إعراب القرآن للأصبهاني

وَمِنْ سُورَةِ حم السَّجْدَة (فُصِّلَتْ)
قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا (11))
قد تقدم في سورة البقرة أنّ السماء قد تقع في معنى الجمع، وهي هاهنا كذلك؛ لقوله تعالى: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) فرد الضمير على الجمع.
جاء في التفسير: أنّه تعالى خلقها أولا دخانا، ثم نقلها إلى حال السماء من الكثافة والالتئام.
وقوله: (ثم استوَى) معناه: قصد، وروي عن الحسن أنّه قال: ثم استوى أمره ولطفه إلى السماء. حدثنا أبو الحسن الحوفي عن أبي بكر الأدفوني حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس قال: قرئ على إسحاق بن إبراهيم عن هناد بن السري حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي سعيد بن المرزبان عن عكرمة عن ابن عباس قال هناد وقرأته أنا على أبي بكر: أنّ اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السماوات والأرض؟ - فقال: خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد ويوم الإثنين وخلق الجبال وما فيهن يوم الثلاثاء وخلق الشجر والماء والمدائن والعمارات يوم الأربعاء فهذه أربعة أيام، فقال تعالى (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ)، ثم قال (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) ويقول: لمن سأل. وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة صلوات الله عليهم، إلى ثلاث ساعات بقيت منه، فخلق في أول ساعة من هذه الثلاث الآجال. وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينفع الناس، وفي الثالثة خلق آدم عليه السلام، وأسكنه الجنة وأمر الملائكة بالسجود له. وأخرجه منها في آخر ساعة.
قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال: ثم استوى على العرش، قالوا: قد أصبت لو تَمَّمت ثم

(1/359)


استراح يوم السبت. فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - غضباً شديداً، فنزلت (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ).
قال أبو جعفر روي عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه: أنّ الله تعالى خلق يومًا واحداً فسماه (الأحد)، ثم خلق ثانياً فسماه (الإثنين) ثم خلق ثالثاً فسماه (الثلاثاء) ثم خلق رابعاً فسماه (الأربعاء) ثم خلق خامساً فسماه (الخميس) ثم جمع الخلق فسماه (يوم الجمعة).
وروى عبد الله بن أبي رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه قال: أخذ النبي صلى الله عليه بيدي فقال: (خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الإثنين، وخلق المكروه فيها يوم الثلاثاء، وخلق النور فيها يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل).
قال أبو جعفر: الحديثان ليسا بمتناقضين؛ لأنا إن عملنا على الحديث الأول فالخلق في ستة أيام، وليس في التنزيل أنّه لا يخلق بعدها شيئًا. فيكون هذا متناقضاً، وإن عملنا على الثاني فليس في التنزيل أنّه لم يخلق قبلها شيئًا.
قال ابن عباس فيما روى عنه أبو مالك وأبو صالح: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) كان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس فجعله سماءً واحدةً ثم فتقها فجعلها سبع سماوات في يومين الخميس والجمعة.
قال غيره: قد صح أنّ الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام مقدار كل يوم ألف سنة من أيامِ الدنيا، فكان بين ابتدائه في خلق ذلك وخلق القلم الذي أمره بكتابة ما هو كائن إلى قيام الساعة يوم وهو ألف سنة، فصار ابتداء الخلق إلى الفراغ منه سبعة آلاف سنة.
قال ابن عباس: إقامة الخلق في الأرض سبعة أيام، كما كان الخلق في سبعة أيام، ومدة الدنيا سبعة آلاف سنة.

(1/360)


قال العلماء: نظير خلق الأرض في يومين. ثم لما فيها من تتمة أربعة أيام، قول القائل: خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام ثم إلى الكوفة في خمسة عشر يوماً. أي في تتمة هذا العدد، ولا يريد أنّه سار من بغداد إلى الكوفة في خمسة عشر يوماً، وقد فسَّرنا هذا فيما تقدم بأشبع من هذا.
* * *
قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (37))
يُسأل عن الضمير في قوله تعالى (الذِى خَلقَهُن) علامَ يعود، وكيف جمع، وإنما تقدم ذكر الشمس والقمر؟
والجواب: أنّ الضمير يعود على الآيات، والمعنى: واسجدوا لله الذي خلقهن، أي: خلق الآيات، وليس يعود الضمير على الشمس والقمر فتجب تثنيته.
* * *

(1/361)


