إعراب القرآن للأصبهاني

وَمِنْ سُورَةِ (الْمُؤْمِنُونَ)
قوله تعالى: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20))
طور سيناء: جبل بالشام، وهو الذي نودي منه موسى عليه السلام. وقال ابن عباس ومجاهد: معناه جبل البركة، وقال الضحاك وقتادة: معناه الحسن، وقال ابن الرماني: يجوز أن يكون رفيعاً من (السناء)، وفي هذا القول نظرت لأنّه جعله (فِيعَالًا). نحو: ديماس، وهذا الوزن منصرف، وسيناء غير منصرف، إلا أنّ للمحتج له أن يقول: جعل اسما للبقعة وهو معرفة؛ فلم ينصرف لذلك، ولا يجوز أنّ تكون همزته للتأنيث؛ لأنّ همزة التأنيث لا تدخل فيما كان على هذه البنية: مما أوله مكسور، وإنما يكون هذا البناء ملحقاً نحو: علباء وزيزاء وما أشبه ذلك. ولا يوجد في الكلام مثل: حِمراء بكسر الحاء، وهذا على قراءة نافع وأبي عمر وابن كثير، لأنهم قرأوا بكسر السين، وقرأ الباقون بفتح السين، فعلى هذا يجوز أن تكون همزته للتأنيث فيكون (سَيناء) مثل (بيضاء)، وفيه لغة أخرى وهي: طور سنين، وجاء القرآن باللغتين.
والأطوار: جبال بالشام طور سيناء وطور زيتاء وهما بأرض بيت المقدس.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير (تُنْبِتُ) بضم التاء. وقرأ الباقون بفتحها.
واختلف في هذه (الباء):
فقال قوم: يقال " نبت " و" أنبت " بمعنى، وأنشد الأصمعي لزهير:
رَأيتُ ذَوي الحاجاتِ حَولَ بُيُوتهِم ... قَطِيناً لهم حتى إذا أنبتَ البقلُ

(1/258)


فالباء على هذا لتعدي الفعل.
وقيل: الباء زائدة. والمعنى: تنبت الدهن كما قال الشاعر:
نحنُ بَنُو جَعْدَةَ أَصحابُ الفَلَجْ ... نَضْرِبُ بالسيفِ ونرْجُو بالفَرَجْ
أي: نرجو الفرج.
وقيل: " الباء " ليست بزائدة، والمفعول محذوف و" الباء " في موضع نصب على الحال تقديره:
تنبت ثمرها بالدهن. أي: وفيه الدهن. كما قال الشاعر:
ومُسْتَنَّةٍ كاسْتِنانِ الخَرو ... فِ قَدْ قَطَّعَ الحَبْلَ بالمِرْوَدِ
أي: وفيه المرود.
فهذا على مذهب من ضم (التاء)، فأما من فتحها فيجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون للتعدي على حد قولك: ذهبت بزيد، وأنت تريد: أذهبت زيداً فكأنه في التقدير: تنبت الدهن، ومثله: (مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ)، أي: تنيء العصبة، وليس قول أبي عبيدة إنه مقلوب، وإن المعنى فيه: ما إنَّ مفاتحه لتنوء العصبةُ بها بشيء لأنّ هذا القلب إنما يقع من الضرورة نحو قول الشاعر:
كانت فريضةُ ما تقولُ كما ... كانَ الزِّناءُ فريضةَ الرَّجْمِ
وكذا قول امرئ القيس:

(1/259)


يُضيء الفِراشَ وَجهُها لضجيعِها ... كمِصباح زَيتٍ في قناديلِ ذُبَّالِ
أي: في ذُبَّالِ قناديل.
والثاني: أن تكون " الباء " في موضع نصب على الحال، والتقدير:
تنبت وفيها الدهن، أي: تنبت دهنة. ومثله: خرج بثيابه، والمعنى: خرج لابساً ثياب، وهو فى الكلام كثير.
* * *

