إعراب القرآن للأصبهاني وَمِنْ سُورَةِ (الْحِجْرِ)
قوله تعالى: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ
(1)
جر (قرآنا) لأنّه معطوف على (الكتاب) تقديره: تلك آيات الكتاب:
آيات قرآن مبين.
وأجاز الفراء الرفع على تقدير: وهو قرآن مبين، أو يكون معطوفاً
على آيات، وأجاز النصب على المدح وأنشد:
إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ ... وليثِ الكتيبة في
المُزْدَحَمْ
وذا الرأي حِينَ تُغَمُّ الأمورُ ... بِذاتِ الصليلِ وَذات
اللُّجَم
وزعم أنّ المدح تنصب نكرته ومعرفته، أما قوله (معرفته) فصحيح،
وأما (نكرته) فإن أصحابنا لا يجيزون ذلك. لأنّه لا يمدح الشيء
الذي لا يعرف. وإنما يمدح ما يعرف، والنكرة مجهولة فلذلك
امتنع.
* * *
قوله تعالى: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)
يقال (رُبَّ) بالتشديد، و (رُبَ) بالتخفيف، قال أبو كبير:
أَزُهَيرُ إِنْ يَشِبِ القَذالُ فإِنَّني ... رُبَ هَيْضَلٍ
مرسٍ لفَفْت بِهَيْضَلِ
زعم بعضهم أنها لغة، وليست بلغة عندنا. وإنما اضطر الشاعر
فخففها، والدليل على ذلك: أن كل ما كان من الحروف على حرفين
فإنه ساكن الثاني نحو: هل ومِنْ وقد وما أشبه ذلك، ويقال:
رُبَّمَا ورُبمَا ورُبَّتَما ورُبَتَما، و (التاء) لتأنيث
الكلمة، و (ما) كافة وهي تبع للتخفيف عوض من التضعيف، وحكى أبو
حاتم هذه الوجوه كلها بفتح الراء لغة.
(1/184)
فصل:
ومما يسأل عنه هاهنا أن يقال: لم جاء (رُبَمَا يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا)، وربَّ للتقليل؟
وعن هذا جوابان:
أحدهما: لأنّه أبلغ في التهديد، كما تقول: ربما ندمت على هذا،
وأنت تعلم أنّه يندم ندماً طويلاً، أي يكفيك قليل الندم فكيف
كثيره.
والثاني: أنّه يشغلهم العذاب عن تمني ذلك إلا في أوقات قليلة.
وقرأ ابن نافع وعاصم (رُبَمَا) بالتخفيف، وقرأ الباقون
بالتشديد على الأصل.
وساغ التخفيف هاهنا وإن لم يكن من الضرورات؛ لأنَّها لما وصلت
بـ (ما) كثرت وثقلت فخففت.
* * *
قوله تعالى: (قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ
فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ
يَعْمَهُونَ (72)
قال ابن عباس: لَعَمْرُكَ، أي: وحياتك.
قال لي بعض شيوخنا: أقسم الله تعالى بحياة نبيه إجلالاً له
ومحبة.
والسكرة هاهنا: الجهل.
والعمهُ: التحير. قال رؤبة:
ومَهْمَهٍ أَطْرافُه فِي مَهْمَهِ ... أَعْمَى الهُدَى
بالجاهِلينَ العُمهِ
(1/185)
ومما يسأل عنه أن يقال: كيف قال (هَؤُلَاءِ
بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ)؟
وعنه جوابان:
أحدهما: أنّه أراد هَؤُلَاءِ بناتي فتزوجوهن إن كنتم فاعلين،
وهذا قول الحسن وقتادة، وقوله (إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ)
كناية عن طلب الجماع.
والثاني: أنّه أراد نساءهم لأنهم أمته ونساؤهم في الحكم
كبناته. وهو قول الزجاج.
