إعراب القرآن للأصبهاني وَمِنْ سُورَةِ (يُوسُفَ) عليه السلام
قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2))
يسأل عن قوله (قُرْآنًا) بم انتصب؟
وفيه وجهان:
أحدهما: أنّه بدلٌ من الهاء في (أنزلناه)، كأنّه قال: (إنا
أنزلنا قرآناً عربياً).
والثاني: أنّه توطئةٌ للحال؛ لأنَّ " عربياً " حال، وهذا كما
تقول: مررت بزيدٍ رجلاً صالحاً، تنصب " صالحا " على الحال،
وتجعل " رجلا " توطئة للحال.
وقوله تعالى (تعقلون)، يعني: كي تعقلون معاني القرآن؛ لأنّه
أنزل على معاني كلام العرب.
* * *
قوله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ
بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ)
القصص والخبر سواء.
وقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ
الْغَافِلِينَ)، قيل معناه: من الغافلين عن الحكم التي في
القرآن.
وأجمع القراء على النصب في (القرآن)؛ لأنَّه وصفٌ لمعمول
(أوحينا) وهو (هذا)، أو بدل عطف بيان.
(1/166)
ويجوز الجر على البدل من (ما).
ويجوز الرفع على تقدير (هو) كأنّه قال: بما أوحينا إليك هذا،
قيل: ما هو؟ - قال: القرآن، أي: هو القرآن.
ولا يجوز أن يقرأ بهذين الوجهين إلا أن يصح بهما رواية؛ لأنّ
القراءة سنة.
* * *
قوله تعالى: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي
رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا)
قال الحسن: الأحد عشر إخوته، والشمس والقمر أبواه.
ويقال: لم أعيد ذكر (رأيتهم)؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنّه أعيد للتوكيد لما طال الكلام.
والثاني: ليدل أنّه رآهم ورأى سجودهم له.
وقيل في معنى السجود هاهنا: أنّه سجود التكرمة، وقيل سجود
الخضوع.
ويسأل عن العامل في (إذ)؟
والجواب: أنّه فعل مضمر، كأنّه قال: اذكر إذ قال يوسف. وقال
الزجاج: العامل فيه (نَقُصُّ) أي: نقص عليك إذ قال يوسف، وهذا
وهم؛ لأنَّ الله تعالى لم يقص على نبيه عليه السلام هذا
القصَصَ وقت قول يوسف.
(1/167)
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لم قال (ساجدين) بالياء والنون، وهذا
الجمع لمن يعقل، ولا يكون لما لا يعقل؟
والجواب: أنّه لما أخبر عنهم بالسجود الذي لا يكون إلا لمن
يعقل أجراهم مجرى من يعقل. كما قال: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ
ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ)، أمروا كما أمر من يعقل.
وقرأ ابن عامر (يَا أَبَتَ) بالفتح، وقرأ الباقون بالكسر، ووقف
ابن كثير (يَا أَبَه) بالهاء، ووقف الباقون على التاء.
فوجه قراءة ابن عامر أنّه أراد " الألف " فحذف واكتفى منها
بالفتحة، وهذه الألف بدل من ياء.
وأما الكسر فعلى أنّه أراد الإضافة إلى النفس. فحذف الياء
واكتفى منها بالكسر.
وأجاز الفراء (يا أُبَتْ) والتاء عوض من ياء المتكلم المحذوفة.
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا
أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ)
الهمُّ: مقاربة الشيء من غير دخول فيه.
(1/168)
واختلف في معناه هاهنا:
فقال بعضهم: همت المرأة بالعزيمة على ذلك، وهَمُّ يوسف لشدة
المحبة من جهة الشهوة، وهو قول الحسن.
وقال غيره: همَّا بالشهوة.
وقال بعض المفسرين: همت به أي عزمت. وهم بها أي بضربها.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: ما البرهان الذي رآه؟
والجواب: أنّ ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير ومجاهداً قالوا:
رأى صورة يعقوب عليه السلام عاضاً على أنامله.
