إعراب القرآن للأصبهاني

وَمِنْ سُورَةِ (يس)
قوله تعالى: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)
الإنذار: التخويف. و " اللام " في (لِتُنْذِرَ) لام كي، قال قتادة المعنى لتنذر قوماً لم ينذر آباؤهم، على جحد؛ لأنّ عرب الجاهلية لم يكن فيهم نبي قبل محمد عليه السلام. وهذا التأويل إنما يصح إذا كان (القوم) هاهنا يُعنى بهم العرب المضرية والعدنانية، فأما القحطانية فقد كان فيهم هود وصالح وشعيب عليه السلام، ومبعُد أيضاً من قبل أنّ قيسًا بُعث فيهم خالد بن سنان، وهو الذي أطفأ نار الجمرة التي كانت ببلاد قيس، وروي أنّ بنته وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم فأكرمها، وقال: (هذه بنت نبي ضيَّعه قومه)، وقال عكرمة المعنى: لتنذر قوماً كالذي أنذر آباؤهم، فعلى هذا يكون الإنذار لجميع الناس، وتحتمل (ما) على هذا الوجه أن تكون بمعنى (الذي)، فيكون التقدير: لتنذر قوماً كالذي أنذر آباؤهم، وتحتمل أن تكون مصدرية والتقدير: لتنذر قوماً كإنذار آبائهم.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ (12))
قال قتادة ومجاهد في قوله: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا) أي: أعمالهم، وقال مجاهد (وآثارهم) خطاهم إلى المساجد قال غيره (وآثارهم) ما أثروا من الآثار الصالحة أو غير الصالحة، فعُمل بها، فلهم أجر من عمل بها بعدهم، أو وزره وهو قول الفراء.

(1/328)


و (الإمام) هاهنا الكتاب الذي تثبته الملائكة عليهم السلام، وتكتب فيه أعمال العباد.
وأجمع القراء على النصب في قوله (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ) على إضمار فعلٍ، والمعنى: وأحصينا كُلّ شيء أحصيناه. قال الفراء: والرفع وجه جيد، قد سمعت ذلك من العرب.
* * *
قوله تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ (39))
العرجون: الكِباسة، وهو القنو أيضا، والقنا والعنكول والعثكال، والقديم: البالي.
ويُسأَل عن قوله (لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا)؟
وفيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنها تجري لانتهاء أمرها عند انقضاء الدنيا.
والثاني: أنها تجري لوقت واحد لا تعدوه، وهو قول قتادة.
والثالث: أنها تجري إلى أبعد منازلها في الغروب.
* * *

وقوله (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) قيل معناه: حتى يكون نقصان ضوئها كنقصانه، وقال أبو صالح: لا يدرك أحدهما ضوء الآخر، وقيل: الشمس لا تدرك القمر في سرعة سيره، ولا الليل سابق النهار وكل على مقادير قدرها الله تعالى.

(1/329)


والفلك: موضع النجوم من الهواء. وأصله: الاستدارة، ومنه قيل: فلكة المغزل، ويروى أنّ بعضهم قرأ (وَالشَّمْسُ تَجْرِي [لا مُسْتَقَرَّ لَهَا]) أي لا نهاية.
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير (وَالْقَمَرُ قَدَّرْنَاهُ) بالرفع، وقرأ الباقون بالنصب، فمن رفع جعله مبتدأ، والخبر في قوله (قَدَّرْنَاهُ) وهذا كما تقول: زيد قام وعبد الله أكرمته، وأما النصب فعلى إضمار فعل يدل عليه (قَدَّرْنَاهُ)، كأنّه قال: وقدرنا القمر قَدَّرْنَاهُ منازل، ثم حذف الفعل الأول لدلالة الثاني عليه، كما تقول: زيد قام وعمراً أكرمته، والنصب أجود من الرفع، لأنك تعطف فعلا على فعل. قال الربيع بن ضبع الفراري:
أَصْبَحْتُ لَا أَحْمِلُ السلاحَ وَلَا ... أَملِكُ رأْسَ البعيرِ إِن نَفَرا
والذئبَ أَخْشاه إِن مَرَرْتُ بِهِ ... وَحْدِي وأَخْشَى الرياحَ والمَطَرا
يريد: وأخشى الذئب أخشاه، وأما الرفع فهو عطف جملة على جملة وفي الكلام حذف، والتقدير: والقمرُ قدرناه ذا منازل، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ولا يجوز أن يكون بلا حذف؛ لأنّ القمر غير المنازل وإنما يجري في المنازل. ولا يجوز أن تنصب (منازل) على الظرف؛ لأنّه محدود والفعل لا يصل إلى المحدود إلا بحرف جر نحو: جلست في المسجد، ولا يجوز: جلست المسجد، وإنما يصل الفعل بغير حرف إلى الظرف المبهم نحو: أمام ووراء وفوق وتحت ويمنة ويسرة وما كان في معناها.

(1/330)


قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51))
الصور: قرن من نور ينفخ فيه يوم القيامة. واشتقاقه من: صرت الشيء أصوره، أي: أملته وعطفته، كأنّه قال: يمل الناس إلى الحشر ويعطفهم.
وقيل: الصور جمع صورة بمعنى الصور. والمعنى: ينفخ في صور بني آدم، وأصل الصورة أيضاً من الميل، لأنَّها تُمال إلدى هيأة من الهيئات.
والأجداث: القبور، واحدها: جدث، هذه لغة أهل العالية، وأهل السافلة يقولون " جدف "، والويل: بمعنى القبوح، هذا قول الأصمعي، وقال المفسرون: هو وادٍ في جهنم.
وموضع قوله (في الصور) رفع، لأنّه مفعولٌ لم يسم فاعله لـ (نُفِخ)، كما تقول: جُلِس في المكان.
ويحتمل قوله (من مرقدنا) هذا وجهين:
أحدهما: أن يكون " هذا " نعتاً للمرقد، فتبتدئ حينئذ (مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ).
والثاني: أن يكون الوقف على قوله (مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)، وانقطع الكلام، ثم قالت الملائكة (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ)، وفي حرف عبد الله (من أهَبنا من مرقدنا هذا)، وهو بمعنى البعث، والبعث: بمعنى الإيقاظ هاهنا. يقال: بعثت ناقتي فانبعثت، أي: أثرتها فثارت، وهبَّ من منامه وأهبَّه غيره. وانبعث من منامه وبعثه غيره.

