إعراب القرآن للأصبهاني

وَمِنْ سُورَةِ (ق)
قوله تعالى: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3))
قد تقدم في صدر الكتاب ما قيل في فواتح السور، ومما لم نذكره هنالك بعض ما قيل في (ق):
قيل: (ق) جبلٌ محيطٌ بالدنيا، وقد ذكرنا قول الحسن: أنّه اسمٌ للسورة، وقيل معناه: قضي الأمر؛ وكذا قيل في (حم): حُمْ الأمر، أي: دنا، قال الفراء: هو قسم أقسم به.
والمجيد: العظيم الكريم، يقال: مَجَد الرجل، ومَجُد، إذا عظم وكرُم، وقيل: إذا عظم كرمه، والأصل من مَجَدتِ الإبل مجوداً إذا عظمت بطونها لكثرة أكلها من الربيع.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: أين جواب القسم؟
والجواب عن ذلك: أنّه محذوف. والتقدير فيه: قاف والقرآن المجيد ليُبعثُنَّ، ويدل عليه قوله: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا).
وكذا جواب (إذا) محذوف، وتقديره: أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا بُعثنا أو رُجعنا، ويدل عليه قوله: (ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ)، أي: أمرٌ لا يُنال، وهو جحد منهم، كما تقول للرجل يخطئ في المسألة: لقد ذهبت مذهباً بعيداً من الصواب، أي: أخطأت.

(1/387)


ويقال: عجيب وعُجاب وعُجَّاب، وهذه أبنية للمبالغة، ومثله كبير وكُبَّار وكُثَّار، وله نظائر.
* * *

قوله تعالى: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17))
يسأل عن توحيد (قَعِيدٌ)؟
وعنه جوابان:
أحدهما: أنّه واحدٌ يراد به الجمع، قال الفراء: حدثني حبان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله (قعيد قال: يريد قعوداً عن اليمين وعن الشمال. وهذا كما تقول: أنتم صديقٌ لي، وكما قالوا (رسولٌ) في معنى (رسل)، قال الهذلي:
أَلِكْني إليها وخَيْرُ الرَّسُولِ ... أَعْلَمُهم بِنُوَاحِي الخَبَرْ
فجعل (الرسول) في معنى (الرسل)، والعلة في هذا: أنّ (فعيلا) و (فعولاً) من أبنية المصادر نحو: الزئير والدوي والقبول والولوع، والمصدر يقع بلفظ الواحد، ويراد به التثنية والجمع؛ لأنّه جنس، والجنس يدل واحده على ما هو أكثر منه.
والجواب الثاني: أن يكون المعنى: عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، ثم حذف اكتفاء بأحد الاسمين عن الثاني؛ لأنّ المعنى مفهوم، قال الشاعر:
نحنُ بِما عِنْدَنا وأنتَ بِمَا ... عِندِكَ راضٍ والرأيُ مختلفُ

(1/388)


والمعنى: نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راضٍ. فحذف، وقال الفرزدق:
إني ضَمنتُ لِمَن أتَاني راجيًا ... وَأُبِي، وكانَ وكنتُ غَيرَ غَدورِ
يريد: وكان أبي غير غدور، فحذف، ولم يقل: وكنا غير غدوين، ومثله:
رَمَاني بأَمرٍ كنتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيًّا وَمِنْ أجلِ الطُّوِيِّ رَماني
ولم يقل: بريئين، ومثله: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يَرْضُوهُ). وقوله (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً)، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم.
قال مجاهد: القعيد: الرصد، وقال أيضاً: عن اليمين ملك يكتب الحسنات وعن الشمال ملك يكتب السيئات، وهو قول الحسن. وزاد الحسن: حتى إذا مات طُويت صحيفة عمله، وقيل له يوم القيامة (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)، ثم قال: عدل والله من جعله حسيب نفسه.
* * *

قوله تعالى: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24))
جهنم: اسم أعجمي لا ينصرف للتعريف والعجمة، وقيل: هو عربي، وأصله من قولهم: بئر جهنام إذا كانت بعيدة القعر، فلم ينصرف في هذا الوجه للتعريف والتأنيث.
وسأل عن التثنية في قوله (ألقيا)؟
وفيها خمسة أجوبة:

(1/389)


