الفدية على فراقه إياها، وعنه فيما قبض منها إذ
كانت معطية على المعنى الذي وصفنا، وكان قابضا منها ما أعطته
من غير ضرار، بل طلب السلامة لنفسه ولها في أديانهما وحذار
الأوزار والمأثم. (3)
وقد يتجه قوله:" فلا جناح عليهما" وجها آخر من التأويل وهو
أنها لو بذلت ما بذلت من الفدية على غير الوجه الذي أذن نبي
الله صلى الله عليه وسلم لامرأة ثابت بن قيس بن شماس= وذلك
لكراهتها أخلاق زوجها، أو دمامة خلقه، وما أشبه ذلك من الأمور
التي يكرهها الناس بعضهم من بعض- ولكن على الانصراف
__________
(1) في المطبوعة: "فكذلك وضع الجناح" وهو خطأ والصواب من
المخطوطة.
(2) سياق عبارته"وهي. . . باستحقاق الأجر. . . أولى من الجناح
والحرج".
(3) في المخطوطة: "طلب السلامة لنفسه ولها في أورالها" غير
معجمة ولا بينة المعنى وتركت ما في المطبوعة لأنه مطابق
للسياق.
(4/567)
منها بوجهها إلى آخر غيره على وجه الفساد
وما لا يحل لها- كان حراما عليها أن تعطي على مسألتها إياه
فراقها على ذلك الوجه شيئا، لأن مسألتها إياه الفرقة على ذلك
الوجه معصية منها. (1) وتلك هي المختلعة - إن خولعت على ذلك
الوجه - التي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
سماها"منافقة"، كما:
4840 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثني المعتمر بن سليمان،
عن ليث، عن أبي إدريس، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أيما امرأة سألت
زوجها الطلاق من غير بأس، حرم الله عليها رائحة الجنة". (2)
وقال:"المختلعات هن المنافقات"
4841 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مزاحم بن دواد بن علية، عن
أبيه، عن ليث بن أبي سليم، عن أبي الخطاب عن أبي زرعة، عن أبي
إدريس، عن ثوبان مولى رسول الله، عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: والمختلعات هن المنافقات" (3)
4842 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حفص بن بشر، قال: حدثنا قيس
بن الربيع، عن أشعث بن سوار، عن الحسن، عن ثابت بن يزيد، عن
عقبة
__________
(1) في المطبوعة: "معصية منها لله" بالزيادة وأثبت ما في
المخطوطة.
(2) الحديث: 4840- ليث: هو ابن أبي سليم. أبو إدريس: هو
الخولاني عائذ الله ابن عبد الله ثقة من كبار التابعين القدماء
الفقهاء. وليث لم يسمع هذا الحديث منه، كما يظهر من الإسناد
التالي لهذا بينهما روايان.
والحديث في حقيقته حديثان وسيأتي تخريج كل منهما.
(3) الحديث: 4841- مزاحم بن ذواد بن علبة: حسن الحديث على
الأقل. بل هو ثقة. قال أبو حاتم: "يكتب حديثه ولا يحتج به"
وقال النسائي: "لا بأس به" وترجمه البخاري في الكبير 4/2/23
فلم يذكر فيه جرحا.
أبوه"ذاود بن علبة": مضت ترجمته في شرح: 851.
أبو الخطاب: ترجمه ابن أبي حاتم 4/2/365 وسأل أباه عنه، فقال:
"هو مجهول". وسأل أبو زرعة فقال: "لا أعرفه" وذكره البخاري في
الكنى رقم: 220 ولم يذكر فيه جرحا فهو حسن الحديث على الأقل.
أبو زرعة: رجح الحافظ في التهذيب في ترجمة أبي الخطاب 12: 86-
87 أنه"أبو زرعة بن عمرو بن جرير" التابعي الثقة- تبعا لابن
مندة وابن عبد البر وذكر أنهما تبعا في ذلك ابن أبي حاتم إذ
قال في ترجمة أبي الخطاب أنه"روى عن أبي زرعة بن عمرو بن
جرير". وحقا قد قال ذلك ابن أبي حاتم ولكن سها الحافظ عن أنه
تراجع عن ذلك في ترجمة"أبي زرعة" فقط دون نسب 4/2/374 فذكر أنه
روى عن أبي إدريس عن ثوبان وانه روى عنه أبو الخطاب. وذكر أنه
سأل أباه: "من أبو زرعة هذا؟ فقال: مجهول" وقد ذكره البخاري في
الكنى رقم: 283 ولم يذكر فيه جرحا أيضًا.
والحديث رواه الترمذي 2: 216- 217 عن أبي كريب شيخ الطبري هنا
- بهذا الإسناد.
ثم قال: "هذاحديث غريب من هذا الوجه. وليس إسناده بالقوي".
وانظر الحديثين الآتيين: 4843، 4844.
(4/568)
بن عامر الجهني، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: إن المختلعات المنتزعات هن المنافقات. (1)
4843 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب= وحدثني يعقوب،
قال: حدثنا ابن علية = قالا جميعا: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة،
عمن حدثه، عن ثوبان:
__________
(1) الحديث: 4842- حفص بن بشر: لم أجد له ترجمة إلا في ابن أبي
حاتم 1/2/170 قال: "روى عن يعقوب القمي روى عنه أبو كريب". ولم
يذكر فيه جرحا.
قيس بن الربيع الأسدي الكوفي: مختلف فيه، ورجحنا توثيقه في
المسند: 661، 7115. وقد وثقه الثوري وشعبة وغيرهما. الحسن: هو
البصري.
ثابت بن يزيد: هكذا هو هنا وفي ابن كثير نقلا عن الطبري. ولم
أستطع أن أجزم بشيء فيه، فليس في رجال الكتب الستة من يسمى
بهذا في هذه الطبقة طبقة التابعين الذين يروى عنهم مثل الحسن
البصري.
وهناك"ثابت بن يزيد الخولاني": ترجمه البخاري في الكبير
1/2/172 وابن أبي حاتم 1/1/459- 460. وهو يروي عن ابن عمر وقال
بعضهم"عن ابن عمه عن ابن عمر". وهو الصحيح فهذا متأخر قليلا.
ومن المحتمل أن يكون هو الذي هنا. فقد ترجمه الحافظ في لسان
الميزان 2: 80 ووصفه بأنه"المصري" وذكر أنه روى عن أبي هريرة
وعن ابن عباس. وأنه ذكره ابن حبان في الثقات. ومن المعروف أن
عقبة بن عامر ولى إمرة مصر سنة 44- 47 من قبل معاوية وعاش بها
إلى أن مات ودفن بالمقطم رضي الله عنه وأرخ موته سنة 58. فهو
مقارب لوفاة أبي هريرة وابن عباس.
وهناك آخر لم يذكر نسبه. ترجم باسم"ثابت الطائفي"- عند البخاري
1/2/165 وابن أبي حاتم 1/1/461. وذكر كلاهما أنه"رأى جابر بن
عبد الله أتى عقبة بن عامر" فسأله عن حديث.
والحديث نقله ابن كثير 1: 540 عن الطبري، ولم ينسبه لغيره.
وقال: "غريب من هذا الوجه ضعيف". وذكره السيوطي أيضًا 1: 283
ولم ينسبه لغير الطبري.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ج5 ص5، وقال: "رواه الطبراني.
وفيه قيس بن الربيع وثقه الثوري وشعبة وفيه ضعف. وبقية رجاله
رجال الصحيح". هكذا قال! ولا أدري أخطأ هو أم صواب؟ فإن كان
إسناد الطبراني فوق قيس بن الربيع كإسناد الطبري- كان خطأ
غريبا. فإن ثابت ابن يزيد لم نعرف من هو كما ترى! وليس في رجال
الصحيح بهذا الاسم إلا"ثابت بن يزيد الأحول" روى له أصحاب
الكتب الستة، ولكنه متأخر جدا عن هذه الطبقة، مات سنة 169. أي
بعد عقبة بن عامر بأكثر من مائة سنة وعشر سنين وبعد الحسن
البصري بنحو ستين سنة.
وقوله" المنتزعات": الظاهر أن معناها معنى"المختلعات": كأنها
تنتزع نفسها من عقد الزواج ومن سلطان الزوج عليها. وهذا الحرف
ثابت هكذا في جميع المراجع لهذا الحديث، إلا مخطوطة الطبري
ففيها"المتبرعات"! ولا معنى لها في هذا السياق، فهي تصحيف.
وهناك حديث في هذا المعنى فيه حرف قريب من هذا: رواه أبو نعيم
في الحلية 8: 375- 376، من طريق محمد بن هارون الحضرمي -أبي
حامد- عن الحسين بن علي بن الأسود العجلي عن وكيع عن الثوري عن
الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله -هو ابن مسعود- مرفوعا:
"المختلعات والمتبرجات هن المنافقات". فهذا الحرف"المتبرجات"
لعله محرف عن"المنتزعات" فإني لا أثق بتصحيح طبعة كتاب الحلية.
وقد وقع في إسناد الحديث نفسه فيها خطأ آخر، ثبت فيه"حدثنا
فليح" بدل"حدثنا وكيع"! في حين أن كلام أبي نعيم عقبه يدل على
الصواب، إذ قال: "غريب من حديث الأعمش والثوري، تفرد به وكيع".
وهذا الحديث نفسه -أعني حديث ابن مسعود- رواه الخطيب في تاريخ
بغداد 3: 358 في ترجمة"أبي حامد محمد بن هارون" -من طريق
الدارقطني عن محمد بن هارون عن حسين بن علي بن الأسود، عن وكيع
-بهذا الإسناد مرفوعا: "المختلعات هن المنافقات". بدون
ذكر"المتبرجات" وقال الخطيب: "قال لي الحسن: قال الدارقطني: ما
حدث به غير أبي حامد".
وأصح من هذه الروايات كلها ما رواه أحمد في المسند: 9347 (2:
414 حلبي) من حديث الحسن عن أبي هريره. مرفوعا: "المختلعات
والمنتزعات هن المنافقات". وهو حديث صحيح بينا صحته وفصلنا
القول في تخريجه في المسند في شرح الحديث: 7138ج 12ص 114- 116.
(4/569)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيما
امرأة سألت زوجها طلاقا من غير بأس، فحرام عليها رائحة الجنة.
(1)
4844 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عارم، قال: حدثنا حماد بن
زيد،
__________
(1) الحديث: 4843- هذا الإسناد فيه مجهول وقد تبين من الإسناد
التالي أنه"أبو أسماء الرحبي". وهكذا رواه أحمد في المسند 5:
277 (حلبي) عن ابن عليه، بهذا الإسناد وكذلك رواه الترمذي 2:
217 عن محمد بن بشار عن عبد الوهاب الثقفي، به. وهو الطريق
الأول للطبري هنا في هذا الإسناد. وقال الترمذي: "هذا حديث
حسن".
(4/570)
عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء
الرحبي، عن ثوبان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه. (1)
* * *
فإذا كان من وجوه افتداء المرأة نفسها من زوجها ما تكون به
حرجة، وعليها في افتدائها نفسها على ذلك الحرج والجناح= وكان
من وجوهه ما يكون الحرج والجناح فيه على الرجل دون المرأة ومنه
ما يكون عليهما ومنه ما لا يكون عليهما فيه حرج ولا جناح= قيل
في الوجه: الذي لا حرج عليهما فيه لا جناح، (2) إذ كان فيما
حاولا وقصدا من افتراقهما بالجعل الذي بذلته المرأة
لزوجها=:"لا جناح عليهما فيما افتدت به" من الوجه الذي أبيح
لهما، وذلك، أن يخافا أن لا يقيما حدود الله بمقام كل واحد
منهما على صاحبه.
* * *
قال أبو جعفر: وقد زعم بعض أهل العربية أن في ذلك وجهين: (3)
__________
(1) الحديث: 4844- هذا إسناد صحيح. أبو أسماء الرحبي: هو عمرو
بن مرثد الدمشقي وهو تابعي ثقة.
* والحديث رواه أحمد في المسند 5: 283 (حلبي) عن عبد الرحمن
-وهو ابن مهدي- عن حماد بن زيد.
* ورواه أبو داود: 2226 عن سليمان بن حرب وابن ماجه: 2055، من
طريق محمد بن الفضل والحاكم 2: 200 من طريق سليمان بن حرب
والبيهقي 7: 316 عن الحاكم من طريق ابن حرب- كلهم عن حماد بن
زيد بهذا الإسناد. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط
الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
* ورواه البيهقي أيضًا 7: 316 من طريق موسى بن إسماعيل
التبوذكي عن وهيب عن أيوب به. وهذا أيضًا إسناد صحيح.
* وذكره الحافظ في الفتح 9: 354 وقال: "رواه أصحاب السنن وصححه
ابن خزيمة وابن حبان".
* وأشار إليه الترمذي عقب الإسناد السابق الذي فيه المبهم
فقال: "ويروى هذا الحديث عن أيوب عن أبي قلابة، عن أبي أسماء
عن ثوبان".
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "لا جناح" بغير واو العطف والصواب
ما أثبت.
(3) الذي زعم ذلك هو الفراء في معاني القرآن 1: 147- 148.
والذي ساقه الطبري مختصر مقاله الفراء.
(4/571)
أحدهما أن يكون مرادا به: فلا جناح على
الرجل فيما افتدت به المرأة دون المرأة، وإن كانا قد ذكرا
جميعا كما قال في"سورة الرحمن": (يَخْرُجُ مِنْهُمَا
اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) [سورة الرحمن: 22] وهما من الملح
لا من العذب، قال: ومثله. (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ
بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا) [سورة الكهف: 61] ، وإنما
الناسي صاحب موسى وحده. قال: ومثله في الكلام أن تقول:"عندي
دابتان أركبهما وأستقي عليهما" وإنما تركب إحداهما. وتستقي على
الأخرى، (1) وهذا من سعة العربية التي يحتج بسعتها في الكلام.
قالوا: والوجه الآخر أن يشتركا جميعا في أن لا يكون عليهما
جناح، إذ كانت تعطي ما قد نفي عن الزوج فيه الإثم. اشتركت فيه،
(2) لأنها إذا أعطت ما يطرح فيه المأثم، احتاجت إلى مثل ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: فلم يصب الصواب في واحد من الوجهين، ولا في
احتجاجه فيما احتج به من قوله: (3) (يَخْرُجُ مِنْهُمَا
اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) .
فأما قوله:" فلا جناح عليهما" فقد بينا وجه صوابه، وسنبين وجه
قوله:" يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان"في موضعه إذا أتينا عليه إن
شاء الله تعالى. وإنما خطأنا قوله ذلك، لأن الله تعالى ذكره قد
أخبر عن وضعه الحرج عن الزوجين إذا افتدت المرأة من زوجها على
ما أذن، وأخبر عن البحرين أن منهما يخرج اللؤلؤ والمرجان،
فأضاف إلى اثنين. فلو جاز لقائل أن يقول:"إنما أريد به الخبر
عن أحدهما، فيما لم يكن مستحيلا أن يكون عنهما"، جاز في كل خبر
كان عن اثنين - غير مستحيلة صحته أن يكون عنهما - أن
يقال:"إنما هو خبر عن أحدهما".
__________
(1) في المطبوعة: "وأسقى. . . وتسقى" والصواب من المخطوطة
ومعاني القرآن للفراء.
(2) في معاني القرآن: "أشركت فيه" بالبناء للمجهول، وهي أجود.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "احتج به قوله" والصواب زيادة"من".
(4/572)
وذلك قلب المفهوم من كلام الناس والمعروف
من استعمالهم في مخاطباتهم، وغير جائز حمل كتاب الله تعالى
ووحيه جل ذكره على الشواذ من الكلام وله في المفهوم الجاري بين
الناس وجه صحيح موجود.
* * *
قال أبو جعفر: ثم أختلف أهل التأويل في تأويل قوله:" فلا جناح
عليهما فيما افتدت به" أمعني به: أنهما موضوع عنهما الجناح في
كل ما افتدت به المرأة نفسها من شيء أم في بعضه؟
فقال بعضهم: عنى بذلك:"فلا جناح عليهما فيما افتدت به" من
صداقها الذي كان آتاها زوجها الذي تختلع منه. واحتجوا في قولهم
ذلك بأن آخر الآية مردود على أولها، وأن معنى الكلام: ولا يحل
لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود
الله، فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما
افتدت به مما آتيتموهن. قالوا: فالذي أحله الله لهما من ذلك
-عند الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله- هو الذي كان حظر
عليهما قبل حال الخوف عليهما من ذلك. واحتجوا في ذلك بقصة ثابت
بن قيس بن شماس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمر
امرأته إذ نشزت عليه، أن ترد ما كان ثابت أصدقها، وأنها عرضت
الزيادة فلم يقبلها النبي صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
4845 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع أنه كان يقول: لا يصلح له أن يأخذ
منها أكثر مما ساق إليها، ويقول: إن الله يقول:" فلا جناح
عليهما فيما افتدت به" منه، يقول: من المهر - وكذلك كان
يقرؤها:"فيما افتدت به منه". (1)
__________
(1) الأثر: 4845- سيأتي نقض الطبري لما قاله الربيع وزيادته في
الآية ما ليس منها في ص582، 583.
(4/573)
4846 - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد
الحكم، قال: حدثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: سمعت عمرو بن
شعيب وعطاء بن أبي رباح والزهري يقولون في الناشز: لا يأخذ
منها إلا ما ساق إليها.
4847 - حدثنا علي بن سهل، قال: حدثنا الوليد، حدثنا أبو عمرو،
عن عطاء، قال: الناشز لا يأخذ منها إلا ما ساق إليها.
4848 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن
ابن جريج، عن عطاء أنه كره أن يأخذ في الخلع أكثر مما أعطاها.
4849 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: حدثنا ابن
إدريس، عن أشعث، عن الشعبي، قال: كان يكره أن يأخذ الرجل من
المختلعة فوق ما أعطاها، وكان يرى أن يأخذ دون ذلك.
(4/574)
4850 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد
الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن الشعبي، قال: لا
يأخذ منها أكثر مما أعطاها.
4851 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: اخبرنا
إسماعيل بن سالم، عن الشعبي أنه كان يكره أن يأخذ منها أكثر
مما أعطاها - يعني المختلعة.
4852 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا حدثنا ابن إدريس،
قال: سمعت ليثا عن الحكم بن عتيبة، قال: كان علي رضي الله عنه
يقول: لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها.
4853 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال:
حدثنا سعيد، عن الحكم أنه قال في المختلعة: أحب إلي أن لا
يزداد.
4854 - حدثني المثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، عن
حميد أن الحسن كان يكره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها.
4855 - حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا
سعيد، عن مطر أنه سأل الحسن - أو أن الحسن سئل - عن رجل تزوج
امرأة على مائتي درهم، فأراد أن يخلعها، هل له أن يأخذ
أربعمائة؟ فقال: لا والله، ذاك أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها!
.
4856 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، قال: كان الحسن يقول: لا يأخذ منها أكثر مما
أعطاها = قال معمر: وبلغني عن علي أنه كان يرى أن لا يأخذ منها
أكثر مما أعطاها.
4857 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن ابن المسيب، قال: ما
أحب أن يأخذ منها كل ما أعطاها حتى يدع لها منه ما يعيشها.
4858 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرازق، قال:
أخبرنا معمر، عن ابن طاوس أن أباه كان يقول في المفتدية: لا
يحل له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها.
4859 - حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا
معمر، عن الزهري، قال: لا يحل للرجل أن يأخذ من امرأته أكثر
مما أعطاها.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك: فلا جناح عليهما فيما افتدت به من
قليل ما تملكه وكثيره. واحتجوا لقولهم ذلك بعموم الآية، وأنه
غير جائزة إحالة ظاهر عام - إلى باطن خاص إلا بحجة يجب التسليم
لها. (1) قالوا: ولا حجة يجب التسليم لها بأن الآية مراد بها
بعض الفدية. دون بعض من أصل أو قياس، فهي على ظاهرها وعمومها.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "غير جائز إحالة. . . " بدلوه ليطابق ما
درجوا عليه. والصواب من المخطوطة.
(4/575)
4860 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا
ابن علية، قال: أخبرنا أيوب عن كثير مولى سمرة: أن عمر أتي
بامرأة ناشز، فأمر بها إلى بيت كثير الزبل ثلاثا، ثم دعا بها
فقال: كيف وجدت؟ قالت: ما وجدت راحة منذ كنت عنده إلا هذه
الليالي التي حبستني! فقال لزوجها: اخلعها ولو من قرطها. (1)
4861 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن أيوب، عن كثير مولى سمرة، قال: أخذ عمر بن
الخطاب امرأة ناشزا فوعظها، فلم تقبل بخير، فحبسها في بيت كثير
الزبل ثلاثة أيام = وذكر نحو حديث ابن علية.
4862 - حدثنا ابن بشار ومحمد بن يحيى، قالا حدثنا عبد الأعلى،
قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن حميد بن عبد الرحمن: أن امرأة
أتت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فشكت زوجها، فقال: إنها ناشز؟
فأباتها في بيت الزبل، فلما أصبح قال لها: كيف وجدت مكانك!
قالت: ما كنت عنده ليلة أقر لعيني من هذه الليلة! فقال: خذ ولو
عقاصها. (2)
__________
(1) الأثر: 4860- البيهقي 7: 315، والمحلى 10: 240. وقوله:
"ولو من قرطها" أي: ولو لم يكن لها مال غير قرطها فخذه
واخلعها.
(2) الأثر: 4862-"حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري" روى عن
أبيه وعمر وعثمان وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم. روى عنه ابنه
عبد الرحمن والزهري وقتادة وغيرهم. وقيل: "إنه لم ير عمر ولم
يسمع منه شيئا" وموته يدل على ذلك، ولعله قد سمع من عثمان لأنه
كان خاله. وكان ثقة كثير الحديث. توفي سنة 95 وهو ابن ثلاث
وسبعين سنة". وقال ابن سعد: "سمعت من يقول إنه توفي سنة 105".
قال ابن حجر: "وهو قول الفلاس وأحمد بن حنبل وأبي إسحاق
الحربي" ثم قال: "وإن صح ذلك على تقدير صحة ما ذكر من سنه
فروايته عن عمر منقطعة قطعا، وكذا عن عثمان وأبيه والله أعلم".
والعقاص: خيط تشد به المرأة أطراف ذوائبها. من"عقصت المرأة
شعرها": إذا ضفرته. والضفيرة هي العقيصة. و"العقاص" أيضًا:
المداري (جمع) - أو: المدري (مفرد) والمدري: شيء يعمل من حديد
أو خشب على شكل سن من أسنان المشط، وأطول منه، يسرح به الشعر
المتبلد. يستعمله من لم يكن له مشط. وقد جاء في شعر امرئ
القيس: غدائره مستشزرات إلى العلى ... تضل العقاص في مثنى
ومرسل
ويروى"يضل العقاص" على معنى إفراده. وانظر التعليق على الأثر
رقم: 4871.
(4/576)
4863 - حدثنا نصر بن علي، قال: حدثنا عبد
الأعلى، قال: حدثنا عبيد الله، عن نافع: أن مولاة لصفية اختلعت
من زوجها بكل شيء تملكه إلا من ثيابها، فلم يعب ذلك ابن عمر.
(1)
4864 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ومحمد بن المثنى، قالا حدثنا
معتمر، قال: سمعت عبيد الله يحدث، عن نافع، قال: ذكر لابن عمر
مولاة له اختلعت من زوجها بكل مال لها، فلم يعب ذلك عليها ولم
ينكره.
4865 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: حدثنا هشيم، عن
حميد، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب: أنه كان لا يرى بأسا
أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها. ثم تلا هذه الآية:" فلا جناح
عليهما فيما افتدت به".
4866 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال:
حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال في الخلع: خذ ما دون
عقاص شعرها، وإن كانت المرأة لتفتدي ببعض مالها. (2)
4867 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا
__________
(1) الأثر: 4863- الموطأ: 565 والمحلى 10: 240 والبيهقي 7: 315
وما سيأتي رقم: 4874 وغيرها.
(2) الآثار: 4866- 4869- هذا الأثر ذكره ابن الأثير في النهاية
بلفظ آخر، قال: "وفي حديث النخعي: الخلع تطليقه بائنة وهو ما
دون عقاص الرأس. يريد: أن المختلعة كان له أن يأخذ ما دون
شعرها من جميع ملكها". هكذا في النهاية وفي نقل لسان العرب
عنه"ما دون شعرها". وتفسير"العقاص" هنا بأنه"الشعر" غريب جدا
لا أدري هل يجوز أن يخلط عالم جليل كابن الأثير هذا الخلط!
فيكون معنى قول إبراهيم النخعي الآتي في الآثار التالية: "خذ
منها ولو عقاصها" -أي: خذ منها ولو شعرها!! ولعل في الكلام
سقطا فيكون: "أن يأخذ ما دون رباط شعرها" ولكن نقل صاحب اللسان
نص ما في النهاية شبهة في ترجيح هذا الرأي. وكأن ابن الأثير
غفل عن معنى"دون" في هذا الموضع فزل عالم. وقوله: "ما دون عقاص
شعرها" معناه: ما هو أقل من العقاص أو أنقص منه. وانظر الأثر
الآتي رقم: 4870 ففي لفظه شفاء هذا المعنى إن شاء الله.
(4/577)
معمر، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: الخلع ما
دون عقاص الرأس. (1)
4868 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا
شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم أنه قال في المختلعة: خذ منها ولو
عقاصها.
4869 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن
إبراهيم، قال: الخلع بما دون عقاص الرأس، وقد تفتدي المرأة
ببعض مالها.
4870 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل: أن الربيع ابنة
معوذ بن عفراء حدثته قالت: كأن لي زوج يقل علي الخير إذا
حضرني، ويحرمني إذا غاب. قالت: فكانت مني زلة يوما، فقلت:
أختلع منك بكل شيء أملكه! قال: نعم! قال: ففعلت قالت: فخاصم
عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان، فأجاز الخلع وأمره أن
يأخذ عقاص رأسي فما دونه- أو قالت: ما دون عقاص الرأس. (2)
4871 - حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال:
أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا الحسن بن يحيى، عن الضحاك، عن
ابن عباس، قال: لا بأس بما خلعها به من قليل أو كثير، ولو
عقصها. (3)
__________
(1) في المطبوعة: "بما دون" فأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 4870- رواه البيهقي في السنن 7: 315 بغير هذا اللفظ
من طريق يزيد ابن زريع عن روح عن عبد الله بن محمد بن عقيل.
و"عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب" روى عن أبيه وخاله
محمد بن الحنفية وابن عمر وأنس وجابر والربيع بنت معوذ وغيرهم
من الصحابة. ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من أهل المدينة
وقال: "كان منكر الحديث لا يحتجون بحديثه، وكان كثير العلم".
وقال يعقوب: "صدوق وفي حديثه ضعف شديد جدا". مات سنة 145
و"الربيع" (بضم الراء وفتح الباء، وكسر الياء المشددة) على وزن
التصغير.
(3) قوله: "ولو عقصها". في المخطوطة كسرة تحت العين، كأنه بكسر
العين وسكون القاف وكأنه واحد"العقاص" ولم أجد ذلك في مكان وهو
قريب على غرابته. ولكني ضبطته بضمتين، على أنه جمع"عقاص".
(4/578)
4872 - حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن
موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا حجاج، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهد، قال: إن شاء أخذ منها أكثر مما أعطاها.
4873 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد
الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار أنه
سمع عكرمة يقول: قال ابن عباس: ليأخذ منها حتى قرطها- يعني في
الخلع.
4874 - حدثني المثنى، قال: حدثنا مطرف بن عبد الله، قال:
أخبرنا مالك بن أنس، عن نافع، عن مولاة لصفية ابنة أبي عبيد:
أنها اختلعت من زوجها بكل شيء لها، فلم ينكر ذلك عبد الله بن
عمر. (1)
4875 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد،
قال: أخبرنا حميد، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب أنه تلا
هذه الآية:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به" قال: يأخذ أكثر
مما أعطاها. (2)
4876 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يزيد وسهل بن يوسف وابن
أبي عدي، عن حميد، قال: قلت لرجاء بن حيوه: إن الحسن يقول في
المختلعة: لا يأخذ أكثر مما أعطاها، ويتأول:" ولا تأخذوا مما
آتيتموهن شيئا" قال رجاء: فإن قبيصة بن ذؤيب كان يرخص أن يأخذ
أكثر مما أعطاها، ويتأول:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به"
* * *
وقال آخرون: هذه الآية منسوخة بقوله: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ
اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ
قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا) [سورة النساء: 20]
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الأثر: 4874- في الموطأ: 565 وانظر التعليق على الأثر:
4863.
(2) الأثر: 4875- انظر الأثر السالف رقم: 4865.
(4/579)
4877 - حدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا
عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا عقبة بن أبي الصهباء قال:
سألت بكرا عن المختلعة أيأخذ منها شيئا؟ قال لا! وقرأ:" وأخذن
منكم ميثاقا غليظا".
4878 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا عقبة بن
أبي الصهباء، قال: سألت بكر بن عبد الله عن رجل تريد امرأته
منه الخلع، قال: لا يحل له أن يأخذ منها شيئا. قلت: يقول الله
تعالى ذكره في كتابه:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به"؟ قال:
هذه نسخت. قلت: فإني حفظت؟ قال: حفظت في"سورة النساء" (1) قول
الله تعالى ذكره: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ
مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا
تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا
وَإِثْمًا مُبِينًا) [النساء: 20] (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: إذا خيف
من الرجل والمرأة أن لا يقيما حدود الله - على سبيل ما قدمنا
البيان عنه- فلا حرج
__________
(1) في الناسخ والمنسوخ وفي القرطبي"فأين جعلت" وهي أشبه
بالصواب وكذلك ينبغي أن تكون الأخرى"جعلت" فيكون نصهما: "فأين
جعلت؟ قال: جعلت في سورة النساء".
(2) الأثران: 4877، 4878- في الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر
النحاس: 68 وأحكام القرآن للجصاص 1: 392 والقرطبي 3: 139
وسيأتي أول الأثرين في تفسير سورة النساء 4: 216 (بولاق) . وفي
إسناده هنا"عقبة بن أبي المهنا" وهو تصحيف. و"عقبة بن أبي
الصهباء أبو خريم" ترجم له في الجرح والتعديل 3/ 1/312 وميزان
الاعتدال 2: 205. قال ابن أبي حاتم: "بصري: روى عن سالم ونافع.
روى عنه زيد بن حباب وأبو الوليد وأبو سلمة. سمعت أبي يقول
ذلك. قال أبو محمد: روى عن العلاء بن بدر. روى عنه معتمر بن
سليمان وأبو داود الطيالسي وأبو عمر الحوضي. أخبرنا عبد الرحمن
قال: ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى ابن معين قال: عقبة
بن أبي الصهباء ثقة. أخبرنا عبد الرحمن قال: سألت أبي عن عقبة
بن أبي الصهباء قال: محله الصدق فهو أوثق من عقبة الأحم". وزاد
في ميزان الاعتدال أنه: "باهلي" مولى لباهلة ونقل عن أحمد بن
حنبل أنه صالح الحديث. هذا ولم أجد كما ترى، وهو ما جاء في
التاريخ الكبير، في كتاب الكنى: 44 وفي الجرح والتعديل
4/2/394: "أبو الصهباء البصري. روى عن بكر بن عبد الله. روى
عنه معن بن عيسى. سمعت أبي يقول ذلك" قاله ابن أبي حاتم.
(4/580)
عليهما فيما افتدت به المرأة نفسها من
زوجها، من قليل ما تملكه وكثيره مما يجوز للمسلمين أن يملكوه،
وإن أتى ذلك على جميع ملكها. لأن الله تعالى ذكره لم يخص ما
أباح لهما من ذلك على حد لا يجاوز، بل أطلق ذلك في كل ما افتدت
به. غير أني أختار للرجل = استحبابا لا تحتيما (1) إذا تبين من
امرأته أن افتداءها منه لغير معصية لله، (2) بل خوفا منها على
دينها= أن يفارقها بغير فدية ولا جعل. فإن شحت نفسه بذلك، (3)
فلا يبلغ بما يأخذ منها جميع ما آتاها.
* * *
فأما ما قاله بكر بن عبد الله، من أن هذا الحكم في جميع الآية
منسوخ بقوله: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ
زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا
مِنْهُ شَيْئًا) فقول لا معنى له، فنتشاغل بالإبانة عن خطئه
لمعنيين: أحدهما: إجماع الجميع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم
من المسلمين، على تخطئته وإجازة أخذ الفدية من المفتدية نفسها
لزوجها، وفي ذلك الكفاية عن الاستشهاد على خطئه بغيره.
والآخر: أن الآية التي في"سورة النساء" إنما حرم الله فيها على
زوج المرأة أن يأخذ منها شيئا مما آتاها، (4) بأن أراد الرجل
استبدال زوج بزوج من غير أن يكون هنالك خوف من المسلمين عليهما
مقام أحدهما على صاحبه أن لا يقيما حدود الله، (5) ولا نشوز من
المرأة على الرجل. وإذا كان الأمر كذلك، فقد ثبت أن أخذ الزوج
من امرأته مالا على وجه الإكراه لها والإضرار بها حتى تعطيه
شيئا
__________
(1) في المخطوطة: "لا تحريما" ليست بشيء وما في المطبوعة هو
الصواب. والتحتيم: الإيجاب حتم عليه الأمر حتما: أوجبه.
(2) في المطبوعة: "لغير معصية الله" والصواب ما في المخطوطة.
(3) في المخطوطة: "سحت" مهملة وشح بالشيء يشح فهو شحيح: ضن
وبخل.
(4) في المطبوعة: "بأن أراد الرجل" وفي المخطوطة: "فإن أراد"
والصواب ما أثبت.
(5) في المطبوعة: "بمقام أحدهما على صاحبه" صواب جيد. وقوله:
"ولا نشوز" معطوف على قوله: "خوف".
(4/581)
من مالها على فراقها حرام، (1) ولو كان ذلك
حبة فضة فصاعدا. (2)
وأما الآية التي في"سورة البقرة" فإنها إنما دلت على إباحة
الله تعالى ذكره له أخذ الفدية منها في حال الخوف عليهما أن لا
يقيما حدود الله بنشوز المرأة، وطلبها فراق الرجل، ورغبته
فيها. فالأمر الذي أذن به للزوج في أخذ الفدية من المرأة
في"سورة البقرة" (3) ضد الأمر الذي نهى من أجله عن أخذ الفدية
في"سورة النساء"، كما الحظر في"سورة النساء"، غير الإطلاق
والإباحة في"سورة البقرة". (4) فإنما يجوز في الحكمين أن يقال
أحدهما ناسخ (5) إذا اتفقت معاني المحكوم فيه، ثم خولف بين
الأحكام فيه باختلاف الأوقات والأزمنة.
وأما اختلاف الأحكام باختلاف معاني المحكوم فيه في حال واحدة
ووقت واحد، فذلك هو الحكمة البالغة، والمفهوم في العقل
والفطرة، وهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل.
* * *
وأما الذي قاله الربيع بن أنس (6) من أن معنى الآية: فلا جناح
عليهما فيما افتدت به منه - يعني بذلك: مما آتيتموهن - فنظير
قول بكر في دعواه نسخ
__________
(1) في المطبوعة: "فقد بينا أن أخذ الزوج. . . " وهو خطأ محض
والسياق يقتضي غيره ثم إنه لم يذكر شيئا من ذلك فيما سلف. أما
في المخطوطة: "فقد سا" والألف الأخيرة قصيرة عن أشباهها. وأحب
أن أثبت هنا أن ناسخ المخطوطة قد عجل في الصفحات السابقة
والصفحات التالية عجلة شديدة حتى تبين ذلك في خطه تبينا ظاهرا.
ولذلك كثر الخطأ والاشتباه فيما يكتب.
(2) الحبة: ميزان من موازينهم. هو: زنة حبة شعير متوسطة لم
تقشر وقد قطع من طرفيها ما امتد (رسالة النقود للمقريزي: 3) .
(3) في المخطوطة: "أذن به للزوج أخذ الفدية" بحذف"في" والإذن
هنا الإباحة.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "غير الطلاق والإباحة" والصواب ما
أثبت ولم أجد"الطلاق" مصدرا بمعنى الإباحة. وكأن الناسخ ظن أن
أبا جعفر يريد أن آية سورة البقرة فيها ذكر لفظ"الطلاق" وأما
التي في سورة النساء فليس فيها لفظ"الطلاق" فيكون ذلك غريبا
جدا، ولطيفا أيضًا!! ومراد الطبري أن الذي في سورة البقرة هو
نشوز المرأة والذي في سورة النساء هو ضرار الرجل، والذي في
البقرة إباحة وإطلاق، والذي في النساء حظر ومنع.
(5) في المخطوطة والمطبوعة: "فإنما يجوز" والفاء هنا لا معنى
لها، بل هي اختلال. وقد أسلفنا ما في كتابة الناسخ هنا من عجلة
وسهو شديد.
(6) انظر الأثر السالف رقم: 4845.
(4/582)
قوله: " فلا جناح عليهما فيما افتدت به"
بقوله:" وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا" لادعائه في
كتاب الله ما ليس موجودا في مصاحف المسلمين رسمه.
ويقال لمن قال بقوله: قد قال من قد علمت من أئمة الدين: إنما
معنى ذلك: فلا جناح عليهما فيما افتدت به من ملكها= فهل من حجة
تبين بها منهم غير الدعوى؟ (1) فقد احتجوا بظاهر التنزيل،
وادعيت فيه خصوصا! ثم يعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في شيء
من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. وقد بينا الأدلة بالشواهد
على صحة قول من قال: للزوج أن يأخذ منها كل ما أعطته المفتدية،
التي أباح الله لها الافتداء - في كتابنا (كتاب اللطيف) فكرهنا
إعادته في هذا الموضع.
* * *
(2)
القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا
تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ (229) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: تلك معالم فصوله، بين ما
أحل لكم، وما حرم عليكم أيها الناس، قلا تعتدوا ما أحل لكم من
الأمور التي بينها وفصلها لكم من الحلال، إلى ما حرم عليكم،
فتجاوزوا طاعته إلى معصيته.
__________
(1) في المطبوعة"تبين تهافتهم" من قولهم"بين الشيء يبين"
بتشديد الياء. ومعنى الجملة لا يتفق في سياق هذا الكلام. وفي
المخطوطة"تبين بها منهم" غير منقوطة فقرأتها على أصح وجوه
المعنى الذي يوافق السياق. وبان منهم يبين: افترق وامتاز.
