تفسير مقاتل بن سليمان

سورة الزّمر

(3/657)


[سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 75]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9)
قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14)
فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يَا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29)
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34)
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39)
مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي مَا كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49)
قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54)
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59)
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64)
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69)
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74)
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)

(3/659)


[سورة الزمر] «1» سورة الزمر مكية إلا ثلاث آيات فيها نزلت فى وحشي بن زيد وأصحابه بالمدينة [122 أ] وهن قوله- تعالى-: «قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ... »
إلى قوله: « ... وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» «2» .
عددها خمس وسبعون آية كوفى «3» .
__________
(1) «معظم مقصود السورة» .
بيان تنزيل القرآن، والإخلاص فى الدين والإيمان وتنزيه الحق- تعالى- عن الولد، وعجائب صنع الله فى الكواكب والأفلاك، والمنة على العباد بإنزال الإنعام من السماء فى كل أو ان وحفظ الأولاد فى أرحام الأمهات بلا أنصار وأعوان وجزاء الخلق على الشكر والكفران، وذكر شرف المتهجدين فى الدياجر بعبادة الرحمن وبيان أجر الصابرين، وذل أصحاب الخسران، وبشارة المؤمنين فى استماع القرآن بإحسان، وإضافة غرف الجنان لأهل الإخلاص والعرفان، وشرح صدر المؤمنين بنور التوحيد والإيمان، وبيان أحوال آيات الفرقان، وعجائب القرآن، وتمثيل أحوال أهل الكفر وأهل الإيمان والخطاب مع المصطفى بالموت والفناء وتحلل الأبدان وبشارة أهل الصدق بحسن الجزاء والغفران والوعد بالكفاية والكلاءة للعبدان، وإضافة الملك إلى قبضة الرحمن، ونفخ الصور على سبيل الهيبة والسياسة، وإشراق العرصات بنور العدل، وعظمة السلطان، وسوق الكفار بالذل والخزي إلى دار العقوبة والهوان، وتفريج المؤمنين بالسلام عليهم فى دار الكرامة، وغرف الجنان، وحكم الحق بين الخلق بالعدل، وختمه بالفضل والإحسان فى قوله: « ... وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» : سورة الزمر: 75.
(2) يشير إلى الآيات 53، 54، 55 من سورة الزمر ونصها: «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» . [.....]
(3) فى المصحف: (39) سورة الزمر مكية إلا الآيات 52، 53، 54 فمدنية وآياتها 75 نزلت بعد سورة سبأ.

(3/667)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ في ملكه الْحَكِيمِ- 1- في أمره إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ يعني القرآن بِالْحَقِّ يقول لم ننزله باطلا لغير شيء فَاعْبُدِ اللَّهَ يقول فوحد الله مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ- 2- يعني له التوحيد أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ يعني التوحيد وغيره من الأديان ليس بخالص وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا يعني كفار العرب مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فيها إضمار قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ يعني الآلهة، نظيرها في «حم عسق» «1» «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ... » «2» وذلك أن كفار العرب عبدوا الملائكة وقالوا ما نعبدهم إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى يعني منزلة فيشفعوا لنا إلى الله إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ من الدين يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي لدينه مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ- 3- لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً يعنى عيسى بن مريم «3» لَاصْطَفى يعني لاختار مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشاءُ من الملائكة فإنها أطيب وأطهر من عيسى كقوله في الأنبياء: «لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً»
__________
(1) سورة الشورى: 1.
(2) سورة الشورى: 6، وتمامها: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ» .
(3) فى ا: عيسى بن مريم، كتبت فيها «ابن» بدون همزة فى أول السطر.

(3/669)


يعني ولدا يعني عيسى «لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا ... » «1» يعني من عندنا من الملائكة، ثم نزه نفسه عما قالوا من البهتان فقال: سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ لا شريك له الْقَهَّارُ- 4-، ثم عظم نفسه فقال: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ لم يخلقهما باطلا لغير شيء يُكَوِّرُ يعني يسلط اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ يعني ويسلط النهار عَلَى اللَّيْلِ يعني انتقاص كل واحد منهما من الآخر وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لبني آدم كُلٌّ يَجْرِي يعني الشمس والقمر لِأَجَلٍ مُسَمًّى يعني ليوم القيامة يدل على نفسه بصنعه ليعرف توحيده، ثم قال: أَلا هُوَ الْعَزِيزُ في ملكه الْغَفَّارُ- 5- لمن تاب إليه خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم- عليه السلام- ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها يعنى حواء وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ يعني وجعل لكم من أمره مثل قوله في الأعراف «يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً ... » «2» يقول جعلنا، ومثل قوله: « ... وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ ... » «3» يقول وجعلنا الحديد «وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ» «4» يعني الإبل والبقر والغنم ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يعني أصناف يعنى أربعة ذكور وأربعة «إناث» «5» يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ [122 ب]
__________
(1) سورة الأنبياء: 17، وتمامها «لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ» .
(2) سورة الأعراف: 26، وتمامها: «يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» .
(3) سورة الحديد: 25، وتمامها: «لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» .
(4) «وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ» : زيادة اقتضاها السياق.
(5) فى ا: «إناث» ، وفى ف: «إناثا» أ.