وقال قتادة: نودي يا يوسف، أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل
السفهاء، وروي عن ابن عباس أنّه قال: رأى ملكا (1).
* * *
قوله تعالى: (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ
شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا)
المراودة والإرادة من أصل واحد.
واختلف في الشاهد:
فقيل: كان صبياً في المهد، وهو قول ابن عباس. وأبي هريرة وسعيد
بن جبير، وهو أحد من تكلم في المهد.
وقال ابن عباس مرة أخرى: كان رجلا حكيما. وكذلك قال عكرمة
ومجاهد، وروي مثل ذلك عن سعيد بن جبير والحسن وقتادة، وروي عن
مجاهد أيضاً أنّ الشاهد قَدُّ القميص (2).
__________
(1) أكثر هذه الأقوال من الإسرائيليات المنكرة، يكفي في ردها
مكان العصمة له عليه السلام. والله أعلم.
(2) قال تعالى (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا) وهل القميص
من أهلها؟؟!!!
(1/169)
و (مِنْ) في قوله (مِنْ قُبُلٍ) لابتداء
الغاية، أي كان القدُّ من هنالك.
و (مِن) في قوله (مِنَ الكاذيين) للتبعيض.
* * *
قوله تعالى: (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا
الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35))
بدا: ظهر. وفاعله مضمر، تقديره: ثم بدا لهم بداء
لَيَسْجُنُنَّهُ.
ودل (لَيَسْجُنُنَّهُ) عليه.
* * *
قوله تعالى: (جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ
جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75))
الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، ومن كلامهم (مَن شابَهَ أبَاه
فما ظلم)، أي: ما وضع الشبه في غير مكانه، ومن هذا يقال: سقاء
مظلوم، إذا لم يرب، ومنه سمي النقص ظلما قال الله تعالى:
(وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا).
ويسأل عن معنى قوله: (جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ
فَهُوَ جَزَاؤُهُ)؟
والجواب: أنّ معناه: جزاء من وجد في رحله أخذه رقًا فهو جزاؤه
عندنا.
كجزائه عندكم، وذلك أنّه كان من عادتهم أن يسترقوا السارق، وهو
قول الحسن ومعمر وابن إسحاق
(1/170)
والسُّدِّي. فهذا تقدير المعنى.
فأما الإعراب فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون المعنى: جزاؤه استرقاق من وجد في رحله. فهذا
الجزاء جزاؤه، كما تقول: حد السارق القطع.
والثاني: أن يكون المعنى: جزاؤه من وجد في رحله فالسارق جزاؤه.
فيكون مبتدأ ثانيا والفاء جواب الجزاء والجملة خبر (من).
ويجوز في (مَن) وجهان:
أحدهما: أن يكون خبراً بمعنى (الذي)، كأنّه قال: جزاؤه الذي
وجد في رحله مسترقا، وينصب " مسترقا " على الحال.
والثاني: أن يكون شرطاً، كأنّه قال: جزاء السرق إن وجد في رحل
رجل منا فالموجود في رحله جزاؤه استرقاقاً.
* * *
قوله تعالى: (قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ
مِنْ قَبْلُ)
يسأل عن قوله تعالى: (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)
كيف نسبوا السرق إلى يوسف عليه السلام؟
والجواب: أنّ سعيد بن جبير وقتادة وابن جريج قالوا: سرق يوسف
صنما كان لجده أبى أمه، فكسره وألقاه على الطريق.
وقيل: أنّه كان يسرق من طعام المائدة ويعطيه للمساكين.
وقال ابن إسحاق: إن جدته خبأت في ثيابه " منطقة " إسحاق لتملكه
بالسرقة؛ محبة لمقامه عندها.
(1/171)
ويسأل عن " الهاء " في قوله (فَأَسَرَّهَا
يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ)؟.
والجواب: أنّه أسر قوله (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا)، أي: ممن
قلتم له هذا، وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة.
وأنث لأنّه أراد الكلمة.
وقال الحسن: لم يكونو أنبياء في ذلك الوقت، وإنما أُعطوا
النبوة بعد ذلك.