يقول: فهل من حجة تجعل بينك وبينهم فرقا غير الدعوى؟ فهم
يحتجون بأن هذا ظاهر الآية، وأنت تدعى أن في الآية خصوصا! فأية
حجة في هذا تجعل لك ميزة عليهم؟
(2) مما يدل على ان الناسخ في هذا المكان كان عجلا غير متأن
كما أسلفنا من شواهد خطه، من كثرة الخطأ في نقله، أنه كتب نص
الآية هنا"تلك حدود الله فلا تقربوها"!!
(4/583)
وإنما عنى تعالى ذكره بقوله:" تلك حدود
الله فلا تعتدوها"، هذه الأشياء التي بينت لكم في هذه الآيات
التي مضت: من نكاح المشركات الوثنيات، وإنكاح المشركين
المسلمات، وإتيان النساء في المحيض، وما قد بين في الآيات
الماضية قبل قوله:" تلك حدود الله"، مما أحل لعباده وحرم
عليهم، وما أمر ونهى.
ثم قال لهم تعالى ذكره: هذه الأشياء -التي بينت لكم حلالها من
حرامها-"حدودي"= يعني به: معالم فصول ما بين طاعتي ومعصيتي=،
فلا تعتدوها= يقول: فلا تتحاوزوا ما أحللته لكم إلى ما حرمته
عليكم، وما أمرتكم به إلى ما نهيتكم عنه، ولا طاعتي إلى
معصيتي، (1) فإن من تعدى ذلك = يعني من تخطاه وتجاوزه = إلى ما
حرمت عليه أو نهيته، فإنه هو الظالم- وهو الذي فعل ما ليس له
فعله، ووضع الشيء في غير موضعه. وقد دللنا فيما مضى على
معنى"الظلم" وأصله بشواهده الدالة على معناه، فكرهنا إعادته في
هذا الموضع. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن خالفت ألفاظ
تأويلهم ألفاظ تأويلنا، غير أن معنى ما قالوا في ذلك [يؤول]
إلى معنى ما قلنا فيه. (3)
* ذكر من قال ذلك:
4879 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي،
قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" تلك حدود الله
فلا تعتدوها" يعني بالحدود: الطاعة.
4880 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير،
عن جويبر، عن الضحاك في قوله:" تلك حدود الله فلا تعتدوها"
يقول: من
__________
(1) انظر معنى"الخدود""والتعدي والعدوان" في فهرس اللغة من
الأجزاء السالفة.
(2) انظر ما سلف 1: 523-524/2: 101- 102، 369، 519.
(3) في المطبوعة: ". . . ما قالوا في ذلك إلى معنى. . . "
وأثبت الزيادة بين القوسين لأن موضعها في المخطوطة بياض فرجحت
أن تكون الكلمة الناقصة هي هي، كما أثبتها.
(4/584)
فَإِنْ طَلَّقَهَا
فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ
يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
(230)
طلق لغير العدة فقد اعتدى وظلم نفسه،"ومن
يتعد حدود الله، فأولئك هم الظالمون".
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الذي ذكر عن الضحاك لا معنى له في هذا
الموضع، لأنه لم يجر للطلاق في العدة ذكر، فيقال:"تلك حدود
الله"، وإنما جرى ذكر العدد الذي يكون للمطلق فيه الرجعة،
والذي لا يكون له فيه الرجعة دون ذكر البيان عن الطلاق للعدة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ
لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيما دل عليه هذا القول من
الله تعالى ذكره.
فقال بعضهم: دل على أنه إن طلق الرجل امرأته التطليقة الثالثة=
بعد التطليقتين اللتين قال الله تعالى ذكره فيهما:" الطلاق
مرتان"= فإن امرأته تلك لا تحل له بعد التطليقة الثالثة حتى
تنكح زوجا غيره- يعني به غير المطلق.
* ذكر من قال ذلك:
4881 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال:
حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: جعل الله الطلاق ثلاثا، فإذا طلقها
واحدة فهو أحق بها ما لم تنقض العدة، وعدتها ثلاث حيض، فإن
انقضت العدة قبل أن يكون راجعها، فقد بانت منه بواحدة، وصارت
أحق بنفسها، وصار خاطبا من الخطاب، فكان الرجل إذا أراد طلاق
أهله نظر حيضتها، حتى إذا طهرت طلقها تطليقة في قبل عدتها عند
شاهدي عدل، (1) فإن بدا له مراجعتها راجعها ما كانت في عدتها،
__________
(1) "قبل عدتها" (بضم فسكون) أي: في إقبال عدتها وأولها وعند
الشروع فيها.
(4/585)
وإن تركها حتى تنقضي عدتها فقد بانت منه
بواحدة، وإن بدا له طلاقها بعد الواحدة وهي في عدتها نظر
حيضتها، حتى إذا طهرت طلقها تطليقة أخرى في قبل عدتها، فإن بدا
له مراجعتها راجعها، فكانت عنده على واحدة، وإن بدا له طلاقها
طلقها الثالثة عند طهرها، فهذه الثالثة التي قال الله تعالى
ذكره:" فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" (1)
4882 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" فإن
طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" يقول: إن طلقها
ثلاثا، فلا تحل حتى تنكح زوجا غيره.
4883 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم،
قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قال: إذا طلق واحدة أو ثنتين
فله الرجعة ما لم تنقض العدة، قال: والثالثة قوله:" فإن طلقها"
-يعني بالثالثة- فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجا غيره.
4884 - حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا
جويبر، عن الضحاك، بنحوه.
4885 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا
أسباط، عن السدي:" فإن طلقها" - بعد التطليقتين-"فلا تحل له من
بعد حتى تنكح زوجا غيره"، وهذه الثالثة
* * *
وقال آخرون: بل دل هذا القول على ما يلزم مسرح امرأته بإحسان
بعد التطليقتين اللتين قال الله تعالى ذكره فيهما:" الطلاق
مرتان" قالوا: وإنما بين
__________
(1) هكذا في المخطوطة معنى الآية لا نصها ولكنه في المطبوعة:
"فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" أثبت نص الآية. تصرف
لغير حكمة بينة.
(4/586)
الله تعالى ذكره بهذا القول عن حكم قوله:"
أو تسريح بإحسان" وأعلم أنه إن سرح الرجل امرأته بعد
التطليقتين، فلا تحل له المسرحة كذلك إلا بعد زوج.
* ذكر من قال ذلك:
4886 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى
تنكح زوجا غيره" قال: عاد إلى قوله:" فإمساك بمعروف أو تسريح
بإحسان".
4887 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: والذي قاله مجاهد في ذلك عندنا أولى بالصواب،
للذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي
رويناه عنه أنه قال- أو سئل فقيل: هذا قول الله تعالى ذكره:"
الطلاق مرتان" فأين الثالثة؟ قال:"فإمساك بمعروف أو تسريح
بإحسان". (1) فأخبر صلى الله عليه وسلم، أن الثالثة إنما هي
قوله:" أو تسريح بإحسان" فإذ كان التسريح بالإحسان هو الثالثة،
فمعلوم أن قوله:" فإن طلقها فلا تحل لا من بعد حتى تنكح زوجا
غيره" من الدلالة على التطليقة الثالثة بمعزل، وأنه إنما هو
بيان عن الذي يحل للمسرح بالإحسان إن سرح زوجته بعد
التطليقتين، والذي يحرم عليه منها، والحال التي يجوز له نكاحها
فيها= (2) وإعلام عباده أن بعد التسريح على ما وصفت لا رجعة
للرجل على امرأته. (3)
* * *
(4)
__________
(1) يعني الأخبار السالفة: 4791- 4793.
(2) قوله: "وإعلام" معطوف على قوله: "إنما هو بيان. . .
وإعلام" وقوله: "عباده" منصوب بالمصدر"إعلام" مفعول به.
(3) إلى هنا انتهى التقسيم القديم الذي نسخت منه نسختنا، وبعده
ما نصه:
"وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وصحبه وسلم كثيرا"
ومن عجلة الناسخ أغفل أن ينقل ما كان ينقله في المواضع السالفة
من سماع النسخة.
(4) يبدأ صدر التقسيم بقوله:
"بسم الله الرحمن الرحيم"
(4/587)
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فأي النكاحين
عنى الله بقوله:" فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره"
النكاح الذي هو جماع أم النكاح الذي هو عقد تزويج؟
قيل: كلاهما، وذلك أن المرأة إن نكحت رجلا نكاح تزويج، ثم لم
يطأها في ذلك النكاح ناكحها (1) ولم يجامعها حتى يطلقها لم تحل
للأول، وكذلك إن وطئها واطئ بغير نكاح، لم تحل للأول بإجماع
الأمة جميعا. (2) فإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن تأويل قوله:"
فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" نكاحا صحيحا، ثم
يجامعها فيه، ثم يطلقها.
فإن قال: فإن ذكر الجماع غير موجود في كتاب الله تعالى ذكره،
فما الدلالة على أن معناه ما قلت؟
قيل: الدلالة على ذلك إجماع الأمة جميعا على أن ذلك معناه.
وبعد، فإن الله تعالى ذكره قال:" فإن طلقها فلا تحل له من بعد
حتى تنكح زوجا غيره"، فلو نكحت زوجا غيره بعقب الطلاق قبل
انقضاء عدتها، كان لا شك أنها ناكحة نكاحا بغير المعنى الذي
أباح الله تعالى ذكره لها ذلك به، وإن لم يكن ذكر العدة مقرونا
بقوله:" فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره"، لدلالته على
أن ذلك كذلك بقوله:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء".
وكذلك قوله:" فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا
غيره"، وإن لم يكن
__________
(1) في المطبوعة: "وذلك أن المرأة إذا نكحت زوجا" لا أدري لم
وضع الطابع"إذا" مكان"وإن" و"زوجا" مكان"رجلا"!!
(2) في المطبوعة: "لإجماع الأمة" وهو ضعيف لا خير فيه.
(4/588)
مقرونا به ذكر الجماع والمباشرة والإفضاء
فقد دل على أن ذلك كذلك بوحيه إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم وبيانه ذلك على لسانه لعباده.
* * *
* ذكر الأخبار المروية بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4888 - حدثني عبيد الله بن إسماعيل الهباري، وسفيان بن وكيع،
وأبو هشام الرفاعي، قالوا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن
إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: سئل رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن رجل طلق امرأته فتزوجت رجلا غيره فدخل بها ثم
طلقها قبل أن يواقعها، أتحل لزوجها الأول؟ فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:"لا تحل لزجها الأول حتى يذوق الآخر عسيلتها
وتذوق عسيلته". (1)
__________
(1) الحديث: 4888- هذا الحديث والاحاديث بعده إلى: 4897 هي
عشرة أسانيد لحديث عائشة في وجوب الدخول بالمطلقة ثلاثا حتى
تحل لزوجها الأول، وهذا أمر مجمع عليه ثبت بالدلائل المتواترة.
ويجب أن يكون الزوج الثاني راغبا في المرأة قاصدا لدوام
عشرتها، مما هو القصد الصحيح للزواج. أما إذا تزوجها ودخل بها
قاصدا تحليلها للزوج الأول أو كان ذلك مفهوما من واقع الحال-
فإن هذا هو المحلل الذي لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولعن المحلل له. وكان نكاح هذا الثاني باطلا لا تحل به
المعاشرة.
ثم روى أبو جعفر -بعد هذه العشرة- حديثين لأبي هريرة وحديثا
لأنس وحديثا لعبيد الله ابن عباس، وثلاثة أحاديث لابن عمر. فهي
سبعة عشر حديثا. سنوجز ما استطعنا في تخريجها إن شاء الله.
عبيد الله بن إسماعيل الهباري- شيخ الطبري: مضت ترجمته في:
2890 باسم"عبيد" دون إضافة. وكذلك مضى باسم"عبيد" في: 3185،
3325. وهو هو ففي التهذيب 7: 59"ويقال أن اسمه عبيد الله
وعبيد: لقب".
أبو هاشم الرفاعي- شيخ الطبري: هو محمد بن يزيد بن محمد بن
كثير قاضي بغداد تكلم فيه بعضهم، والراجح توثيقه وقد روى عنه
مسلم في صحيحه. مضى له ذكر في: 3286.
إبراهيم: هو ابن يزيد بن الأسود النخعي. والأسود: هو ابن يزيد
بن قيس النخعي خال إبراهيم.
والحديث رواه أحمد في المسند 6: 42 (حلبي) عن أبي معاوية عن
الأعمش بهذا الإسناد.
ونقله ابن كثير 1: 549 عن رواية الطبري ثم قال: "وكذا رواه أبو
داود عن مسدد والنسائي عن أبي كريب كلاهما عن أبي معاوية".
وذكره السيوطي 1: 284 وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن ماجه.
قوله: "حتى يذوق الآخر عسيلتها. . . " قال ابن الأثير: "شبه
لذة الجماع بذوق العسل، فاستعار لها ذوقا. وإنما أنث لأنه أراد
قطعة من العسل. وقيل: على إعطائها معنى النطفة. وقيل: العسل في
الأصل يذكر ويؤنث فمن صغره مؤنثا قال: عسيلة. . . وإنما صغره
إشارة إلى القدر القليل الذي يحصل به الحل".
(4/589)
4889 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن
نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن
عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (1)
4890 - حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا ابن عيينة، عن الزهري،
عن عروة، عن عائشة، قال: سمعتها تقول: جاءت امرأة رفاعة القرظي
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كنت عند رفاعة
فطلقني، فبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه
مثل هدبة الثوب، فقال لها: تريدين أن ترجعي إلى رفاعة! لا حتى
تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك". (2)
4891 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث،
قال: حدثني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، نحوه.
4892 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني
الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: ثنى عروة بن
الزبير، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن
امرأة رفاعة القرظي جاءت رسول الله
__________
(1) الحديث: 4889- رواه مسلم 1: 407 بنحوه من طريق أبي أسامة
عن هشام ابن عروة عن أبيه. ورواه أحمد في المسند 6: 229 (حلبي)
عن أبي معاوية عن هشام. ورواه مسلم أيضًا من طريق ابن فضيل ومن
طريق أبي معاوية كلاهما عن هشام.
* ونقله ابن كثير 1: 549 عن صحيح مسلم، وذكر أن البخاري رواه
من طريق أبي معاوية.
* ثم قال: وهكذا رواه ابن جرير من طريق عبد الله بن المبارك عن
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا بنحوه أو مثله. وهذا
إسناد جيد".
(2) الحديث: 4890- رواه أحمد في المسند 6: 37- 38 (حلبي) عن
سفيان بن عيينة بهذا الإسناد. وزاد في آخره كلام خالد بن سعيد
بن العاص بنحو ما سيأتي في: 4893.
"عبد الرحمن بن الزبير"-بفتح الزاي وكسر الباء- هو القرظي
المدني، صحابي معروف.
وقد ذكره السيوطي 1: 283: 284 ونسبه أيضًا للشافعي وعبد الرزاق
وابن أبي شيبة والصحيحين والترمذي زوالنسائي. وابن ماجه
والبيهقي.
وقوله: "وإنما معه مثل هدبة الثوب" -"كلمة"وإنما" رسمت في
المطبوعة حرفين"وإن ما" والصواب الموافق لسائر الروايات هو ما
أثبتنا.
(4/590)
صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله،
فذكر مثله. (1)
4893 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال:
أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أن رفاعة القرظي
طلق امرأته، فبت طلاقها، فتزوجها بعد عبد الرحمن بن الزبير،
فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله - إنها
كانت عند رفاعة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات- فتزوجت بعده عبد
الرحمن بن الزبير، وإنه والله ما معه يا رسول الله إلا مثل
الهدبة!! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لها:
لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة! لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق
عسيلتك. قالت: وأبو بكر جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم
وخالد بن سعيد بن العاص بباب الحجرة لم يؤذن له، فطفق خالد
ينادي يا أبا بكر يقول: يا أبا بكر ألا تزجر هذه عما تجهر به
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم!. (2)
4894 - حدثنا محمد بن يزيد الأدمي، قال: حدثنا يحيى بن سليم،
عن عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال:"لا حتى يذوق من عسيلتها ما ذاق الأول". (3)
__________
(1) الحديثان: 4891، 4892- هما تكرار للحديث قبلهما بإسنادين
آخرين عن الزهري.
* ولم يذكر الطبري هنا لفظ هاتين الروايتين. وقد رواه مسلم 1:
407 من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري. وساق لفظه كاملا.
(2) الحديث: 4893- هو في كتاب (المصنف) لعبد الرزاق (مخطوط
مصور عندنا) 3: 305 عن معمر وابن جريج -معا عن ابن شهاب.
ورواه أحمد في المسند 6: 226 (حلبي) عن عبد الرزاق عن معمر عن
الزهري. ورواه أحمد أيضًا 6: 34 عن عبد الأعلى عن معمر.
ورواه مسلم: 1: 407 عن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق عن معمر.
ولم يذكر لفظه كاملا إحالة على روايته قبلها.
ونقله ابن كثير 1: 549- 550 من رواية أحمد عن عبد الأعلى. ثم
نسبه لأصحاب الكتب الستة إلا أبا داود.
وانظر تخريج: 4890 فهو في معنى هذا.
(3) الحديث: 4894- محمد بن يزيد الأدمي الخراز البغدادي
المقابري. المعروف بالأحمر: ثقة وثقه الدارقطني وغيره. وقال
السراج: "كان زاهدا من خيار المسلمين". وفي المطبوعة"الأودي"
بدل"الأدمي" وهو تحريف صححناه من المخطوطة ومراجع الترجمة.
مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 4/1129- 130 وفي التهذيب:
"ويقال إنهما اثنان" يعني أن"الأحمر" غير"الأدمي" وعلى ذلك جرى
الخطيب في تاريخ بغداد جعلهما ترجمتين 3: 374 برقم: 1488، و
377 برقم: 1491 والراجح أنهما ترجمتان لشخص واحد.
يحيى بن سليم -بضم السين- القرشي الطائفي: ثقة وثقه ابن معين
وغيره. وقال الشافعي: "كنا نعده من الأبدال". أخرج له أصحاب
الكتب الستة.
عبيد الله: هو ابن عمر بن حفص العمري. القاسم: هو ابن محمد بن
أبي بكر الصديق. عائشة عمته.
(4/591)
4896 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال:
حدثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت عبيد الله، قال: سمعت القاسم
يحدث عن عائشة، قال: قالت: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:"لا حتى يذوق من عسيلتها ما ذاق صاحبه". (1)
4896 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن عبيد الله، قال:
حدثنا القاسم، عن عائشة، أن رجلا طلق امرأته ثلاثا، فتزوجت
زوجا، فطلقها قبل أن يمسها، فسئل رسول الله صلى الله عليه
وسلم: أتحل للأول؟ قال: لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول".
(2)
4897 - حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا موسى بن عيسى الليثي،
عن زائدة، عن علي بن زيد، عن أم محمد، عن عائشة، عن النبي صلى
الله عليه وسلم، قال: "إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا لم تحل له
حتى تنكح زوجا غيره، فيذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه". (3)
__________
(1) الحديث: 4895- هذا والذي قبله مختصران من الحديث الذي
بعدهما.
(2) الحديث: 4896 -يحيى- في هذا الإسناد-: هو ابن سعيد القطان
الإمام.
* وهذا الحديث مطول الحديثين قبله.
* وقد رواه أحمد في المسند 6: 193 (حلبي) عن يحيى -وهو القطان-
بهذا الإسناد.
* ونقله ابن كثير 1: 548- 549 عن هذا الموضع من الطبري. ثم
قال: "أخرجه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن عبيد الله بن
عمر العمري عن القاسم بن أبي بكر عن عمته عائشة- به".
* ونقله السيوطي 1: 284 وزاد نسبته للبيهقي.
(3) الحديث: 4897- موسى بن عيسى الليثي القارئ الكوفي ثقة أخرج
له مسلم في الصحيح.
زائدة: هو ابن قدامة الثقفي، وهو ثقة حافظ مأمون صاحب سنة.
علي بن زيد: هو ابن جدعان وهو ثقة رجحنا توثيقه في شرح المسند:
783.
أم محمد: اسمها"أمية بنت عبد الله" وقيل"أمينة". وهي امرأة
والد علي بن زيد بن جدعان. قال الحافظ في التهذيب 12: 402"ووقع
في بعض النسخ من الترمذي: عن علي بن زيد بن جدعان عن أمه. وهو
غلط فقد روى علي بن زيد عن امرأة أبيه أم محمد- عدة أحاديث".
أقول: هو ربيبها فلا بأس أن يطلق عليها أنها أمه توسعا.
وهي تابعية عرف اسمها وكنيتها فهذا كاف في الحكم بتوثيقها.
خصوصا مع قول الذهبي في الميزان 3: 395. عند ذكره النسوة
المجهولات قال: "وما علمت في النساء من اتهمت ولا من تركوها".
والحديث رواه أحمد في المسند 6: 96 (حلبي) عن عفان عن حماد بن
سلمة عن علي بن زيد به. نحوه. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم
وهو أصح من إسناد الطبري.
ورواه أبو داود والطيالسي في مسنده: 1560 مختصرا عن حماد بن
سلمة عن علي بن زيد عن عمته عن عائشة ولعل قوله"عن عمته" تساهل
أيضًا إن لم يكن تحريفا من ناسخ أو طابع.
ومعناه ثابت عن عائشة بالروايات الصحاح السابقة وغيرها. وأشار
إليه ابن كثير 1: 549 من رواية الطبري هذه. وكان أجدر به
-كعادته- أن يذكره من رواية أحمد وإسنادها أصح.
(4/592)
4898 - حدثني العباس بن أبي طالب، قال:
أخبرنا سعيد بن حفص الطلحي، قال: أخبرنا شيبان، عن يحيى، عن
أبي الحارث الغفاري، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، قال:" حتى يذوق عسيلتها". (1)
4899 - حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني، قال: حدثني
أبي، قال: حدثنا شيبان، قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي
الحارث الغفاري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم في المرأة يطلقها زوجها ثلاثا، فتتزوج زوجا غيره،
فيطلقها قبل أن يدخل بها، فيريد الأول أن يراجعها، قال:"لا حتى
يذوق عسيلتها". (2)
__________
(1) الحديث: 4898- العباس بن أبي طالب شيخ الطبري مضت ترجمته
في: 880 سعد بن حفص الطلي المعروف بالضخم مولى آل طلحة: ثقة من
شيوخ البخاري ووقع في المطبوعة"سعيد" وهو خطأ.
شيبان: هو ابن عبد الرحمن أبو معاوية النحوي. مضت ترجمته في:
2340.
والحديث مختصر من الذي بعده. وسيأتي تمام الكلام فيه.
(2) الحديث: 48990 أبو الحارث الغفاري: ترجمه البخاري في الكنى
برقم: 177 قال: "أبو الحارث سمع أبا هريرة. قال سعيد بن حفص
[كذا وصوابه: سعد] : حدثنا شيبان عن يحيى عن أبي الحارث عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا حتى تذوق العسيلة.
وقال وكيع: عن علي بن المبارك عن يحيى عن أبي يحيى [كذا
وصوابه: عن أبي الحارث] . الغفاري عن أبي هريرة قوله" يريد أنه
في رواية شيبان مرفوع وفي رواية علي ابن المبارك موقوف.
وترجمه ابن أبي حاتم 4/2/358 قال: "أبو الحارث الغفاري سمع أبا
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا حتى تذوق العسيلة. روى
علي بن المبارك. عن يحيى بن أبي كثير عنه سمعت أبي يقول ذلك".
فرواية ابن المبارك عند أبي حاتم مرفوعة. ولا ينافي ذلك رواية
البخاري وقفها. فإن الرفع زيادة ثقةن والراوي قد ينشط فيرفع
الحديث وقد يقتصر فيرويه موقوفا.
وترجمه الحافظ في لسان الميزان وزاد أن الطحاوي روى له حديثا
آخر موقوفا على أبي هريرة من رواية حرب بن شداد عن يحيى ثم
قال: "وذكره الحاكم أبو أحمد في الكنى فيمن لا يعرف اسمه وساق
حديث العسيلة من طريق البخاري في التاريخ عن سعيد بن حفص عن
شيبان به ولم يذكر فيه جرحا".
وهذا الحديث ذكره ابن كثير 1: 548 من روايتي الطبري هاتين. ثم
قال: "وأبو الحارث غير معروف". والتعقيب عليه: أن البخاري وأبا
حاتم عرفاه، ولم يذكرا فيه جرحا فهو ثقة فضلا عن انه تابعي،
وهم على الثقة حتى يستبين جرح واضح.
وذكره السيوطي 1: 284 ونسبه لابن أبي شيبة وابن جرير فقط.
وأشار إليه الترمذي 2: 185 في قوله"وفي الباب". فقال شارحه
المباركفوري: "وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الطبراني وابن أبي
شيبة". وانا أرجح أن قوله"الطبراني" لأنه لو كان عند الطبراني
لذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ولم يفعل. وكذلك السيوطي لم
ينسبه للطبراني بل نسبه للطبري.
وقوله: "يطلقها زوجها ثلاثا": كلمة"ثلاثا" ليست في المخطوطة.
وهي ثابتة في ابن كثير والسيوطي فإثباتها أجود وأوثق.
(4/593)
4900 - حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطي،
قال: حدثنا هشام بن عبد الملك، قال: حدثنا محمد بن دينار، قال:
حدثنا يحيى بن يزيد الهنائي، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى
الله عليه وسلم في رجل طلق امرأته ثلاثا، فتزوجها آخر فطلقها
قبل أن يدخل بها، أترجع إلى زوجها الأول؟ قال:"لا حتى يذوق
عسيلتها وتذوق عسيلته". (1)
__________
(1) الحديث: 4900- محمد بن إبراهيم الأنماطي شيخ الطبري: هو
الملقب بمربع صاحب يحيى بن معين، وتلميذ الإمام أحمد بن حنبل.
ترجمه ابن أبي حاتم 3/2/187 وقال: "بغدادي من الحفاظ" وترجمه
الخطيب في تاريخ بغداد 1: 388- 389 ترجمه جيدة وقال: "كان أحد
الحفاظ الفهماء" وذكر أن يحيى بن معين هو الذي لقبه"بمربع"- في
نفر من أصحابه: "وهلاء كبار أصحابه وحفاظ الحديث". وترجمه
القاضي ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة 1: 266- 267 ترجمة
مختصرة من تاريخ شيخه الخطيب. وفي التهذيب 9: 11 ترجمة شيخ من
هذه الطبقة قد يشتبه بهذا وهو"محمد بن إبراهيم الأسباطي" فهذا
كوفي نزل مصر، وهو غير ذاك. وترجمه ابن أبي حاتم أيضًا
3/2/186.
هشام بن عبد الملك: هو أبو الوليد الطيالسي الحافظ مضى في: 28.
محمد بن دينار الطاحي أبو بكر بن أبي الفرات: تكلم فيه بعضهم
والحق أنه ثقة قال ابن معين: "ليس به بأس" وقال أبو زرعة:
"صدوق". وترجمه البخاري في الكبير 11/77 فلم يذكر فيه جرحا.
يحيى بن يزيد الهنائي البصري: تابعي ثقة ذكره ابن حبان في
الثقات وترجمه البخاري في الكبير 4/2/310 فلم يذكر فيه جرحا.
وروى عنه شعبة وهو لا يروي إلا عن ثقة. وأخرج له مسلم في
صحيحه.
و"الهنائي" بضم الهاء وتخفيف النون، نسبة إلى هناءة بن مالك بن
فهم من الأزد قاله ابن الأثير في اللباب.
والحديث رواه أحمد في المسند: 14069 (3: 284 حلبي) عن عفان عن
محمد بن دينار بهذا الإسناد، نحوه مطولا قليلا.
ورواه البيهقي 7: 375- 376 من طريق يحيى بن حماد عن محمد بن
دينار به.
ونقله ابن كثير 1: 548 عن رواية المسند ثم أشار إلى هذه
الرواية عند الطبري. وذكره السيوطي 1: 284 منسوبا لهؤلاء.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4: 340 ونسبه لأحمد والبزار
وأبي يعلى والطبراني في الأوسط. وقال: "ورجاله رجال الصحيح.
خلا محمد بن دينار الطاحي وقد وثقه أبو حاتم وأبو زرعة وابن
حبان. وفيه كلام لا يضر".
(4/594)
4901 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، ويعقوب بن
ماهان، قالا حدثنا هشيم، قال: أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق، عن
سليمان بن يسار، عن عبيد الله بن العباس: أن الغميصاء- أو:
الرميصاء- جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو زوجها،
وتزعم أنه لا يصل إليها، قال: فما كان إلا يسيرا حتى جاء
زوجها، فزعم أنها كاذبة، ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس لك حتى يذوق عسيلتك
رجل غيره". (1)
__________
(1) الحديث: 4901- يعقوب بن إبراهيم شيخ الطبري: هو الدورقي
الحافظ مضى مرارا ويعقوب بن ماهان شيخه أيضًا: هو البغدادي
البناء وهو ثقة، قال حجاج بن الشاعر: "ليس ببغداد مثل يعقوب بن
ماهان".
والحديث رواه أحمد في المسند: 1837. وهو حديث صحيح، فصلنا
القول فيه هناك، وفي الاستدراك في المسند، رقم: 1448. (ج8
ص312- 313 بشرحنا) .
وذكره السيوطي 1: 284 منسوبا لأحمد والنسائي فقط. ولكنه فيه"عن
عبد الله بن عباس". وهو عندي- خطأ ناسخ أو طابع كما وقع في
مطبوعة النسائي.
(4/595)
4902 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا
محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن علقمة بن مرثد، عن سالم بن
رزين الأحمري، عن سالم بن عبد الله، عن سعيد بن المسيب، عن ابن
عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجل يتزوج المرأة فيطلقها
قبل أن يدخل بها ألبتة، فتتزوج زوجا آخر، فيطلقها قبل أن يدخل
بها، أترجع إلى الأول؟ قال:"لا حتى تذوق عسيلته ويذوق
عسيلتها".
4903 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا
سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن رزين الأحمري، عن ابن عمر، عن
النبي أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا، فيتزوجها رجل،
فأغلق الباب، فطلقها قبل أن يدخل بها، أترجع إلى زوجها الآخر؟
قال:"لا حتى يذوق عسيلتها".
4904 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا
سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن رزين، عن ابن عمر أنه
سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب عن رجل طلق امرأته،
فتزوجت بعده، ثم طلقها أو مات عنها، أيتزوجها الأول؟ قال: لا
حتى تذوق عسيلته. (1)
* * *
__________
(1) الأحاديث: 4902- 4904 هي حديث واحد بثلاثة أسانيد واسانيده
كلها ضعاف. وقد فصلت القول فيه في شرح المسند: 4776، 4777،
5277، 5278، 5571.
* وقد ذكر البخاري الخلاف فيه، في الكبير 2/214 في
ترجمة"سليمان بن رزين". ثم قال: قال إبراهيم بن المنذر: حدثنا
أنس بن عياض سمع موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: لو فعله
أحد وعمر حي، لرجمهما. قال أبو عبد الله [هو البخاري نفسه] :
وهذا أشهر ولا تقوم الحجة بسالم بن رزين ولا برزين لأنه لا
يدري سماعه من سالم ولا من ابن عمر".
* وخبر ابن عمر هذا -الموقوف- رواه أيضًا عبد الرزاق في المصنف
(3: 305 مخطوط مصور) : "عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع
عن ابن عمر قال: لو أن رجلا طلق امرأته ثلاثا ثم نكحها رجل
بعده، ثم طلقها قبل أن يجامعها ثم نكحها زوجها الأول- فيفعل
ذلك وعمر حي إذن لرجمهما".
(4/596)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ
طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ
ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" فإن طلقها" فإن طلق
المرأة- التي بانت من زوجها بآخر التطليقات الثلاث بعد ما
نكحها مطلقها الثاني-، (1) زوجها الذي نكحها بعد بينونتها من
الأول=" فلا جناح عليهما" يقول تعالى ذكره: فلا حرج على المرأة
التي طلقها هذا الثاني من بعد بينونتها من الأول، وبعد نكاحه
إياها-، (2) وعلى الزوج الأول الذي كانت حرمت عليه ببينونتها
منه بآخر التطليقات= أن يتراجعا بنكاح جديد. كما:
4905 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس:" فإن طلقها
فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله" (3)
يقول: إذا تزوجت بعد الأول، فدخل الآخر بها، فلا حرج على الأول
أن يتزوجها إذا طلق الآخر أو مات عنها، فقد حلت له.
4906 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشام،
قال: أخبرنا
__________
(1) قوله: "زوجها" فاعل قوله في صدر الكلام: "فإن طلق المرأة.
. " وسياق جملته: "فإن طلق المرأة. . . زوجها الذي نكحها. . .
" وما بينهما فصل طويل في صفة"المرأة".
(2) قوله"على الزوج. . . " معطوف على قوله: "على المرأة" وسياق
جملته: "فلا حرج على المرأة. . . وعلى الزوج. . . أن يتراجعا".
وهكذا اضطررت للمخالفة بين أنواع الفواصل حتى يتيسر للقارئ وصل
الكلام بعضه ببعض.
(3) في المخطوطة قطع الآية عند قوله: "أن يتراجعا" ومضى في
الكلام.
(4/597)
جويبر، عن الضحاك، قال: إذا طلق واحدة أو
ثنتين، فله الرجعة ما لم تنقض العدة. قال: والثالثة قوله:" فإن
طلقها" يعني الثالثة فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجا غيره،
فيدخل بها،"فإن طلقها"= هذا الأخير بعد ما يدخل بها،"فلا جناح
عليهما أن يتراجعا" = يعنى الأول ="إن ظنا أن يقيما حدود
الله".
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:" إن ظنا أن يقيما حدود الله" فإن
معناه: إن رجوا مطمعا أن يقيما حدود الله. وإقامتهما حدود
الله: العمل بها، وحدود الله: ما أمرهما به، وأوجب بكل واحد
منهما على صاحبه، وألزم كل واحد منهما بسبب النكاح الذي يكون
بينهما. وقد بينا معنى"الحدود"، ومعنى"إقامة" ذلك، بما أغنى عن
إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وكان مجاهد يقول في تأويل قوله:" إن ظنا أن يقيما حدود الله"
ما:-
4907 - حدثني به محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" إن ظنا أن يقيما حدود
الله" إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة. (2)
4908 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وقد وجه بعض أهل التأويل قوله" إن ظنا" إلى أنه
بمعنى: إن أيقنا. (3) وذلك ما لا وجه له، لأن أحدا لا يعلم ما
هو كائن إلا الله تعالى
__________
(1) انظر تفسير"الحدود" فيما سلف من هذا الجزء 4: 584
ومعنى"إقامة الحدود والصلاة" فيما سلف 1: 241 وهذا الجزء 4:
564، 565.
(2) الدلسة: (بضم فسكون) الظلام ومثله"الدلس" (بفتحتين) ومن
مجازها: دالس يدالس مدالسة: أي خادع وغدر لأنه يخفي عليك
الشيء، كأنه يأتيك به في الظلام ولم أجد من استعمل"الدلسة"
مجازا في المخادعة والغش إلا في هذا الأثر. وهو عربي عتيق
فصيح.
(3) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 74.
(4/598)
ذكره. فإذ كان ذلك كذلك، فما المعنى الذي
به يوقن الرجل والمرأة أنهما إذا تراجعا أقاما حدود الله؟ ولكن
معنى ذلك كما قال تعالى ذكره:" إن ظنا" بمعنى طمعا بذلك ورجوا
* * *
"وأن" التي في قوله:" أن يقيما"، في موضع نصب بـ "ظنا"، و"أن"
التي في" أن يتراجعا" جعلها بعض أهل العربية في موضع نصب بفقد
الخافض، (1) لأن معنى الكلام: فلا جناح عليهما في أن يتراجعا-
فلما حذفت"في" التي كانت تخفضها نصبها، فكأنه قال: فلا جناح
عليهما تراجعهما.
وكان بعضهم يقول: (2) موضعه خفض، وإن لم يكن معها خافضها، وإن
كان محذوفا فمعروف موضعه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" وتلك حدود الله" هذه
الأمور التي بينها لعباده في الطلاق والرجعة والفدية والعدة
والإيلاء وغير ذلك مما يبينه لهم في هذه الآيات="حدود الله"-
معالم فصول حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته=" يبينها"= يفصلها،
فيميز بينها، ويعرفهم أحكامها لقوم يعلمونها إذا بينها الله
لهم، فيعرفون أنها من عند الله، فيصدقون بها، ويعملون بما
أودعهم الله من علمه، دون الذين قد طبع الله على قلوبهم، وقضى
عليهم أنهم لا يؤمنون بها، ولا يصدقون
__________
(1) يعني بهذا الفراء في معاني القرآن 1: 148.
(2) هو الكسائي فيما نقله الفراء في كتابه 1: 148 أيضًا.
(4/599)
بأنها من عند الله، فهم يجهلون أنها من
الله، وأنها تنزيل من حكيم حميد. ولذلك خص القوم الذي يعلمون
بالبيان دون الذين يجهلون، إذ كان الذين يجهلون أنها من عنده
قد آيس نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من تصديق كثير منهم بها،
وإن كان بينها لهم من وجه الحجة عليهم ولزوم العمل لهم بها،
وإنما أخرجها من أن تكون بيانا لهم من وجه تركهم الإقرار
والتصديق به.
* * *
(4/600)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا
تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ
هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا
أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ
بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"وإذا طلقتم"، أيها الرجال
نساءكم ="فبلغن أجلهن"، يعني: ميقاتهن الذي وقته لهن، من
انقضاء الأقراء الثلاثة، إن كانت من أهل القرء، (1) وانقضاء
الأشهر، إن كانت من أهل الشهور="فأمسكوهن"، يقول: فراجعوهن إن
أردتم رجعتهن في الطلقة التي فيها رجعة: وذلك إما في التطليقة
الواحدة أو التطليقتين، كما قال تعالى ذكره: (الطَّلاقُ
مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسَانٍ) .