أحدها: أنّ العرب تأمر القوم والواحد بما يؤمر به الاثنان؛ يقولون للرجل الواحد: قوما، واخرجا، ويحكى أنّ الحجاج قال: يا حرسي اضربا عنقه. يريد: اضرب، قال الفراء: سمعت من العرب من يقول " ويلك ارحلاها ويلك ارحلاها "، وأنشد قال أنشدني بعضهم:
فقُلْتُ لِصَاحِبِي لَا تحبسانَا ... بِنَزْعِ أُصوله واجتزَّ شِيمًا
ولم يقل: لا تحبسنا، قال:: أنشدني أبو ثروان:
وَإنْ تَزجُراني يَا ابنَ عَفانَ أنزَجِر ... وإنْ تَدعَاني أحم عِرضًا مُمنعَا
قال: ونرى أنّ ذلك منهم أنّ أدنى أعوان الرجل في إبله وغنمه اثنان، وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة، فجرى كلام الواحد على صاحبيه، ألا ترى أنّ الشعراء أكثر شيء قيلًا: يا صاحبي ولا خليليّ، قال امرؤ القيس:
خليليَّ مُرَّا بِي عَلَى أُمِّ جُنْدَبِ ... نُقضَّ لبناتِ الفُؤادِ المعذبِ
ثم قال:
أُلمَ تَرياني كُلما جئتُ طارقاً ... وَجَدْتُ بهَا طيباً وَإنْ لم تَطيّبِ
فرجع إلى الواحد؛ لأنَّ أقل الكلام واحد في لفظ الاثنين، وأنشد أيضاً:

(1/390)


خَلِيليَّ قُوما فِي عَطَالَة فانْظُرا ... أَثاراً تَرَى مِنْ ذِي أَبانَيْنِ أَو بَرْقا؟
ولم يقل: تريا، فهذا وجه.
والجواب الثاني: أنّه ثنى ليدل على التكرير،كأنّه قال: القِ القِ، فثنى الضمير ليدل على تكرير الفعل، وهذا لشدة ارتباط الفاعل بالفعل، حتى صار إذا كُرَّر أحدهما فكأن الثاني كرّر، وهذا قول المازني، ومثله عندد: (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ)، جمع ليدل على التكرير، كأنّه قال: ارجعنِ ارجعنِ ارجعنِ وقد شرحناه.
والثالث: أنّ الأمر تناول السائق والشهيد، كأنّه قال: يا أيها السائق هلا أيها الشهيد ألقيا في جهنم.
والجواب الرابع: أنّه ثنى لأنّ إلقاءه في النار لشدته بمنزلة إلقاء اثنين للواحد.
والجواب الخامس: أنّه يريد (النون الخفيفة) كأنّه قال: ألقَين. فأجرى الوصل مجرى الوقف، فأبدل من النون ألفاً، كما قال:
وَذا النُّصب المنصوبَ لا تَنسُكنَّه ... ولا تَعبُدِ الأوثَانَ واللَّهَ فاعبُدَا
وعليه تأول بعضهم قول امرئ القيس:
قِفَا نَبكِ مِنْ ذكِرى حَبيب وَمَنزِلِ

(1/391)


من قال: أراد " قِفَنْ " لأنّه يخاطب واحداً بدلالة قوله في آخر القصيدة:
أجارِ تَرَى بَرقًا أُريكَ وميضَه ... كلمعِ اليَدينِ في حَبيّ مُكلّلِ
وهذا الجواب أضعف الأجوبة؛ لأنَّه محال أن يوصل الكلام والنية فيه الوقف.
* * *

قوله تعالى: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30))
قال أنس: طلبت الزيادة، وقال مجاهد: المعنى معنى الكفاية، أي: لم يبق مزيد لامتلائها، ويدل على هذا القول (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، ولا يمتنع القول الأول لوجهين:
أحدهما: أنَّ هذا القول كان منها قبل دخول جميع أهل النار فيها.
والآخر: أن تكون طلبت الزيادة على أن يُزاد في سعتها، ومثله حمل بعضهم قول النبي صلى الله عليه يوم فتح مكة ألا تترك دارك فقال: (وَهَل ترك لنا عقيل من دار)؛ لأنَّه كان قد باع دور بني هاشم لمَّا خرجوا إلى المدينة. فعلى هذا يكون على المعنى الأول أي: وهل بقي زيادة، وجاء في التفسير: أنّ الله تعالى يخلق لجهنم آلة الكلام فتتكلم، وقال بعضهم: هو على التمثيل، وأنشد:
إمتَلًا الحَوضُ وقَالَ قَطِني ... مهلًا رُويدا قَد مَلأتَ بَطني
وكذا قول عنترة:
وشَكَا إليَّ بعَبْرَةٍ وتَحَمْحُمِ
والأوّل هو المذهب؛ لأنَّه لا يمتنع أن يخلق الله لها آلة الكلام فتتكلم؛ لأنَّ من أنطق الأيدي والأرجل

