إعراب القرآن للأصبهاني

وَمِنْ سُورَةِ (الْأَنْبِيَاءِ)
قوله تعالى: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2))
يسأل عن معنى (مُحْدَثٍ)؟
وفيه وجهان:
أحدهما: أنّ المعنى محدث إنزاله، فحذف لدلالة الكلام عليه.
والثاني: أنّ الذكر هاهنا الموعظة، والمعنى: ما يأتيهم ذكر، أي: موعظة محدثة إلا استمعوها وهم يلعبون.
ويجوز في (مُحْدَثٍ) الرفع والجر والنصب:
فالجر: بالرد على ذكر، والرفع: على موضع ذكر. والنصب على الحال.
ويُسأل عن موضع (الذين) فى قوله: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)؟
وفيه ستة أجوبة:
أحدها: أنّ موضعه رفع على البدل من الواو في (أَسَرُّوا)
والثاني: أنّ موضعه رفع بإضمار فعل تقديره: يقول الذين ظلموا.
والثالث: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين ظلموا.
والرابع: أن يكون رفعا بـ (أَسَرُّوا) على لغة من قال: أكلوني البراغيث.
فهذه أربعة أوجه في الرفع.
والخامس: أن يكون في موضع نصبٍ بإضمار (أعني).

(1/237)


والسادس: أن يكون في موضع جر بدلًا من " الناس " في قوله تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ).
وقد ذهب بعضهم إلى أنّه نعتٌ للناس.
فهذه سبعة أوجه.
* * *

قوله تعالى (أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا)
النقص: نقيض الزيادة، واختلف العلماء في معنى (نَنْقُصُهَا):
فقال بعضهم: ننقصها بخرابها، وقيل: بموت أهلها، وقيل: ننقصها من أطرافها بما يفتح الله جل وعز على نبيه، وما ينقص من الشرك بإهلاك وقيل: ننقصها بموت العلماء؛ لأنَّه من أشراط الساعة، وقد جاء في الحديث: (إن الله لا ينتزعُ العلم انتزاعاً ولكن ينتزعه بموت العلماء فيتخذ الناس رؤوسا جهالًا فيَضلون ويُضلون)، وكان يقال: الأطراف مكان الأشراف.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: ما الأصل فى قوله (أَنَّا)؟
والجواب: أنّ الأصل فيها: أننا فحذفت إحدى النونات كراهة لاجتماع ثلاث نونات، والوجه أن تكون المحذوفة الوسطى لأنّ الثالثة اسم مع الألف ولا يجوز حذفها. والأولى ساكنة ولو حذفتها لالتقى مثلان فيجب إسكان الأولى وإدغامها في الثاني، فيجتمع إعلالان، والعرب تفر من مثل هذا.
وقيل في قوله: (أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ) أنّ معناه: أفهُم الغالبون على رسول الله صلى الله عليه توبيخاً لهم، وهو قول قتادة، وقيل: من يحفظهم مما يريد الله إنزاله بهم من عقوبات الدنيا والآخرة.

(1/238)


قوله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ)
النفش: الرعي ليلًا. هذا قول شريح، وقال الزهري: النفش: العمل بالنهار أيضاً.
ومما يسأل عنه أن يقال: كيف أضاف الحكم إليهما. وإنما المتسبب فى الحكم أحدهما؟
والجواب أنّ المعنى: إذ أسرعا في الحكم من غير قطع به. ويجوز أن يكون المعنى: إذ طلبا الحكم في الحرث، ولم يبتدأا به بعدُ، ويجوز أن يكون داود عليه السلام حكم حكما معلقا بشرط يفعله معه. كل ذلك قد قيل.
* * *
فصل:
ومما يُسأل عنه أن يقال: ما الحرث الذي حكما فيه؟
والجواب أنّ قتادة قال: كان زرعا وقعت فيه الغنم ليلا ورعته، وقال ابن مسعود وشريح: كان كرماً قد نبتت عناقيده. قال ابن مسعود: كان داود عليه السلام حكم لصاحب الكرم بالغنم. فقال له سليمان عليه السلام: غير هذا يا نبي الله، قال: وماذاك؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان. وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم كما كان دفع كلُّ واحدٍ منهما إلى صاحبه. وفي هذه الآية دلالة على النظر والاجتهاد.
* * *
فصل:
ومما يُسأل عنه أن يُقال: كيف قال (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ) وهما اثنان؟
وعن هذا جوابان:
أحدهما: أنّه وضع الجمع موضع التثنية. والعرب تفعل ذلك وعليه قوله تعالي: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ). قال ابن عباس: أخوان فصاعدا.