(3/670)


أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ يعني نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظما، ثم الروح فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ يعني البطن والرحم والمشيمة التي يكون فيها الولد، ثم قال: ذلِكُمُ اللَّهُ الذي خلق هذه الأشياء هو رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ- 6- يقول فمن أين تعدلون عنه إلى غيره، «يقول» «1» لكفار مكة: إِنْ تَكْفُرُوا بتوحيد الله فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ عن عبادتكم وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ: الذين قال- عز وجل-: «عنهم» «2» لإبليس «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ... » «3» وَإِنْ تَشْكُرُوا يعني توحدوا «4» الله يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى يقول لا تحمل نفس خطيئة أخرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ في الآخرة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ- 7- وَإِذا مَسَّ يعني أصاب الْإِنْسانَ يعني أبا حذيفة بن المغيرة بن عبد الله المخزومي ضُرٌّ يعني بلاء أو شدة دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ يقول راجعا إلى الله من شركه موحدا يقول اللهم اكشف ما بي ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ يقول أعطاه الله الخير نَسِيَ يعني ترك ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ في ضره وَجَعَلَ أبو حذيفة لِلَّهِ أَنْداداً يعنى شركاء لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ يعنى ليستزل عن دين الإسلام قُلْ لأبي حذيفة تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا في الدنيا إلى أجلك إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ- 8- ثم ذكر المؤمن، فقال- سبحانه-: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ يعنى مطيع
__________
(1) فى ا: «الله» ، وفى ف: «يقول» .
(2) «عنهم» : زيادة اقتضاها السياق ليست فى ا، ولا فى ف.
(3) سورة الحجر: 42.
(4) فى ا: توحيد، وفى ف: توحدوا.

(3/671)


لله في صلاته وهو عمار بن ياسر آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً يعني ساعات الليل ساجدا وَقائِماً في صلاته يَحْذَرُ عذاب الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ يعني الجنة كمن لا يفعل ذلك ليسا بسواء قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ إن ما وعد الله إضمار في الآخرة من الثواب والعقاب حق، يعني عمار بن «ياسر» «1» وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ يعنى أبا حذيفة إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ- 9- يعني أهل اللب والعقل يعني عمار بن ياسر، ثم قال: قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا «العمل» «2» فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ يعنى الجنة وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ «يعنى المدينة» «3» إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ يعني جزاءهم الجنة وأرزاقهم فيها بِغَيْرِ حِسابٍ- 10- قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وذلك أن كفار قريش قالوا للنبي- صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما يحملك عَلَى الَّذِي أتيتنا به، ألا تنظر إلى مَلَّة أبيك عَبْد اللَّه، وملة جدك عَبْد الْمُطَّلِب، وإلى سادة قومك يعبدون اللات والعزى ومناة فتأخذ به، فأنزل الله- تبارك وتعالى-: «قل» يا محمد «إنى أمرت» [123 ا] «أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ» يعني أن أوحد الله مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ- 11- يعني له التوحيد وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ- 12- يعني المخلصين بتوحيد الله- عز وجل- قُلْ لهم إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي فرجعت إلى ملة ءابائي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ- 13- قُلِ لهم يا محمد
__________
(1) فى ا: «يسار» . [.....]
(2) فى ا: التوحيد، وفى ف: العمل.
(3) ا: يعنى المدينة من الضيق، وفى ف: يعنى المدينة.

(3/672)


اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً موحدا لَهُ دِينِي- 14- فَاعْبُدُوا أنتم مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ من الآلهة ونزل فيهم أيضا، «قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ» «1» قُلْ: يا محمد إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا يعني غبنوا أَنْفُسَهُمْ فصاروا إلى النار وَأَهْلِيهِمْ يعني وخسروا أهليهم من الأزواج والخدم «يَوْمَ الْقِيامَةِ» »
أَلا ذلِكَ يعنى هذا هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ- 15- يعني البين حين لم يوحدوا ربهم يعني وأهليهم في الدنيا، ثم قال: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ يعني أطباق من النار فتلهب عليهم وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ يعني مهادا من نار ذلِكَ يقول هذا الذي ذكر من ظلل النار يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ- 16- يعنى فوحدون وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ يعني الأوثان وهي مؤنثة أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ يعني ورجعوا من عبادة الأوثان إلى عبادة الله- عز وجل- فقال- تعالى-: لَهُمُ الْبُشْرى يعني الجنة فَبَشِّرْ «عِبادِ» «3» - 17- فبشر عبادي بالجنة، ثم نعتهم فقال:
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ يعني القرآن فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ يعني أحسن ما في القرآن من طاعة الله- عز وجل- ولا يتبعون المعاصي مثل قوله:
«وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ... » «4» أي «5» من طاعته أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ لدينه وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ- 18- يعني أهل اللب والعقل حين يستمعون فيتبعون أحسنه من أمره ونهيه يعني أحسن ما فيه من
__________
(1) سورة الزمر: 64.
(2) «يوم القيامة» : ساقطة من ا.
(3) فى ا: «عبادي» .
(4) سورة الزمر: 55.
(5) «أى» : زيادة اقتضاها السياق.

