إعراب القرآن للأصبهاني وَمِنْ سُورَةِ (الْكَهْفِ)
قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى
عَبْدِهِ الْكِتَابَ)
القيِّم: المستقيم. والعوج: العدول عن الحق إلى الباطل، يقال:
ليس في الدين عوج، وكذلك ليس في الأرض عوج، ويقال: في العصا
عَوج بالفتح.
وأجمع العلماء على أنّه على التقديم والتأخير. أي: أنزل على
عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجاً.
قال ابن عباس والضحاك: أنزله مستقيماً معتدلًا.
وقيل: ولم يجعل له عوجا أي: لم يجعله مخلوقاً، ويروى هذا عن
ابن عباس أيضاً.
ووزن (قَيِّم) فيعل، وأصله (قيوم) فقلبت الواو ياء وأدغمت
الياء فيها، وهذا حكم كل (واو) و (ياء) اجتمعتا وسبقت الأولى
منهما بالسكون، نحو: سيِّد وميتِّ وطيّ وليّ، والأصل: سيود
وميوت وطوي ولوي، ففعل بهذه الأشياء ما ذكرناه. وقرأ الأعمش
(الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ)، وروي أنّ عمر قرأ (الْحَيَّ الْقَيَّامُ)،
والأصل فيه القيوام، ففعل به ما قد ذكرناه، وكذلك: القيوم،
أصله: قيووم.
ونصب (قيما) على الحال من الكتاب. والعامل فيه " أنزل ".
(1/207)
قوله تعالى: (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ
مِنْ أَفْوَاهِهِمْ)
الكلمة هاهنا: قولهم (اتخذ الله ولداً)، واختُلف في نصبها:
فقال قوم: انتصب على تفسير المضمر، على حد قولك: نعم رجلا زيد،
والتقدير على هذا: كبرت الكلمة كلمةً، ثم حذفت الأول، لدلالة
الثاني عليه. ومثله: كرُم رجلا زيد، ولؤم صاحبا عمرو. وقال
قوم: انتصب على التمييز المنقول عن الفاعل. على حد قولك: تصببت
عرقاً، وتفقأت شحماً، قال الشاعر:
وَلقَد عَلِمتُ إذَا الرياحُ تنَاوحَت ... هَدَجَ الرئال
تكبهُن شَمَالا.
وهذا البيت إذا حُذف منه (تكبهن شمالا) بقي موزونا، وكانَ من
مرفل الكامل إذا حركت اللام، فإن أسكنتها كان من الذال، وهو
على تمامه من الكامل، ويحكى أنّ أول من نبه على هذا أبو عمرو
بن العلاء.
وقيل: نصب (كلمة) على الحال من المضمر في (كبرت).
وقرأ ابن كثير (كَبُرَتْ كَلِمَةٌ) بالرفع، جعل كبرت بمعنى
عظمت.
وأما قوله تعالى: (تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ)، فهو نعت
لمحذوف تقديره: كبرت كلمةٌ كلمةٌ تخرج من أفواههم، ترفع (كلمة)
المضمرة، كما ترفع (زيد) من قولك: نعم رجلاً زيد، ورفعه من
وجهين:
أحدهما: أن يكون مبتدأ وما قبله الخبر.
والثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، والتفسير في الآية على هذا:
هي كلمة تخرج، ولا يجوز أن يكون (تخرج) وصفًا لـ (كلمة)
الظاهرة؛ لأنَّ الوصف يقرب النكرة من المعرفة، والتمييز
والتفسير
(1/208)
والحال لا تكون معرفة ألبتة، ولا يجوز أن
يكون حالًا من (كلمة) المنصوبة لأمرين:
أحدهما: أنّ الحال يقوم مقام الوصف.
والثاني: أنّ الحال لا يكون من نكرة في غالب الأمر.
ولكن يجوز أن يكون (تخرج) وصفاً لـ (كلمة) على مذهب من رفع
كلمة.
* * *
قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ
وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
الكهف: الغار، والرقيم: قيل: هو لوح أو حجر أو صحيفة كتب فيه
أسماء أصحاب الكهف وخبرهم حين أووا إلى الكهف؛ لأنَّه من عجائب
الأمور، وجعل في خزائن الملوك، وقيل: جعل على باب كهفهم، ورقيم
على هذا بمعنى مرقوم، مثل: جريح ومجروح وصريع ومصروع، يقال:
رقمت الكتاب أرقمه، وفي القرآن (كِتَابٌ مَرْقُومٌ)، ومن هذا
قيل: في الثوب رقم، وقيل للحية: أرقم، لما فيها من الخطوط،
وهذا الذي ذكرناه من أنّه كتاب كتب فيه حديثهم قول مجاهد وسعيد
بن جبير، وفي بعض الروايات عن ابن عباس: أنّه الوادي الذي
كانوا فيه، وروي مثل ذلك عن الضحاك، وقيل: الرقيم الجبل الذي
كانوا فيه، وهو قول الحسن، وقيل: الرقيم اسم كلبهم، وجاء في
التفسير عن الحسن: أنّهم قوم هربوا بدينهم من قومهم إلى كهف
وكان من حديثهم ما قصه الله تعالى في كتابه.
وقيل في قوله (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ
وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا)، أنّ معناه:
أكانوا أعجب من خلق السماوات والأرض وما فيهن.
و (أم) هاهنا بمعنى: بل أحسبت، وفيها معنى التعجب.
