زاد المسير في
علم التفسير أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ
كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا
أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
سورة الفيل
وهي مكّيّة بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1)
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ
عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ
سِجِّيلٍ (4)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ فيه قولان: أحدهما: ألم تُخْبَرْ،
قاله الفراء. والثاني: ألم تَعْلَم، قاله الزجاج. ومعنى الكلام
معنى التعجب. وأصحاب الفيل هم الذين قصدوا تخريب الكعبة وفي
سبب قصدهم لذلك قولان «1» : أحدهما: أن أبرهة بني بيعةً وقال:
لست منتهياً حتى أضيف إليها حَجَّ العرب، فسمع بذلك رجل من بني
كنانة، فخرج، فدخلها ليلاً، فأحدث فيها، فبلغ ذلك أبرهة، فحلف
ليسرنّ إلى الكعبة فيهدِمَها، قاله ابن عباس. والثاني: أن
قوماً من قريش خرجوا في تجارة إلى أرض النجاشي فنزلوا في جنب
بِيعَةٍ فأوقدوا ناراً، وشَوَوْا لحماً، فلما رَحَلُوا هَبَّت
الرِّيح فاضطرم المكان ناراً، فغضب النجاشي لأجل البِيَعة،
فقال له كبراء أصحابه- منهم حجر بن شراحيل، وأبو يكسوم-: لا
تحزن، فنحن نَهدِم الكعبة، قاله مقاتل. وقال ابن اسحاق: أبو
يكسوم اسمه أبرهة بن الأشرم. وقيل: كان أبرهة صاحب جيشه وقيل:
وزيره، وحِجْر من قُوَّادِه.
ذكر الإِشارة إِلى القصة
ذكر أهل التفسير أن أبرهة لما سار بجنوده إلى الكعبة ليهدِمها
خرج معه بالفيل، فلما دنا من مكة أمر أصحابه بالغارة على نَعَم
الناس، فأصابوا إبلاً لعبد المطلب، وبعث بعض جنوده، فقال: سل
عن شريف مكة، وأخبره أني لم آتِ لقتال، وإنما جئت لأهدِم هذا
البيت، فانطلق حتى دخل مكة، فلقيَ عبد المطلب بن هاشم، فقال:
إن الملك أرسلني إليك لأخبركَ أنه لم يأتِ لقتال إلا أن
تقاتلوه، إنما جاء لهدم هذا البيت، ثم ينصرف عنكم، فقال عبد
المطلب: ما له عندنا قتال، وما لنا به يد، إنا سنخلي بينه وبين
ما جاء له، فإن هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه
السلام، فإن يمنعه، فهو بيته
__________
(1) انظر قصة أصحاب الفيل في «دلائل النبوة» للبيهقي 1/ 85 و
«السيرة النبوية» لابن هشام 1/ 43 و «تفسير السمرقندي» 3/ 512-
515 و «تفسير ابن كثير» 4/ 587- 591 و «تفسير البغوي» 4/ 494-
497. و «الدر» 6/ 672- 676 وخبر أبرهة ومحاولته هدم الكعبة،
خبر مشهور بل متواتر وشهرته تغني عن الإسناد والله تعالى أعلم.
(4/490)
وحرمه، وإن يخلّ بينه وبين ذلك، فو الله ما
لنا به قوة. قال: فانطلق معي إلى الملك، فلما دخل عبد المطلب
على أبرهة أعظمه، وأكرمه، ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك
إلى الملك؟ فقال له الترجمان، فقال: حاجتي أن يردَّ عليَّ
مائتي بعير أصابها. فقال أبرهة لترجمانه: قل له: لقد كنت
أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت الآن فيك، حين جئت إلى بيت هو
دينك ودين آبائك لأهدمنّه، فلم تكلِّمني فيه، وكلَّمتني لإبل
أصبتُها. فقال عبد المطلب: أنا ربُّ هذه الإبل، ولهذا البيت
رَبُّ سيمنعه.