ويعترض في الجواب الأول: كيف يجوز أن يتزوج الكافر بالمؤمنة؟
والجواب: أنّه كان ذلك في شريعتهم جائزًا، وقد كان في أول
الإسلام، وهو قول الحسن.
وقيل: قال ذلك لرؤساء الكفار لأنهم يكفون أتباعهم.
* * *
قوله تعالى: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ
سِجِّيلٍ (74)
يسأل عن (سِجِّيلٍ)؟.
وفيه للعلماء ثمانية أقوالٍ:
أحدها: أنها حجارةٌ صلبةٌ وليست كحجارة الثلج والبَردَ.
والثاني: أنّه فارسي معرب (سنْك) و (كِل) عن ابن عباس وقتادة.
والثالث: أنّ معناه شديد عن أبي عبيدة، وأنشد:
ضَرباً تَواصى بهِ الأبطالُ سِجينًا
إلا أنّه أبدل النون لاماً.
(1/186)
والرابع: أنّه مثل السجل في الإرسال، وهو
الدلو. قال بعض بني أبي لهب:
مَنْ يُسَاجِلْني يُسَاجِلْ ماجِداً ... يَمْلأُ الدَّلْوَ
إِلى عَقْدِ الكَرَب
الخامس: أنّه من استجلته أي: أرسلته.
السادس: أنّه من استجلته أي: أعطيته.
السابع: أنّه من السجل وهو الكتاب، قيل: كان على هذه الحجارة
كتابةٌ.
الثامن: أنّه من أسماء سماء الدنيا، وهي تسمى سجيلا، وهذا قول
ابن زيد.
وقيل: أصله (سجين) وهو اسم من أسماء جهنم ثم أبدلت النون لاما.
وهذا كقول أبي عبيدة، قال الشاعر في إبدال النون لاما:
وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلاً لا أُسائِلُها ... عَيَّتْ جَواباً
وَمَا بالرَّبْع مِنْ أَحَدِ
يريد أصيلانًا.
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي
وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87))
قال ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد: هي سبع سور من
أول القرآن، وروى عن الحسن وعطاء: أنها فاتحة الكتاب. وقال ابن
عباس وابن مسعود من طريقة أخرى بهذا القول.
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ السبع المثاني أمُّ
القرآن.
وسميت السبع الطوال مثاني لأنها تثنى فيها الأخبار والأمثال
والعبر، وقد روي أيضاً عن ابن عباس أنّ المثاني جميع القرآن.
(1/187)
قوله تعالى: (الَّذِينَ جَعَلُوا
الْقُرْآنَ عِضِينَ (91))
قال الكسائي: هو من العَضِيهَةِ وهي الكذب. أي: جعلوا القرآن
كذبًا.
وقيل معنى (عضين): أنّهم جعلوه فرقا: قالوا فيه هو سحرٌ،
وقالوا كهانة، وقالوا شعرٌ وقالوا أساطير الأولين، وهو قول
قتادة.
ولام الفعل من عضين على القول الأول هاء، وعلى القول الثاني
واو، لأنّه من العضو، كأنهم عضوه أعضاءً، إلا أنّ اللام حُذِفت
وعُوض منها هذا الجمع، أعني جمع السلامة وهو مختص بمن يعقل إلا
أنّه جاز هاهنا، لأنّه عوض من المحذوف. ومثله: عزون وثبون وما
أشبه ذلك.