(1/209)
وحدثني أبي عن عمه إبراهيم بن غالب حدثنا
القاضي منذر بن سعيد حدثنا أبو النجم عصام بن منصور المرادي
القزويني حدثنا أبو بكر أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم الرقي
حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام حدثنا زياد بن عبد الله بن
البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي قال حدثني بعض أهل العلم عن
سعيد بن جبير وعكرمة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه في خبر
طويل:
أنّ النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط أنفذتهما قريش إلى
أحبار اليهود بالمدينة، وقالوا لهما: اسألاهم عن (محمد). وصفا
لهم صفته، وأخبراهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول؛ وعندهم علم
ليس عندنا من علم الأنبياء. فخرجا حتى قدما المدينة. فسألا
أحبار اليهود عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقالا لهم ما قالت
قريش وقالا: أخبرونا عن صاحبنا. فقالت لهما أحبار اليهود: سلوه
عن ثلاث، نأمركم بهن. فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم
يفعل فهو رجل متقول فارؤوا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا فى
الدهر الأول، ما كان أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجب، وسلوه
عن رجلٍ طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبأه؟ وسلوه
عن الروح، ما هو؟ -فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي، وإن لم
يفعل، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم، فأقبل النضر وعقبة حتى قدما
مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم
وبين " محمد "، وقصَّا عليهم القصة، فجاءوا النبي صلى الله
عليه وسلم فسألوه عن ذلك، فقال عليه السلام، أخبركم بما سألتم
عنه غداً، ولم يستثن، فانصرفوا عنه، فمكث عليه السلام خمس عشرة
ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبريل، حتى
أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غداً، واليوم خمس عشرة ليلة
قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه، وأحزن النبي صلى
الله عليه مكث الوحي عنه، وشق ما يتكلم به أهل مكة عليه، ثم
جاءه جبريل عليه السلام عن الله تعالى بسورة الكهف، فيه معاتبة
على حزنه عليهم، وخبر ما سألوا عنه من أمر الفتية، والرجل
الطواف، والروح.
قال ابن إسحاق: فذكر لي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
لجبريل عليه السلام حين جاءه: لقد أحبست عني يا جبريل حتى سؤت
ظنا، فقال له جبريل: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ
رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا
بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)، فافتتح السورة
تعالى: بحمده، وذكر نبوة رسول الله لما أنكروا عليه من ذلك
فقال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ
الْكِتَابَ) يعني: محمداً، إنك رسول مني. أي: تحقيق لما سألوا
عنه من نبوتك، (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا) أي:
معتدلاً لا اختلاف فيه (لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ
لَدُنْهُ)، أي: عاجل عقوبته في الدنيا، ثم مر في السورة.
(1/210)
قوله تعالى: (لِنَعْلَمَ أَيُّ
الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12))
اختلف العلماء في قوله: (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ):
فقال الخليل: (لنعلم) ملغي. و (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى)
مبتدأ وخبر، والتقدير: لنعلم الذي نقول فيه: أَيُّ
الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى، قال يونس: (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ)
حكاية.
وقال الفراء: الكلام فيه معنى الاستفهام، فلذلك لم يعمل فيه
(لنعلم).
قال سيبويه: (أَيُّ) هاهنا مبنية، وذلك لحذف العائد عليها، كأن
الأصل: لنعلم أي الحزيين هو أحصى، فلما حذف (هو) رجعت (أي) إلى
أصلها وهو البناء؛ لأنها بمنزلة (الذي) و (مَنْ) و (ما).
قال الكسائي: المعنى لنعلم ما يقولون، ثم ابتدأ: أَيُّ
الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى، ومثل هذه الآية قوله (فَلْيَنْظُرْ
أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا) وقوله (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ
كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا)،
وأنشد سيبويه:
وَلَقَدْ أَبِيتُ مِنَ الفَتَاة بمَنْزِلِ ... فأَبِيتُ لَا
حَرِجٌ وَلَا مَحْرُومُ
استشهادا لقول الخليل، وتأوله هو على تقدير: لا حرج ولا محروم
في مكان، على الابتداء والخبر، وجعل الجملة خبر لـ (بات)،
وقدره الخليل: فأبيت بمنزلة الذي يقال له لا حرج ولا محروم.
وأما النصب في (أَمَدًا):
(1/211)
فقال الزجاج: إنه تمييز، وهذا وهم؛ لأنّ
(أحصى) فعل وليس باسم، قال الله تعالى (أَحْصَاهُ اللَّهُ
وَنَسُوهُ).
وقال مرة أخرى: هو منصوب بـ (لبثوا) على الظرف، وهذا القول أصح
من الأول. وأي الحزبين هاهنا يراد به: الفتية من حصرهم من أهل
زمانهم.
* * *
قوله تعالى: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ)
الرجم: القذف، عن قتادة، وروي عن ابن عباس أنّه قال: أنا والله
من ذلك القليل الذي استثنى الله تعالى، كانوا سبعة وثامنهم
كلبهم.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لم دخلت " الواو " في قوله (وثامنهم)،
وحذفت فيما سوى ذلك؟
والجواب: أنها دخلت لتدل على تمام القصة، وموضعها مع ما بعدها
نصب على الحال.
وقيل: دخلت لتعطف جملة على جملة.
وقال بعضهم: خصت بعدد السبعة؛ لأنَّ السبعة أصل للمبالغة في
العدة، لأنّ جلائل الأمور سبعة سبعة.
(1/212)
وأما من يقول هي واو الثمانية، ويستدل بذلك
على أنّ للجنة ثمانية أبواب. لقوله تعالى (حَتَّى إِذَا
جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا). فشيء لا يعرفه النحويون
وإنما هو من قول بعض المفسرين.
ولو حُذفت هذه الواو لكان جائزاً؛ لأنّ الضمير في قوله
(وثامنهم) يربط الجملتين، وذلك نحو قولك: رأيت زيدًا وأبوه
قائم، ولو قلت: رأيت زيداً أبوه قائم لكان جائزاً، وتقول: رأيت
زيداً وعمرو قائم، فلا يجوز حذف الواو؛ لأنّه لا ضمير هاهنا
يربط الجملتين.
ولو دخلت الواو في قوله تعالى: (سيقولون ثلاثةٌ ورابعهم كلبهم)
(ويقولون خمسةٌ وسادسهم كلبهم) لكان جائزاً عند النحويين.
* * *
قوله تعالى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ
سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
اختلف العلماء في هذا:
فقال قوم: هذا إخبار من الله تعالى بمقدار لبثهم، ثم قال لنبيه
عليه السلام: إن حاجك المشركون فيهم قل: الله أعلم بما لبثوا،
هذا قول مجاهد والضحاك وعبيد بن عمير.