(1/239)


وقال تعالى: (وَألقَى الألواحَ)، جاء في التفسير أنهما لوحان.
والثاني: أن يكون أدخل معهما المحكوم لهم.
والأوّل أولى؛ لأنّ المحكوم لهم، لم يحكموا وإنما حُكم لهم.
وداود وسليمان عطف على قوله تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا)، وكذلك قوله: (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ) (وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ).
* * *

قوله تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ)
النون: الحوت، وجمعه نينان قياسًا لا سماعاً.
وذو النون: يونس بن متى عليه السلام، قال ابن عباس والضحاك: غضب على قومه، وقيل: خرج قبل الأمر بالخروج على عادة الأنبياء عليهم السلام.
ومعنى (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي: لن نضيق عليه، ومنه قوله تعالى: (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ).

(1/240)


أي: ضيِّق، وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك، وقال تعالى: (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ). والمعنى على هذا: فظن أنّ لن نضيق عليه فنادى في الظلمات أنّ لا إله إلا أنت سبحانك. والظلمات هاهنا: ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت. هذا قول ابن عباس وقتادة، وقال سالم بن أبي الجعد: كان حوت في بطن حوت.
وقدر بعض السلف حذف حرف الاستفهام، كأنّه قال: أفظن أنّ لن نقدر عليه، وأنكره علي بن عيسى، وقال لا يجوز حذف حرف الاستفهام من غير دليل عليه، وقال الأصمعي: ما حذفت ألف الاستفهام إلا وعليها دليل، وقد جاء حذفها على خلاف ما قال، أنشد النحويون لعمر بن أبي ربيعة:
ثم قالو تُحبُّها قُلتُ بَهراً ... عَدَدَ النجمِ والحصَى والتُرابِ
أي: أتحبها؟
وروي عن الشعبي وسعيد بن جبير أنهما قالا: خرج مغاضباً لربه، وهذا القول مرغوب عنه، لا يجوز مثل هذا على نبى من أنبياء الله تعالى، وقال بعضهم: غضب لما عفا الله عنهم إذ آمنوا، وهذا القول أيضاً لا يصح، لأنّه يؤدي إلى الاعتراض على الله تعالى فيما فعله، وأشدُّ من هذا ما رواه بعضهم من أنّ المعنى في قوله: (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) ظن أننا نعجز عنه، وهذا كفر، فمن ظن أنّ الله تعالى لا يقدر عليه، لا يجوز هذا كله على أنبياء الله تعالى.
وفى هذه الآية دلالة على أنّ الصغائر تجوز على الأنبياء علهم السلام، وهم معصومون عن الكبائر، ومعصومون عن الكبائر والصغائر في حال الرسالة.
وكان بقاء يونس عليه السلام في بطن الحوت حياً معجزة له.

(1/241)


وقيل في قوله (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) معناه: من الظالمين لنفسي في خروجي عن قومي قبل الإذن.
ومغاضب: اسم الفاعل من غاضب، و (فاعل) في غالب الأمر إنما يكون من اثنين. نحو: قاتلته وصارمته، إلا أنّ (مغاضبًا) هاهنا من باب: عاقبت اللص وعافاه الله وطارقت النعل. وما أشبه ذلك في أنّه من واحد.
* * *

قوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98))
قال ابن عباس: حَصَبُ جَهَنَّمَ وقودها، وقال مجاهد: حطبها. وقال الضحاك: يرمون فيها كما يرمى بالحصباء، وقيل: الحصب كل ما ألقي في النار.
حدثني أبي عن عمه إبراهيم بن غالب عن القاضي منذر بن سعيد عن أبي النجم عصام بن منصور عن أبي بكر عبد الله بن عبد الرحيم حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام حدثنا زياد بن عبد الله البكاي عن محمد بن إسحاق قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معه، وفي الجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ثم تلا عليه وعليهم: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) الآية، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عبد الله بن الزبعرى حتى جلس، فقال له الوليد بن المغيرة: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفاً ولا قعد، وقد زعم محمد أنَّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبد الله بن الزبعرى: والله لو وجدته لخصمته، فاسألوا محمداً: أكل ما نعبد من دون الله في جهنم مع من عبده. فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيراً والنصارى تعبد عيسى ابن مريم عليه السلام، فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى، ورأوا أنّه قد احتج وخاصم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه السلام (من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده في النار، إنما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته).

(1/242)


فأنزل الله تعالى عليه (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا) الآية. أي: عيسى وعزير ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أرباباً من دون الله، فنزل فيما ذكروا أنّهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ) إلى قوله (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29))، ونزل فيما ذكر من أمر عيسى عليه السلام. وأنه يعبد من دون الله. وعجب الوليد ومن حضر من حجة عبد الله الزبعرى وخصومته (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ)، أي: يصدون عن أمرك. ثم ذكر عيسى، فقال: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ)، إلى آخر القصة، قال أبو ذؤيب في الحصب:
فَأُطفِء ولا تُوقدِ وَلا تكُ محصبا ... لنِارِ العُداةِ أنْ تَطِيرَ شَكَاتُها
* * *

قوله تعالى: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ)
الطيُّ: نقيض النشر. واختلف في السجل:
فقيل: الصحيفة تطوى على ما فيها من الكتابة، وهو قول ابن عباس ومجاهد.
وقال ابن عمرو والسُّدِّي: السجل ملك يكتب أعمال العباد.
وروي عن ابن عباس من جهة أخرى أنّ السجل كاتب كان للنبي صلى الله عليه وسلم.
قرأ عاصم وحمزة من طريق حفص والكسائي (لِلكُتُبِ)، وقرأ الباقون (للكتَاب).

(1/243)


ويختلف حكم " اللام " في قوله: (للكتاب) و (للكتب) بقدر اختلاف العلماء في معنى (السجل):
فعلى مذهب من جعل (السجل) ملكاً وكاتباً فـ (اللام) يتعلق بنفس (طي)، لأنّ الكتب مفعولة في المعنى، وذلك أنّ التقدير: كما يطوي السجلُ الكتابَ أو الكتبَ، وهذا كقولك: كضرب زيد لعمرو وأما على مذهب من جعل (السجل) الصحيفة فتحتمل (اللام) وجهين:
أحدهما: أن يكون الكتاب بمعنى الكتابة، والتقدير: يوم نطوي السماء كطي السجل للكتابة التي فيه، أي: من أجلها؛ ليصونها الطي، وهذا كما تقول: فعلت ذلك لعيون الناس، أي: من أجل عيون الناس.
والثاني: أن تعلقها بـ (نطوي) فيكون التقدير: يوم نطوي السماء للكتاب السابق بأنها تطوى كطي السجل. أي: كطي الصحيفة على ما فيها.
* * *

(1/244)


