إعراب القرآن للأصبهاني

وَمِنْ سُورَةِ (السَّجْدَةِ)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ (23))
يسأل علامَ تعود (الهاء) في قوله (مِنْ لِقَائِهِ)؟
وفي هذا أجوبة:
أحدها: أنّ المعنى: فلا تكن في مرية من لقاء موسى الكتاب، فهو يعود على الكتاب، هذا قول الزجاج.
والثاني: أنها تعود على الأذى، والمعنى: فلا تكن في مريةٍ من لقاء الأذى، كما لقي موسى، وهو قول الحسن.
والثالث: أنها تعود على موسى. والتقدير: فلا تكن يا محمد في مرية من لقاء موسى.
وقيل: يعود على الابتداء، والمعنى: فلا تكن في مريةٍ من لقاء إيتائك الكتاب كما أوتي موسى.
* * *

(1/311)


وَمِنْ سُورَةِ (الْأَحْزَابِ)
قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)
قرأ نافع وعاصم (وَقَرْنَ) بفتح القاف، وقرأ الباقون (وَقِرْنَ) بالكسر، فأما من قرأ (وَقَرْنَ) فهي قراءة فيها نظر، وذلك أنّه لا يخلو أن يكون من " الوقار " أو من " القرار " فلا يجوز أنّ يكون من " الوقار " لأنّه إنما يقال: وقر يقر، مثل: وعد يعد. فإذا أمرت قلت (قِرن) كما قرأت الجماعة، وهذا على ميزان قولك: عِدن، ولا يجوز أن يكون من " القرار " لأنّه إنما يقال: قرّ في المكان يقِر بكسر القاف، وقرَّت عينه تقر، فلو كان من " القرار " لقيل: اقررن، ثم يستثقل تكرير (الراء) فتنقل حركتها إلى القاف، ثم تحذف إحدى الرائين لالتقاء الساكنين، وتحذف همزة الوصل للاستغناء عنها فيبقى (قِرن) كما قرأت الجماعة. فهذان الوجهان يجوزان في قراءة من كسر، وأما الفتح فبعيد إلا أنّه قد حُكي: قررت في المكان أقر، وهي لغة حكاها الكسائي. فيجوز على هذا أن يكون الأصل (اقررنَ) ثم فعل به ما فعل بـ اقررن، ثم ألقيت فتحة الراء على القاف، وحذفت لالتقاء الساكنين، وحذفت الهمزة للاستغناء عنها. كما فعل فيما تقدم، وأكثر ما يجيء هذا في (فَعِلت) نحو: ظَلْت وظِلْت ومَسْت ومِسْت وأحسست وأحست، وأنشد أبو زيد:
سِوى أنَّ العِتاقَ من المَطَايَا ... أَحَسْنَ به فَهُنَّ إليه شُوسُ
إلا أنّ الفراء حكى: هق ينحطن من الجبل، في معنى: ينحططن.
وقيل في التبرج: التبختر، وقيل: التكسر. وهو قول قتادة. وقيل الظهور.

(1/312)


قوله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ... (40))
قرأ عاصم (وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) بفتح التاء وهي قراءة الحسن، وقرأ الباقون بالكسر.
كأن المعنى عنده: هو آخر النبيين. ويروى عن علقمة أنّه قرأ (خَاتمهُ مِسْكَ) أي: آخره مسك. قال المبرد: (خَاتَمَ) فعل ماض على وزن (فاعل) وهو في معنى: ختم النبييين، فنصب في هذا الوجه على أنّه مفعول، وفي حرف عبد الله (ولكن نبيا ختم النبيين)، وقراءة من كسر يدل على هذا المعنى؛ لأنّه اسم فاعل من ختم. كضارب من ضرب.
والنبييين: في مذهب من كسر في موضع جر بالإضافة، وكذا في مذهب من فتح، إلا عند المبرد فإنه في موضع نصب على ما قدمناه.
ويجوز في (رَسُولَ اللَّهِ) وجهان: النصب والرفع.
فالنصب: على أنّه خبر (كان) أي: ولكن كان محمد رسول الله.
والرفع: على معنى: ولكن هو رسول الله.
وهذه الآية نزلت في زيد بن حارثة وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم تبناه فكان يُقال زيد ابن رسول الله. وكان النبي عليه السلام خطب زينب بنت جحش امرأة زيد بعد أنّ طلقها زيد فامتنعت،

(1/313)