قوله تعالى: (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36))
معنى هيهات: بعدُ. والتقدير: بعداً لما توعدون. وهو صوت مثل: صه ومه، وهذه الأصوات إنما تأتي في الأغلب في الأمر والنهي، إلا أنّ هذا جاء في الخبر، ونظيره (شتان ماهما) أي: بُعد بعضهما من بعضٍ جداً.
وهذه الأصوات كلها مبنية لإيغالها في شبه الأفعال، وإنما جعلت هكذا للإفهام بها كما تفهم البهيمةُ بالزجر.
قال ابن عباس: المعنى في (هيهات) - بعدٌ بعيد، والعرب تقول: هيهات لا تبغي وهيهات منزلك، قال جرير:
فأيْهاتَ أيْهاتَ العَقِيقُ ومَنْ بِهِ ... وأيْهاتَ وَصلٌ بالعَقيقِ نُواصِلُهْ
ويُقَال: هيهات وأيهات. وفي (هيهات) لغات: منهم من يقول: هيهات هيهات على أنّه واحد، واختلف في الوقف عليها، فاختار الكسائي الوقف بالهاء؛ لأنّ التاء زائدة، واختار الفراء الوقف بالتاء. لأنّ قبلها ساكنا فصارت كتاء (بنت) و (أخت).
والثانى: أنّ من العرب من يقول: هيهاتُ هيهاتُ بالضم.

(1/260)


والثالث: أنّ منهم من يقول: هيهاتِ هيهاتِ بالكسر.
والوقف على هذين الوجهين بالتاء؛ لأنها بمنزلة التاء في مسلمات، وهي " تاء " جمع، وليس " هيهات " على هذه اللغة واحداً.
ومن العرب من ينون فيقول: هيهاتاً. وهيهاتٌ، وهيهاتٍ، وكذلك قال الزجاج وغيره. والفرق بين التنوين وحذفه: أنّ من نون جعل هذه الأسماء نكرة، ومن لم ينون جعلها معرفة، والتنوين يدخل في الأصوات للفرق بين المعرفة والنكرة، نحو: إيهِ وإيهٍ،: غاقِ وغاقٍ في حكاية صوت الغراب، وكذلك: ماء ماء في حكاية صوت الشاء.
ومن العرب من يقول: هيهاه هيهاه. بالهاء.
وموضع (لِمَا تُوعَدُونَ) رفع؛ لأنّ المعنى: بعُد ما توعدون.
* * *

قوله تعالى: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا)
معنى تترى: يتبع بعضهم بعضاً، كذا قال ابن عباس ومجاهد وابن زيد.
وأصلها من " المواترة ". وكان قبل القلب (وترى) فأبدل من الواو تاء؛ لأنَّ التاء أجلد من الواو وأقوى، كما فعلوا في: تخمةٍ وتهمةٍ لأنهما من الوخامة والوهم، وكذلك تجاه وتراث وتولج وما أشبه ذلك.
والعرب تختلف في (تترى):
فمنهم من ينونها فيقول (تترًا) وهي قراءة أبي عمرو وابن كثير، والألف على هذا للإلحاق بمنزلة (علقى) الملحق بجعفر. و (أرَطا) في أحد القولين. والأصل " تتريٌ " فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ومن كانت هذه لغته لم يمل.