وقال قتادة: هو حكاية عن قول اليهود لأجل قوله تعالى (قُلِ
اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا)، فكأنه في التقدير: سيقولون
ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقولون كذا وكذا، ويقولون ولبثوا في
كهفهم، وقد ذكرنا عن ابن عباس أنّه قال: أنا من ذلك القليل
الذي استثناه الله تعالى.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: كيف جاء قوله تعالى: (وَلَبِثُوا فِي
كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ)، وإنما يقال: ثلاثمائة
سنة؟
(1/213)
وعن هذا جوابان:
أحدهما: أنّ التقدير: ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة، على
المستعمل، إلا أنّه وضع الجميع موضع الواحد على الأصل، لأنّ
الأصل أن تكون الإضافة إلى الجميع. كما قال الشاعر:
ثلاثُ مئين قد مضَينَ كوامِلًا ... وها أنا ذا أرتَجي مَرّ
أربَعِ.
فجاء به على الأصل.
والثاني: أنّ العرب تستغني عن الواحد بالجمع. وعن الجمع
بالواحد، فمما استغني فيه عن الواحد بالجمع قولهم: قدر أعشار،
وثوب أخلاق، ومما استغنوا فيه بالواحد عن الجمع قوله:
بها جِيَفٌ الحَسْرى فأمَّا عِظامُها ... فَبيضٌ وأَمَّا
جِلْدُها فَصَلِيبُ
وقال آخر:
كُلُوا في نصْف بَطنكُم تَعيشُوا ... فَإنَّ زمانَكُم زَمنٌ
خَمِيصُ.
وقال الله تعالى في الاستغناء بالجمع عن الواحد: (فَإِلَّمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) الخطاب: للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم
قال للكفار: (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ
اللَّهِ)، يدل على ذلك قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)،
ومما جاء من قوله تعالى على الاستغناء بالواحد عن الجمع قوله
تعالى: (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا)، وهو كثير.
وهذا كله على قراءة حمزة والكسائي، فأما الباقون فإنهم نونوا
(ثَلَاثَمِائَةٌ).
وفي نصب (سنين) قولان:
أحدهما: أنّه بدل من ثلاثمائة.
(1/214)
والثاني: أنّه تمييز، كما تقول: عندي عشرة
أرطال زيتًا، قال الربيع بن صبع الفزاري:
إذا عَاشَ الفَتَى مِئتَينِ عَامَا ... فَقذ ذَهبَ البَشَاشة
والفَتَاءُ.
وزعم بعضهم: أنّه على التقديم والتأخير. تقديره: ولبثوا في
كهفهم ثلاثمائة وازدادوا تسع سنين.
* * *
قوله تعالى: (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي)
الأصل: لكن أنا هُوَ اللَّهُ رَبِّي، فألقيت حركة الهمزة على
النون فصار: (لَكِنَنَا) فأسكنت النون الأولى كراهة لاجتماع
المثلين، ثم أدغمت في الثانية فصار: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ
رَبِّي؛ ويجوز فيها خمسة أوجه:
أحدها: لكن هُوَ اللَّهُ رَبِّي، لأنّ ألف (أنا) محذوف في
الوصل، قال الشاعر:
وتَرْمِيْنَنِ بالطَّرْفِ أَيْ أنْتَ مُذْنِبٌ ...
وتَقَلِيْنني لكنَّ إياكِ لا أَقْلِيْ
والثاني: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي. وهَذان الوجهان قرئ
بهما.
والثالث: لَكِنَّنا هُوَ اللَّهُ رَبِّي. بطرح الهمزة وإظهار
التنوين.
والرابع: لكنْ هُوَ اللَّهُ رَبِّي، بالتخفيف.
والخامس: لكن أنا هُوَ اللَّهُ رَبِّي، على الأصل.
* * *
قوله تعالى: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ
أَذْكُرَهُ)
(1/215)
قال المفسرون: شغل قلبي بوسوسته حتى نسيت
الحوت.
ويُسأَل عن موضع (أنْ)؟
والجواب: أنّ موضعها نصب على البدل من الهاء، كأنّه في
التقدير: وما أنساني أنّ أذكره إلا الشيطان.
* * *
قوله تعالى: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ
يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا)
يقال: سفينة وسَفائن وسُفُن وسَفِينٌ.
واختلف في المساكين والفقراء:
فذهب بعضهم إلى أنهما بمعنًى، وليس كذلك، لأنّ الله تعالى فرق
بينهما في آية الصدقة فقال:
(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ).
وفرق بينهما أكثر أهل العلم، واختلفوا في أيهما أشد حاجة:
فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المسكين الذي له بلغة، واحتجوا
بهذه الآية، لأنّ الله تعالى جعل لهم سفينة.
وذهب جمهور أهل اللغة إلى أنّ المسكين الذي لا شيء له، وأن
الفقير هو الذي له بلغة وأنشدوا:
أَمَّا الفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُو بَتُهُ ... وَفْقَ
العِيالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ
واختلف في (وراء):
فقال قوم: هو نقيض قدام
(1/216)
وقال قتادة: هو بمعنى أمام، ومثله: (مِنْ
وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ)، وهو محتمل، لأنّه من المواراة، قال
الشاعر:
أَتَرْجُو بَنُو مَرَوانَ سَمْعي وَطَاعَتي ... وَقَومي تميمٌ
والفلاةُ وَرَائيا
أي أمامي.
* * *
قوله تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ
رَبِّي)
قال أصحاب المعاني المعنى: قل لو كان البحر مداداً لكتابة
معاني كلمات ربي لنفد البحر قبل أنّ تنفد كتابة معاني كلمات
ربي، فحذف لأنَّ المعنى مفهوم. والنفاد: الفراغ.
ومما يسأل عنه أن يقال: الكلمات لأقل العدد، وأقل العدد العشرة
فما دونها، فكيف جاء هاهنا أقل العدد؟
والجواب: أنّ العرب تستغني بالجمع القليل عن الكثير، وبالكثير
عن القليل، قال الله تعالى: (وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ
آمِنُونَ)، وغرف الجنة أكثر من أن تحصى، وقال: (هُمْ
دَرَجَاتٌ)، وقال حسان:
لَنَا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَّ بالضُّحَى ...
وَأسيافُنا يَقْطُرْنَ من نَجْدةٍ دَمَا
وكان أبو علي الفارسي ينكر الحكاية التي تروى عن النابغة، وأنه
قال له: قلَّلت جفناتكم وأسيافكم. فقال: لا يمح هذا عن
النابغة.
* * *
(1/217)
وَمِنْ سُورَةِ (مَرْيَمَ)
قوله تعالى: (كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ
زَكَرِيَّا (2)
قد فسرنا فواتح السور فيما تقدم.