=وأما قوله:"بمعروف"، فإنه عنى: بما أذن به من الرجعة، من
الإشهاد على الرجعة قبل انقضاء العدة، دون الرجعة بالوطء
والجماع. لأن ذلك إنما يجوز للرجل بعد الرجعة، وعلى الصحبة مع
ذلك والعشرة بما أمر الله به وبينه لكم أيها الناس ="أو سرحوهن
بمعروف"، يقول: أو خلوهن يقضين تمام عدتهن وينقضي بقية أجلهن
الذي أجلته لهن لعددهن، بمعروف. يقول: بإيفائهن تمام حقوقهن
عليكم، (2) على ما ألزمتكم لهن من مهر ومتعة ونفقة وغير ذلك من
حقوقهن قبلكم ="ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا" = يقول: ولا
تراجعوهن،
__________
(1) في المطبوعة: "من أهل الأقراء"، وهي صواب، ولكن لا أدري لم
غير ما في المخطوطة.
(2) في المخطوطة: "بإنفاقهن"، وهو فساد من الناسخ العجل، كما
أسلفت.
(5/7)
إن راجعتموهن في عددهن، مضارة لهن، لتطولوا
عليهن مدة انقضاء عددهن، أو لتأخذوا منهن بعض ما آتيتموهن
بطلبهن الخلع منكم، لمضارتكم إياهن، بإمساككم إياهن،
ومراجعتكموهن ضرارا واعتداء.
وقوله:"لتعتدوا"، يقول: لتظلموهن بمجاوزتكم في أمرهن حدودي
التي بينتها لكم.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
4909- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي
الضحى، عن مسروق:"ولا تمسكوهن ضرارا"، قال: يطلقها، حتى إذا
كادت تنقضي راجعها، ثم يطلقها، فيدعها، حتى إذا كادت تنقضي
عدتها راجعها، ولا يريد إمساكها: فذلك الذي يضار ويتخذ آيات
الله هزوا.
4910- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي
رجاء قال: سئل الحسن عن قوله تعالى:"وإذا طلقتم النساء فبلغن
أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا
لتعتدوا"، قال: كان الرجل يطلق المرأة ثم يراجعها، ثم يطلقها
ثم يراجعها، يضارها، فنهاهم الله عن ذلك.
4911- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإذا طلقتم النساء
فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف"، قال: نهى الله
عن الضرار ="ضرارا"، أن يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها عند آخر
يوم يبقى من الأجل، حتى يفي لها تسعة أشهر، ليضارها به.
4912- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه= إلا أنه قال: نهى عن الضرار،
والضرار في الطلاق
(5/8)
أن يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها= وسائر
الحديث مثل حديث محمد بن عمرو.
4913- حدثني محمد بن سعد قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإذا طلقتم النساء فبلغن
أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا
لتعتدوا"، كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قيل انقضاء عدتها،
ثم يطلقها. يفعل ذلك يضارها ويعضلها، فأنزل الله هذه الآية.
(1)
4914- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن
فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا"،
قال: كان الرجل يطلق امرأته تطليقة واحدة، ثم يدعها، حتى إذا
ما تكاد تخلو عدتها راجعها، ثم يطلقها، حتى إذا ما كاد تخلو
عدتها راجعها. (2) ولا حاجة له فيها، إنما يريد أن يضارها
بذلك. فنهى الله عن ذلك وتقدم فيه، (3) وقال:"ومن يفعل ذلك فقد
ظلم نفسه".
4915- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث، عن
يونس، عن ابن شهاب قال: قال الله تعالى ذكره:"وإذا طلقتم
النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا
تمسكوهن ضرارا لتعتدوا"، فإذا طلق الرجل المرأة وبلغت أجلها،
فليراجعها بمعروف أو ليسرحها بإحسان، ولا يحل له أن يراجعها
ضرارا، وليست له فيها رغبة، إلا أن يضارها.
4916- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق،
عن معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا"، قال:
هو في الرجل
__________
(1) عضل المرأة يعضلها: لم يحسن عشرتها، ليضطرها بذلك إلى
الافتداء منه بمهرها الذي أمهرها.
(2) خلا الشيء يخلو خلوا: مضى وانقضى.
(3) قوله: "تقدم فيه"، أي أمرهم بأمره فيه ونهاهم عن فعله،
وزجرهم.
(5/9)
يحلف بطلاق امرأته، فإذا بقي من عدتها شيء
راجعها، يضارها بذلك ويطول عليها، فنهاهم الله عن ذلك.
4917- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن
أبي أويس، عن مالك بن أنس، عن ثور بن زيد الديلي: أن رجلا كان
يطلق امرأته ثم يراجعها، ولا حاجة له بها ولا يريد إمساكها،
كيما يطول عليها بذلك العدة ليضارها، فأنزل الله تعالى
ذكره:"ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه"،
يعظم ذلك. (1)
4918- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن
خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان الباهلي قال: سمعت الضحاك يقول
في قوله:"ولا تمسكوهن ضرارا"، هو الرجل يطلق امرأته واحدة ثم
يراجعها، ثم يطلقها ثم يراجعها، ثم يطلقها، ليضارها بذلك،
لتختلع منه.
4920- حدثنا موسى قال حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو
سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم
نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا"، قال: نزلت في رجل من الأنصار
يدعى ثابت بن يسار (2) طلق امرأته حتى إذا انقضت عدتها إلا
يومين أو ثلاثة، راجعها، (3) ثم طلقها، ففعل ذلك بها حتى مضت
لها تسعة أشهر، مضارَّةً يضارُّها، فأنزل الله تعالى ذكره:"ولا
تمسكوهن ضرارا لتعتدوا".
4921- حدثني العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال، سمعت عبد
العزيز
__________
(1) الأثر: 4917- الموطأ: 588، بلفظه، إلا قوله: "يعظم ذلك"
فإنها فيه"يعظهم الله بذلك". وفي المطبوعة: "ليعظم ذلك".
(2) في المطبوعة: "ثابت بن بشار"، والصواب من المخطوطة، والدر
المنثور 1: 285، وأسد الغابة، وذكر الخبر، ونسبه إلى الطبري
وابن المنذر.
(3) في المطبوعة: "أو ثلاثا" والصواب من المخطوطة.
(5/10)
يسأل عن طلاق الضرار فقال: يطلق ثم يراجع،
ثم يطلق ثم يراجع، فهذا الضرار الذي قال الله:"ولا تمسكوهن
ضرارا لتعتدوا".
4922- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا
فضيل بن مرزوق، عن عطية:"ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا"، قال:
الرجل يطلق امرأته تطليقة، ثم يتركها حتى تحيض ثلاث حيض، ثم
يراجعها، ثم يطلقها تطليقة، ثم يمسك عنها حتى تحيض ثلاث حيض،
ثم يراجعها="لتعتدوا"، قال: لا يطاول عليهن.
* * *
قال أبو جعفر: وأصل"التسريح"، من"سرح القوم"، وهو ما أطلق من
نَعَمهم للرعي. يقال للمواشي المرسلة للرعي "هذا سرْح القوم"
يراد به مواشيهم المرسلة للرعي. ومنه قول الله تعالى ذكره:
(وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ
وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ
تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [سورة النحل: 5، 6] يعني
بقوله:"حين تسرحون"، حين ترسلونها للرعي. فقيل للمرأة إذا
خلاها زوجها فأبانها منه: سرحها، تمثيلا لذلك ب"تسريح" المسرح
ماشيته للرعي، وتشبيها به. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ
ظَلَمَ نَفْسَهُ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ومن يراجع امرأته = بعد
طلاقه إياها في الطلاق الذي له فيه عليها الرجعة = ضرارا بها
ليعتدي حد الله في أمرها،
__________
(1) هذا دليل آخر على أن الطبري كان أحيانا يرجئ تفسير كلمة أو
ينساها، لرغبته في الاختصار وإلا فقد مضى"التسريح" آنفًا في
الآية: 229، ولم يبينه هناك.
(5/11)
فقد ظلم نفسه، يعني: فأكسبها بذلك إثما،
وأوجب لها من الله عقوبة بذلك.
* * *
وقد بينا معنى"الظلم" فيما مضى، وأنه وضع الشيء في غير موضعه،
وفعل ما ليس للفاعل فعله. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ
هُزُوًا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: ولا تتخذوا أعلام الله وفصوله
بين حلاله وحرامه، وأمره ونهيه، في وحيه وتنزيله = استهزاء
ولعبا، فإنه قد بين لكم في تنزيله وآي كتابه، ما لكم من الرجعة
على نسائكم، في الطلاق الذي جعل لكم عليهن فيه الرجعة، وما ليس
لكم منها، وما الوجه الجائز لكم منها، وما الذي لا يجوز، وما
الطلاق الذي لكم عليهن فيه الرجعة، وما ليس لكم ذلك فيه، وكيف
وجوه ذلك، رحمة منه بكم ونعمة منه عليكم، ليجعل بذلك لبعضكم =
من مكروه، إن كان فيه من صاحبه ما يؤذيه = المخرج والمخلص
بالطلاق والفراق، (2) وجعل ما جعل لكم عليهن من الرجعة سبيلا
لكم إلى الوصول إلى ما نازعه إليه ودعاه إليه هواه، بعد فراقه
إياهن منهن، لتدركوا بذلك قضاء أوطاركم منهن، إنعاما منه بذلك
عليكم، لا لتتخذوا ما بينت لكم من ذلك في آي كتابي وتنزيلي
-تفضلا مني ببيانه عليكم
__________
(1) انظر مراجع"الظلم" فيما سلف 4: 584، تعليق رقم: 2
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "ليجعل بذلك لبعضكم من مكروه إن
كان فيه من صاحبه مما هو فيه المخرج. . . "، وهي جملة لا تكاد
تستقيم، وأظن أن الناسخ العجل في هذا القسم من الكتاب، قد عجل
كعادته، فنقل"ما يؤذيه""مما هو فيه" جعل"الياء" هاء، وشبك
الذال في الياء وجعلها فاء. وسياق الجملة: "ليجعل بذلك لبعضكم
المخرج والمخلص. . . من مكروه إن كان -فيه من صاحبه ما يؤذيه"_
أي: في هذا المكروه من صاحبه أذى له، وجملة"فيه من صاحبه ما
يؤذيه"، صفة لقوله: "مكروه".
(5/12)
وإنعاما ورحمة مني بكم- لعبا وسخريا.
* * *
وبمعنى ما قلنا في ذلك قال، أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
4923- حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا أبي قال،
حدثنا أيوب بن سليمان قال، حدثنا أبو بكر بن أبي أويس، عن
سليمان بن بلال، عن محمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة، عن ابن
شهاب، عن سليمان بن أرقم: أن الحسن حدثهم: أن الناس كانوا على
عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم، يطلق الرجل أو يعتق فيقال:
ما صنعت؟ فيقول: إنما كنت لاعبا! قال رسول الله صلي الله عليه
وسلم: من طلق لاعبا أو أعتق لاعبا فقد جاز عليه = قال الحسن:
وفيه نزلت:"ولا تتخذوا آيات الله هزوا". (1) .
4924- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
__________
(1) الحديث: 4923- عبد الله بن أحمد بن شبويه: مضى في: 1909-
أبوه"أحمد بن محمد بن ثابت بن عثمان الخزاعي، أبو الحسن بن
شبويه": ثقة، روى عنه ابن معين -وهو من أقرانه- وأبو زرعة وأبو
داود، وغيرهم. أيوب بن سليمان بن بلال التيمي: ثقة من شيوخ
البخاري. يروى عن أبيه بواسطة ابن أبي أويس. أبو بكر بن أبي
أويس: هو عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله المدني الأعشى،
مضى في: 4333. سليمان بن بلال: مضى في 41، 4333. محمد بن أبي
عتيق: هو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر
الصديق، نسب إلى"أبي عتيق" كنية جده"محمد بن عبد الرحمن". وهو
ثقة، أخرج له البخاري في صحيحه. سليمان بن أرقم، أبو معاذ
البصري: ضعيف جدا، قال البخاري: "تركوه". وقال ابن معين: "ليس
يسوى فلسا، وليس بشيء". وقال أبو زرعة: "ضعيف الحديث، ذاهب
الحديث". وهو من تلاميذ الزهري، ولكن الزهري يروى عنه أحيانا،
كما في هذا الإسناد. وهذا الحديث ضعيف، لإرساله، إلى ضعف راويه
سليمان بن أرقم. وقد جاء هذا الحديث المرسل بإسناد أجود من هذا
-على إرساله-: فرواه ابن أبي حاتم، عن عصام بن رواد، عن آدم بن
أبي إياس، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن. ذكره ابن كثير 1:
555. ثم أشار إلى إسناد الطبري هنا. وذكره السيوطي 1: 286،
وزاد نسبته لابن أبي شيبة.
(5/13)
عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولا تتخذوا
آيات الله هزوا"، قال: كان الرجل يطلق امرأته فيقول: إنما طلقت
لاعبا! فنهوا عن ذلك، فقال تعالى ذكره:"ولا تتخذوا آيات الله
هزوا".
4925- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن منصور، عن عبد
السلام بن حرب، عن يزيد بن عبد الرحمن، عن أبي العلاء، عن حميد
بن عبد الرحمن، عن أبي موسى: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم
غضب على الأشعريين -فأتاه أبو موسى فقال: يا رسول الله، غضبت
على الأشعريين! فقال: يقول أحدكم:"قد طلقت، قد راجعت"!! ليس
هذا طلاق المسلمين، طلقوا المرأة في قبل عدتها.
4926- حدثنا أبو زيد، عن ابن شبة قال، حدثنا أبو غسان النهدي
قال، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن يزيد بن أبي خالد -يعني
الدالاني- عن أبي العلاء الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن، عن
أبي موسى الأشعري، عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال:" لم
يقول أحدكم لامرأته: قد طلقتك، قد راجعتك"؟ ليس هذا بطلاق
المسلمين، طلقوا المرأة في قبل طهرها. (1)
* * *
__________
(1) الحديثان: 4925، 4926- إسحاق بن منصور السلولي- في الإسناد
الأول: ثقة، أخرج له الأئمة الستة.
و"أبو زيد عن ابن شبة" -في الإسناد الثاني: لم أجد في هذه
الطبقة من يعرف بأبي زيد، ولا في التي فوقها من يعرف بابن شبة.
والظاهر أنه شيخ واحد، محرف عن"أبي زيد عمر بن شبة". أبو غسان
النهدي: هو مالك بن إسماعيل بن درهم، مضى في: 2989.
يزيد بن عبد الرحمن - في الإسناد الأول: هو"يزيد أبو خالد
الدالاني". في الإسناد الثاني. مضت ترجمته في: 875. ووقع في
الإسناد الثاني -هنا-"عن يزيد بن أبي خالد"، وزيادة"بن" خطأ.
أبو العلاء الأودي: هو داود بن عبد الله الأودي الزعافري. وهو
ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، وغيرهما. وأخطأ من خلط بينه
وبين"داود بن يزيد الأودي، عم ابن إدريس". "الزعافري": نسبة
إلى"الزعافر"، وهم بطن من"أود".
حميد بن عبد الرحمن الحميري البصري: تابعي ثقة، أخرج له الأئمة
الستة.
والحديث رواه أيضًا البيهقي 7: 323، من طريق العباس بن محمد
الدوري، عن مالك بن إسماعيل، وهو أبو غسان النهدي، عن عبد
السلام بن حرب، به. وآخره عنده: "طلقوا المرأة في قبل طهرها".
وقوله في الإسناد الثاني: "أنه قال: لم يقول أحدكم لامرأته" -
في المطبوعة"لهم" بدل"لم". والظاهر أنها خطأ، فصححناه من رواية
البيهقي.
وإسنادا الطبري هذان صحيحان. وكذلك إسناد البيهقي. ونقله ابن
كثير 1: 554، عن إسناد الطبري الأول، ثم أشار إلى الثاني.
ونقله السيوطي 1: 285 - 286، ونسبة لابن ماجه، وابن جرير،
والبيهقي. ثم نقله بنحوه 6: 230، ونسبه لعبد بن حميد، وابن
مردويه.
ورواية ابن ماجه ليست بهذا اللفظ، ولا من هذا الوجه. فرواه ابن
ماجه: 2017، عن محمد بن بشار، عن مؤمل بن إسماعيل، عن سفيان،
عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى، مرفوعا: "ما بال
أقوام يلعبون بحدود الله؟ يقول أحدهم: قد طلقتك، قد راجعتك، قد
طلقتك!! " وقال البوصيري في زوائده: "إسناده حسن، مؤمل بن
إسماعيل اختلف فيه، فقيل: ثقة. وقيل: كثير الخطأ، وقيل: منكر
الحديث".
وقد أخطأ البوصيري من وجهين. فإن مؤمل بن إسماعيل ثقة، كما
بينا في: 2057. ثم هو لم ينفرد بروايته حتى يعل به.
فقد رواه البيهقي 7: 322، من طريق موسى بن مسعود النهدي، عن
سفيان، وهو الثوري، بهذا الإسناد. ثم رواه أيضًا من طريق مؤمل
بن إسماعيل، عن الثوري. وموسى بن مسعود: ثقة، كما بينا في:
280، 1693.
(5/14)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا
نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ
الْكِتَابِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: واذكروا نعمة الله عليكم
بالإسلام، الذي أنعم عليكم به فهداكم له، وسائر نعمه التي خصكم
بها دون غيركم من سائر خلقه، فاشكروه على ذلك بطاعته فيما
أمركم به ونهاكم عنه، واذكروا أيضا مع ذلك ما أنزل عليكم من
كتابه، وذلك: القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلي الله عليه
وسلم، (1) واذكروا ذلك فاعملوا به، واحفظوا حدوده فيه =
و"الحكمة"، يعني: وما أنزل عليكم من الحكمة، وهي السنن التي
علمكموها رسول الله صلي الله عليه وسلم وسنها لكم.
__________
(1) في المطبوعة: "من كتابه ذلك القرآن"، وهو سهو من الكاتب
والصواب من المخطوطة.
(5/15)
وقد ذكرت اختلاف المختلفين في معنى"الحكمة"
فيما مضى قبل في قوله: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ) (1) [سورة البقرة: 129] ، فأغنى عن إعادته في
هذا الموضع. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا
اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(231) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"يعظكم به"، يعظكم
بالكتاب الذي أنزل عليكم = والهاء التي في قوله:"به"، عائدة
على الكتاب.
"واتقوا الله"، يقول: وخافوا الله = فيما أمركم به وفيما نهاكم
عنه في كتابه الذي أنزله عليكم، وفيما أنزله فبينه على لسان
رسول الله صلي الله عليه وسلم لكم = أن تضيعوه وتتعدوا حدوده،
فتستوجبوا ما لا قبل لكم به من أليم عقابه ونكال عذابه.
وقوله:"واعلموا أن الله بكل شيء عليم"، يقول: واعلموا أيها
الناس أن ربكم = الذي حد لكم هذه الحدود، وشرع لكم هذه
الشرائع، وفرض عليكم هذه الفرائض، في كتابه وفي تنزيله على
رسوله محمد صلي الله عليه وسلم= بكل ما أنتم عاملوه- من خير
وشر، وحسن وسيئ، وطاعة ومعصية، عالم لا يخفى عليه من ظاهر ذلك
وخفيه وسره وجهره، شيء، وهو مجازيكم بالإحسان إحسانا، وبالسيئ
سيئا، إلا أن يعفو ويصفح، فلا تتعرضوا لعقابه وتظلموا أنفسكم.
(3)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "ويعلمكم الكتاب"، وصوابها هنا ما
أثبت.
(2) انظر ما سلف 3: 87، 88.
(3) في المطبوعة: "ولا تظلموا أنفسكم"، والصواب من المخطوطة
بحذف"لا".
(5/16)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ
يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى
لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ (232)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ
أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ}
قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل كانت له أخت كان
زوجها من ابن عم لها فطلقها، وتركها فلم يراجعها حتى انقضت
عدتها، ثم خطبها منه، فأبى أن يزوجها إياه ومنعها منه، وهي فيه
راغبة.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الرجل الذي كان فعل ذلك، فنزلت فيه
هذه الآية. فقال بعضهم كان ذلك الرجل:"معقل بن يسار المزني".
* ذكر من قال ذلك:
4927- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة عن الحسن، عن معقل بن يسار قال: كانت أخته تحت
رجل فطلقها، ثم خلا عنها، (1) حتى إذا انقضت عدتها خطبها، فحمي
معقل من ذلك، أَنَفًا، (2) وقال: خلا عنها وهو يقدر عليها!!
(3) فحال بينه وبينها، فأنزل الله تعالى ذكره:"وإذا طلقتم
النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا
بينهم بالمعروف". (4)
__________
(1) خلا عن الشيء: تركه. وهذا الفعل الثلاثي قلما تصيبه واضحا
في كتب اللغة، ولكنه عربي معرق. وقد جاء في ثنايا العبارة في
مادة (خلا) من لسان العرب، وأتى به واضحا الشيرازي في معيار
اللغة. والرواية الآتية تدل على صحة معناه كذلك. وهكذا جاء في
مخطوطة الطبري ومطبوعته"خلا" ثلاثيا في الموضعين، وجاء في
رواية البخاري التي سنذكرها بعد"خَلَّى عَنْها" في الموضعين،
وهي بمعناها.
(2) قال ابن حجر في الفتح: "حمى - بكسر ثانية، وأنفًا، بفتح
الهمزة والنون، أي ترك الفعل غيظا وترفعا" وحمى: أخذته الحمية،
وهي الأنفة والغيرة.
(3) خلا عن الشيء: تركه. وهذا الفعل الثلاثي قلما تصيبه واضحا
في كتب اللغة، ولكنه عربي معرق. وقد جاء في ثنايا العبارة في
مادة (خلا) من لسان العرب، وأتى به واضحا الشيرازي في معيار
اللغة. والرواية الآتية تدل على صحة معناه كذلك. وهكذا جاء في
مخطوطة الطبري ومطبوعته"خلا" ثلاثيا في الموضعين، وجاء في
رواية البخاري التي سنذكرها بعد"خلى عنها" في الموضعين، وهي
بمعناها.
(4) الأثر: 4927- أخرجه البخاري بروايته عن محمد بن المثنى، عن
عبد الأعلى (الفتح 9: 425-426) ، وفي رواية البخاري زيادة:
"فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه. فترك الحمية
واستقاد لأمر الله". وستأتي في مرسل قتادة الآتي برقم: 4930،
وسأشرحها في التعليق هناك.
(5/17)
4928- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن
الفضل بن دلهم، عن الحسن، عن معقل بن يسار: أن أخته طلقها
زوجها، فأراد أن يراجعها، فمنعها معقل، فأنزل الله تعالى
ذكره:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن
أزواجهن" إلى آخر الآية. (1)
4929- حدثنا محمد بن عبد الله المخزومي قال، حدثنا أبو عامر
قال، حدثنا عباد بن راشد قال، حدثنا الحسن قال، حدثني معقل بن
يسار قال: كانت لي أخت تخطب وأمنعها الناس، حتى خطب إلي ابن عم
لي فأنكحتها، فاصطحبا ما شاء الله، ثم إنه طلقها طلاقا له
رجعة، ثم تركها حتى انقضت عدتها، ثم خطبت إلي، فأتاني يخطبها
مع الخطاب، فقلت له: خطبت إلي فمنعتها الناس، فآثرتك بها، ثم
طلقت طلاقا لك فيه رجعة، فلما خُطبت إلي آتيتني تخطبها مع
الخطاب! والله لا أنكحكها أبدا! قال: ففي نزلت هذه الآية:"وإذا
طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا
تراضوا بينهم بالمعروف"، قال: فكفرت عن يميني، وأنكحتها إياه.
(2)
4930- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن
أزواجهن إذا
__________
(1) الأثر: 4928- أخرجه الحاكم في المستدرك 2: 280 وقال: "هذا
حديث صحيح الإسناد. ولم يخرجاه"، وعقب عليه الذهبي فقال:
"الفضل، ضعفه ابن معين، وقواه غيره". بيد أن ابن أبي حاتم ذكر
في ترجمته في الجرح والتعديل 3/2/61: "سئل يحيى بن معين عن
الفضل بن دلهم فقال: حديثه صالح" وانظر الاختلاف في أمر الفضل
في ترجمته في التهذيب.
(2) الأثر: 4929-"محمد بن عبد الله بن المبارك القرشي المخرمي"
(بضم الميم وفتح الخاء وتشديد الراء المكسورة، نسبة
إلى"المخرم"، وهي محلة كانت ببغداد، بين الرصافة ونهر المعلى.
توفي ببغداد سنة 260، قال النسائي: "كان أحد الثقات، ما رأينا
بالعراق مثله". وقال الدارقطني: "ثقة جليل متقن". وقد مضت
رواية الطبري عنه رقم: 3730. وكان في المطبوعة: "المخزومي".
وهذا الأثر، أخرجه البخاري بروايته عن عبيد الله بن سعيد، عن
أبي عامر العقدي، ولم يذكر إلا صدر الخبر، ليثبت به تحديث
الحسن عن معقل لقوله: "حدثني معقل بن يسار" (فتح الباري 8:
143) . وأخرجه أبو داود، بروايته عن محمد بن المثنى، عن أبي
عامر العقدي، وهو مختصر.
(5/18)
تراضوا بينهم بالمعروف"، ذكر لنا أن رجلا
طلق امرأته تطليقة، ثم خلا عنها حتى انقضت عدتها، ثم قرب بعد
ذلك يخطبها = والمرأة أخت معقل بن يسار= فأنف من ذلك معقل بن
يسار، وقال: خلا عنها وهي في عدتها، ولو شاء راجعها، ثم يريد
أن يراجعها وقد بانت منه! فأبى عليها أن يزوجها إياه. وذكر لنا
أن نبي لله، لما نزلت هذه الآية، دعاه فتلاها عليه، فترك
الحمية واستقاد لأمر الله. (1)
4931- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
يونس، عن الحسن قوله تعالى:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا
تعضلوهن"، إلى آخر الآية، قال: نزلت هذه الآية في معقل بن
يسار. قال الحسن: حدثني معقل بن يسار أنها نزلت فيه، قال: زوجت
أختا لي من رجل فطلقها، حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت
له: زوجتك وفرشتك أختي وأكرمتك، ثم طلقتها، ثم جئت تخطبها! لا
تعود إليك أبدا! قال: وكان رجل صدق لا بأس به، وكانت المرأة
تحب أن ترجع إليه، قال الله تعالى ذكره:"وإذا طلقتم النساء
فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم
بالمعروف".
قال، فقلت: الآن أفعل يا رسول الله! فزوجها منه. (2)
__________
(1) الأثر: 4930- هو إسناد الطبري الدائر في التفسير، من تفسير
قتادة، بيد أنه من معنى رواية قتادة عن الحسن، رقم: 4927، وفي
آخر الزيادة التي أشرنا إليه في رواية البخاري للأثر السالف.
و"الحمية" الأنفة والغضب. واستفاد للشيء، أذعن وأطاع، من"قاد
الدابة يقودها". أي ألقى بقيادة غير جامح ولا معاند.
(2) الأثر: 4931- أخرجه البخاري. قال: "حدثنا أحمد بن أبي عمر،
قال حدثنا أبي، قال حدثني إبراهيم، عن يونس" و"أحمد بن أبي
عمر" هو: أحمد بن حفص بن عبد الله بن راشد. و"إبراهيم" هو:
"إبراهيم بن طهمان، و"يونس" هو: يونس بن عبيد (الفتح 9: 160)
وقد استقصى الكلام فيه الحافظ ابن حجر، ثم ذكره في (الفتح 8:
143) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك 2: 174، والبيهقي في السنن
7: 138، كلاهما من طريق أحمد بن حفص بمثل رواية البخاري، وهي
مثل رواية الطبري، وإن كان فيها خلاف في بعض اللفظ، كما أشار
إليه الحافظ في الفتح، وذكر ما فيه من الروايات. وها هنا خلاف
لم يذكره الحافظ في قوله: "فرشتك أختي"، فهكذا هو في المخطوطة
والمطبوعة، وفي المستدرك والذهبي جميعا، وفي سائر
الروايات"أفرشتك"، وهما صواب في العربية جميعا. من قولهم:
"فرشت فلانا بساطا واْفرشته إياه": إذا بسطته له. وفرش له أخته
وأفرشها له: جعلها له فراشا. والفراش كناية عن المرأة.
(5/19)
4932- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن
واضح قال، حدثنا أبو بكر الهذلي، عن بكر بن عبد الله المزني
قال: كانت أخت معقل بن يسار تحت رجل فطلقها، فخطب إليه فمنعها
أخوها، (1) فنزلت:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن" إلى آخر
الآية.
4933- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، عن مجاهد قوله:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا
تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن" الآية، قال: نزلت في امرأة من مزينة
طلقها زوجها وأبينت منه، فنكحها آخر، فعضلها أخوها معقل بن
يسار، يضارها خيفة أن ترجع إلى زوجها الأول = قال ابن جريج،
وقال عكرمة: نزلت في معقل بن يسار. قال ابن جريج: أخته جمل
ابنة يسار، كانت تحت أبي البداح، (2) طلقها، فانقضت عدتها،
فخطبها، فعضلها معقل بن يسار.
4934- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإذا طلقتم النساء فبلغن
أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم
بالمعروف"، نزلت في امرأة من مزينة طلقها زوجها، فعضلها أخوها
أن ترجع إلى زوجها الأول = وهو معقل بن يسار أخوها.
__________
(1) في المخطوطة: "إخوتها"، والذي في المطبوعة أحرى بالصواب،
لمشاكلته سائر الروايات.
(2) في المطبوعة: "جميل" بوزن التصغير، كما قال ابن حجر في
الفتح والإصابة (9: 160) والذي في المخطوطة مضبوط بالقلم"جمل"
بضم الجيم. وقد ذكرها فيه أيضًا وفي الإصابة (بضم أوله وسكون
الميم) . وقال ابن حجر أنه وقع في تفسير الطبري"جميل"، ولكن
هذه المخطوطة شاهدة على اختلاف نسخ الطبري. واختلف في اسمها
واسم"أبي البداح" اختلاف طويل، فراجعه في فتح الباري 9: 160،
والإصابة. وسيأتي في رقم: 4936 أن اسمها"فاطمة".
(5/20)
4935- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة
قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله = إلا أنه لم
يقل فيه:"وهو معقل بن يسار".
4936- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن
المبارك قال، أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق الهمداني: أن فاطمة
بنت يسار طلقها زوجها، ثم بدا له فخطبها، فأبى معقل، فقال:
زوجناك فطلقتها وفعلت! فأنزل الله تعالى ذكره:"فلا تعضلوهن أن
ينكحن أزواجهن". (1)
4937- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن الحسن وقتادة في قوله:"فلا تعضلوهن"، قال: نزلت في
معقل بن يسار، كانت أخته تحت رجل فطلقها، حتى إذا انقضت عدتها
جاء فخطبها، فعضلها معقل فأبى أن ينكحها إياه، فنزلت فيها هذه
الآية، يعني به الأولياء، يقول:"فلا تعضلوهن أن ينكحن
أزواجهن".
4938- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن رجل، عن
معقل بن يسار قال: كانت أختي عند رجل فطلقها تطليقة بائنة،
فخطبها، فأبيت أن أزوجها منه، فأنزل الله تعالى ذكره:"فلا
تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن"، الآية.
* * *
وقال آخرون كان الرجل:"جابر بن عبد الله الأنصاري".
* ذكر من قال ذلك:
4939- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن
أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف"، قال: نزلت في
جابر بن عبد الله
__________
(1) الأثر: 4936-"أبو إسحاق الهمداني"، هو"أبو إسحاق السبيعي،
عمرو بن عبد الله بن عبيد، من سبيع، والسبيع من همدان" روى عن
علي والمغيرة بن شعبة، ومات سنة 126.
(5/21)
الأنصاري، وكانت له ابنة عم فطلقها زوجها
تطليقة، فانقضت عدتها، ثم رجع يريد رجعتها. فأما جابر فقال:
طلقت ابنة عمنا، ثم تريد أن تنكحها الثانية! وكانت المرأة تريد
زوجها، قد راضته. فنزلت هذه الآية.
* * *
وقال آخرون: نزلت هذه الآية دلالة على نهي الرجل مضارة وليَّته
من النساء، يعضلها عن النكاح.
* ذكر من قال ذلك:
4940- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فلا
تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن" فهذا في الرجل يطلق امرأته تطليقة
أو تطليقتين، فتنقضي عدتها، ثم يبدو له في تزويجها وأن
يراجعها، وتريد المرأة فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله
سبحانه أن يمنعوها.
4941- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإذا طلقتم النساء فبلغن
أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم
بالمعروف"، كان الرجل يطلق امرأته تبين منه وينقضي أجلها، (1)
ويريد أن يراجعها وترضى بذلك، فيأبى أهلها، قال الله تعالى
ذكره:"فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم
بالمعروف".
4942- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق في
قوله:"فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن" قال: كان الرجل يطلق
امرأته ثم يبدو له أن يتزوجها، فيأبى أولياء المرأة أن
يزوجوها، فقال الله تعالى ذكره:"فلا
__________
(1) في المطبوعة: "تبين منه" بغير فاء، والصواب من المخطوطة.
(5/22)
تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم
بالمعروف".
4943- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أصحابه،
عن إبراهيم في قوله:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا
تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن"، قال: المرأة تكون عند الرجل
فيطلقها، ثم يريد أن يعود إليها، فلا يعضلها وليها أن ينكحها
إياه.
4944- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
الليث، عن يونس، عن ابن شهاب: قال الله تعالى ذكره:"وإذا طلقتم
النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن" الآية، فإذا
طلق الرجل المرأة وهو وليها، فانقضت عدتها، فليس له أن يعضلها
حتى يرثها، ويمنعها أن تستعف بزوج.
4945- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا
عبيد بن سلمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وإذا طلقتم
النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن"، هو الرجل يطلق امرأته
تطليقة، ثم يسكت عنها فيكون خاطبا من الخطاب، فقال الله
لأولياء المرأة:"لا تعضلوهن"، يقول: لا تمنعوهن أن يرجعن إلى
أزواجهن بنكاح جديد ="إذا تراضوا بينهم بالمعروف"، = إذا رضيت
المرأة وأرادت أن تراجع زوجها بنكاح جديد.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في هذه الآية أن يقال: إن الله
تعالى ذكره أنزلها دلالة على تحريمه على أولياء النساء مضارة
من كانوا له أولياء من النساء، بعضلهن عمن أردن نكاحه من أزواج
كانوا لهن، فبن منهن بما تبين به المرأة من زوجها من طلاق أو
فسخ نكاح. وقد يجوز أن تكون نزلت في أمر معقل بن يسار وأمر
أخته، أو في أمر جابر بن عبد الله وأمر ابنة عمه. وأي ذلك كان،
فالآية دالة على ما ذكرت.
* * *
(5/23)
ويعني بقوله تعالى:"فلا تعضلوهن"، لا
تضيقوا عليهن بمنعكم إياهن أيها الأولياء من مراجعة أزواجهن
بنكاح جديد، تبتغون بذلك مضارتهن.
* * *
يقال منه:"عضل فلان فلانة عن الأزواج يعضلها عضلا"، وقد ذكر
لنا أن حيا من أحياء العرب من لغتها:"عضل يعضل". فمن كان من
لغته"عضل"، فإنه إن صار إلى"يفعَل"، قال:"يعضَل" بفتح"الضاد".
والقراءة على ضم"الضاد" دون كسرها، والضم من لغة من قال"عضل".
(1)
* * *
وأصل"العضل"، الضيق، ومنه قول عمر رحمة الله عليه:"وقد أعضل بي
أهل العراق، لا يرضون عن وال، ولا يرضى عنهم وال"، (2) يعني
بذلك حملوني على أمر ضيق شديد لا أطيق القيام به.
ومنه أيضا"الداء العضال" وهو الداء الذي لا يطاق علاجه، لضيقه
عن العلاج، وتجاوزه حد الأدواء التي يكون لها علاج، ومنه قول
ذي الرمة:
ولم أقذف لمؤمنة حصان ... بإذن الله موجبة عضالا (3)
__________
(1) هذا البيان لا تجده في كتب اللغة، وليس فيها ما رواه عن
لغة هذا الحي من العرب. وقوله"عضل يعضل" بكسر الضاد الأولى
وفتح الثانية، مضبوط بالقلم في المخطوطة، كما ضبطت سائر
الأفعال.
(2) روى الزمخشري وصاحب اللسان في مادة (عضل) : "أعضل بي أهل
الكوفة، ما يرضون بأمير ولا يرضى عنهم أمير" ثم قال الزمخشري:
"وروى: غلبني أهل الكوفة، أستعمل عليهم المؤمن فيضعف، وأستعمل
عليهم الفاجر فيفجر! "
(3) ديوانه 441- من أبيات وصف بها صنعة شعره فقال:
وشعر قد أرقت له غريب ... أجنبه المساند والمحالا
غرائب قد عرفن بكل أفق ... من الآفاق تفتعل افتعالا
فبت أقيمه، وأقد منه ... قوافي لا أعد لها مثالا
غرائب قد عرفن بكل أفق ... من الآفاق تفتعل افتعالا
فلم أقذف. . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . .
. . . . . .
وهذا البيت الأخير، يعرض فيه بأئمة الهجاء في عصره، جرير
والفرزدق والأخطل وسائر من تراموا بالسباب. والحصان: العفيفة
الطاهرة. والموجبة: أي التي توجب حد القذف، أو توجب النار،
أعاذنا الله منها! والعضال: التي لا مخرج منها ولا علاج لها.
وسياق البيت: ولم أقذف موجبة عضالا -لمؤمنة حصان. . . يعني: لم
أرم الكلمة الشائنة والسباب الفاحش، أبغي به أمرأة عفيفة قد
برأها الله مما يقال. ورواية الديوان"بحمد الله"، وهي أجود.
هذا والبيت في المخطوطة فاسد: "لرمته حصال"!!
(5/24)
ومنه قيل:"عضل الفضاء بالجيش لكثرتم"، إذا
ضاق عنهم من كثرتهم. وقيل:"عضلت المرأة"، إذا نشب الولد في
رحمها فضاق عليه الخروج منها، ومنه قول أوس بن حجر:
وليس أخوك الدائم العهد بالذي يذمك إن ولى ويرضيك مقبلا (1)
ولكنه النائي إذا كنت آمنا ... وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
* * *
و"أن" التي في قوله:"أن ينكحن"، في موضع نصب قوله:"تعضلوهن".
