تفسير مقاتل بن سليمان

سوره الجنّ

(4/455)


[سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 28]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9)
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14)
وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19)
قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)

(4/457)


[سورة الجن «1» ] سورة الجن مكية عددها «ثمان «2» » وعشرون آية كوفى «3» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
عجائب علوم القرآن، وعظمة سلطان الملك الديان وتعدى الجن على الإنسان: ومنعهم من الوصول إلى السماء، والرشد والصلاح لأهل الإيمان، وتهديد الكفار بالجحيم والنيران، وعلم الله- تعالى- بالإسرار والإعلان وكيفية تبليغ الوحى من الملائكة إلى الأنبياء، وعلم الله بكل شيء فى قوله- سبحانه-: « ... وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً» سورة الجن: 28.
(2) فى أ: «ثمانية» ، الصواب: «ثمان» .
(3) فى المصحف: (72) سورة الجن مكية وآياتها 28 نزلت بعد سورة الأعراف. [.....]

(4/459)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وذلك أن السماء لم تكن تحرس في الفترة ما بين عيسى إلى محمد- صلى الله عليهما- فَلَمَّا بعث اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- محمدا- صَلَّى الله عليه وسلم- حرمت السماء، ورميت الشياطين بالشهب فقال:
إبليس لقد حدث في الأرض حدثا فاجتمعت الشياطين، فقال لهم إبليس:
ائتوني بما حدث في الأرض من خبر، قالوا: نبي بعث في أرض تهامة «1» ، وكان في أول ما بعث تسعة نفر جاءوا من اليمن، «ركب «2» » من الجن، «ثم «3» » من أهل نصيبين من أشراف الجن وساداتهم إلى أرض تهامة فساروا حتى بلغوا بطن نخلة ليلا فوجدوا النبي- صلى الله عليه وسلم- قائما يصلي مع نفر من أصحابه وهو يقرأ القرآن في صلاة الفجر «فَقالُوا» «4» : فذلك قول الجن يعني أولئك التسعة النفر يا قومنا، إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً- 1- يعني عزيزا لا يوجد مثله يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ يقول يدعو إلى الهدى فَآمَنَّا بِهِ يعني بالقرآن أنه من الله- تعالى- وَلَنْ نُشْرِكَ بعبادة ربنا أَحَداً- 2- من خلقه وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا ارتفع ذكره وعظمته «مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً «5» »
__________
(1) فى أ: «أرض تهامة» ، وفى ف: «الأرض تهامة» .
(2) فى أ: «ركب» ، وفى ف: «ركبا» .
(3) «ثم» من ف، وليست فى أ.
(4) «فقالوا» : ساقط من أ، ف.
(5) فى أ، «من أن يتخذ» ، وفى حاشية أ: «مَا اتَّخَذَ» .

(4/461)


يعني امرأة وَلا وَلَداً- 3- وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا يعني جاهلنا يعني كفارهم عَلَى اللَّهِ شَطَطاً- 4- يعني «جورا «1» » بأن مع الله شريكا، كقوله- عز وجل- في ص « ... وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا ... «2» »
يقول لا تجر في الحكم، وَأَنَّا ظَنَنَّا يعني حسبنا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً- 5- بأن معه شريكا وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ من دون الله- عز وجل- «فأول «3» » من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في سائر العرب، وذلك أن الرجل كان يسافر في الجاهلية فإذا أدركه المساء في «الأرض «4» » القفر قال:
أعوذ بسيد هَذَا الوادي من سفهاء قومه فيبيت آمنا في جوارهم حتى يصبح، «يقول «5» » : فَزادُوهُمْ رَهَقاً- 6- يقول إن الإنس زادت الجن رهقا يعنى غيا لنعوذهم بهم، فزادوا الجن فخرا في قومهم وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ يعني «حسب «6» » كفار الإنس الذين «تعوذوا «7» » برجال من الجن في الجاهلية كما حسبتم- يا معشر كفار الجن- أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً- 7- يعنى رسولا بعد عيسى بن مريم، وقالت الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً من الملائكة وَشُهُباً- 8- من الكواكب فهي
__________
(1) فى أ: «حرا» ، وفى ف: «جورا» .
(2) سورة ص: 22
(3) فى أ: «فأولئك» ، وفى ف: «فأول» .
(4) فى أ: «الأرض» ، وفى ف: «أرض» .
(5) كذا فى أ، ف، والمواد: «يقول الله- تعالى-» .
(6) فى أ: «حسبوا» ، وفى ف: «حسب» .
(7) فى أ: «تعوذون» ، وفى ف: «تعوذوا» .

(4/462)


«تجرح «1» » «وتخيل «2» » ولا تقتل وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها يعني من السماء قبل أن يبعث محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم-، وتحرس السماء مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ إلى السماء إذ بعث محمد- صلى الله عليه وسلم- يَجِدْ لَهُ شِهاباً يعنى رميا من الكواكب ورَصَداً- 9- من الملائكة، «وقالت الجن مؤمنوهم «3» » وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ بإرسال محمد- صلى الله عليه وسلم- فيكذبونه فيهلكهم أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً- 10- يقول أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ يعنى دون المسلمين كافرين، فذلك قوله: كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً- 11- يقول أهل ملل شتى، مؤمنين وكافرين ويهود ونصارى وَأَنَّا ظَنَنَّا يقول علمنا [212 أ] أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ يعني أن لن نسبق الله في الأرض «فنفوته «4» » وَلَنْ نُعْجِزَهُ يعني ولن نسبقه هَرَباً- 12- فنفوته ثم قال: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى يعني القرآن آمَنَّا بِهِ يقول صدقنا به أنه من الله- تعالى- فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فمن يصدق بتوحيد الله- عز وجل- فَلا يَخافُ في الآخرة بَخْساً يقول لن ينقص من حسناته شيئا، ثم قال:
وَلا يخاف «رَهَقاً» «5» - 13- يقول لا يخاف أن يظلم حسناته كلها حتى يجازى بعمله السيئ كله، مثل قوله- تعالى- « ... فَلا يَخافُ ظُلْماً» : «6»
__________
(1) فى أ: «تخرج» ، وفى ف: «تجرح» .
(2) فى أ: «وتحيل» ، وفى ف: «وتخيل» . [.....]
(3) كذا فى أ، ف، وكان الأنسب: «وقال مؤمنو الجن» .
(4) فى أ: «فيفوتونه» ، وفى ف: «فنفوته» .
(5) تفسيرها من ف، وهو فلق فى أ.
(6) التسعة من الجن الذين سبق ذكرهم.