(3/673)


أمره ونهيه، «ولا يتبعون السوء الذي ذكره عن غيرهم» «1» .
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ يعني وجب عليه كَلِمَةُ الْعَذابِ يعني يوم قال لإبليس « ... لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» «2» أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ- 19- لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا وحدوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ ثم نعت الغرف فقال: هي مَبْنِيَّةٌ فيها تقديم تَجْرِي «مِنْ تَحْتِهَا» «3» ، تجري العيون من تحت الغرف يعني «أسفل منها» «4» الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ هذا الخير لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ- 20- ما وعدهم أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ يعنى فجعله عيونا وركابا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ بالماء زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ يعنى ييبس فَتَراهُ بعد الخضرة مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً يعني هالكا نظيرها « ... لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ ... » «5» يعنى [123 ب] . لا يهلكنكم سليمان هذا مثل ضربه الله في الدنيا كمثل النبت، بينما هو أخضر إذ تغير فيبس، ثم هلك، فكذلك تهلك الدنيا بعد بهجتها وزينتها إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى يعني تفكر لِأُولِي الْأَلْبابِ- 21- أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ
__________
(1) فى ا: «ولا يتبعون السوء الذي ذكره عن قوم» ، وفى ف: «ولا يتبعون المساوى التي ذكرها عن غيرهم» .
(2) سورة هود: 119.
(3) «من تحتها» : ساقطة من ا، ف.
(4) من ف، وفى ا: «هذا أسفل منها» .
(5) سورة النمل: 18، وتمامها: «حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» .

(3/674)


يقول أفمن وسع الله قلبه للتوحيد فَهُوَ عَلى نُورٍ يعني على هدى مِنْ رَبِّهِ يعني النبي- صلى الله عليه وسلم- فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ يعني الجافية قُلُوبُهُمْ فلم تلن يعني أبا جهل مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ يعني عن توحيد الله أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ- 22- يعني أبا جهل يقول الله- تعالى- للنبي- صلى الله عليه وسلم- ليس المنشرح صدره بتوحيد الله كالقاسي قلبه ليسا بسواء اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يعني القرآن كِتاباً مُتَشابِهاً يشبه بعضه بعضا مَثانِيَ يعني يثني الأمر في القرآن مرتين أو ثلاثا أو أكثر من نحو ذكر الأمم الخالية، ومن نحو ذكر الأنبياء، ومن نحو ذكر آدم- عليه السلام- وإبليس، ومن نحو ذكر الجنة والنار، والبعث والحساب، ومن نحو ذكر النبت والمطر، ومن نحو ذكر العذاب، ومن نحو ذكر موسى وفرعون، ثم قال: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ يعني مما في القرآن من الوعيد جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ عذاب رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ يعني إلى الجنة وما فيها من الثواب، ثم قال: ذلِكَ الذي ذكر من القرآن هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ يعني بالقرآن مَنْ يَشاءُ لدينه وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن دينه فَما لَهُ مِنْ هادٍ- 23- إلى دينه يقول من أضله الله عن الهدى فلا أحد يهديه إليه.
وقوله «1» - تعالى-: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ يعنى شدة الْعَذابِ «يَوْمَ الْقِيامَةِ» «2» يقول ليس الضال الذي يتقي النار بوجهه كالمهتدي الذي لا تصل النار إلى وجهه، «ليسا» «3» بسواء، يقول الكافر يتقي بوجهه شدة
__________
(1) فى الأصل: «قوله» .
(2) «يوم القيامة» : ساقط ا، ف. [.....]
(3) فى ا، «ليسوا» وفى ف: «ليسا» .

(3/675)


العذاب وهو في النار مغلولة يده إلى عنقه، وفي عنقه حجر ضخم مثل الجبل العظيم من كبريت تشتعل النار في الحجر وهو معلق في عنقه وتشتعل على وجهه فحرها ووهجها على وجهه لا يطيق دفعها عن وجهه من أجل الأغلال التي في يده وعنقه «وَقِيلَ» «1» وقالت الخزنة: لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا العذاب ب ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ- 24- من الكفر والتكذيب كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني قبل كفار مكة كذبوا رسلهم بالعذاب في الآخرة بأنه غير نازل بهم فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ- 25- وهم غافلون عنه فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ يعني العذاب فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ [124 ا] مما أصابهم في الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ- 26- ولكنهم لا يعلمون قوله وَلَقَدْ ضَرَبْنا يعنى وضعنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ «مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» «2» من كل شبه لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ- 27- يعني كي «يؤمنوا» «3» به، ثم قال: وصفنا «4» قُرْآناً عَرَبِيًّا ليفقهوه غَيْرَ ذِي عِوَجٍ يعني ليس «مختلفا» «5» ولكنه مستقيم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ- 28- ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا وذلك أن كفار قريش دعوا النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى ملة آبائه وإلى عبادة اللات والعزى ومناة فضرب لهم مثلا ولآلهتهم مثلا الذين يعبدون من دون الله- عز وجل- فقال: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا» رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ يعني مختلفين يملكونه جميعا، ثم قال: وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ
__________
(1) «قيل» : ساقطة من ا.
(2) فى ا: «من كل شبه» .
(3) فى الأصل: «يؤمنون» .
(4) كذا فى ا، ف.
(5) فى ا: مختلف.

