إعراب القرآن للأصبهاني وَمِنْ سُورَةِ (الْجَاثِيةِ)
قوله تعالى: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ
لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ
دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ
السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
(5)
يقال: ما الآيات في السماء والأرض؟
والجواب: الدلائل، وهي من وجوهٍ كثيرة:
منها - أنّه يدل خلقها على خالقٍ لها؛ لأنَّه لا يكون بناء
بغير بانٍ.
ومنها - أنها أعظم الخلق.
ومنها - أنها محكمة على اتساقٍ ونظامٍ، وهذا يدل على أنّ
صانعها واحدٍ، وعلى أنّه قديم؛ لأنَّه صانع غير مصنوع.
ومنها - أنها ممسكة مع عظمها وثقل جرمها بغير عمد. . . إلى
أشباه ذلك
ويسأل: عن الآيات في خلق الإنسان؟
والجواب: أنها من وجوه:
منها - خلق الإنسان على ما هو به من وضع كل شيء في موضعه لا
يصلح له، وذلك يقتضي أنّ الصانع عالم بموضع المصلحة.
ومنها - جعل الحواس الخمس على الهيئة التي تصلح لها.
ومنها - آلة مطعمه ومشربه، ومآل ذلك، كل هذا في تدبيرٍ محكم.
(1/374)
قرأ الكسائي وحمزة (آياتٍ) بالكسر، وقرأ
الباقون بالرفع في الثانية والثالثة،
فمن كسر
(التاء) جعل (الآيات) في موضع نصب على التكرير للتوكيد، والعرب
تؤكد بتكرير اللفظ (، نحو قولك: رأيت زيداً زيداً، ومثله قول
الراجز:
لقَائِل يَا نَصْر نَصرًا نَصرَا
هذا مذهب حذاق النحويين، وقال الأخفش: هو عطف على عاملين.
كأنّه قال: إنَّ في السماوات والأرض لآيات وفى خلقكم آياتٍ،
فعطف على (إن) و (في) وأنشد:
سَألتُ الفَتَى المكيّ ذا العلم ... ما الذي يحلُّ مِنَ
التَّقبيلِ في رَمضَانِ
فقالَ ليَ المكيُّ أمَّا لزوجةٍ ... فسبعَ وأمَّا خُلةٍ فثمانِ
فعطف (خلةً) على زوجةٍ، و (ثمانياً) على سبع. وأنشد سيبويه:
أكلَّ امرئ تحسبين امرأً ... ونارٍ توقَّدُ بالليل ناراً
فعطف (ناراً) الأولى على (امرئٍ) الأول، وعطف (ناراً) الثانية
على (امرئٍ) الثاني، ومثل ذلك:
هَوَنْ عَليكَ فَإن الأمورَ ... بكفّ الإلهِ مَقَادِيرها
فَليسَ بآتيكَ منهيُّها ... ولا قاصرٌ عَنْكَ مأمُورُها
(1/375)
والعطف على عاملين عند البصريين لا يجوز؛
لا تقول: في الدار زيد، والسوق عمرو، وأنت تريد: وفي السوق
عمرو؛ لأنّ حرف الجرّ ضعيف، فلا يعمل بعد الفصل بالأجنبي.
وأما من رفع فإنّه جعل (الآيات) الثانية رفعاً بالابتداء
والخبر المجرور الذي هو (وَفِي خَلْقِكُمْ)، وجعل (الآيات)
الثالثة تكريرًا للثانية، قال الفراء: العرب تقول: إنّ لي عليك
مالًا وعلى أخيك مالٌ كثير، فينصبون الثاني ويرفعونها وأجاز
الفراء رفع (الآيات) وفيها " اللام " وأنشد قال: أنشدنا
الكسائي:
إن الخِلافَةَ بَعدَهُم لذَمِيمَةً ... وَخَلائفَ طرف لما
أحقرُ
وذكر أنَّ أبيًّا قرأ (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ
دَابَّةٍ لَآيَاتٌ)، وكذلك في الثالثة. وأجاز الكسائي: في
الدار لزيدٌ، والبصريون لا يجيزون ذلك.
* * *
(1/376)
وَمِنْ سُورَةِ (الْأَحْقَافِ)
قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ
أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا (24))
العارض: الدفعة من المطر هاهنا، وأصل العارض: الماء ولا يلبث.