وَمِنْ سُورَةِ (الْحَجِّ)
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
الزلزلة: شدة حركة الأرض. وزعم بعضهم: أنّ الأصل في (زلزل): زلّ، فضوعف للمبالغة، وأهل البصرة يمنعون من ذلك يقولون (زلّ) ثلاثي. و (زلزل) رباعي، وإن اتفق بعض الحروف في الكلمتين، لأنّه لا يمتنع مثل هذا، ألا ترى أنّهم يقولون: دَمِثٌ ودمثر، وسبط. وسبطر، وليس أحدهما مأخوذاً من الآخر، وإن كان معناهما واحداً، لأنّ الزاي ليست من حروف الزيادة.
والساعة: كناية عن القيامة.
والعظيم: نقيض الحقير.
والذهول: الذهاب عن الشيء دهشاً وحيرة، قال الشاعر:
صَحَا قَلبُه يَا عزُّ أو كَادَ يذَهَلُ
والحمل: بفتح الحاء، ما كان في البطن، والحِمل: بالكسر ما كان على ظهر أو رأس، أما ما كان على الشجرة فقد جاء فيه الفتح والكسر: فمن فتح فلظهوره عن الشجرة بالماء الذي يصيبها كظهور الولد عن المرأة بماء الرجل، ومن كسر فلأنه شيء ظاهر عليها كظهور ما يكون على الظهر أو الرأس.
قال الشعبي وعلقمة: الزلزلة من أشراط الساعة في الدنيا، وروى الحسن في حديث يرفعه: أنّ زلزلة الساعة يوم القيامة.
قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام. وتضع ما في بطنها لغير تمام، وتراهم سكارى من الفزع وما هم بسكارى من شرب الخمر.
والفرق بين المرضع والمرضعة: أنّ المرضع التي أرضعت وانقطع رضاعها. والمرضعة هي التي ترضع ولم ينقطع رضاعها.

(1/245)


قال امرؤ القيس في المرضع:
فَمِثْلُكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ ومُرْضِعٍ ... فأَلْهَيْتُها عَنْ ذِي تَمَائِمَ محوِلِ
إنما خصت التي في حال رضاعها بظهور التأنيث فيها؛ لأنَّه جار على الفعل، نحو: أرضعت فهي مرضعة، والثاني إنما هو على طريق النسب. أي: ذات رضاع، ويقال: رَضَاع ورِضاع ورَضاعة ورِضاعة. ويقال: رَضِع بكسر الضاد وهي الفصحى، ويقال: رَضَعَ بالفتح، ويُنشَد هذا البيتُ على اللغتين:
وذَمُّوا لَنَا الدُّنْيا وَهُمْ يَرْضَعُونها ... أفاوِيقَ حَتَّى مَا يَدِرُّ لَهَا ثعْلُ
ويقال: سُكارى وسَكارى وهو الباب.
وقرأ بعضهم (سَكْرَى) شبهه بصريع وصرعى، ذلك أنَّ السكران مشرف على الهلكة، وباب (فعلى) مرضوع لهذا نحو: قتلى وصرعى وزمنى وهلكى.
وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ):
يا: حرف نداء، وهو نائب عن الفعل الذي هو (أدعو) و (أنادي)، واختلف قول أبي علي فيه: فمرة جعل فيه الضمير الذي كان في (أدعو وأنادي)، ومرة قال لا ضمير فيه، وهو الوجه؛ لأنّ الحروف لا يضمر فيها.
وأيُّ: منادى مفرد مبني على الضم، وكذا حكم كل منادى مفرد معرفة.

(1/246)


وإنما بني لأنّه أشبه المضمر من ثلاث جهات:
أحدها: أنّه مخاطب، والمخاطب لا يكون إلا مضمراً " كافًا " أو " تاء ".
والثانية: أنّه معرفة كما أنّ المضمر لا يكون إلا معرفة.
والثالثة: أنّه مفرد أي غير مضاف، كما أنّ المضمر لا يضاف.
فمتى سقطت واحدة من هذه الخصال أعرب المنادى.
و (ها): عوض من قطع الإضافة عن (أي)؛ لأنها لا تكون أبداً في غير هذا المرضع إلا مضافة لفظاً أو معنى، لأنَّها تدل على بعض الشيء، وبعض الشيء مضاف إلى جميعه.
واشتقاقها من (أُوي)، ففعلوا بها ما فعلوا ب (طيّ) و (ليّ)، وأصلها (طويٌ) و (لويٌ)، وكذا الأصل فى (أي) (أوي). والاشتقاق في الأسماء المبهمة عزيز لا يكاد يوجد منه إلا حروف يسيرة لإيغالها في شبه الحرف، والحرف غير مشتق نحو: من وإلى وهل وما أشبه ذلك.
و (الناس) نعت لـ (أيّ) لا يستغني عنه؛ لأنّه المنادى في المعنى، وإنما جاءوا ب (أيّ) ليتوصلوا بها إلى نداء ما فيه الألف واللام، وكان أبو الحسن الأخفش يقول في (الناس) وما يجري مجراه: هو صلة لـ (أي).
وأجمع النحويون على الرفع في (الناس) إلا المازني، فإنه أجاز النصب وشبهه بقولك: يا زيدُ الظريفَ، حمله على (أيّ)، وهذا غير مرض منه؛ لأنَّ (الظريف) نعت يُستغنى عنه. وليس كذلك (الناس).
و (الألف واللام) في (الناس) للعهد، وقيل للجنس، وتُأول على قول سيبويه: أنهما بدل من الهمزة؛ لأنَّ الأصل (أناس) فحذفت الهمزة، وجعلت " الألف واللام " عوضا منها، وقال الفراء: الأصل (الأناس) فألقيت حركة الهمزة على " اللام " وحذفت، فصار (الناس) فاجتمع المتقاربان فأسكِن الأول وأدغِم في الثاني، وقال الكسائي: يقال يا ناس وأناس، فالألف واللام دخلتا على " ناس ".