فأمر بإبله فَرُدَّت عليه، فخرج، وأخبر قريشاً، وأمرهم أن
يتفرَّقوا في الشعاب ورؤوس الجبال خوفاً من مَعَرَّة الجيش إذا
دخل، ففعلوا، فأتى عبد المطلب الكعبة، فأخذ بحلقة الباب، وجعل
يقول:
يَا رَبِّ لاَ أَرْجُو لهم سِوَاكَا ... يَا رَبِّ فَامْنَعْ
مِنْهُمُ حِمَاكَا
إنَّ عَدُوَّ البيت مَنْ عَادَاكا ... إمْنَعْهُمُ أن
يُخْرِبُوا قُرَاكا
وقال أيضاً:
لاَ هُمَّ إنَّ المرء يمنع ... رحله وحلاله فامنع حلالك
لا يغلبنّ صليبهم ... ومحالهم عدوا مِحَالَكْ
جَرُّوا جميعَ بلادهم ... والفيلَ كي يَسْبُوا عِيَالَكْ
عَمِدُوا حِمَاك بكيدِهم ... جهلاً وما رَقَبُوا جلالك
إن كنت تاركهم وكع ... بتنا فأمر ما بدا لك
ثم إن أبرهة أصبح متهيئاً للدخول، فبرك الفيل، فبعثوه فأبى،
فضربوه، فأبى، فوجَّهوه إلى اليمن راجعاً، فقام يهرول،
ووجَّهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، وإلى المشرق ففعل مثل ذلك،
فوجَّهوه إلى الحرم، فأبى، فأرسل الله طيراً من البحر.
واختلفوا في صفتها، فقال ابن عباس: كانت لهم خراطيم كخراطيم
الطير، وأكفّ كأكفّ الكلاب. وقال عكرمة: كانت لها رؤوس كرؤوس
السباع. وقال ابن إسحاق: كانت أمثال الخطاطيف.
واختلفوا في ألوانِها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها كانت
خضراء، قاله عكرمة، وسعيد بن جبير.
والثاني: سوداء، قاله عبيد بن عمير. والثالث: بيضاء، قاله
قتادة. وقال: وكان مع كل طير ثلاثة أحجار، حَجَرانِ في رجليه،
وحجر في منقاره.
واختلفوا في صفة الحجارة فقال بعضهم: كانت كأمثال الحمص
والعدس. وقال عبيد بن عمير:
بل كان الحجر كرأس الرجل وكالجمل، فلما غشيت القوم أرسلتها
عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحداً إلا هلك. وكان الحجر يقع على
رأس الرجل، فيخرج من دبره. وقيل: كان على كل حجر اسم الذي وقع
عليه، فهلكوا ولم يدخلوا الحرم، وبعث الله على أبرهة داء في
جسده، فتساقطت أنامله، وانصدع صدره قطعتين عن قلبه، فهلك، ورأى
أهل مكّة الطير قد أقبلت من ناحية البحر، فقال عبد المطلب: إن
هذه الطير غريبة. ثم إن عبد المطلب بعث ابنه عبد الله على فرس
ينظر إلى القوم، فرجع يركض وهو يقول: هلك القوم جميعاً، فخرج
عبد المطلب وأصحابه فغنموا أموالهم. وقيل: لم ينج من القوم
إلّا أبو يكسوم، فسار، وطائر يطير على رأسه من فوقه، ولا يشعر
به، حتى دخل على النجاشي، فأخبره بما أصاب القوم، فلما أتم
كلامه رماه الطائر فمات، فأرى الله تعالى النجاشي كيف
(4/491)
كان هلاك أصحابه.
واختلفوا كم كان بين مولد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبين
هذه القصة على ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنّ رسول الله صلّى
الله عليه وسلم ولد عام الفيل، وهو الأصح. والثاني: كان بينهما
ثلاث وعشرون سنة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أربعون
سنة، حكاه مقاتل.
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ وهو ما أرادوا من
تخريب الكعبة فِي تَضْلِيلٍ أي: في ذهاب.
والمعنى: أن كيدهم ضَلَّ عما قصدوا له، فلم يصلوا إلى مرادهم
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ.
وفي «الأبابيل» خمسة أقوال: أحدها: أنها المتفرِّقة من هاهنا
وهاهنا، قاله ابن مسعود، والأخفش. والثاني: أنها المتتابعة
التي يتبع بعضها بعضاً، قاله ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل.
والثالث:
الكثيرة، قاله الحسن، وطاوس. والرابع: أنها الجمع بعد الجمع،
قاله عطاء، وأبو صالح، وكذلك قال أبو عبيدة، وابن قتيبة،
والزجاج: «الأبابيل» : جماعات في تفرقة. والخامس: المختلفة
الألوان، قاله زيد بن أسلم. قال الفراء، وأبو عبيدة:
«الأبابيل» لا واحد لها.