فأنزل الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ ... ) إلى آخر القصة، وأنزل (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ ... )، فلما نزلت هذه الآية قال زيد: أنا ابن حارثة، وأذن الله تعالى لنبيه في تزويج زينب.
قال قتادة: أولاد النبي عليه السلام: القاسم، وبه كان يُكنى، وإبراهيم. والطيب، والطاهر، قال غيره: وعبد الله، قيل: الطيب والطاهر وعبد الله أسماء كانت لواحد.
* * *
قوله تعالى: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ)
نصب " امرأةً " بإضمار فعلٍ تقديره: وأحللنا لك امرأةً مؤمنةً إن وهبت.
ومما يسأل عنه أن يقال: لم قال (إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ)، ولم يقل: إن وهبت نفسها لك؟
والجواب: أنّه لو قال ذلك لتوهم أنّه يجوز لغيره، فذكر النبي صلى الله عليه ليزول اللبس.
قال علي بن الحسين: هذه امرأة من الأزد يقال لها، (أم شريك)، وقال الشعبي: هي امرأة من الأنصار، وقيل: هي زينب بنت جحش، وقال ابن عباس: لم يكن عند النبي عليه السلام امرأة وهبت نفسها له.
* * *

قوله تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ)
(كُلُّهُنَّ): توكيد للمضمر في (يَرْضَيْنَ)، أي: يَرْضَيْنَ كلهن، ولا يجوز نصبه على توكيد المضمر في (آتَيْتَهُنَّ)، لأنَّ المعنى ليس عليه، لا يريد: آتيتهن كلهن، وإنما يريد: يرضين كلهن.

(1/314)


وَمِنْ سُورَةِ (سَبَإٍ)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ (10))
التأويب: سير النهار، والأساد: سير الليل.
وقيل في (أَوِّبِي مَعَهُ) سبحي. وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة.
وتأويله عند أهل اللغة: سبحي معه مؤوبةً، أي: سبحي معه في النهار، وسيري معه.
وقيل تأويله: رجعي معه التسبيح، لأنّ أصله من آب يؤوب، أي: ارجع.
وقيل معناه: سيري معه حيث شاء.
وجاء في التفسير: أنّ الحديد لانَ في يده حتى صار كالشمع، قال: وأسيل له الحديد حتى صار كالطين، فكان يعمل به ما يشاء.
فأما النصب في قوله (وَالطَّيْرَ) ففيه أربعة أوجه:
أحدها: أنّه معطوف على قوله: (فَضْلًا)، والتقدير: آتينا داود منَّا فَضْلًا والطيرَ يَا جِبَالُ أَوِّبِي معه، وهذا قول الكسائي.
والثاني: أنّه نصب بإضمار فعل، كأنّه قال: وسخرنا له الطير، وهو قول أبي عمرو.
والثالث: أنّه مفعول معه، كأنّه قال: يَا جِبَالُ أَوِّبِي معه مع الطير، قال الشاعر:
فَكُونُوا أُنتُم وَبنَى أبيكُم ... مكانَ الكُليَتيَن منَ الطِّحَالِ

(1/315)


أي: مع بني أبيكم.
والرابع: أن يكون معطوفاً على موضع الجبال؛ لأنَّ موضعها نصب بالنداء، كما تقول: يا زيدُ والضحاكَ، قال الشاعر:
ألا يَا زيدُ والضحاكَ سِيرا ... فقَد جَاوزتُما خَمْرَ الطرِيقِ
وروي أنّ الأعمش أو غيره قرأ (وَالطَّيْرُ) بالرفع، وكذلك قرأ يعقوب، وأجازه الفراء، ورفعه من وجهين:
أحدهما: أن يكون معطوفا على لفظ (الجبال)، كما تقول: يا زيدُ والضحاكُ، وهو اختيار الخليل، وأبو عمرو يختار: يا زيدُ والضحاك.
والثاني: أن يكون معطوفاً على المضمر في (أَوِّبِي) وهو قول الفراء. وحسُن العطف على المضمر المرفوع وإن لم يؤكد؛ لأنَّ قوله (معه) قام مقام التوكيد، كما قال في آيةٍ أخرى (مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا)، فقامت (لا) مقام التوكيد. وقد جاء العطف من غير توكيد ولا فصل في نحو قول عمر بن أبي ربيعة:
قُلْتُ إذا أقبلَتْ وزَهرٌ تَهادَى ... كنِعاجِ المَلا تَعَسَّفْنَ رَمْلا
وهو قبيح، وكان حقه أن يقول: هي وزهر.

قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ)

(1/316)


قال الزجاج: " سبأ " مدينة بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام.
قال غيره: هي قبيلة، وقيل: " سباً " رجل، وهو أبو اليمن، وللعرب فيها مذهبان:
منهم من يصرفها. يجعلها اسما للحي. أو اسما للمكان. أو لأبٍ، قال جرير:
تَدعُوك تَيْمٌ في قُرى سَبَأٍ ... فَدعَضَّ أعناقََهم جِلْدُ الجواميسِ
ومنهم من لا يصرفها، يجعلها اسما لقبيلة أو لمدينة أو لبقعة أو لأم. قال الشاعر:
مِنْ سَبَأَ الحاضرينَ مَأْرِبَ إذ ... يَبْنُون مِنْ دونِ سَيْلِهِ العَرِما
والعرم: المُسَنّاة، واحدها " عرمة " وكأنه مأخوذ من (عُرامة) الماء، ويقال له أيضاً " مُحبس الماء "، قال الأعشى في العرم:
ففي ذاك للمؤتسي أُسوْةً ... ومأرب عفّى عليه العَرمْ
رُخامُ بنتهُ لهم حِمَيرٌ ... إذا جاءَه ماؤهم لم يَرِمْ
والخمط: كل نبت قد أخذ طعما من المرارة، هذا قول الزجاج، وقال أبو عبيدة: الخمط: كل شجرة ذات شوك، وقيل: الخمط: شجر الأراك، وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك.

(1/317)


وأُكلُهُ: ثمره، يقال: أَكُلُ وأُكُل. بضمّ الهمزة، فأما الأَكُل بالفتح فمصدر أَكَل.
والأثل: الطرفاء. وقيل: خشب وهو قول الحسن. والمعروف أنْ الأثل شجر يَشبه الطرفاء.
والسدر: شجر النبق، وقيل: السدر هاهنا السمر، وهو شجر أم غيلان.
وقرئ (ذَوَاتَيْ أُكُلِ خَمْطٍ) بالإضافة، وهي قراءة أبي عمرو، وقرأ الباقون (ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) بتنوين (أُكُلٍ)، جعلوا (خَمْطٍ) بدلا من (أُكُلٍ) وهو بدل بعض من كل.
حدثني أبي عن عمه إبراهيم بن غالب عن القاضي منذر بن سعيد قال: حدثنا أبو النجم عصام بن منصور المرادي عن أبي بكر أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام قال كان عمرو بن عامر فيما حدثني أبو زيد الأنصاري: رأى جرذاً في سد مأرب الذي كان يحبس عليهم الماء فيصرفونه حيث شاءوا من أرضهم فلما رأى ذلك علم أنّه لا بقاء للسد على ذلك، فاعتزم على النقلة عن اليمن، وكاد قومه، فأمر أصغر ولده إذا أغلظ له أن يقوم إليه فيلطمه، ففعل ابنه ما أمره به، فقال عمرو: لا أقيم ببلد لطم وجهي فيه أصغر ولدي، وعرض أمواله. فقال أشراف من أشراف اليمن: اغتنموا غضبة عمرو، واشتروا أمواله، ففعلوا. وانتقل في ولده وولد ولده، وقالت الأزد: لا نتخلف عن عمرو بن عامر، فباعوا أموالهم وخرجوا معه، فساروا حتى نزلوا بلاد (عكّ) فحاربتهم عكّ. فكانت حربهم سجلًا ففي ذلك يقول عباس بن مرداس:
وعكُّ بن عدنان الذين تلعَبُوا ... بغسَانَ حتى طُرَدوا كلّ مطردٍ.
وغسان: ماء يسد مأرب، كان شربا لولد مازن من بني الأزد بن الغوث، فسموا به، ويقال: غسان: ما، بالمشلل قريب من الجحفة. قال حسان بن ثابت:

(1/318)


إِمَّا سأَلتَ فإِنا مَعْشَرٌ نُجُبٌ ... الأَزْدُ نِسْبَتُنا وَالْمَاءُ غَسَّانُ
قال: ثم ارتحلوا وتفرقوا في البلاد فنزل آل جفنة بنْ عمر بن عامر الشام. ونزلت الأوس والخزرج
يثرب. ونزلت خزاعة بطن مرّ، ونزلت أزد السراةِ السراةَ، ونزلت أزد عمانَ عمان، ثم أرسل الله على
السد السيل فهلك به. ففيه أنزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)).
قال ويقال: من ولد عمر بن عامر (ربيعة بن نفر بن أبي حارثة بن عمرو) ومن ولد ربيعة (النعمان بن المنذر) فيما يقال، وقالت العرب: " تفرقوا أيدي سبأ "، فأجري هذا مثلاً، أنشد الفراء:
عَينًا تَرى الناسَ إليها نَسبَا ... مِنْ صَادرٍ وواردٍ أيدي سَبَأ
* * *

قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20))
قرأ الكسائي وعاصم وحمزة (صَدَّقَ) بالتشديد، وقرأ الباقون (صَدَقَ) بالتخفيف. فمن شدد نصب (الظن) لأنّه مفعول بـ (صَدَّقَ). وذلك أنّه قال (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ)، فقال ذلك بالظن فصدق ظنه.
وأما من خفف فذهب الفراء إلى أنّ المعنى: ولقد صدق عليهم إبليس ظنه بالرفع، على أنّ قوله (ظَنَّهُ) بدل من (إِبْلِيسُ)، قال: ولو قرأ قارئ " ولقد صدق عليهم إبليسَ ظنُّه " لجاز كما تقول: صدقك ظنُّك وكذلك ظنَّك؛ لأنَّ (الظن) يخطئ ويصيب.

(1/319)


قوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24))
قال المفسرون معناه: وأنا لعلى هدى وأنتم في ضلالٍ مبين.
ومعنى (أو) هاهنا معنى (الواو)، قال الفراء: وكذلك هو في المعنى، غير أنّ العربية على غير ذلك لا تكون (أو) بمنزلة (الواو) ولكنها تكون في الأمر المفوض، كما تقول: إن شئت فخذ درهما أو اثنين، فله أن يأخذ واحداً أو اثنين، وليس له أن يأخذ ثلاثة. قال والمعنى في قوله (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ) إنّا لضالون أو لمهتدون، وإنكم أيضاً لضالون أو مهتدون، وهو يعلم أنّ رسوله المهتدي وأن غيره الضال، قال: وأنت تقول في الكلام للرجل يكذبك: والله إن أحدنا لكاذب، فكذبته تكذيباً غير مكشوف، وهو في القرآن وفي كلام العرب كثير يوجه الكلام إلى أحسن مذاهبه إذا عرف، كقول القائل: والله لقد قام زيد، وهو كاذب، فيقول العالم بأن الأمر على خلاف ذلك: قل " إن شاء الله " أو قل " فيما أظن " فيكذبه بأحسن من تصريح التكذيب.
قال علي بن عيسى: هذا على الإنصاف في الحجاج، كما يقول القائل: أحدنا كاذب، وحقيقة (أو) هاهنا أنها لأحد الأمرين.
* * *

قوله تعالى: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ)
قال الحسن وابن زيد المعنى: بل مكركم في الليل والنهار، وكذلك هو في العربية يتسع فى الكلام فتضاف الأحداث إلى الزمان، ويخبر عن الزمان بما يقع فيه، فيقال: صيام النهار وقيام الليل، والمعنى: الصيام في النهار، والقيام في الليل، ويقولون: ليل قائم ونهار صائم، والليل والنهار غير

(1/320)


صائمين، قال الشاعر:
لقَد لمتِنَا يَا أم غَيلانَ في السُّرى ... وَنمِتِ وَمَا ليلُ المطيّ بنَائِمِ
وأضاف الليل إلى المطي على الاتساع، ووصف الليل بالنوم، وهذا على حدّ قولك: ليلي نائم، فيقول السامع: ليس ليلك بنائم.
* * *

قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48))
يجوز في (عَلَّامُ) وجهان: النصب والرفع
فالنصب من وجهين:
أحدهما: أن يكون نعتاً لـ (رَبِّي)، كأنّه قال: قل إن رَبِّي علامَ الغيوبِ يقذف بالحق.
والثاني: أن يكون نصباً على المدح، كأنك قلت: أعني علامَ الغيوب.
وأما الرفع فيجوز من وجهين أيضاً:
أحدهما: أن يكون بدلًا من المضمر في " يقذف "؛ لأنَّ في " يقذف " ضميراً تقديره: يقذف هو.
والثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف. كأنّه قال: هو علاَّمُ الغيوب.