(1/247)


فمن قال: " أناس " أخذه من الأنس أو الإنس، وهو (فُعال). ومن قال: (ناس) أخذه من ناس ينوس إذا ذهب وجاء، ومنه قيل: ذو نواس لذؤابة كانت عليه، ويجوز أن يكون من ناس في المكان إذا أقام فيه، وإن كان (الناووس) عربياً كان مشتقاً من هذا. وقال ابن الأنباري هو من (نسيت) والأصل فيه (نسيَ) ثم قلب فصار (نَيَسًا) فقلبت الياء ألفاً، لتحركها وانفتاح ما قبلها، فقيل (ناس). ويبطل هذا بقول العرب في تصغيره (نويس) ولم يقولوا (نييس) ولا (نُسَيّ).
والعامل في (يَوْمَ تَرَوْنَهَا) " تذهل " أي: تذهل كل مرضعة عما أرضعت وفي يوم ترونها.
* * *

قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ)
الهاء في (عليه) تعود إلى الشيطان.
ويُسأل عن قوله: (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ)، لم فُتِحت (أنّ)؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنّه عطف على الأولى للتوكيد، والمعنى: كتب عليه أنّه من تولاه يضله، وهذا قول الزجاج، وفيه نظر لأنّ الأكثر في التوكيد إسقاط حرف العطف، إلا أنّه يجوز كما يجوز (زيدٌ) فأفهم في الدار.
والثاني: أن يكون المعنى: فلأنه يضلّه.
* * *

قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ)

(1/248)


الحرف: الطرف، والاطمئنان: التمكن، والفتنة: هاهنا: المحنة. والانقلاب: الرجوع، والخسران: ضد الربح.
والمولى في الكلام على تسعة أوجه:
المولى: السيد، والمولى: العبد، والمولى: المنعم، والمولى: المنعَم عليه، والمولى: ابن العم، والمولى: واحد الموالي وهم العصبة، والمولى: الوليّ، والمولى: الصهر، والمولى: الأولى، من قوله تعالى:
(هي مَولاهُمْ) أي: أولى بهم، والمولى: الخليف.
وقيل المولى هاهنا: الولي والناصر، والعشير: الصاحب المعاشر.
قال أبو عبيدة في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ)، أي: شاكاً، وأصل الحرف: الطرف، ومن كان متطرفا لم يطمئن ولم يثبت وكذلك هذا إنما عبد الله على ضعف في العبادة كضعف القائم على حرف، لأنّه لم يتمكن في الدين.
* * *
فصل:
ويُسأَل عن قوله تعالى: (يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ)، لم دخلت هذه (اللام) هاهنا، وأنتم لا تجيزون: ضربت لزيداً؟
وفي هذا للعلماء ثلاثة أجوبة:

(1/249)