(1/261)


ومنهم من يقول: (تترى) بغير تنوين، يجعل الألف للتأنيث، وبذلك قرأ الباقون. ومنهم من يميل، لأنها ألف تأنيث بمنزلة الألف التي في غضبى وسكرى، ومنهم لا يميل على الأصل.
* * *

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا)
الطيبات هاهنا: الحلال. وقيل: الطيبات ما يُستلذ. فعلى الوجه الأول يكون أمراً واجباً، وعلى الثاني يكون أمراً على طريق الإباحة.
والأصل في (كلوا) (أؤكلوا)، فكره اجتماع همزتين، فحذفت الثانية استثقالالها؛ لأنَّ الثقل بها وقع، فوليت همزة الوصل متحركاً فحذفت للاستغناء عنها.
واختلف في قوله: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ):
فقيل: هو خطاب لعيسى عليه السلام، وهو خطاب لواحد، كما تخاطب الواحد مخاطبة الجمع:
نحو قولك للواحد: يا أيها القوم كفوا عنا أذاكم.
وقيل هو للحكاية لما قيل لجميع الرسل.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: ما موضع (أنَّ) من قوله (وَأَنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً)؟
وفيها جوابان:

(1/262)


أحدهما: أنّ موضعها نصب، والتقدير: ولأن هذه أمتكم، فهي مفعول له.
والثاني: أنّ موضعها جر على العطف على قوله (بِمَا تَعْمَلُونَ).
وفي قوله (وَأَنَا رَبُّكُمْ) تقوية لقول سيبويه في قوله: (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ): عطفه على موضع (أنَّ)، وموضع الدليل من هذه الآية: أنّ (أنا) من ضمانر الرفع، وقد عطفه على (أنَّ) على مذهب من جعلها في موضع نصب.
ونصب (أُمَّةً وَاحِدَةً) على الحال، والكوفيون يسمون الحال " قطعاً "، وربما قالوا: نُصب على الاستغناء.
واختلف في الأمة هاهنا:
فقيل: الأمة الملة. وهو قول الحسن وابن جريج، أي: دينكم دين واحد، والأمة قد تقع على الدين، نحو قوله (وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) أي: على دين، قال النابغة:
حَلفتُ فلم أتركْ لنفِسك ريبةً ... وَهَل يَأثمن ذو أُمةٍ وهو طائعُ
وقيل: الأمة هاهنا الجماعة، والمعنى: جماعتكم جماعة واحدة في الشريعة، والجماعة تسمى أمة.
نحو قوله تعالى (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ).

(1/263)


والأمة في غير هذا المكان: الحين، ومنه (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ).
والأمة: الرجل العالم المنفرد، نحو قوله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً).
والأمة: القرن من الناس وغيرهم، نحو قوله تعالى: (أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ).
والأمة: القامة، نحو قول الشاعر:
وإنَّ مُعاويةَ الأَكْرَمِيـ ... نَ حِسان الوُجوهِ طِوالُ الأُمَمْ
* * *

قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76))
اختلف في (استكانوا):
فقيل: هو " استفعل " من الكون. والمعنى: ما طلبوا الكون على صفة الخضوع.
وقيل: هو من " السكون "، إلا أنّ الفتحة أشبعت فنشأت منها ألف، فصار " استكانوا "، وهو
على هذا القول " افتعلوا ". أي: استكنوا، قال الشاعر في إشباع الفتحة:
وَأَنتَ مِنَ الغَوائلِ حِينَ تُرْمى ... وَمِنْ ذَمِّ الرجالِ بمُنْتَزاحِ
أي: بمنتزح، وقال عنترة:
يَنْباعُ مِنْ ذِفْرى غَضُوبٍ جَسْرةٍ ... زَيّافةٍ مِثْلَ الفَنِيقِ المُكْرَمِ
يريد: ينبع، فأشبع الفتحة على ما قدمنا.
* * *

قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99))

(1/264)


يسأل: لم جاز (ارْجِعُونِ) بلفظ الجمع؟
وفيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنّه استغاث أولًا بالله تعالى واستعان به. ثم رجع إلى مسألة الملائكة في الرجوع إلى الدنيا.
هذا القول رواه ابن جريج.
والثاني: أنّ العظماء يخبرون عن أنفسهم كما تخبر الجماعة، فخوطبوا كما تخاطب الجماعة.
والثالث: أنّه جمع الضمير ليدل على التكرار، فكأنه قال: ربِّ ارجعنِ ارجعنِ ارجعنِ، وهذا قول المازني.
* * *