(1/321)


وقد قيل: هو مرفوع على موضع (إنّ) قبل دخولها، كما تعطف على موضعها بالرفع، وليس بوجه.
* * *

(1/322)


وَمِنْ سُورَةِ (فَاطِرِ)
قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)
العزة: المنعة، ويقال: عزَّ الشيء إذا امتنعَ. ومنه قيل: شاةٌ عزوز إذا كانت عَسِرَة الحلب، وقيل: أصله من عزَّ إذا غلب، ومنه يقال: مَن عزَّ بزَّ، أي: من غلب سلب، قالت الخنساء:
وكُنَّا القديم سَراةَ الأديمِ ... والنَّاسً إذْ ذَاكَ مَنْ عزَّ بَزَّا
والعَزَان: أطراف الأرض؛ لأنها ممتنعة لعسر المشي فيها، ومن كلام الزهري لرجل كان يأخذ عنه، ويقوم إذا رآه حتى إذا ظن أنّه قد استنفد ما عنده ترك القيام، فقال له: إنك في العَزَان بعدُ فعد إلى القيام، أي: أنت في الطرف.
والصُّعود: ضد الهبوط، وهما المصدران. فأما (الصَّعُود) و (الهَبُوط) بفتح الأول فاسمان؛ يقال: صعد يصعد صَعوداً، إذا ارتفع، وأصعد في الأرض يصعد إصعاداً، قال الشاعر:
هَوايَ مَعَ الرَّكبِ اليمَانِينَ مُصعِدُ ... جَنِيبَ وجُثماني بِمكة مُوثقُ
والكلم: يذكر ويؤنث، تقول: هذه كلم وهذا كلم، وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا " الهاء " يجوز فيه التذكير والتأنيث. نحو: هذه نخل وهذا نخلٍ، قال الله تعالى: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ).

(1/323)


وقال: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ).
وقرأ أبو عبد الرحمن (الكلامُ الطيِّبُ).
والفرق بين الكلام والكلم: أنّ (الكلام) يقع على الجملة القائمة بنفسها. نحو قولك: زيد قائم،
و (الكلم) إنما هو جمع كلمة، كلبنة ولبن وخلفة وخلف، أنشد الفراء:
مَا لكِ تَرغينَ وَلا تَرغُو الخَلفِ ... وَتَضْجَرينَ والمَطِيُّ مُعْتَرِفْ
ومما يسأل عنه أن يقال: علامَ يعود الضمير الذي في قوله (يَرْفَعُهُ)؟
وفيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنّ المعنى: والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب.
والثاني: أنّ المعنى: والله يرفعه.
والثالث: أنّ الكلام يرفع العمل الصالح، ويجوز فى (العمل) على هذا الوجه النصب بإضمار فعلٍ تقديره: ويرفع الكلمُ الطيبُ العملَ الصالحَ يرفعه، ثم حذفت؛ لأنّ الثاني يفسره، ومثله: قام زيدُ وعمراً ضربته، وأجاز الفراء أن تنصب على تقدير: يرفع الله العمل الصالح يرفع، فيَكون " الله " فاعلاً.
* * *

قوله تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ)
الأجاج: الشديد المرارة. وأصله من أُجّت النار، كأنّه يحرق من شدة المرارة، ويقال: ماء ملح، ولا يقال: مالح، وماء ملح أجاج، إذا كان فيه مرارة.

(1/324)


والفُلك: السفن، وهو يقع على الواحد والجمع بلفظ واحد والتقدير مختلف: فإذا كان واحداً كان بمنزلة " قُفُل " و " بُرُد " قال الله تعالى: (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) فجعله واحداً. وإذا كان جمعاً كان بمنزلة " أُسْد " و " وُثن " وعليه قوله: (وَتَرَى الفُلكَ فيهِ مَواخرَ) وإنما كان كذلك لأنهم جمعوا (فَعَلا) على (فُعَلِ) وجاز أن يجمع (فُعُل) على (فُعْلِ) وليس بابه من قبل أنّ (فُعُلا) و (فَعَلا) يشتركان؛ نحو: رُشُد ورَشَد، وسُقُم وسَقَم، وعُدُم وعَدَم، وحُزُن وحَزَن، وعُرُب وعَرَب، وعُجم وعَجَم في أشباه. لذلك، و (فَعَل) يجمع على (فُعْل) نحو: أُسَد وأُسْد، ووَثَن ووُثْن، فجمعوا (فُعُلا) كجمع (فَعَل) وهذا مذهب سيبويه وإن لم يصرح به.
ويقال: مَخَرت السفينة، إذا شقت الماء تمخر مخراً فهي ماخرة والجمع مواخر.
ومما يسأل عنه أن يقال: الحلية إنما تخرج من الملح دون العذب، فكيف قال (يَخْرُجُ مِنْهُمَا)؟
وعن هذا جوابان:
أحدهما: أنّه كذلك إلا أنّه جمع بينهما في ذلك لاصطحابهما؛ لأنّ المعنى قد عُرف، ومثل ذلك قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا)، والقمر إنما هو في سماء الدنيا، غير أنّه وإن كان قد اختص بمكانٍ من السماوات فهو فيها، وكذلك البحران وإن كان اللؤلؤ والمرجان يخرجان من أحدهما فهو يخرج منهما وإن اختص خروجهما من أحدهما.
والقول الثاني: أنّ في البحر عيوناً عذبةَ واللؤلؤ والمرجان يخرجان من بينهما، ذكر أنهما يتكونان في الماء العذب الذي في تلك العيون. فقد اشترك العذب والملح فيهما.