(4/463)


أن ينقص من حسناته كلها» ولا هضما «1» » أن يظلم من حسناته وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ يعني المخلصين، هذا قول التسعة وَمِنَّا الْقاسِطُونَ يعنى العادلين بالله وهم المودة فَمَنْ أَسْلَمَ يقول فمن أخلص لله- عز وجل- من كفار الجن فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً- 14- يعنى أخلصوا بالرشد، أَمَّا الْقاسِطُونَ
يعنى العادلين بالله كانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
- 15- يعني وقودا فهذا كله قول مؤمني الجن التسعة، ثم رجع في التقديم إلى كفار مكة فقال: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ يعنى طريقة الهدى لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً- 16- يعني كثيرا من السماء، وهو المطر، - بعد ما كان رفع عنهم المطر سبع سنين- فيكثر خيرهم لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ يقول لكي نبتليهم فيه بالخصب والخير، كقوله فى سورة الأعراف: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا» يقول صدقوا «وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ» يعني المطر «وَالْأَرْضِ ... «2» » يعني به النبات، ثم قال:
وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ القرآن يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً- 17- يعني شدة العذاب الذي لا راحة له فيه وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ يعني الكنائس والبيع والمساجد لله فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً- 18- وذلك أن اليهود والنصارى يشركون في صلاتهم في البيع والكنائس، فأمر الله المؤمنين أن يوحدوه، ثم رجع إلى مؤمني الجن التسعة فقال: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يعني النبي- صلى الله عليه وسلم- يَدْعُوهُ يعني يعبده في بطن نخلة بين مكة والطائف
__________
(1) سورة طه: 112.
(2) سورة الأعراف: 96 وتمامها: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» .

(4/464)


كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً- 19- يقول كادوا أن يرتكبوه «1» حرصا على حفظ ما سمعوا من القرآن، تعجبا به، وهم الجن التسعة، ثم انقطع الكلام، قال- عز وجل-: «قُلْ «2» » إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وذلك أن كفار قريش قالوا للنبي- صلى الله عليه وسلم- بمكة: إنك جئت بأمر عظيم لم نسمع مثله قط، وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا الأمر فنحن تجيرك، فأنزل الله- تعالى- «قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي» وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً- 20- معه قُلْ لهم: يا محمد إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ [212 ب] ضَرًّا وَلا رَشَداً- 21- يقول لا أقدر على أن أدفع عنكم ضرا ولا أسوق إليكم رشدا، والله يملك ذلك كله قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ يعني يمنعني من الله أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً- 22- يعني ملجا ولا حرزا، ثم استثنى فقال:
إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ فذلك الذي يجيرني من عذابه، التبليغ لاستعجالهم «بالعذاب «3» »
فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً»
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فى التوحيد فلا يؤمن به فَإِنَّ لَهُ «نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» «4» - 23-: يدخله نارا خالدا فيها، يعنى «معمورا «5» » فيها، لا يموتون، ثم انقطع الكلام، فقال: حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ من عذاب الآخرة، وما يوعدون من العذاب فى الدنيا يعنى القتل
__________
(1) كذا فى أ، ف، والمعنى أو شكوا أن يركبوا فوقه من شدة حرصهم على استماعه.
(2) فى أ: «قال» .
(3) فى أ: «العذاب» ، وفى ف: «بالعذاب» .
(4) فى أ، ف «يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها» ، وهو تحريف النص القرآن.
(5) فى أ، «مغمورا» ، وهو تصحيف، ومعنى «معمورا» يقضى فيها طول العمر من التعمير، قال- تعالى-: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ.

(4/465)


يبدو فَسَيَعْلَمُونَ يعني كفار مكة عند نزول العذاب ببدر، نظيرها فى سورة مريم «1» مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً كفار مكة أو المؤمنون وَمن أَقَلُّ عَدَداً- 24- يعني جندا أيقرب الله العذاب أم يؤخره، لما سمعوا الذكر يعني قول النبي- صلى الله عليه وسلم «2» - في العذاب يوم بدر، قام النضر بن الحارث وغيره فقالوا: يا محمد، متى هذا الذي تعدنا؟ تكذيبا به واستهزاء، يقول الله- تبارك وتعالى- لنبيه- صلى الله عليه وسلم- فى سورة الأنبياء «3» ، وفي هذه سورة قُلْ إِنْ أَدْرِي يعنى ما أدرى أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ من العذاب في الدنيا يعني القتل ببدر أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً- 25- يعني أجلا بعيدا يقول ما أدري أيقرب الله العذاب أو يؤخره، يعني بالأمد الأجل، القتل ببدر عالِمُ الْغَيْبِ يعني غيب نزول العذاب فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً- 26- من الناس، ثم استثنى فقال: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ يعني رسل ربي فإنه يظهرهم على العذاب متى يكون، ومع جبريل- صلى الله عليه وسلم- أعوانا من الملائكة يحفظون الأنبياء حتى يفرغ جبريل من الوحي، قوله: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ يعني يجعل مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً- 27- قال: كان إذا بعث الله- عز وجل- نبيا أتاه إبليس على صورة جبريل، وبعث الله- تعالى- من بين يدي النبي- صلى الله عليه وسلم- ومن خلفه
__________
(1) سورة مريم: 75 وتمامها: «قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً» .
(2) فى أ: «لما سمعوا قول الذي» وهو تحريف قول النبي.
(3) سورة الأنبياء: 109، وتمامها فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ. [.....]