قوله عزّ وجلّ: تَرْمِيهِمْ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وابن
يعمر وحميد وأبو حنيفة «يرميهم» بالياء. وقد بينا معنى
«سجِّيل» في هود «2» ومعنى «العصف» في سورة الرّحمن «3» عزّ
وجلّ.
في معنى «مأكول» ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون أراد به أنه أُخذ
ما فيه من الحب فأكل، وبقي هو لا حب فيه. والثاني: أن يكون
أراد العصف مأكول البهائم، كما يقال للحنطة: هذا المأكول
ولمَّا يؤكل. وللماء: هذا المشروب ولمَّا يشرب، يريد أنهما مما
يؤكل ويشرب، ذكرهما ابن قتيبة. والثالث:
أن المأكول هاهنا: الذي وقع فيه الأُكال. فالمعنى: جعلهم
كَوَرَقِ الزَّرْعِ الذي جَفَّ وأُكل: أي: وقع فيه الأُكال،
قاله الزّجّاج.
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير في «السيرة النبوية» 1/ 203: كون رسول
الله صلّى الله عليه وسلم ولد عام الفيل هو قول الجمهور.
وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 6476. وقال ابن كثير رحمه الله
في «التفسير» 4/ 659: سورة الفيل: هذه من النعم التي امتن الله
بها على قريش فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل الذين كانوا قد
عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود فأبادهم الله وأرغم
آنافهم وخيّب سعيهم وأضلّ عملهم وردهم بشر خيبة، وكانوا قوما
نصارى، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالا مما كان عليه قريش من
عبادة الأوثان، ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث
رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإنه في ذلك العام ولد على
أشهر الأقوال، ولسان حال القدر يقول: لم ننصركم يا معشر قريش
لخيرتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرفه ونعظمه
ونوقره ببعثه النبي محمد صلّى الله عليه وسلم على خاتم
الأنبياء.
(2) هود: 82.
(3) الرحمن: 12.
(4/492)
سورة قريش
ويقال لها: سورة لإيلاف وفيها قولان: أحدهما: أنها مكّيّة،
قاله الجمهور. والثاني: مدنيّة، قاله الضّحّاك، وابن السّائب.
واختلف القرّاء في «لإيلاف» «1» فقرأ ابن عامر «لإلاف» بغير
ياء بعد الهمزة، مثل: لعلاف. وقرأ أبو جعفر بياء ساكنة من غير
همز. وروى حمّاد بن أحمد عن الشموني «2» بهمزتين مخففتين،
الأولى:
مكسورة، والثانية: ساكنة على وزن لفعلان. وقرأ الباقون بهمزة
بعدها ياء ساكنة، مثل لعيلاف.
وفي لام «لإيلاف» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها موصولة بما قبلها،
المعنى: فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش، أي أهلك الله أصحاب
الفيل لتبقى قريش. وما قد ألفوا من رحلة الشتاء، والصيف هذا
قول الفرّاء والجمهور. والثاني: أنها لام التعجّب، كأنّ
المعنى: اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف، وتركهم عبادة
ربّ هذا البيت، قاله الأعمش، والكسائيّ. والثالث: أنّ معناها
متّصل بما بعدها. المعنى: فليعبد هؤلاء ربّ هذا البيت لإيلافهم
رحلة الشتاء والصيف، لأنهم كانوا في الرّحلتين آمنين، وإذا عرض
لهم عارض قالوا: نحن أهل حرم الله فلا يتعرّض لهم، قال
الزّجّاج: وهذا الوجه قول النّحويين الذي ترتضي أقوالهم. وقال
ابن قتيبة: بعض الناس يذهب إلى أنّ هذه السورة وسورة الفيل
واحدة، وأكثر الناس على أنهما سورتان، وإن كانتا متّصلتي
الألفاظ. والمعنى: أنّ قريشا كانت بالحرم آمنة من الأعداء.
والحرم واد جديب لا زرع فيه ولا شجر، وإنما كانت قريش تعيش فيه
بالتجارة وكانت لهم رحلتان في كلّ سنة، رحلة في الشتاء، ورحلة
في الصيف إلى الشام. ولولا هاتان الرّحلتان لم يكن به مقام.