(1/331)


والنسول: الإسراع في الخروج، يقال: نسل ينسل نسولًا. قال الشاعر:
عَسَلانَ الذئبِ أمسَى قارِباً ... بَرَدَ الليلُ عليه فَنَسَلْ
قال امرؤ القيس:
وإنهْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مني خليقَةٌ ... فَسُلِّي ثيابي من ثيابِكِ تَنْسُلِ
وقال قتادة في قوله (مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا) يعني بين النفختين.
وقال ابن زيد: قوله (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ) من قول الكافرين.
وقال قتادة: هو من قول المؤمنين، والأوّل أعني: أنّه من قول الملائكة، قول الفراء.
* * *

قوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82))
يقال: مَنْ المخاطب في قوله (كُنْ)؟
وفيه ثلاثة أجوبة عن الزجاج:
أحدها: أنّه لم يقع قول، وإنما هو إخبار لحدوث ما يريد، كأنّه في التقدير: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يكونه فيكون، فعبر عن هذا المعنى بـ (كُنْ) لأنّه أبلغ فيما يراد.

(1/332)


والثاني: أنّ المعنى: إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول من أجله (كن فيكون)، فالمخاطب في هذين الوجهين معدوم، وجاز أمر المعدوم لأنّ الآمر هو الموجد له.
والثالث: أنّ هذا إنما هو في التحويلات نحو قوله: (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) و (كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا) وما أشبه ذلك.
ولفظ الأمر في الكلام على عشرة أوجه:
أحدها: الأمر لمن دونك، نحو قولك لغلامك: قم
والثاني: الندب، نحو قوله تعالى: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا).
والثالث: الإباحة، نحو قوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ).
والرابع: الدعاء، نحو قوله: (آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً)، ونحو قوله: (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا).
والخامس: الرغبة، نحو قوله: ارفق بنفسك، أحسن إلى نفسك.
والسادس: الشفاعة، نحو قولك: هب لي ذنبه، شفعني فيه.
والسابع: التحويل، نحو قوله: (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) و (كُونُوا حِجَارَةً)
والثامن: التهديد، نحو: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) (قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ).

(1/333)


والتاسع: الاختراع والإحداث، نحو: (كُنْ فَيَكُونُ).
والعاشر: التعجب. نحو: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ).
ومن قرأ (فيكونَ) عطف على قوله (أنّ نقول لهُ) ولا يجوز أن يكون جواباً لـ (كن)؛ لأنّ حق الجواب أن يكون مخالفاً لما هو جواب له: إما باختلاف اللفظ، أو باختلاف الفاعل، فاختلاف اللفظ نحو قولك: قم تُكرم، واخرج فيُحسن إليك، وأما اختلاف الفاعل فنحو قولك: قم أقم معك، واخرج أخرجُ معك، وقوله (كن فيكون) قد اتفق فيه الأمران: اتفاق اللفظ، واتفاق الفاعل، فصار بمنزلة قولك: قم تقم، وهذا لا فائدة فيه.
فأما من رفع فعلى القطع، كأنّه قال: فهو يكون، والرفع أجود من النصب، قال علي بن عيسى: الأمر هاهنا أفخم من الفعل فجاء للتعظيم والتفخيم، قال: ويجوز أن يكون بمنزلة التسهيل والتهوين وأنشد:
قَالَتْ لَهُ العَينَانِ سَمْعًا وَطَاعَةً ... وحدَّرتا كالدُّرِّ لمَّا يُثَقَّب
والملكوت والملك بمعنى واحد إلا أنّ الملكوتَ أكثر مبالغة.
* * *
َ

(1/334)


وَمِنْ سُورَةِ (الصَّافَّاتِ)
قوله تعالى: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)
التزيين: التحسين، وحفظ الشيء: صونه، والمارد: الخارج إلى الفساد العاتي.
واختلف القراء: فقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وابن كثير (بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ) وقرأ عاصم من طريق أبي بكر (بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبَ) ينون (زِينَةٍ) وينصب (الْكَوَاكِبَ)، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم (بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) بالتنوبن وجر الكواكب.
فمن أضاف ولم ينوّن جعل المصدر الذي هو (زِينَةٍ) مضافاً إلى الكواكب، وأما من نوّن ونصب (الكواكب) فإنه نصبها (بِزِينَةٍ)، كأنّه قال: ولقد زينا السماء الدنيا بأن زينا الكواكب، لأنّ تزيين الكواكب تزيين للسماء. ومن نوّن وجرّ جعل الكواكب بدلًا من (زِينَةٍ)، كأنّه قال: ولقد زينا السماء الدنيا بالكواكب، وهذا من بدل الشيء من الشيء الذي هو هو؛ لأنَّ الكواكب هي الزينة، ومثله (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ)، وأجاز الفراء الرفع في (الكواكب) مع تنوين (زينةٍ) على أن تكون (الكواكب) هي (الرينة) للسماء، قال: يريد زيناها بتزيينها الكواكب.