(4/466)


رصدا من الملائكة فلا يسمع الشيطان حتى يفرغ جبريل- عليه السلام- من الوحي إلى- صلى الله عليه وسلم- فإذا جاء إبليس أخبرته به الملائكة وقالوا: هذا إبليس، وإذا أتاه جبريل لِيَعْلَمَ الرسول أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ يقول ليعلم محمد- صلى الله عليه وسلم- أن الأنبياء قبله قد حفظت، وبلغت قومهم الرسالة، كما حفظ محمد- صلى الله عليه وسلم- وبلغ الرسالة، ثم قال: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ يعنى بما عندهم [213 أ] وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً- 28- يعنى نزول العذاب بهم والله وأعلم.

(4/467)


سورة المزّمل

(4/469)


[سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 20]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)
وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

(4/471)


[سورة المزمل «1» ] سورة المزمل مكية عددها عشرون آية كوفى «2»
__________
(1) «معظم مقصود السورة» :
خطاب الانبساط مع سيد المرسلين، والأمر بقيام الليل، وبيان حجة التوحيد، والأمر بالصبر على جفاء الكفار، وتهديد الكافر بعذاب النار، وتشبيه رسالة المصطفى برسالة موسى» والتخويف بتهويل القيامة، والتسهيل والمسامحة فى قيام الليل، والحث على الصدقة والإحسان، والأمر بالاستغفار من الذنوب والعصيان فى قوله: « ... وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» سورة المزمل: 20.
(2) فى المصحف: (73) سورة المزمل مكية إلا الآيات 10، 11، 20 فمدنية وآياتها 20 نزلت بعد سورة القلم.

(4/473)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ- 1- يعني الذي ضم عليه ثيابه، يعني النبي- صلى الله عليه وسلم- وذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- خرج من البيت وقد ليس ثيابه، فناداه جبريل- عليه السلام-: «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ» الذي قد تزمل بالثياب وقد ضمها عليه، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا- 2- نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا- 3- يقول انقص من النصف إلى ثلث الليل أَوْ زِدْ عَلَيْهِ يعني على النصف إلى الثلثين فخيره هذه الساعات، وكان هذا بمكة قبل صلوات الخمس، ثم قال: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا- 4- يقول ترسل به ترسلا على هينتك رويدا: يعنى- عز وجل- بينه تبيينا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا- 5- يعني القرآن شديدا، لما في القرآن من الأمر والنهي والحدود والفرائض إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ يعني الليل كله والقراءة فيه هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً يعني مواطأة بعضا لبعض وَأَقْوَمُ قِيلًا- 6- بالليل وأثبت، لأنه فارغ القلب بالليل، وهو أفرغ منه بالنهار «1» إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا- 7- يعني فراغا طويلا لنومك ولحاجتك، وكانوا لا يصلون إلا بالليل حتى أنه كان الرجل يعلق نفسه بالليل، فشق القيام عليه بالليل وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ يعنى بالتوحيد والإخلاص وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا- 8- يعني وأخلص إليه إخلاصا في الدعاء والعبادة،
__________
(1) كذا فى أ، ف والمراد أن القلب أفرغ للعبادة بالليل.

(4/475)


ثم عظم الرب نفسه فقال: رَبُّ الْمَشْرِقِ يعنى حيث تطلع الشمس وَرب الْمَغْرِبِ حيث تغرب الشمس قال ابن عباس: تطلع الشمس عند مدينة يقال لها «جابلقا» «1» لها ألف باب على كل باب منها «ألف حارس «2» » وهم الذين ذكرهم الله- تعالى- في كتابه فقال « ... تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً «3» » وتغرب عند مدينة يقال لها جابرسا لها ألف ألف باب على كل باب «ألف حارس» «4» فيتصايحون فرقا منها، فلولا صياحهم لسمعتم وجبتها إذا هي سقطت، ثم عظم الرب نفسه فقال: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا- 9- هو رب المشرق المغرب، يعني يوم يستوي فيه الليل والنهار، فذلك اليوم «اثنتا عشرة ساعة «5» » ، وتلك الليلة «اثنتا عشرة ساعة «6» » فمشرق ذلك اليوم «في برج «7» » الميزان ومغربه، «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» فوحد الرب نفسه «فَاتَّخِذْهُ» [213 ب] «وكيلا» يقول اتخذ الرب وليا وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ من تكذيبهم إياه بالعذاب ومن الأذى وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا- 10- يعني اعتزلهم اعتزالا جميلا حسنا، نسختها آية السيف في براءة «8» وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ يقول خل بيني وبين بني المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم فإن لي فيهم نقمة
__________
(1) فى أ: «حاملفا» ، وفى ف: «جابلقا» .
(2) فى أ: «ألفى حرس» ، وفى ف: «ألف حارس» .
(3) سورة الكهف: 90، وتمامها: «حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً» .
(4) فى أ: «ألف حرس، وفى ف: «ألف حارس» .
(5) فى أ، ف: «اثنا عشر ساعة» والصواب ما أثبته.
(6) فى أ، ف: «اثنا عشر ساعة» والصواب ما أثبته.
(7) فى أ: «فى برج» ، وفى ف: «برج يسمى» .
(8) سورة التوبة: 5.