* * *
قوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا
وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا)
العير: جماعة القافلة إذا كان فيها حمير، وقيل: إن قافلة الإبل
سميت عيراً على التشبيه بذلك، والعَير - بفتح العين - الحمار.
والقرية هاهنا مصر، وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة.
وكان الأصل: واسأل أهل القرية وأهل العير، ثم حذف المضاف وأقام
المضاف إليه مقامه للإيجاز؛ لأنّ المعنى مفهوم.
وقيل: ليس في الكلام حذف؛ لأنّ يعقوب عليه السلام نبي يجوز أن
تخرق له العادة وتكلمه القرية والعير.
* * *
قوله تعالى: (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي)
(1/172)
الاستغفار: طلب المغفرة.
ومما يسأل عنه أن يقال: لم أخَّر يعقوب عليه السلام الدعاء
لولده مع محبته إصلاح حالهم؟
وعن هذا أجوبة:
أحدها: أنّه أخَّرهم إلى السحر؛ لأنّه أقرب إلى الإجابة، وهو
قول ابن مسعود وإبراهيم التيمي وابن جريج وعمرو بن قيس.
وقيل: أخَّرهم إلى يوم الجمعة، وهو قول ابن عباس رواه عن النبي
صلى الله عليه وسلم.
وقيل: سألوه أن يستغفر لهم دائماً، فلذلك قال " سوف ".
وقيل: أخَّر ذلك لحنكته واجتماع رأيه؛ لينبههم على عظيم ما
فعلوه، ويردعهم، ألا ترى أن يوسف لحداثة سنه كيف لم يؤخِّر بل
قال اليوم يغفر الله لكم.
* * *
قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ)
الاستيئاس: استفعال من اليأس وهو انقطاع الطمع.
والظن: قوة أحد النقيضين.
قرأ عاصم وحمزة والكسائي (كُذِبُوا) بالتخفيف. وقرأ الباقون
(كُذِّبُوا)، وقرئ في الشواذ (كَذِبُوا).
(1/173)
فمعنى قراءة من خفف: أنّ الأمم ظنت أنّ
الرسل كذبوهم فيما أخبروهم به من نصر الله لهم وإهلاك أعدائهم،
وهو قول ابن عباس وابن مسعود وابن جبير ومجاهد وابن زيد
والضحاك.
وأما من شدد فالمعنى: أنّ الرسل أيقنوا أنّ الأمم قد كذبوهم
تكذيبا عمهم حتى لا يفلح فيهم أحد، وهو قول الحسن وقتادة
وعائشة. والظن على القول الأول بمعنى الشك. وعلى القول الثاني
بمعنى اليقين.
وأما من قرأ (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) فالضمير في
(ظنوا) عائد على الكفار وفي (كُذِّبُوا) عائد على الرسل عليهم
السلام. وهو قول عائشة وهذه القراءة تروى عنها.
(1/174)
وَمِنْ سُورَةِ (الرَّعْدِ)
قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ
عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)
والعَمَدُ والعُمُدُ جميعاً بمعنى. واحدها " عمود ". إلا أنّ "
عُمُداً " جمع " عمود " و " عَمَد " اسم للجمع. ومثله: أديم
وأدم، وإهاب وأهب.
ويُسْأَل عن قوله تعالى (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)؟
وعنه جوابان:
أحدهما: أنها بغير عمد ونحن نراها كذلك، وهو قول قتادة وإياس
بن معاوية.
والثاني: أنها بعمد لا نراها، وهو قول ابن عباس ومجاهد.
وأنكر بعض المعتزلة هذا القول، قال: لأنّه لو كان لها عمد
لكانت أجساما غلاظاً. وكانت ترى والله عز وجل إنما دل بهذا على
وحدانيته من حيث لا يمكن أحد أن يقيم جسماً بغير عمد إلا هو
فلذلك كان هذا التأويل خطأ.
والجواب عن هذا أنّه إذا رفع السماوات بعمدٍ وتلك العمد لا
ترى، فيه أعظم قدرة، كما لو كانت بغير عمد.