(1/265)


وَمِنْ سُورَةِ (النُّورِ)
قوله تعالى: (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ)
في " السورة " للعلماء أقوال:
أحدها: أنها مأخوذة من سور البناء، وهي ارتفاعه، وقيل هو ساف من أسوافه. فعلى القول الأول تكون تسميتها بذلك لارتفاعها في النفوس، وعلى القول الثاني تكون تسميتها بذلك لأنها قطعة من القرآن.
وقيل: السورة الشرف والجلالة، قال النابغة
ألم تَر أنّ اللهَ أعطاكَ سُورةً ... تَرى كل مُلكٍ دُونَها يَتَذَبذَبُ
فإنَّك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذا طلعَتْ لم يَبْدُ منهنَّ كَوكبُ
وقيل: أصلها الهمزة واشتقاقها من (أسأرت) إذا أبقيت في الإناء بقية، ومنه الحديث: (إذا شربتم فأسئروا)، إلا أنّه اجتُمع على تخفيفها كما اجتُمع على تخفيف " برية " و " روية "، وهما من: برأ الله الخلق وروَّأت في الأمر.
وأصل الفرض: الحزُّ، ثم اتسع فيه فجعل في موضع الإيجاب.
والرأفة: التحتن والتعطف، يقال: رأفة ورآفة.
والطائفة هاهنا: رجلان فصاعداً. وهو قول عكرمة. وقيل: ثلاثة فصاعداً، وهو قول قتادة والزهري، وقيل: أقله أربعة، وهو قول ابن زيد.
واختلف فى قوله (فَرَضْنَاهَا):
فقيل: معناه فصلنا فيها فرائض مختلفة، كما تقول: فرضت له كذا، أي جعلت له نصيباً منه.

(1/266)


وقيل: أوحيناها عليكم وعلى من بعدكم إلى يوم القيامة.

* * *
فصل:
ومما يسأل عنه قوله: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ)؟
وفي هذا أجوبة:
أحدها: أنها نزلت على سببٍ، وهو أنّ رجلًا من المسلمين استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في أن يتزوج " أم مهزول "، وهي امرأة كانت تسافح ولها رايةٌ على بابها تعرف بها، فنزلت هذه الآية، وهذا قول عبد الله بن عباس وابن عمر، قال مجاهد والزهري وشعبة وقتادة والشعبي: حرَّم الله تزويج أصحاب الرايات.
والثاني: أنّ النكاح هاهنا الجماع، والمعنى: أنهما اشتركا في الزنا فهي مثله، وهذا قول الضحاك وابن زيد وسعيد بن جبير، وروي مثل ذلك عن ابن عباس في أحد قوليه.
والثالث: أنّ هذا الحكم كان في كل زانٍ وزانية ثم نسخ بقوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ)، وهو قول سعيد بن جبير، ووجه هذا: أن يكون قوله (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً) خبراً وفيه معنى التحذير، فكأنه نهي في المعنى، ثم نُسخ، وإنما احتيج إلى هذا التأويل من قبل أنّ النسخ لا يصح في الأخبار. وإنما يصح في الأوامر والنواهي.
وسأل عن قوله تعالي: (سُورَةٌ) بم ارتفع؟
والجواب: أنّه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه سورة، ولا يجوز أن يكون مبتدأ، لأنها نكرة ولا يبتدأ بالنكرة حتى توصف، وإن جعلت (أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا) صفة لها بقي المبتدأ بلا خبر، هذا قول أكثر العلماء.