(4/476)


ببدر «1» أُولِي النَّعْمَةِ في الغنى والخير وَمَهِّلْهُمْ هذا وعيد قَلِيلًا- 11- «حتى أهلكهم ببدر «2» » .
ثم قال: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً- 12- فالأنكال عقوبة من ألوان العذاب، ثم ذكر العقوبة فقال: «وجحيما» يعني ما عظم من النار وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ يعنى بالغصة الزقوم وَعَذاباً أَلِيماً- 13- يعنى وجيعا موجعا يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ يعني تحرك الأرض وَالْجِبالُ من الخوف وَكانَتِ الْجِبالُ يعني وصارت الجبال بعد القوة والشدة كَثِيباً مَهِيلًا- 14- والمهيل الرمل الذي إذا حرك تبع بضعه بعضا إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ يا أهل مكة رَسُولًا يعني النبي- صلى الله عليه وسلم- لأنه ولد فيهم فازدروه شاهِداً عَلَيْكُمْ أنه بلغكم الرسالة، وقد استخفوا به، وازدروه لأنه ولد فيها، كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا- 15- يعني موسى- عليه السلام- أي أنه كان ولد فيها فازدروه، فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا- 16- يعني شديدا وهو الغرق يخوف كفار مكة بالعذاب، أن لا يكذبوا محمدا- صلى الله عليه وسلم- فينزل بهم العذاب كما نزل بفرعون وقومه حين كذبوا موسى- عليه السلام- نظيرها في الدخان «3» فَكَيْفَ تَتَّقُونَ يعني وكيف لا يتقون عذاب يوم يجعل فيه الولدان شيبا، ويسكر الكبير من غير شراب، ويشيب الصغير من غير كبر من أهوال يوم القيامة إِنْ كَفَرْتُمْ
__________
(1، 2) من بدر الأولى إلى بدر الثانية، ساقط من أو هو من ف.
(3) سورة الدخان: 17- 24.

(4/477)


فى الدنيا «يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً» «1» - 17- وذلك يوم يقول الله لآدم قم فابعث بعث النار: من كل ألف تسعمائة «وتسع «2» » وتسعين، وواحد إلى الجنة فيساقون إلى النار سود الوجوه زرق العيون مقرنين في الحديد فعند ذلك يسكر الكبير من الخوف، ويشيب الصغير من الفزع، وتضع الحوامل ما في بطونها من الفزع تماما «3» وغير تمام، ثم قال- عز وجل-: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ السقف به يعنى بالرحمن لنزول الرحمن- تبارك وتعالى «4» - «كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا» «5» - 18- أن وعده مفعولا في البعث يقول إنه كائن لا بد إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ يعني آيات القرآن تذكرة يعني تفكرة فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا- 19- يعني بالطاعة إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ إلى الصلاة أَدْنى يعني أقل مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- «والمؤمنين «6» » كانوا يقومون في أول الإسلام من الليل نصفه وثلثه، وهذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس، [214 أ] فقاموا سنة فشق ذلك عليهم فنزلت الرخصة بعد ذلك عند السنة، فذلك قوله: «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ» وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ من المؤمنين يقومون نصفه وثلث، ويقومون وينامون وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ يعني قيام ثلثي الليل الأول، ولا نصف الليل، ولا ثلث الليل، فَتابَ عَلَيْكُمْ يعني فتجاوز عنكم فى
__________
(1) «يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً» : ساقطة من أ، ومتقدمة على مكانها فى ف. [.....]
(2) فى أ: «تسعة» .
(3) كذا فى أ، ف، والمراد تام الحمل وغير تامه.
(4) هذا من تجسيم مقاتل المذموم، انظر مقاتل وعلم الكلام فى مقدمتي لهذا التفسير.
(5) «كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا» : ساقط من أ، ف
(6) فى أ، ف: «المؤمنون» .

(4/478)


التخفيف بعد قوله: «قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا» . «وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ» فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عليكم في الصلاة عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى فلا يطيقون قيام الله وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ
تجارا يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يعني يطلبون من فضل الله الرزق وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يطيقون قيام الليل فهذه رخصة من الله- عز وجل- لهم بعد التشديد، ثم قال: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ عليكم مِنْهُ يعني من القرآن فلم يوقت شيئا، في صلواتكم الخمس منه وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يعني وأتموا الصلوات الخمس وأعطوا الزكاة المفروضة من أموالكم، فنسخ قيام الليل على المؤمنين وثبت قيام الليل على النبي- صلى الله عليه وسلم- وكان بين أول هذه السورة وآخرها سنة حتى فرضت الصلوات الخمس، والزكاة، فهما واجبتان فذلك قوله: «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» وَآتُوا الزَّكاةَ يقول وأعطوا الزكاة من أموالكم وَأَقْرِضُوا اللَّهَ يعني التطوع قَرْضاً حَسَناً يعني بالحسن طيبة بها نفسه يحتسبها تطوعا بعد الفريضة، وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ يعني من صدقة فريضة كانت أو تطوعا يقول تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً ثوابا عند الله في التقديم، «هُوَ خَيْراً» ، وَأَعْظَمَ أَجْراً يقول أفضل مما أعطيتم من أموالكم وأعظم أجرا يعني وأكثر خيرا وأفضل خيرا في الآخرة وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ من الذنوب إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لكم عند الاستغفار إذا استغفرتموه رَحِيمٌ- 20- حين رخص لكم بالتوبة.

(4/479)


سورة المدّثر

(4/481)


[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 56]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14)
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)
إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ مَا سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)
عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34)
إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39)
فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54)
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

(4/483)


[سورة المدثر «1» ] سورة المدثر مكية عددها «ست «2» » وخمسون آية كوفى «3» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
أمر النبي- صلى الله عليه وسلم- بدعوة الخلق إلى الإيمان وتقرير صعوبة القيامة على الكفار وأهل العصيان وبيان عدد زبانية جهنم، وأن كل واحد من الخلق وهن بالإساءة والإحسان، وملامة الكفار على إعراضهم عن الإيمان، وبيان أن الله- سبحانه- « ... هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ» سورة المدثر: 56.
(2) فى أ: «سنة» ، والصواب: «ست» .
(3) فى المصحف: (74) سورة المدثر مكية وآياتها 56 نزلت بعد سورة المزمل.