* * *
قوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ)
أي: افرق، قال أبو ذؤيب:
وكأَنَّهنّ ربَابةٌ وكأَنُّهُ يَسَرُ ... يَفِيضُ علَى
القّداحِ ويَصْدَعُ
ومما يسأل عنه أن يقال: ما (ما) هناهنا؟
والجواب: أنها تحتمل أن تكون مصدرية، فيكون التقدير: فاصدع
بالأمر، وتحتمل أن تكون بمعنى (الذي) فهذا الوجه محتاج إلى
عمل، وذلك أنّ الأصل: فاصدع بما تؤمر بالصدع به فحذفت الباء
واجتمعت الإضافة والألف واللام، وهما لا يجتمعان، فحذفت الألف
واللام فصار: فاصدع بما تؤمر بصدعه، ثم حذفت المضاف وأتمت
المضاف إليه مقامه، على حد (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ)، فصار:
فاصدع بما تؤمر به، ثم حذفت الباء على حد حذفها من قول الشاعر:
(1/188)
أَمَرْتُكَ الخَيرَ فافعلْ ما أُمِرْتَ به
... فقد تَرَكْتُكَ ذا مال وذا نَشَبِ
فصار: فاصدع بما تؤمره، ثم حذفت الهاء لطول الاسم بالصلة على
حد قولك: ما أكلتُ الخبزُ، أي: الذي أكلته الخبز، فبقي
(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ).
* * *
(1/189)
وَمِنْ سُورَةِ (النَّحْلِ)
قوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)
قال الحسن وابن جريج، عقابه لمن أقام على الكفر.
وقال الضحاك: فرائضه وأحكامه.
وقيل أمره: القيامة، فعلى هذا الوجه يكون (أتى) بمعنى (يأتي)،
وجاز وقوع الماضي هاهنا لصدق الخبر بما أخبر، فصار بمنزلة ما
قد مضى، وقد شرحناه فيما تقدم.
* * *
قوله تعالى: (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ)
يقال: لم قال (مِنْ فَوْقِهِمْ)، وقد عُلم أنّ السقف يخر من
فوقهم؟
وعنه جوابان:
أحدهما: أنّه للتوكيد، كما تقول لمن تخاطبه: قلتُ أنت كذا
وكذا.
والثاني: أنّه جاء كذلك ليدل أنّهم كانوا تحته، لأنّه يجوز أن
يقول الرجل:
خرَّ عليَّ السقف وتهدم عليَّ المنزل، ولم يكن تحتها.
وقال ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد: نزل هذا في نمرود.
وقيل: في بختنصَر.
(1/190)
قوله تعالى: (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي
بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا)
يقال: سقيته إذا ناولته ليشرب. وأسقيته إذا جعلت له ماء ليشربه
دائماً، من نهر أو غيره، وقد يقال: سقى وأسقى بمعنى، قال لبيد:
سَقَى قَوْمي بَنِي مَجْدٍ وأَسْقَى ... نُمَيْراً والقبائِلَ
مِنْ هِلالِ
ومما يسأل عنه أن يقال: على ما يعود الضمير في (بطونه)؟
والجواب: أنّ العلماء اختلفوا في ذلك:
فذهب بعضهم: إلى أنّ (الأنعام) جمع، والجمع يذكَّر ويؤنث، فجاء
هاهنا على لغة من يذكر، وجاء في سورة " المؤمنين " على لغة من
يؤنث.
وذهب آخرون: إلى أنّه رد على واحد الأنعام، وأنشد:
وَطابَ ألبانُ اللقاح فَبَرَدْ
ردَّه إلى اللبن.
وقيل: الأنعام، والمنعم سواء، فحصل على المعنى، وأنشدوا
للأعشى:
فإن تَعهديني وَلي لِمّةٌ ... فإنّ الحوادثَ أودَى بها
(1/191)
حمله على الحدثان.
وقل: المعنى نسقيكم مما في بطون الذكور.
وقيل: " من " تدل على التبعيض، فكأنه قال: نسقيكم من بطون بعض
الأنعام؛ لأنَّه ليس لجميعها لبن.
وقال إسماعيل القاضي: رد إلى الفحل، واستدل بذلك على أنّ اللبن
للرجل في الأصل.
* * *
قوله تعالى: (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ
تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا)
السَّكَر: ما يسكر، والرزق الحسن: الخَلُّ، وقال ابن عباس
وسعيد بن جبير والشعبي وإبراهيم وعبد الرحمن بن زيد والحسن
ومجاهد وقتادة: السَّكَر: ما حرم من الشراب، والرزق الحسن: ما
أحل منه، وقيل: هو ما حلا طعمه من شراب أو غيره، وهو من قول
الشعبي.