(3/676)


يعني خالصا لرجل لا يشركه فيه أحد يقول فهل يستويان؟ يقول: هل يستوي من عبد آلهة شتى مختلفة يعني الكفار والذي يعبد ربا واحدا يعني المؤمنين؟
فذلك قوله: «هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا» فقالوا لا يعني هل يستويان في الشبه فخصمهم النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: قُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حين خصمهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ- 29- توحيد ربهم، فذلك قوله:
إِنَّكَ مَيِّتٌ يعني النبي- صلى الله عليه وسلم- وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ- 30- يعني أهل مكة ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أنت يا محمد وكفار مكة يوم القيامة عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ- 31- فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ بأن له شريكا وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ يعني بالحق وهو التوحيد إِذْ جاءَهُ يعني لما جاءه البيان هذا المكذب بالتوحيد أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً يعنى مأوى لِلْكافِرِينَ- 32- وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ يعني بالحق وهو النبي- صلى الله عليه وسلم- جاء بالتوحيد وَصَدَّقَ بِهِ يعني بالتوحيد، المؤمنون صدقوا بالذي جاء به محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والمؤمنون أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- «1» فذلك قوله: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ- 33- الشرك من أصحاب النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُمْ ما يَشاؤُنَ في الجنة عِنْدَ رَبِّهِمْ من الخير يعني ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ- 34- يعني الموحدين لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا من المساوئ يعني «يمحوها» «2» بالتوحيد وَيَجْزِيَهُمْ بالتوحيد أَجْرَهُمْ يعني جزاءهم بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ- 35-
__________
(1) من ف، وفى ا: اضطراب.
(2) فى ا: يمحاها، وفى ف: يمحوها.

(3/677)


يقول «يجزيهم» «1» بالمحاسن ولا يجزيهم بالمساوئ أَلَيْسَ اللَّهُ يعني أما الله بِكافٍ عَبْدَهُ يعني النبي- صلى الله عليه وسلم- يكفيه عدوه، ثم قال: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ يعبدون مِنْ دُونِهِ اللات والعزى ومناة وذلك أن كفار مكة [124 ب] قالوا للنبي- صلى الله عليه وسلم-: إنا نخاف أن يصيبك من آلهتنا اللات والعزى ومناة جنون أو خبل قوله: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن الهدى فَما لَهُ مِنْ هادٍ- 36- يهديه للإسلام وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ لدينه فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ يقول لا يستطيع أحد أن يضله أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ يعني بمنيع في ملكه ذِي انْتِقامٍ- 37- من عدوه يعني كفار مكة وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يا محمد مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قال لهم النبي- صلى الله عليه وسلم-: من خلقهما؟
قالوا: الله خلقهما «لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» «2» قال الله- عز وجل- لنبيه- عليه السلام: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ يعنى تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ من الآلهة إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ يعني أصابني الله بِضُرٍّ «يعني ببلاء أو شدة» «3» هَلْ هُنَّ يعني الآلهة كاشِفاتُ ضُرِّهِ يقول هل تقدر الآلهة أن تكشف ما نزل بي من الضر أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ يعني بخير وعافية هَلْ هُنَّ يعني الآلهة مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ يقول هل تقدر الآلهة أن تحبس عني هذه الرحمة، فسألهم النبي- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فسكتوا ولم يجيبوه، قَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- للنبي- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم-:
__________
(1) فى الأصل: «يجزئيهم» .
(2) «لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» : ساقطة من ا.
(3) فى ا: «يعنى بلاء وشدة» ، وفى ف: «يعنى ببلاء أو شدة» .

(3/678)


قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ يعنى يثق الْمُتَوَكِّلُونَ- 38- يعني الواثقون قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ يعني على جديلتكم التي أنتم عليها إِنِّي عامِلٌ على جديلتي التي أمرت بها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ- 39- هذا وعيد مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ يعنى يهينه فى الدنيا وَمن يَحِلُّ يعنى يجب عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ- 40- يقول دائم لا يزول عنه في الآخرة إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يعنى القرآن لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى بالقرآن فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ عن الإيمان بالقرآن فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها يقول فضلالته على نفسه يعني إثم ضلالته على نفسه وَما أَنْتَ يا محمد عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ- 41- يعني بمسيطر «نسختها آية السيف» «1» اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها يقول عند أجلها، يعني التي قضى الله عليها الموت فيمسكها على الجسد في التقديم وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فتلك الأخرى التي يرسلها إلى الجسد، «فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى» «2» إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لعلامات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ- 42- في أمر البعث أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ نزلت في كفار مكة زعموا أن للملائكة شفاعة قُلْ لهم: يا محمد أَوَلَوْ يعني إن كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً من الشفاعة وَلا يَعْقِلُونَ- 43- أنكم تعبدونهم نظيرها فى الأنعام. قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً فجميع من يشفع إنما هو بإذن الله، ثم عظم نفسه فقال:
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وما بينهما من الملائكة وغيرهم عبيده وفي ملكه
__________
(1) فى ا: «نسخة السيف» وفى ف: «نسختها آية السيف» .
(2) ما بين القوسين « ... » : ساقط من ا، ف.

