تفسير مقاتل بن
سليمان التفسير النقلى
والتفسير العقلي
كان جمهور الصحابة والتابعين وتابعيهم يتحرون التفسير
بالمأثور، بل كان منهم من يفضل المشي فى النار على القول فى
القرآن بالرأى.
وكان ابن جرير يورد المأثور من الأقوال فى الآية ويرجح بعضها
على بعض وغالبا ما يعتمد فى الترجيح على قوة السند. وقد أنكر
بشدة على من فسر القرآن برأيه بدون اعتماد على شيء الا على
مجرد اللغة «34» .
__________
(31) المذاهب الاسلامية فى تفسير القرآن: 86.
وقد طبع تفسير الطبري عدة طبعات بعد ذلك وآخرها طبعة بتحقيق
وتخريج الأسانيد بعناية أحمد شاكر ومحمود شاكر، وقد توقفت هذه
الطبعة بعد الجزء السادس عشر.
(32) هكذا بالأصل وصوابها بشير. [.....]
(33) فتاوى ابن تيمية: 2/ 192.
(34) انظر تفسيره للآية (49) من سورة يوسف: 12/ 138.
(5/15)
ولكنا مع ذلك نعتبر ابن جرير ممن جمع بين
النقل والعقل وان كان تفسيره من أهم مراجع التفسير النقلى، الا
أنه مع ذلك يعتبر مرجعا عظيم الأهمية من مراجع التفسير العقلي،
نظرا لما فيه من الاستنباط وتوجيه الأقوال، واختيار أولاها
بالصواب اختيارا يعتمد على صحة السند، كما يعتمد على النظر
العقلي والبحث الحر الدقيق، فهو قد احتكم إلى المعروف من كلام
العرب «35» ، ورجع إلى الشعر القديم بشكل واسع، متبعا فى هذا
ما أثاره ابن عباس سابقا «36» ، كما اهتم بالمذاهب النحوية
«37» والأحكام الفقهية «38» وبعض مسائل علم الكلام «39» .
فيمكن أن نعتبر تفسير ابن جرير من التفاسير التي جمعت بين
النقل والعقل.
ونلاحظ ان المأثور عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى تفسير القرآن كان محدودا، ثم كثر
التفسير النقلى عن الصحابة والتابعين، ثم نشأت طبقة جمعت
المأثور من التفسير عن النبي وأصحابه وتابعيهم، ومنهم من أضاف
إلى التفسير رأيه واجتهاده، ومنهم من جمع التفسير النقلى ثم
فسر الآيات التي لم يرد فيها تفسير بالمأثور تفسيرا اجتهاديا
عقليا، معتمدا على ما عرف من لغة العرب وأساليبها، وما ورد من
التاريخ فى الأحداث التي حدثت فى عصر النبي صلى الله عليه
وسلم.
وقد وقف الناس فى ذلك موقفين وانقسموا فريقين. فقوم تشددوا فى
التفسير فلم يروا أن يجرؤوا على تفسير شيء من القرآن ما لم يرد
فيه قول للنبي أو للصحابة، كالذي روى عن عبد الله بن عمر أنه
قال: «لقد أدركت فقهاء المدينة وأنهم ليعظمون القول فى
التفسير، منهم سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن
المسيب، ونافع» «40» .
وقال الشعبي: «ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت: القرآن، والروح،
والرأى» «41» .
ومن أمثلة ذلك الأصمعى، فهو مع علمه الواسع باللغة كان شديد
الاحتراز فى تفسير الكتاب والسنة، فإذا سئل عن شيء منها قال:
العرب تقول معنى هذا كذا، ولا أعلم المراد منه فى الكتاب
والسنة أى شيء هو «42» .
وأمثال هؤلاء حملوا على المفسرين بالرأى، ورووا حديث (من تكلم
فى القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ) .
__________
(35) انظر تفسيره للآية (40) من سورة هود: 12/ 25.
(36) انظر تفسيره للآية (22) من سورة البقرة: 1/ 125.
(37) انظر تفسيره للآية (118) من سورة ابراهيم: 13/ 131.
(38) انظر تفسيره للآية (8) من سورة النحل: 14/ 57- 58.
(39) انظر تفسيره للآية (7) آخر سورة الفاتحة 1/ 64.
(40) أحمد أمين: ضحى الإسلام: 2/ 144 ط 6.
(41) تفسير ابن جرير: 1/ 29.
(42) ابن خلكان: 1/ 409.
(5/16)
وفريق آخر لم يجدوا بأسا ولا حرجا من تفسير
القرآن باجتهادهم، معتمدين على درايتهم باللغة وأساليبها، وما
يتصل بذلك من العلم بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ.
قال الماوردي: «قد حمل بعض المتورعين هذا الحديث على ظاهره،
وامتنع من أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده، ولو صحبها الشواهد
ولم يعارض قواعدها نص صريح، وهذا عدول عما تعبدنا بمعرفته من
النظر فى القرآن واستنباط الأحكام، كما قال تعالى: (لَعَلِمَهُ
الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) «43» . ولو صح ما ذهب
اليه لم يعلم شيء من استنباط، ولما فهم الأكثر من كتاب الله،
وان صح الحديث فتأويله:
«ان من تكلم فى القرآن بمجرد رأيه فقد أخطأ» «44» .
وقد كان أكثر من قام بالتفسير العقلي علماء العراق أصحاب مدرسة
الرأى فى التشريع، وتلاميذ ابن مسعود أستاذ أصحاب الرأى.
وقد فرق قوم بين التفسير والتأويل، بناء على الاعتماد على
النقل والعقل.
فعنوا بالتفسير ما اعتمد فيه على النقل، مما ورد عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصدر الأول،
وخاصة فى الأمور التوقيفية التي ليس للعقل فيها كبير مجال،
كتفسير الحروف المقطعة: الم، حم، يس، وكأسباب النزول، والناسخ
والمنسوخ، وعنوا بالتأويل ما يعتمد فيه على الاجتهاد، ويتوصل
اليه بمعرفة مفردات الألفاظ ومدلولاتها فى لغة العرب
واستعمالها بحسب السياق ومعرفة الأساليب العربية واستنباط
المعاني من كل ذلك.
وقد انقسمت كتب التفاسير إلى هذين النوعين: كتب التفسير
بالمأثور، وكتب التفسير بالمعقول.
وسنرى عند الكلام عن تفسير مقاتل- ومنهجه هو موضوع هذا البحث-
كيف فسر مقاتل القرآن الكريم وتحت أى نوع من هذين النوعين
ينبغي أن نضع تفسيره.
__________
(43) سورة النساء: 83.
(44) انظر مقدمة تفسير الماوردي، وهو مخطوط مخطوط بدار الكتب
المصرية.
(5/17)
|