ولولا أنهم بمجاورة البيت لم يقدروا على التصرّف، فلما قصد
أصحاب الفيل هدم الكعب أهلكهم الله لتقيم قريش بالحرم، فذكّرهم
الله نعمته بالسورتين. والمعنى: أنه أهلك أولئك ليؤلّف قريشا
هاتين الرّحلتين اللّتين بها معاشهم، ومقامهم بمكّة. تقول:
ألفت موضع كذا: إذا لزمته، وألفنيه الله، كما تقول: لزمت موضع
كذا وكذا، وألزمنيه الله، وكرّر «لإيلاف» للتوكيد، كما تقول:
أعطيتك المال لصيانة وجهك صيانة عن كلّ الناس. وقال الزّجّاج:
يقال: ألفت المكان ألفا، وآلفته إيلافا بمعنى واحد.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 700: والصواب من
القراءة في ذلك عندي من قرأه لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ
بإثبات الياء فيهما بعد الهمزة من آلفت الشيء أولفه إيلافا،
لإجماع الحجة من القراء عليه.
(2) في الأزهرية «محمد بن حبيب الأشموني عن أبي يوسف الأعشى عن
أبي بكر عن عاصم» . [.....]
(4/493)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ
(1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي
أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
وأمّا قريش فهم ولد لنضر بن كنانة، وكل من
لم يلده النضر فليس بقرشيّ. وقيل: هم ولد فهر بن مالك بن
النّضر فمن لم يلده فهر فليس بقرشيّ. وإنما سمّوا قريشا
لتجارتهم وجمعهم المال.
والقرش: الكسب. يقال: هو يقرش لعياله، ويقترش، أي: يكتسب. وقد
سأل معاوية ابن عباس لم سمّيت قريش قريشا؟ فقال ابن عباس:
بدابّة تكون في البحر يقال لها: القريش لا تمرّ بشيء من الغثّ
والسمين إلّا أكلته. وأنشد:
وقريش هي التي تسكن البحر ... بها سمّيت قريش قريشا
تأكل الغثّ والسّمين ولا تترك ... فيه لذي الجناحين ريشا
وقال ابن الأنباري: قال قوم: سمّوا قريشا بالاقتراش وهو وقوع
الرّماح بعضها على بعض. قال الشاعر:
ولمّا دنا الرّايات واقترش القنا ... وطار مع القوم القلوب
الرّواجف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ
وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3)
الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
قوله عزّ وجلّ: إِيلافِهِمْ قرأ أبو جعفر وابن فليح عن ابن
كثير، والوليد بن عتبة عن ابن عامر، والثّعلبي عن ابن ذكوان،
عنه «إلا فهم» بهمزة مكسورة من غير ياءٍ بعدها، مثل: علافهم.
وروى الخزاعي عن ابن فليح، وأبان بن تغلب عن عاصم «إلفهم»
بسكون اللام أيضاً. ورواه الشموني إلا حماداً بهمزتين مكسورتين
بعدهما ياء ساكنة، ورواه حماد كذلك إلا أنه حذف الياء. وقرأ
الباقون بهمزة، بعدها ياء ساكنة مثل «عيلافهم» . وجمهور
العلماء على أن الرَّحلتين كانتا للتجارة، وكانوا يخرجون إلى
الشام في الصيف، وإلى اليمن في الشتاء لشدة برد الشام. وروى
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانوا يشتون بمكة، ويصيفون
بالطائف. قال الفراء: والرحلة منصوبة بإيقاع الفعل عليها.
قوله عزّ وجلّ: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
أي: ليوحِّدوه الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ أي: بعد الجوع،
كما تقول: كسيتك من عري، وذلك أنّ الله آمَنَهم بالحرم، فلم
يُتَعرَّض لهم في رحلتهم، وكان ذلك سببا لإطعامهم بعد ما كانوا
فيه من الجوع. وروى عطاء عن ابن عباس قال: كانوا في ضُرٍّ
ومجاعة حتى جمعهم هاشم على الرّحلتين، فكانوا يقسمون ربحهم بين
الغني والفقير حتى استَغْنوا.
قوله عزّ وجلّ: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ وذلك أنهم كانوا آمنين
بالحرم، إن حضروا حماهم، وإن سافروا قيل: هؤلاء أهل الحرم، فلا
يَعْرِضُ لهم أحد.