(3/679)


ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ- 44- وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ [125 أ] يعني انقبضت ويقال نفرت عن التوحيد قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يعني لا يصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال يعني كفار مكة وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ عبدوا مِنْ دُونِهِ من الآلهة إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ- 45- بذكرها وهذا يوم قرأ النبي- صلى الله عليه وسلم- سورة النجم بمكة فقرأ « ... اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» ، تلك الغرانيق العلى، عندها الشفاعة ترجى، ففرح كفار مكة حين سمعوا أن لها شفاعة «1» قُلِ اللَّهُمَّ أمر النبي- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) هذا كلام مرفوض يعتمد على رواية تأباها طبيعة هذا الدين وصدق النبي الكريم. والأصل أن النبي لا يقر على خطأ ولو أخطأ لراجعه الوحى فى الحال وقصة الغرانيف أو حديث الغرانيق، لا يتفق مع أصول هذا الدين فالله- عز وجل- قد تكفل بحفظ كتابه فقال- سبحانه-:
«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» سورة الحجر: 9. وقد تكفل الله بأن يجمع القرآن فى قلب النبي وأن يحفظ لسانه عند قراءته قال- تعالى-: «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ»
سورة القيامة: 16- 18.
وبين الله أن النبي لا ينطق عن هواء ولا ينطق إلا بما جاءه به الوحى قال- تعالى-:
«وَالنَّجْمِ إِذا هَوى، ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى، وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى» سورة النجم: 1- 4.
وقد ذكر الدكتور محمد حسين هيكل «قصة الغرانيق» فى الفصل السادس من كتاب «حياة محمد» .
وخلاصتها أن النبي- صلّى الله عليه وسلم- جلس حول الكعبة فقرأ على قومه سورة النجم حتى بلغ قوله- تعالى-: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» سورة النجم 19- 20 فقرأ بعد ذلك «تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى ... » ثم مضى وقرأ السورة كلها وسجد فى آخرها.
هنالك سجد القوم جميعا لم يتخلف منهم أحد. وأعلنت قريش رضاها عما تلا النبي ...
ثم قال الدكتور هيكل: هذا حديث الغرانيق رواه غير واحد من كتاب السيرة، وأشار إليه غير واحد من المفسرين، ووقف عنده كثيرون من المستشرقين طويلا، وهو حديث ظاهر التهافت ينقصه قليل من التمحيص، وهو ينقض ما لكل نبى من العصمة فى تبليغ رسالات ربه فمن عجب أن يأخذ به [.....]

(3/680)


أن يقول يا: فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي مَا كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ- 46- وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا يعني لمشركي مكة يوم القيامة مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ يعني من شدة الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ يعني وظهر لهم حين بعثوا مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ- 47- في الدنيا أنه نازل بهم في الآخرة وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا يعني وظهر لهم حين بعثوا في الآخرة الشرك الذي كانوا عليه حين شهدت عليهم الجوارح بالشرك لقولهم ذلك فى سورة الأنعام « ... وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» «1» وَحاقَ بِهِمْ يعني وجب لهم العذاب بتكذيبهم واستهزائهم بالعذاب أنه غير كائن، فذلك قوله:
__________
بعض كتاب السيرة وبعض المفسرين المسلمين ولذلك لم يتردد ابن إسحاق حين سئل عنه فى أن قال:
إنه من وضع الزنادقة.
وقد ساق الأستاذ هيكل عددا من الحجج على فساد قصة الغرانيق منها:
أولا: أن سياق سورة النجم يأباها لأن الله ذم هذه الأصنام بعد ذلك وقال: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ... سورة النجم: 23.
فكيف يمدح الله اللات والعزى ويذمها فى آيات متعاقبة.
ثانيا: أن النبي لم يجرب عليه الكذب قط حتى سمى الصادق الأمين وكان صدقه أمرا مسلما به للناس جميعا، وما كان النبي ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
ثالثا: أن قصة الغرانيق تناقض أصل التوحيد ووحدانية الإله وهي المسألة التي نادى بها الإسلام فى مكة والمدينة ولم يقبل فيها النبي هوادة، ولا أماله عنها ما عرضت قريش عليه من المال والملك.
رابعا: أن قال الإمام محمد عبده من أن العرب لم تصف آلهتها بالغرانيق ولم يرد ذلك فى نظمهم ولا فى خطبهم، ولا عرف عنهم فى أحاديثهم.
لا أصل إذا لمسألة الغرانيق على الإطلاق، ولم يبق إلا أن تكون من وضع الزنادقة افتراء منهم على الإسلام ونبى الإسلام.
انظر «حياة محمد» لهيكل الفصل السادس «قصة الغرانيق» : 160- 167.
(1) سورة الأنعام: 23.