(1/335)


قوله تعالى: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)
القرين والمقارن، والصاحب والصاحب ألفاظ متقاربة المعنى، والمدينون المجاوزون، والسواء: الوسط، سُمِّي سواء لاستواء المسافة منه إلى جميع جوانبه، قال ابن عباس: كان القرين رجلا من الناس، وقال مجاهد: كان شيطاناً.
وروي عن أبي عمروٍ (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونِ) بكسر النون، رواه حسين (فأطلِعَ) بقطع الألف، والنحويون لا يجيزون ذلك؛ لأنَّ الأسماء إذا أضيفت حذفت منها النون، فكان يجب أن يقال: هل أنتم مطلعي وإنما يقال (يطلعونِ) في (يطلعونني) بحذف إحدى النونين، كما قرأ نافع (فَبِمَ تُبَشًرُونِ)، فهذا يجوز في الفعل ولا يجوز في الاسم، وأنشد الفراء:
وَمَا أَدْري وظني كلَّ ظَنِّ ... أَمُسْلِمُني إلى قومٍ شَرَاحٍ

(1/336)


يعني: شراحيل، والمبرد يروي هذا البيت (يسلمُني).
قال القراء في قوله (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) هذا الرجل من أهل الجنة كان له أخ من أهل الكفر وأحب أن يرى مكانه، فيأذن الله له، فيطلع إليه في النار ويخاطبه. فإذا رآه قال (وَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) قال: وفي حرف عبد الله (لتغوين) ولولا رحمة رَبِّي (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) معك في النار.
والعامل في قوله: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا) مضمر، كأنّه قال: نُدان ونُجازى إنا لمدينون. ولا يجوز أن يعمل فيه (مدينون)، لأنّ الاستفهام لا يعمل ما بعده فيما قبله.
ويقال: مُتُّ ومِتُّ، وكان القياس أن يقول من يقول (مِتُّ) (أمُات) إلا أنّه جاء (فَعِل يفعُل) ومثله: دمتُ أدُوم وفَضِل يَفضُل، وقد حكى الكسائي: مِتّ تماتُ ودِمتَ تدامُ على القياس، كما تقول: خِفتُ أُخَافُ ونمِتُ أنامُ.
* * *

قوله تعالى: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62))
الألف في قوله (أَذَلِكَ خَيْرٌ): ألف تبكيبٍ وتقريع، وشجرة الزقوم: هي الشجرة الملعونة في القرآن، وكانت فتنتهم بها أنّ أبا جهل قال: النار تأكل الشجر، فكيف ينبت فيها الشجر؟ - وللعلماء عن هذا جوابان:
أحدهما: أنها شجرة من النار.
والثاني: أنها من جوهرٍ لا تأكله النار، وقد استقصيت شرح هذا فى سورة بني إسرائيل. وذكر ابن إسحاق أنّ أبا جهل لما سمع " شجرة الزقوم " قال: أتعلمون ما شجرة الزقوم؟ - قالوا: لا، قال؛ عجوة يثرب، بسمن الحجاز، والله لنتزقمهاً تزقمًا،

(1/337)


فأنزل الله تعالى: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45).
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: إنما يشبه الشيء بما يُعرف. ورؤوس الشياطين لا تُعرف. فكيف شبَّه طلع هذه الشجرة برؤوس الشياطين وهي لا تعرف؟
وعن هذا ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنّ رؤوس الشياطين ثمرة شجرة يقال لها الأستن، وإياه عنى النابغة:
تَحِيْدُ عن أَسْتَنٍ سُوْدٍ أسافِلُها ... مَشْي الإِماءِ الغوادي تَحْمِل الحُزَمَا
وهذه الشجرة تشبه بني آدم، قال الأصمعي: ويقال له " الصوم "، وأنشد:
موكّلٍ بشدُوف الصَوم يَرقبُهُ ... مِنَ المغاربُ مَهضُومُ الحشَانةِ
يصف وعلًا يظن هذا الشجر قناصين فهو يرقبه.
والجواب الثاني: أنّ الشيطان جنس من الحيّات، أنشد الفراء:
عَنجردٌ تَحلف حينَ أحلِفُ ... كمِثلِ شيطانِ الحَماطِ أعرفُ
وأنشد المبرد:
وفي البقل إن لم يدفع الله شَرَّهُ ... شياطينُ يَنْزُو بعضُهنّ إلى بَعضِ
والثالث: أنّ الله تعالى شنَّع صور الشياطين عند الناس، فاستقر في قلوبهم أنها شنعة، فشبّه طلع هذه الشجرة بما استقرت شناعته في القلوب، قال الراجز:

(1/338)


أبصَرتُها تَلتهِم الثُعبانَا ... شَيطانةٌ تَزوجت شَيطانا
وقال أبو النجم:
الرأسُ قملٌ كلُّه وصِئبَانْ ... وليسَ في الرجلين إلا خيطانْ
فهي التي يفزع منها الشيطان
وقال امرؤ القيس:
أَيَقْتُلُني والمَشْرَفِيُّ مُضاجِعي ... ومَسْنونةٌ زُرْقٌ كأَنيابِ أَغوالِ
فشبه أسنته بأنياب الأغوال، ولا يقول أحد أنّه رأى الغول، ومن قاله من العرب فكاذب، نحو
ما يحكى عن تأبط شرًّا. هذا قول المحققين من أصحابنا.
* * *

قوله تعالى: (فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88))
قيل في قوله: (فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) قولان:
أحدهما: أنّ المعنى: أي شيء ظنكم به أسوأ ظنٍّ.
والثاني: فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ أنّه يصنع بكم.
وقيل في قوله: (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) أقوال:
أحدها: أنّ المعنى نظر في علم النجوم ليعلمهم أنّه يعلم من علمهم مثل ما يعلمون، فيكون

(1/339)