وَمِنْ سُورَةِ حم عسق (الشُّورَى)
قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32)
الجواري: السفن، واحدها جارية.
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (الجواري) بالياء في الوصل، ووقف ابن كثير وحده على الياء، وقرأ الباقون بحذف الياء في الوصل والوقف.
فإثبات الياء هو الأصل في الوقف، وحذفها على التشبيه بحذفها مع التنوين؛ لأنّ التنوين وحرف التعريف يتعاقبان على الكلمة، فأعطي أحدهما حكم الآخر، فمن أثبتها في الوقف فعلى الأصل. ومن حذفها فعلى التشبيه بما وقف عليه من المنون.
والأعلام: الجبال، واحدها علم، قالت الخنساء.
وإِنْ صَخرًا لتأتمّ الهداةُ بهِ ... كأنّه عَلمٌ فِي رَأسِهِ نارُ
ومعنى يظلن: يدمن ويقمن، يقال: ظل يفعل كذا وكذا. إذا فعله نهاراً، وبات يفعل كذا وكذا، إذا فعله ليلًا.
والرواكد: الثوابت، والإيباق: الإهلاك والإتلاف هذا قول ابن عباس ومجاهد والسُّدِّي.

(1/362)


وقرأ نافع وابن عامر (وَيَعْلَمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا)
بالرفع على القطع. وقرأ الباقون (وَيَعْلَمَ) بالنصب على إضمار (أنّ). والكوفيون يقولون: نصب على الصرف، وإنما أضمرت (أنّ) ليكون مع الفعل مصدراً فيعطف على مصدر ما قبله، ومثله قول الشاعر:
لَلُبْسُ عَباءةٍ وتَقَرَّ عَيْني ... أَحَبُّ إليَّ من لُبْسِ الشُّفوفِ
أي: وأن تقرّ عيني، أضمر (أنّ) لأنّ في صدر الكلام مصدر: هو (لُبْس).
* * *
قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا (51))
قال الفراء: هذا كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يرى في منامه، ويلهمه يعني " الوحي " قال: (مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ)، كما كلم موسى عليه السلام، (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا) مثل ما كان من الملائكة التي تكلم الأنبياء عليهم السلام.
قال غيره: إرسال الرسول أحد أقسام الكلام، كما يقال: عتابك السيف، كأنّه قيل: إلا وحيا أو إرسالًا.
وقيل المعنى؛ إلا أن، كما تقول: لألازمنَّك أو تقضيني حقي، فلا يكون الإرسال على هذا الوجه كلاماً.

(1/363)


قرأ نافع وابن عامر (أَوْ يُرْسِلُ) بالرفع، وهو الوجه على تقدير: أو هو يرسلُ رسولًا. وقرأ الباقون بالنصب على إضمار (أنّ) كأنّه في التقدير: أو أن يرسلَ رسولًا، ولا يجوز أن يكون معطوفاً على (يُكَلِّمَهُ)؛ لأنّ المعنى يصير: وما كان لبشر أن يكلمه الله ولا كان أن يرسل رسولًا، وهذا إبطال النبوة.
* * *

(1/364)


وَمِنْ سُورَةِ (الزُّخْرُف)
قوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)
القريتان هاهنا: مكة والطائف، ويعني بالرجل هاهنا: الوليد بن المغيرة القرشي أو حبيب بن عمرو الثقفي. وهو قول ابن عباس، وقال مجاهد يعني بالرجلين عتبة بن ربيعة من أهل مكة وابن عبد ياليل من أهل الطائف، وقال قتادة: يعني من أهل مكة " الوليد بن المغيرة " ومن أهل الطائف " عروة بن مسعود الثقفي " وقيل: يعني بالذي من الطائف " كنانة بن عمرو "، وهو قول السُّدِّي.
وفي الكلام حذف، والتقدير: لولا أنزل هذا القرآن على أحد رجلين من القريتين عظيم، ولا يجوز أن يكون على غير حذف؛ لأنّ رجلا لا يكون من قريتين، وقيل التقدير: لولا أنزل هذا القرآن على رجل من رجلين من القرية، ثم حذف؛ لأنَّ المعنى مفهوم.
* * *

قوله تعالى: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
الأصل في " سل ": " اسأل " فألقيت حركة الهمزة على السين، وانفتحت السين، فاستغني عن همزة الوصل فبقي " سل "، ومن العرب من يقول " اسأل " على الأصل، ومنهم من ينقل الحركة إلى السين وشرك همزة الوصل على حالها فيقول " اسَال " ومثله في أنّ همزة الوصل دخلت على متحرك " الحَمْرُ " وليس لهما نظير إلا إذا سميت رجلاً بالباء من قولك " اضرب " فإنك تقول هذا " إبٌ " وهو مذهب الخليل، وقال غيره " رِبٌ ".
ومما يسأل عنه أن يقال: من الذي أمر أن يسألهم؟

(1/365)