(4/494)
أَرَأَيْتَ الَّذِي
يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ
(2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ
لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ
(5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ
(7)
سورة الماعون
ويقال لها: سورة أرأيت وفيها قولان: أحدهما: مكّيّة، قاله
الجمهور. والثاني: مدنية، روي عن ابن عباس، وقتادة.
وقال هبة الله المفسّر: نزل نصفها بمكّة في العاص بن وائل،
ونصفها بالمدينة في عبد الله بن أبيّ المنافق.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي
يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ
(3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ
يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
قوله عزّ وجلّ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ
اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ستة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في رجل من المنافقين، قاله ابن عباس.
والثاني: أنها نزلت في عمرو بن عائذ، قاله الضحاك. والثالث: في
الوليد بن المغيرة، قاله السدي. والرابع: في العاص بن وائل،
قاله ابن السائب. والخامس: في أبي سفيان بن حرب، قاله ابن
جريج. والسادس: في أبي جهل، حكاه الماوردي.
وفي «الدين» أربعة أقوال: أحدها: أنه حكم الله عزّ وجلّ، قاله
ابن عباس. والثاني: الحساب، قاله مجاهد، وعكرمة. والثالث:
الجزاء، حكاه الماوردي. والرابع: القرآن، حكاه بعض المفسّرين.
ويَدُعُّ بمعنى يدفع. وقد ذكرناه في قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ
يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا والمعنى: أنه يدفع
اليتيم عن حقه دفعاً عنيفاً ليأخذ ماله. وقد بينا فيما سبق
أنهم كانوا لا يورِّثون الصغير، وقيل:
يدفع اليتيم إبعاداً له، لأنه لا يرجو ثواب إطعامه وَلا
يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي: لا يطعمه، ولا يأمر
بإطعامه لأنه مكذِّب بالجزاء.
قوله عزّ وجلّ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ
صَلاتِهِمْ ساهُونَ»
نزل هذا في المنافقين الذين
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 667: فَوَيْلٌ
لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ إما عن
فعلها بالكلية كما قاله ابن عباس، وإما عن فعلها في الوقت
المقدر لها شرعا فيخرجها عن وقتها بالكلية، كما قاله مسروق
وأبو الضحى، وإما عن وقتها الأول فيؤخرونها إلى آخره دائما أو
غالبا، وإما عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به،
وإما عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها فاللفظ يشمل ذلك كله،
ولكل من اتصف بشيء من ذلك قسط من هذه الآية.
(4/495)
لا يرجون لصلاتهم ثواباً، ولا يخافون على
تركها عقابا. فإن كانوا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم صلوا
رياءً، وإن لم يكونوا معه لم يصلّوا، فذلك قوله: الَّذِينَ
هُمْ يُراؤُنَ وقال ابن مسعود: والله ما تركوها البتَّة ولو
تركوها البتة كانوا كفاراً، ولكن تركوا المحافظة على أوقاتها.
وقال ابن عباس: يؤخِّرونها عن وقتها.
ونقل عن أبي العالية أنه قال: هو الذي لا يدري عن كم انصرف، عن
شفع، أو عن وتر. وردَّ هذا بعض العلماء فقال: هذا ليس بشيء،
لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد سها في صلاته «1» ،
ولأنه قال عزّ وجلّ: عَنْ صَلاتِهِمْ ولم يقل: في صلاتهم، ولأن
ذاك لا يكاد يدخل تحت طوق ابن آدم.
قلت: ولا أظن أبا العالية أراد السهو النادر، وإنما أراد السهو
الدائم، وذلك ينبئنا عن التفات القلب عن احترام الصلاة،
فيتوجَّه الذمُّ إلى ذلك لا إلى السهو. وفي الْماعُونَ ستة
أقوال:
(1571) أحدها: الإبرة، والماء، والنار، والفأس، وما يكون في
البيت من هذا النحو، رواه أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه
وسلم، وإلى نحو هذا ذهب ابن مسعود وابن عباس في رواية. وروى
عنه أبو صالح أنه قال: الماعون: المعروف كلُّه حتى ذَكَرَ
القِدر، والقصعة، والفأس. وقال عكرمة: ليس الويل لمن منع هذا،
إنما الويل لمن جمعهنّ، فرأى في صلاته، وسها عنها، ومنع هذا.
قال الزجاج: والماعون في الجاهلية: كل ما كان فيه منفعة
كالفأس، والقدر، والدلو، والقداحة، ونحو ذلك، وفي الإسلام
أيضاً.