(1/267)


ويجوز عندي أن تكون مبتدأة على إضمار الخبر، والتقدير: فيما يتلى عليكم سورة أنزلناها، ولا يجوز أنّ نقدر هذا الخبر متأخراً، لأنّ خبر النكرة يتقدم عليها، نحو قولك: في الدار رجل، وله مال، ولا يحسن: رجل في الدار، ومال له، وإنما قبح ذلك لقلة الفائدة.
وقرأ عيسى بن عمر (سُورَةً أَنْزَلْنَاهَا) على إضمار فعل يفسره (أنزلناها)، والتقدير: أنزلنا سورةً أنزلناها، إلا أنّ هذا الفعل لا يُظهر، لأنّ الظاهر يكفي منه.
وقوله (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) مبتدأ. والخبر محذوف، والتقدير: فيما عليكم الزاني والزانية فاجلدوا كل واحد منهما، هذا قول سيبويه، وتلخيصه: أنّ المعنى: فيما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني فاجلدوا؛ وإنما احتيج إلى هذا التقدير لأنّ المتلوّ إنما هو حكمهما لا أنفسهما.
والفاء دخلت في قوله (فاجلدوا) جوابا لما في الكلام من الإبهام؛ إذ لا يقصد بها زانية بعينها ولا زانٍ بعينه ولذلك رُفعا.
ويجوز النصب على وجهين:
أحدهما: إضمار فعل يدل عليه (فاجلدوا).
والثاني: أن يكون منصوبًا ب (اجلدوا) على تقدير زيادة الفاء، كما تقول: زيدًا فاضرب.
قرأ ابن كثير (فَرَّضْنَاهَا) بالتشديد و (رَأَفَةٌ) بفتح الهمزة. وقرأ الباقون بالتخفيف وإسكان الهمزة، التشديد للمبالغة. وأما فتح الهمزة وإسكانها فلغتان.
* * *

قوله تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ)

(1/268)


الخبيث: نقيض الطيب.
واختلف في معنى قوله (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ): فقال ابن عباس والضحاك ومجاهد والحسن: الخبيثات من الكلم للخبيثين من الرجال. والخبيثون من الرجال للخبيثات من الكلم، والطيبات من الكلم للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من الكلم.
وقال ابن زيد: الخبيثات من السيئات للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من السيئات، والطيبات من الحسنات للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال، للطيبات من الحسنات. وقيل: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء.
ثم جمع ذلك في قوله (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) فردّ الضمير على الطيبات والطيبين.
وقال الفراء (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) يعني به عائشة رضي الله عنها وصفوان بن المعطل، وهو بمنزلة قوله تعالى: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ) والأم تحجب بالأخوين، فجاء على تغليب لفظ الجمع.
* * *

قوله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
النور: الضياء، ونقيضه الظلمة، والمشكاة الكوة في الحائط يوضع عليها زجاجة ثم يكون المصباح خلف تلك الزجاجة، ويكون للكوة باب آخر يوضع المصباح فيه.
ويقال: زُجاجة وزِجاجة وزَجاجة.

(1/269)


والمصباح: مِفعَال من الصبح. ويقال: مصبح كمفتاح ومفتح.
واختلف في معنى قوله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): فقيل: منورهما بالشمس
والقمر والنجوم، وهذا قول ابن عباس وأبي العالية والحسن.
وقيل: هادي أهل السماوات والأرض، وهذا أيضا يروى عن ابن عباس.
وفي تقدير قوله: (نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) مِن جهَة الإعراب وجهان:
أحدهما: أن يكون على حدّ المضاف، تقديره: ذو نور السماوات والأرض. ثم حُذِف على حدِّ قوله (وَلَكِنَّ الْبِرَّ) وقوله (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ).
والثاني: أن يكون مصدراً وضع موضع اسم الفاعل. كما قال تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا) أي: غائرًا. وكما قالت الخنساء:
تَرْتَعُ مَا غَفَلَتْ حَتَّى إِذا ادَّكَرَتْ ... فإِنما هِيَ إِقْبَالٌ وإِدْبارُ
ويُسأل عن الضمير في قوله: (مَثَلُ نُورِهِ) علامَ يعود؟
وفيه أجوبة:
أحدها: أنّه يعود على اسم الله عز وجل، وهو قول ابن عباس، وفي هذا تقديران:
أحدهما: أن يكون على معنى: مثل نوره الذي جعله في قلب المؤمن كمشكاة صفتها كذا وكذا، فأضاف النور إلى نفسه، كما يقال بيت الله، وناقة الله، للتعظيم لهما.