وقال النابغة في العمد:
وخَيِّسِ الجِنَّ إِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ ... يَبْنُونَ
تَدْمُرَ بالصُّفاحِ والعَمَدِ
* * *
قوله تعالى: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا
كُنَّا تُرَابًا)
(1/175)
العَجَبُ والتَّعجب: هجوم ما لا يعرف سببه
على النفس.
قرأ نافع والكسائي (أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي
خَلْقٍ جَدِيدٍ) على الاستفهام في الأول والخبر فى الثاني،
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم بالاستفهام في الموضعين
جميعاً. إلا أنّ حمزة وعاصما يهمزان همزتين، وقرأ ابن عامر على
الخبر في الأول والاستفهام في الثاني، وعنه في ذلك خلاف.
ومما يسأل عنه أن يقال: ما العامل في (إذا)؟
والجواب أنَّ العامل محذوف تقديره: أإذا كنا ترابا نُبعث. ودل
عليه (لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ).
فإن قيل: فهل يجوز أن يعمل فيه " خلق " أو " جديد "؟
قيل: لا يجوز ذلك؛ لأنَّ اللام لا يعمل ما بعدها فيما قبلها.
فإن قيل: فهل يجوز أن يعمل فيها (كنَّا)؟
قيل: لا يجوز. لأنها مضافة إليه، والمضاف إليه لا يعمل في
المضاف.
* * *
قوله تعالى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ)
الْمُعَقِّبَات: المتناوبات، وقيل الْمُعَقِّبَات هاهنا ملائكة
الليل تعقب ملائكة النهار وهو قول الحسن وقتادة ومجاهد، وروي
عن ابن عباس: أنها الولاة والأمراء، وقال الحسن: هي أربعة من
الملائكة يجتمعون عند صلاة الفجر، وصلاة العصر.
ويُسأَل عن قوله (مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)؟
وفيه أجوبة:
(1/176)
قال الحسن: يحفظونه بأمر الله، وهو قول
قتادة أيضاً.
وقال ابن عباس: الملائكة من أمر الله.
وقال مجاهد وإبراهيم: يحفظونه من أمر الله من الجن والهوام.
وقيل المعنى: عن أمر الله، كما تقول: أطعمته عن جوع وكسوته عن
عُري.
وأصح هذه الأقوال أن يكون المعنى: له معقبات من أمر الله
يحفظونه من بين يديه ومن خلفه.
واختلف في الضمير الذي فى (له):
فقال بعضهم: يعود على (من) في قوله: (مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ
وَمَنْ جَهَرَ بِهِ).
وقيل: يعود على اسم الله جل ثناؤه، وهو عالم الغيب والشهادة.
وقيل: على النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (إِنَّمَا أَنْتَ
مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)، وهو قول عبد الرحمن بن زيد.
* * *
قوله تعالى: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ)
(1/177)
الرعد: ملك يزجر السحاب. هذا قول ابن عباس.
وقال علي بن عيسى: هو اصطكاك أجرام السحاب بقدرة الله سبحانه.
والخيفة والخوف بمعنى واحد.
والصواعق جمع صاعقة. وتميم تقول: صاقعة.
والجدال: الخصومة.
والْمِحَالِ: الأخذ بالعقاب هاهنا، يقال: ما حلته مما حلةً
ومحالًا، ومحلت به محلًا، قال الأعشى:
فَرْع نَبْعٍ يَهْتزُّ فِي غُصُنِ المَجْ ... د غزِيرُ
النَّدَى شَدِيدُ المِحال
وهذه الآية نزلت في رجلٍ جاء إلى النبي صلى الله عليه مجادلةً،
فقال: يا محمد، مِمَّ ربُّك، أمن لؤلؤٍ أم ياقوتٍ أم ذهبٍ أم
فضةٍ؟، فأرسل الله عليه صاعقةً ذهبت بقحفه، وهو قول أنس بن
مالك ومجاهد.