والثاني: أنه الزكاة، قاله عليّ، وابن عمر، والحسن، وعكرمة،
وقتادة. والثالث: أنه الطاعة، قاله ابن عباس في رواية.
والرابع: المال، قاله سعيد بن المسيب، والزهري. والخامس:
المعروف، قاله محمد بن كعب. والسادس: الماء، ذكره الفراء عن
بعض العرب قال: وأنشدني:
يمج صَبِيرُهُ الماعون صبّا
والصّبير: السّحاب.
__________
ضعيف جدا. أخرجه ابن الديلمي في «زهر الفردوس» 4/ 168 من حديث
أبي هريرة، وإسناده ضعيف جدا لضعف عمرو بن شبيب، وفي الإسناد
مجاهيل. وحسبه أن يكون من كلام أبي هريرة. وانظر «تفسير
الشوكاني» 2823 بتخريجنا.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «التفسير» 20/ 195: وكان رسول
الله صلّى الله عليه وسلم يقع له السهو في صلاته، فضلا عن
غيره، ومن ثم أثبت الفقهاء باب سجود السهود في كتبهم قال ابن
العربي: لأن السلامة من السهو محال. اه.
قلت: قوله وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقع له السهو،
ورد ذلك في أحاديث كثيرة منها، ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث
أبي هريرة في قصة ذي اليدين، وتقدم.
(4/496)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ
الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ
شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
سورة الكوثر
وفيها قولان: أحدهما: أنها مكية، قاله ابن عباس، والجمهور.
والثاني: مدنيّة، قاله الحسن، وعكرمة، وقتادة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ
وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
وفي «الكوثر» ستة أقوال: أحدها: أنه نهر في الجنة.
(1572) روى البخاري في أفراده من حديث أنس بن مالك عن النبيّ
صلّى الله عليه وسلم أنه قال: بينا أنا أسير في الجنة إذا بنهر
حافتاه قباب الدُّرِّ المجوَّف. قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال:
هذا الكوثر الذي أعطاك ربّك عزّ وجلّ: فإذا طينه، أو طينته مسك
أذفر.
(1573) وروى مسلم أيضاً في أفراده من حديث أنس أيضاً قال: أغفى
رسول الله صلّى الله عليه وسلم إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسّما
فقلنا له: لم ضحكت؟ فقال: «إنه أنزلت عليّ آنفاً سورة» فقرأ:
بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ حتى
ختمها. وقال: «هل تدرون ما الكوثر؟» فقالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: «هو نهر أعطانيه الله ربّي عزّ وجلّ في الجنة عليه خير
كثير تَرِدُ عليه أمّتي يوم القيامة آنيته عدد نجوم كواكب
السماء، يختلج العبد منهم، فأقول: يا رب إنه من أمتي، فيقال
لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» .
والثاني: أن الكوثر: الخير الكثير الذي أعطي نبيّنا صلّى الله
عليه وسلم، قاله ابن عباس. والثالث: العلم والقرآن، قاله
الحسن. والرابع: النبوة، قاله عكرمة. والخامس: أنه حوض رسول
الله صلّى الله عليه وسلم الذي يكثر الناس
__________
صحيح. أخرجه البخاري 6580 وأحمد 3/ 191 و 289 وأبو يعلى 2876
والطبري 38173 والطيالسي 2813 من طرق عن همام عن قتادة عن أنس
بن مالك به. وأخرجه أحمد 3/ 103 وابن المبارك في «الزهد» 1612
والطبري 38172 من طريق ابن أبي عدي عن حميد به. وأخرجه النسائي
في «التفسير» 726 وأحمد 3/ 115 و 263 والآجري في «الشريعة» 949
و 950 وابن أبي شيبة 11/ 437 وابن حبان 6472 وأبو نعيم في «صفة
الجنة» 327 من طرق عن حميد به.
وأخرجه البخاري 4964 وأبو داود 4748 والترمذي 3356 و 3357
وأحمد 3/ 164 و 207 وابن ماجة 4305 والطبري 38170 و 38171 من
طرق عن قتادة به.
صحيح. أخرجه مسلم 400 والبغوي في «التفسير» 2403 عن أبي بكر بن
أبي شيبة به عن أنس.
- وأخرجه النسائي 2/ 133- 134 وأبو عوانة 2/ 121 من طريق علي
بن مسهر به.