(3/681)


ما كانُوا بِهِ» «1» بالعذاب يَسْتَهْزِؤُنَ- 48- «فَإِذا» «2» مَسَّ يعني أصاب الْإِنْسانَ يعني أبا حذيفة بن المغيرة ضُرٌّ يعني بلاء أو شدة دَعانا يعني دعا ربه منيبا يعني مخلصا بالتوحيد أن يكشف ما به من الضر ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا يقول ثم إذا آتيناه، يعني أعطيناه الخير قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ يعني إنما أعطيت الخير عَلى عِلْمٍ عندي يقول عَلَى عِلْمٍ عندي يقول على علم علمه الله مني، يقول الله- عز وجل-: بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ يعني بل تلك النعمة بلاء ابتلي به وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ- 49- ذلك قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يقول قد قالها قارون في القصص قبل أبي حذيفة- « ... إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي ... » «3» يقول على خير علمه الله عندي يقول الله- تبارك- وتعالى- فَما أَغْنى عَنْهُمْ من العذاب يعني الخسف مَا كانُوا يَكْسِبُونَ- 50- من الكفر والتكذيب يقول فما أغنى عنهم الكفر من العذاب شيئا فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا يعني عقوبة ما كسبوا من الشرك «وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا» «4» وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ- 51- يعني وما هم بسابقي الله- عز وجل- بأعمالهم الخبيثة حتى يجزيهم بها، ثم وعظوا ليعتبروا في توحيده، وذلك حين مطروا بعد سبع سنين فقال: أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ [125 ب] يعنى يوسع الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ يعنى ويقتر على من
__________
(1) «به» : ساقطة من ا.
(2) فى الأصل: «وإذا» .
(3) سورة القصص: 78، وتمامها «قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ» .
(4) ساقط من اما يأتى: «وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا» .

(3/682)


يشاء إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ يعني لعلامات لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ- 52- يعني يصدقون بتوحيد الله- عز وجل- قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ نزلت في مشركي مكة وذلك أن الله- عز وجل- أنزل في الفرقان «وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ ... » «1» الآية فقال وحشي مولى المطعم بن عدي بن نوفل:
إني قد فعلت هذه الخصال فكيف لي بالتوبة فنزلت فيه «إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» «2» فأسلم وحشي فقال مشركو «3» مكة قد قبل من وحشي توبته، وقد نزل فيه ولم ينزل فينا فنزلت في مشركي مكة «يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ» يعني بالإسراف: الشرك والقتل والزنا فلا ذنب أعظم إسرافا من الشرك لا تَقْنَطُوا يقول لا تيأسوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لأنهم ظنوا ألا توبة لهم إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً يعني الشرك والقتل والزنا الذي ذكر في سورة الفرقان إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ- 53- لمن تاب منها ثم دعاهم إلى التوبة- فقال سبحانه-: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ يقول وارجعوا من الذنوب إلى الله وَأَسْلِمُوا لَهُ يعني وأخلصوا له بالتوحيد، ثم خوفهم فقال: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ- 54- يعني لا تمنعون من العذاب وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من القرآن مِنْ رَبِّكُمْ يعني ما ذكر من الطاعة من الحلال والحرام مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً يعنى فجأة وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ- 55- حين يفجؤكم من قبل أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى
__________
(1) سورة الفرقان: 68 وتمامها: «وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً» .
(2) سورة الفرقان: 70.
(3) فى ا: مشركو، بالألف بعد الواو.

(3/683)


يعنى يا ندامتا عَلى ما فَرَّطْتُ يعنى ما ضيعت فِي جَنْبِ اللَّهِ يعني في ذات الله يعني من ذكر الله وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ- 56- يعني لمن المستهزئين بالقرآن في الدنيا. «أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ- 57- أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ» «1» لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً يعني رجعة إلى الدنيا فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ- 58- يقول فأكون من الموحدين لله- عز وجل- يقول الله- تبارك وتعالى- ردا عليه بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي يعني آيات القرآن فَكَذَّبْتَ بِها أنها ليست من الله وَاسْتَكْبَرْتَ يعني وتكبرت عن إيمان بها وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ- 59- ثم أخبر بما لهم في الآخرة فقال- سبحانه-: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بأن معه شريكا وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ لهذا المكذب بتوحيد الله فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً يعنى مأوى لِلْمُتَكَبِّرِينَ- 60- عن التوحيد وَيُنَجِّي اللَّهُ من جهنم الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ يعنى بنجاتهم [126 أ] بأعمالهم الحسنة لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ يقول لا يصيبهم العذاب وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ- 61- اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ- 62- يقول رب كل شيء من الخلق لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة بِآياتِ اللَّهِ يعني بآيات القرآن أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ- 63- في العقوبة قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ- 64- وذلك أن كفار قريش دعوا النبي
__________
(1) ما بين الأقواس « ... » ساقط من ا، وهو الآية 57 وجزء من الآية 58، كلاهما ساقط من امع تفسيرهما.