ومنه قيل: الدنيا عرضٌ، ولذلك قالوا لخلاف الجوهر عرض؛ لقلة
بقائه. وقيل: سمي السحاب عارضاً لأخذه في عرض السماء قال
الأعشى:
يَا مَن يَرَى عَارِضًا قَد بتُّ أرقُبُهُ ... كأنَّمَا
البَرقُ في حَافَاتهِ الشُّعَلُ
والضمير يعود على العذاب، أي: فلمّا رأوا العذاب الذي تقدم
ذكره معترضاً مستقبل أوديتهم ظنّوه مطرًا.
وقوله: (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) نكرة، وإن كان بلفظ
المعرفة؛ لأنَّ الانفصال مقدّرٌ فيه، والمعنى: فلمَّا رأوه
مستقبلًا أوديتهم. وكذلك، (ممطرنا) إنما معناه: ممطر لنا، واسم
الفاعل إذا كان بمعنى الحال والاستقبال كان الانفصال مقدرًا
فيه، نحو قولك: هذا ضاربُ زيد غداً، وشاتم عمر الساعة، والمعنى
سيضربه وهو يشتمه، وعليه قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ
الْمَوْتِ)، وقوله: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ)، قال جرير:
(1/377)
يَا رُبَّ غَابِطنَا لو كانَ يطلبُكُم ...
لاقَى مُبَاعَدَةً مِنكُم وحِرمانا
يريد: يا رب غابط لنا؛ لأنَّ (رُبَّ) لا تدخل على معرفة، وإنما
تدخل على النكرة وكذلك (كل).
* * *
قوله تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ
يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا
أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ
مُنْذِرِينَ (29))
يسأل: عن معنى (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا)؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنّ المعنى: صرفناهم بالرجم بالشهب، فقالوا إنّ هذا
لأمرٍ كبيرٍ، هذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير.
والثاني: أنّ المعنى عدلنا بهم إليك.
وقيل: صُرفوا بالتوفيق.
قال ابن عباس: كانوا سبعة نفرٍ، وقال ذرٌّ بن حبيش: كانوا تسعة
نفر.
قال ابن عباس: كانوا من أهل نصيبين، وقال قتادة: صرفوا إليه من
(نينوى) وهي مدينة يونس عليه السلام.
* * *
(1/378)
وَمِنْ سُورَةِ (مُحَمَّدٍ) صلى الله عليه
وسلم
قوله تعالى: (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ
(6))
يُسأل عن معنى (عَرَّفَهَا لَهُمْ)؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنّه تعالى عرَّفها لهم. فوصفها على ما يشوق إليهات
ليعلموا ما يستوجبون بأعمالهم من الثواب، وما يحرمون بارتكاب
المعاصي.
والثاني: أنَّ المعنى: طيَّبها لهم بضروب الملاذ من (العَرْف)
والعَرْف: الرائحة الطيبة التي تتقبلها النفس تقبل ما تعرفه
ولا تنكره.
وقيل: طبقات الجنة أربع: طبقة نعيم وهي أعلاها، وهي طبقة
النبيين، ثم طبقة نعيم للمؤمنين المجاوزين بأعمالهم، ثم طبقة
نعيم للمعوضين من غيرهم، ثم طبقة نعيم للمنتدين بالتفضل عليهم.
وللطبقات تفاوت، والمراتب لا تتفاوت. كما قال تعالى: (لَا
يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ
وَقَاتَلَ)، وقال: (أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ
الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ
اللَّهُ الْحُسْنَى).
* * *
قوله تعالى: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ
تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى
لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18))
يسأل عن موضع (ذكراهم) من الإعراب؟
(1/379)
والجواب: أنّ موضعها رفع، والتقدير:
فَأَنَّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة.
وأنى: بمعنى " من أين لهم " ومثل (فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا
جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ) قوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ
الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى)، أي: ليس ينفعه ذكره
ولا ندامته.
* * *
قوله تعالى: (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ)
يسأل عن معنى قوله: (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ)، وبمَ ارتفع؟
وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون المعنى: قولوا أمرنا طاعةٌ وقولٌ معروف، قال
مجاهد: أمر الله تعالى بذلك المنافقين، وقال غيره: هو حكاية
عنهم يقولون: طاعة وقول معروف قبل فرض الجهاد؛ لأنَّ نقيضه
قوله (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ).