ومعنى قوله:"إذا تراضوا بينهم بالمعروف"، إذا تراضى الأزواج
والنساء بما يحل، ويجوز أن يكون عوضا من أبضاعهن من المهور،
(2) ونكاح جديد مستأنف، كما:-
4946- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان،
عن عمير بن عبد الله، عن عبد الملك بن المغيرة، عن عبد الرحمن
بن البيلماني، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: أنكحوا
الأيامى. فقال رجل: يا رسول الله، ما العلائق بينهم؟ قال:"ما
تراضى عليه أهلوهم". (3)
__________
(1) ديوانه، القصيدة: 31. وهما بيتان قد كشفا عن سرائر الناس
بلا مداجاة. فقلما تظفر بذلك.
(2) الأبضاع جمع بضع (بضم فسكون) : وهو الفرج، والجماع، وعقد
النكاح، والمهر، والمراد الأول.
(3) الحديث: 4946- عبد الرحمن: هو ابن مهدي. سفيان: هو الثوري.
عمير بن عبد الله بن بشر الخثعمي: ثقة، وثقه ابن نمير وغيره.
عبد الملك بن المغيرة الطائفي: تابعي ثقة، وهو يروي هنا عن
تابعي آخر. عبد الرحمن بن البيلماني، مولى عمر: تابعي ثقة،
تكلم فيه بعض العلماء، والحق أن ما أنكر من حديثه إنما جاء مما
رواه عنه ابنه محمد. وأما هو فثقة. وهذا الحديث ضعيف، لأنه
مرسل. وقد رواه البيهقي 7: 239، من طريق قيس بن الربيع، عن
عمير بن عبد الله، بهذا الإسناد. ثم رواه من طريق حفص بن غياث
وأبي معاوية، عن حجاج بن أرطاة، عن عبد الملك بن المغيرة
الطائفي، ثم قال: "هذا منقطع".
(5/25)
4947- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن
الحارث قال، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، عن أبيه،
عن ابن عمر، عن النبي صلي الله عليه وسلم، بنحو منه. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة قول من
قال:"لا نكاح إلا بولي من العصبة". وذلك أن الله تعالى ذكره
منع الولي من عضل المرأة إن أرادت النكاح ونهاه عن ذلك. فلو
كان للمرأة إنكاح نفسها بغير إنكاح وليها إياها، أو كان لها
تولية من أرادت توليته في إنكاحها -لم يكن لنهي وليها عن عضلها
معنى مفهوم، إذ كان لا سبيل له إلى عضلها. وذلك أنها إن كانت
متى أردات النكاح جاز لها إنكاح نفسها، أو إنكاح من توكله
إنكاحها، (2)
__________
(1) الحديث: 4947- هو تكرار للحديث قبله، ولكنه في هذا متصل،
بذكر"ابن عمر" فيه. وهو ضعيف أيضًا. بل هو أشد ضعفا من ذاك
المرسل. محمد بن الحارث بن زياد بن الربيع الحارثي: ثقة، متكلم
فيه. وقد فصلنا القول في ترجيحه، في شرح المسند: 5371.
محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني: ضعيف جدا، والبلاء في أحاديث
أبيه، ثم في أحاديث محمد ابن الحارث الحارثي -إنما هو من
ناحيته. روى عن أبيه أحاديث مناكير لا أصل لها، أو مراسيل لا
أصل لوصلها، وروى عنه محمد الحارثي - فتكلم في كل منهما من
أجله. وقد فصلنا القول في تضعيفه، في شرح المسند: 4910.
وهذا الحديث رواه البيهقي 7: 239، من طريق بندار، وهو محمد بن
بشار، شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد. ثم رواه من طريق أبي عبد
الرحمن الحضرمي صالح بن عبد الجبار، عن محمد بن عبد الرحمن بن
البيلماني، عن أبيه، عن ابن عباس! ثم نقل عن أبي أحمد بن عدي،
قال: محمد ابن عبد الرحمن بن البيلماني ضعيف. ومحمد بن الحارث
ضعيف. والضعف على حديثهما بين".
ونقله السيوطي 1: 287، من حديث ابن عمر، ونسبه لابن أبي شيبة،
وابن جرير، وابن مردويه. ثم سكت عن ضعفه.
(2) في المطبوعة: "من توكله إنكاحها" بإسقاط الباء، وأثبت ما
في المخطوطة.
(5/26)
فلا عضل هنالك لها من أحد فينهى عاضلها عن
عضلها. وفي فساد القول بأن لا معنى لنهي الله عما نهى عنه، صحة
القول بأن لولي المرأة في تزويجها حقا لا يصح عقده إلا به. وهو
المعنى الذي أمر الله به الولي:= من تزويجها إذا خطبها خاطبها
ورضيت به، وكان رضى عند أوليائها، جائزا في حكم المسلمين
لمثلها أن تنكح مثله= ونهاه عن خلافه: من عضلها، ومنعها عما
أرادت من ذلك، وتراضت هي والخاطب به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ
كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله ذلك، ما ذكر في هذه
الآية: من نهي أولياء المرأة عن عضلها عن النكاح، يقول: فهذا
الذي نهيتكم عنه من عضلهن عن النكاح، عظة مني من كان منكم أيها
الناس يؤمن بالله واليوم الآخر- يعني يصدق بالله، فيوحده، ويقر
بربوبيته، (1) "واليوم الآخر" يقول: ومن يؤمن باليوم الآخر،
فيصدق بالبعث للجزاء والثواب والعقاب، (2) ليتقي الله في نفسه،
فلا يظلمها بضرار وليته ومنعها من نكاح من رضيته لنفسها، ممن
أذنت لها في نكاحه.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:"ذلك يوعظ به"، وهو
__________
(1) انظر ما سلف في معنى"الإيمان" في مادة (أمن) من فهارس
اللغة في الأجزاء الماضية.
(2) انظر ما سلف في تفسير"اليوم الآخر" 1: 271 / 2: 148.
(5/27)
خطاب لجميع، وقد قال من قبل:"فلا تعضلوهن"؟
وإذا جاز أن يقال في خطاب الجميع"ذلك"، أفيجوز أن تقول لجماعة
من الناس وأنت تخاطبهم:"أيها القوم، هذا غلامك، وهذا خادمك"،
وأنت تريد: هذا خادمكم، وهذا غلامكم؟
قيل: لا إن ذلك غير جائز مع الأسماء الموضوعات، (1) لأن ما
أضيف له الأسماء غيرها، (2) فلا يفهم سامع سمع قول قائل
لجماعة:"أيها القوم، هذا غلامك"، أنه عنى بذلك هذا غلامكم -
إلا على استخطاء الناطق في منطقه ذلك. فإن طلب لمنطقه ذلك وجها
في الصواب، (3) صرف كلامه ذلك إلى أنه انصرف عن خطاب القوم بما
أراد خطابهم به، إلى خطاب رجل واحد منهم أو من غيرهم، وترك
مجاوزة القوم بما أراد مجاوزتهم به من الكلام. (4) وليس ذلك
كذلك في"ذلك" لكثرة جري ذلك على ألسن العرب في منطقها وكلامها،
حتى صارت"الكاف" -التي هي كناية اسم المخاطب فيها- كهيئة حرف
من حروف الكلمة التي هي متصلة. وصارت الكلمة بها كقول
القائل:"هذا"، كأنها ليس معها اسم مخاطب. (5) فمن قال:"ذلك
يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر"، أقر"الكاف"
من"ذلك" موحدة مفتوحة في خطاب الواحدة من النساء، والواحد من
الرجال، والتحدثنية، والجمع. ومن قال:"ذلكم يوعظ به"،
كسر"الكاف" في خطاب الواحدة من النساء، وفتح في خطاب الواحد من
الرجال، فقال في خطاب الاثنين
__________
(1) "الأسماء الموضوعات"، كأن"الاسم الموضوع"، هو"الاسم
المتمكن، أو المعرب"، ضريع"الاسم غير المتمكن، أو المبني".
(2) قوله: "غيرها"، أي غير الأسماء.
(3) في المطبوعة: "وجها فالصواب"، وهي خطأ محض، والصواب من
المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "مجاوزة القوم. . . مجاوزتهم" بالجيم والزاي
في الموضعين، وهو كلام غير بصير. والصواب ما في المخطوطة وما
يقتضيه السياق.
(5) يعني أنها صارت بمنزلة"هذا" في جريها كأنها كلمة واحدة،
وهي مركبة من"الهاء" و"ذا"، الذي هو اسم إشارة.
(5/28)
منهم: (1) "ذلكما"، وفي خطاب الجمع"ذلكم".
وقد قيل: إن قوله:"ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله"، خطاب
للنبي صلي الله عليه وسلم، ولذلك وحد (2) ثم رجع إلى خطاب
المؤمنين بقوله:"من كان منكم يؤمن بالله". وإذا وجه التأويل
إلى هذا الوجه، لم يكن فيه مؤونة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ
وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ
(232) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله"ذلكم" نكاحهن أزواجهن،
ومراجعة أزواجهن إياهن، (3) بما أباح لهن من نكاح ومهر
جديد="أزكى لكم"، أيها الأولياء والأزواج والزوجات.
* * *
ويعني بقوله:"أزكى لكم"، أفضل وخير عند الله من فرقتهن
أزواجهن. وقد دللنا فيما مضى على معنى"الزكاة"، فأغنى ذلك عن
إعادته. (4)
* * *
وأما قوله:"وأطهر"، فإنه يعني بذلك: أطهر لقلوبكم وقلوبهن
وقلوب أزواجهن من الريبة. وذلك أنهما إذا كان في نفس كل واحد
منهما - أعني الزوج والمرأة - علاقة حب، لم يؤمن أن يتجاوزا
ذلك إلى غير ما أحله الله لهما،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "فقال في خطاب. . . " بالفاء، وهو
لا يستقيم.
(2) في المطبوعة"ولذلك وجه"، وهو كلام مسلوب المعنى، والصواب
من المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "نكاح أزواجهن لهن"، وفي المخطوطة: "نكاحهن
أزواجهن لهن"، والذي في المطبوعة وجه من التصحيح لما في
المخطوطة، ولكني رأيت أن للتصحيح وجها آخر، هو حذف"لهن". وذلك
لأنه أراد بقوله: "نكاحهن أزواجهن"، ما جاء في الآية: "أن
ينكحن أزواجهن" بإسناد"النكاح" إلى النساء، فلذلك آثرت هذا
التصحيح، ولئلا يكون في الكلام تكرير لقوله بعد"ومراجعة
أزواجهن إياهن".
(4) انظر ما سلف 1: 573-574 /2: 297 / 3: 88.
(5/29)
وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ
أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ
نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا
وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ
ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا
وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ
تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا
سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
ولم يؤمن من أوليائهما أن يسبق إلى قلوبهم
منهما ما لعلهما أن يكونا منه بريئين. فأمر الله تعالى ذكره
الأولياء -إذا أراد الأزواج التراجع بعد البينونة، بنكاح
مستأنف، في الحال التي أذن الله لهما بالتراجع (1) = أن لا
يعضل وليته عما أرادت من ذلك، وأن يزوجها. لأن ذلك أفضل
لجميعهم، وأطهر لقلوبهم مما يخاف سبوقه إليها من المعاني
المكروهة. (2)
ثم أخبر تعالى ذكره عباده أنه يعلم من سرائرهم وخفيات أمورهم
ما لا يعلمه بعضهم من بعض، ودلهم بقوله لهم ذلك في هذا الموضع،
أنه إنما أمر أولياء النساء بإنكاح من كانوا أولياءه من النساء
إذا تراضت المرأة والزوج الخاطب بينهم بالمعروف، ونهاهم عن
عضلهن عن ذلك= لما علم مما في قلب الخاطب والمخطوب من غلبة
الهوى والميل من كل واحد منهما إلى صاحبه بالمودة والمحبة،
فقال لهم تعالى ذكره: افعلوا ما أمرتكم به، إن كنتم تؤمنون بي،
وبثوابي وبعقابي في معادكم في الآخرة، فإني أعلم من قلب الخاطب
والمخطوبة ما لا تعلمونه من الهوى والمحبة. وفعلكم ذلك أفضل
لكم عند الله ولهم، وأزكى وأطهر لقلوبكم وقلوبهن في العاجل.
(3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ
يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والنساء اللواتي بن من
أزواجهن،
__________
(1) في المطبوعة: "أذن الله لهما"، والمخطوطة ليس فيها
زيادة"الله".
(2) "سبوق" مصدر"سبق"، لم يرد في كتب اللغة، ولكن الطيري يكثر
استعماله كما أشرنا إليه آنفًا في الجزء 4: 287، 288 / ثم: 427
/ ثم: 446، والتعليقات عليها.
(3) هذا كلام حبر رباني حكيم، قد فقهه الله في أمور دينه،
وآتاه الحكمة في أمور دنياه، وعلمه من تأويل كتابه، فحمل
الأمانة وأداها، ونصح للناس فعلمهم وفطنهم، ولم يشغله في تفسير
كتاب ربه نحو ولا لغة ولا فقه ولا أصول -كما اصطلحوا عليه- عن
كشف المعاني للناس مخاطبا بها قلوبهم وعقولهم، ليبين لهم ما
أنزل الله على نبيه، بالعهد الذي أخذه الله على العلماء. فرحم
الله أبا جعفر، وغفر الله للمفسرين من بعده. وقلما تصيب مثل ما
كتب في كتاب من كتب التفسير.
(5/30)
ولهن أولاد قد ولدنهم من أزواجهن قبل
بينونتهن منهم بطلاق، أو ولدنهم منهم، (1) بعد فراقهم إياهن،
من وطء كان منهم لهن قبل البينونة ="يرضعن أولادهن"، يعني
بذلك: أنهن أحق برضاعهم من غيرهم.
وليس ذلك بإيجاب من الله تعالى ذكره عليهن رضاعهم، إذا كان
المولود له ولد، (2) حيا موسرا. لأن الله تعالى ذكره قال
في"سورة النساء القصرى" (3) (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ
فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) [سورة الطلاق: 6] ، فأخبر تعالى
ذكره: (4) أن الوالدة والمولود له إن تعاسرا في الأجرة التي
ترضع بها المرأة ولدها، أن أخرى سواها ترضعه، فلم يوجب عليها
فرضا رضاع ولدها. فكان معلوما بذلك أن قوله:"والوالدات يرضعن
أولادهن حولين"، دلالة على مبلغ غاية الرضاع التي متى اختلف
الوالدان في رضاع المولود بعده، جعل حدا يفصل به بينهما، لا
دلالة على أن فرضا على الوالدات رضاع أولادهن.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:"حولين"، فإنه يعني به سنتين، كما:-
4948- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والوالدات يرضعن أولادهن
حولين كاملين"، سنتين.
__________
(1) في المطبوعة: "أو أولدنهم"، وهو خطأ فاحش. والصواب من
المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة"والدا"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(3) هي"سورة الطلاق"، السورة الخامسة والستون من كتاب الله.
وسموها"القصرى" لتسميتهم السورة الرابعة من القرآن: "سورة
النساء الطولى"، للفرق بينهما.
(4) في المطبوعة: "وأخبر تعالى أن الوالدة. . . "، والزيادة من
المخطوطة. وفيهما جميعا"وأخبر" بالواو، والسياق يقتضي الفاء
كما أثبتها.
(5/31)
4949- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة
قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وأصل"الحول" من قول القائل:"حال هذا الشيء"، إذا انتقل. ومنه
قيل:"تحول فلان من مكان كذا"، إذا انتقل عنه.
* * *
فإن قال لنا قائل: وما معنى ذكر"كاملين" في قوله:"والوالدات
يرضعن أولادهن حولين كاملين"، بعد قوله:"يرضعن حولين"، وفي
ذكر"الحولين" مستغنى عن ذكر"الكاملين"، (1) إذ كان غير مشكل
على سامع سمع قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين" ما يراد
به؟ فما الوجه الذي من أجله زيد ذكر كاملين؟.
قيل: إن العرب قد تقول:"أقام فلان بمكان كذا حولين، أو يومين،
أو شهرين"، وإنما أقام به يوما وبعض آخر، أو شهرا وبعض آخر، أو
حولا وبعض آخر، فقيل:"حولين كاملين" ليعرف سامعو ذلك أن الذي
أريد به حولان تامان، (2) لا حول وبعض آخر. (3) وذلك كما قال
الله تعالى ذكره: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ
مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ
عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [سورة
البقرة: 203] . ومعلوم أن المتعجل إنما يتعجل في يوم ونصف،
وكذلك ذلك في اليوم الثالث من أيام التشريق، (4) وأنه ليس منه
شيء تام، ولكن العرب تفعل ذلك في الأوقات خاصة فتقول:"اليوم
يومان منذ لم أره"،
__________
(1) في المطبوعة: "وفي ذكر الحولين" بإسقاط"الهاء" الضمير.
(2) في المطبوعة: "ليعرف سامع ذلك"، بالإفراد، وأثبت ما في
المخطوطة.
(3) انظر ما سلف في تفسير قوله تعالى: "ولتكملوا العدة" 3:
476، 477 / ثم تفسير قوله تعالى: "تلك عشرة كاملة" في الجزء 4:
108، 109.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "فكذلك ذلك" بالفاء وهو خطأ مخل،
والصواب ما أثبت. وفي معاني القرآن للفراء 1: 119: "وكذلك هو
في اليوم. . . ". نص كلامه. ويعني أن اليوم الثالث من أيام
التشريق هو أيضًا يوم غير تام. وانظر التعليق التالي ص: 33
رقم: 2 والمراجع فيه.
(5/32)
وإنما تعني بذلك يوما وبعض آخر. وقد توقع
الفعل الذي تفعله في الساعة أو اللحظة، على العام والزمان
واليوم، فتقول:"زرته عام كذا - (1) وقتل فلان فلانا زمان
صفين"، وإنما تفعل ذلك، لأنها لا تقصد بذلك الخبر عن عدد
الأيام والسنين، وإنما تعني بذلك الأخبار عن الوقت الذي كان
فيه المخبر عنه، فجاز أن ينطق"بالحولين"، و"اليومين"، على ما
وصفت قبل. لأن معنى الكلام في ذلك: فعلته إذ ذاك، وفي ذلك
الوقت. (2)
فكذلك قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، لما جاز
الرضاع في الحولين وليسا بالحولين (3) = (4) وكان الكلام لو
أطلق في ذلك، بغير تضمين الحولين بالكمال، (5) وقيل:"والوالدات
يرضعن أولادهن حولين"، محتملا أن يكون معنيا به حول وبعض آخر=
نفي اللبس عن سامعيه بقوله: (6) "كاملين" أن يكون مرادا به حول
وبعض آخر، وأبين بقوله:"كاملين" عن وقت تمام حد الرضاع، وأنه
تمام الحولين بانقضائهما، دون انقضاء أحدهما وبعض الآخر.
* * *
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في الذي دلت عليه هذه
الآية، من مبلغ غاية رضاع المولودين: أهو حد لكل مولود، أو هو
حد لبعض دون بعض؟
__________
(1) في المطبوعة: "رزقه عام كذا"، وهو كلام لا خير فيه،
والصواب من المخطوطة، وإن كانت غير منقوطة، وحروفها بسيطة
القلم.
(2) سلف هذا بغير هذا اللفظ في الجزء 4: 120، 121 وكثير من
لفظه هنا في معاني القرآن للفراء 1: 119 - 120، ومن الموضعين
صححنا ما صححناه آنفًا.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "لما كان الرضاع. . . " وهو تصحيف
مخل جدا، والسياق يقتضي قراءته كما أثبت، حتى يستقيم المعنى.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "فكان" بالفاء، والصواب بالواو،
عطفا على قوله: "لما جاز. . . "
(5) في المطبوعة: "تضمين الحولين بالكمال"، وفي المخطوطة:
"تضمين" بغير نقط، والميم كأنها هاء قصيرة، ورجحت أن ذلك من
عجلة الناسخ، وأن صوابها"تبيين"، لقوله بعد قليل: "وأبين
بقوله: كاملين. . . "، لأن البيان هو التفسير، ومن الصفة تفسير
وبيان.
(6) سياق العبارة: "لما جاز الرضاع. . . وكان الكلام لو أطلق.
. . نفى اللبس، جواب"لما".
(5/33)
فقال بعضهم: هو حد لبعض دون بعض.
* ذكر من قال ذلك:
4950- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا
داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، في التي تضع لستة أشهر: أنها
ترضع حولين كاملين، وإذا وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين
لتمام ثلاثين شهرا، وإذا وضعت لتسعة أشهر أرضعت واحدا وعشرين
شهرا.
4951- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا
داود، عن عكرمة، بمثله، ولم يرفعه إلى ابن عباس.
4952- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن الزهري، عن أبي عبيد، قال: رفع إلى عثمان امرأة ولدت
لستة أشهر، فقال: إنها رفعت [إلي امرأة] ، لا أراها إلا قد
جاءت بشر -أو نحو هذا- ولدت لستة أشهر! فقال ابن عباس: إذا
أتمت الرضاع كان الحمل لستة أشهر. قال: وتلا ابن عباس:
(وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) [سورة الأحقاف:
15] ، فإذا أتمت الرضاع كان الحمل لستة أشهر. فخلى عثمان
سبيلها. (1)
* * *
وقال آخرون: بل ذلك حد رضاع كل مولود اختلف والداه في رضاعه،
(2)
__________
(1) الخبر: 4952- أبو عبيد: هو سعد بن عبيد، "مولى عبد الحمن
بن أزهر"، ويقال له أيضًا: "مولى عبد الرحمن بن عوف". قال
البخاري في الكبير 2 / 2 / 61: "لأنهما ابنا عم". وقال في
صحيحه 4: 209"قال ابن عيينة: من قال مولى ابن أزهر، فقد أصاب،
ومن قال مولى عبد الرحمن بن عوف، فقد أصاب". وهو تابعي ثقة
قديم، من فقهاء أهل المدينة، روى عن عمر، وعثمان، وعلي،
وغيرهم.
ووقع في المطبوعة: "عن أبي عبيدة"، وهو خطأ، صححناه من كتاب
المصنف لعبد الرزاق ج4 ورقة 97، وفيه: "عن أبي عبيد، مولى عبد
الحمن بن عوف".
ونقله السيوطي 6: 40، ونسبه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، فقط.
وكان في المخطوطة والمطبوعة: "إنها رفعت لا أراها"، وفي مصنف
عبد الرزاق: "رفعت إلى امرأة، لا أراه إلا قال: وقد جاءت بشر".
(2) في المخطوطة: "وإذا اختلف وأن لإرضاع"، وما بينها بياض
كلمتين أو ثلاث. وفي المطبوعة: "إذا اختلف والداه وأن لا
رضاع"، وزدت أنا"في رضاعه"، استظهارا من ترجمة الأخبار التي
رويت عنهم آنفًا ص: 34، 35، ومن بيان أبي جعفر الآتي بعد سطرين
أو ثلاثة.
(5/34)
فأراد أحدهما البلوغ إليه، والآخر التقصير
عنه.
* ذكر من قال ذلك:
4953- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن
حولين كاملين"، فجعل الله سبحانه الرضاع حولين كاملين لمن أراد
أن يتم الرضاعة، ثم قال:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور
فلا جناح عليهما"، إن أرادا أن يفطماه قبل الحولين وبعده.
4954- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
عن ابن جريج قال: قلت لعطاء:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين
كاملين"، قال: إن أرادت أمه أن تقصر عن حولين كان عليها حقا أن
تبلغه -لا أن تزيد عليه إلا أن يشاء. (1)
4955- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران (2)
= وحدثني علي بن سهل قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء= جميعا، عن
الثوري في قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن
أراد أن يتم الرضاعة"، والتمام الحولان. قال: فإذا أراد الأب
أن يفطمه قبل الحولين ولم ترض المرأة فليس له ذلك. وإذا قالت
المرأة:"أنا أفطمه قبل الحولين"، وقال الأب:"لا"، فليس لها أن
تفطمه حتى يرضى الأب، حتى يجتمعا. فإن اجتمعا قبل الحولين
فطماه، وإذا اختلفا لم يفطماه قبل الحولين. وذلك قوله:"فإن
أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور".
* * *
وقال آخرون: بل دل الله تعالى ذكره بقوله:"والوالدات يرضعن
أولادهن
__________
(1) في المطبوعة: "إلا أن تشاء"، والصواب ما أثبت من المخطوطة.
أي: إلا أن يشاء الزوج، ويوافقها على ما تريد من الزيادة.
(2) هو"مهران بن أبي عمر العطار، أبو عبد الله الرازي". قال
أبو حاتم ثقة صالح الحديث. وروى له ابن عدي أحاديث من رواية
محمد بن حميد عنه، ثم قال: "وكل هذه الأحاديث عن مهران إلا
القليل، يرويه عن مهران محمد بن حميد، وابن حميد له شغل في
نفسه مما رواه عن الناس! ومهران خير منه". وقال الساجي: "في
حديثه اضطراب، وهو من أكثر أصحاب الثوري رواية عنه". وقال
العقيلي: "روي عن الثوري أحاديث لا يتابع عليها". وقال ابن
حبان: "أسلم على يد الثوري، وله صنف (الجامع الصغير) ".
التهذيب.
(5/35)
حولين كاملين"، على أن لا رضاع بعد
الحولين، فإن الرضاع إنما هو كان في الحولين.
* ذكر من قال ذلك:
4956- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، أخبرنا ابن أبي ذئب
قال، حدثنا الزهري، عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا إن الله
تعالى ذكره يقول:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، ولا
نرى رضاعا بعد الحولين يحرم شيئا (1)
4957- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن يونس بن
يزيد، عن الزهري، قال: كان ابن عمر وابن عباس يقولان: لا رضاع
بعد الحولين.
4958- حدثنا أبو السائب قال، حدثنا حفص، عن الشيباني، عن أبي
الضحى، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله قال: ما كان من رضاع
بعد سنتين أو في الحولين بعد الفطام فلا رضاع.
4959- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن
قالا حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة، أنه رأى
امرأة ترضع بعد حولين فقال: لا ترضعيه.
4960- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان،
عن الشيباني قال: سمعت الشعبي يقول: ما كان من وجور أو سعوط أو
رضاع في الحولين فإنه يحرم، وما كان بعد الحولين لم يحرم شيئا.
(2)
__________
(1) الوجور (بفتح الواو) : الدواء يدخل في الفم. والسعوط"بفتح
السين) : الدواء يدخل في الأنف.
(2) الوجور (بفتح الواو) : الدواء يدخل في الفم. والسعوط (بفتح
السين) : الدواء يدخل في الأنف.
(5/36)
4961- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن
جعفر قال، حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم: أنه كان يحدث
عن عبد الله، أنه قال: لا رضاع بعد فصال، أو بعد حولين.
4962- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حسن بن عطية قال، حدثنا
إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:
ليس يحرم من الرضاع بعد التمام، إنما يحرم ما أنبت اللحم وأنشأ
العظم (1)
4963- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن عمرو بن دينار: أن ابن عباس قال: لا رضاع بعد فصال
السنتين.
4964- حدثنا هلال بن العلاء الرقي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا
عبيد الله، عن زيد، عن عمرو بن مرة، عن أبي الضحى قال: سمعت
ابن عباس يقول:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، قال:
لا رضاع إلا في هذين الحولين. (2)
* * *
وقال آخرون: بل كان قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين
كاملين"،
__________
(1) الأثر: 4962-"الحسن بن عطية بن نجيح القرشي أبو علي
البزار" روىعن الحسن وعلي ابني صالح، ويعقوب القمي، وحمزة
الزيات، وإسرائيل بن يونس وطبقتهم. وعنه البخاري في التايخ،
وعبد الأعلى بن واصل، وأبو كريب، وأبو زرعة، وأبو حاتم، صدوق.
مات سنة 211.
(2) الأثر: 4964- هلال بن العلاء بن هلال بن عمرو الباهلي، أبو
عمرو الرقى". قال أبو حاتم: "صدوق" وقال النسائي: "صالح"، وقال
في موضع آخر: "ليس به بأس، روى أحاديث منكرة عن أبيه، فلا
أدري: الريب منه أو من أبيه". وذكره ابن حبان في الثقات. ولد
سنة 184، ومات سنة 280. والعلاء بن هلال" أبوه، روى عن عبد
الله بن عمرو الرقى، وخلف بن خليفة ومعتمر بن سليمان وجماعة.
قال أبو حاتم: "منكر الحديث ضعيف الحديث". وذكره ابن حبان في
الضعفاء وقال: "يقلب الأسانيد ويغير الأسماء، فلا يجوز
الاحتجاج به" ولد سنة 150، ومات سنة 215. و"عبيد الله"، هو:
عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الأسدي الرقى. روى عن عبد
الملك بن عمير، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وابن أبي أنيسة
وغيرهم. قال أبو حاتم: "صالح الحديث ثقة صدوق، لا أعرف له
حديثا منكرا". ولد سنة 101 ومات سنة 180. و"زيد" هو: زيد بن
أبي أنيسة الجزري الرهاوي، قال ابن سعيد"كان يسكن الرها، ومات
بها". كان ثقة كثير الحديث، فقيها، راوية للعلم. مات سنة 125،
وهو ابن ست وثلاثين سنة.
(5/37)
دلالة من الله تعالى ذكره عباده، (1) على
أن فرضا على والدات المولودين أن يرضعنهم حولين كاملين، ثم خفف
تعالى ذكره ذلك بقوله:"لمن أراد أن يتم الرضاعة"، فجعل الخيار
في ذلك إلى الآباء والأمهات، إذا أرادوا الإتمام أكملوا حولين،
وإن أرادوا قبل ذلك فطم المولود، كان ذلك إليهم على النظر منهم
للمولود (2)
* ذكر من قال ذلك:
4965- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين" ثم أنزل الله
اليسر والتخفيف بعد ذلك، فقال تعالى ذكره:"لمن أراد أن يتم
الرضاعة".
4966- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع في قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، يعني
المطلقات، يرضعن أودهن حولين كاملين. ثم أنزل الرخصة والتخفيف
بعد ذلك، فقال:"لمن أراد أن يتم الرضاعة".
* * *
* ذكر من قال: إن"الوالدات"، اللواتي ذكرهن الله في هذا
الموضع: البائنات من أزوجهن، على ما وصفنا قبل. (3)
4967- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
قال:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين" إلى"إذا سلمتم ما
أتيتم بالمعروف"، أما"الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"،
فالرجل يطلق امرأته وله منها ولد، وأنها ترضع له ولده بما يرضع
له غيرها.
4968- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
المبارك،
__________
(1) قوله: "عباده" منصوب مفعول به للمصدر"دلالة".
(2) النظر: اختيار أحسن الأمور له، في الرعاية والحفظ
والكلاءة، وطلب المصلحة.
(3) انظر ما سلف في أول تفسير الآية ص: 30، 31.
(5/38)
عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"والوالدات
يرضعن أولادهن حولين كاملين"، قال: إذا طلق الرجل امرأته وهي
ترضع له ولدا.
4969- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
جويبر، عن الضحاك، بنحوه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في قوله:"والوالدات يرضعن
أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة"، القول الذي
رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، ووافقه على القول به عطاء
والثوري= والقول الذي روي عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وابن
عمر: وهو أنه دلالة على الغاية التي ينتهي إليها في رضاع
المولود إذا اختلف والداه في رضاعه، (1) وأن لا رضاع بعد
الحولين يحرم شيئا، وأنه معني به كل مولود، لستة أشهر كان
ولاده أو لسبعة أو لتسعة. (2)
* * *
فأما قولنا:"إنه دلالة على الغاية التي ينتهي إليها في الرضاع
عند اختلاف الوالدين فيه"، فلأن الله تعالى ذكره لما حد في ذلك
حدا، كان غير جائز أن يكون ما وراء حده موافقا في الحكم ما
دونه. لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن للحد معنى معقول. وإذا كان
ذلك كذلك، فلا شك أن الذي هو دون الحولين من الأجل، لما كان
وقت رضاع، كان ما وراءه غير وقت له، وأنه وقت لترك الرضاع= وأن
تمام الرضاع لما كان تمام الحولين، وكان التام من الأشياء لا
معنى إلى الزيادة (3)
__________
(1) في المخطوطة: "وإذا اختلف وأن لا رضاع"، وما بينهما بياض
كلمتين أو ثلاث. وفي المطبوعة: "إذا اختلف والداه وأن لا
رضاع"، وزدت أنا"في رضاعه"، استظهارا من ترجمة الأخبار التي
رويت عنهم آنفًا ص: 34، 35، ومن بيان أبي جعفر الآتي بعد سطرين
أو ثلاثة.
(2) ولدت المرأة تلد ولادا وولادة - بكسر الواو فيهما، بمعنى.
(3) في المطبوعة: "وكان التمام من الأشياء لا معنى للزيادة
فيه"، وهو كلام لا محصول له. وفي المخطوطة: "ولما كان التمام
من الأشيا لا معنى للزيادة فيه" مع بياض بين الكلمتين، وهذا
دليل على أن الناسخ ظن أن في الكلام سقطا، ولكن الحقيقة أن فيه
تحريفا، قرأ"التام""التمام"، وقد أثبتنا الصواب الذي لا صواب
غيره.
(5/39)
فيه، كان لا معنى للزيادة في الرضاع على
الحولين = وأن ما دون الحولين من الرضاع لما كان محرما، كان ما
وراءه غير محرم.
وإنما قلنا:"هو دلالة على أنه معني به كل مولود، لأي وقت كان
ولاده، لستة أشهر أو سبعة أو تسعة"، لأن الله تعالى ذكره عم
بقوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، ولم يخصص به
بعض المولودين دون بعض.
وقد دللنا على فساد القول بالخصوص بغير بيان الله تعالى ذكره
ذلك في كتابه، أو على لسان رسول الله صلي الله عليه وسلم- في
كتابنا (كتاب البيان عن أصول الأحكام) ، بما أغنى عن إعادته في
هذا الموضع.
* * *
فإن قال لنا قائل: فإن الله تعالى ذكره: قد بين ذلك بقوله:
(وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) [سورة الأحقاف:
15] ، فجعل ذلك حدا للمعنيين كليهما، فغير جائز أن يكون حمل
ورضاع أكثر من الحد الذي حده الله تعالى ذكره. فما نقص من مدة
الحمل عن تسعة أشهر، فهو مزيد في مدة الرضاع، وما زيد في مدة
الحمل، نقص من مدة الرضاع. وغير جائز أن يجاوز بهما كليهما مدة
ثلاثين شهرا، كما حده الله تعالى ذكره.
قيل له: فقد يجب أن يكون مدة الحمل -على هذه المقالة- إن بلغت
حولين كاملين، ألا يرضع المولود إلا ستة أشهر، وإن بلغت أربع
سنين، أن يبطل الرضاع فلا ترضع، لأن الحمل قد استغرق الثلاثين
شهرا وجاوز غايته = (1) أو يزعم قائل هذه المقالة: أن مدة
الحمل لن تجاوز تسعة أشهر، فيخرج من قول جميع الحجة، ويكابر
الموجود والمشاهد، وكفى بهما حجة على خطأ دعواه إن ادعى ذلك.
فإلى أي الأمرين لجأ قائل هذه المقالة، وضح لذوي الفهم فساد
قوله.
* * *
__________
(1) عطف على قوله: "فقد يجب أن تكون مدة الحمل". . . "أو يزعم.
. . "
(5/40)
فإن قال لنا قائل: فما معنى قوله -إن كان
الأمر على ما وصفت-:"وحمله وفصاله ثلاثون شهرا"، وقد ذكرت آنفا
أنه غير جائز أن يكون ما جاوز حد الله تعالى ذكره، نظير ما دون
حده في الحكم؟ وقد قلت: إن الحمل والفصال قد يجاوزان ثلاثين
شهرا؟
قيل: إن الله تعالى ذكره لم يجعل قوله:"وحمله وفصاله ثلاثون
شهرا" حدا تعبد عباده بأن لا يجاوزه، كما جعل قوله:"والوالدات
يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة"، حدا
لرضاع المولود الثابت الرضاع، (1) وتعبد العباد بحمل والديه
عند اختلافهما فيه، وإرادة أحدهما الضرار به. وذلك أن الأمر من
الله تعالى ذكره إنما يكون فيما يكون للعباد السبيل إلى طاعته
بفعله والمعصية بتركه. (2) فأما ما لم يكن لهم إلى فعله ولا
إلى تركه سبيل، فذلك مما لا يجوز الأمر به ولا النهي عنه ولا
التعبد به.
فإذ كان ذلك كذلك، وكان الحمل مما لا سبيل للنساء إلى تقصير
مدته ولا إلى إطالتها، فيضعنه متى شئن، ويتركن وضعه إذا شئن=
كان معلوما أن قوله:"وحمله وفصاله ثلاثون شهرا"، إنما هو خبر
من الله تعالى ذكره عن أن من خلقه من حملته وولدته وفصلته في
ثلاثين شهرا= لا أمر بأن لا يتجاوز في مدة حمله وفصاله ثلاثون
شهرا، لما وصفنا. وكذلك قال ربنا تعالى ذكره في كتابه:
(وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ
أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ
ثَلاثُونَ شَهْرًا) (3) [سورة الأحقاف: 15] .
__________
(1) في المطبوعة: "لرضاع المولود التام الرضاع"، وهو أيضًا
كلام بلا معنى مفهوم، غيروا ما في المخطوطة كما أثبتناه، ظنا
منهم بأنه هو غير مفهوم!! وعنى بقوله: "الثابت الرضاع"، أي
الذي ثبت له أنه"يرضع"، كما سيتبين من سياق كلامه بعد.
(2) أي: وإلى المعصية بتركه.
(3) هنا آخر التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا. ونص ما
بعده: "وصلى الله على محمد النبي وآله وصحبه وسلم كثيرا"
(5/41)
(1) فإن ظن ذو غباء أن الله تعالى ذكره إذ
وصف أن من خلقه من حملته أمه ووضعته وفصلته في ثلاثين شهرا،
فواجب أن يكون جميع خلقه ذلك صفتهم= وأن ذلك دلالة على أن حمل
كل عباده وفصاله ثلاثون شهرا= (2) فقد يجب أن يكون كل عباده
صفتهم أن يقولوا إذا بلغوا أشدهم وبلغوا أربعين سنة: (رَبِّ
أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ
عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا
تَرْضَاهُ) [سورة الأحقاف: 15] ، على ما وصف الله به الذي وصف
في هذه الآية. (3)
وفي وجودنا من يستحكم كفره بالله، (4) وكفرانه نعم ربه عليه،
وجرأته على والديه بالقتل والشتم وضروب المكاره، عند استكماله
الأربعين من سنيه وبلوغه أشده= (5) ما يعلم أنه لم يعن الله
بهذه الآية صفة جميع عباده، بل يعلم أنه إنما وصف بها بعضا
منهم دون بعض، وذلك ما لا ينكره ولا يدفعه أحد. لأن من يولد من
الناس لسبعة أشهر، (6) أكثر ممن يولد لأربع سنين ولسنتين؛ كما
أن من يولد لتسعة أشهر، أكثر ممن يولد لستة أشهر ولسبعة أشهر.