(4/497)
عليه، قاله عطاء. والسادس: أنه كثرة
أتباعه، وأمته، قاله أبو بكر بن عياش.
قوله عزّ وجلّ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وفي هذه الصلاة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها صلاة العيد. وقال قتادة: صلاة الأضحى. والثاني:
أنها صلاة الصبح بالمزدلفة، قاله مجاهد. والثالث: الصلوات
الخمس، قاله مقاتل.
وفي قوله عزّ وجلّ: وَانْحَرْ خمسة أقوال «1» : أحدها: اذبح
يوم النحر، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال عطاء
ومجاهد والجمهور. والثاني: وضع اليمنى على اليسرى عند النحر في
الصلاة رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس وهو قول عليّ رضي الله
عنه، قال ابن جرير: فيكون المعنى ضع اليمنى على اليسرى عند
النحر في الصلاة. والثالث: أنه رفع اليدين بالتكبير إلى النحر،
قاله أبو جعفر محمد بن علي. والرابع: أن المعنى: صل لله، وانحر
لله، فإن ناساً يصلون لغيره، وينحرون لغيره، قاله القرظي.
والخامس: أنه استقبال القبلة بالنحر، حكاه الفراء.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ شانِئَكَ اختلفوا فيمن عنى بذلك على خمسة
أقوال «2» :
أحدها: أنه العاص بن وائل السهمي.
(1574) قاله ابن عباس: نزلت في العاص بن وائل، لقي رسول الله
صلّى الله عليه وسلم على باب المسجد فوقف يحدثه حتى دخل العاص
المسجد، وفيه أُناس من صناديد قريش، فقالوا له: مَن الذي كنتَ
تُحَدِّث؟ قال: ذلك الأبتر، يعني النبيّ صلّى الله عليه وسلم،
وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صلّى الله عليه
وسلم، وكانوا يسمون من ليس له ابن: أبتر، فأنزل الله عزّ وجلّ
هذه السورة. وممن ذهب إلى أنها نزلت في العاص سعيد بن جبير،
ومجاهد، وقتادة.
والثاني: أنه أبو جهل، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أبو
لهب، قاله عطاء. والرابع:
عقبة بن أبي معيط، قاله شمر بن عطية. والخامس: أنه عنى به
جماعة من قريش، قاله عكرمة.
والشّانئ: المبغض، والْأَبْتَرُ: المنقطع عن الخير.
__________
لم أره مسندا، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 872 عن ابن
عباس بدون إسناد.
وورد بنحوه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، ذكره
الشوكاني في «فتح القدير» 6174 وهذا إسناد ساقط. وكون الآية
نزلت في العاص بدون هذه القصة. أخرجه الطبري 28216. من مرسل
سعيد بن جبير، 38217 من مرسل مجاهد و 38218 من مرسل قتادة. وهو
الراجح.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 724: وأولى الأقوال
عندي بالصواب قول من قال: معنى ذلك:
فاجعل صلاتك كلها لربك خالصا دون ما سواه من الأنداد والآلهة
وكذلك نحرك، اجعله له دون الأوثان، شكرا له على ما أعطاك من
الكرامة والخير الذي لا كفء له.
وحظك به من إعطائه إياك الكوثر، قال ابن كثير رحمه الله في
«تفسيره» 4/ 674: وهذا الذي قاله أبو جعفر الطبري، في غاية
الحسن وقد سبقه إلى هذا المعنى محمد بن كعب القرظي، وعطاء.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 674: يعني عدوك،
وهذا يعم جميع من أنصف بذلك ممن ذكر وغيرهم. وقال الطبري رحمه
الله 12/ 726: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، أن يقال: إن
الله تعالى ذكره أخبره أن مبغض رسول الله صلّى الله عليه وسلم
هو الأقل الأذل المنقطع عقبه، فذلك صفة كل من أبغضه من الناس،
وإن كانت الآية نزلت في شخص معين.