وقيل: نزلت في أربد أخي لبيد بن ربيعة لما أراد هو وعامر بن
الطفيل قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أربد لعامر: أنا
أشغله بالحديث فاضربه أنت، فأقبل أربد يسأل النبي صلى الله
عليه؛ ليشغله وهمَّ عامر بضربه عليه السلام. فجفت يده على قائم
السيف، فرجعا خائبين، وأصابت أربد في طريقه صاعقة فأحرقته،
وأما عامر فابتلي بغدةٍ كغدة البعير، فكان يقول: أغدة كغدة
البعير، حتى قتلته. وقال لبيد يرثي أخاه أربد:
أخشَى على أُربَدَ الحُتُوفَ ولا ... أرهَبُ نَوءَ السّماك
والأسَدِ
فَجَّعَني الرَّعْدُ والصَّواعِقُ بالـ ... فارِسِ يَوْمَ
الكَريهةِ النُّجُدِ
وكان اسم أربد (قيساً) ولم يكن من أبي ربيعة، وكان عامر قد قال
للنبي صلى الله عليه وسلم: إن
(1/178)
جعلت لي نصف ثمار المدينة، وجعلت لي الأمر
بعدك أسلمت، فقال النبي عليه السلام: (اللهم اكفني عامراً
واهدِ بني عامر)، فانصرف وهو يقول: والله لأملأنها عليك خيلًا
جُرداً أو رجالًا مُردًا ولأربطنَّ بكلّ نخلةٍ فرساً. فأصابته
غدة في طريقه ذلك. فكان يقول: أغدة كغد البعير وموتا في بيت
سلولية.
* * *
فصل:
ويسأل عن معنى قوله (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ)؟
ففيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنّه ملك يسبح ويزجر السحاب بذلك التسبيح، وهو قول ابن
عباس.
والثاني: أنّه يسبح بما فيه من الدلالة على تعظيم الله تعالى
ووجوب حمده.
والثالث: أنّه يسبح بما فيه من الآية التي تدعو إلى تسيبح الله
جل وعز.
* * *
قوله تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا)
الطاعة والطوع: الانقياد. والكَره والكُره والكراهة بمعنى.
والظلال جمع ظلٍ وهو ستر الشخص ما بإزائه.
والغُدو والغَداة وغدوة بمعنى. والآصال جمع أُصُل والأُصُل جمع
أصيل وهو العشي وقد يقال فى جمعه أصائل. قال أبو ذؤيب:
لعَمْرِي لأَنتَ البَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَه ... وأَقْعُدُ فِي
أَفيائه بالأَصَائِل
ويُسأَل عن معنى قوله (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا)؟
(1/179)
والجواب: أنّ الحسن وقتادة وعبد الرحمن بن
زيد قالوا: المؤمن يسجد طوعا والكافر يسجد كرها، والمعنى على
هذا أنّ السجود واجب لله تعالى، فالمؤمن يفعله طوعاً والكافر
يؤخذ بالسجود كرها، أي هذا الحكم في وجوب السجود لله.
وقيل: المؤمن يسجد طوعاً والكافر في حكم الساجد كرهاً لما فيه
من الحاجة والذلة التي تدعو إلى الخضوع لله تعالى.
وأما سجود الظلال فبما فيها من أثر الصنعة، وقيل: إن الكافر
إذا سجد لغير الله سجد ظله لله تعالى.
قوله تعالي: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)
الأنهار: جمع نَهَر كجَمَل وأجمال، ويجوز أن يكون جمع نَهْر،
كَفْرد وأفراد، والنهر المجرى الواسع من مجاري الماء على وجه
الأرض، وأصله الاتساع، ومنه النهار لاتساع الضياء، وأنهرت الدم
إذا وسَّعت مجراه، قال الشاعر:
مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فأَنْهَرْتُ فَتْقَها ... يَرى قائمٌ
مِنْ دُونِهَا مَا وراءَها
أي وسَّعت فتقَها.
والأكْلَ: مصدر. والأُكُل بضم الهمزة المأكول.