(4/487)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ- 1- يعني النبي- صلى الله عليه وسلم- وذلك
أن كفار مكة آذوه فانطلق إلى جبل حراء ليتوارى عنهم «1» فبينما هو يمشي، إذ سمع مناديا يقول: يا محمد. فنظر يمينا وشمالا وإلى السماء، فلم ير شيئا فمضى على وجهه، فنودي الثانية: يا محمد. فنظر يمينا وشمالا ومن خلفه فلم ير شيئا إلا السماء ففزع، وقال: لعل هذا شيطان يدعوني فمضى على وجهه [214 ب] فنودي في قفاه:
يا محمد، يا محمد، فنظر خلفه وعن يمينه وعن شماله ثم نظر إلى السماء، فرأى مثل السرير بين السماء والأرض «وعليه «2» » «دربوكة «3» » قد غظت الأفق، وعليه جبريل- عليه السلام- مثل النور المتوقد يتلألأ حتى كاد «أن»
» يغشى البصر، ففزع فزعا شديدًا، ثم وقع مغشيا عليه ولبث ساعة، ثم أفاق فقام يمشى وبه رعدة شديدة ورجلاه تصطكان راجعا حتى دخل على خديجة فدعا بماء فصبه عليه، فقال: دثروني فدثروه بقطيفة حتى استدفأ، فلما أفاق، قال: لقد
__________
(1) الثابت فى البخاري: (أول ما يدي. به- صلى الله عليه وسلم- من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم، ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتعبد فيه الليالي ذوات العدد حتى فاجأه الوحى وهو بغار حراء) .
ومن الحديث نفهم أن الخلوة بغار حراء كانت التعبد لا التواري عن كفار مكة، ثم كيف يتوارى عن كفار مكة ولم يكن نزل عليه جبريل بالوحي بعد، وقد كان محببا إلى قومه قبل الرسالة؟
(2) فى أ، «وعليها» ، وفى ل: «وعليه» .
(3) كذا فى أ، ف، ولعل فيها تصحيفا.
(4) «أن» : ساقطة من أ، وهي من ل.

(4/489)


أشققت على نفسي.
قالت له خديجة: أبشر فو الله لا يسوؤك الله أبدا لأنك تصدق الحديث، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الخير. فأتاه جبريل- عليه السلام- وهو متقنع بالقطيفة فقال: يأيها المتدثر بقطيفته، المتقنع فيها قُمْ فَأَنْذِرْ- 2- كفار مكة العذاب أن لم يوحدوا الله- تعالى- وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ- 3- يعني فعظم ولا تعظمن كفار مكة في نفسك فقام من مضجعه ذلك، فقال: الله أكبر كبيرا، فكبرت خديجة وخرجت وعلمت أنه قد أوحي إليه وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ- 4- يقول طهر بالتوبة من المعاصي وكانت العرب تقول للرجل إذا أذنب أنه دنس الثياب، وإذا توقى «1» قالوا: إنه لطاهر الثياب وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ- 5- يعني الأوثان، يساف ونائلة وهما صنمان عند البيت يمسح وجوههما من مر بهما من كفار مكة فأمر الله- تبارك وتعالى- النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يجتنبهما، - يعني بالرجز أوثان لا تتحرك بمنزلة الإبل- يعني داء يأخذها ذلك الداء فلا تتحرك من «وجع «2» » الرجز فشبه الآلهة «3» بها- ثم قال: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ- 6- يقول «ولا تعط «4» » عطية لتعطي أكثر من عطيتك وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ- 7- يعزي نبيه- صلى الله عليه وسلم- ليصبر على الأذى والتكذيب من كفار مكة فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ- 8- يعنى نفخ فى الصور، والناقور
__________
(1) أى جعل وقاية بينه وبين الذنوب.
(2) فى أ: «الوجع» . [.....]
(3) الجملة فلقة فى تركيبها، أما المعنى، فهو استعارة الرجز- وهودا. بصيب الإبل فيمنعها من الحركة للآلهة التي لا تتحرك.
(4) فى أ، «ولا تعطى» ، والصوب ما أثبت.

(4/490)


القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل «1» وهو الصور، فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ- 9- يعني مشقته وشدته، ثم أخبر على من عسره فقال: عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ- 10- يعنى غير هين، ويهون ذلك على المؤمن كأدنى صلاته ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً- 11- يعني الوليد بن المغيرة المخزومي كان يسمى الوحيد في قومه، وذلك أن الله- عز وجل- أنزل على النبي- صلى الله عليه وسلم- «حم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ «2» » .
فلما نزلت هذه الآية قام النبي- صلى الله عليه وسلم- في المسجد الحرام فقرأها والوليد [215 أ] ابن المغيرة قريبا منه يستمع إلى قراءته، فلما فطن- صلى الله عليه وسلم- أن الوليد بن المغيرة يستمع إلى قراءته أعاد النبي- صلى الله عليه وسلم- يقرأ هذه الآية «حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ» في ملكه، «الْعَلِيمِ» بخلقه، «غافِرِ الذَّنْبِ» لمن تاب من الشرك، «وَقابِلِ التَّوْبِ» لمن تاب من الشرك، «شَدِيدِ الْعِقابِ» لمن لم يتب من الشرك، «ذِي الطَّوْلِ» يعني ذي الغنى «عمن لم يوحد «3» » ، ثم وحد الرب نفسه حين لَمْ يوحده كفار مكة، فَقَالَ: «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ» يعني مصير الخلائق في الآخرة إليه فلما سمعها الوليد انطلق حتى أتى مجلس بني مخزوم فقال: والله، لقد سمعت من محمد كلاما آنفا ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن،
__________
(1) الجملة من ف، وفيها أخطاء فى أ.
(2) سورة غافر: 1، 3، 3.
(3) فى أ: «لمن لم يوحده» .