والثاني: أنّ المعنى طاعة وقول معروف أمثل وأليق من أحوال
هؤلاء المنافقين.
وقيل: المعنى: طاعة وقول معروف خير لهم من جزعهم عند نزول فرض
الجهاد وهو قول الحسن.
و (طَاعَةٌ) على القول الأول خبر مبتدأ محذوف. وعلى القول
الثاني مبتدأ محذوف الخبر.
* * *
(1/380)
وَمِنْ سُورَةِ (الْفَتْحِ)
قوله تعالى: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ
مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ
فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ)
قال قتادة: لولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات بمكة.
قال ابن زيد: المعرّة: الإثم، وقال: ابن إسحاق: غُرم الدية
وكفارة قتل الخطأ عتق رقبة مؤمنة، ومن لم يطق فصيام شهرين،
قال: وهي كفارة الخطأ في الحرب، قال الفراء: كان بمكة مسلمون
من الرجال والنساء فقال الله تعالى: لولا أن تقتلوهم وأنتم لا
تعرفونهم فتصييكم منهم معرة، يعني: الدية، ثم قال (لَوْ
تَزَيَّلُوا) أي: لو خلص الكفار من المؤمنين لأنزل الله بهم
القتل والعذاب.
ومما يسأل عنه أن يقال: ما موضع قوله تعالى: (أَنْ
تَطَئُوهُمْ)؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنّ موضع (أنّ) رفع على البدل من رجال في قوله
(وَلَوْلَا رِجَالٌ) والتقدير: ولولا وطئ رجالٍ ونساء، أي:
قتلهم، وهو بدل الاشتمال، ومثله: نفعني عبدُ الله علمُه،
وأعجبتني الجاريةُ حسنُها، ومثله (يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ)، ومثل ذلك قول الأعشى:
(1/381)
لقد كَان في حَولٍ ثَواءٍ ثَوَيتُه ...
تُقَضي لبانات ويسأم سائمُ
أي: في ثواء حولٍ.
والثاني: أن يكون موضعها نصبًا على البدل من (الهاء والميم) في
(تعلموهم)، والتقدير: ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم
تعلموا أن تطؤوهم، أي: لم تعلموا وطأهم، وهو بدل الاشتمال
أيضًا.
* * *
قوله تعالى: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ آمِنِينَ)
يسأل عن الاستثناء في قوله (إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) كذا
يسميه المفسرون والفقهاء، وهو في الحقيقة شرط؟
وفيه أجوبة:
أحدها: أنّه تأديبٌ من الله تعالى ليتأدب الخلق بذلك، فيقولوا:
سأفعل ذلك إن شاء الله.
والثاني: أنّه تقييدٌ لدخول الجميع أو البعض، وهو قول علي بن
عيسى.
والثالث: أنّه على التقديم والتأخير، والمعنى: لتدخلن المسجد
الحرام آمنين إن شاء الله، والاستثناء واقعٌ على دخولهم آمنين.
فهذه ثلاثة أقوالٍ للبصريين، وقال بعض الكوفيين (إنْ) بمعنى
(إذ) والمعنى: إذ شاء الله،
(1/382)
ولا يجوز هذا عند أهل البصرة.
* * *
قوله تعالى (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ
رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ
السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ
فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ
فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى (29))
الشطأ: فراخ الزرع التي تخرج من جوانبه، ومنه شاطئ النهر، أي
جانبه، وأشطأ الزرع فهو مشطئٌ.
وآزره: عاونه، واستغلظ: طلب الغِلْظ، والسوق: جمع ساق، وساق
الشجرة حاملتها.
وقيل (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ):
علامة نورٍ تُجعل في وجوههم يوم القيامة، وهو قول ابن عباس
والحسن وعطية. وقال مجاهد: علامتهم في الدنيا من أثر الخشوع.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال ما معنى قوله: (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي
التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ)؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنّ هذه الصفات التي تقدمت مثلهم في التوراة، تم
الكلام، ثم قال: ومثلهم في الإنجيل كزرع من صفته كيت وكيت.
(1/383)
والثاني: أنّ المعنى: أنّ صفته في التوراة:
الإنجيل الصفة التي تقدمت.
فعلى القول الأول يكون الوقف على (التوراة)، وعلى القول الثاني
يكون الوقف على (الإنجيل)، والإشارة بذلك إلى الوصف المتقدم
ذكره.
* * *
(1/384)
|