ويُسأل عن " الهاء " في " منه " علامَ يعود؟
وفيها جوابان:
أحدهما: أنها تعود على المذكور.
والثاني: أنها تعود على معنى الثمرات؛ لأنَّ الثمرات والثمر
سواء، فكذا " الهاء " في قوله: (فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ).
قيل: يعود على الشراب، وهو العسل، هذا قول الحسن وقتادة.
(1/192)
وقال مجاهد: يعود على القرآن.
* * *
قوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا
يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا)
يسأل: بما نصب (شَيْئًا)؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنّه بدل من (رِزْقًا)، وهو قول البصريين.
والثاني: أنّه مفعول بـ (رِزْقًا)، وهو قول الكوفيين وبعض
البصريين.
وفيه بعد؛ لأنَّ (الرزق) اسم، والأسماء لا تعمل، والمصدر
(الرزق) هذا قول المبرد.
* * *
قوله تعالى: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ
أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
يقال: ألحد ولحد بمعنى واحد، وذلك إذا مال، ومنه اللحد لأنّه
في جانب القبر.
(1/193)
ويُسأل: من الذي ألحدوا إليه؟
والجواب: أنّ ابن عباس قال: كان المشركون يقولون إنما يُعلم
محمدا - صلى الله عليه وسلم - " بلعام ".
وقال الضحاك: كانوا يقولون يُعلمه " سلمان ".
وقوله (لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) يعني به القرآن، كما تقول
العرب للقصيدة: هذه لسان فلان، قال الشاعر:
لِسَانُ السُّوءِ تُهديهَا إلينَا ... أُجبتُ وَمَا حَسِبتُك
أن تُجِيبا.
وقرأ حمزة والكسائي (يَلْحَدُونَ) بالفتح، وقرأ الباقون بالضم
وهما لغتان.
* * *
قوله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ
آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا)
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: القرية: مكة.
وقيل: كل قرية كانت على هذه الصفة. فهي التي ضرب بها المثل.
والأنعم: جمع نعمة، كشدة وأشد، وقيل: واحدها (نعم) كغصن وأغصن،
وقيل: واحدها (نعماء) كبأساء وأبؤس.
(1/194)
ومما يُسأل عنه أن يُقال: لِمَ قال
(لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ)، والجوع لا يُلبس؟
والجواب: لما يظهر عليهم من الهزال وشحوب اللون، فصار كاللباس.
وقيل: إن القحط بلغ بهم إلى أنّ أكلوا القد والوبر مخلوطين
بالدم والقراد.
ويُسأل عن قوله تعالى: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ)؟
والجواب: أنّه استعارة، والعرب تقول: اركب هذا الفرس وذقه، أي:
اختبره، وكذا يقولون: ذق هذا الأمر، قال الشمَّاخ:
فَذاقَ فَأعطتهُ من اللين جَانِباً ... كفى ولها أن يُغرقَ
السهمَ حاجزُ
يصف قوساً.
* * *
قوله تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ
الْكَذِبَ)
نصب (الكذبَ) بـ (تصفُ)، و (ما) مصدرية.
وقرئ في الشاذ (لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكُذُبُ)، جمع
كذوبٍ، وهو وصف للألسنة.
وقرئ أيضا (الكَذِبِ) بالجر على أنّه بدلَ من (ما).
(1/195)
والألسنة: جمع لسان على مذهب من يُذكر، ومن
أنَّث قال في جمعه (ألسن)
قال العجاج:
وتَلحَجُ الألسُنُ فينا مَلحجا
وهذه الآية نزلت في تحريمهم البحيرة والسائبة والوصيلة
والحامي.
* * *
(1/196)
|