* * *
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة ذلك، فقرأ عامة أهل
المدينة
__________
(1) أول التقسيم القديم، ونص ما قبله:
"بسم الله الرحمن الرحيم
رب أعن يا كريم"
(2) قوله: "فقد يجب" جواب قوله: "فإن ظن ذو غباء. . . ".
(3) يعني أن آية سورة الأحقاف معنى بها خاص من الناس دون عام،
كما يدل على ذلك ظاهر تلاوتها.
(4) وجد الشيء يجده وجودا. وقوله: "من يستحكم" مفعول به
للمصدر.
(5) السياق: "في وجودنا من يستحكم كفره بالله. . . ما يعلم. .
. "، مبتدأ مؤخر.
(6) في المطبوعة والمخطوطة: "لتسعة أشهر"، والصواب، أثبت كما
يدل عليه سياق الحجة.
(5/42)
والعراق والشام:"لم أراد أن يتم الرضاعة"
ب"الياء" في"يتم" ونصب"الرضاعة"- بمعنى: لمن أراد من الآباء
والأمهات أن يتم رضاع ولده.
وقرأه بعض أهل الحجاز:"لمن أراد أن تتم الرضاعة" ب"التاء"
في"تتم"، ورفع"الرضاعة" بصفتها. (1)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا، قراءة من قرأ
ب"الياء" في"يتم" ونصب"الرضاعة". لأن الله تعالى ذكره
قال:"والوالدات يرضعن أولادهن"، فكذلك هن يتممنها إذا أردن هن
والمولود له إتمامها= وأنها القراءة (2) التي جاء بها النقل
المستفيض الذي ثبتت به الحجة، دون القراءة الأخرى.
* * *
وقد حكي في الرضاعة سماعا من العرب كسر"الراء" التي فيها. فإن
تكن صحيحة، (3) فهي نظيرة"الوكالة والوكالة" و"الدلالة
والدلالة"، و"مهرت الشيء مهارة ومهارة"- فيجوز حينئذ"الرضاع"
و"الرضاع"، كما قيل:"الحصاد، والحصاد". وأما القراءة فبالفتح
لا غير.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وعلى المولود له"، وعلى
آباء الصبيان للمراضع="رزقهن"، يعني: رزق والدتهن.
* * *
__________
(1) يعني بقوله: "بصفتها"، أي بالفعل اللازم الذي هو صفة لها
فتقول: رضاعة تامة.
(2) "وأنها القراءة. . . " معطوف على قوله: "لأن الله تعالى
ذكره قال. . "
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "وإن تكن. . . "، والجيد هنا
الفاء.
(5/43)
ويعني ب"الرزق": ما يقوتهن من طعام، وما لا
بد لهن من غذاء ومطعم.
* * *
و"كسوتهن"، ويعني: ب"الكسوة": الملبس.
* * *
ويعني بقوله:"بالمعروف"، بما يجب لمثلها على مثله، إذ كان الله
تعالى ذكره قد علم تفاوت أحوال خلقه بالغنى والفقر، وأن منهم
الموسع والمقتر وبين ذلك. فأمر كلا أن ينفق على من لزمته نفقته
من زوجته وولده على قدر ميسرته، كما قال تعالى ذكره:
(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ
رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا) [سورة الطلاق: 7] ، وكما: -
4970- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين
كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن
بالمعروف"، قال: إذا طلق الرجل امرأته وهي ترضع له ولدا،
فتراضيا على أن ترضع حولين كاملين، فعلى الوالد رزق المرضع
والكسوة بالمعروف على قدر الميسرة، لا نكلف نفسا إلا وسعها.
4971- حدثني علي بن سهل الرملي قال حدثنا زيد= وحدثنا ابن حميد
قال، حدثنا مهران= عن سفيان قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن
حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة"، والتمام الحولان"،
وعلى المولود له"= على الأب طعامها وكسوتها بالمعروف (1)
4972- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع قوله:"وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف"، قال:
على الأب.
* * *
__________
(1) الأثر: 4971 - انظر إسناد الأثر السالف: 4955، والآتي:
4973.
(5/44)
القول في تأويل قوله تعالى: {لا تُكَلَّفُ
نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا} (1)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: لا تحمل نفس من الأمور
إلا ما لا يضيق عليها، ولا يتعذر عليها وجوده إذا أرادت. وإنما
عنى الله تعالى ذكره بذلك: لا يوجب الله على الرجال من نفقة من
أرضع أولادهم من نسائهم البائنات منهم، إلا ما أطاقوه ووجدوا
إليه السبيل، كما قال تعالى ذكره: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ
سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا
آتَاهُ اللَّهُ) [سورة الطلاق: 7] ، كما: -
4973- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا
زيد = جميعا، عن سفيان:"لا تكلف نفس إلا وسعها"، إلا ما أطاقت.
(2)
* * *
"والوسع""الفعل" من قول القائل:"وسعني هذا الأمر فهو يسعني
سعة"- ويقال:"هذا الذي أعطيتك وسعي"، أي: ما يتسع لي أن أعطيك،
فلا يضيق علي إعطاؤكه= و"أعطيتك من جهدي"، إذا أعطيته ما يجهدك
فيضيق عليك إعطاؤه.
* * *
فمعنى قوله:"لا تكلف نفس إلا وسعها"، هو ما وصفت: من أنها لا
تكلف إلا ما يتسع لها بذل ما كلفت بذله، فلا يضيق عليها ولا
يجهدها= لا ما ظنه جهلة أهل القدر من أن معناه: لا تكلف نفس
إلا ما قد أعطيت عليه القدرة من الطاعات. لأن ذلك لو كان كما
زعمت، لكان قوله تعالى ذكره: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ
الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا) [سورة
الإسراء: 48 وسورة الفرقان: 9] ، = إذا كان دالا على أنهم غير
مستطيعي السبيل إلى ما كلفوه= واجبا أن يكون القوم في حال
واحدة، قد أعطوا الاستطاعة على
__________
(1) في المخطوطة: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها"، عجل الناسخ
فأخطأ التلاوة.
(2) الأثر: 4973- انظر إسناد الأثرين السالفين: 4955، 4971.
(5/45)
ما منعوها عليه. وذلك من قائله إن قاله،
إحالة في كلامه، ودعوى باطل لا يخيل بطوله. (1) وإذ كان بينا
فساد هذا القول، فمعلوم أن الذي أخبر تعالى ذكره أنه كلف
النفوس من وسعها، غير الذي أخبر أنه كلفها مما لا تستطيع إليه
السبيل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ
بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه عامة قرأة
أهل الحجاز والكوفة والشام:"لا تضار والدة بولدها"
بفتح"الراء"، بتأويل: لا تضارَرْ (2) = على وجه النهي، وموضعه
إذا قرئ كذلك - جزم، غير أنه حرك، إذ ترك التضعيف بأخف
الحركات، وهو الفتح. ولو حرك إلى الكسر كان جائزا، إتباعا
لحركة لام الفعل حركة عينه. وإن شئت فلأن الجزم إذا حرك حرك
إلى الكسر. (3)
* * *
__________
(1) قوله: "دعوى باطل" هي هنا بالإضافة، لا صفة لدعوى. ويقال
في غير هذا: "دعوى باطل وباطلة" على الوصف. و"البطول"
مصدر"بطل" كما أسلفنا في الجزء 4: 523، تعليق: 3 و"أخال الشيء
يخيل": اشتبه، يقال: "هذا الأمر لا يخيل على أحد" أي: لا يشكل.
و"هو شيء مخيل"، أي: مشكل.
(2) في المخطوطة: "لا تضارن" بالنون في آخره، وهو خطأ.
(3) هكذا جاءت هذه الفقرة في المخطوطة والمطبوعة. وهي فاسدة
كلها بلا شك، ومناقضة لما سيأتي في كلام الطبري في ص: 51 إلى
ص: 52 ولست أرتاب في أن الكلام قد سقط منه شيء، تخطاه ناسخ
قديم، فاضطرب ما أراد الطبري أن يقوله، ثم ما قاله بعد،
اضطرابا شديدا. والذي استظهرته من قراءة كلامه من أول تفسير
الآية إلى آخرها في ص: 54، يوجب أن يكون سياق كلامه هنا هكذا:
"اختلفت القَرَأَة في قراءة ذلك. فقرأه عامة قرأة أهل الحجاز
والكوفة والشام: "لا تضار والدة بولدها"، بفتح"الراء"، على ما
لم يسم فاعله، بتأويل: لا تضارر، على وجه النهي. وموضعه إذا
قرئ كذلك جزم، غير أنه حرك - إذ ترك التضعيف بحركة الراء
الأولى.
وزعم بعض من قرأه كذلك، أن قراءة من قرأ: "لا تضار"
بفتح"الراء" على ما سمي فاعله، بتأويل: لا تضارر، على وجه
النهي. وموضعه إذا قرئ كذلك جزم، غير أنه حرك -إذ ترك التضعيف-
بأخف الحركات، وهو الفتح. ولو حرك إلى الكسر كان جائزا، إتباعا
لحركة لام الفعل حركة عينه. وإن شئت، فلأن الجزم إذا حرك، حرك
إلى الكسر. وهذا خطأ في التأويل".
ولعل بعض النساخ القدماء، سقط من نسخه شيء ثم جاء آخر، فلم
يستطع أن يفهم ما كتبه، ولا أن يعرف موضع السقط فيه، فتصرف في
كتابته على هذا الوجه الذي ثبت في مخطوطتنا وفي جميع المطبوع.
وهو خطأ لا ريب فيه. وتناقض ظاهر، لا يقع في مثله أبو جعفر،
فضلا عما فيه من الاختلال الشديد. وسأبين في التعليقات التالية
ما يربط الكلام الآتي بهذه الجملة التي استظهرتها.
(5/46)
وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز وبعض أهل
البصرة:"لا تضار والدة بولدها"، رفع. (1) ومن قرأه كذلك لم
يحتمل قراءته معنى النهي، ولكنها تكون [على معنى] الخبر، (2)
عطفا بقوله:"لا تضار" على قوله:"لا تكلف نفس إلا وسعها". (3)
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معنى من رفع:"لا تضار والدة
بولدها"، هكذا في الحكم: - أنه لا تضار والدة بولدها- أي: ما
ينبغي أن تضار. فلما حذفت"ينبغي"، وصار"تضار" في وضعه، صار على
لفظه، واستشهد لذلك بقول الشاعر: (4)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: مكان"رفع"، "فعل"، وهو تحريف لا شك
فيه، كما يدل عليه السالف والآتي. وكما تدل عليه القراءة. وفي
المخطوطة قبله: "لا تضارر".
(2) في المطبوعة: "ولكنها تكون بالخبر عطفا"، وكان في
المخطوطة: "ولكنها تكون الخبر عطفا" بغير باء الجر. والسياق
يدل على ضرورة ما أثبت من الزيادة بين القوسين.
(3) في المخطوطة: "لا تكلف نفسا"، كما وقع في الآية في ص: 45
تعليق: 1.
(4) لأبي اللحام التغلبي، وهو سريع بن عمرو (وعمرو هو اللحام)
بن الحارث بن مالك بن ثعلبة بن بكر بن حبيب ويقال اسمه"حريث".
وهو جاهلي، النقائض: 458، وشرح المفضليات: 434، والخزانة 3:
613 - 615. وفي سيبويه 1: 431، ونسبه الشنتمري لعبد الرحمن بن
أم الحكم، ولم أجد نسبته إليه في مكان آخر. ولأبي اللحام شعر
في ديوان عمرو بن كلثوم.
(5/47)
على الحكم المأتي يوما إذا قضى قضيته، أن
لا يجور ويقصد (1)
فزعم أنه رفع"يقصد" بمعنى"ينبغي". والمحكي عن العرب سماعا غير
الذي قال. وذلك أنه روي عنهم سماعا:"فتصنع ماذا"، إذا أرادوا
أن يقولوا:"فتريد أن تصنع ماذا"، فينصبونه بنية"أن. وإذا لم
ينووا"أن" ولم يريدوها، قالوا:"فتريد ماذا"، فيرفعون"تريد"،
لأن لا جالب ل"أن" قبله، كما كان له جالب قبل"تصنع". فلو كان
معنى قوله"لا تضار" إذا قرئ رفعا بمعنى:"ينبغي أن لا تضار"
أو"ما ينبغي أن تضار"، ثم حذف"ينبغي" و"أن"، وأقيم"تضار"
مقام"ينبغي"، لكان الواجب أن يقرأ- إذا قرئ بذلك المعنى- نصبا
لا رفعا، ليعلم بنصبه المتروك قبله المعني المراد، كما فعل
بقوله:"فتصنع ماذا"، ولكن معنى ذلك ما قلنا إذا رفع على العطف
على"تكلف": (2) ليست تكلف نفس إلا وسعها، وليست تضار والدة
بولدها. يعني بذلك أنه ليس ذلك في دين الله وحكمه وأخلاق
المسلمين.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القرأتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ
بالنصب، لأنه نهي من الله تعالى ذكره كل واحد من أبوي المولود
عن مضارة صاحبه له، حرام عليهما ذلك بإجماع المسلمين. فلو كان
ذلك خبرا، لكان حراما عليهما ضرارهما به كذلك. (3)
* * *
__________
(1) سيبويه 1: 431 الخزانة 3: 613 - 615، وشرح شواهد المغني:
263. وقال صاحب الخزانة: "البيت من قصيدة عدتها تسعة عشر بيتا
لأبي اللحام التغلبي أو ردها أبو عمرو الشيباني في أشعار تغلب
له، وانتخبها أبو تمام، فأورد منها خمسة أبيات في مختار شعر
القبائل، وهذا أولها: عمرت وأطولت التفكر خاليا ... وساءلت حتى
كاد عمري ينفد
(2) في المطبوعة: "لا تكلف" بزيادة"لا" وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "لكان حرام" بالرفع، والأجود ما
أثبت.
(5/48)
وبما قلنا في ذلك -من أن ذلك بمعنى النهي-
تأوله أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
4974- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"لا تضار والدة بولدها"، لا تأبى أن
ترضعه ليشق ذلك على أبيه، ولا يضار الوالد بولده، فيمنع أمه أن
ترضعه ليحزنها.
4975- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
4976- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة قوله:"لا تضار والدة بولدها ولا مولود له
بولده"، قال: نهى الله تعالى عن الضرار وقدم فيه، فنهى الله أن
يضار الوالد فينتزع الولد من أمه، إذا كانت راضية بما كان
مسترضعا به غيرها= ونهيت الوالدة أن تقذف الولد إلى أبيه
ضرارا.
4977- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة في قوله:"لا تضار والدة بولدها"، ترمي به إلى
أبيه ضرارا،"ولا مولود له بولده"، يقول: ولا الوالد، فينتزعه
منها ضرارا، إذا رضيت من أجر الرضاع ما رضي به غيرها، فهي أحق
به إذا رضيت بذلك.
4978- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
يونس، عن الحسن:"لا تضار والدة بولدها"، قال: ذلك إذا طلقها،
فليس له أن يضارها فينتزع الولد منها، إذا رضيت منه بمثل ما
يرضى به غيرها= وليس لها أن تضاره فتكلفه ما لا يطيق، إذا كان
إنسانا مسكينا، فتقذف إليه ولده.
4979- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
جويبر، عن الضحاك:"لا تضار والدة بولدها"، لا تضار أم بولدها
ولا أب بولده. يقول: لا تضار أم بولدها فتقذفه إليه إذا كان
الأب حيا، أو إلى عصبته
(5/49)
إذا كان الأب ميتا. ولا يضار الأب المرأة
إذا أحبت أن ترضع ولدها ولا ينتزعه. (1)
4980- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"لا تضار والدة بولدها"، يقول لا ينزع الرجل ولده من
امرأته فيعطيه غيرها بمثل الأجر الذي تقبله هي به= ولا تضار
والدة بولدها، فتطرح الأم إليه ولده، تقول:"لا أليه ساعة"
تضيعه، (2) ولكن عليها من الحق أن ترضعه حتى يطلب مرضعا.
4981- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب- وسئل عن قول الله تعالى
ذكره"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين" إلى"لا تضار والدة
بولدها ولا مولود له بولده"، قال ابن شهاب: والوالدات أحق
برضاع أولادهن ما قبلن رضاعهن بما يعطى غيرهن من الأجر، وليس
للوالدة أن تضار بولدها فتأبى رضاعه، مضارة وهي تعطى عليه ما
يعطى غيرها من الأجر. وليس للمولود له أن ينزع ولده من والدته
مضارا لها، وهي تقبل من الأجر ما يعطاه غيرها.
4982- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، وحدثني علي قال، حدثنا
زيد جميعا، عن سفيان في قوله:"لا تضار والدة بولدها"، لا ترم
بولدها إلى الأب إذا فارقها، تضاره بذلك="ولا مولود له بولده"،
ولا ينزع الأب منها ولدها، يضارها بذلك.
4983- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:" لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده"، قال: لا
ينزعه منها وهي تحب أن ترضعه فيضارها، ولا تطرحه عليه وهو لا
يجد من ترضعه، ولا يجد ما يسترضعه به.
4984- حدثنا عمرو بن علي الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال،
حدثني
__________
(1) في المطبوعة: "ولا ينتزعه"، وهما سواء، وأثبت ما في
المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "يقول لا إليه ساعة تضعه"، وهو في
المخطوطة غير منقوط، ورأيت الصواب أن تكون هكذا قراءة الجملة،
مع جعل"تضعه""تضيعه"، أي تضيعه بتركها إياه.
(5/50)
ابن جريج، عن عطاء في قوله:"لا تضار والدة
بولدها"، قال: لا تدعنه ورضاعه، من شنآنها مضارة لأبيه، (1)
ولا يمنعها الذي عنده مضارة لها.
* * *
وقال بعضهم:"الوالدة" التي نهى الرجل عن مضارتها: ظئر الصبي.
(2)
ذكر من قال ذلك:
4985- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا
هارون النحوي قال، حدثنا الزبير بن الخريت، عن عكرمة في
قوله:"لا تضار والدة بولدها"، قال: هي الظئر. (3)
* * *
فمعنى الكلام: لا يضارر والد مولود والدته بمولوده منها، ولا
والدة مولود والده بمولودها منه. ثم ترك ذكر الفاعل في"يضار"،
فقيل: لا تضارر والدة بولدها ولا مولود له بولده، (4) كما يقال
إذا نهي عن إكرام رجل بعينه فيما لم يسم فاعله، ولم يقصد
بالنهي عن إكرامه قصد شخص بعينه:"لا يكرم عمرو، ولا يجلس إلى
أخيه"، ثم ترك التضعيف فقيل:"لا تضار" فحركت الراء الثانية
التي كانت مجزومة- لو أظهر التضعيف- بحركة الراء الأولى. (5)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة"من شأنها"، والصواب ما أثبت،
والشنآن: البغض والكره.
(2) الظئر: العاطفة على ولد غير ولدها، المرضعة له.
(3) الأثر: 4985-"مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي"، روى عنه
البخاري، وأبو داود، ويحيى بن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم،
وغيرهم، ثقة صدوق. مات سنة 222. و"هرون النحوي" و"هرون الأعور"
هو: هرون بن موسى الأزدي العتكي - النحوي الأعور صاحب
القراءات، كان ثقة مأمونا. و"الزبير بن الخريت" (بكسر الخاء
وتشديد الراء المكسورة) . ثقة. وكان في المطبوعة والمخطوطة:
"الزبير بن الحارث"، هو خطأ صرف.
(4) في المطبوعة: "لا تضار والدة. . . " كنص الآية، ولكنه أراد
التضعيف هنا، كما يظهر من السياق، والصواب من المخطوطة.
(5) من هذا الموضع أخذت ما زدته هناك ص: 46، 47 تعليق: 3 في
التعليق على الجملة المضطربة التي بينت اضطرابها.
(5/51)
وقد زعم بعض أهل العربية أنها إنما حركت
إلى الفتح في هذا الموضع، لأنه آخر الحركات. (1) وليس للذي قال
من ذلك معنى. لأن ذلك إنما كان جائزا أن يكون كذلك، لو كان
معنى الكلام: لا تضارر والدة بولدها، (2) وكان المنهي عن
الضرار هي الوالدة. على أن معنى الكلام لو كان كذلك، لكان
الكسر في"تضار" أفصح من الفتح، والقراءة به كانت أصوب من
القراءة بالفتح، كما أن:"مد بالثوب" أفصح من"مد به". (3) وفي
إجماع القرأة على قراءة:"لا تضار" بالفتح دون الكسر، دليل واضح
على إغفال من حكيت قوله من أهل العربية في ذلك. (4)
فإن كان قائل ذلك قاله توهما منه أنه معنى ذلك: لا تضارر
والدة، (5) وأن"الوالدة" مرفوعة بفعلها، وأن"الراء" الأولى
حظها الكسر، فقد أغفل تأويل الكلام، (6) وخالف قول جميع من
حكينا قوله من أهل التأويل. وذلك أن الله تعالى ذكره تقدم إلى
كل أحد (7) من أبوي المولود بالنهي عن ضرار صاحبه بمولودهما=
لا أنه نهى كل واحد منهما عن أن يضار المولود. وكيف يجوز أن
ينهاه عن مضارة الصبي،
__________
(1) في المطبوعة: "لأنه أحد الحركات"، وهو كلام لا معنى له،
والصواب ما أثبت، وقد مضى في مكان ما من التفسير مثل هذا
الخطأ، ولم أستطع أن أعثر عليه بعد. وقوله: "آخر الحركات"
معناه: أخفها. فالضم أثقل الحركات، ثم الكسر، ثم الفتح أخفها
وآخرها. وأما السكون فلا يعد في الحركات. وهذا الذي قاله
الطبري هنا دليل قاطع على فساد الجملة التي كانت في ص: 46، 47
(تعليق: 3) وأنه لا يجعل علة الفتح في معنى النهي: "أنه حرك إذ
ترك التضعيف بأخف الحركات، وهو الفتح"، ودليل على أن الصواب ما
استظهرته في التعليق. وسيظهر ذلك بينا في رده الذي يأتي بعقب
هذه الجملة.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "لا تضارن"، وهو كلام لا معنى له.
والصواب ما أثبت (بضم التاء وكسر الراء الأولى، وسكون الأخيرة)
،
(3) انظر شرح الشافية 2: 243.
(4) إغفاله: دخوله في الغفلة، كما أسلفنا في 1: 151، تعليق: 1،
وكذلك معنى قوله في الموضع الثاني"أغفل"، أي: دخل في الغفلة.
(5) في المطبوعة: "لا تضار" براء مشددة، والصواب من المخطوطة.
وقوله"مرفوعة بفعلها"، أي أنه فعل لازم، مثل"قاتل الرجل".
(6) إغفاله: دخوله في الغفلة، كما أسلفنا في 1: 151، تعليق: 1،
وكذلك معنى قوله في الموضع الثاني"أغفل"، أي: دخل في الغفلة.
(7) في المطبوعة: "كل واحد"، وهما قريبين. وقوله: تقدم إلى كذا
بكذا، أي أمر بأمر أو نهي.
(5/52)
والصبي في حال ما هو رضيع - غير جائز أن
يكون منه ضرار لأحد؟ فلو كان ذلك معناه، لكل التنزيل: لا تضر
والدة بولدها. (1)
* * *
وقد زعم آخرون من أهل العربية أن الكسر في"تضار" جائز. (2)
والكسر في ذلك عندي في هذا الموضع غير جائز، (3) لأنه إذا كسر
تغير معناه عن معنى: لا تضارَرْ "- (4) الذي هو في مذهب ما لم
يسم فاعله- إلى معنى"لاتضارر"، (5) الذي هو في مذهب ما قد سمي
فاعله. (6)
* * *
قال أبو جعفر: فإذ كان الله تعالى ذكره قد نهى كل واحد من أبوي
المولود عن مضارة صاحبه بسبب ولدهما، فحق على إمام المسلمين=
إذا أراد الرجل نزع ولده من أمه بعد بينونتها منه، وهي تحضنه
وتكلفه وترضعه، بما يحضنه به غيرها ويكلفه به ويرضعه من
الأجرة= (7) أن يأخذ الوالد بتسليم ولدها، ما دام محتاجا
الصبي، إليها في ذلك بالأجرة التي يعطاها غيرها وحق عليه= إذا
كان الصبي لا يقبل ثدي غير
__________
(1) في المخطوطة: "لا تضار" كنص الآية، وهي خطأ بلا شك.
(2) هو الفراء في معاني القرآن 1: 149، وعنى الفراء برأيه هذا
أنه لما سكنت الراء الأولى لإدغامهما في الثانية الساكنة،
التقى ساكنان، فكسر، لأن الكسر هو الأصل في التقاء الساكنين
هذا ما أجازه.
(3) في المطبوعة: "والكسر في ذلك عندي غير جائز في هذا الموضع"
وأثبت ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "لا تضار"، والصواب التضعيف هنا للبيان، كما
في المخطوطة.
(5) في المخطوطة والمطبوعة: "لا تضار" والصواب ما أثبت للعلة
في التعليق السالف.
(6) هذه الفقرة من كلام أبي جعفر في رد من قال بالكسر، تدل
دلالة واضحة أيضًا على فساد الجملة الأولى التي صححناها في ص:
46، 47 تعليق: 3، وهي تبين لك عن صواب ما استظهرت أنه أصل كلام
الطبري.
(7) في المخطوطة والمطبوعة: "وترضعه"، والصواب بالياء كما
أثبت. وسياق الجملة: "فحق على إمام المسلمين. . . أن يأخذ
الوالد" وما بينهما فصل للحال. وقوله: "ما دام محتاجا الصبي"
حال أخرى معترضة. وسياق الكلام"بتسليم ولدها. . . إليها في
ذلك".
(5/53)
والدته، أو كان المولود له لا يجد من يرضع
ولده وإن كان يقبل ثدي غير أمه، أو كان معدما لا يجد ما يستأجر
به مرضعا، ولا يجد ما يتبرع عليه برضاع مولوده. (1) = أن يأخذ
والدته البائنة من والده برضاعه وحضانته. (2) لأن الله تعالى
ذكره إن حرم على كل واحد من أبويه ضرار صاحبه بسببه، (3)
فالإضرار به أحرى أن يكون محرما، مع ما في الإضرار به من مضارة
صاحبه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ
ذَلِكَ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في"الوارث" الذي عنى الله
تعالى ذكره بقوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، وأي وارث هو: ووارث
من هو؟
فقال بعضهم: هو وارث الصبي. وقالوا: معنى الآية: وعلى وارث
الصبي إذا كان [أبوه] ميتا، (4) مثل الذي كان على أبيه في
حياته.
* ذكر من قال ذلك:
4986- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قالا حدثنا سعيد، عن
قتادة:"وعلى الوارث مثل ذلك"، على وارث الولد.
4987- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "ما يتبرع عليه"، وهو خطأ فاسد،
لأنه يريد أنه لم يجد من يتفضل عليه ويتطوع برضاع مولوده.
وسياق هذه الجملة أيضًا: "وحق عليه. . . أن يأخذ والدته"، كما
في الفقرة السالفة.
(2) في المخطوطة: "أن يأخذ بوالدته الثانية من والدته البائنة
من والده"، وقد أصابت المطبوعة الصواب، فحذفت"الثانية من
والدته"، فهو تصحيف وتكرار.
(3) في المطبوعة: "لأن الله تعالى ذكره حرم" بإسقاط"إن"،
والواجب إثباتها كما جاءت في المخطوطة.
(4) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، وإلا اختل الكلام،
ويدل على وجودها ما بعده.
(5/54)
السدي:"وعلى الوارث مثل ذلك"، على وارث
الولد.
4988- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
عن معمر، عن قتادة:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: وعلى وارث
الصبي مثل ما على أبيه.
* * *
ثم اختلف قائلو هذه المقالة في وارث المولود، الذي ألزمه الله
تعالى مثل الذي وصف. فقال بعضهم: هم وارث الصبي من قبل أبيه من
عصبته، كائنا من كان، أخا كان، أو عما، أو ابن عم، أو ابن أخ.
* ذكر من قال ذلك:
4989 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا ابن جريج: أن عمرو بن شعيب أخبره: أن سعيد بن المسيب
أخبره: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه= قال: في قوله:"وعلى
الوارث مثل ذلك"، قال (1) = وقف بني عم على منفوس كلالة
بالنفقة عليه، مثل العاقلة. (2)
4990- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة: أن الحسن كان يقول:"وعلى الوارث مثل ذلك"، على العصبة.
4991- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الله بن إدريس وأبو
عاصم
__________
(1) هذه الجملة بين الخطين، من كلام عمرو بن شعيب. بمعنى أن
سعيد بن المسيب أخبره في قوله تعالى: "وعلى الوارث مثل ذلك"،
أن عمر بن الخطاب حبس. وهذا بين من سياق التحديث.
(2) الأثر: 4989- في المخطوطة"قال: وقف بني عم منفوس بني عمه
كلالة بالنفقة". وأما الذي في المطبوعة، فكأنه من نص الدر
المنثور 1: 288، اجتلبه المصحح من هناك، وهذا نص الدر
والمطبوعة: "حبس بني عم على منفوس كلالة بالنفقة عليه"، وقد
رأيت أن أقرأها كما أثبتها وكما في المحلى بهذا الإسناد 10:
102. والمخطوطة - كما قلت مرارا مضطربة في هذا القسم منها
لعجلة الكاتب، كما ظهر في كثرة التصحيحات السالفة. وانظر الأثر
رقم: 4991 والتعليق عليه. يقال: هو ابن عمه كلالة (بالنصب) ،
وابن عم كلالة (بالإضافة) . أي من بني العم الأباعد، وهم
العصبة وإن بعدوا. والعاقلة: هم عصبة الرجل وقرابته من قبل
الأب الذين يعطون دية القتل.
(5/55)
قالا حدثنا ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن
سعيد بن المسيب قال: وقف عمر ابن عم على منفوس كلالة برضاعه.
(1)
4992- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس:
أن الحسن كان يقول: إذا توفي الرجل وامرأته حامل، فنفقتها من
نصيبها، ونفقة ولدها من نصيبه من ماله إن كان له، فإن لم يكن
له مال فنفقته على عصبته.
قال: وكان يتأول قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، على الرجال.
4993- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال،
حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن قال: على العصبة الرجال، دون
النساء.
4994- حدثنا أبو كريب وعمرو بن علي قالا حدثنا ابن إدريس قال،
حدثنا هشام عن ابن سيرين: أتي عبد الله بن عتبة مع اليتيم
وليه، ومع اليتيم من يتكلم في نفقته، فقال لولي اليتيم: لو لم
يكن له مال لقضيت عليك بنفقته، لأن الله تعالى يقول:" وعلى
الوارث مثل ذلك". (2)
4995- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا
أيوب، عن محمد بن سيرين قال: أُتي عبد الله بن عتبة في رضاع
صبي، فجعل رضاعه في ماله، وقال لوليه: لو لم يكن له مال جعلنا
رضاعه في مالك، ألا تراه يقول:"وعلى الوارث مثل ذلك"؟ (3)
4996- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم
في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: على الوارث ما على الأب،
إذا لم يكن للصبي مال. وإذا كان له ابن عم أو عصبة ترثه، فعليه
النفقة.
__________
(1) الأثر: 4991- انظر الأثر السالف: 4989، وفي المطبوعة
هنا"ابن عم على منفوس" بزيادة"على"، وأثبت ما في المخطوطة
وانظر سنن البيهقي 7: 478 - 479، والمحلى 10: 102.
(2) الأثران: 4994، 4995- انظر الأثر التالي رقم: 5004. والذي
في المخطوطة في الأثر الأول: "أن أبا عبد الله" بياض بين
الكلمتين، وغير منقوط، وفي المطبوعة: "أنه أتى عبد الله"، وظني
أن الناسخ قد كرر، وأن الصواب ما أثبت، كما في الأثر الذي
يليه.
(3) الأثران: 4994، 4995- انظر الأثر التالي رقم: 5004. والذي
في المخطوطة في الأثر الأول: "أن أبا عبد الله" بياض بين
الكلمتين، وغير منقوط، وفي المطبوعة: "أنه أتى عبد الله"، وظني
أن الناسخ قد كرر، وأن الصواب ما أثبت، كما في الأثر الذي
يليه.
(5/56)
4997- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو
عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وعلى الوارث مثل
ذلك"، قال: الولي من كان.
4998- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
عن أبي بشر ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
4999- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
5000- حدثنا عبد الله بن محمد الحنفي قال، حدثنا عبد الله بن
عثمان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا يعقوب- يعني ابن
القاسم- عن عطاء وقتادة- في يتيم ليس له شيء، أيجبر أولياؤه
على نفقته؟ قالا نعم، ينفق عليه حتى يدرك. (1)
5001- حدثت عن يعلى بن عبيد، عن جويبر، عن الضحاك قال: إن مات
أبو الصبي وللصبي مال، أخذ رضاعه من المال. وإن لم يكن له مال،
أخذ من العصبة. فإن لم يكن للعصبة مال، أجبرت عليه أمه.
* * *
وقال آخرون منهم: بل ذلك على وارث المولود من كان، من الرجال
والنساء.
* ذكر من قال ذلك:
5002- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة أنه كان يقول:"وعلى الوارث مثل ذلك"، على وارث المولود
ما كان على
__________
(1) الأثر: 5000- عبد الله بن محمد بن يزيد أبو محمد الحنفي
المروزي صاحب عبدان. سكن بغداد. قال الخطيب: "كان ثقة"، وتوفى
سنة 275 مترجم في تاريخ بغداد 10: 85 و"عبدان"، لقب"عبد الله
بن عثمان بن جبلة بن أبي رواد الأزدي، روى عنه البخاري. مات
سنة 220. مترجم في التهذيب. وانظر الأثر الآتي برقم: 5009.
(5/57)
الوالد من أجر الرضاع، إذا كان الولد لا
مال له، على الرجال والنساء على قدر ما يرثون.
5003 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال،
أخبرنا معمر، عن الزهري: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أغرم
ثلاثة، كلهم يرث الصبي، أجر رضاعه.
5004- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين: أن عبد الله بن عتبة جعل نفقة
صبي من ماله، وقال لوارثه: أما إنه لو لم يكن له مال أخذناك
بنفقته، ألا ترى أنه يقول:"وعلى الوارث مثل ذلك". (1)
* * *
وقال آخرون منهم: هو من ورثته، من كان منهم ذا رحم محرم
للمولود، فأما من كان ذا رحم منه وليس بمحرم، كابن العم
والمولى ومن أشبههما، فليس من عناه الله بقوله:"وعلى الوارث
مثل ذلك". والذين قالوا هذه المقالة: أبو حنيفة وأبو يوسف
ومحمد.
* * *
وقالت فرقةأخرى: بل الذي عنى الله تعالى ذكره بقوله:"وعلى
الوارث مثل ذلك"، المولود نفسه.
ذكر من قال ذلك:
5005- حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا
أبو زرعة وهب الله بن راشد قال، أخبرنا حيوة بن شريح قال،
أخبرنا جعفر بن ربيعة. أن بشير بن نصر المزني - وكان قاضيا قبل
ابن حجيرة في زمان عبد العزيز- كان يقول:"وعلى الوارث مثل
ذلك"، قال: الوارث هو الصبي. (2)
__________
(1) الأثر: 5004- بإسناده في المحلى 10: 103، وانظر الأثرين
السالفين: 4994، 4995.
(2) الأثر: 5005-"أبو زرعة وهب الله بن راشد المصري" مضت
ترجمته بتفصيل في رقم: 2377. وكان في المطبوعة هنا"حدثنا أبو
زرعة وعبد الله بن راشد" كما كان هناك أيضًا، والصواب هنا من
المخطوطة. وجعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة الكندي أبو شرحبيل
المصري. قال أحمد: "كان شيخا من أصحاب الحديث ثقة". توفي سنة
136. مترجم في التهذيب. و"بشير ابن النضر المزني" مترجم في
كتاب القضاة للكندي: 313 - 314 توفى سنة 69، وكان في المطبوعة
والمخطوطة"بشر بن نصر"، وهو خطأ، وقد روى هذا الأثر بإسناده
قال: "حدثنا محمد بن يوسف، قال حدثني محمد بن ربيع الجيزي، قال
حدثني أبي، قال حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد. . . ". و"ابن
حجيرة" هو: "عبد الرحمن بن حجيرة الخولاني"، مترجم في كتاب
القضاة: 314 - 320، توفى سنة 83، وكان فقيها من أفقه الناس.
(5/58)
5006- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عبد الله
بن يزيد المقري قال، أخبرنا حيوة. قال، أخبرنا جعفر بن ربيعة،
عن قبيصة بن ذؤيب:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: هو الصبي.
5007- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
عن حيوة بن شريح قال، أخبرني جعفر بن ربيعة: أن قبيصة بن ذؤيب
كان يقول: الوارث هو الصبي= يعني قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك".
(1)
5008- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
عن جويبر، عن الضحاك:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: يعني
بالوارث: الولد الذي يرضع.
* * *
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك على ما تأوله هؤلاء: وعلى الوارث
المولود، مثل ما كان على المولود له.
* * *
وقال آخرون: بل هو الباقي من والدي المولود، بعد وفاة الآخر
منهما.
ذكر من قال ذلك:
5009- حدثني عبد الله بن محمد الحنفي قال، أخبرنا عبد الله بن
عثمان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، سمعت سفيان يقول في
__________
(1) الأثران: 5006، 5007 - انظر المحلى 10: 103، وروايته هناك:
"رضاع الصبي".
(5/59)
صبي له عم وأم وهي ترضعه، قال: يكون رضاعه
بينهما، ويرفع عن العم بقدر ما ترث الأم، لأن الأم تجبر على
النفقة على ولدها. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {مِثْلُ ذَلِكَ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"مثل ذلك".