(4/491)


وأن أسفله لمعرق، وأن أعلاه لمونق، وأن له لحلاوة، وأن عليه لطلاوة، وأنه ليعلو وما يعلى، ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: لقد صبأ الوليد، والله، لئن صبأ لتصبون قريش كلها: وكان يقال للوليد ريحانة قريش، فقال أبو جهل:
أنا أكفيكموه، فانطلق أبو جهل حتى دخل على الوليد، فقعد إليه كشبه الحزين، فقال له الوليد: ما لي أراك يا بن أخي حزينا؟ فقال أبو جهل: ما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش «يجمعون «1» » لك نفقة ليعينوك على كبرك، ويزعمون أنك إنما زينت قول محمد لتصيب من فضل طعامه. فغضب الوليد عند ذلك، «وقال «2» » : أو ليس قد علمت قريش أني من أكثرهم مالا وولدا، وهل يشبع محمد وأصحابه من الطعام فيكون لهم فضل؟ فقال أبو جهل: فإنهم يزعمون أنك إنما زينت قول محمد من أجل ذلك، فقام الوليد فانطلق مع أبي جهل، حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم، فقال: تزعمون أن محمدا «كاهن «3» » ، فهل «سمعتموه «4» » يخبر بما يكون في غد؟ قالوا: اللهم لا. قال: وتزعمون أن محمدا «شاعر «5» » فهل رأيتموه ينطق فيكم بشعر قط؟ قالوا: اللهم لا. قال: وتزعمون أن محمدا «كذاب «6» ، فهل رأيتموه يكذب فيكم قط؟ قالوا: اللهم لا.
وكان يسمى محمد- صلى الله عليه وسلم- قبل النبوة الأمين، فبرأه من هذه
__________
(1) «يجمعون» : كذا فى أ، ف: والأنسب «تجمع» .
(2) فى أ: «فقال» .
(3) فى أ: «كاهنا» ، وفى ف: «كاهن» .
(4) فى أ، ف: «سمعتم» والمروي فى كتب السيرة: «سمعتموه» .
(5) فى أ: «شاعرا» ، والصواب: «شاعر» .
(6) فى أ: «كذابا» ، وفى ف: «كذاب» .

(4/492)


المقالة كلها، فقالت قريش وما هو، يا أبا المغيرة؟ فتفكر في نفسه ما يقول «عن محمد «1» » - صلى الله عليه وسلم- ثم نظر فيما يقول «عنه «2» » ، ثم عبس وجهه، ويسر يعني وكلح، فذلك قوله- عز وجل-: «إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ» ، ما يقول لمحمد، فقدر له السحر، يقول الله- تبارك وتعالى-: «فَقُتِلَ» يعنى لعن «كَيْفَ قَدَّرَ» لمحمد- صلى الله عليه وسلم- السحر، «ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ» ، يقول ثم كلح «وَبَسَرَ» يعنى [215 ب] وتغير لونه يعنى أعرض عن الإيمان «وَاسْتَكْبَرَ عنه فَقالَ الوليد لقومه: إِنْ هذا الذي يقول محمد) «3» «إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» «فقال «4» » له قومه وما السحر يا أبا المغيرة؟ وفرحوا فقال: شيء يكون ببابل إذا تعلمه الإنسان يفرق بين الاثنين ومحمد «يأثره «5» » ولما يحذقه بعد وأيم الله، لقد أصاب فيه حاجته أما رأيتموه فرق بين فلان وبين أهله وبين فلان وبين «أبيه «6» » ، وبين فلان وبين أخيه، وبين فلان وبين مولاه، فهذا الذي يقول محمد سحر يؤثر عن مسيلمة بن حبيب الحنفي الكذاب يقول يرويه عنه فذلك قوله: «إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» يقول إن هذا الذي يقول محمد إلا قول البشر. قال الوليد بن المغيرة «عن يسار أبي فكيهة هو الذي يأتيه به من مسيلمة «7» » الكذاب فجعل الله له سقر وهو الباب الخامس من جهنم، فلما قال ذلك
__________
(1) فى أ: «لمحمد» .
(2) فى أ: «له» .
(3) ما بين الأقواس (.....) من ف، وليس فى أ. [.....]
(4) فى أ: «يقول» .
(5) المعنى يرويه وينبع أثاره.
(6) فى أ: «أهله» ، وفى ف: «أبيه» .
(7) فى أ: «ليسار أبى فكيهة هو الذي يأتيه به مسيلمة» ، والجملة مثبتة من ف.

(4/493)


الوليد شق ذلك على النبي- صلى الله عليه وسلم- ما لم يشق عليه فيما قذف بغيره من الكذب فأنزل الله- تعالى- على نبيه- صلى الله عليه وسلم- يعزيه ليصبر على تكذيبهم، فقال: يا محمد «كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ «1» » وأنزل في الوليد بن المغيرة «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً» يقول خل بيني يا محمد وبين من خلقت وحيدا يقول حين لم يكن له مال ولا بنون، يعني خل بيني وبينه، فأنا أتفرد بهلاكه، وأما الوليد، يعني خلقته وحده ليس له شيء، يقول- عز وجل- فأعطيته المال والولد، فذلك قوله: وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُوداً- 12- يعني بالمال بستانه الذي له بالطائف، والممدود الذي لا يتقطع خيره شتاء ولا صيفا، كقوله: «وَظِلٍّ مَمْدُودٍ «2» » يعني لا ينقطع وَبَنِينَ شُهُوداً- 13- يعني حضورا لا يغيبون أبدا عنه في تجارة ولا غيرها لكثرة أموالهم بمكة وكلهم رجال منهم الوليد بن الوليد، وخالد بن الوليد، - وهو سيف الله أسلم بعد ذلك- وعمارة بن الوليد، وهشام بن الوليد» والعاص بن الوليد، وقيس بن الوليد، وعبد شمس بن الوليد، ثم قال: وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً- 14- يقول بسطت له في المال والولد والخير بسطا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ- 15- يقول ثم يرجو أن أزيده فى ماله وولده كَلَّا لا أزيده بل أقطع ذلك عنه وأهلكه، ثم منعه الله المال فلم يعطه شيئا حتى افتقر وسأل الناس فأهلكه الله- تعالى- ومات فقيرا، «في المستهزئين «3» » ، ثم نعت عمله الخبيث فقال:
__________
(1) سورة الذاريات: 52، وقد وردت بالأصل: «وما أرسلنا قبلك مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» .
(2) سورة الواقعة: 30.
(3) «فى المستهزئين» : كذا فى أ، ف.