(3/684)


- صلى الله عليه وسلم- إلى دين آبائه فحذر الله- عز وجل- النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يتبع دينهم فقال: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ من الأنبياء لَئِنْ أَشْرَكْتَ بعد التوحيد لَيَحْبَطَنَّ يعني ليبطلن عَمَلُكَ الحسن إضمار الذي كان وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ- 65- في العقوبة، ثم أخبر بتوحيده فقال- تعالى-: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ يقول فوحد وَكُنْ له مِنَ الشَّاكِرِينَ- 66- في نعمه في النبوة والرسالة.
قوله- تعالى- وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ نزلت في المشركين يقول وما عظموا الله حق عظمته وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ «يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ» «1» مطويات يوم القيامة بيمينه فيها تقديم فهما كلاهما في يمينه يعني في قبضته اليمنى «2» قال ابن عباس: يقبض على الأرض والسموات جميعا فما يرى طرفهما من قبضته ويده الأخرى يمين سُبْحانَهُ نزه نفسه عن شركهم وَتَعالى وارتفع عَمَّا يُشْرِكُونَ- 67- به وَنُفِخَ فِي الصُّورِ وهو القرن وذلك أن إسرافيل وهو واضع فاه على القرن يشبه البوق ودائرة رأس القرن كعرض السماء
__________
(1) «يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ» : ساقط من ا.
(2) الله- تعالى- منزه عن الكم والكيف ومنزه عن أن يحويه مكان ومنزه عن مشابهة الحوادث ومنزه عن أن تكون له قبضة كقبضتنا أو يد كأيدينا.
قال الأستاذ سيد قطب فى تفسير الآية: «وكل ما ورد فى القرآن وفى الحديث من هذه الصور والمشاهد إنما هو تقريب للحقائق التي لا يملك البشر إدراكها بغير أن توضع لهم فى تعبير يدركونه، وفى صورة يتصورونها ومنه هذا التصوير لجانب من حقيقة القدرة المطلقة، التي لا تتقيد بشكل، ولا تتحيز فى حيز ولا تتحدد بحدود» فى ظلال القرآن: 523، وقد نصح القارئ أن يراجع بتوسع فصل:
التصوير الفنى، وفصل: التخييل الحمى والتجسيم فى كتاب التصوير الفنى فى القرآن.

(3/685)


والأرض وهو شاخص ببصره نحو العرش، يؤمر فينفخ في القرن فإذا نفخ فيه:
__________
وقد عرض الطبري معنى الآية وهو قريب مما ذهب إليه مقاتل ثم عرض رأيا آخر لبعض أهل العربية من أهل البصرة. يقول:
«وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ» أى فى قدرته نحو قوله:
« ... وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ... » أى وما كانت لكم عليه قدرة وليس الملك لليمين دون سائر الجسد قال: وقوله: « ... فى قبضته ... » نحو قولك للرجل هذا فى يدك وفى قبضتك. تفسير الطبري:
23/ 19.
وقد ذهب النسفي والنيسابوري مذهب الزمخشري فى تأويل هذه الآية. قال النيسابوري « ... وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ ... » قال جار الله: الغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته تصوير عظمته، والتوفيق على كنه جلاله من غير ذهاب بالقبضة واليمين إلى جهة حقيقة أو إلى جهة مجاز، وكذلك حكم ما
يروى عن عبد الله بن مسعود أن رجلا من أهل الكتاب جاء إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا أبا القاسم، إن الله يمسك السموات يوم القيامة على إصبع، والأرض على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع ثم يهزهن، فيقول أنا الملك، فضحك رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- تعجبا مما قال وأنزل الله الآية تصديقا له.
وقال جار الله وإنما ضحك أفصح العرب وتعجب لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان، من غير تصور إمساك ولا إصبع ولا هز ولا شيء من ذلك ولكن فهمه وقع أول شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة وأن الأفعال العظام التي لا تكتنها الأوهام هينة عليه.
وقال النيسابوري ... والقبضة بالفتح المرة من القبض يعنى والأرضون جميعا مع عظمهن لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته فهن ذوات قبضته وعندي أن المراد منه تصرفه يوم القيامة فيها بتبديلها كقوله: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ... » سورة إبراهيم: 98.
... وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ... » كقوله: «يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ... »
سورة الأنبياء: 104 وقيل معنى مطويات كونها مستولى عليها استيلاءك على الشيء المطوى عندك بيدك.
وقيل معنى مطويات كونها مستولى عليها بيمينه أى يقسمه لأنه- تعالى- حلف أن يطويها ويفنيها فى الآخرة.
وفى الآية إشارة إلى كمال استغنائه وأنه إذا أراد تبديل الأرض غير الأرض، والسموات وذلك فى يوم القيامة، سهل عليه كل السهولة، ولذلك نزه نفسه عن الشركاء بقوله « ... سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» .