إنكاره لعبادتهم الأصنام وقولهم بعلم النجوم على بصيرة، لئلا يحتجوا عليه بأنه لا يحسنها، وكان يقال " من جهل شيئًا عاداه "، فقال: إني سقيم، أي: سأسقم.
والثاني: أنّه نظر في نجوم الأرض، وهو جمع نجم وهو ما لم يقم على ساق فرآها تجف وتذوي، فقال: إني سقيم، أي: سأسقم وأذهب كما تذهب هذه النجوم.
وقيل: فنظر نظرة في النجوم، أي: فيم ينجم له من الرأي، أي: يظهر، يقال نجم النبت إذا ظهر، فقال: إني سقيم.
قال الفراء في قوله (إني سقيم) أي: مطعون، ويقال: إنها كلمة فيها معراض، أي: كل من كان في عنقه الموت فهو سقيم وإن لم يكن به حين قالها سقم ظاهر، قال: وهو وجه حسن.
وروي عن يحيى بن المهلّب عن الحسن بن عمارة عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب في قوله تعالى: (لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ)، قال: لم ينسَ ولكنها من معاريض الكلام، وقد جاء عن عمر رضي الله عنه: (إن في المعاريض لما يغنيك عن الكذب).
وقيل: كذب إبراهيم عليه السلام ثلاث كذبات: قوله (إني سَقِيم) وقوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا)، وقوله في " سارة " هي أختي، وهذا على ما ذهب إليه الفراء من المعاريض: (إني سقيم) سأسقم، و (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) على طريق التبكيت لهم، وكأنه فعله لتعظيمهم إياه، وسارة أخته في الدين.
وقيل: الكذب يجوز في المكيدة والتقية ومسرَّة الأهل بما لا يضر.

(1/340)


قوله تعالى: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ (102))
قوله: (مَاذَا تَرَى) من الرأي، أي: ما رأيك في ذلك. وقال الفراء المعنى: ماذا تُريني من رأيك أو ضميرك، و (رأى) في الكلام على خمسة أوجه:
- بمعنى أبصر، نحو: رأيت
- وبمعنى علم، نحو: رأيت زيداً عالماً
- وبمعنى ظنَّ، نحو قوله (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)، فالأول بمعنى الظن، والثاني بمعنى العلم.
- وبمعنى أعتقد، نحو قوله:
وإنَّا لقَومٌ لا نَرَى القَتْلَ سبة ... إذا مَا رأتهُ عَامِر وسلولُ
- وبمعنى الرأي، نحو قولك رأيت هذا الرأي.
فأما " رأيت في المنام " فمن رؤية البصر، فلا يجوز أن تكون " ترى " هاهنا بمعنى تبصر؛ لأنَّه لم يشر إلى شيء يُبصر بالعين. ولا يجوز أن تكون بمعنى " علم " أو " ظن " أو " اعتقد "؛ لأنَّ هذه الأشياء تتعدى إلى مفعولين، وليس هاهنا إلا مفعول واحد، مع استحالة المعنى، فلم يبق إلا أن يكون من " الرأي " والمعنى: ماذا تراه.

(1/341)


واختلف في جواب (لما):
فقيل: هو محذوف، والمعنى: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ). فازا أو ظفرا بما أرادا.
وقيل: " الواو " زائدة: والمعنى: فَلَمَّا أَسْلَمَا تَلَّهُ لِلْجَبِينِ.
والتل: الصرع.
وقيل في معنى قوله: (بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ): أطاق أن يسعى معه، وهو قول مجاهد، وقال عبد الرحمن بن زيد: هو السعي في العبادة.
وقيل: إنه أمر أن يقعد مقعد الذابح، وينتظر الأمر بإمضاء الذبح على ما رآه في منامه، ففعل، وقيل: إنه أمر على شرط التخلية والتمكين، فكان كما رُوي أنّه كلما اعتمد بالشفرة انقلبت، وجُعل على حلقِه صفيحة من نحاس، وقيل: بل ذبح، ووصل الله تعالى ما فراه بلا فصل.
واختلف في الذبيح:
فقيل: هو إسماعيل، وقيل: هو إسحاق، روى محمد بن خالد عن سلمة بن قتيبة عن مبارك عن الحسن عن الأحنف عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنّه قال: الذبيح إسحاق، وروى أبو الخطاب حدثنا أبو داودد عن زيد بن عطاء عن سماك بن حرب عن محمد بن المنتشر عن مسروق أنّه كان يقول: الذبيح إسحاق، وروى إسحاق بن إبراهيم الشهيدي عن يحيى بن اليمان عن إسرائيل عن نور عن مجاهد عن ابن عمر قال: الذبيح إسماعيل، وروى محمد بن عبيد حدثنا مسلم بن إبراهيم عن الحجاج بن الحجاج عن الفرزدق هيثم بن غالب قال: سمعت أبا هريرة على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: الذبيح إسماعيل، والأوّل قول علي وابن مسعود والحسن وكعب الأحبار، والثاني قول محمد بن كعب وسعيد بن المسيب وابن عباس والحسن بخلاف.