ومما يسأل عنه هاهنا أن يقال: بم ارتفع (ذِكْرُ رَحْمَتِ
رَبِّكَ)؟
وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنّه قال: هو ذكر.
والثاني: أن يكون مبتدأ والخبر محذوف تقديره: فيما يتلى عليكم
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ.
ونصب (عبدَه) برحمة.
* * *
قوله تعالى: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)
قال أبو صالح: يرثني النبوة، وقال الحسن ومجاهد: يرثني العلم
والنبوة، وقال السدي: يرث نبوته ونبوة آل يعقوب.
ويجوز فى (يَرِثُنِي) الرفع والجزم، فالرفع على النعت لولي،
وهي قراءة السبعة إلا أبا عمرو والكسائي فإنهما قرأا بالجزم،
والجزم على أنّه جواب الدعاء.
(1/218)
قوله تعالى: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا
أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ
رُطَبًا جَنِيًّا (25))
السري: الجدول في قول البراء بن عازب، وقال ابن عباس ومجاهد
وابن جبير: هو النهر، وقال الضحاك وقتادة وإبراهيم: هو النهر
الصغير، وقال الحسن وابن زيد السري: النهر معروف في كلام
العرب. قال لبيد:
فَتَوَسَّطا عُرْضَ السَّرِيِّ فَغَادَرَا ... مَسْجُورَةً
مُتَجاوِراً مُلاّمُها
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لم أُمِرت بهز الجذع، والله قادر أن
يسقط عليها الرطب من غير هَزٍّ منها؟
والجواب: أنّ الله تعالى جعل معائش الدنيا بتصرف أهلها وتطلبهم
لها.
ويُسأَل: بم انتصب (رُطَبًا جَنِيًّا)؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنّه مفعول لـ (هُزِّي)، أي: هُزِّي رطبًا جنياً
يتساقط عليك، هذا قول المبرد.
وقال غيره: هو نصب على التمييز. والعامل فيه (تُسَاقِطْ).
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي وابن عامر وأبو بكر عن
عاصم (تُسَّاقَطْ) بالتاء وردٌ الضمير إلى النخلة، والباء في
قوله (بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) زائدة.
(1/219)
وقرأ حمزة (تَسَاقَطْ) أراد: تتساقط، فحذف
التاء الثانية لأنها زائدة كراهة لاجتماع التاءين.
وقرأ حفص عن عاصم (تُسَاقِطْ) بضم التاء وكسر القاف مخففة
السين، جعله مثل: يطارق النَّعل، ويُعاقب اللص.
وقرئ في غير السبعة (يَسَّاقَطِ) على أنّ الضمير للجذع.
وقرأ نافع والكسائي وحمزة وعاصم في رواية حفص (فَنَادَاهَا
مِنْ تَحْتِهَا). وقرأ الباقون (مَنْ تَحْتَهَا) بفتح الميم
على معنى " الذي ".
واختلف فيمن ناداها:
فقال ابن عباس والضحاك وقتادة والسُّدِّي: ناداها جبريل عليه
السلام. وقال مجاهد ووهب بن منبه وسعيد بن جبير وابن زيد:
ناداها عيسى.
فعلى التأويل الأول يكون (تحت) بمعنى المحاذاة، والمعنى:
فناداها جبريل من البستان الذي تحتها؛ لأنّه يقال: داري تحت
دارك، بمعنى: محاذية لها.
وعلى التأويل الثاني يكون المعنى: فناداها من تحت ثيابها.
وكل الوجهين محتمل.
* * *
قوله تعالى: (قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا
فَرِيًّا (27))
الفري: العمل العجيب، قال الراجز:
قَدْ أَطعَمتني ذَقَلًا حَوليًّا ... مُسَوّسا مُدَوّدًا
حجريا.
قد كنتِ تفرين به الْفَرِيَّا
وقال قتادة وكعب وابن زيد والمغيرة بن شعبة يرفعه إلى النبي
صلى الله عليه: هارون رجل صالح في بني إسرائيل ينسب إليه من
عرف بالصلاح.
(1/220)
وقيل: هو هارون أخو موسى، نسبت إليه لأنها
من ولده، كما يقال: يا أخا بني فلان، وهو قول السُّدِّي.
وقيل: كان رجلا فاسقا معلنا بالفسق فنسبت إليه.
وقال الكلبي: هارون أخوها من أبيها.
ومعنى (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ): قالت كلموه.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لم قال (بَغِيًّا) وهو صفة مؤنث؟
والجواب: أنّ ما كان على (فَعُول) ووصف به المؤنث كان بغير
(هاء)، نحو: امرأة شكور وصبور إذا كان بمعنى (فاعل)، فإن كان
بمعنى (مفعول) ثبتت فيه " الهاء " نحو: حلوبة وقتوبة.
والأصل في (بَغِيًّا): بغوي، فاجتمعت الواو والياء وسبقت
الأولى بالسكون فوجب القلب والإدغام، وكسرت الغين لتصح الياء
الساكنة.
* * *
فصل:
ويُسأَل عن قوله تعالى (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي
الْمَهْدِ صَبِيًّا)، بم نصب (صَبِيًّا)؟
والجواب: أنّه منصوب على الحال، و (كان) بمعنى الحدوث. وهي
العاملة في الحال، ومثل
كان هاهنا قوله تعالى (وإن كان ذُو عُسْرَةٍ) أي: حضر ووقع،
ومثله قول الربيع:
إِذَا كانَ الشِّتاءُ فأدفِئُوني ... فإنَّ الشَّيْخَ
يُهْدِمُهُ الشِّتاءُ
ويجوز أن تكون زائدةً، نحو قول الشاعر:
جِيادُ بَني أبي بكرٍ تَسَامى ... عليَّ كَانَ المسَومةِ
العِرابِ
(1/221)
والعامل في الحال على هذا الوجه
(نُكَلِّمُ).
* * *
قوله تعالى: (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا
(62))
يسأل: كيف جاز (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً
وَعَشِيًّا)، وليس في الجنة ليل ولا شمس ولا قمر؟
والجواب: أنّ العرب خوطبت على قدر ما تعرف، فذكر البكرة والعشي
ليدل على المقدار، وكانت العرب تكره (الوجبة) وهي أكلة واحدة،
وتستحب الغداء والعشاء، فأعلمهم الله تعالى: أنّ لهم في الجنة
مثل ما كانوا يحبون في الدنيا.