فقال بعضهم: تأويله: وعلى الوارث للصبي بعد وفاة أبويه، (2)
مثل الذي كان على والده من أجر رضاعه ونفقته، إذا لم يكن
للمولود مال.
ذكر من قال ذلك:
5010- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن
إبراهيم في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: على الوارث رضاع
الصبي.
5011- حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن
قال، حدثنا أبو عوانة، عن منصور، عن إبراهيم:"وعلى الوارث مثل
ذلك"، قال: أجر الرضاع.
5012- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال:
الرضاع.
5013- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو
عوانة، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"،
قال: أجر الرضاع.
__________
(1) الأثر: 5009- انظر إسناد الأثر السالف رقم: 5000، وفي
المطبوعة: "ويدفع عن العم"، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "على الوارث للصبي"، وأثبت ما في المخطوطة.
(5/60)
5014- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد
الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن محمد بن سيرين،
عن عبد الله بن عتبة:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: الرضاع.
5015- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
حماد بن سلمة، عن أيوب، عن محمد، عن عبد الله بن عتبة في
قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: النفقة بالمعروف.
5016- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن
إبراهيم:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: على الوارث ما على الأب
من الرضاع، إذا لم يكن للصبي مال.
5017- حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن مغيرة، عن
إبراهيم قال: الرضاع والنفقة.
5018- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا
سفيان، عن إبراهيم:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: الرضاع.
5019- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو
عوانة، عن عطاء بن السائب، عن الشعبي، قال: الرضاع.
5020- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال،
حدثنا أبو عوانة، عن مطرف، عن الشعبي:"وعلى الوارث مثل ذلك"،
قال: أجر الرضاع.
5021- حدثنا عمرو قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عوانة،
عن مغيرة، عن إبراهيم، والشعبي مثله.
5022- حدثنا أبو كريب وعمرو بن علي قالا حدثنا عبد الله بن
إدريس
(5/61)
قال، سمعت هشاما (1) عن الحسن في
قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: الرضاع.
5023- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن هشام وأشعث،
عن الحسن مثله.
5024- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
يونس، عن الحسن:"وعلى الوارث مثل ذلك"، يقول في النفقة على
الوارث، إذا لم يكن له مال.
5025- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد
بن سلمة، عن قيس بن سعد، عن مجاهد مثله.
5026- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد، عن مجاهد:"وعلى الوارث مثل ذلك"،
قال: النفقة بالمعروف.
5027- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وعلى الوارث مثل ذلك"، على الولي كفله
ورضاعه، إن لم يكن للمولود مال.
5028- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني الحجاج، عن
ابن جريج، عن مجاهد قال:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: وعلى
الوارث من كان، مثل ما وصف من الرضاع= قال ابن جريج: وأخبرني
عبد الله بن كثير، عن مجاهد: مثل ذلك في الرضاعة= قال:" وعلى
الوارث مثل ذلك"، قال: وعلى الوارث أيضا كفله ورضاعه، إن لم
يكن له مال، وأن لا يضار أمه.
5029- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني الحجاج، عن
__________
(1) في المطبوعة: "سمعت وهشاما عن الحسن"، كأنه سقطا اسم راو
عطف عليه قوله"وهشاما" وكأنه صوابه"سمعت أشعث وهشاما"، كما
سيأتي في الأثر التالي.
(5/62)
ابن جريح، عن عطاء الخراساني، عن ابن
عباس:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: نفقته حتى يفطم، إن كان أبوه
لم يترك له مالا.
5030- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: وعلى وارث الولد ما كان على
الوالد من أجر الرضاع، إذا كان الولد لا مال له.
5031- حدثني عبد الله بن محمد الحنفي قال، حدثنا عبد الله بن
عثمان قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة:"وعلى
الوارث مثل ذلك"، قال: على وارث الصبي مثل ما على أبيه، إذا
كان قد هلك أبوه ولم يكن له مال، (1) فإن على الوارث أجر
الرضاع.
5032- حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن
إبراهيم:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: إذا مات وليس له مال، كان
على الوارث رضاع الصبي.
* * *
وقال آخرون: بل تأويل ذلك: وعلى الوارث مثل ذلك: أن لا يضار.
ذكر من قال ذلك:
5033- حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن
بن مهدي قال، حدثنا حماد بن زيد، عن علي بن الحكم، عن الضحاك
بن مزاحم:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: أن لا يضار.
5034- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم الأحول، عن
الشعبي في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: لا يضار، ولا غرم
عليه.
5035- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن
مجاهد في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، أن لا يضار.
__________
(1) في المطبوعة: "إذ كان قد هلك"، والصواب من المخطوطة.
(5/63)
5036- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن
صالح قال، حدثنا الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن
شهاب:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين"، قال: الوالدات أحق
برضاع أولادهن ما قبلن رضاعهن بما يعطى غيرهن من الأجر. وليس
لوالدة أن تضار بولدها، فتأبى رضاعه مضارة، وهي تعطى عليه ما
يعطى غيرها. وليس للمولود له أن ينزع ولده من والدته ضرارا
لها، وهي تقبل من الأجر ما يعطي غيرها=" وعلى الوارث مثل ذلك"،
مثل الذي على الوالد في ذلك.
5037- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، وحدثنا علي قال: حدثنا
زيد، عن سفيان:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: أن لا يضار، وعليه
مثل ما على الأب من النفقة والكسوة.
* * *
وقال آخرون: بل تأويل ذلك: وعلى وارث المولود، (1) مثل الذي
كان على المولود له، من رزق والدته وكسوتها بالمعروف.
ذكر من قال ذلك:
5038- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
عن جويبر، عن الضحاك:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: على الوارث
عند الموت، مثل ما على الأب للمرضع من النفقة والكسوة= قال:
ويعني بالوارث: الولد الذي يرضع: أن يؤخذ من ماله- إن كان له
مال- أجر ما أرضعته أمه.
فإن لم يكن للمولود مال ولا لعصبته، فليس لأمه أجر، وتجبر على
أن ترضع ولدها بغير أجر.
5039- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
عن
__________
(1) في المطبوعة: "وعلى الوارث المولود"، وأثبت ما في
المخطوطة.
(5/64)
السدي:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: على
وارث الولد، مثل ما على الوالد من النفقة والكسوة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وعلى الوارث مثل ما ذكره الله تعالى
ذكره.
ذكر من قال ذلك:
5040- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: قوله تعالى ذكره:"وعلى الوارث مثل
ذلك"؟ قال: مثل ما ذكره الله تعالى ذكره.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل قوله:"وعلى
الوارث مثل ذلك": أن يكون المعني بالوارث ما قاله قبيصة بن
ذؤيب والضحاك بن مزاحم؛ ومن ذكرنا قوله آنفا: (1) من أنه معني
بالوارث: المولود= وفي قوله:"مثل ذلك"، أن يكون معنيا به: مثل
الذي كان على والده من رزق والدته وكسوتها بالمعروف، إن كانت
من أهل الحاجة، ومن هي ذات زمانة وعاهة، (2) ومن لا احتراف
فيها، ولا زوج لها تستغني به، وإن كانت من أهل الغنى والصحة،
فمثل الذي كان على والده لها من أجر رضاعه.
وإنما قلنا: هذا التأويل أولى بالصواب مما عداه من سائر
التأويلات التي ذكرناها، لأنه غير جائز أن يقال في تأويل كتاب
الله تعالى ذكره قول إلا بحجة واضحة، على ما قد بينا في أول
كتابنا هذا. (3) وإذ كان ذلك كذلك، وكان قوله:"وعلى الوارث مثل
ذلك"، محتملا ظاهره: وعلى وارث الصبي المولود مثل الذي كان على
المولود له= ومحتملا وعلى وارث المولود له مثل الذي كان
__________
(1) انظر الآثار السالفة: 5005 - 5008.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "وهي ذات زمانة"، والسياق يقتضي ما
أثبت. والاحتراف الاكتساب يقال: هو يحرف لعياله ويحترف، أي
يكتسب.
(3) يعني ما سلف في 1: 73 - 93، ثم ذكر ذلك في مواضع أخرى
تجدها في الفهارس.
(5/65)
عليه في حياته من ترك ضرار الوالدة ومن
نفقة المولود، وغير ذلك من التأويلات، على نحو ما قد قدمنا
ذكرها= (1) وكان الجميع (2) من الحجة قد أجمعوا على أن من ورثة
المولود من لا شيء عليه من نفقته وأجر رضاعه= (3) وصح بذلك من
الدلالة على أن سائر ورثته، غير آبائه وأمهاته وأجداده وجداته
من قبل أبيه أو أمه، في حكمه، (4) في أنهم لا يلزمهم له نفقة
ولا أجر رضاع، إذ كان مولى النعمة من ورثته، وهو ممن لا يلزمه
له نفقة ولا أجر رضاع. فوجب بإجماعهم على ذلك أن حكم سائر
ورثته غير من استثني- حكمه. (5)
وكان إذا بطل أن يكون معنى ذلك ما وصفنا- من أنه معني به ورثة
المولود- فبطول القول الآخر= وهو أنه معني به ورثة المولود له
سوى المولود= أحرى. لأن الذي هو أقرب بالمولود قرابة ممن هو
أبعد منه (6) - إذا لم يصح وجوب نفقته وأجر رضاعه عليه- فالذي
هو أبعد منه قرابة، أحرى أن لا يصح وجوب ذلك عليه.
وأما الذي قلنا من وجوب رزق الوالدة وكسوتها بالمعروف على
ولدها -إذا كانت الوالدة بالصفة التي وصفنا -على مثل الذي كان
يجب لها من ذلك على المولود له، فما لا خلاف فيه من أهل العلم
جميعا. فصح ما قلنا في الآية من التأويل بالنقل المستفيض وراثة
عمن لا يجوز خلافه. وما عدا ذلك من التأويلات، فمتنازع فيه،
وقد دللنا على فساده.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "قدمنا ذكره" وأثبت ما في المخطوطة.
(2) قوله: "وكان الجميع" معطوف على قوله. وإذ كان ذلك كذلك،
وكان قوله. . . "
(3) سياق هذه الجملة من أولها: "وإذ كان ذلك كذلك. . .، وكان
قوله. . .، محتملا. . . " ومحتملا. . . " وكان الجميع من
الحجة. . . صح بذلك من الدلالة. . . "، وكان في المطبوعة:
"وصح" بالواو، والسياق يقتضي حذفها، لأنها جواب"إذ".
(4) السياق: "صح بذلك من الدلالة على أن سائر ورثته. . . في
حكمه".
(5) السياق: "أن حكم سائر ورثته. . . حكمه" خبر"أن"، يعني أن
حكمهما واحد.
(6) في المخطوطة: "الذي هو أقرب بالمولود قربه ممن هو أبعد
منه"، والذي في المطبوعة أصح وأجود.
(5/66)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ
أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فإن أرادا"، إن أراد
والد المولود ووالدته="فصالا"، يعني: فصال ولدهما من اللبن.
* * *
ويعني ب"الفصال": الفطام، وهو مصدر من قول القائل:"فاصلت فلانا
أفاصله مفاصلة وفصالا"، إذا فارقه من خلطة كانت بينهما.
فكذلك"فصال الفطيم"، إنما هو منعه اللبن، وقطعه شربه، وفراقه
ثدي أمه إلا الاغتذاء بالأقوات التي يغتذي بها البالغ من
الرجال.
* * *
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
5041- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
قوله:"فإن أرادا فصالا"، يقول: إن أرادا أن يفطماه قبل
الحولين.
5042- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية، عن
علي، عن ابن عباس:"فإن أرادا فصالا"، فإن أرادا أن يفطماه قبل
الحولين وبعده.
5043- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن
الضحاك:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما"، قال: الفطام.
* * *
وأما قوله:"عن تراض منهما وتشاور"، فإنه يعني بذلك: عن تراض من
والدي المولود وتشاور منهما.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الوقت الذي أسقط الله الجناح عنهما،
إن فطماه
(5/67)
عن تراض منهما وتشاور، وأي الأوقات الذي
عناه الله تعالى ذكره بقوله:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما
وتشاور".
فقال بعضهم: عنى بذلك، فإن أرادا فصالا في الحولين عن تراض
منهما وتشاور، فلا جناح عليهما.
ذكر من قال ذلك:
5044- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور"، يقول: إذا
أرادا أن يفطماه قبل الحولين فتراضيا بذلك، فليفطماه.
5045- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة: إذا أرادت الوالدة أن تفصل ولدها قبل الحولين،
فكان ذلك عن تراض منهما وتشاور، فلا بأس به.
5046- حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن
مجاهد:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور"، قال: التشاور
فيما دون الحولين، ليس لها أن تفطمه إلا أن يرضى، وليس له أن
يفطمه إلا أن ترضى.
5047- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: التشاور ما دون الحولين،"فإن
أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور" دون الحولين"فلا جناح
عليهما"، فإن لم يجتمعا، فليس لها أن تفطمه دون الحولين.
5048- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان عن
ليث، عن مجاهد قال: التشاور ما دون الحولين، ليس لها حتى
يجتمعا.
5049- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني الليث قال،
أخبرنا عقيل، عن ابن شهاب:"فإن أرادا فصالا"، يفصلان
ولدهما="عن تراض منهما وتشاور"، دون الحولين الكاملين="فلا
جناح عليهما".
(5/68)
5050- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران=
وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان قال: التشاور ما
دون الحولين، إذا اصطلحا دون ذلك، وذلك قوله:"فإن أرادا فصالا
عن تراض منهما وتشاور". فإن قالت المرأة:"أنا أفطمه قبل
الحولين"، وقال الأب:"لا"، فليس لها أن تفطمه قبل الحولين. وإن
لم ترض الأم، فليس له ذلك، حتى يجتمعا. فإن اجتمعا قبل الحولين
فطماه، وإذا اختلفا لم يفطماه قبل الحولين. وذلك قوله:"فإن
أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما".
5051- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"فإن
أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور"، قال: قبل السنتين="فلا
جناح عليهما".
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور
فلا جناح عليهما"، في أي وقت أرادا ذلك، قبل الحولين أرادا أم
بعد ذلك. (1)
ذكر من قال ذلك:
5052- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن
علي، عن ابن عباس:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا
جناح عليهما"، أن يفطماه قبل الحولين وبعده.
* * *
وأما قوله:"عن تراض منهما وتشاور"، فإنه يعني: عن تراض منهما
وتشاور فيما فيه مصلحة المولود لفطمه، كما: -
5053- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما
وتشاور"،
__________
(1) في المطبوعة: "قبل الحولين أرادا ذلك أم بعد الحولين"،
ورددتها إلى المخطوطة.
(5/69)
قال: غير مسيئين في ظلم أنفسهما ولا إلى
صبيهما (1) ="فلا جناح عليهما".
5054- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب تأويل من قال:"فإن
أرادا فصالا في الحولين عن تراض منهما وتشاور"، لأن تمام
الحولين غاية لتمام الرضاع وانقضائه، ولا تشاور بعد انقضائه،
وإنما التشاور والتراضي قبل انقضاء نهايته.
فإن ظن ذو غفلة أن للتشاور بعد انقضاء الحولين معنى صحيحا= إذ
كان من الصبيان من تكون به علة يحتاج من أجلها إلى تركه
والاغتذاء بلبن أمه= فإن ذلك إذا كان كذلك، فإنما هو علاج،
كالعلاج بشرب بعض الأدوية، لا رضاع. فأما الرضاع الذي يكون في
الفصال منه قبل انقضاء آخره تراض وتشاور من والدي الطفل الذي
أسقط الله تعالى ذكره لفطمهما إياه الجناح عنهما، قبل انقضاء
آخر مدته، فإنما حده الحد الذي حده الله تعالى ذكره بقوله: (2)
"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم
الرضاعة"، على ما قد أتينا على البيان عنه فيما مضى قبل. (3)
* * *
وأما الجناح، فالحرج، (4) كما: -
__________
(1) في المخطوطة: "غير في ظلم أنفسهما" بياض بين الكلمتين،
والذي أتمه مصحح المطبوعة لا بأس به، ولم أجد الأثر في مكان
آخر.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "فإنما الحد الذي حده الله تعالى.
. . "، وهو كلام غير مستقيم ألبتة، والصواب زيادة ما أثبته،
فيكون سياقه: "وأما الرضاع. . . فإنما حده الحد الذي حده الله
تعالى. . . ".
(3) انظر ما سلف في هذا الجزء 5: 39 وما قبلها وما بعدها.
(4) انظر ما سلف في تفسير"الجناح" 3: 230، 231/ و 4: 162، 163،
565.
(5/70)
5055- حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله
قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فلا جناح عليهما"،
فلا حرج عليهما.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ
تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا
سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك، وإن أردتم أن تسترضعوا
أولادكم مراضع غير أمهاتهم= إذا أبت أمهاتهم أن يرضعنهم بالذي
يرضعنهم به غيرهن من الأجر، أو من خيفة ضيعة منكم على أولادكم
بانقطاع ألبان أمهاتهم، أو غير ذلك من الأسباب = فلا حرج عليكم
في استرضاعهن، إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
5056- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن أردتم أن تسترضعوا
أولادكم"، خيفة الضيعة على الصبي،"فلا جناح عليكم".
5057- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
5058- حدثني عبد الله بن محمد الحنفي قال، حدثنا عبد الله بن
عثمان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا أبو بشر ورقاء، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
(5/71)
5059- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال،
حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم"، إن
قالت المرأة:"لا طاقة لي به فقد ذهب لبني" فتُسترْضَع له أخرى.
5060- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
عن جويبر، عن الضحاك قال: ليس للمرأة أن تترك ولدها بعد أن
يصطلحا على أن ترضع، ويسلمان، ويجبران على ذلك. قال: فإن
تعاسروا عند طلاق أو موت في الرضاع، فإنه يعرض على الصبي
المراضع. فإن قبل مرضعا جاز ذلك وأرضعته، (1) وإن لم يقبل
مرضعا فعلى أمه أن ترضعه بالأجر إن كان له مال أو لعصبته. فإن
لم يكن له مال ولا لعصبته، أكرهت على رضاعه.
5061- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا
زيد= جميعا، عن سفيان:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح
عليكم"، إذا أبت الأم أن ترضعه، فلا جناح على الأب أن يسترضع
له غيرها.
5062- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم
ما آتيتم بالمعروف"، قال: إذا رضيت الوالدة أن تسترضع ولدها،
ورضي الأب أن يسترضع ولده، فليس عليهما جناح.
* * *
واختلفوا في قوله:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف".
فقال بعضهم: معناه: إذا سلمتم لأمهاتهم ما فارقتموهن عليه من
الأجرة على رضاعهن، بحساب ما استحقته إلى انقطاع لبنها= أو
الحال التي عذر أبو الصبي بطلب مرضع لولده غير أمه، واسترضاعه
له.
ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "صار ذلك"، وفي المخطوطة"حار" غير منقوطة،
والذي أثبته هو صواب قراءتها.
(5/72)
5063- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو
عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إذا سلمتم
ما آتيتم بالمعروف"، قال: حساب ما أرضع به الصبي.
5064- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"، حساب
ما يرضع به الصبي.
5065- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"، إن قالت - يعني الأم
-:"لا طاقة لي به، فقد ذهب لبني"، فتسترضع له أخرى، وليسلم لها
أجرها بقدر ما أرضعت.
5066- حدثني المثنى قال، حدثني سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
عن ابن جريج قال: قلت -يعني لعطاء-:"وإن أردتم أن تسترضعوا
أولادكم"؟ قال: أمه وغيرها="فلا جناح عليكم إذا سلمتم"، قال:
إذا سلمت لها أجرها="ما آتيتم"، قال: ما أعطيتم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إذا سلمتم للاسترضاع، عن مشورة منكم ومن
أمهات أولادكم الذين تسترضعون لهم، وتراض منكم ومنهن
باسترضاعهم. (1)
ذكر من قال ذلك:
5067- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
قتادة قوله:"فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"،
يقول: إذا كان ذلك عن مشورة ورضا منهم.
5068- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، أخبرني
الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب: لا جناح عليهما أن
يسترضعا أولادهما- يعني أبوي المولود- إذا سلما ولم يتضارا.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "ومنهم"، والصواب ما أثبت.
(5/73)
5069- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي
جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"،
يقول: إذا كان ذلك عن مشورة ورضا منهم.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف إلى
التي استرضعتموها بعد إباء أم المرضع، من الأجرة، بالمعروف.
ذكر من قال ذلك:
5070- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا
زيد =جميعا، عن سفيان في قوله:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"،
قال: إذا سلمتم إلى هذه التي تستأجرون أجرها بالمعروف- يعني:
إلى من استرضع للمولود، إذا أبت الأم رضاعه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من
قال:"تأويله: وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم إلى تمام رضاعهن،
ولم تتفقوا أنتم ووالدتهم على فصالهم، (1) ولم تروا ذلك من
صلاحهم، فلا جناح عليكم أن تسترضعوهم ظؤورة، إن امتنعت أمهاتهم
من رضاعهم لعلة بهن أو لغير علة (2) إذا سلمتم إلى أمهاتهم
وإلى المسترضعة الآخرة حقوقهن التي آتيتموهن بالمعروف.
يعني بذلك المعنى: الذي أوجبه الله لهن عليكم، وهو أن يوفيهن
أجورهن على ما فارقهن عليه، في حال الاسترضاع،، ووقت عقد
الإجارة.
وهذا هو المعنى الذي قاله ابن جريج، ووافقه على بعضه مجاهد
والسدي ومن قال بقولهم في ذلك.
__________
(1) في المطبوعة: "أنتم ووالدتهم"، وهو خطأ.
(2) الظؤورة جمع ظئر (بكسر فسكون) : وهي المرضعة غير ولدها.
والظؤورة مثل البعولة، جمع"بعل"، أو هما اسم جمع، كما يقول
سيبويه.
(5/74)
وإنما قضينا لهذا التأويل أنه أولى بتأويل
الآية من غيره، لأن الله تعالى ذكره ذكر قبل قوله:"وإن أردتم
أن تسترضعوا أولادكم"، أمر فصالهم، وبين الحكم في فطامهم قبل
تمام الحولين الكاملين فقال:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما"،
في الحولين الكاملين"فلا جناح عليهما". فالذي هو أولى بحكم
الآية- إذ كان قد بين فيها وجه الفصال قبل الحولين- أن يكون
الذي يتلو ذلك حكم ترك الفصال وإتمام الرضاع إلى غاية نهايته=
وأن يكون- إذ كان قد بين حكم الأم إذا هي اختارت الرضاع بما
يرضع به غيرها من الأجرة- أن يكون الذي يتلو ذلك من الحكم،
بيان حكمها وحكم الولد إذا هي امتنعت من رضاعه، كما كان ذلك
كذلك في غير هذا الموضع من كتاب الله تعالى، وذلك في قوله:
(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ
فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) [سورة الطلاق: 6] . فأتبع ذكر بيان
رضا الوالدات برضاع أولادهن، ذكر بيان امتناعهن من رضاعهن،
فكذلك ذلك في قوله:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم".
وإنما اخترنا في قوله:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف" - ما
اخترنا من التأويل، لأن الله تعالى ذكره فرض على أبي المولود
تسليم حق والدته إليها مما آتاها من الأجرة على رضاعها له بعد
بينونتها منه، كما فرض عليه ذلك لمن استأجره لذلك ممن ليس من
مولده بسبيل، وأمره بإيتاء كل واحدة منهما حقها بالمعروف على
رضاع ولده. فلم يكن قوله:"إذا سلمتم" بأن يكون معنيا به: إذا
سلمتم إلى أمهات أولادكم الذين يرضعون حقوقهن، بأولى منه بأن
يكون معنيا به: إذا سلمتم ذلك إلى المراضع سواهن= ولا الغرائب
من المولود، بأولى أن يكن معنيات بذلك من الأمهات (1) إذ كان
الله تعالى ذكره قد أوجب على أبي المولود لكل من
__________
(1) هذه الجملة بين الخطين، معطوفة على الجملة الأولى، فيكون
سياق معناها: ولم يكن الغرائب من المولود بأولى أن يكن معنيات
بذلك من الأمهات.
(5/75)
استأجره لرضاع ولده، من تسليم أجرتها إليها
مثل الذي أوجب عليه من ذلك للأخرى. فلم يكن لنا أن نحيل ظاهر
تنزيل إلى باطن، (1) ولا نقل عام إلى خاص، إلا بحجة يجب
التسليم لها- فصح بذلك ما قلنا.
* * *
قال أبو جعفر: وأما معنى قوله:"بالمعروف"، فإن معناه: بالإجمال
والإحسان، وترك البخس والظلم فيما وجب للمراضع. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"واتقوا الله"، وخافوا
الله فيما فرض لبعضكم على بعض من الحقوق، وفيما ألزم نساءكم
لرجالكم ورجالكم لنسائكم، وفيما أوجب عليكم لأولادكم، فاحذروه
أن تخالفوه فتعتدوا - في ذلك وفي غيره من فرائضه وحقوقه -
حدوده، (3) فتستوجبوا بذلك عقوبته="واعلموا أن الله بما
تعملون" من الأعمال، أيها الناس، سرها وعلانيتها، وخفيها
وظاهرها، وخيرها وشرها="بصير"، يراه ويعلمه، فلا يخفى عليه
شيء، ولا يتغيب عنه منه شيء، (4) فهو يحصي ذلك كله عليكم، حتى
يجازيكم بخير ذلك وشره.
* * *
ومعنى"بصير"، ذو إبصار، وهو في معنى"مبصر". (5)
* * *
__________
(1) سلف مرارا ذكر"الظاهر" و"الباطن" فاطلبه في فهرس
المصطلحات.
(2) انظر ما سلف في بيان"المعروف" 3: 371 / ثم في الجزء 4: 549
/ 5: 7، 44 وبيانه عن معنى"المعروف" هنا أوضح وأشمل.
(3) في المطبوعة: "وحدوده" بزيادة واو مفسدة للكلام، فمعنى
الكلام: فتعتدوا في ذلك حدوده.
(4) في المطبوعة: "لا يغيب"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما سواء.
(5) انظر ما سلف في تأويل"بصير" 2: 140، 376، 506، وغيرها من
المواضع في فهرس اللغة، وفهرس مباحث العربية.
(5/76)
وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا
بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والذين يتوفون منكم، من
الرجال، أيها الناس، فيموتون، ويذرون أزواجا، يتربص أزواجهن
بأنفسهن. (1)
* * *
فإن قال قائل: فأين الخبر عن"الذين يتوفون"؟
قيل: متروك، لأنه لم يقصد قصد الخبر عنهم، وإنما قصد قصد الخبر
عن الواجب على المعتدات من العدة في وفاة أزواجهن، فصرف الخبر
عن الذين ابتدأ بذكرهم من الأموات، إلى الخبر عن أزواجهم
والواجب عليهن من العدة، إذ كان معروفا مفهوما معنى ما أريد
بالكلام. وهو نظير قول القائل في الكلام: (2) "بعض جبتك
متخرقة"، (3) في ترك الخبر عما ابتدئ به الكلام، إلى الخبر عن
بعض أسبابه. وكذلك الأزواج اللواتي عليهن التربص، لما كان إنما
ألزمهن التربص بأسباب أزواجهن، صرف الكلام عن خبر من ابتدئ
بذكره، إلى الخبر عمن قصد قصد الخبر عنه، كما قال الشاعر: (4)
لعلي إن مالت بي الرٌيح ميلة ... على ابن أبي ذبان أن يتندما
(5)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "يتربصن"، وهو في المخطوطة غير
منقوط، والذي أثبته هو الصواب.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "هو نظير" بإسقاط الواو، والواجب
إثباتها.
(3) يعني أن حق الكلام كان أن يقول: "بعض جبنك متخرق"،
بالتذكير خبرا عن"بعض"، فصرفه إلى"جبتك".
(4) هو ثابت قطنة العتكي، واسمه" ثابت بن كعب". . ذهبت عينه في
الحرب، فكان يحشوها بقطنة، وهو شاعر فارسي من شعراء خراسان في
عهد الدولة الأموية، قال فيه حاجب الفيل: لا يعرف الناس منه
غير قطنته ... وما سواها من الأنساب مجهول
(5) تاريخ الطبري 8: 160، ومعاني القرآن للفراء 1: 150،
والصاحبي: 185، وهو من قصيدة له يرثى بها يزيد بن المهلب، لما
قتل في سنة 102 في خروجه على يزيد بن عبد الملك بن مروان،
وهو"ابن أبي ذبان". و"أبو ذبان" كنية أبيه عبد الملك بن مروان،
لأنهم زعموا أنه كان أبخر، فإذا دنت الذبان من فيه، ماتت لشدة
بخره. ورواية الطبري في التاريخ: "فعلى"، ويقول قبله: أرقت ولم
تأرق معي أم خالد ... وقد أرقت عيناي حولا مجرما
على هالك هد العشيرة فقده، ... دعته المنايا فاستجاب وسلما
على ملك، يا صاح، بالعقر جبنت ... كتائبه، واستورد الموت معلما
أصيب ولم أشهد، ولو كنت شاهدا ... تسليت أن لم يجمع الحي مأتما
وفي غير الأيام يا هند، فاعلمي، ... لطالب وتر نظرة إن تلوما
فعلي، إن مالت. . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . .
. . . . . . . . .
وكان في المطبوعة والمخطوطة: "ابن أبي زبان" وهو خطأ كما ترى.
(5/77)
فقال"لعلي"، ثم قال:"أن يتندما"، لأن معنى
الكلام: لعل ابن أبي ذبان أن يتندم، (1) إن مالت بي الريح ميلة
عليه= فرجع بالخبر إلى الذي أراد به، وإن كان قد ابتدأ بذكر
غيره. ومنه قول الشاعر:
ألم تعلموا أن ابن قيس وقتله ... بغير دم، دار المذلة حلت (2)
فألغى"ابن قيس" وقد ابتدأ بذكره، وأخبر عن قتله أنه ذل. (3)
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية أن خبر"الذين يتوفون" متروك، وأن معنى
الكلام: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، ينبغي لهن أن
يتربصن بعد موتهم. وزعم أنه لم يذكر"موتهم"، كما يحذف بعض
الكلام- وأن"يتربصن" رفع، إذ وقع موقع"ينبغي"، و"ينبغي" رفع.
وقد دللنا على فساد قول من قال في رفع"يتربصن"
__________
(1) في والمخطوطة والمطبوعة: "ابن أبي زبان" وهو خطأ.
(2) لم أعرف قائله، والبيت في معاني القرآن للفراء 1: 150،
والصاحبي: 185، وروايتهما بني أسد إن ابن قيس وقتله
(3) هذا الذي سلف أكثره نص الفراء في معاني القرآن 1: 150-151،
وفي معاني القرآن"فألقى ابن قيس"، والصواب ما في الطبري.
(5/78)
بوقوعه موقع"ينبغي" فيما مضى، فأغنى عن
إعادته. (1)
* * *
وقال آخر منهم: (2) إنما لم يذكر"الذين" بشيء، لأنه صار الذين
في خبرهم مثل تأويل الجزاء:"من يلقك منا تصب خيرا"= الذي يلقاك
منا تصيب خيرا. (3) قال: ولا يجوز هذا إلا على معنى الجزاء.
* * *
قال أبو جعفر: وفي البيتين اللذين ذكرناهما الدلالة الواضحة
على القول في ذلك بخلاف ما قالا. (4)
* * *
قال أبوجعفر: وأما قوله:"يتربصن بأنفسهن"، فإنه يعني به:
يحتبسن بأنفسهن (5) معتدات عن الأزواج، والطيب، والزينة،
والنقلة عن المسكن الذي كن يسكنه في حياة أزواجهن- أربعة أشهر
وعشرا، إلا أن يكن حوامل، فيكون عليهن من التربص كذلك إلى حين
وضع حملهن. فإذا وضعن حملهن، انقضت عددهن حينئذ.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم مثل ما قلنا فيه:
5071- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن
علي، عن ابن عباس:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن
بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، فهذه عدة المتوفى عنها زوجها، إلا
أن تكون حاملا فعدتها أن تضع ما في بطنها.
__________
(1) انظر ما سلف في الجزء 5: 47، 48.
(2) في المطبوعة: "وقال آخرون منهم"، والصواب ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "من يلقك منا يصيب خيرا"، ثم"يصيب خيرا"،
والصواب ما أثبته"تصب" في الجملة الأولى مجزومة، وبالتاء في
أوله، ثم"تصيب" بالتاء في الثانية.
(4) في المطبوعة: "الدلالة الواضحة" وأثبت ما في المخطوطة.
(5) انظر فيما سلف تفسير"التربص" 4: 456، 515.
(5/79)
5072- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن
صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب في قول
الله: (1) "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن
أربعة أشهر وعشرا"، قال ابن شهاب: جعل الله هذه العدة للمتوفى
عنها زوجها، فإن كانت حاملا فيحلها من عدتها أن تضع حملها، وإن
استأخر فوق الأربعة الأشهر والعشرة فما استأخر، لا يحلها إلا
أن تضع حملها.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما قلنا: عنى ب"التربص" ما وصفنا، لتظاهر
الأخبار عن رسول الله صلي الله عليه وسلم بما: -
5073- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وأبو أسامة، عن شعبة=
وحدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة=، عن حميد
بن نافع قال: سمعت زينب ابنة أم سلمة تحدث= قال أبو كريب: قال
أبو أسامة: عن أم سلمة= أن امرأة توفى عنها زوجها واشتكت
عينها، فأتت النبي صلي الله عليه وسلم تستفتيه في الكحل، فقال:
لقد كانت إحداكن تكون في الجاهلية في شر أحلاسها، (2) فتمكث في
بيتها حولا إذا توفي عنها زوجها، فيمر عليها الكلب فترميه
بالبعرة! أفلا أربعة أشهر وعشرا"! (3)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "عن قول الله"، والصواب ما أثبته.
(2) الأحلاس جمع حلس: وهو كساء رقيق يكون تحت البرذعة، وكل ما
يبسط تحت حر المتاع ليقيه فهو حلس. وعنى به هنا: المرذول من
ثيابها.
(3) الحديث 5073-"حميد بن نافع الأنصاري المدني": تابعي ثقة.
روى عن أبي أيوب، وعبد الله بن عمر، وروى عن زينب بنت أم سلمة.
وهو والد"أفلح بن حميد". ويقال له"حميد صفيراء". ففرق البخاري
في الكبير 1 / 2 / 345 بين"حميد صفيراء، والد أفلح"، الراوي عن
أبي أيوب وابن عمر، وبين"حميد" الراوي عن زينب، جعلهما اثنين
تبعا لشيخه علي بن المديني، وروى هو عن شعبة أنهما واحد. وهو
الصحيح الذي جزم به الإمام أحمد. فقد روى في المسند 6: 325 -
326 (حلبي) حديث حميد بن نافع، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم
حبيبة أم المؤمنين، ثم قال عقب الحديث"حميد بن نافع: أبو أفلح،
وهو حميد صفيراء"، وهو الذي اقتصر عليه ابن سعد 5: 224، وابن
أبي حاتم 1 / 2 / 229-230. و"صفيراء": لقب حميد. وهكذا رسم على
الصواب في المسند، والتهذيب في ترجمة"أفلح"، والبخاري في
ترجمة"حميد". ورسم في التهذيب في ترجمة"حميد": "صفير"، وهو
تصحيف. ووقع في التهذيب أيضًا في ترجمة"حميد" أنه يروي عن"عبد
الله بن عمرو" -وهو خطأ، صوابه - كما قلنا-"عبد الله بن عمر".
والحديث سيأتي: 5079، بإسناد آخر، من حديث أم سلمة وحدها.
وسيأتي بأسانيد أخر، في بعضها: "عن أم سلمة وأم حبيبة" وفي
سائرها: "عن أم سلمة أو أم حبيبة" 5076- 5078، 5080. وسنذكرها
في مواضعها، إن شاء الله. أما من الوجه الذي هنا -رواية شعبة
عن حميد-: فرواه الطيالسي: 1596، عن شعبة، بهذا الإسناد، نحوه.
وكذلك رواه أحمد في المسند 6: 291-292 (حلبي) ، عن يحيى بن
سعيد -وهو القطان- ثم رواه 6: 311، عن محمد بن جعفر، وعن حجاج
-وهو ابن محمد المصيصي- ثلاثتهم عن شعبة، به، نحوه. ورواه
البخاري 9: 432، و 10: 131، مطولا ومختصرا، من طريقين عن شعبة.
وكذلك رواه مسلم 1: 434، من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة. وكذلك
رواه ابن الجارود في المنتقى، ص: 353-354، من طريق يحيى وهو
القطان، عن شعبة. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 7: 439،
من طريق الطيالسي ويحيى بن أبي بكير - كلاهما عن شعبة. ورواه
مالك في الموطأ، ص: 596 - 598، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم،
عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أم سلمة، عن أمها -ثالث احاديث
ثلاثة حدثت زينب بها حميد بن نافع- بمعناه ومن طريق مالك هذه،
رواه الأئمة: فرواه عبد الرزاق في المصنف 4: 66-67 (مخطوط
مصور) والبخاري 9: 427-428، ومسلم 1: 433 - 434، وأبو داود:
2299، والترمذي 2: 220، والنسائي 2: 114، وابن حبان في صحيحه
(2: 91-92 مخطوطة التقاسيم، و 6: 457-458 مخطوطة الإحسان) .
وهو في المنتقى للمجد بن تيمية، برقم: 3811.
(5/80)
5074- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد
الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد قال، سمعت نافعا، عن صفية ابنة
أبي عبيد: أنها سمعت حفصة ابنة عمر زوج النبي صلي الله عليه
وسلم تحدث، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: لا يحل لامرأة
تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث، إلا على زوج، فإنها
تحد عليه أربعة أشهر وعشرا"= قال يحيى: والإحداد عندنا أن لا
تطيب ولا تلبس ثوبا مصبوغا بورس ولا زعفران، (1) ولا تكتحل،
ولا تزين. (2)
__________
(1) الورس: نبت أصفر، يتخذ منه صبغ أصفر تصبغ به الثياب، ومنه
ما يكون للزينة، كالزعفران.