(1/342)


وقيل: كان الذبيح يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال (أنا ابن الذبيحين)، فهذا يدل على أنّ الذبيح (إسماعيل)، لأنّ النبي عليه السلام من ولد إسماعيل، والذبيح الثاني (عبد الله) أب النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثني أبي عن عمه حدثنا القاضي منذر بن سعيد حدثنا أبو النجم عصام بن منصور عن أبي بكر أحمد بن عبد الله البرقي عن أبي محمد عبد الملك بن هشام عن زياد بن عبد الله البكاي عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري عن يزيد بن عبد الله عن عبد الله بن دريد الغافقي قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحدث، قال: كان عبد المطلب نائما في الحجر، فأتاه آت، فقال: احفر طيبة، قال عبد المطلب: وما طيبة؟ - قال: فذهب عني، قال عبد المطلب: فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر برة، قلت،: وما برة؟ قال: فذهب عني، فلما كان من الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة، قلت: وما المضنونة؟ - قال: فذهب عني. فلمَّا كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت، فجاءني فقال احفر زمزم، قلت وما زمزم؟ - قال: لا ينُزف أبدا ولا يندم، وهي بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل، قال: فلما بيّن له شأنها. وعرف موضعها، وعرف أنّه قد صُدق، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث، وليس له يومئذ ولد غيره، فَحفر فلمَّا بدا له الفيء كبَّر، فعرفت قريش أنّه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه، فقالوا له: يا عبد المطلب، إنّها بئر أبينا إسماعيل. وإنّ لنا فيها حقا فأشركنا معك فيها، فقال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم. قالوا له: فأنصفنا، فإنّا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها. قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا كاهنة بني سعد بن هذيم، قال: نعم، وكانت بأطراف الشام، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر والأرض إذ ذاك مفاوز، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام فني ماء عبد المطلب وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم، فقالوا إنا بمفاوز، ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فلما رأى عبد المطلب ذلك قال لأصحابه ماذا ترون؟ - قالوا: ما رأينا إلا تبع رأيك. فمُرنا بما شئت، قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن في القرة، فكلما مات رجل دفنه أصحابه في حفرته، ثم واروه حتى يكون آخركم رجلًا، فضيعة رجلٍ واحد أيسر من ضيعة ركب، قالوا: نعم ما أمرت به، ففعلوا ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشاً، ثم إنّ عبد المطلب قال لأصحابه:

(1/343)


والله إنَّ إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نبتغي لأنفسنا فرجاً لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد ارتحلوا، فارتحلوا حتى إذا فرغوا، وقبائل قريش ينظرون إليهم ماهم فاعلون، تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت به انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب فكبَّر عبد المطلب وكبَّر أصحابه، ثم نزل فشرب وشربوا، واستقوا حتى ملأوا أسقيتهم ودعا عبد المطلب قبائل قريش فقال: هلم إلى الماء، فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا. فشربوا واستقوا، ثم قالوا له: والله لقد قُضِي لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبداً، إنّ الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشداً، فرجع ورجعوا، ولم يصلوا إلى الكاهنة، قال: وكان قد نذر حين لقي من قريش ما لقي (لئن وُلدِ له عشرة نفر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه لينحرن أحدهم عند الكعبة) فلما وُلد له عشرة، وعلم أنّهم سيمنعونه، أحب أن يفي بنذره، فجمع بنيه وأخبرهم بذلك، ودعاهم إلى الوفاء لله تعالى. فأطاعوه، قالوا: كيف نصنع؟ - قال: ليأخذ كل رجل منكم قدحاً ثم يكتب عليه اسمه، ثم ائتوني، ففعلوا، وأتوه فدخل بهم على " هبل " في جوف الكعبة، وكان (عبد الله) أحب ولده إليه، فكان يرى أنّ السهم إذا أخطأه فقد أشوى، فلما أخذ صاحب القداحِ القداح ليضرب بها، قام عبد المطلب يدعو الله عند هبل، فضرب صاحب القداح، فخرج القدح على عبد الله. فأخذ عبد المطلب بيده وأخذ الشفرة، ثم أقبل إلى إسافٍ ونائله ليذبحه، فقامت إليه قريش من أنديتها، فقالوا ما تريد يا عبد المطلب؟ - قال: أذبحه، قالوا له: والله لا ندعك تذبحه، لئن فعلت لا يزال الرجل يأتي بابنه حتى يذبحه، فما بقاء للناس على هذا، وساعدهم بنوه، فقال له المغيرة بن عبد الله المخزومي: لا ندعك تذبحه حتى تعذر فيه، فإن كان فداء فديناه بأموالنا، وقالت له قريش: اذهب إلى عرَّافةٍ بالحجاز لها تابع، فسلها وأنت على رأس أمرك. فذهب وذهبوا معه إلى خيبر، فسألوا العرَّافة عن ذلك، فقالت: ارجعوا عني اليوم حتى يأتي تابعي فأسأله، فرجعوا، فلما كان من الغد، عادوا إليها. فقالت لهم: قد جاءني الخبر، كم الدية فيكم؟ - قالوا عشرة من الإبل، وكانت كذلك، قالت: فارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم وقربوا عشراً من الإبل، ثم اضربراً عليه وعليها بالقداح فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم. فإن خرجت على الإبل فانحروها عنه، فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم، فرجعوا إلى مكة فلما أجمعوا على ذلك قام عبد المطلب يدعو الله، ثم قربوا عبد الله وعشراً من الإبل، وعبد المطلب يدعو، فخرج القدح على عبد الله، فزاودوا عشراً، وضربوا فخرج على عبد الله، فزاودوا عشرًا فخرج على عبد الله، فزادوا عشراً فخرج على عبد الله. إلى أن بلغت مائة فخرجت على الإبل، فقالت قريش ومن حضر: قد انتهى، رضي ربك يا عبد المطلب فقال: لا والله، حتى أضرب عليها ثلاث مرات ففعل، تخرج في جميع ذلك على الإبل، فنُحرت وتُركت لا يصد عنها إنسان ولا سبع، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم -

(1/344)


يقول (أنا ابن الذبيحين) فهذا يدل على أنّ الذبيح إسماعيل عليه السلام؛ لأنَّ النبي من ولده.
* * *