* * *
قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا)
هذه الآية نزلت في العاص بن وائل السهمي، وذلك أنّ خباب بن
الأرت صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قينًا بمكة
يعمل السيوف فباع من العاص سيوفا، فأعملها له حتى إذا صار له
عليه مال جاء يتقاضاه، فقال له: يا خباب، أليس يزعم محمد هذا
الذي أنت على دينه، أنّ في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهبٍ أو
فضة أو ثيابٍ أو خدم؛ قال خباب: بلى، قال: فأنظرني إلى يوم
القيامة حتى أرجع إلي تلك الدار، فأقضيك هنالك حقك، فوالله لا
تكون أنت ولا أصحابك يا خباب آثر عند الله مني وأعظم حظا.
فأنزل الله تعالى فيه (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ
بِآيَاتِنَا) إلى آخر الآية.
(1/222)
قرأ حمزة والكسائي (وُلْدًا) بضم الواو
وإسكان اللام، وقرأ الباقون بفتح الواو، فأما الفتح فهي اللغة
المشهورة. وأما الضم وإسكان اللام. فيجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون، (وُلْد) و (وَلَد) بمعنى، كما يُقال: رُشد
ورَشد، وعُدم وعَدم، قال الشاعر:
فَليتَ فُلانًا كانَ في بطنِ أُمِّهِ ... وَليتَ فُلانًا كانتُ
وُلدِ حمارِ
وقال الحارث بن حلزة:
وَلقَد رأيتُ مَعاشِراً ... قَد أثمرُوا مالًا وَوُلدا
وقال رؤبة:
الحَمدُ للهِ العزيزُ فَردَا ... لم يتخِذْ مِن وُلد شيءٍ
وُلدا
والثاني: أن يكون الوُلد جمع الولد، كقولهم: أَسَد وأُسْد،
ووُثن ووَثن، وهي لغة قريش.
* * *
(1/223)
وَمِنْ سُورَةِ (طه)
قوله تعالى: (طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
لِتَشْقَى (2))
اختلف في معنى (طه):
فقيل: هو اسم للسورة. وقيل: هو اختصار من كلام يعلمه النبي صلى
الله عليه وسلم، وقيل: هو بالسريانية ومعناه: يا رجلًا. وهو
قول ابن عباس ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير.
ويجوز في (طه) أربعة أوجه:
أحدها: (طه) بفتح الطاء والهاء والتفخيم.
والثاني: (طه) بإمالتهما جميعاً.
والثالث: (طاهي) بتفخيم الأول وإمالة الثاني.
والرابع: (طهْ) بتسكين الهاء، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون المعنى (طأ) ثم أبدل من الهمزة هاء، كما يقال:
هرقت الماء، وهنرت الثوب وهرحت الدابة، في معنى: أرقت وأثرت
وأرحت.
والثاني: أن يكون على تخفيف الهمز كأنّه (طَ يا رجل) كما تقول:
رَ يا رجل، ثم أُدخلت الهاء للوقف.
وقد قرئ بهذه الوجوه كلها:
فالوجه الأول: قراءة ابن كثير وابن عامر ونافع في إحدى
الروايتين.
والثاني: قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر وعباس عن
أبي عمرو.
والثالث: عن أبي عمرو. وروي عن نافع بين الإمالة والتفخيم في
إحدى الروايتين.
ويروى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع رجله في الصلاة،
فأنزل الله تعالى عليه (طَهَ) أي: طء الأرض برجلك، فهذا يقوي
إسكان الهاء.
(1/224)
قوله تعالى: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ
أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33)
وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34))
الأزر: الظهر، يقال: آزرني فلانٌ على كذا، أي: كان لي ظهراً،
ومنه المنزر لأنّه يُشَدُّ على الظهر
قرأ ابن عامر (أَشْدُد بِهِ أَزْرِي) بقطع الألف (وأُشركُه في
أمري) بضم الألف، وقرأ الباقون بوصل الألف الأولى وفتح
الثانية، فمن قرأ (أَشْدُد بِهِ أَزْرِي) بقطع الألف (وأُشركه)
بضم الألف، فالألف ألف المتكلم، وجزم لأنّه جواب الدعاء الذي
هو (واجعل لي)، ومن وصل الألف وفتح الثانية جعله بدلًا من قوله
(واجعل لى).
ويُسأل عن قوله تعالى: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي
(29) هَارُونَ أَخِي (30))، أين مفعولا (واجعل)؟
وفي هذا جوابان:
أحدهما: أن يكون الكلام على التقديم والتأخير. حتى كأنّه قال:
واجعل لي من أهلي هارون أخي وزيرًا، فـ (هارون) مفعول أول، و
(وزيرًا) مفعول ثاني.
وإن شئت جعلت (وزيرًا) مفعولًا أولًا، و (لي) مفعولًا ثانياً،
وهذا الوجه الثاني.
ويجوز في هارون وجهان:
أحدهما: أن يكون نصباً بإضمار فعل، كأنّه قال: أعني هارون أخي.
أو: استوزر لي هارون أخي، لأنّ (وزيرا) يدل عليه.
(1/225)
والثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنّه
لما قال: واجعل لي وزيراً من أهلي، قيل له: من هذا الوزير؟ -
قال: هارون أخي، فهذا وجه في الرفع، إلا أنّ القراءة بالنصب،
فإن رفع رافع من القراء فهذا وجه.
ويجوز في النصب أن تضمر (أريد) كأنّه قيل له: من تريد؟ - قال:
أريد هارون أخي.
ويُسأَل عن قوله: (نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ
كَثِيرًا (34))؟
وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون نعتاً لمصدرٍ محذوف، كأنّه في التقدير:
نُسَبِّحَكَ تسبيحاً كثيراً ونذكرك ذكرًا كثيرًا.
والوجه الثاني: أن يكون نعتاً لظرف محذوف تقديره: نسبحك وقتاً
كثيراً، ونذكرك وقتاً كثيراً.