(1/180)
ومما يسأل عنه أن يقال: ما معنى (أُكُلُهَا
دَائِمٌ)؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنّ ثمارها لا تنقطع كانقطاعها في الدنيا في غير
أزمنتها، وهو قول الحسن.
والثاني: أنّ التنعم به لا ينقطع.
ويُسأَل عن معنى (مَثَلُ الْجَنَّةِ)؟
وفيه أجوبة:
أحدها: أنّ المعنى صفة الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها
الأنهار، فتجري من تحتها الأنهار وما بعده خبر المبتدأ الذي هو
(مَثَلُ الْجَنَّةِ).
والجواب الثاني: أنّ (مثلا) هاهنا بمعنى (الشبه) والخبر محذوف
تقديره: مثل الجنة التي هي كذا وكذا أجل مثل.
والجواب الثالث: أنّ التقدير: وفيما يتلى عليكم مَثَلُ
الْجَنَّةِ وهو قول سيبويه.
* * *
(1/181)
وَمِنْ سُورَةِ (إِبْرَاهِيمَ)
قوله تعالى: (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا
الصَّلَاةَ)
يسأل عن قوله (يُقِيمُوا الصَّلَاةَ) ما موضعه من الإعراب؟
والجواب جزمٌ من ثلاثة أوجه:
أحدها: جواب الأمر الذي هو (قُلْ). لأنّ المعنى في (قُلْ): إن
تقل لهم يقيموا الصلاة.
والثانى: أنّه جواب أمر محذوف تقديره: قل لعبادي أقيموا الصلاة
يقيموا الصلاة.
والثالث: أنّه على حذف لام الأمر. كأنّه قال: قل لعبادي
ليقيموا الصلاة، وإنما جاز حذف " اللام " هاهنا، لأنّ في
الكلام عليها دليلا، فعلى هذا يجوز: قل له يضربُ زيدًا، ولا
يجوز: يضربْ زيدًا، لأنّه لا دليل على اللام، ولا عوض منها.
وهذا قول الزجاج.
* * *
قوله تعالى: (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ
مَكْرُهُمْ)
قرأ الكسائي (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ) بضم اللام
الأخيرة وفتح الأولى. وقرأ الباقون: بكسر الأولى وفتح الثانية.
ومعنى قراءة الجماعة: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال. أي:
ليبطل الحق والإسلام، لأنهما ثابتان بالدلبل والبرهان. فهما
كالجبال.
وأما قراءة الكسائي فمعناها: الاستعظام لمكرهم، كأنها تزول منه
الجبال لعظمه.
و (إنْ) في القراءة الأولى بمعنى (ما) وهو قول ابن عباس
والحسن، وعلى القراءة الثانية (إن) مخففة من الثقيلة.
(1/182)
وقد قيل في معنى القراءة الأولى: إن هذا
نزل في نمرود بن كوش بن كنعان حين اتخذ التابوت وأخذ أربعة من
النسور فأجاعها أياماً وعلق فوقها لحمًا وربط التابوت إليها
فطارت النسور بالتابوت وهو ووزيره فيه إلى أن بلغت حيث شاء
الله تعالى، فظن أنّه بلغ السماء. ففتح باب التابوت من أعلاه
فرأى بعد السماء منه كبعدها حين كان في الأرض، وفتح بابا من
أسفل التابوت فرأى الأرض قد غابت عنه فهاله الأمر. فصوب النسور
وسقط التابوت، وكانت له وجبة فظنت الجبال أنّه أمر نزل من
السماء فزالت عن مواضعها لهول ذلك.
فالمعنى على هذا: وإنه كان مكرهم لتزول منه الجبال. أي: قد
زالت. وفي التأويل الأول: همت بالزوال، ويروى أنّ عمر وعليا
رضي الله عنهما قرأا (وَإِنْ كَادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ
مِنْهُ الْجِبَالُ)، فهذا يدل على التأويل الأول ويدل عليه
أيضا قوله (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ
وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا). أي:
إعظاما لما جاءوا به.
* * *
(1/183)
|