قوله تعالى: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147))
(أو) هاهنا لأحد الأمرين على طريق الإبهام من المخبر، قال سيبويه: هي تخيير. كأنّ الرائي خُيِّر في أن يقول: هم مائة ألف أو يزيدون.
وقال بعض الكوفيين: (أو) بمعنى (الواو) كأنّه قال: ويزيدون.
وقال بعضهم: هي بمعنى (بل)، وهذان القولان عند العلماء غير مرضيين قال ابن جني: هي شك من الرائي.
وأجود هذه الأقوال الأول والثاني.
* * *

(1/345)


وَمِنْ سُورَةِ (ص)
قوله تعالى: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1))
الذكر هاهنا: الشرف،: هو قول ابن عباس، كأنّه قال:: القرآن ذي الشرف، وقال الضحاك وقتادة: ذي الذكر: ذي التذكير.
قال قتادة في قوله (فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ) أي: في حميةٍ وفراق، وقال عبد الرحمن بن زيد: الشقاق: الخلاف، وأصله من المشاقة وهو أن يصير كل واحد من الفريقين في شق، أي: في جانب، ومنه يقال: شق فلان العصا، إذا خالف.
قال الفراء: أجمع القراء على إسكان (صاد) إلا الحسن فإنّه جرها بلا تنوين لاجتماع الساكنين، وشبهه بقولهم: خاز باز، وتركته في حيص بيص. وأنشد:
لم يَلتَحِصني حَيصَ بَيصَ الحاصِي
قال و (صاد) في معنى: وجب والله، نزل والله، حق والله، فهي جوابٌ لقوله (والقرآن) كما تقول: نزل والله.
قال ابن عباس: هو اسم من أسماء الله تعالى. وقال السُّدِّي: هو من حروف المعجم، وقال الضحاك

(1/346)


معناه: صدق الله، وقال قتادة: هو اسم من أسماء القرآن.
واختُلف في كسر (الصاد): فقال الفراء: هو لالتقاء الساكنين، وقال غيره: هو أمرٌ من المصاداة، كأنّه قال: صادِ القرآن. أي: عارف بعملك وقابله، وهذا قول الحسن.
وقرأ بعضهم (صَادَ) بالفتح، جعله اسماً للسورة. ولم يصرفه للتعريف والتأنيث، ويجوز أن يكون موضع (صاد) في هذا الوجه نصباً، كأنّه قال: اتلُ صادَ، ولو رفع لجاز علي تقدير: هذه صادُ، فأما من أسكن فيجوز أن يكون في موضع نصب على تقدير: اتلُ، وعلى تقدير حذف حرف القسم في مذهب من جعلها قسمًا، ويجوز أن يكون في موضع رفع على تقدير: هذه (ص)، في مذهب من جعلها اسما للسورة.
واختلف في جواب القسم: فقال الفراء: جواب قوله (والقرآن) (صاد)، وقد تقدم ذكره، وقيل: جوابه محذوف. كأنّه قال: والقرآن ذي الذكر لقد جاء الحق وظهر الأمر، وقيل: الجواب ما كفى منه قوله (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) كأنّه قال: والقرآن ذي الذكر ما الأمر كما قالوا، وهو قول قتادة، وقيل: الجواب ما كفى منه قوله (كم أهلكنا) وهذا مروي عن الفراء مع قوله الأول، وقيل: الجواب في آخر السورة، وهو قوله (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64))، إلا أنّه بُعد عن أول الكلام.

(1/347)


قوله تعالى: (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31))
العرض: إظهار الشيء، يقال: عرضت عليه كذا وكذا.
والعشي: آخر النهار، وهو الأصيل أيضاً: العصر والقصر.
والصافنات: من الخيل. يقال: فرس صافن إذا قام على ثلاث وثنى سنبله، وهو جمع " صافنة "، وإنما يفعل ذلك الفرس؛ لأنّه يراوح، قال مجاهد الصفون: رفع إحدى يدي الفرس حتى تكون على طرف الحافر، وقال عبد الرحمن بن زيد: هو قيامه على ثلاث، قال الشاعر:
أَلِفَ الصُّفُوْنَ فما يَزال كأنَّه ... مِمَّا يقومُ على الثلاثِ كَسِيْرا
قال الفراء في حرف عبد الله (إذ عُرض عليهِ بالعَشِي الصوافِنُ) وهو بمنزلة الصافنات.
وقرئ (إذ عُرض عليه بالعَشِي الصْافِيَاتُ) أي: المتخيّرة.
والجياد: جمع جواد، وياؤها منقلبة عن واو، وأصلها (جِواد).
والخير هاهنا: الخيل، وكان النبي عليه السلام يسمي " زيد الخيل " " زيد الخير "، قال قتادة

(1/348)


والسُّدِّي: الخير الخيل ها هنا.
ويقال: طفق يفعل كذا وكذا، وجعل يقول كذا وكذا، وأخذ يفعل. . كل ذلك بمعنى.
والكرسي: أصله من التكرس، وهو الاجتماع. ومنه قيل للجر " كراسة " لأنها مجتمعة.
والجسد هاهنا: شيطان، قال ابن عباس: اسمه (صخر)، وقال مجاهد: اسمه (آصف)،
وقال السُّدِّي: اسمه (حبقيق).
واختلف في قوله: (فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ):
فقيل: كشف عراقيبها وضرب أعناقها، وقال: لا تشغلني عن عبادة ربي مرة أخرى، وهو قول الحسن.
وقال ابن عباس: مسح أعرافها وعراقيبها حبالها.
قال الزجاج: هذا لا يوجب ذنباً، واستعظم ضرب أعناقها وكشف عراقيبها، وقال: لعله أوحي إليه بذلك، وأبيح له، لأنّ ضرب أعناق الخيل لا يوجبه تأخره عن الصلاة.
قال الفراء في قوله (وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا) أي: صنماً.
وقيل: كان سليمان عليه السلام يحب بعض ولده فجعله في السحاب خوفاً عليه، فعوقب بذلك وألقي جسد ولده ميتاً على كرسيه (1).
__________
(1) هذا الكلام وما شابهه من الإسرائيليات المنكرة. والله أعلم.