* * *
قوله تعالى: (فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا
نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ
مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ
ضُحًى (59))
قوله (مَكَانًا سُوًى)، قال السُّدِّي وقتادة: عدل، وقال ابن
زيد: مستوٍ.
وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم (سُوًى) بضم السين، وقرأ الباقون
بكسرها، والضم أكثر وأفصح؛ لأنّ (فُعَل) في الصفات أكثر من
(فِعَل) وذلك نحو: حُطَم ولُبَد، فهذا أكثر من باب عِدَى، وقد
قرئ (بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى)، و (طِوى)، والضم أفصح
لما ذكرناه، ومثل ذلك: ثِنى وثُنى وعِدَى وعُدى.
قال أبو عبيدة: السوى النَّصف والوسط، قال الشاعر:
(1/226)
وإنَّ أَبَانَ كَانَ حَلَّ ببَلْدَةٍ ...
سِوىً بَيْنَ قَيْسٍ قَيْسِ عَيْلانَ والغرزِ
و (يَوْمُ الزِّينَةِ): يوم عيد لهم. كذا قال السُّدِّي وابن
إسحاق وقتادة وابن جريج وابن زيد، وقيل يَوْمُ الزِّينَةِ: يوم
سوق لهم يتزينون فيه، وهو قول الفراء.
ويسأل عن قوله (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) كيف رفع
(يَوْمُ الزِّينَةِ)، وجعله الموعد، وإنما الموعد مصدر؟
وفي هذا جوابان:
أحدهما: أن يكون على الحذف، كأنّه في التقدير: يوم موعدكم يوم
الزينة ثم حذف على حد قوله (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) وإن شئت
قدرته: قال موعدكم موعد يوم الزينة. ثم حُذفت على ما قدمناه،
ومثله قوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)، تقديره:
مواقيت الحج أشهر معلومات، وكذلك قوله تعالى: (وَحَمْلُهُ
وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا)، أي: مدة حمله وفصاله ثلاثون
شهراً.
والثاني: أن تجعل (موعد) ظرف زمان، فتخبر بالظرف عن الظرف،
وهذا كقولهم: أتت الناقة على مضربها، أي: على زمان ضرابها،
ومثله قولك: كان ذلك مغار ابن همام، وأمارة الحجاج، وخلافة عبد
الملك، ومقتل الحسين وما أشبه ذلك. ويقال: جئته خفوق النجم
وطلوع الشمس، فجعلوا هذه المصادر ظروفاً.
وقد قرأ الحسن (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) بالنصب، وهو
أيضا على حذفٍ، كأنّه في التقدير:
(1/227)
محل موعدكم كائن يوم الزينة، أو واقع،
لأنّه لم يعدهم في يوم الزينة، ولكنه وعدهم الاجتماع معه في
يوم الزينة.
وقوله (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) في موضع رفع على
تقدير: موعدكم يوم الزينة. ويوم حشر الناس ضحى، وتكون (أنّ مع
الفعل) مصدراً، ثم حذفت (يوم) لدلالة ما تقدم عليه.
ويجوز أن يكون في موضع جر، تعطفه على (الزينة) حتى كأنّه في
التقدير: موعدكم يوم الرينة ويوم حشر الناس ضحى.
* * *
قوله تعالى: (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ
أَنْ يُخْرِجَاكُمْ)
قال مجاهد (بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى) بأولي العقل والشرف
والأنساب. وقال أبو صالح: بسراة الناس، وقال قتادة: ببني
إسرائيل، وكانوا أولي عددٍ ويسار، وقال ابن زيد: طريقتكم التي
أنتم عليها في السيرة.
وقرأ ابن كثير (إِنْ هَذَانِّ لَسَاحِرَانِ) بتشديد النون من
(هذان) وتخفيف (إن)، وقرأ عاصم من طريقة حفص (إنْ هذان) بتخفيف
النون وتخفيف (إن)، وقرأ أبو عمرو بتشديد (إنَّ) ونصب (هذين)،
وقرأ الباقون (إنَّ هذانِ) بتشديد (إنَّ) ورفع (هذان).
فوجه قراءة ابن كثير: أنّه جعل (إنْ) مخففة من الثقيلة، وأضمر
فيها اسمها. ورفع ما بعدها على الابتداء والخبر، وجعل الجملة
خبر (إن)، هذا قول البصريين، وفيه نظر، لأنّ (اللام) لا تدخل
على خبر المبتدأ إلا فى ضرورة شعر، نحو قوله:
(1/228)
أُمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ ...
تَرْضى مِنَ الشاةِ بِعَظْمِ الرَّقَبَهْ
وقال الكوفيون: " إنْ " بمعنى " ما " و " اللام " بمعنى " إلا
"، والتقدير: ما هذان إلا ساحران، وهذا قول جيد. إلا أنّ
البصريين ينكرون مجيء " اللام " بمعنى " إلا ".
والقول على قراءة عاصم من طريق حفص كالقول على قراءة ابن كثير.
فأما تشديد النون في قراءة ابن كثير ففيها وجهان:
أحدهما: أن يكون تشديدها عوضاً من ألف (هذا) التي سقطت من أجل
حرف التثنية.
والثاني: أن يكون للفرق بين النون التي تدخل على المبهم والتي
تدخل على المتمكن، وذلك أنَّ هذه النون إنما هي وجدت مشددة مع
المبهم.
وقد قيل: إنما شددت للفرق بين النون التي لا تسقط في الإضافة،
والنون التي تسقط في الإضافة.
وأما قراءة أبي عمرو: فوجهها بيِّن؛ لأنّ (إنَّ) تنصب الاسم
وترفع الخبر، إلا أنها مخالفة للمصحف، وقد قرأ بذلك عيسى بن
عمر، واحتجا بأنه غلط من الكاتب، وقد رُوي مثل ذلك عن عائشة
رضي الله عنها، رواه أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن
عائشة، وكان عاصم الجحدري يقرأ كذلك، فإذا كتب كتب (إن هذان)،
واحتجوا له بقول عثمان رضي الله عنه:
(أرى في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها)، وهذان الخبران لا
يصححهما أهل النظر، ولعل أبا عمرو وعيسى بن عمر وعاصما الجحدري
ما قرأوا إلا ما أخذوه عن الثقات من السلف.