(1/270)


والثاني: أن يكون نور المصباح أعظم نور يعرفه الناس، فضرب الله تعالى المثل به، وشبَّه نوره بأعظم نور يعرفه الناس؛ لأنّه تعالى خاطب العرب على قدر ما يفهمون.
وقال الحسن المعنى: مثل نور القرآن في القلب كمشكاةٍ؟.
ويروى عن ابن عباس أيضا: أنّ النور هاهنا (الطاعة) أي: مثل طاعة الله في قلب المؤمن.
وقيل: يعود الضمير على النبي صلى الله عليه، أي: مثل نور النبي في المؤمنين.
واختلف في قوله: (لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ):
فقال ابن عباس: لا شرقية تشرق عليها الشمس فقط، ولا غربية تغرب عليها الشمس فقط، بل هي شرقية غربية؛ لأنَّها أخذت بحظها من الأمرين. وروي عنه أيضا أنّه قال: هي وسط الشجر.
وروي عن قتادة: أنها ضاحية للشمس.
وقال الحسن: ليس من شجر الدنيا، فتكون شرقيةً أو غربيةً.
وقوله تعالى: (نُورٌ عَلَى نُورٍ)، أي: نور هدى التوحيد على نور الهدى بالقرآن، وقيل: نُورٌ عَلَى نُورٍ يضيء بعضه بعضاً. وهو قول زيد بن أسلم.
قرأ نافع وابن عامر وابن كثير وعاصم من طريق حفص (دُرِّيٌّ) بضم الدال، نسبوه إلى (الدُرّ) في صفائه وبياضه. وقرأ أبو عمرو والكسائي (دِرِّيءٌ) بكسر الدال والهمز، أخذه من (الدرء) وهو الدفع. كأنّه يدفع الظاهر بنوره، وقرأ حمزة وعاصم من طريق أبي بكر (دُرِّيءٌ) بضم الدال والهمزة، وفى هذه القراءة نظر؛ لأنّ (فُعِّيلاً) في الكلام لم يأتِ منه سوى (مُرِّيْق) وهو بناء شاذ.

(1/271)


وقرأ عاصم وحمزة من طريق أبي بكر (تُوقَدُ) بضم التاء والقاف مخففة. أعاد الضمير على الزجاجة، وقرأ أبو عمرو وابن كثير (تَوَقَّدَ) بفتح التاء والقاف والدال، أعاد الضمير على المصباح، وجعلا الفعل ماضياً، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم (يُوقَدُ) بالياء مخففاً، أعادوا الضمير على المصباح أيضا، وجعلوا الفعل مستقبلا لما يسم فاعله.
واختلف في المشكاة:
فقيل: هي رومية معرَّبة.
قال الزجاج: يجوز أن تكون عربية؛ لأنَّ في الكلام مثل لفظها (شَكَوة) وهي قرية صغيرة، فعلى هذا تكون (مشكاة) (مفعَلة) منها، وأصلها: مشكوة. فقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
* * *

قوله تعالى: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ)
اللجة: معظم البحر الذي لا يرى له ساحل.
ومعنى الآية: أنَّ أعمال الذين كفروا كسرابٍ بقيعةٍ في أنّه يُظنُ شيئًا وليس بشيء، وهذا من التشبيه المعجز؛ لأنّه تشبيه ما له حقيقة بما ليس له حقيقة، لما كان عاقبة ما له حقيقة إلى لا شيء.
(أَوْ كَظُلُمَاتٍ) في أنَّ أعمالهم مظلمة، وبالغ الله تعالى في صفة هذه الظلمات لكثرة حيرة الذين كفروا في أعمالهم وجهلهم.
واختلف العلماء في قوله (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا):
فقال الجمهور من العلماء المعنى: لا يراها ولا يقارب رؤيتها؛ لأنَّ دون هذه الظلمة لا يُرى فيها