(1/349)


قوله تعالى: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ (34))
أي: ابتليناه، وقيل: سُلب ملكه أربعين يوماً. وكان ملكه في خاتمه. فلما أخذه الشيطان رماه في البحر، فوجده سليمان بعد أربعين يوماً في بطن سمكة.
وقيل: كان ذنبه أنّه وطئ في ليلة عدداً كثيرةً من جواريه حرصاً على كثرة الولد.
وقيل: كان ذنبه أنّه وطئ امرأته في الحيض.
وقيل: كانت له امرأة سباها من المغرب، وقتل أباها، فاتخذت صنماً على صورة أبيها، فكانت تسجد له، وكان اتخاذها له بعلم سليمان، فعوقب على تمكينها من ذلك (1).
قال الفراء في قوله: (حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) يعني: الشمس، كان قد عرض هذا الخيل، وكان غنمها من جيش قاتله، فظفر به، فلما صلى الظهر دعا بها فلم يزل يعرضها حتى غابت الشمس، ولم يصل العصر، وكان مهيباً لا يُبتدأ بشيء حتى يأمر به، فلم يذكر العصر، ولم يكن ذلك عن تخُّيرٍ منه، فلمَّا ذكرها قال: (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ)؛ يقول: آثرت حُبَّ الخير: يعني الخيل، والعرب تقول للخيل خير.
يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) أنّه قال: يعني صلاة العصر، وهو قول قتادة والسُّدِّي، قال الزجاج: أراها صلاةً كانت مفروضة عليه في ذلك الوقت؛ لأنّ صلاة العصر لم تفرض على غير نبينا عليه السلام.
وأضمر (الشمس) في قوله (حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) أي سترت، ولم يجرِ لها ذكر؛ لأنّه
__________
(1) يجب ألَّا يُلتفت إلى هذه الأساطير وتلك الأباطيل.

(1/350)


شيء قد عُرف، كما قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) يعني: القرآن، ولم يجرِ له ذكر، وقال: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) يعني: الأرض، ولم يجرِ لها ذكر. هذا قول جميع النحويين.
قال الزجاج: وما أراهم أعملوا الفكر في هذا؛ لأنّ في الكلام ما يقوم مقام ذكر الشمس، وهو قوله: (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ) فالعثي يدل على معنى الشمس.
* * *

قوله تعالى: (قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84))
قرأ حمزة وعاصم برفع الأول ونصب الثاني، وقرأ الباقون بنصبهما جميعا، وهي قراءة الحسن، والأولى قراءة الأعمش وابن عباس ومجاهد.
فمن رفع الأول جعله خبر مبتدأ محذوف، كأنّه قال: أنا الحق، أي: ذو الحق والحقّ أقول. قال الفراء: هو مبتدأ والخبر محذوف، كأنّه قال: فالحقُّ مني، وذكر أنّ مجاهداً قرأ (فَالْحَقُّ مني وَالْحَقَّ أَقُولُ). والأوّل معنى قول ابن عباس قال الفراء: وقد يكون رفعه على تأويل: الحق لأقومن، كما تقول: عزمة صادقة لآتينْك، لأنّ فيه تأويل: عزمة صادقة أنّ آتيك، قال: ومثله (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ).

(1/351)


ومن نصب فعلى تقدير: فَالْحَقَّ لأملأن، فينصب على المصدر، وإن كان فيه الألف واللام، لأنّه يؤدي عن قولك: حقاً لأملأن، ويكون قوله (وَالْحَقَّ أَقُولُ) اعتراضاً بين الكلامين.
ونصب (الحق) الثاني بـ (أَقُولُ) ويجوز رفعه على الابتداء. و (أَقُولُ) الخبر، و (الهاء) محذوفة؛ كأنّه قال: والحقُّ أقوله، كما قال امرؤ القيس:
فَلما دَنَوتُ تسديتُها ... فثوبٌ نسيتَ وثوبًا أجُر
يروى: فثوبٌ وثوبًا بالرفع والنصب، فالرفع على ما ذكر لك، والنصب على أنّه مفعول مقدم.
* * *

(1/352)


وَمِنْ سُورَةِ (الزُّمَر)
قوله تعالى: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)
الأزواج: الأصناف. ويعني بالأنعام هاهنا: الإبل والبقر والضأن والمعز، من كل صنفٍ اثنين، وهو قول قتادة والضحاك ومجاهد.
قال الحسن: أنزل لكم من الأنعام: جعل لكم.
وقيل: أنزلها بعد أن خلقها في الجنة.
وقيل: الظلمات الثلاث هاهنا: ظلمة ظهر الرجل، وظلمة البطن، وظلمة الرحم، وقيل: بل
ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسُّدِّي وعبد الرحمن بن زيد.
* * *

قوله تعالى: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64))
الألف هاهنا: ألف إنكار.
ويسأل عن نصب قوله (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي)؟

(1/353)