(3/686)


فَصَعِقَ يعنى فمات مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ من شدة الصوت والفزع من فيها من الحيوان، ثم استثنى إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ يعني جبريل وميكائيل، ثم روح جبريل، ثم روح إسرافيل ثم يأمر ملك الموت فيموت ثم يدعهم فيما بلغنا أمواتا أربعين سنة ثم يحيي الله- عز وجل- إسرافيل فيأمره أن ينفخ الثانية، فذلك قوله: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ على أرجلهم يَنْظُرُونَ- 68- إلى البعث الذي كذبوا به، فذلك قوله- تعالى- «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» «1» مقدار ثلاثمائة عام وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها يعني بنور ساقه «2» ، فذلك قوله- تعالى-: «يَوْمَ
__________
(1) سورة المطففين: 6. [.....]
(2) لا سند لمقاتل فى هذا التخصيص، بأن النور نور ساقه قال فى ظلال القرآن.
«وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ» : أرض الساحة التي يتم فيها الاستعراض «بنور ربها» الذي لا نور غيره فى هذا المقام.
وقال الطبري: «وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها ... » يقول- تعالى ذكره- فأضاءت الأرض بنور ربها، يقال أشرقت الشمس إذا صفت وأضاءت، وسرقت إذا طلعت، وذلك حين يبرز الرحمن لفصل القضاء بين خلقه وبنحو الذي قلنا فى ذلك قال أهل التأويل.
... قال قتادة فى قوله: «وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها ... » قال أضاءت فما يتضارون فى نوره إلا كما يتضارون فى الشمس فى اليوم الصحو الذي لا دخن فيه.
وقال النيسابوري: «وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها» الظاهر أن هذا نور تجليه سبحانه وقد مر شرح هذا النور فى تفسير قوله: «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... » سورة النور: 35.
وقال علماء البيان افتتح الآية بذكر العدل كما اختتم الآية بنفي الظلم ويقال للملك للعادل أشرقت الآفاق بنور عدلك وأضاءت الدنيا بقسطك وفى ضده أظلمت الدنيا بجوره، وأهل الظاهر من المفسرين لم يستبعدوا أن يخلق الله فى ذلك اليوم للأرض نورا مخصوصا وقيل أراد أرض الجنة.

(3/687)


يكشف عن ساق ... » «1» وَوُضِعَ الْكِتابُ الذي عملوا فى أيديهم ليقرؤه وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ فشهدوا عليهم بالبلاغ وَالشُّهَداءِ يعني الحفظة من الملائكة فشهدوا عليهم بأعمالهم [126 ب] التي عملوها وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ يعنى بالعدل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ- 69- فى أعمالهم «2» وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ بر وفاجر مَا عَمِلَتْ في الدنيا من خير أو شر وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ- 70- يقول الرب- تبارك وتعالى- أعلم بأعمالهم من النبيين والحفظة، وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا بتوحيد الله إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً يعني أفواجا من كفار كل أمة على حدة حَتَّى إِذا جاؤُها يعني جهنم فُتِحَتْ أَبْوابُها يومئذ وكانت مغلقة ونشرت الصحف وكانت مطوية وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها يعني خزنة جهنم أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يعني من أنفسكم يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ يعني يقرءون عليكم آياتِ «رَبِّكُمْ» «3» القرآن وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا يعني البعث قالُوا بَلى قد فعلوا وَلكِنْ حَقَّتْ يعني وجبت كَلِمَةُ الْعَذابِ يعني بالكلمة يوم قال لإبليس: «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» «4» عَلَى الْكافِرِينَ- 71- قِيلَ قالت لهم الخزنة: «ادْخُلُوا» «5» أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها لا يموتون
__________
(1) سورة القلم: 42.
(2) الآيتان 69، 70، ذكرنا فى امع تقديم وتأخير ونقل جزء آية إلى آية أخرى، وقد صويت الأخطاء.
(3) «ربكم» ليست فى ا.
(4) سورة ص: 85.
(5) فى ا: فادخلوا.

(3/688)


فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ- 72- عن التوحيد وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً يعنى أفواجا حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وأبواب الجنة ثمانية مفتحة أبدا وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ- 73- لا يموتون فيها فلما دخلوها وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ يعني أرض الجنة بأعمالنا نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ يعني نتنزل منها حيث نشاء رضاهم بمنازلهم منها، يقول الله- تبارك وتعالى- فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ- 74- وقال فى هذه السورة «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ ... » يعنى أرض الجنة- وقال فى سورة الأنبياء:
«وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ» يعنى أرض الجنة «يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» «1» وَتَرَى يا محمد الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يعنى تحت العرش يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
يعني يذكرونه بأمر ربهم وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ- 75-.
وذلك أن الله- تبارك وتعالى- افتتح الخلق بالحمد، وختم بالحمد، فقال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ... » «2» وختم بالحمد حين قال:
« ... وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ ... » يعنى بالعدل « ... وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» «3» .
حدثنا أبو جعفر، قال: حدثنا أبو القاسم، قال: قال الْهُذَيْلُ حدثني جرير بن عبد الحميد عن عطاء بن السائب، عن ابن جبير، فى قوله- تعالى-
__________
(1) سورة الأنبياء: 105.
(2) سورة الأنعام: 1.
(3) سورة الزمر: 75.

(3/689)


«اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ... » قال: تقبض أنفس الأموات وترسل [127 ا] أنفس الأحياء إلى أجل مسمى فلا تقبضها « ... إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» «1» .
__________
(1) سورة الزمر الآية 42 وتمامها «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» .

(3/690)