(1/272)


وقال بعضهم: يراها بعد جَهد ومشقة رؤية تخيل لصورتها؛ لأنّ حكم (كاد) إذا لم يدخل عليها حرف نفي أن تكون نافية. وإن دخلها حرف نفي دلت على أنّ الأمر وقع بعد بطء؛ فالأول كقوله تعالي: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ)، فهذا نفي إلا أنّه قارب ذلك، وقال: (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ)، والمعنى فعلوا بعد بطء.
وقيل: " كاد " هاهنا دخلت للنفي كما يدخل الظن بمعنى اليقين. قال الحسن: لم يرها ولم يقارب الرؤية. قال الشاعر:
مَا كدت تعرفُ إلا بَعدَ إنكَارِ
وقال ذو الرُّمة:
إذا غَيَّر النَّأْيُ المُحِبِّيْنَ لم يَكَدْ ... على كُلّ حالٍ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
ويروى: رَسِيْسُ الهوى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ.
والظلمات: ظلمة البحر وظلمة السحاب وظلمة الليل، وكذا حال الكافرين ظلمة واعتقادهم ظلمة ومصيرهم إلى ظلمة؛ وهي نار يوم القيامة.
* * *

قوله تعالى: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
البَرَد: حجارة تنعقد من الثلج، والسنا: النور.

(1/273)


قيل: في السماء جبال بَرَد مخلوقة، وقيل: بل المعنى قدر جبال يجعل منها برداً.
واختلف النحويون في (مِنْ) الثانية والثالثة:
فجعل بعضهم الثانية زائدة. فعلى هذا المعنى يكون التقدير: ينزل من السماء جبالًا فيها من برد، و (من) في قوله (مِنْ بَرَدٍ)؛ لبيان الجنس، كما قال تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ). وقال بعضهم: الثالثة زائدة، والمعنى على هذا: وينزل من السماء من جبال فيها بردا، أي: وينزل من السماء بردا من جبالٍ فيها، فهذا يدل على أنّ في السماء جبال بردٍ. و (من) الثانية على هذا القول لابتداء الغاية. وهي مع (جبال) بدل من قوله (مِنَ السمَاء) بإعادة الجار، كما قال تعالى: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ)، وهو بدل الاشتمال، لأنّ السماء تشتمل على الجبال. كما تقول: يعجبني شعبان الصوم فيه، أي: يعجبني الصوم في شعبان.
* * *

قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57))
الحسبان والظن سواء، يقال: حسب يحسب بكسر السين وفتحها. يروى أنّ الفتح لغة النبي صلى الله عليه وسلم. وقرأ حمزة وابن عامر: (لَا يَحْسَبَنَّ) بالياء وفتح السين، فـ (الَّذِينَ كَفَرُوا) على هذا فاعلون، والمفعول الأول لـ (يَحْسَبَنَّ) محذوف، والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا أنفسَهم معجزين أو إياهم معجزين، وحُذِف المفعول الأول لأنّه هو الذي كان مبتدأ، وحذف المبتدأ جائز لدلالة الخبر عليه، نحو قوله تعالى:

(1/274)


(وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ) أي: أمرُنا حِطة أو طلبتنا حطة، وكذلك (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي: طلبتنا طاعة.
وقرأ الباقون بالتاء وكسر السين. فلا حذف على هذه القراءة، لأنّ الفاعل مضمر. وهو النبي صلى الله عليه. والذين كفروا مفعول أول، ومعجزين مفعول ثانٍ.
* * *

(1/275)