(1/325)


قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا (27))
الجُدُد: جمع " جُدَّة " وهي الطريقة، وجدد: طرائق، قال الشاعر:
كَأنّ سَرَاتَهُ وَجُدّةَ ظَهْرِهِ ... كَنَائِنُ يَجرِي بَيْنَهُنَّ دَليصُ
يعني بالجدة: الخطة السوداء التي في متن الحمار، والدليص: البراق.
والغرابيب: حجارة سود واحدها " غربيب "، وقال (سود) والغرابيب لا تكون إلا سوداً للتوكيد، كما تقول: رأيت زيداً زيداً؟. إذا أردت التوكيد، وقيل: هو على التقديم والتأخير، كأنّه قال: وجدد سود غربيب، لأنّه يقال: أسود غربيب، وأسود حالك، وأسود حلكوك، وأسود حانك بمعنى واحد.
وقوله: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ) أضاف الفعل إلى نفسه، وكان الأول بلفظ الغائب، لقوله (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ) لأنّ الضمير هو الظهر في المعنى فقام أحدهما مقام الآخر.
ونصب (مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا) على الحال، وهي حال مقدرة؛ لأنَّ الثمرة أول ما تخرج لا تختلف ألوانها، وإنما تختلف عند البلاغ، والحال على أربعة أوجه:
هذا أحدها، وهو الحال المقدرة.

(1/326)


والثاني: حال مؤكدة، نحو قوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا)، فهذه حال مؤكدة؛ لأنّ صراط الله لا يكون إلا مستقيماً. ومثله (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا)، لأنّ الحق لا يكون إلا مُصَدِّقًا.
والثالث: حال منقلبة، نحو قولك: قام زيد ضاحكاً؛ لأنَّه يجوز أن يقوم عابساً، ففرقت بين المعنيين.
والرابع: حال منفية، نحو قولك: ما لزيد غيرَ ملتفتٍ ولا مقبلٍ علينا.
وأجمع القراء على رفع (العلماء) ونصب (اسم الله تعالى)، وهو الصواب الذي لا معدل عنه، إلا أنّ طلحة بن مصرف قرأ كذلك: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ) فرفع (اسم الله تعالى) ونصب (العلماء)، ويروى مثل ذلك عن أبي حنيفة، وأكثر أهل العلم يذهب إلى أنّه لحن، وقد اعتذر بعضهم لهذا بأن قال: هو على القلب. كما تقول: تهيبني الفلاةُ، في معنى تهيبت الفلاة، وكما قال الشاعر:
غداةَ أحلَّتْ لابنِ أَصْرَمَ طَعْنَةٌ ... حُصينٍ عَبيطاتِ السَّدائِفِ والخمرُ
فنصب (الطعنة) وهي فاعلة، ورفع (العبيطات) وهي مفعولة، والمعنى: أنَّ الطعنة التي طعنها أحلت له العبيطات، لأنّه نذر أنّ لا يأكل عبيطاً من اللحم ولا يشرب خمراً حتى يقتل فلانًا ويأخذ بثأره، فلما قتله أحل له ذلك القتل ما كان حرّم، ومثله قول امرئ القيس:
حلّت ليَ الخمرُ وكنت امرءًا ... عن شُربها في شُغلٍ شاغلِ
وقال قوم: (يَخْشَى) هاهنا بمعنى يراعي، والتقدير: إنما يراعي الله من عباده العلماء، لأنهم هم المخاطبون الذين يفهمون. ما يخاطبهم به، ومن سواهم تبع لهم. ومثل ذلك قولهم: ما تركت ذلك إلا خشيتك، أي: مراعاة لك.
وقيل: (يَخْشَى) بمعنى: يعلم، والمعنى: كذلك يعلم الله من عباده العلماء، وهذه التأويلات بعيدة.
* * *

(1/327)