(4/494)


إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً- 16- يعني كان «عن «1» » آيات القرآن معرضا مجانبا له لا يؤمن بالقرآن، ثم أخبر الله- تعالى- ما يصنع به في الآخرة، فقال: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً 17-[216 أ] يعني سأكلفه أن يصعد على صخرة من النار ملساء في الباب الخامس، واسم ذلك الباب سقر، في تلك الصخرة كوى تخرج منها ريح وهي ريح حارة وهي التي ذكر الله- تعالى- « ... (عَذابَ) «2» السَّمُومِ «3» » فإذا أصابته تلك الريح تناثر لحمه يقول الله- جل وعز-: «سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً» يقول سأغشي وجهه تلك الصخرة وهي جبل من نار طوله مسيرة سبعين سنة، ويصعد به فيها على وجهه فإذا بلغ الكافر «أعلاها «4» » انحط إلى أسفلها، ثم يكلف أيضا صعودها، ويخرج إليه من كوى تلك الصخرة ريح باردة من فوقها ومن تحتها تقطع تلك «الريح «5» » لحمه وجلدة وجهه، فكلما أصعد أصابته تلك الريح وإذا انحط، «حتى ينتثر اللحم من العظم «6» » ، ثم يشرب من عين آنية، «التي «7» » قد انتهى حرها فهذا دأبه أبدا، ثم قال يعني الوليد بن المغيرة إِنَّهُ فَكَّرَ فِي أمر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فزعم أنه ساحر، وقال مثل ما قال في التقديم وَقَدَّرَ- 18- في قوله: إن محمدا يفرق بين الاثنين فَقُتِلَ يقول فلعن كَيْفَ قَدَّرَ- 19- السحر ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ- 20-
__________
(1) «عن» : زيادة اقتضاها السباق.
(2) فى أ: «ريح» ، وفى ف: «عذاب» .
(3) سورة الطور: 27، وتمامها: «فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ» .
(4) فى أ، ف: «إعلاء» .
(5) «الريح» : ساقطة من أ.
(6) فى أ، «حتى ينتثر العظم من اللحم» ، وفى ف: «حتى ينتثر اللحم من العظم» .
(7) فى أ: «الذي» ، وفى ف: «التي» . [.....]

(4/495)


يعنى ثم لعن لم كيف قدر السحر ثُمَّ نَظَرَ- 21- فيما يقول لمحمد- صلى الله عليه وسلم- من السحر ثُمَّ عَبَسَ وجهه يعنى كلح كقوله: «عَبَسَ وَتَوَلَّى «1» » يعنى كلح فى وجه ابن أم مكتوم وَبَسَرَ- 22- يعني وتغير لون وجهه «ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ- 23- فَقالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ- 24- إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ» »
- 25- سَأُصْلِيهِ سَقَرَ- 26- يعني الباب الخامس من جهنم، ثم قال: وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ- 27-، ثم أخبر الله عنها تعظيما لها، لشدتها ليعذبه «3» بها فقال: لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ- 28- يعني لا تبقى النار إذا «رأتهم «4» » حتى تأكلهم ولا تذرهم «إذا حلفوا «5» » لها حتى تواقعهم لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ- 29- محرقة للخلق عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ- 30- يقول في النار من الملائكة تسعة عشر خزنتها يعنى مالكا ومن معه ثمانية عشر ملكا أعينهم كالبرق الخاطف. وأنيابهم كالصياصي، يعني مثل قرون البقر وأشعارهم تمس أقدامهم يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سبعين سنة يسع كف أحدهم مثل ربيعة ومضر، قد نزعت منهم الرأفة والرحمة غضابا يدفع أحدهم سبعين ألفا فيلقيهم حيث أراد من جهنم، فيهوى أحدهم في جهنم مسيرة أربعين سنة، لا تضرهم النار لأن نورهم أشد
__________
(1) سورة عبس: 1، وتسمى أيضا سورة الأعمى.
(2) الآيات 23، 24، 25، ساقطة من أ، ف، وقد سبق أن ورد تفسيرها فى أثناء الكلام عن تفسير الآية ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً: 11، وفى أ، ف تفسير «ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ» : 22 وأتبعاها بقولهما ... حتى انتهى إلى قوله «سَأُصْلِيهِ سَقَرَ» : 26.
(3) كذا فى أ، ف.
(4) فى أ، ف: «رأتهم» ، وفى ل: «واقعتهم» .
(5) فى أ، ف: «إذا خلقوا» ، وفى ل: «إذا حلفوا» .

(4/496)


من حر النار، «ولولا «1» ذلك» لم يطيقوا دخول النار طرفة عين فلما قال الله:
عليها تسعة عشر قال أبو جهل ابن هشام: يا معشر قريش، ما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر، ويزعم أنهم خزنة جهنم يخوفكم [216 ب] بتسعة عشر وأنتم «ألدهم «2» » أيعجز كل مائة منكم أن تبطش بواحد منهم، «فيخرجوا «3» » منها.
وقال أبو الأشدين اسمه أسيد بن «كلدة «4» » ابن خلف الجمحي: أنا أكفيكم سبعة عشر، أحمل منهم عشرة على ظهري، وسبعة على صدري، واكفوني منهم اثنين، وكان شديدا فسمي أبا الأشدين لشدته «بدلك «5» » سمى وكنيته أبو الأعور، قال الله- تعالى-: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً يعنى خزان النار وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ يعنى قلتهم إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا حين قال أبو الأشدين وأبو جهل ما قالا فأنزل الله- تعالى- في قول أبي جهل: ما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر، «وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ»
يقول ما يعلم كثرتهم أحد إلا الله وأنزل الله في قول أبي الأشدين: أنا أكفيكم منهم سبعة عشر،: « ... عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ «6» ... » «وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً» يعنى خزان النار «وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ» يعنى قلتهم «إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا» يعني أبا جهل وأبا الأشدين والمستهزئين من قريش، لِيَسْتَيْقِنَ لكي يستيقن الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يقول ليعلم «مؤمنو «7» » أهل التوراة أن
__________
(1) فى أ: «لولا» .
(2) «ألدهم» : كذا فى أ، ف
(3) فى أ: «فيخرجوا» ، وفى ف: «فيخرجون» .
(4) فى أ: «كلام» ، وفى ف: «كلده» .
(5) فى أ: «لذلك» ، وفى ف: بذلك» .
(6) سورة التحريم: 6.
(7) فى أ: «مؤمنى» ، وفى ف «مؤمنو» .
تفسير مقاتل بن سليمان ج 4- م 32.