أحدها: أنّ في الكلام حذفاً، تقديره: يدعو والله لمن ضره أقرب من نفعه، فاللام على هذا جواب القسم المحذوف.
وجواب ثانٍ: هو أنّ اللام فى موضعها، وفي الكلام تقديم وتأخير، والأصل: يدعو من لضره أقرب من نفعه، وهذا أن (يدعو) معلقة؛ لأنَّها الذي ضره أقرب من نفعه يدعو، ثم حذفت (يدعو) الأخيرة للاجتزاء بالأولى منهما، ولو قلت: يضرب لمن خيره أكثر من شره يضرب، فحذفت الأخير لجاز، والعرب تقول: عندي لما غيره خير منه، كأنّه قال: للذي غيره خير منه عندي. ثم حذف الخبر في الثاني والابتداء من الأول. كأنّه قال عندي شيء غيره خير منه، وعلى هذا قالوا: أعطيتك لما غيره خير منه، على حذف الخبر.
وقيل: المعنى لمن ضره أقرب من نفعه لا يجب أن يدعى، و (مَنْ) على هذا القول والقول الذي قبله مبتدأ، والخبر محذوف، وعلى قول المبرد يكون موضعها نصبا ب (يدعو).
وقد قيل: واللام زائدة.
* * *

قوله تعالى: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ)
يسأل عن قوله: (خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا)، كيف ثنى ثم جمع؟
والجواب: أنّه يراد بالخصمين هاهنا الفريقان من المؤمنين والكافرين اختصموا في يوم بدر، وهذا قول
أبي ذر، وقال ابن عباس: الخصمان أهل الكتاب وأهل القرآن، وقال الحسن ومجاهد وعطاء: المؤمنون
والكافرون. وهذا كقول أبي ذر إلا أنّ هَؤُلَاءِ لم يذكروا يوم بدر.
ويجوز في الكلام: هذان خصم اختصموا، وهَؤُلَاءِ خصم اختصموا، قال الله تعالى: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ) وذلك أنّ الخصم مصدر يقع على الواحد والاثنين والجماعة من المذكر والمؤنث، وهكذا حكم المصادر إذا وصف بها أو أخبر بها، نحو: عدل ورضا وصوم وفطر وزود ودنف وحري وقمن وما أشبه ذلك.
وقيل: كان أحد الخصمين " حمزة " مع قوم من المؤمنين خاصموا قوما من أهل بدر من المشركين.

(1/250)


قوله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27))
الأذان: الإعلام، وأصل الحج: القصد، والضامر: المهزول، والفج: الثنية، والعميق: البعيد.
والأيام المعلومات: عشر ذي الحجة، فأما المعدودات: فأيام التشريق، هذا قول الحسن وقتادة، وسميت هذه معدودات لقلتها، وسميت تلك معلومات للحرص على علمها بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها.
والبهيمة: أصلها من الإبهام؛ وذلك أنها لا تفصح كما يفصح الحيوان الناطق.
والأنعام: الإبل خاصة، واشتقاقها من النعمة، وهي (اللين) سميت بذلك للين أخفافها؛ لأنَّها ليست كذوات الحافر. وقد يجتمع معها البقر والغنم، ويسمى الجميع أنعاما اتساعا، فإن انفردا لم يسميا أنعاماً.
والبائس: الذي به ضر الجوع. والفقير: الذي لا شيء له، كأن الحاجة فقرت ظهره. أي: كسرت فقاره، وفقار الظهر: الخرز التي تكون فيه، يقال: فقارة وفقار وفقرة وفقر.
والتفث: مناسك الحج كلها، وهذا قول ابن عباس وابن عمر، وقيل: التفث: كشف الإحرام وقضاؤه كحلق الرأس والاغتسال.

(1/251)