(4/498)
قُلْ يَا أَيُّهَا
الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا
أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا
عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
سورة الكافرون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ
(2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ
ما عَبَدْتُّمْ (4)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ (6)
وفيها قولان: أحدهما: أنها مكية، قاله ابن مسعود، والحسن،
والجمهور. والثاني: مدنية، روي عن قتادة. ذكر سبب نزولها:
اختلفوا على ثلاثة أقوال «1» :
(1575) أحدها: أن رهطاً من قريش منهم الوليد بن المغيرة،
والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث لقوا العباس بن عبد
المطلب، فقالوا: يا أبا الفضل: لو أن ابن أخيك أسلم بعض آلهتنا
لصدقناه بما يقول ولآمنّا بإلهه، فأتاه العباس فأخبره فنزلت
هذه السورة، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(1576) والثاني: أن عتبة بن ربيعة، وأميّة بن خَلَف لقيا رسول
الله صلّى الله عليه وسلم فقالا يا محمد: لا ندعك حتى تتبع
ديننا، ونتبع دينك، فإن كان أمرنا رشداً كنتَ قد أخذتَ بحظِّك
منه، وإن كان أمرك رشداً كنا قد أخذنا بحظنا منه، فنزلت هذه
السّورة، قاله عبيد بن عمير.
(1577) والثالث: أنّ قريشا قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلم:
إن سَرَّك أن نتبع دينك عاماً، وترجع إلى ديننا عاماً، فنزلت
هذه السورة، قاله وهب. قال مقاتل في آخرين: نزلت هذه السورة في
أبي جهل وفي المستهزئين، ولم يؤمن من الذين نزلت فيهم أحد.
وأما قوله عزّ وجلّ: لا أَعْبُدُ فهو في موضع
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح ليس بثقة، روى
الكلبي وأبو صالح عن ابن عباس تفسير ليس له أصل عنه. راجع
ترجمتهما في «الميزان» . وانظر ما بعده.
عزاه المصنف لعبيد بن عمير، وهو تابعي، فهو مرسل. وأخرجه
الطبري 38226 عن ابن إسحاق عن سعيد بن مينا به، وهذا مرسل.
ويشهد له ما بعده.
مرسل. أخرجه عبد الرزاق 3727 عن وهب بن منبه مرسلا. ويشهد له
ما قبله.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 675: هذه السورة
سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون وهي آمرة بالإخلاص
فيه، فقوله: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ يشمل كل كافر على
وجه الأرض ولكن المواجهون بهذا الخطاب هم كفار قريش. وقيل إنهم
من جهلهم دعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عبادة
أوثانهم سنة، ويعبدون معبوده سنة، فأنزل الله هذه السورة، وأمر
رسوله صلّى الله عليه وسلم فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية.
(4/499)
«من» ولكنه جعل مقابلا لقوله عزّ وجلّ: ما
تَعْبُدُونَ وهي الأصنام.
وفي تكرار الكلام قولان «1» : أحدهما: أنها لتأكيد الأمر، وحسم
أطماعهم فيه، قاله الفراء. وقد أنعمنا شرح هذا في سورة الرحمن
«2» . والثاني: أن المعنى: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ في حالي
هذه وَلا أَنْتُمْ في حالكم هذه، عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. وَلا
أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ فيما أستقبل، وكذلك أنتم، فنفى عنه
وعنهم ذلك في الحال والاستقبال، وهذا في قوم بأعيانهم، أعلمه
الله عزّ وجلّ أنهم لا يؤمنون، كما ذكرنا عن مقاتل، فلا يكون
حينئذ تكرارا، هذا قول ثعلب، والزّجّاج. وقوله عزّ وجلّ:
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ فتح ياء «وليَ» نافع، وحفص،
وأبان عن عاصم. وأثبت ياء «ديني» في الحالين يعقوب. وهذا منسوخ
عند المفسّرين بآية السيف.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 676: وَلا أَنا
عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ
في المستقبل قاله البخاري وقيل أن ذلك تأكيد محض. وثم قول
رابع، نصره أبو العباس ابن تيمية في بعض كتبه، وهو أن المراد
بقوله: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ نفي الفعل لأنها جملة فعلية
وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ نفي قبوله لذلك بالكلية، لأن
النفي بالجملة الاسمية آكد، فكأنه نفي الفعل ومعناه نفي الوقوع
ونفي الإمكان الشرعي أيضا، وهو قول حسن. واستدل الإمام أبو عبد
الله الشافعي وغيره بهذه الآية الكريمة: لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ على أن الكفر كله ملة واحدة، فورث اليهود من
النصارى، وبالعكس، لأن الأديان ما عدا الإسلام كلها كالشيء
الواحد في البطلان.
(2) الرحمن: 13.
(4/500)
|