(4/497)


الذي قال محمد- صلى الله عليه وسلم- حق، لأن عدة خزان جهنم في التوراة تسعة عشر وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً يعني تصديقا ولا يشكوا في محمد- صلى الله عليه وسلم- بما جاء به وَلا يَرْتابَ يقول ولكي لا يرتاب يعني لكي لا يشك يقول لئلا يشك الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعنى أهل التوراة وَلا يشك الْمُؤْمِنُونَ أن خزنة جهنم تسعة عشر وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعني الشك وهم اليهود من أهل المدينة وَالْكافِرُونَ من أهل مكة يعني مشركي العرب ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يعنى ذكره عدة خزنة جنهم، يستقلونهم، يقول الله- عز وجل-: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ بهذا المثل مَنْ يَشاءُ عن دينه وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى دينه وأنزل في قول أبي جهل، وأبي الأشدين ما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر، فقال الله- تعالى-: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ من الكثرة حين استقلوهم فقال أبو جهل لقريش أيعجز ... مثل ما قال في التقديم «1» .
وقالوا ما قالوا، ثم رجع إلى سقر «2» ، فقال: وَما هِيَ يعني سقر إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ- 31- يعنى سقر تذكر وتفكر للعالم، ثم أقسم الرب من أجل سقر فقال: كَلَّا وَالْقَمَرِ- 32- وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ «3» - 33- يعني إذا ذهبت «4» ظلمته وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ- 34- يعني ضوءه عن ظلمة الليل إِنَّها إن سقر لَإِحْدَى الْكُبَرِ- 35- من أبواب جهنم السبعة: جهنم
__________
(1) أى فيما تقدم حيث قال، أيعجز كل مائة منكم أن تبطش بواحد منهم.
(2) أى إلى الحديث عن سقر، وفى أ، زيادة «فيها تقديم، أى تقدم الحديث عنها» . [.....]
(3) فى أ، «إذا» ، وفى المصحف: «إذ» .
(4) فى أ: «ذهب» ، والأنسب: «ذهبت» .

(4/498)


ولظى، والحطمة، والسعير، وسقر [217 أ] والجحيم، والهاوية نَذِيراً يعني تذكرة لِلْبَشَرِ- 36- يعني للعالمين لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ في الخير أَوْ يَتَأَخَّرَ- 37- منه إلى المعصية هذا تهديد، كقوله « ... فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «1» ... » ، وكقوله « ... اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ «2» ... » كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ- 38- يقول كل كافر مرتهن بذنوبه في النار، ثم استثنى فقال: إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ- 39- الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم ولا يرتهنون بذنوبهم في النار، ثم هم: فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ- 40- عَنِ الْمُجْرِمِينَ- 41- فلما أخرج الله أهل التوحيد من النار، قال المؤمنون لمن بقي في النار: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ- 42- يعني ما جعلكم في سقر يعني ما حبسكم في النار فأجابهم أهل النار عن أنفسهم ف قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ- 43- في الدنيا لله وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ- 44- فى الدنيا وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ- 45- في الدنيا في الباطل والتكذيب «كما يخوض «3» » كفار مكة وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ- 46- يعنى بيوم الحساب أنه غير كائن حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ- 47- يعنى الموت بقول الله- تعالى-:
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ- 48- يعني لا ينالهم يومئذ شفاعة الملائكة والنبيين، فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ- 49- عن التذكرة يعني عن القرآن معرضين، نزلت هذه الآية في كفار قريش حين أعرضوا ولم
__________
(1) سورة الكهف: 29.
(2) سورة فصلت: 40 وتمامها، «إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» .
(3) فى أ: «كما عرص» ، وفى ف: «كما يخوص» .

(4/499)


يؤمنوا، ثم شبههم بالحمر الوحشية المذعورة، فقال: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ- 50- بتركهم القرآن إذا سمعوه فروا منه مثل الحمر فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ- 51- يعني الرماة «وقالوا «1» » الأسد بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى يقول يعطى صُحُفاً مُنَشَّرَةً- 52- فيها كتاب من الله- تعالى-، وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي- صلى الله عليه وسلم-، كان الرجل من بني إسرائيل ذنبه وكفارة ذنبه «يصبح مكتوبا عند «2» رأسه» ، فهلا ترينا مثل هؤلاء الآيات إن كنت رسولا كما تزعم، فقال جبريل: إن شئت فعلنا بهم كفعلنا بنى إسرائيل، وأخذناهم بما أخذنا «به «3» » بني إسرائيل، فكره النبي- صلى الله عليه وسلم-، وقالوا: ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله بأن آلهتنا باطل، وأن الإله الذي في السماء حق، وأنك رسول، وأن الذي جئت به حق، وتجيء معك بملائكة يشهدون بذلك كقول بن أبى أمية فى سورة بني إسرائيل «4» يقول الله- تبارك وتعالى-: كَلَّا لا يؤمنون بالصحف التي أرادوها، ثم استأنف فقال: بَلْ لكن لا يَخافُونَ عذاب
__________
(1) فى أ: «وقل» ، وفى ف: «وقالوا» .
(2) «يصبح» : ساقطة من أ، وفى ف: «يصبح وكفارة ذنبه مكتوبا عند رأسه» .
(3) «به» : ليست فى أ، ولا فى ف.
(4) يشير إلى الآيات 90، 91، 92، 93 من سورة الإسراء وهي:
«وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً، أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» .

(4/500)


الْآخِرَةَ- 53- كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ- 54- يعنى القرآن فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ- 55- يعنى فهمه يعنى القرآن، ثم قال [217 ب] : وَما يَذْكُرُونَ يعنى وما يهتدون إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ- 56- يعني الرب- تبارك وتعالى- نفسه، يقول هو أهل أن يتقى ولا يعصى، وهو أهل المغفرة لمن ينوب من المعاصي.

(4/501)