(1/229)
وأما قراءة الجماعة (إِنّ هَذَانِ
لَسَاحِرَانِ): فذهب قوم إلى أنّ (إنّ) بمنزلة (نعم)، وأنشدوا:
وَلَا أُقِيمُ بِدارِ الهُونِ إِنَّ وَلَا ... آتِي إِلى
الغدرِ أَخشَى دونَه الحمجا
وأنشدوا أيضاً:
بَكَرَ العَواذِلُ في الصبُو ... حِ يَلُمْنَني
وأَلوْمُهُنَّهْ
ويَقُلْنَ شَيْبٌ قد عَلا ... كَ وَقَدْ كبِرْتَ فَقُلْتُ
إِنَّهْ
وهذا القول لا يصح عندنا لأمرين:
أحدهما: أنها إذا كانت بمعنى (نعم) ارتفع ما بعدها بالابتداء
والخبر، وقد تقدم أنّ (اللام) لا تدخل على خبر مبتدأ جاء على
أصله.
والثاني: أنّ أبا علي الفارسي قال: ما قبل (إنّ) لا يقتضي أن
يكون جوابه (نعم)؛ لأنَّك إن جعلته جوابا لقوله (تَنَازَعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) - قالوا: نعم
هذا لساحران كان محالًا أيضاً.
وقيل: الهاء مضمرة بعد (إنّ)، وفيه أيضا نظر من أجل دخول اللام
في الخبر ولأنَّ إضمار الهاء بعد (إنَّ) المشددة إنما يأتي في
ضرورة الشعر، نحو قوله:
إنّ مَن يدخُل الكنيسةَ يوماً ... يلق فيها جَآذرًا وظباءَ
وقيل: لما كانت (إنَّ) مشبهة بالفعل. وليست بأصل في العمل
ألغيت هاهنا، كما تلغى إذا خُفِّفت، وهذا قول علي بن عيسى
الرماني، وهو غير صحيح، لأنها لم تلغ مشددة فى غير هذا الموضع،
وأيضاً فإنها قد أعملت مخففة نحو قوله تعالى: (وَإِنَّ كُلًّا
لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ)
(1/230)
في قراءة من قرأ كذلك، لأنها إنما عملت
لشبهها بالفعل كما ذكره والفعل قد يعمل وهو محذوف، نحو: لم يك
زيدٌ قائماً، ولم يخشَ عبدُ الله أحداً وما أشبه بذلك، وقد
أعمل اسم الفاعل والمصدر لشبههما بالفعل، ولا يجوز إلغاؤهما.
وأيضاً فإن (اللام) تمنع من هذا التأويل؛ لأنّ (إن) إذا ألغيت
ارتفع ما بعدها بالابتداء و (اللام) لا تدخل على خبر المبتدأ
كما قدمناه.
وقيل: (هذان) في موضع نصب إلا أنّه مبني لأنّه حُمِل على
الواحد والجمع وهما مبنيان، نحو: هذا: هَؤُلَاءِ. وهذا أيضاً
غير صحيح؛ لأنَّه لا يعرف في غير هذا المكان. ولأن التثنية لا
تختلف ولا تأتي إلا على طريقة واحدة. والواحد والجمع يختلفان.
فجاز منهما البناء ولم يجز في التثنية لأنّ فيها دليل الإعراب
وهو (الألف) ومحال أن تكون الكلمة مبنية معربة في حال.
وقيل: هذه الألف ليست بألف تثنية، وإنما هي ألف (هذا) زيدت
عليها النون، وهذا قول الفراء، وهو أيضًا غير صحيح؛ لأنّه لا
تكون تثنيةً ولا علم للتثنية فيها، فإن قيل: النون علم
التثنية، قيل: النون لا يصح أن تكون علم التثنية لأنها لم تأت
في غير هذا الموضع كذلك، ألا ترى أنها تسقط في نحو قولك: غلاما
زيد، فلو كانت علم التثنية لم يجز حذفها، وإنما النون في قولك
(هذان) عوض من الألف المحذوفة هذا قول السيرافي، وقال أبو
الفتح: هذه النون دخلت في المبهم لشبهه بالمتمكن وذلك أنّه
يوصف ويوصف به ويصغر، فأشبه المتمكن من هذه الطريقة، ألا ترى
أنّ المضمر لما بَعُد من المتمكن لم يوصف ولم يوصف به ولم
يصغر.
وقال الزجاج: في الكلام حذف، والتقدير: إنه هذان لهما ساحران.
فحذف (الهاء) فصار: إن هذان لهما ساحران، ثم حذف المبتدأ الذي
هو (هما) فاتصلت اللام بقوله (ساحران) فصار: إنّ هذان لساحران،
فـ (لساحران) على هذا القول خبر مبتدأ محذوف وذلك المبتدأ مع
خبره خبر عن (هذان) و (هذان) مع خبره خبر (إنّ)، وقد ذكرنا ما
في حذف (الهاء) من القبح. وأنه من ضرورة الشعر، وأما ما ذكره
من إضمار المبتدأ تخيلا للام فتعسف لا يعرف له نظير.
(1/231)
وأجود ما قيل في هذا أنها لغة بالحارث بن
كعب؛ لأنهم يجرون التثنية في الرفع والنصب والجر مجرى واحدًا،
فيقولون: رأيت الزيدان ومررت بالزيدان، قال بعض شعرائهم:
فَأطرقَ إِطْراقَ الشُّجاعِ ولو يَرى ... مَسانماً لِنَاباهُ
الشُّجاعُ لصمّما
وقال آخر:
تَزَوَّد منَّا بَيْنَ أُذْنَيهِ طَعنةً ... دَعَتْه إِلَى
هَابِي الترابِ عَقيمِ
وقال آخر:
وَاهًا لرَيَّا ثُمَّ وَاهًا واهَا ... يَا لَيْتَ عَيْناها
لَنَا وَفَاهَا
هي المنى لو أننا نلناها ... بثمنٍ نُرضي به أباها
إنَّ أباها وأبا أباها ... قد بَلَغا في المجدِ غايتاها
وقال آخر:
أَيُّ قَلُوصٍ راكبٍ تَراها ... طاروا علاهُنّ فَطِر علاها
يريد: طاروا عليهن فطر عليها فأبدل الياء ألفاً.