(2) الحديثان: 5074، 5075 - هما حديث واحد، مطول ومختصر،
بإسنادين. عبد الوهاب في الإسناد الأول: هو ابن عبد المجيد
الثقفي. ويزيد -في الإسناد الثاني: هو ابن هرون. يحيى بن سعيد-
في الإسنادين: هو الأنصاري. ونافع: هو مولى ابن عمر. صفية بنت
أبي عبيد بن مسعود، الثقفية: وهي تابعية ثقة، من فضليات
النساء، وذكرها بعضهم في الصحابة، ولا يصح، وهي زوج عبد الله
بن عمر. وهي أخت المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب. وشتان بين
الأخوين. ووقع في ترجمتها في التهذيب 12: 430 أنه يروي
عنها"نافع مولى ابن عباس". وهو سهو أو خطأ ناسخ. بل الذي يروي
عنها هو"نافع مولى ابن عمر". ولها ترجمة في ابن سعد 8: 346 -
347، والإصابة 8: 131. والحديث رواه مسلم 1: 435، من طريق عبد
الوهاب، عن يحيى. وهو الطريق الأول هنا. ولم يذكر لفظه كله.
وكذلك رواه البيهقي 7: 438، من طريق عبد الوهاب، وذكر لفظه.
ورواه أحمد في المسند 6: 286، عن يزيد بن هارون، وهو الطريق
الثاني هنا.
(5/81)
5075- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد قال،
أخبرنا يحيى، عن نافع، عن صفية ابنة أبي عبيد، عن حفصة ابنة
عمر: أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: لا يحل لامرأة تؤمن
بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج.
5076- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن
سعيد يقول، أخبرني حميد بن نافع: أن زينب ابنة أم سلمة أخبرته،
عن أم سلمة -أو أم حبيبة- زوج النبي صلي الله عليه وسلم: أن
امرأة أتت النبي صلي الله عليه وسلم، فذكرت أن ابنتها توفي
عنها زوجها، وأنها قد خافت على عينها= فزعم حميد عن زينب: أن
رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: قد كانت إحداكن ترمي
بالبعرة على رأس الحول، وإنما هي أربعة أشهر وعشر. (1) .
__________
(1) الحديث: 5076- هو الحديث الماضي: 5073، إلا أنه هنا"عن أم
سلمة أو أم حبيبة"، على الشك. وكذلك في الإسناد بعده: 5077،
وسيأتي في الإسناد: 5080، أنه"عن أم سلمة وأم حبيبة" معا، دون
شك فيه.
أما روايته بالشك، بحرف"أو" - فلم أجدها قط. وأخشى أن يكون
تحريفا من الناسخين. نعم روى الدارمي 2: 167، قصة أخرى لأم
حبيبة، في آخرها حديث"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر
أن تحد فوق ثلاثة. . . " إلخ - رواه عن هاشم بن القاسم، عن
شعبة، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم حبيبة. ثم
رواه عقبه، بالإسناد نفسه إلى زينب"تحدث عن أمها، أو امرأة من
أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه". ولكنه حديث آخر غير
هذا الحديث، ولعل زينب شكت أيضًا في الرواية التي هنا، كما شكت
في الرواية التي عند الدارمي.
وكذلك رواه مسلم 1: 434، عن ابن المثنى، عن ابن جعفر، عن شعبة،
- في قصة أم حبيبة فقط، ثم قال حميد: "وحدثتنيه زينب عن أمها،
وعن زينب زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن امرأة عن بعض
أزواج النبي صلى الله عليه وسلم".
ثم روي عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة: "عن حميد بن
نافع بالحديثين جميعا، حديث أم سلمة في الكحل، وحديث أم سلمة
وأخرى من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. غير أنه لم تسمها
زينب - نحو حديث محمد بن جعفر". وأيا ما كان، فإن هذا الشك لا
يؤثر في صحة الحديث. والروايات الثابتة تدل على أنها روته عن
أمها وأم حبيبة، كما سيأتي.
(5/82)
5077- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد بن
هارون قال، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن حميد بن نافع: أنه سمع
زينب ابنة أم سلمة، تحدث عن أم حبيبة أو أم سلمة أنها ذكرت: أن
امرأة أتت النبي صلي الله عليه وسلم قد توفي عنها زوجها، وقد
اشتكت عينها، وهي تريد أن تكحل عينها، فقال رسول الله صلي الله
عليه وسلم: قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة بعد الحول، وإنما هي
أربعة أشهر وعشر= قال ابن بشار، قال يزيد، قال يحيى: فسألت
حميدا عن رميها بالبعرة، قال: كانت المرأة في الجاهلية إذا
توفي عنها زوجها، عمدت إلى شر بيتها فقعدت فيه حولا فإذا مرت
بها سنة ألقت بعرة وراءها. (1)
5078- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا شعبة، عن
يحيى، عن حميد بن نافع بهذا الإسناد مثله (2)
__________
(1) الحديث: 5077- هو الحديث السابق أيضًا، بإسناد آخر. ووقع
في المطبوعة هنا"أو أم سلمة" على الشك، كالرواية السابقة.
ولكني أوقن -هنا- أنه خطأ من ابن بشار، شيخ الطبري.
فالحديث رواه مسلم 1: 434، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعمرو
الناقد -كلاهما عن يزيد بن هارون. بهذا الإسناد. وفيه: "أنه
سمع زينب بنت أبي سلمة تحدث عن أم سلمة وأم حبيبة، تذكران: أن
امرأة. . . "- إلخ. فهذا صريح في الرواية عنهما معا، لا رواية
عن إحداهما. وكذلك رواه ابن ماجه: 2084، عن أبي بكر بن أبي
شيبة، عن يزيد بن هارون، نحو رواية مسلم. ويؤيده: أن النسائي
رواه 2: 115، من طريق حماد، عن يحيى الأنصاري، عن حميد، عن
زينب: "أن امرأة سألت أم سلمة وأم حبيبة. . . فقالتا: أتت
امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. . "
(2) الحديث: 5078- هو تكرار للحديث قبله، لم يذكر لفظه، وهو من
رواية يزيد بن هارون، عن شعبة، عن يحيى الأنصاري، عن حميد.
وأنا أخشى أن يكون في الإسناد تحريف من الناسخين، وأن يكون
صوابه: "حدثنا شعبة، ويحيى". لأن الإسناد قبله، هو من رواية
يزيد بن هارون عن يحيى مباشرة. فقد تكون الفائدة في تكرار هذا
الإسناد: أن يكون ابن بشار سمعه من يزيد مرتين: مرة عن يحيى
وحده، ومرة عن يحيى وشعبة. وإذا كان ما ثبت في المطبوعة صحيحا،
كان ابن بشار سمعه هكذا، ويكون من المزيد في متصل الأسانيد.
(5/83)
5079- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس
قال، حدثنا ابن عيينة، عن أيوب بن موسى ويحيى بن سعيد، عن حميد
بن نافع، عن زينب ابنة أم سلمة، عن أم سلمة: أن امرأة أتت
النبي صلي الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي مات زوجها فاشتكت
عينها، أفتكتحل؟ (1) فقال، قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على
رأس الحول، وإنما هي الآن أربعة أشهر وعشر! = قال، قلت:
وما"ترمي بالبعرة على رأس الحول"؟ قال: كان نساء الجاهلية إذا
مات زوج إحداهن، لبست أطمار ثيابها، (2) وجلست في أخس بيوتها،
فإذا حال عليها الحول أخذت بعرة فدحرجتها على ظهر حمار وقالت:
قد حللت! (3)
5080- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أحمد بن يونس قال، حدثنا زهير
بن معاوية قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن حميد بن نافع، عن زينب
ابنة أم سلمة، عن أمها أم سلمة وأم حبيبة زوجي النبي صلي الله
عليه وسلم: أن امرأة من قريش جاءت إلى رسول الله صلي الله عليه
وسلم فقالت: إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد خفت على عينها، وهي
تريد الكحل؟ قال: قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول!
وإنما هي أربعة أشهر وعشر! = قال حميد: فقلت لزينب: وما رأس
الحول؟ قالت زينب: كانت المرأة في الجاهلية إذا هلك زوجها،
عمدت إلى أشر بيت لها
__________
(1) في المخطوطة: "أفتكحل".
(2) الأطمار جمع طمر (بكسر فسكون) : وهو الثوب الخلق، والكساء
البالي.
(3) الحديث: 5079- أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص بن
سعيد بن العاص: قرشي مكي ثقة حافظ فقيه. مذكور في نسب قريس
للمصعب، ص: 183.
وهذا الحديث تكرار للحديث: 5073، بأنه عن أم سلمة وحدها - كما
قلنا هناك.
وقد رواه النسائي 2: 115 - من طريق الليث بن سعد، عن أيوب بن
موسى. ثم من طريق سفيان ابن عيينة، عن يحيى الأنصاري، به،
نحوه، مطولا، ومختصرا.
(5/84)
فجلست فيه، (1) حتى إذا مرت بها سنة خرجت،
ثم رمت ببعرة وراءها. (2)
5081- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن معمر، عن
الزهري، عن عروة عن عائشة: أنها كانت تفتي المتوفى عنها زوجها،
أن تحد على زوجها حتى تنقضي عدتها، ولا تلبس ثوبا مصبوغا ولا
معصفرا، ولا تكتحل بالإثمد، ولا بكحل فيه طيب وإن وجعت عينها،
ولكن تكتحل بالصبر وما بدا لها من الأكحال سوى الإثمد مما ليس
فيه طيب، ولا تلبس حليا، وتلبس البياض ولا تلبس السواد. (3)
5082- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن
موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر في المتوفى عنها زوجها: لا
تكتحل، ولا تطيب، ولا تبيت عن بيتها، ولا تلبس ثوبا مصبوغا،
إلا ثوب عصب تجلبب به. (4)
__________
(1) قوله: "أشر" على وزن"أفعل"، هكذا جاء هنا. وقال أهل اللغة:
إنه لغة قليلة أو رديئة. وقد جاء في كثير من أمثالهم
وكلامهم"أشر" و"شرى"، كأفضل وفضلى. ومنه قول امرأة من العرب:
"أعيذك بالله من نفس حرى، وعين شرى" أي خبيثة، وفي المثل:
"شراهن مراهن". وفي خبر العبادي قيل له: "أي حماريك أشر؟ "
قال: "هذا ثم هذا".
(2) الحديث: 5080- أحمد بن يونس: هو أحمد بن عبد الله بن يونس،
مضى في: 2144. وهذا الحديث تكرار -في المعنى- للحديث: 5073،
وللأحاديث: 5076-5079. وقد رواه هنا أحمد بن يونس عن زهير بن
معاوية عن يحيى الأنصاري، وذكر فيه أنه"عن أم سلمة وأم حبيبة"
معا.
ولكن رواه النسائي 2: 115 -بنحوه- من طريق ابن أعين، وهو الحسن
بن محمد بن أعين، عن زهير بن معاوية، بهذا الإسناد، من حديث"أم
سلمة"، ولم يذكر فيه أم حبيبة.
(3) الخبر: 5081- هذا أثر من فتوى عائشة وكلامها. ولكن تدل على
صحة فتواها الأحاديث الصحاح. وهذا إسناده إليها صحيح. ولم أجده
في شيء من المراجع غير هذا الموضع.
المعصفر: هو الثوب المصبوغ بالعصفر. والإثمد: هو الكحل، أو حجر
يتخذ منه الكحل، وهو أسود إلى الحمرة. والصبر (بفتح الصاد وكسر
الباء) : عصارة شجر، وهو مر، يتخذ منه الدواء.
(4) قوله: "تبيت عن بيتها" أي تبيت بعيدة عن بيتها وتنتقل إلى
غيره. والعصب: برود من اليمن، يعصب غزلها -أي يجمع ويشد- ثم
يصبغ وينسج، فيأتي موشيا، لبقاء ما عصب منه أبيض لم يأخذه صبغ.
تجلببت المرأة: لبست جلبابها، وهو ملاءتها التي تشتمل بها.
(5/85)
5083- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا
سفيان قال، حدثنا ابن جريج، عن عطاء قال: بلغني عن ابن عباس
قال: تنهى المتوفى عنها زوجها أن تزين وتطيب.
5084- حدثنا نصر بن علي قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا عبيد
الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: إن المتوفى عنها زوجها لا تلبس
ثوبا مصبوغا، ولا تمس طيبا، ولا تكتحل، ولا تمتشط= وكان لا يرى
بأسا أن تلبس البرد.
* * *
وقال آخرون: إنما أمرت المتوفى عنها زوجها أن تربص بنفسها عن
الأزواج خاصة، فأما عن الطيب والزينة والمبيت عن المنزل، فلم
تنه عن ذلك، ولم تؤمر بالتربص بنفسها عنه.
* ذكر من قال ذلك:
5085- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس،
عن الحسن: أنه كان يرخص في التزين والتصنع، ولا يرى الإحداد
شيئا. (1)
5086- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن
عطاء، عن ابن عباس:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن
بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، لم يقل تعتد في بيتها، تعتد حيث
شاءت.
5087- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسماعيل قال، حدثنا ابن جريج،
عن عطاء قال، قال ابن عباس: إنما قال الله:"والذين يتوفون منكم
ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، ولم يقل تعتد
في بيتها، فلتعتد حيث شاءت.
* * *
واعتل قائلو هذه المقالة بأن الله تعالى ذكره، إنما أمر
المتوفى عنها بالتربص عن النكاح، وجعلوا حكم الآية على الخصوص=
وبما: -
__________
(1) تصنعت المرأة تصنعا: تزينت وتجملت وعالجت وجهها وغيره حتى
يحسن.
(5/86)
5088- حدثني به محمد بن إبراهيم السلمي
قال، حدثنا أبو عاصم، وحدثني محمد بن معمر البحراني قال، حدثنا
أبو عامر = قالا جميعا، حدثنا محمد بن طلحة، عن الحكم بن
عتيبة، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن أسماء بنت عميس قالت:
لما أصيب جعفر قال لي رسول الله صلي الله عليه وسلم: تسلبي
ثلاثا، ثم اصنعي ما شئت. (1)
__________
(1) الحديث: 5088- محمد بن إبراهيم بن صدران الأزدي السلمي:
ثقة، وثقه أبو داود وغيره. وقد ينسب إلى جده، ولذلك ترجمه ابن
أبي حاتم 3 / 2 / 190 في اسم"محمد بن صدران". "السلمي": هكذا
ثبت هنا، وكذلك في التقريب، وضبطه بفتح السين، وكذلك ثبت في
نسخة بهامش التهذيب، وفي التهذيب والخلاصة"السليمي"، ونص صاحب
الخلاصة على أنه بإثبات الياء. ولكني لا أطمئن إلى ضبطه.
وشيخه أبو عاصم: هو النبيل، الضحاك بن مخلد.
وأبو عامر -في الإسناد الثاني: هو العقدي، عبد الملك بن عمرو.
محمد بن طلحة بن مصرف -بفتح الصاد وتشديد الراء المكسورة-
اليامي: ثقة، أخرج له الشيخان. وبعضهم تكلم فيه بما لا يجرحه.
عبد الله بن شداد بن الهاد: نسب أبوه إلى جده، فهو"شداد بن
أسامة بن عمرو"، و"عمرو": هو الهاد. قال ابن سعد: "وإنما سمي
الهادي، لأنه كان توقد ناره ليلا للأضياف، ولمن سلك الطريق".
وعبد الله بن شداد: من كبار التابعين القدماء الثقات، ولد في
حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ذكره بعضهم في
الصحابة. وله ترجمتان في ابن سعد 5: 43-44، و 6: 86-87، وفي
الإصابة 5: 60-61، 145. وأمه"سلمى بنت عميس"، أخت أسماء بنت
عميس، فهو يروي هذا الحديث عن خالته.
وأسماء بنت عميس: صحابية جليلة. وهي أخت ميمونة بنت الحارث -أم
المؤمنين- لأمها. تزوجت أسماء جعفر بن أبي طالب، فقتل عنها، ثم
تزوجت أبا بكر الصديق، ثم علي بن أبي طالب. وولدت لهم جميعا.
وهي أم محمد بن أبي بكر الصديق.
والحديث رواه ابن سعد في الطبقات 8: 206، في ترجمة أسماء -رواه
عن عفان بن مسلم، وإسحاق بن منصور، كلاهما عن محمد بن طلحة.
ووقع فيه "تسلمى" بالميم بدل الباء. وأنا أرجح أنه خطأ من
الناسخين لا من الرواة، وسيأتي أن هذا الخطأ وقع لابن حبان،
لكن من الرواة.
ورواه أحمد في المسند، بمعناه، 6: 369، 438، عن يزيد بن هارون،
عن أبي كامل ويزيد بن هارون وعفان - ثلاثتهم عن محمد بن طلحة.
ورواه الطحاوي في معاني الآثار 2: 44 بخمسة أسانيد إلى محمد بن
طلحة.
ورواه البيهقي 7: 438، من طريق مالك بن إسماعيل، عن محمد بن
طلحة، بهذا الإسناد. ثم قال: "لم يثبت سماع عبد الله من أسماء،
وقد قيل فيه: عن أسماء. فهو مرسل. ومحمد بن طلحة ليس بالقوى"!!
وهو تعليل ضئيل متهافت. تعقبه فيه ابن التركماني في الجوهر
النقي.
ورواه ابن حزم في المحلى 10: 280، من وجهين آخرين، عن عبد الله
بن شداد، مرسلا، ورده بعلة الإرسال. ولكن ثبت وصله عن غير
روايته.
وذكره المجد في المنتقى: 3819، 3820، من روايتي المسند. ولم
ينسبه إلى غيره.
ولم يرو في واحد من الكتب الستة، على اليقين من ذلك. فهو من
الزوائد عليها. ولكني لم أجده في مجمع الزوائد، بعد طول البحث،
في أقرب المظان من أبوابه وأبعدها.
وذكره الحافظ في الفتح 9: 429، ووصفه بأنه"قوي الإسناد". وقال:
"أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان". ونسبه أيضًا للطحاوي. ثم قال:
"قال شيخنا في شرح الترمذي: ظاهره أنه لا يجب الإحداد على
المتوفى عنها بعد اليوم الثالث، لأن أسماء بنت عميس كانت زوج
جعفر بن أبي طالب بالاتفاق، وهي والدة أولاده: عبد الله،
ومحمد، وعون، وغيرهم. قال: بل ظاهر النهي أن الإحداد لا يجوز".
وأجاب بأن هذا الحديث شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة، وقد أجمعوا
على خلافه، ثم ذهب يجمع بينه وبين الأحاديث التي يعارضها،
بآراء بعضها قد يقبل، وبعضها فيه تكلف غير مستساغ. وأجود ما
قال العلماء في ذلك -عندنا- ما ذهب إليه الطبري هنا في الفقرة
الثالثة بعد الحديث: 5090. وقريب منه ما قال المجد بن تيمية في
المنتقى: "وهو متأول على المبالغة في الإحداد والجلوس
للتعزية".
وقال الحافظ، في آخر كلامه، في شأن رواية ابن حبان: "وأغرب ابن
حبان، فساق الحديث بلفظ: تسملي، بالميم بدل الموحدة! وفسره
بأنه أمرها بالتسليم لأمر الله!! ولا مفهوم لتقييدها بالثلاث،
بل الحكمة فيه كون القلق يكون في ابتداء الأمر أشد، فلذلك
قيدها بالثلاث! هذا معنى كلامه، فصحف الكلمة وتكلف لتأويلها!
وقد وقع في رواية البيهقي وغيره: فأمرني رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن أتسلب ثلاثا. فتبين خطؤه".
تسلبت المرأة: لبست السلاب (بكسر السين) : وهي ثياب الحداد
السود، تلبسها في المأتم.
(5/87)
5089- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو نعيم
وابن الصلت، عن محمد بن طلحة، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الله
بن شداد، عن أسماء عن النبي صلي الله عليه وسلم بمثله.
* * *
قالوا: فقد بين هذا الخبر عن النبي صلي الله عليه وسلم: أن لا
إحداد على المتوفى عنها زوحها، وأن القول في تأويل
قوله:"يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، إنما هو يتربصن
بأنفسهن عن الأزواج دون غيره.
* * *
قال أبو جعفر: وأما الذين أوجبوا الإحداد على المتوفى عنها
زوجها، وترك النقلة عن منزلها الذي كانت تسكنه يوم توفي عنها
زوجها، فإنهم اعتلوا بظاهر
(5/88)
التنزيل، وقالوا: أمر الله المتوفى عنها أن
تربص بنفسها أربعة أشهر وعشرا، فلم يأمرها بالتربص بشيء مسمى
في التنزيل بعينه، بل عم بذلك معاني التربص. قالوا: فالواجب
عليها أن تربص بنفسها عن كل شيء، إلا ما أطلقته لها حجة يجب
التسليم لها. قالوا: فالتربص عن الطيب والزينة والنقلة، مما هو
داخل في عموم الآية، كما التربص عن الأزواج داخل فيها. قالوا:
وقد صح عن رسول الله صلي الله عليه وسلم الخبر بالذي قلنا في
الزينة والطيب، أما في النقلة فإن: -
5090- أبا كريب حدثنا قال، حدثنا يونس بن محمد، عن فليح بن
سليمان، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته، عن الفريعة
ابنة مالك، أخت أبي سعيد الخدري، قالت: قتل زوجي وأنا في دار،
فاستأذنت رسول الله صلي الله عليه وسلم في النقلة، فأذن لي. ثم
ناداني بعد أن توليت، فرجعت إليه، فقال: يا فريعة، حتى يبلغ
الكتاب أجله. (1)
* * *
__________
(1) الحديث 5090- يونس بن محمد بن مسلم، الحافظ البغدادي
المؤدب: ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
فليح -بالتصغير- بن سليمان بن أبي المغيرة المدني: ثقة، أخرج
له أصحاب الكتب الستة. تكلم فيه ابن معين وغيره. والراجح
توثيقه. وقال الحاكم: "اتفاق الشيخين عليه يقوي أمره". و"فليح"
لقب غلب عليه، واسمه"عبد الملك".
سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة: ثقة لا يختلف فيه، كما قال ابن
عبد البر. وهو تابعي روى عن أنس بن مالك.
وتكلم فيه ابن حزم في المحلى بما لا يضره، زعم أنه"غير مشهور
الحال"، ومرة أنه"مضطرب في اسمه، غير مشهور الحال"، ومرة
أنه"غير مشهور العدالة"! انظر المحلى 3: 273، و 4: 138، و 10:
302.
وفي المطبوعة هنا"سعيد" بدل"سعد". وهو خطأ قديم، وقع في
الموطأ، ص: 591. وليس اختلاف رواية، ولا خطأ من مالك. إنما هو
من يحيى بن يحيى راوي الموطأ، ومن رواة آخرين تبعوه. قال ابن
عبد البر في التقصي، رقم: 123 هكذا قال يحيى: سعيد بن إسحاق،
وتابعه بعضهم. وأكثر الرواة يقولون فيه: سعد بن إسحاق. وهو
الأشهر، وكذا قال شعبة وغيره".
وعلى الصواب"سعد"- رواه الشافعي في الرسالة والأم عن مالك.
وكذلك رواه عنه سويد بن سعد، في روايته الموطأ. وكذلك رواه عنه
محمد بن الحسن في الموطأ.
عمة سعد بن إسحاق: هي"زينب بنت كعب بن عجرة الأنصارية"، وهي
تابعية ثقة. بل ذكرها بعضهم في الصحابة. انظر الإصابة 8:
97-98، وابن سعد 8: 352.
ووقع هنا في المطبوعة"عن عمته الفريعة"، بحذف"عن" بعد
كلمة"عمته". وهو خطأ ناسخ أو طابع. فإن زينب عمة سعد هي زوجة
أبي سعيد الخدري، وأما الفريعة فإنها أخت أبي سعيد، كما في نص
الحديث.
و"الفريعة بنت مالك بن سنان": صحابية قديمة معروفة، شهدت بيعة
الرضوان. رضي الله عنها. وهذا الحديث هنا مختصر. وقد جاء
بأسانيد صحاح، من رواية سعد بن إسحاق، عن عمته، عن الفريعة
-مختصرا ومطولا. ويكفي أن نذكر مواضع روايته، فيما وصل إلينا:
فرواه مالك في الموطأ، مطولا، ص: 591، عن"سعد بن إسحاق". وذكر
فيه خطأ باسم"سعيد"، كما بينا من قبل.
ورواه الشافعي في الرسالة: 1214 (بتحقيقنا) ، وفي الأم 5:
208-209، ومحمد بن الحسن في موطئه، ص: 268، وسويد بن سعيد في
موطئه، ص: 123-124 (مخطوط مصور) - كلهم عن مالك، عن سعد بن
إسحاق.
ورواه الدارمي 2: 168، وابن سعد 8: 268، وأبو داود: 2300،
والترمذي 2: 224-225، والبيهقي 7: 434، وابن حبان في صحيحه 6:
447-448 (من مخطوطة الإحسان) ، وابن حزم في المحلى 10: 301-
كلهم من طريق مالك، به.
ورواه الطيالسي: 1664، وعبد الرزاق في المصنف 4: 60-61 (مخطوط
مصور) ، وأحمد في المسند 6: 370، 420-421 (حلبي) ، وابن سعد 8:
267-268، والترمذي 2: 225، والنسائي 2: 113، وابن ماجه: 2031،
وابن الجارود، ص: 349-350، وابن حبان 6: 449، والحاكم 2: 208،
والبيهقي 7: 434-435، بأسانيد كثيرة، مطولا ومختصرا، من طريق
سعد بن إسحاق، عن عمته، عن الفريعة. وصححه الترمذي، ومحمد بن
يحيى الذهلي، فيما حكاه عنه الحاكم، والذهبي. وذكره السيوطي 1:
289-290 نسبه إلى كثير ممن أشرنا إليهم.
(5/89)
قالوا: فبين رسول الله صلي الله عليه وسلم
صحة ما قلنا في معنى تربص المتوفى عنها زوجها، [وبطل] ما
خالفه. (1) قالوا: وأما ما روي عن ابن عباس: فإنه لا معنى له،
بخروجه عن ظاهر التنزيل والثابت من الخبر عن الرسول صلي الله
عليه وسلم.
قالوا: وأما الخبر الذي روي عن أسماء ابنة عميس، عن رسول الله
صلي الله عليه وسلم من أمره إياها بالتسلب ثلاثا، ثم أن تصنع
ما بدا لها - فإنه غير دال
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام. والمطبوعة
والمخطوطة سواء في نصهما هنا.
(5/90)
على أن لا حداد على المرأة، (1) بل إنما دل
على أمر النبي صلي الله عليه وسلم إياها بالتسلب ثلاثا، ثم
العمل بما بدا لها من لبس ما شاءت من الثياب مما يجوز للمعتدة
لبسه، مما لم يكن زينة ولا مطيبا، (2) لأنه قد يكون من الثياب
ما ليس بزينة ولا ثياب تسلب، وذلك كالذي أذن صلي الله عليه
وسلم للمتوفى عنها أن تلبس من ثياب العصب وبرود اليمن، فإن ذلك
لا من ثياب زينة ولا من ثياب تسلب. وكذلك كل ثوب لم يدخل عليه
صبغ بعد نسجه مما يصبغه الناس لتزيينه، فإن لها لبسه، لأنها
تلبسه غير متزينة الزينة التي يعرفها الناس.
* * *
قال أبوجعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:"يتربصن بأنفسهن
أربعة أشهر وعشرا"، ولم يقل: وعشرة؟ وإذ كان التنزيل كذلك:
أفبالليالي تعتد المتوفى عنها العشر، أم بالأيام؟
قيل: بل تعتد بالأيام بلياليها.
فإن قال: فإذ كان ذلك كذلك، فكيف قيل:"وعشرا"؟ ولم يقل: وعشرة؟
والعشر بغير"الهاء" من عدد الليالي دون الأيام؟ فإن أجاز ذلك
المعنى فيه ما قلت، (3) فهل تجيز:"عندي عشر"، وأنت تريد عشرة
من رجال ونساء؟
قلت: ذلك جائز في عدد الليالي والأيام، وغير جائز مثله في عدد
بني آدم من الرجال النساء. وذلك أن العرب في الأيام والليالي
خاصة، إذا أبهمت العدد، غلبت فيه الليالي، حتى إنهم فيما روي
لنا عنهم ليقولون:"صمنا عشرا من شهر رمضان"، لتغليبهم الليالي
على الأيام. وذلك أن العدد عندهم قد جرى في ذلك بالليالي دون
الأيام. فإذا أظهروا مع العدد مفسره، (4)
أسقطوا من عدد المؤنث"الهاء"،
__________
(1) في المطبوعة: "أن لا إحداد"، وهما سواء. "حدت المرأة تحد
حدا وحدادا" و"أحدت تحد إحدادا". لبست الحداد (بكسر الحاء) ،
وهو ثياب المأتم السود. "الحداد" اسم ومصدر.
(2) في المطبوعة: "ولا تطيبا". والصواب ما أثبته من المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "فإن أجاز ذلك المغني"، والصواب ما أثبت من
المخطوطة.
(4) المفسر: هو المميز. والتفسير: التمييز، انظر ما سلف 2: 338
تعليق: 1 / م 3: 90 تعليق: 1
(5/91)
وأثبتوها في عدد المذكر، كما قال تعالى
ذكره: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ
أَيَّامٍ حُسُومًا) [سورة الحاقة: 7] ، فأسقط"الهاء" من"سبع"
وأثبتها في"الثمانية".
وأما بنو آدم، فإن من شأن العرب إذا اجتمعت الرجال والنساء، ثم
أبهمت عددها: أن تخرجه على عدد الذكران دون الإناث. وذلك أن
الذكران من بني آدم موسوم واحدهم وجمعه بغير سمة إناثهم، وليس
كذلك سائر الأشياء غيرهم. وذلك أن الذكور من غيرهم ربما وسم
بسمة الأنثى، كما قيل للذكر والأنثى"شاة"، وقيل للذكور والإناث
من البقر:"بقر"، وليس كذلك في بني آدم. (1)
* * *
فإن قال: فما معنى زيادة هذه العشرة الأيام على الأشهر؟
قيل: قد قيل في ذلك، فيما: -
5091- حدثنا به ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أبو جعفر،
عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون
أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، قال: قلت: لم صارت
هذه العشر مع الأشهر الأربعة؟ قال: لأنه ينفخ فيه الروح في
العشر.
5092- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو عاصم، عن
سعيد، عن قتادة قال: سألت سعيد بن المسيب: ما بال العشر؟ قال:
فيه ينفخ الروح.
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 151-152، فهذا من كلامه بغير
لفظه.
(5/92)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا
بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ
فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: (1) فإذا بلغن الأجل الذي
أبيح لهن فيه ما كان حظر عليهن في عددهن من وفاة أزواجهن- وذلك
بعد انقضاء عدهن، ومضي الأشهر الأربعة والأيام العشرة="فلا
جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف"، يقول: فلا حرج
عليكم أيها الأولياء -أولياء المرأة- فيما فعل المتوفى عنهن
حينئذ في أنفسهن، من تطيب وتزين ونقله من المسكن الذي كن
يعتددن فيه، ونكاح من يجوز لهن نكاحه="بالمعروف"، يعني بذلك:
على ما أذن الله لهن فيه وأباحه لهن. (2) .
* * *
وقد قيل: إنما عنى بذلك النكاح خاصة. وقيل إن معنى
قوله:"بالمعروف" إنما هو النكاح الحلال.
* ذكر من قال ذلك:
5093- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان،
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فلا جناح عليكم فيما فعلن في
أنفسهن بالمعروف"، قال: الحلال الطيب.
5094- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن
عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد:"فلا جناح عليكم
فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف"، قال: المعروف النكاح الحلال
الطيب.
5095- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال
ابن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني تعالى ذكره بقوله"، والسياق
يقتضي ما أثبت.
(2) انظر ما سلف في تفسير"المعروف" 5: 76 والمراجع هناك في
التعليق.
(5/93)
جريج، قال مجاهد: قوله:"فيما فعلن في
أنفسهن بالمعروف"، قال: هو النكاح الحلال الطيب.
5096- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
قال: هو النكاح.
5097- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب:"فيما فعلن في أنفسهن
بالمعروف"، قال: في نكاح من هويته، إذا كان معروفا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ (234) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"والله بما تعملون"، أيها
الأولياء، في أمر من أنتم وليه من نسائكم، من عضلهن وإنكاحهن
ممن أردن نكاحه بالمعروف، ولغير ذلك من أموركم وأمورهم،
="خبير"، يعني ذو خبرة وعلم، لا يخفى عليه منه شيء. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة"هويته" بالجمع والنون، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر ما سلف في معنى"خيبر" في فهارس اللغة، ومباحث
العربية. * * *
وقد انتهى هنا التقسيم القديم للنسخة التي نقلت عنها مخطوطتنا،
وفيها ما نصه:
"وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرا
على الأصل بلغت القراءة والسماع من أوله بقراءة محمد بن أحمد
بن عيسى السعدي، لأخيه علي وأحمد بن عمر الجهاري (؟ ؟) ونصر بن
الحسين الطبري، على القاضي أبي الحسن الخصيبي، عن أبي محمد
الفرغاني، عن أبي جعفر الطبري، وقابل به بكتاب القاضي الخصيبي،
فصحت، وذلك في شعبان سنة ثمان وأربعمائة".
(5/94)
وَلَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ
أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ
سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا
إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا
عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ
فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
(1)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولا جناح عليكم، أيها
الرجال، فيما عرضتم به من خطبة النساء، للنساء المعتدات من
وفاة أزواجهن في عددهن، ولم تصرحوا بعقد نكاح.
والتعريض الذي أبيح في ذلك، هو ما: -
5098- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد،
عن ابن عباس قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة
النساء"، قال: التعريض أن يقول:"إني أريد التزويج"، و"إني لأحب
امرأة من أمرها وأمرها"، يعرض لها بالقول بالمعروف.
5099- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال،
حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس:"لا جناح عليكم
فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال:"إني أريد أن أتزوج".
5100- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة،
عن منصور، عن مجاهد: عن ابن عباس قال: التعريض ما لم ينصب
للخطبة، (2)
__________
(1) هذا نص أول التقسيم القديم:
"بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر".
(2) نصب الشيء ينصب نصبا: إذا قصده وتجرد له.
(5/95)
= قال مجاهد: قال رجل لامرأة في جنازة
زوجها: لا تسبقيني بنفسك! قالت: قد سبقت!
5101- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال،
حدثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: في هذه
الآية:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال:
التعريض، ما لم ينصب للخطبة.
5102- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن
مجاهد، عن ابن عباس:"فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال:
التعريض أن يقول للمرأة في عدتها:"إني لا أريد أن أتزوج غيرك
إن شاء الله"، و"لوددت أني وجدت امرأة صالحة"، ولا ينصب لها ما
دامت في عدتها.
5103- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله:"ولا جناح عليكم فيما
عرضتم به من خطبة النساء"، يقول: يعرض لها في عدتها، يقول
لها:"إن رأيت أن لا تسبقيني بنفسك، ولوددت أن الله قد هيأ بيني
وبينك"، ونحو هذا من الكلام، فلا حرج.
5104- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا شعبة،
عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:"ولا جناح عليكم فيما
عرضتم به من خطبة النساء"، قال: هو أن يقول لها في عدتها:"إني
أريد التزويج، ووددت أن الله رزقني امرأة"، ونحو هذا، ولا ينصب
للخطبة.
5105- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد،
عن عبيدة في هذه الآية، قال: يذكرها إلى وليها، يقول:"لا
تسبقني بها".
5106- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد
(5/96)
في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من
خطبة النساء"، قال: يقول:"إنك لجميلة، وإنك لنافقة، وإنك إلى
خير".
5107- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان،
عن ليث، عن مجاهد أنه كره أن يقول:"لا تسبقيني بنفسك".
5108- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"ولا جناح
عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قل: هو قول الرجل
للمرأة:"إنك لجميلة، وإنك لنافقة، وإنك إلى خير".
5109- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولا جناح عليكم
فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: يعرض للمرأة في عدتها
فيقول: والله إنك لجميلة، وإن النساء لمن حاجتي، وإنك إلى خير
إن شاء الله".
5110- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شعبة، عن سلمة
بن كهيل، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير قال: هو قول
الرجل:"إني أريد أن أتزوج، وإني إن تزوجت أحسنت إلى امرأتي"،
هذا التعريض.
5111- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا
شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير في
قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال:
يقول:"لأعطينك، لأحسنن إليك، لأفعلن بك كذا وكذا. (1)
5012- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن
سعيد قال، أخبرني عبد الرحمن بن القاسم في قوله:"فيما عرضتم به
من خطبة النساء"، قال: قول الرجل للمرأة في عدتها يعرض
بالخطبة:"والله إني فيك
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة"لأحسن إليك"، والصواب ما أثبت.
(5/97)
لراغب، وإني عليك لحريص"، ونحو هذا.
5113- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الوهاب
الثقفي قال، سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني عبد الرحمن بن
القاسم: أنه سمع القاسم بن محمد يقول:"فيما عرضتم به من خطبة
النساء"، هو قول الرجل للمرأة:"إنك لجميلة، وإنك لنافقة، وإنك
إلى خير".
5114- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: كيف يقول الخاطب؟ قال: يعرض
تعريضا، ولا يبوح بشيء. يقول:"إن إلي حاجة، وأبشري، وأنت بحمد
الله نافقة"، ولا يبوح بشيء. قال عطاء: وتقول هي:"قد أسمع ما
تقول"، ولا تعده شيئا، ولا تقول:"لعل ذاك".
5115- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
المبارك، عن يحيى بن سعيد قال: حدثني عبد الرحمن بن القاسم:
أنه سمع القاسم يقول في المرأة يتوفى عنها زوجها، والرجل يريد
خطبتها ويريد كلامها، ما الذي يجمل به من القول؟ قال يقول:"إني
فيك لراغب، وإني عليك لحريص، وإني بك لمعجب"، وأشباه هذا من
القول.
5116- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن
إبراهيم في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة
النساء"، قال: لا بأس بالهدية في تعريض النكاح.
5117- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا
مغيرة قال: كان إبراهيم لا يرى بأسا أن يهدى لها في العدة، إذا
كانت من شأنه. (1)
5118- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر،
__________
(1) قوله: "من شأنه"، أي من حاجته وإرادته وقصده. يقال: شأن
شأنه، أي قصد قصده.
(5/98)
عن عامر في قوله:"ولا جناح عليكم فيما
عرضتم به من خطبة النساء"، قال يقول:"إنك لنافقة، وإنك لمعجبة،
وإنك لجميلة" (1) وإن قضى الله شيئا كان".
5119- حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه
قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: كان
إبراهيم النخعي يقول:"إنك لمعجبة، وإني فيك لراغب".