وفيه جوابان:
أحدهما: قال الضحاك وقتادة يعني به: أهل الكتابين.
والثاني: أنّه يعني به: الأنبياء عليهم السلام حين جُمِعوا له ليلة الإسراء، وهو قول عبد الرحمن بن زيد.
وفي الكلام على الوجه الأول حذف، والتقدير: وسل أمم من أرسلنا من قبلك، وهو كقوله " وسَل القرية "، وقيل: سلهم وإن كانوا كفاراً فإن تواتر خبرهم تقوم به الحجة.
والآلهة: جمع إله، مثل: إزار وآزرة، وكان المشركون يعظمون الأصنام تعظيم ملوك بني آدم، وكان ذلك التعظيم كالعبادة لها، والمشركون مع ذلك مُقرون أنَّ الله تعالى هو خالقهم ورازقهم، ويدل عليه قوله تعالى: (لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ).
* * *

قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)
في (إنْ) هاهنا وجهان:
أحدهما: أن يكون نفياً، كأنّه قال: ما كان للرحمن ولد. ومثله قوله: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) أي: في الذي ما مكناكم.
والوجه الثاني: أنها شرط، والتقدير: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ) على زعمكم فأنا أول العابدين.
وقيل في العابدين ثلاثة أقوال:

(1/366)


أحدها: أنّه من العبادة كأنّه قال: فأنا أول من يعبده على أنّ لا ولد له؛ لأنَّ من جعل له ولداً لم يعبده حق العبادة، هذا قول المبرد.
والثاني: أن " عابدين " هاهنا بمعنى " جاحدين "، والمعنى: أنّه لا ولد له على الحقيقة، وإذا كان كذلك وجب أن يُجحد ادعاء من ادعاه وينكر ولا يعتقد.
والثالث: أنّ معنى عابدين هاهنا بمعنى الآنفين، يقال عبدت من كذا أعبد عبداً، قال الشاعر:
أُلا هَزِئتْ أم الوَليدِ وَأصبحت ... لما أبصَرتْ في الرأسِ مني تَعبدُ
وقال الفرزدق:
أُولَئِكَ قومي إن هجَوني هَجَوتُهم ... وَأُعبدُ أنْ يُهجا كُليبَ بِدارِمِ
قال مجاهد المعنى: قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين لله في تكذيبكم، وقال عبد الرحمن ابن زيد وقتادة المعنى: قل ما كان للرحمن ولد، وروي عن ابن عباس فيما روى السُّدِّي أنّ المعنى: قل لو كان للرحمن ولد لكنت أول من عبده بأنّ له ولدا. ولكن لا ولد له.
والرحمن: اسمٌ ممنوع، ومعنى ممنوع: أنّه لا يُسمى به غير الله تعالى، وقيل: إنَّ الجاهلية لم تكن تعرفه. فلمَّا نزل قالوا: لا نعرف هذا الاسم، وقيل: إنه لما نزل قالوا: لا نعرف (الرحمن) إلا هذا الذي باليمامة، وقد جاء في الشعر الجاهلي، قال الشاعر وهو " سلامة بن جندل ":
عَجِلتُم عَلينا حُجتينِ عليكُمُ ... وَمَا يشأ الرحمنُ يُعقَدِ ويُطلقِ

(1/367)


قوله تعالى: (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88))
الساعة هاهنا: القيامة.
ومعنى (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ) أي: إلا من شهد بأنّه أهل العفو عنه.
ومعنى قوله (الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي: يدعون إلهًا، إلا أنّه حذف.
قرأ عاصم (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ) وكذلك قرأ حمزة، وهي قراءة السُّلمي وبعض أصحاب عبد الله بن مسعود، وقرأ أهل المدينة (وقِيلَهُ) بالنصب، وهي قراءة الحسن أيضاً، وروي عن الأعمش أو غيره (وقيلُهُ) بالرفع.
فمن جرّ عطفه على " الساعةِ " كأنّه قال: وعنده علم الساعة وعلم قِيلِهِ يَا رَبِّ، وقيل: ويجوز أن يكون معطوفاً على " الْحَقِّ " من قوله: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ) (وَقِيلِهِ).
ومن نصب أضمر فعلًا تقديره: ويعلم قِيلَهَ يا رب. وهو اختيار أبي إسحاق، وقال الفراء: كأنّه قال: وشكى شكواه إلى ربه، قال: وهي فى إحدى القراءتين، قال: ويجوز نصبه على قوله: (نَسْمَعُ سِرَّهُمْ) (وَقِيلَهُ)، وقال الرماني التقدير: إلا من شهد بالحق وقال قِيلَهُ يا رب إنَّ هَؤُلَاءِ قوم لا يؤمنون، على جهة الإنكار عليهم، ويجوز أن يكون معطوفاً على موضع الساعة؛ لأنّ معنى قوله (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)، وَيَعلمُ السَاعةَ، والساعة مفعولة وليست ظرفاً؛ لأنّ الله تعالى لا يعلم في ساعة دون ساعة تعالى عن ذلك.