وزعم بعض المتأخرين أنّ هذه الألف مشبهة بألف (يفعلان) فلما لم
تنقلب هذه لم تنقلب تلك، وهذا فاسد؛ لأنّ هذه ضمير في حيز
الأسماء وتلك علامة للتثنية وهي حرف، والألف في (يفعلان) لا
يصح أن تنقلب؛ لأنَّه لا يتعاقب عليها ما يغير معناها، لأنها
لا تكون إلا فاعلة أو ما يقوم مقام الفاعل وهو ما لم يسم
فاعله. والألف في (هذان) حرف إعراب وفيه دليل الإعراب والعوامل
تغير أواخر الكلم.
(1/232)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى
مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي)
اليبس: المكان اليابس وجمعه أيباس.
قال المفسرون المعنى اجعل لهم طريقا يابساً في البحر يعبرون
فيه لا تخاف لحوقا من عدوك ولا
تخشى من هول البحر الذي انفرج لك.
ومعنى قوله: (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ)، أي:
ما سمعتم به، وجاءتكم به الأخبار، ومثله قول أبي النجم:
أنَا أبُو النجم وشِعري شِعري
أي: شعري الذي سمعت به وعلمت.
قرأ حمزة (لَا تَخَفْ دَرَكًا)، وقرأ الباقون (لَا تَخَافُ
دَرَكًا)، وأجمعوا على (وَلَا تَخْشَى) بالألف.
فتحتمل قراءة حمزة وجهين:
أحدهما: أن يكون جزاء والثاني: أن يكون نهياً.
وأما قراءة الجماعة فإنه يكون حالًا، كأنّه في التقدير، وأسر
بعبادي غير خائفٍ ولا خاشٍ، ومثله قراءة حمزة (يُوَلُّوكُمُ
الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ).
(1/233)
أي: ثم هم لا ينصرون، وكذلك في الآية
الأخرى: لا تخف وأنت لا تخشى.
وقد ذهب بعضهم إلى أن (تخشى) في موضع جزم بالعطف على (لا تخف)،
وأن الألف تثبت في موضع الجزم على حد قول الراجز:
إذا العَجُوزُ غَضبت فطلّقْ ... ولا ترضَاها ولا تملّقْ
وهذا وجه ضعيف لا يُحمل القرآن عليه.
* * *
قوله تعالى: (يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ
فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117))
يقال: زوج وزوجة، وعلى اللغة الأولى جاء القرآن، ومن اللغة
الثانية قول الشاعر:
وإِنَّ الَّذِي يَسْعَى ليُفْسِدَ زَوْجَتِي ... كسَاعٍ إِلى
أُسْدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُها
والظمأ: العطش، ويضحى: ينكشف إلى الشمس، قال عمر بن أبي رييعة:
رَأَتْ رَجُلًا أَمَّا إِذا الشَّمْسُ عارضَتْ ... فيَضْحَى
وأَمَّا بالعَشيِّ فَيَخْصَرُ
يقال: ضحي الرجل يضحي إذا برز للشمس، قال ابن عباس وقتادة
وسعيد بن جبير: لا تعطش ولا يصيبك حرُّ الشمس.
(1/234)
فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: لم قال (فَلَا
يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى)، ولم يقل:
فتشقيا؟
والجواب: أنّ المعنى على ذلك، لأنّه خطاب له ولزوجه. إلا أنّه
اكتفى بذكره عن ذكرها، لأنّ أمرهما في السبب واحد فاستوى
حكمهما في استواء العلة.
ومما يسأل عنه أن يقال: كيف جمع بين الجوع والعري. وبين الظمأ
والضحو. والظمأ من جنس الجوع، والضحو من جنس العري؟
وعن هذا جوابان:
أحدهما: أنّ الضحو الانكشاف إلى الشمس على ما تقدم. والحر عنه
يكون، والظمأ أكثر ما يكون من شدة الحر، فجمع بينهما في اللفظ
لاجتماعهما في المعنى. وكذلك الجوع والعري يتشابهان من قِبل أن
الجوع عرى في الباطن من الغذاء، والعري ظاهر للجسم.
والجواب الثاني: أنّ العرب تلف الكلامين بعضهما ببعض اتكالًا
على علم المخاطب، وأنه يرد كل واحدٍ منهما إلى ما يشاكله، قال
امرؤ القيس:
كأَنِّي لَمْ أَرْكَبْ جَواداً لِلَذَّةٍ ... وَلَمْ
أَتَبطَّنْ كاعِباً ذاتَ خَلْخالِ
ولم أَسْبَأ الزِّقَّ الرَّويَّ ولم أقْلْ ... لخيلي كُرِّي
كَرَّةً بعد إجْفالِ
وكان حقه أن يقول: كأني لم أركب جواداً للذة، ولم أقل لخيلي
كُرِّي، ولم ولم أَسْبَأ الزِّقَّ الرَّويَّ، ولم أتبطن كاعبا.
وقد تؤول قول امرئ القيس على الجواب الأول، وذلك أنّه جمع في
البيت الأول بين ركوبين: ركوب لجواد وركوب الكاعب، وجمع في
الثاني بين سباء الخمر والإغارة لأنهما يتجانسان
* * *
فصل:
ومما يُسأل عنه أن يقال: لم جاز أن تعمل (إنَّ) في (أنَّ)
بفصلٍ، ولم يجز من غير فصل؟
والجواب: أنّهم امتنعوا عن ذلك كراهة للتعقيد بمداخلة المعاني
المتقاربة، فأما المتباعدة فلا يقع فيها تعقيد بالاتصال، لأنها
مباينة مع الاتصال لألفاظها، فلذلك جاز (إِنَّ لَكَ أَلَّا
تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ
فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)) ولم يجز: إن إنك لا تظمأ فيها؛
لأنّه بغير فصل. وقرأ نافع وعاصم من طريقة أبي بكر (وَإِنَّكَ
لَا تَظْمَأُ فِيهَا) بالكسر، وقرأ الباقون بالفتح.
(1/235)
فمن كسر عطف على (أَنَّ لَكَ أَلَّا
تَجُوعَ)، ومن فتح فيجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون في موضع نصب عطفا على اسم (إنَّ).
والثاني: أن يكون في موضع رفع على تقدير: ولك أنك لا تظمأ
فيها.
* * *
(1/236)
|