وفيه جوابان:
أحدهما: أن يكون منصوباً ب (أَعْبُدُ)، كأنّه قال: أفغير الله أعبد، فيكون (تَأْمُرُونِّي) اعتراضاً. وحقيقته: أفغير الله أعبد فيما تأمرونني أيها الجاهلون.
والثاني: أن يكون التقدير: أتأمروني أعبد غير الله أيُّها الجاهلون، فلا يكون (تَأْمُرُونِّي) اعتراضاً،: لكن على التقديم: التأخير.
ويُسْأَل عن موضع (أَعْبُدُ) من الإعراب؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنّه لا موضع لها من الإعراب؛ وذلك إذا جعلت التقدير: أعبد غير الله فيما تأمروني أيها الجاهلون.
والثاني: أن يكون موضعه نصباً على الحال. وذلك إذا لم تجعل (تَأْمُرُونِّي) اعتراضاً، فيكون التقدير: أتأمرونني عابداً غير الله. فخرَّجه مخرج الحال، ومعناه: أنّ أعبد، على تقدير المصدر، والمصدر قد يأتي في موضع الحال، نحو قولك: جئته ركضاً ومشياً وكلمته مشافهة وشفاهاً.
وارتفع (أعبدُ) لأنك لما حذفت (أنْ) رجع الفعل إلى أصله، قال طرفة:
أَلا أَيُّهَذا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الوغَى ... وأَن أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنتَ مُخْلدي
يريد: أنّ أحضر، فلما حذف (أنّ) ارتفع الفعل، ورواه بعضهم بالنصب على إضمار (أنْ)؛ لأنَّ الثانية تدل عليها.

(1/354)


قوله تعالى: (. . حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا)
يسأل عن دخول هذه (الواو) هاهنا. وعن جواب (إِذَا) من قوله (حَتَّى إِذَا)؟
فذهب المبرد إلى أنّ (الواو) زائدة، والمعنى: حتى إذا جاءوها فُتِحت أبوابها. وكان يُنكر قول من يقول هي (واو الثمانية)، قال: لأنّ هذا غير معروفٍ في كلام العرب. وأنشد:
فلمَّا أَجَزْنا ساحةَ الحيِّ وانتحى ... بنا بَطْنُ حِقْفٍ ذي قِفافٍ عَقَنْقَلِ
قال: المعنى: فلما أجزنا ساحة الحي انتحى.
قال ابن الرماني: جاءت (الواو) هاهنا للتصرف في الكلام. وقال أيضا: جاءت لتدل على
أبواب الجنة الثمانية. وهو قول أكثر المفسرين.
وأكثر النحويين يمنع ذلك.
والجواب على هذا محذوف، والتقدير: حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وكان كيت وكيت فازوا ونالوا المنى وما أشبه ذلك، وهذا معنى قول الخليل؛ لأنَّه قال في بيت امرئ القيس الذي تقدم ذكره:
الجواب محذوف، والتقدير: فلما أجزنا ساحة الحي خلونا ونعمنا، قال بعض الهذليين:
حتَّى إِذَا أَسْلَكُوهم فِي قُتائِدةٍ، ... شَلًّا كَمَا تَطْردُ الجمَّالةُ الشُّرُدا
فحذف جواب (إذا)؛ لأنَّ هذا البيت آخر القصيدة.

(1/355)


وقيل: (الواو) واو الحال، دخلت لتدل على أنّهم إذا جاءوها وجدوا أبوابها مفتحة، فلم يعقهم عائق عن الدخول، وحُذِفت من الأول، كأن جهنم قد أغلقت، وأقيموا على أبوابها؛ لأنّه أشدّ لخوفهم وفزعهم؛ لأنَّ البلاء توقعه أشد من وقوعه.
* * *

(1/356)


وَمِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِ (غَافِرٍ)
قوله تعالى: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ (11))
يسأل: عن الإماتة الأولى، والإماتة الثانية، والإحياء الأول: الإحياء الثاني؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنَّ الإماتة الأولى إماتتهم عند خروجهم من الدنيا، والإحياء الأول إحياؤهم بمسألة منكر ونكير. والإماتة الثانية إماتتهم بعد المساءلة، والإحياء الثاني إحياؤهم للبعث يوم القيامة، هذا قول السُّدِّي.
والثاني: أنّ الإماتة الأولى كونهم نطفة، والإحياء الأول إحياؤهم في الدنيا، والإماتة الثانية إماتتهم عند خروجهم من الدنيا، والإحياء الثاني إحياؤهم يوم القيامة.
* * *
قوله تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ (28))
قيل: هذا المؤمن كان إسرائيلياً يكتم إيمانه من آل فرعون، وقيل: كان قبطياً من آل فرعون.
ويُسأَل عن قوله: (أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) ما علة دخول (أنّ) هاهنا، وما موضعها من الإعراب؟
والجواب: أنها دخلت لتدل على أنّ القتل إنما كان من أجل الإيمان، ولو حذفت لم يدل على هذا، وإنما يدل على قتل رجل مؤمن لا من أجل إيمانه، والتقدير: أتقتلون رجلًا من أجل أن يقول، أي: لأنّ يقول، وتلخيصه من أجل قوله، ولو حذفت (أنّ) كان التقدير: أتقتلون رجلًا قائلًا ربي الله؛ لأنّ (يقول) حينئذٍ نعتٌ لرجل، كما تقول: مررت برجل يأكل، أي: رجلٍ آكلٍ.

(1/357)


وموضع (أنّ) نصب على المفعول له.
وقوله: (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) روي عن الخليل أنّ (بعضًا) هاهنا زائدة، والمعنى: يصيبكم الذي يعدكم.
قال بعض المفسرين: (بعض) هاهنا بمعنى: كل، وبه قال ابن قتيبة. وهذان القولان غير مرضيين عند العلماء؛ لأنّ (بعضًا) اسم ولا يصح زيادة الأسماء، وإنما يزاد الحرف في بعض المواضع، و (بعض) ضد كل، فلا يدل على ضدها؛ لأنّ المعاني إن فعل ذلك بها تشكل، قال ابن الرماني: إنما قال (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) على المظاهرة بالحجاج، أي: إنه يكفي بعضه فكيف جميعه، وقيل: بعضه في الدنيا، وقيل: كان يتوعدهم بأمور مختلفة، فخوفهم ببعض تلك الأمور.
* * *

(1/358)