5120- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال،
وأخبرني - يعني شبيبا- عن سعيد، عن شعبة، عن منصور، عن الشعبي
أنه قال في هذه الآية:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة
النساء"، قال: لا تأخذ ميثاقها ألا تنكح غيرك. (2)
5121- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: كان
أبي يقول: كل شيء كان، دون أن يعزما عقدة النكاح، فهو كما قال
الله تعالى ذكره:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة
النساء".
5122- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال حدثنا
زيد =جميعا، عن سفيان قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من
خطبة النساء"، والتعريض فيما سمعنا أن يقول الرجل وهي في
عدتها:"إنك لجميلة، إنك إلى خير، إنك لنافقة، إنك لتعجبيني"،
ونحو هذا، فهذا التعريض.
5123- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
عن عبد الرحمن بن سليمان، عن خالته سكينة ابنة حنظلة بن عبد
الله بن حنظلة قالت: دخل علي أبو جعفر محمد بن علي وأنا في
عدتي، فقال: يا ابنة حنظلة،
__________
(1) في المخطوطة: "وإنك لمعجبة، لجميلة"، وهما سواء.
(2) في المطبوعة: "لا يأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيره"، وأثبت ما
في المخطوطة.
(5/99)
أنا من علمت قرابتي من رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وحق جدي علي، وقدمي في الإسلام. فقلت: غفر الله لك
يا أبا جعفر، أتخطبني في عدتي، وأنت يؤخذ عنك! فقال: أو قد
فعلت! إنما أخبرك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وموضعي! قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة،
وكانت عتد ابن عمها أبي سلمة، فتوفي عنها، فلم يزل رسول الله
صلى الله عليه وسلم يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على
يده، حتى أثر الحصير في يده من شده تحامله على يده، فما كانت
تلك خطبة. (1)
5124- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب:"ولا جناح عليكم فيما
عرضتم به من خطبة النساء"، قال: لا جناح على من عرض لهن
بالخطبة قبل أن يحللن، إذا كنوا في أنفسهن من ذلك. (2)
5125- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني مالك، عن
عبد الرحمن بن القاسم، عن أييه أنه كان يقول في قول الله تعالى
ذكره:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء": أن يقول
الرجل للمرأة وهي في عدة من وفاه زوجها:"إنك علي لكريمة، وإني
فيك لراغب، وإن الله سائق إليك خيرا ورزقا"، ونحو هذا من
الكلام.
* * *
__________
(1) الأثر: 5123- عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة
غسيل الملائكة بن أبي عامر الراهب" يعرف بابن الغسيل، وهو جد
أبيه، حنظلة الذي غسلته الملائكة يوم أحد. وقال ابن معين: "ليس
به بأس"، كان يخطئ ويهم، قال أحمد: صالح. مات سنة 171. مترجم
في التهذيب. و"أبو جعفر محمد بن علي" هو محمد الباقر بن علي بن
الحسين بن علي بن أبي طالب وابنه جعفر الصادق، وكان من فقهاء
المدينة، وسيد بني هاشم في زمانه، جمع العلم والفقه والشرف
والديانة والثقة والسؤدد وكان يصلح للخلافة، وهو أحد الاثنى
عشر الذين تعتقد الرافضة عصمتهم - ولا عصمة إلا لنبي! توفى سنة
114. مترجم في التهذيب، وتاريخ الإسلام للذهبي 4: 299. ولم أجد
هذا الخبر إلا في البغوي بهامش تفسير ابن كثير 1: 567.
(2) كن الشيء في صدره وأكنه واكتنه: أخفاه وستره.
(5/100)
قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في
معنى"الخطبة".
فقال بعضهم:"الخطبة" الذكر، و"الخطبة": التشهد. (1)
وكأن قائل هذا القول، تأول الكلام: ولا جناح عليكم فيما عرضتم
به من ذكر النساء عندهن. (2) وقد زعم صاحب هذا القول أنه
قال:"لا تواعدوهن سرا"، لأنه لما قال:"ولا جناح عليكم"، كأنه
قال: اذكروهن، ولكن لا تواعدوهن سرا.
* * *
وقال آخرون منهم:"خطبه، خطبة وخطبا". (3) قال: وقول الله تعالى
ذكره: (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ) [سورة طه: 95] ،
يقال إنه من هذا. قال: وأما"الخطبة" فهو المخطوب [به] ، من
قولهم: (4) "خطب على المنبر واختطب".
* * *
قال أبو جعفر:"والخطبة" عندي هي"الفعلة"من قول القائل:"خطبت
فلانة" ك"الجلسة"، من قوله:"جلس" أو"القعدة" من قوله"قعد". (5)
__________
(1) هذا قول الأخفش، وانظر تفسير البغوي 1: 567.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "عندهم" وهو لا يستقيم، والصواب ما
أثبت، وانظر أيضًا تفسير البغوي 1: 567.
(3) في المطبوعة: "وقال آخرون منهم: الخطبة أخطب خطبه وخطبا"،
وهو كلام فاسد التركيب، فيه زيادة من ناسخ. وفي المخطوطة:
"وقال آخرون منهم: "الخطبة وخطبه وخطبا"، وهو فاسد أيضًا،
والصواب ما أثبت. فإن يكن في كلام الطبري نقص أو خرم، فهو
تفسير هذه الكلمة، وقد أبان عنها صاحب أساس البلاغة فقال:
"فلان يخطب عمل كذا: يطلبه. وقد أخطبك الصيد فارمه - أي أكثبك
وأمكنك. وأخطبك الأمر، وهو أمر مخطب: ومعناه: أطلبك- من"طلبت
إليه حاجة فأطلبني". وما خطبك: ما شأنك الذي تخطبه. ومنه: هذا
خطب يسير، وخطب جليل. وهو يقاسي خطوب الدهر". فقد أبان ما
نقلته عن الزمخشري أنه أراد أن يقول: خطب الأمر يخطبه خطبة
وخطبا، أي طلبه. ولم يستوف أبو جعفر تفسير هذه الكلمة في"سورة
طه" الآية: 95، فأثبت تفسيره هنالك.
(4) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، يعني: الكلام المخطوب
به.
(5) يعني أنه مصدر، وانظر ما سلف في وزن"فعلة" في فهارس مباحث
العربية في الأجزاء السالفة، وانظر معاني القرآن للفراء 1:
152، وتفسير أبي حيان 2: 221.
(5/101)
ومعنى قولهم:"خطب فلان فلانة"، سألها خطبه
إليها في نفسها، وذلك حاجته، من قولهم:"ما خطبك"؟ بمعنى: ما
حاجتك، وما أمرك؟
* * *
وأما"التعريض"، فهو ما كان من لحن الكلام الذي يفهم به السامع
الفهم ما يفهم بصريحه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي
أَنْفُسِكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أو أكننتم في أنفسكم"،
أو أخفيتم في أنفسكم، فأسررتموه، من خطبتهن، وعزم نكاحهن وهن
في عددهن، فلا جناح عليكم أيضا في ذلك، إذا لم تعزموا عقدة
النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله.
* * *
يقال منه:"أكن فلان هذا الأمر في نفسه، فهو يكنه إكنانا"،
و"كنه"، إذا ستره،"يكنه كنا وكنونا"، و"جلس في الكن" ولم
يسمع"كننته في نفسي"، (2) وإنما يقال:"كننته في البيت أو في
الأرض"، إذا خبأته فيه، ومنه قوله تعالى ذكره: (كَأَنَّهُنَّ
بَيْضٌ مَكْنُونٌ) [سورة الصافات: 49] ، أي مخبوء، ومنه قول
الشاعر: (3)
ثلاث من ثلاث قداميات ... من اللائي تكن من الصقيع (4)
__________
(1) لحن الكلام: هو الإيماء في الكلام دون التصريح، وعبارة
الطبري في تفسير هذه الكلمة، عبارة جيدة. ليس لها شبيه في كتب
اللغة في شرح هذا الحرف.
(2) ذكر أصحاب اللغة أن ذلك قيل، واستشهدوا بقول أبي قطيفة: قد
يكتم الناس أسرارا فأعلمها ... وما ينالون حتى الموت مكنوني
(3) لم أستطع أن أعرف قائله.
(4) معاني الفراء 1: 152، واللسان (كنن) . قداميات جمع قدامى،
والقدامى واحد. وجمع، وهو هنا واحد. والقدامى والقوادم في
الطير: عشر ريشات في كل جناح. وقوله: "ثلاث من ثلاث قداميات"،
كأنه يريد أنه اختار من قوادم ثلاث من الطير، ثلاث ريشات من
ريشه، وكأنه يريد ذلك لأسهمه، يريش الأسهم بها. والصقيع: الذي
يسقط بالليل، شبيه بالثلج.
(5/102)
و"تكن" بالتاء، وهو أجود، و"يكن". (1)
ويقال:"أكنته ثيابه من البرد""وأكنه البيت من الريح".
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5126- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أو أكنتم في أنفسكم"، قال:
الإكنان: ذكر خطبتها في نفسه، لا يبديه لها. هذا كله حل معروف.
5127- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، عن مجاهد مثله.
5128- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
قوله:"أو أكننتم في أنفسكم"، قال: أن يدخل فيسلم ويهدي إن شاء،
ولا يتكلم بشيء.
5129- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال، سمعت
يحيى بن سعيد يقول: أخبرني عبد الرحمن بن القاسم: أنه سمع
القاسم بن محمد يقول، فذكر نحوه.
5130- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"أو أكننتم في أنفسكم"، قال: جعلت في نفسك نكاحها وأضمرت
ذلك.
__________
(1) في المطبوعة: "بالتاء هو أجود"، وزيادة الواو من المخطوطة.
هذه الجملة غير بينة المعنى عندي، وكأن صوابها"وتكن بالتاء
المضمومة، وهو أجود وتكن". ويعني أن الأول من"أكن يكن"، وأن
الأخرى من"كن يكن". كما هو ظاهر من استدلاله هذا. وقد عقب
الفراء على هذا البيت بقوله: "وبعضهم يرويه"تكن" من"أكننت".
فهذا يرجح ما ذهبت إليه.
(5/103)
5131- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران=
وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان:"أوأكننتم في
أنفسكم"، أن يسر في نفسه أن يتزوجها.
5132- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا هوذة قال، حدثنا عوف، عن
الحسن في قوله:"أو أكننتم في أنفسكم"، قال: أسررتم.
* * *
قال أبو جعفر: وفي إباحة الله تعالى ذكره ما أباح من التعريض
بنكاح المعتدة لها في حال عدتها وحظره التصريح، (1) ما أبان عن
افتراق حكم التعريض في كل معاني الكلام وحكم التصريح، منه.
وإذا كان ذلك كذلك، تبين أن التعريض بالقذف غير التصريح به،
وأن الحد بالتعريض بالقذف لو كان واجبا وجوبه بالتصريح به،
لوجب من الجناح بالتعريض بالخطبة في العدة، نظير الذي يجب بعزم
عقدة النكاح فيها. وفي تفريق الله تعالى ذكره بين حكميها في
ذلك، الدلالة الواضحة على افتراق أحكام ذلك في القذف.
* * *
القول في تأويل قوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ
سَتَذْكُرُونَهُنَّ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: علم الله أنكم ستذكرون
المعتدات في عددهن بالخطبة في أنفسكم وبألسنتكم، كما: -
5133- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يزيد بن إبراهيم، عن
الحسن:"علم الله أنكم ستذكرونهن"، قال: الخطبة.
__________
(1) قوله: "لها" متعلق بقوله: "التعريض"، أي: التعريض لها،
وسياق هذه الجملة والتي تليها: "وفي إباحة الله تعالى ذكره. .
. ما أبان عن افتراق حكم التعريض". وقوله: "منه" في الجملة
التالية، أي: افتراق حكم التعريض من حكم التصريح.
(5/104)
5134- حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال،
حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"ولا جناح عليكم
فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: ذكرك إياها في نفسك. قال:
فهو قول الله:"علم الله أنكم ستذكرونهن".
5135- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن يزيد بن
إبراهيم، عن الحسن في قوله:"علم الله أنكم ستذكرونهن"، قال: هي
الخطبة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ
سِرًّا}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"السر" الذي نهى الله
تعالى عباده عن مواعدة المعتدات به.
فقال بعضهم: هو الزنا.
* ذكر من قال ذلك:
5136- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا همام،
عن صالح الدهان، عن جابر بن زيد:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال:
الزنا. (1)
5137- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان،
عن أبيه، عن أبي مجلز قوله:"ولكن لا تواعدوهن سرا" قال: الزنا.
5138- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سليمان
التيمي، عن أبي مجلز مثله.
5139- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان،
__________
(1) الأثر: 5136-"صالح الدهان"، هو صالح بن إبراهيم الدهان
الجهني، أبو نوح. وهو ثقة. ترجم في الجرح والتعديل 2 / 1 /
393، وانظر التهذيب 4: 388. وجابر بن زيد الأزدي أبو الشعثاء.
مترجم في التهذيب، وروي عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير. مات
سنة 93.
(5/105)
عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز مثله.
5140- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن
أبي مجلز:"ولكن لا تواعدوهن سرا" قال: الزنا= قيل لسفيان
التيمي: ذكره؟ قال: نعم.
5141- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر، عن أبيه،
عن رجل، عن الحسن في المواعدة مثل قولة أبي مجلز.
5142- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا يزيد
بن إبراهيم، عن الحسن قال: الزنا.
5143- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا أشعث وعمران،
عن الحسن مثله.
5144- حدثنا ابن بشار قال حدثنا، عبد الرحمن ويحيى قالا حدثنا
سفيان، عن السدي قال: سمعت إبراهيم يقول:"لا تواعدوهن سرا"
قال: الزنا.
5145- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا
سفيان، عن السدي، عن إبراهيم مثله.
5146- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد،
عن قتادة في قوله:"لا تواعدوهن سرا" قال: الزنا.
5147- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن يزيد بن
إبراهيم، عن الحسن:"ولكن لا تواعدوهن سرا" قال: الزنا.
5148- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
عن معمر، عن قتادة، عن الحسن في قوله:"ولكن لا تواعدوهن سرا"
قال: الفاحشة.
5149- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
جويبر، عن الضحاك= وحدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد
بن هارون قال، أخبرنا جويبر عن الضحاك:"لا تواعدوهن سرا"، قال:
السر: الزنا.
(5/106)
5150- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي
قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لا
تواعدوهن سرا"، قال: فذلك السر: الريبة. (1) كان الرجل يدخل من
أجل الريبة وهو يعرض بالنكاح، فنهى الله عن ذلك إلا من قال
معروفا.
5151- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال،
أخبرنا منصور، عن الحسن وجويبر، عن الضحاك وسليمان التيمي، عن
أبي مجلز أنهم قالوا: الزنا.
5152- حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
الربيع قوله:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، للفحش والخضع من القول.
(2)
5153- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن قتادة، عن الحسن:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال: هو
الفاحشة.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك لا تأخذوا ميثاقهن وعهودهن في عددهن
أن لا ينكحن غيركم.
* ذكر من قال ذلك:
5154- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"لا تواعدوهن
سرا"، يقول: لا تقل لها:"إني عاشق، وعاهديني أن لا تتزوجي
غيري"، ونحو هذا.
5155- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان،
عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير في قوله:"لا تواعدوهن سرا"،
قال:
__________
(1) في المطبوعة: "الزنية" في هذا الموضع والذي يليه، والصواب
من المخطوطة. والريبة (بكسر الراء) : الشك والظنة والتهمة، وهو
كناية عن كل أمر قبيح يرتاب فيه وفي صاحبه.
(2) الخضع (بفتح فسكون) مصدر خضع الرجل: ألان الكلام للمرأة:
وقد ضبط في المخطوطة بضم الخاء، ولم أجده. و"خضع" من باب"نفع"،
نص على ذلك صاحب معيار اللغة. وفي حديث عمر أن رجلا في زمانه
مر برجل وامرأة قد خضعا بينهما حديثا فضربه حتى شجه، فرفع إلى
عمر فأهدره" أي: لينا بينهما الحديث، وتكلما بما يطمع كلا
منهما في الآخر. وسيأتي"خضع القول" أيضًا في تفسيره 22: 3
(بولاق) ، وسيأتي أيضًا في الأثر رقم: 5162.
(5/107)
لا يقاضها على كذا وكذا أن لا تتزوج غيره.
(1)
5156- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن
عامر. ومجاهد وعكرمة قالوا: لا يأخذ ميثاقها في عدتها، أن لا
تتزوج غيره.
5157- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال،
حدثنا شعبة، عن منصور قال: ذكر في عن الشعبي أنه قال في هذه
الآية:"لا تواعدوهن سرا"، قال: لا تأخذ ميثاقها أن لا تنكح
غيرك.
5158- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن
الشعبي:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال: لا يأخذ ميثاقها في أن لا
تتزوج غيره.
5159- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن
سالم، عن الشعبي قال: سمعته يقول في قوله:"لا تواعدوهن سرا"،
قال: لا تأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيرك، ولا يوجب العقدة حتى
تنقضي العدة. (2)
5160- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن
الشعبي:"لا تواعدوهن سرا"، قال: لا يأخذ عليها ميثاقا أن لا
تتزوج غيره.
5161- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"ولكن لا تواعدهن سرا"، يقول:"أمسكي علي نفسك، فأنا
أتزوج"= ويأخذ عليها عهدا="لا تنكحي غيري". (3)
__________
(1) في المطبوعة: "لا يقاصها"، وهو كذلك في المخطوطة غير
منقوط، وصواب قراءته ما أثبت. قاضاه على الأمر: فصل فيه وأبرمه
وحتمه وفرغ منه. وفي كتاب صلح الحديبية: "هذا ما قاضى عليه
محمد. . . " وهو شبيه بالمعاهدة.
(2) في المطبوعة: "ويأخذ عليها عهدا أن لا تنكحي". . .
"بزيادة"أن"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو الصواب الجيد.
(3) في المطبوعة: "ويأخذ عليها عهدا أن لا تنكحي". . . .
"بزيادة"أن"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو الصواب الجيد.
(5/108)
5162- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد
بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولكن لا تواعدوهن سرا"،
قال: هذا في الرجل يأخذ عهد المرأة وهي في عدتها أن لا تتزوج
غيره، فنهى الله عن ذلك وقدم فيه، وأحل الخطبة والقول
بالمعروف، ونهى عن الفاحشة والخضع من القول. (1)
5163- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، وحدثني علي قال، حدثنا
زيد= جميعا، عن سفيان:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال: إن تواعدها
سرا على كذا وكذا،"على أن لا تنكحي غيري".
5164- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لا تواعدوهن
سرا"، قال: موعدة السر أن يأخذ عليها عهدا وميثاقا أن تحبس
نفسها عليه، ولا تنكح غيره.
5165- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن يقول لها الرجل:"لا تسبقيني
بنفسك".
* ذكر من قال ذلك:
5166 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن
أبن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ولكن لا تواعدوهن سرا"،
قال: قول الرجل للمرأة:"لا تفوتيني بنفسك، فإني ناكحك"، هذا لا
يحل.
5167- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
أبن أبي نجيح، عن مجاهد قال: هو قول الرجل للمرأة:"لا
تفوتيني".
5168- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد:"ولكن
لا تواعدوهن سرا"، قال: المواعدة أن يقول:"لا تفوتيني بنفسك".
__________
(1) انظر التعليق على الأثر السالف: 5152.
(5/109)
5169- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال،
أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"ولكن لا
تواعدوهن سرا"، أن يقول:"لا تفوتيني بنفسك".
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا تنكحوهن في عدتهن سرا.
* ذكر من قال ذلك:
5170- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"ولكن لا تواعدوهن سرا" يقول: لا تنكحوهن سرا، ثم تمسكها،
حتى إذا حلت أظهرت ذلك وأدخلتها.
5171- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"ولكن تواعدوهن سرا"، قال: كان أبي يقول: لا تواعدوهن
سرا، ثم تمسكها، وقد ملكت عقدة نكاحها، فإذا حلت أظهرت ذلك
وأدخلتها.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، تأويل من
قال:"السر"، في هذا الموضع، الزنا. وذلك أن العرب تسمي الجماع
وغشيان الرجل المرأة"سرا"، لأن ذلك مما يكون بين الرجال
والنساء في خفاء غير ظاهر مطلع عليه، فيسمى لخفائه"سرا"، من
ذلك قوله رؤبة بن العجاج:
فعف عن أسرارها بعد العسق ... ولم يضعها بين فرك وعشق (1)
يعني بذلك: عف عن غشيانها بعد طول ملازمته ذلك، ومنه قول
الحطيئة:
__________
(1) ديوانه: 104، واللسان (عسق) (عشق) (فرك) (سرر) ، وفي
اللسان في بعض مواده"إسرارها" بالكسر، وهو خطأ، وفي
بعضها"الغسق"، وهو خطأ أيضًا. والأسرار جمع سر. والعسق،
مصدر"عسق به يعسق": لزمه وأولع به. والفرك (بكسر الفاء وسكون
الراء) بغضة الرجل امرأته، أو بغضة امرأته له. وامرأة فارك
وفروك، تكره زوجها. ورجل مفرك (بتشديد الراء) . لا يحظى عند
النساء. والعشق (بكسر فسكون) والعشق (بفتحتين) مصدر"عشق يعشق".
والضمير في قوله: "فعف"، عائد إلى حمار الوحش الذي يصفه ويصف
أتنه. والضمير في"أسرارها" عائد إلى الأتن.
(5/110)
ويحرم سر جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف
القصاع (1)
وكذلك يقال لكل ما أخفاه المرء في نفسه:"سرا". ويقال:"هو في سر
قومه"، يعني: في خيارهم وشرفهم.
فلما كان"السر" إنما يوجه في كلامها إلى أحد هذه الأوجه
الثلاثة، وكان معلوما أن أحدهن غير معني به قوله:"ولكن لا
تواعدوهن سرا"، وهو السر الذي هو معنى الخيار والشرف= فلم يبق
إلا الوجهان الآخران، وهو"السر" الذي بمعنى ما أخفته نفس
المواعد بين المتواعدين، (2) "والسر" الذي بمعنى الغشيان
والجماع.
فلما لم يبق غيرهما، وكانت الدلالة واضحة على أن أحدهما غير
معني به، صح أن الآخر هو المعني به.
* * *
فإن قال [قائل] : (3) فما الدلالة على أن مواعدة القول سرا،
غير معني به= على ما قال من قال إن معنى ذلك: أخذ الرجل ميثاق
المرأة أن لا تنكح غيره، أو على ما قال من قال: قول الرجل
لها:"لا تسبقيني بنفسك"؟
قيل: لأن"السر" إذا كان بالمعنى الذي تأوله قائلو ذلك، فلن
يخلو ذلك"السر" من أن يكون هو مواعدة الرجل المرأة ومسألته
إياها أن لا تنكح غيره= أو
__________
(1) ديوانه: 93، واللسان (أنف) يمدح بني رياح وبني كليب من بني
يربوع. أنف كل شيء: طرفه وأوله. والقصاع جمع قصعة: وهي الجفنة
الضخمة. يذكر عفتهم وحفاظهم وامتناعهم من انتهاك حرمة الجارة،
واقتراف الإثم في حقها، ويصف كرمهم وإيثارهم جارهم بالطعام على
أنفسهم، فلا يتقدمونه إلى الطعام حتى يأخذ منه ما يشتهي وما
يكفيه. وقبل البيت: فليس الجار جار بني رياح ... بمقصى في
المحل ولا مضاع
هم صنعوا لجارهم، وليست ... يد الخرقاء مثل يد الصناع
(2) في المطبوعة: "نفس المواعدين المتواعدين"، والصواب من
المخطوطة.
(3) هذه الزيادة استظهرتها من مئات أشباهها مضت.
(5/111)
يكون هو النكاح الذي سألها أن تجيبه إليه،
بعد انقضاء عدتها، وبعد عقده له، دون الناس غيره. فإن
كان"السر" الذي نهى الله الرجل أن يواعد المعتدات، هو أخذ
العهد عليهن أن لا ينكحن غيره، فقد بطل أن يكون"السر" معناه:
ما أخفى من الأمور في النفوس، أو نطق به فلم يطلع عليه، وصارت
العلانية من الأمر سرا. وذلك خلاف المعقول في لغة من نزل
القرآن بلسانه.
إلا أن يقول قائل هذه المقالة: إنما نهى الله الرجال عن
مواعدتهن ذلك سرا بينهم وبينهن، لا أن نفس الكلام بذلك - وإن
كان قد أعلن- سر.
فيقال له إن قال ذلك: فقد يجب أن تكون جائزة مواعدتهن النكاح
والخطبة صريحا علانية، إذ كان المنهي عنه من المواعدة، إنما هو
ما كان منها سرا.
فإن قال: إن ذلك كذلك، خرج من قول جميع الأمة. على أن ذلك ليس
من قيل أحد ممن تأول الآية أن"السر" ها هنا بمعنى المعاهدة أن
لا تنكح غير المعاهد.
وإن قال: ذلك غير جائز.
قيل له: فقد بطل أن يكون معنى ذلك: إسرار الرجل إلى المرأة
بالمواعدة. لأن معنى ذلك، لو كان كذلك، لم يحرم عليه مواعدتها
مجاهرة وعلانية. وفي كون ذلك عليه محرما سرا وعلانية، ما أبان
أن معنى"السر" في هذا الموضع، غير معنى إسرار الرجل إلى المرأة
بالمعاهدة أن لا تنكح غيره إذا انقضت عدتها= أو يكون، إذا بطل
هذا الوجه، معنى ذلك: الخطبة والنكاح الذي وعدت المرأة الرجل
أن لا تعدوه إلى غيره. فذلك إذا كان، فإنما يكون بولي وشهود
علانية غير سر. وكيف يجوز أن يسمى سرا، وهو علانية لا يجوز
إسراره؟
وفي بطول هذه الأوجه أن يكون تأويلا لقوله:"ولكن لا تواعدوهن
سرا" بما عليه دللنا من الأدلة، وضوح صحة تأويل ذلك أنه بمعنى
الغشيان والجماع.
وإذ كان ذلك صحيحا، فتأويل الآية: ولا جناح عليكم، أيها الناس،
فيما
(5/112)
عرضتم به للمعتدات من وفاه أزوجهن، من خطبة
النساء، وذلك حاجتكم إليهن، فلم تصرحوا لهن بالنكاح والحاجة
إليهن، إذا أكننتم في أنفسكم، فأسررتم حاجتكم إليهن وخطبتكم
إياهن في أنفسكم، ما دمن في عددهن؛ علم الله أنكم ستذكرون
خطبتهن وهن في عددهن، فأباح لكم التعريض بذلك لهن، وأسقط الحرج
عما أضمرته نفوسكم -حكم منه (1) ولكن حرم عليكم أن تواعدوهن
جماعا في عددهن، بأن يقول أحدكم لإحداهن في عدتها:"قد تزوجتك
في نفسي، وإنما أنتظر أنقضاء عدتك"، فيسألها بذلك القول إمكانه
من نفسها الجماع والمباضعة، فحرم الله تعالى ذكره ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا}
قال أبو جعفر: ثم قال تعالى ذكره:"إلا أن تقولوا قولا معروفا"،
فاستثنى القول المعروف مما نهي عنه، من مواعدة الرجل المرأة
السر، وهو من غير جنسه، ولكنه من الاستثناء الذي قد ذكرت قبل:
أن يأتي بمعنى خلاف الذي قبله في الصفة خاصة، وتكون"إلا" فيه
بمعنى"لكن"، (2) فقوله:"إلا أن تقولوا قولا معروفا" منه-
ومعناه: ولكن قولوا قولا معروفا. فأباح الله تعالى ذكره أن
يقول لها المعروف من القول في عدتها، وذلك هو ما أذن له
بقوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، كما: -
5172- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان،
عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير:"إلا أن
تقولوا
__________
(1) في المطبوعة: "حلما منه" وأثبت صوب ما في المخطوطة.
(2) انظر ما سلف 2: 263-265 / ثم 3: 204 - 206.
(5/113)
قولا معروفا"، قال: يقول: إني فيك لراغب،
وإني لأرجو أن نجتمع.
5173- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"إلا أنه
تقولوا قولا معروفا"، قال: هو قوله:"إن رأيت أن لا تسبقيني
بنفسك".
5174- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك،
عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"إلا أن تقولوا قولا معروفا"، قال:
يعني التعريض.
5175- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، عن مجاهد:"إلا أن تقولوا قولا معروفا"، قال: يعني
التعريض.
5176- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
السدي:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به خطبة النساء" إلى"حتى
يبلغ الكتاب أجله"، قال: هو الرجل يدخل على المرأة وهي في
عدتها فيقول:"والله إنكم لأكفاء كرام، وإنكم لرغبة، (1) وإنك
لتعجبيني، وإن يقدر شيء يكن". فهذا القول المعروف.
5177- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، وحدثني علي قال، حدثنا
زيد- قالا جميعا، قال سفيان:"إلا أن تقولوا قولا معروفا"، قال
يقول:"إني فيك لراغب، وإني أرجو إن شاء الله أن نجتمع".
5178- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
قوله:"إلا أن تقولوا قولا معروفا"، قال يقول:"إن لك عندي كذا،
ولك عندي كذا، وأنا معطيك كذا وكذا". قال: هذا كله وما كان قبل
أن يعقد عقدة النكاح،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "لرعة"، وهي في المخطوطة غير
منقوطة، وقرأتها كذلك - لأنه أوفق، ولأني لم أجد لقوله"رعة"
معنى. وسمى المرأة"رغبة"، كما يسميها"هوى" بالمصدر، أي: يرغب
فيك. ومنه الرغيبة: وهو الشيء المرغوب فيه.
(5/114)
فهذا كله نسخه قوله:"ولا تعزموا وعقدة
النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله".
5179- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا
جويبر، عن الضحاك:"إلا أن تقولوا قولا معروفا"، قال: المرأة
تطلق أو يموت عنها زوجها، فيأتيها الرجل فيقول:"احبسي علي
نفسك، فإن لي بك رغبة، فتقول:"وأنا مثل ذلك"، فتتوق نفسه لها.
(1) فذلك القول المعروف.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ
النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولا تعزموا عقدة
النكاح"، ولا تصححوا عقدة النكاح في عدة المرأة المعتدة،
فتوجبوها بينكم وبينهن، وتعقدوها قبل انقضاء العدة ="حتى يبلغ
الكتاب أجله"، يعني: يبلغن أجل الكتاب الذي بينه الله تعالى
ذكره بقوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْرًا) ، فجعل بلوغ الأجل للكتاب، والمعنى للمتناكحين، أن
لا ينكح الرجل المرأة المعتدة، فيعزم عقدة النكاح عليها حتى
تنقضي عدتها، فيبلغ الأجل الذي أجله الله في كتابه لانقضائها،
كما: -
5180- حدثنا محمد بن بشار وعمرو بن علي قالا حدثنا عبد الرحمن
قال، حدثنا سفيان، وحدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد
الرزاق، عن الثوري، عن ليث، عن مجاهد:"حتى يبلغ الكتاب أجلا"،
قال: حتى تنقضي العدة.
5181- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
__________
(1) في المخطوطة: "فتؤتي نفسه لها"، ولم أجدها في مكان آخر،
والذي في المطبوعة لا بأس به، وهو قريب الدلالة على المعنى.
(5/115)
السدي قوله:"حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال:
حتى تنضي أربعة أشهر وعشر.
5182- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
قوله:"حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: حتى تنقضي العدة.
5183- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
عن أبيه، عن الربيع مثله.
5184- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال:
تنقضي العدة.
5185- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله:"ولا تعزموا عقدة
النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: حتى تنقضي العدة.
5186- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
جويبر، عن الضحاك قوله:"حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: لا
يتزوجها حتى يخلو أجلها. (1)
5187- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو قتيبة قال، حدثنا يونس
بن أبي إسحاق، عن الشعبي في قوله:"ولا تعزموا عقدة النكاح حتى
يبلغ الكتاب أجله"، قال: مخافة أن تتزوج المرأة قبل انقضاء
العدة. (2)
5188- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا
سعيد، عن قتادة:"ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب
أجله"، حتى تنقضي العدة.
5189- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا
زيد= جميعا، عن سفيان قوله:"حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: حتى
تنقضي العدة.
* * *
__________
(1) خلا الشيء يخلو خلوا: مضى وانقضى.
(2) الأثر: 5187-"أبو قتيبة"، هو: سلم بن قتيبة الشعيري، أبو
قتيبة الخراساني. "ثقة، ليس به بأس، يكتب حديثه"، مات سنة 201.
مترجم في التهذيب.
(5/116)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: واعلموا، أيها الناس، أن
الله يعلم ما في أنفسكم من هواهن ونكاحهن وغير ذلك من أموركم،
فاحذروه. يقول: فاحذروا الله واتقوه في أنفسكم أن تأتوا شيئا
مما نهاكم عنه، من عزم عقدة نكاحهن، أو مواعدتهن السر في
عددهن، وغير ذلك مما نهاكم عنه في شأنهن في حال ما هن معتدات،
وفي غير ذلك="واعلموا أن الله غفور"، (1) يعني أنه ذو ستر
لذنوب عباده وتغطية عليها، فيما تكنه نفوس الرجال من خطبة
المعتدات، وذكرهم إياهن في حال عددهن، وفي غير ذلك من خطاياهم=
وقوله:"حليم"، يعني أنه ذو أناة لا يعجل على عباده بعقوبتهم
على ذنوبهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"لا جناح عليكم"، لا حرج
عليكم إن طلقتم النساء. (2)
يقول: لا حرج عليكم في طلاقكم نساءكم وأزواجكم،
__________
(1) انظر"غفور" فيما سلف، في فهارس اللغة في الأجزاء السالفة.
(2) انظر تفسير"الجناح" فيما سلف 3: 230، 231 / ثم 4: 162، 566
/ ثم 5: 71
(5/117)
="ما لم تماسوهن"، (1) يعني بذلك: ما لم
تجامعوهن.
* * *
"والمماسة"، في هذا الموضع، كناية عن اسم الجماع، كما: -
5190- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع= وحدثنا
محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر= قالا جميعا، حدثنا
شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: المس
الجماع، ولكن الله يكني ما يشاء بما شاء. (2)
5191- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: المس: النكاح.
* * *
قال أبو جعفر: وقد اختلف القرأة في قراءة ذلك. (3) فقرأته عامة
قرأة أهل الحجاز والبصرة:"ما لم تمسوهن"، بفتح"التاء"
من"تمسوهن"، بغير"ألف"، من قولك: مسسته أمسه مسا ومسيسا
ومسيسى" مقصور مشدد غير مجرى. وكأنهم اختاروا قراءة ذلك،
إلحاقا منهم له بالقراءة المجتمع عليها في قوله: (وَلَمْ
يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) [سورة آل عمران: 47، سورة مريم: 20] .
* * *
وقرأ ذلك آخرون:"ما لم تماسوهن"، بضم"التاء والألف"
بعد"الميم"، إلحاقا منهم ذلك بالقراءة المجمع عليها في قوله:
(فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) [سورة
المجادلة: 3] ، وجعلوا ذلك بمعنى فعل كل واحد من الرجل والمرأة
بصاحبه من قولك:"ماسست الشيء أمماسه مماسة ومساسا. (4)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة، نص الآية"تمسوهن"، وفي
التفسير"تماسوهن"، وهذا دليل على أنها كانت قراءة الطبري في
أصله، أما قراءة كاتب النسخة المخطوطة، وقراءتنا في مصحفنا
هذا، فهي"تمسوهن"، وسيذكر الطبري القراءتين.
(2) في المطبوعة: "ما يشاء بما شاء"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "وقد اختلفت القراء"، وأثبت ما في المخطوطة.
والقَرَأَة (بفتحات) جمع قارئ.
(4) ليس في المطبوعة: "أماسه" وزدتها في المخطوطة.
(5/118)
* * *
قال أبو جعفر: والذي نرى في ذلك، أنهما قراءتان صحيحتا المعنى،
متفقا التأويل، وإن كان في إحداهما زيادة معنى، غير موجبة
اختلافا في الحكم والمفهوم.
وذلك أنه لا يجهل ذو فهم إذا قيل له:"مسست زوجتي"، أن الممسوسة
قد لاقى من بدنها بدن الماس، ما لاقاه مثله من بدن الماس. فكل
واحد منهما = وإن أفرد الخبر عنه بأنه الذي ماس صاحبه= (1)
معقول بذلك الخبر نفسه أن صاحبه المسوس قد ماسه. (2) فلا وجه
للحكم لإحدى القراءتين= مع اتفاق معانيهما، وكثرة القرأة بكل
واحدة منهما= (3) بأنها أولى بالصواب من الأخرى، بل الواجب أن
يكون القارئ، بأيتهما قرأ، مصيب الحق في قراءته.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما عنى الله تعالى ذكره بقوله:"لا جناح عليكم
إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن"، المطلقات قبل الإفضاء إليهن في
نكاح قد سمي لهن فيه الصداق. وإنما قلنا أن ذلك كذلك، لأن كل
منكوحة فإنما هي إحدى اثنتين: إما مسمى لها الصداق، أو غير
مسمى لها ذلك. فعلمنا بالذي يتلو ذلك من قوله تعالى ذكره، أن
المعنية بقوله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن"،
إنما هي المسمى لها. لأن المعنية بذلك، لو كانت غير المفروض
لها الصداق، لما كان لقوله:"أو تفرضوا لهن فريضة"، معنى معقول.
إذ كان لا معنى لقول قائل:"لا جناح عليكم إذا طلقتم النساء ما
لم تفرضوا لهن فريضة في نكاح لم تماسوهن فيه، أو ما لم تفرضوا
لهن فريضة". فإذا كان لا معنى لذلك، فمعلوم أن الصحيح من
التأويل في ذلك: لا جناح عليكم إن طلقتم المفروض لهن من نسائكم
الصداق قبل أن تماسوهن، وغير المفروض لهن قبل الفرض.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "ماس صاحبه"، والأجود أن يقول: "مس
صاحبه".
(2) في المخطوطة: "فذلك الخبر نفسه"، وفي المطبوعة: "كذلك
الخبر. . . "، وكلتاهما فاسدة مسلوبة المعنى.
(3) في المطبوعة: "وكثرة القراءة"، وهو فاسد، والقَرَأَة جمع
قارئ كما سلف.
(5/119)
|