وقيل للبيت " عتيق "؛ لأنّه أعتق من أن يملكه الجبابرة، وهو قول مجاهد. وقيل: لأنّه قديم، وهو أول بيت وضع للناس بناه آدم عليه السلام، وجدده إبراهيم عليه السلام، وهو قول ابن زيد، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هو أول بيت وضعت فيه البركة.
والطواف هاهنا طواف الإفاضة بعد التعريف إما يوم النحر وإما بعده وهو طواف الزيارة.
ويُسأَل عن قوله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ)، علامَ يعود الضمير؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنّه يعود على " إبراهيم " قال ابن عباس: قام في المقام فقال: يا أيها الناس إن الله دعاكم إلى الحج، فأجابوا بلبيك اللهم لبيك.
وقال الحسن: الضمير يعود على النبي عليه السلام. أي: وأذن يا محمد في الناس بالحج، فأذن في حجة الوداع.
وقوله؛ (يَأْتُوكَ رِجَالًا)، أي: مشاةً على أرجلهم، وهو جمع "راجل"، كصاحب وصحاب، يدل على ذلك قراءة من قرأ (يَأْتُوكَ رُجَّالًا).
(وعَلى كُل ضَامِر): أي على جمل ضامر، أي مهزول من السفر، وقال (يَأْتِينَ)، لأنّ كل ضامر في معنى الجمع، والجمع مؤنث، ويجوز أن يعني بالضامر هاهنا الناقة، لأنّه يقال: ناقة ضامر وضامرة وقد قرأ بعضهم (يَأْتون مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)، حمل على المعنى، أي: يأتي رُكاب كل ضامر من كل فج عميق.

(1/252)


قرأ الكسائي (ثُمَّ لْيَقْضُوا) بإسكان اللام، وهذه القراءة فيها بعدٌ عند البصريين من جهة إسكان " اللام ". لأنّ هذه " اللام " أصلها الكسر، وإنما تسكن إذا وقع قبلها حرف يتصل بها كالواو والفاء كما يفعل بـ، " هو " إذا اتصلتا به. نحو: فهو وهو وما أشبه ذلك، فهذا مشبه بعضد في عضد، و (اللام) معهما في نحو: فليقم وليخرج مشبهة بفخذٍ في فخذ وليست " ثم " كالفاء والواو؛ لأنَّها حرف قائم بنفسه يجوز الوقوف عليه. ولا يجوز الوقوف على الواو والفاء، إلا أنّ أبا علي اعتذر له بأن قال: " ثم " على ثلاثة أحرف ساكنة الأوسط فكأنه وقف على الميم الساكنة المدغمة ثم ابتدأ (ملْيقضوا).
فأما في قوله (وليطوفوا) (وليوفوا) وما أشبه ذلك فإسكان اللام حسن جميل. وكسرها جائز على الأصل. وكسر اللام في قوله (ثم لِيقضوا) أقيس. والإسكان يجوز على الوجه الذي ذكره أبو علي.
* * *

قوله تعالى: (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا)
خاوية: خالية، وعروشها: سقوفها، هذا قول الضحاك، والمشيد: المجصص وهو المبني بالشيد وهو الحجارة والجيار، قال قتادة: مشيد رفيع. قال عدي بن زيد:
شادَه مَرْمَراً وَجَلَّلَه كِلْساً ... فللطَّيْرِ فِي ذَراهُ وكُورُ

(1/253)


وقال آخر:
كحيَّةِ الماء بَينَ الطيِّ والشيد
وقد عاب قوم من الملحدة قوله تعالى، (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) وقالوا: ما الفائدة في ذكر: بئر معطلة وقصر مشيد، وأبدوا فيه وأعادوا، وهذا لجهلهم بجوهر الكلام وغامض المعاني وإشارة البلاغة، لأنّ الله تعالى ذكر هذا وما أشبهه على طريق العظة ليُعتبر بذلك، ألا تراه تعالى قال: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا)، يريد: لو صاروا لرأوا آثار قوم أهلكهم وأبادهم، وما زالت العرب تصف ذلك في خطبها ومقاماتها، يروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنّه كان يقول في خطبته: (أين بانو المدائن ومحصنوها بالحوائط، أين مشيدو القصور وعامروها، أين جاعلو العجيب فيها لمن بعدهم. تلك منازلهم خاوية، وهذه منازلهم في القبور خالية (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)).
وكان سلمان إذا مر بخراب قال: يا خرب الخربين أين أهلك الأولون؟ - قال الأسود بن يعفر:
ماذَا أُؤَمِّلُ بَعْدَ آلٍ مُحرِّقٍ ... تَركُوا منَازِلَهُمْ وبعدَ إِيَادِ
هل الخَوَرْنَقِ والسَّدِيرِ وبارِقٍ ... والقَصْرِ ذِي الشُّرَفَاتِ من سِنْدَادِ
أَرضاً تَخَيَّرَها لِدَارِ أَبيهُمِ ... كَعْبُ بنُ مَامَةَ وابنُ أُمِّ دُؤَادِ
جَرَتِ الرِّياحُ على مكانِ دِيارِهِمُ ... فكأَنَّما كانوا عَلَى مِيعَادِ
نزَلُوا بِأَنْقُرَةٍ يَسِيلُ عليهمُ ... ماءُ الفُرَاتِ يَجيءُ مِنْ أَطْوَادِ
فإِذَا النَّعيمُ وكلُّ ما يُلْهَى به ... يوماً يَصيرُ إِلى بِلىً ونَفَادِ
ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنّه سمع رجلا ينشد هذه الأبيات فتلا (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)).