(1/368)


وأما الرفع فعلى أنّه معطوف على (علم الساعة) والمعنى: وعنده علمُ الساعة وقيلُه، أي: وعنده قيلُه.
قال مجاهد: ولا تشفع الملائكة وعيسى وعزير عليهم السلام إلا من شهد بالحق، وهو يعلم الحق، وقال قتادة: إلا من شهد بالحق الملائكة وعيسى وعزير عند الله شهادةً بالحق.
* * *

(1/369)


وَمِنْ سُورَةِ (الدُّخَان)
قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
أي: أنزلنا القرآن، والليلة المباركة: ليلة القدر، وهو قول قتادة وعبد الرحمن بن زيد، قالوا: أُنزل القرآن جملةً واحدةً إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم نجوماً في نيْفٍ وعشرين سنة، وقال عكرمة: الليلة المباركة: ليلة النصف من شعبان، وقيل: الليلة المباركة: في جميع شهر رمضان؛ تقسم فيها الآجال والأرزاق وغيرهما من الألطاف، وهو قول الحسن.
وسميت " مباركة " لأنها يقسم فيها أرزاق العباد من السنة إلى السنة. وقيل في (أنزلناه) أي: ابتدأنا إنزاله.
ويُسأَل عن نصب قوله (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا)؟
وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون مصدراً، أي: أمرُنا أمراً؛ لأنّ معنى (فِيهَا يُفْرَقُ) كمعنى (فيها يؤمر) فدل يُفْرَقُ على يؤمر.
والقول الثاني: أنّه منصوب على الحال على أحد وجهين: إما أن يكون على تقدير: ذا أمر، ثم حذف، كما قال (ولكنَّ البِرّ). أو يكون وضع المصدر موضع الحال كما يقال: جاء مشياً وركضاً،

(1/370)


أي: ماشياً وراكضاً.
* * *

قوله تعالى: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29))
يقال ما معنى (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ)؟
وفيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنّ المعنى: أهل السماء والأرض؛ لأنهم يسخط الله تعالى عليهم في مكان خزي.
والثاني: أنّ المعنى: لو كانت السماء والأرض ممن يبكي على أحدٍ لم تبكِ على هَؤُلَاءِ؛ لأنَّهم عصاة مجرمون.
والثالث: أنّ المعنى: أنّه لم تبكِ عليهم كما تبكي على المؤمن إذا مات مصلاهُ ومصعدُ عمله، وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير، والأوّل قول الحسن.
* * *

قوله تعالى: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49))
يسأل عن معنى (الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) هاهنا؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أن يكون على طريق النقيض، المعنى: ذق إنك أنت الذليل المهين، إلا أنّه جاء على جهة الاستخفاف، وهذا في الكلام مستعمل يقول الرجل للرجل يستجهله ويستحمقه: ما أنت إلا عاقل.

(1/371)


والثاني: ذق العذاب إنك أنت العزيز في قومك الكريم عليهم، وما أغنى عنك ذلك شيئًا.
قال قتادة: نزلت في أبي جهل، وذلك أنّه كان يقول: أنا أعز مَن بها وأكرم، فقيل له: أأنت الذي كنت تقول ذلك في قومك وتطلب العزَّ والكرم بمعصية الله، ذق هذا العذاب.
ومما جاء على طريق النقيض قوله تعالى: (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) قيل معناه: أنت السفيه الغوي؛ لأنهم إنما قالوا ذلك على طريق الاستخفاف به. قال الحسن المعنى: ذق إنك أنت العزيز الكريم عند نفسك، والمعني به أبو جهل.
ويجوز في قوله (أنت) وجهان:
أحدهما: أن يكون توكيداً للكاف. و (العزيز) خبر (إنّ).
والثاني: أن يكون (أنت) مبتدأ، و (العزيز) خبره، والجملة خبر (إنَّ).
* * *

قوله تعالى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56))
يقال: لم استثنى هاهنا الموتة الأولى، وهي قد انقضت؟
والجواب: أنّه استثنى من غير الجنس، والتقدير على مذهب سيبويه: لكن الموتة الأولى، ومثله: ما زاد إلا ما نقص، أي: لكن نقص.
قال الفراء: " إلا " هاهنا بمعنى " سوى " والتقدير: سوى الموتةِ الأولى، ومثله:

(1/372)


(وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ).
وقال غيره: " إلا " بمعنى " بعد " والتقدير: بعد الموتة الأولى، وإنما جاز أن تقع " إلا " موقع " بعد "؛ لأنَّ " إلا " لإخراج بعضٍ من كل، و " بعد " لإخراج الثاني عن الوقت الأول.
والموتة: المرة الواحدة من الموت، والميتة الموت. والميتة - بفتح الميم - الميتة، وكثير من المحدثين يغلط في مثل هذا فيقول في (البحر): هو الطهور ماؤه والحل ميتته - بكسر الميم - والصواب فتحها.
* * *

(1/373)