(1/254)


فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: علامَ عُطف (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ)؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أن يكون معطوفا على قرية، فيكون المعنى: إهلاك القرية والبئر المعطلة والقصر المشيد.
والثاني: أن يكون معطوفاً على عروشها. فيكون المعنى: وكم من قريةٍ أهلكناها وهي ظالمةٌ فهي خاوية على عروشها وعلى بئر معطلة وقصر مشيد.
قال المفسرون: تهدمت الحيطان على السقوف وتعطلت بئرها وقصرها المشيد.
والبئر: مؤنثة، وجمعها: آبار وأبؤر فى القلة، وفى الكثرة: بئار.
* * *

قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)
التمني في الكلام على ثلاثة أضرب:
أحدها: التلاوة وشاهده الآية، وقال الشاعر:
تَمَنَّى كتابَ اللهِ أوَّلَ لَيلهِ ... وآخِرَه لاقَى حِمامَ المقادِرِ
والثاني: ما يتمناه الإنسان من الأماني.
والثالث: الكذب ومنه قول عثمان: (والله ما تمنيت منذ أسلمت). ومرَّ أعرابي بابن داب وهو يحدث، فقال له: أهذا شيء سمعته أم تمنيته.

(1/255)


والأمنية في الآية: التلاوة. قال ابن عباس والضحاك وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب ومحمد بن قيس: نزلت هذه الآية لما تلا النبي صلى الله عليه وسلم: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)) " تلِكَ الغرانيقُ العُلى وَإنَّ شَفَاعتهُم لتُرتجى)، وكان هذا من إلقاء الشيطان (1).
ومما يسأل عنه أن يقال: كيف جاز عليه الغلط في تلاوته؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنّه كان على سبيل السهو الذي لا يعرى منه بشر، فنبهه الله تعالى على ذلك.
والثاني: أنّه إنما قاله في تلاوة بعض المنافقين عن إغواء الشيطان، فأوهم أنّه من القرآن.
وقوله: (مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ) في موضع نصب، والمعنى: ما أرسلنا من قبلك رسولًا ولا نبياً، و (من) زائدة، ومثله: (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ)، أي: خيلًا ولا ركاباً.
* * *

قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63))
اللطيف: المحيط بتدبير دقائق الأمور، الذي لا يخفى عليه شيء يتعذر على غيره، فهو لطيف لاستخراج النبات من الأرض بالماء، وابتداع ما يشاء، وقيل: اللطيف الذي يلطف بعباده من حيث لا يحتسبون.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: بم ارتفع (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) وقبله استفهام، وهلا انتصب على حد قولك: أفتأتني فأكرمَك؟
__________
(1) القصة باطلة ومردودة.

(1/256)


والجواب: أنّه خبر في المعنى، وإن خرج مخرج الاستفهام، كأنّه قال: قد رأيت أنّ الله تعالى ينزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة، وهو تنبيه على ما قد كان رآه ليتأمل ما فيه. قال الشاعر:
أَلم تَسْأَلِ الرَّبْعَ القَواءَ فَيَنْطِقُ ... وهَلْ تُخْبِرَنَّكَ اليَوْمَ بَيْداءُ سَمْلَقُ
ومعناه: سألته فنطق، وإن شئت قلت معناه: فهو ينطق، وكذا في الآية: فهي تصبح.
* * *

(1/257)