(1/392)


والجلود قادر على أن ينطق جهنم، وكذا قوله: (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)، هو قولٌ، وليس على طريق التمثيل.
وقيل في هذا الجمع إنه إنما أتى كذلك؛ لأنَّه لما أخبر عنها بفعل من يعقل جمعها جمع من يعقل فهذا يؤكده ما قلناه.
وقال الكسائي المعنى: أتينا نحن ومن فينا طائعين، وفيها من يعقل فغلب على ما لا يعقل، وكلّ حسنٌ جميل.
* * *

(1/393)


وَمِنْ سُورَةِ (الذَّارِيَاتِ)
قوله تعالى: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18))
يسأل عن نصب (قَلِيلًا)؟
وفيه وجهان:
أحدهما: أنّه نعت لمصدر محذوف تقديره: هجوعاً قليلًا من الليل ما يهجعون
، فعلى هذا الوجه تكون (ما) زائدة، و (يَهْجَعُونَ) خبر (كانوا)، والتقدير: كانوا يهجعون هجوعاً قليلًا.
والوجه الثاني: أن يكون (قليلاً) خبرًا لكانوا. والمعنى: كان هَؤُلَاءِ قليلًا، ثم قال: من الليل ما يهجعون، أي: ما يهجعون شيئًا من الليل.
فعلى الوجه الأول يهجعون هجوعًا قليلًا، وعلى القول الثاني لا يهجعون ألبتة.
والهجوع: النوم. وهو قول ابن عباس وإبراهيم والضحاك، والأوّل قول الحسن والزهري.
و (ما) في القول الأول صلة. وفي القول الثاني نافية، وقيل (ما) مصدرية، والتقدير: كانوا قليلًا هجوعهم، وقدَّر بعضهم (قليلا) نعتًا لظرفٍ محذوف، أي: كانوا وقتًا قليلًا يهجعون، وكلُّ محتمل. قال قتادة: لا ينامون عن العتمة ينتظرونها لوقتها؛ كأنّه عدَّ هجوعهم قليلًا في جانب يقظتهم للصلاة، ولا يجوز أن تُجعل (ما) نفيا وينصب بها (قليلاً)؛ لأنَّ ما بعد النفي لا يعمل فيما قبله.

(1/394)


قوله تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23))
قال الضحاك (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ) أي: المطر؛ لأنّه سبب الخير، قال مجاهد (وَمَا تُوعَدُونَ) من خير أو شر. وقيل: ما توعدون: الجنة، لأنها في السماء، قال الفراء: أقسم بنفسه إن الذي قال لكم حق مثل ما إنكم تنطقون، قال: وقد يقول القائل كيف اجتمع (ما) و (أنّ) وقد يُكتفى بإحداهما من الأخرى؟ وفي هذا وجهان:
أحدهما: أنّ العرب تجمع بين الشيئين من الأسماء والأدوات إذا اختلف لفظهما، في الأسماء قال الشاعر:
مِنَ النَّفَرِ اللَّائي الذينَ إِذا هُمُ ... يَهابُ اللِّئامُ حَلْقةَ الْبَابِ قَعْقَعُوا
فجمع بين (اللَّائي) و (الذين) وأحدهما مجزئ من الآخر، وأما في الأدوات فقول الشاعر:
مَا إنْ رَأيتُ وَلا سَمِعتُ بهِ ... كَاليَومِ طالي أينَقُ جُربُ
فجمع بين (ما) و (أنّ) وهما جحدان أحدهما يجري مجرى الآخر.
وأما الوجه الآخر: فإنَ المعنى لو أُفرد ب (ما) لكان المنطق في نفسه حقاً لا كذباً، ولم يُرد به ذلك، وإنما أراد به أنّه لحق كما أنّ الآدمي ناطق، ألا ترى أنّ قولك: أحق منطقك؟ معناه: أحق هو أم كذب؟ وأن قولك: أحق أنك تنطق؛ معناه: ألك النطق حقاً؟ والنطق له لا لغيره، وأدخلت (أنّ) ليفرق بين المعنيين، قال: وهذا أعجب الوجهين إليَّ،

(1/395)


وهو كما قال؛ لأنَّ الوجه الأول ضعيف. أما البيت الأول فالرواية المشهورة فيه:
مِنَ النَفَرِ البِيضِ الذينَ إِذا هُم ... يُهابُ اللئامُ حَلقةَ البَابِ قعقعوا
وأما البيت الثاني فلأن (لا) فيه زائدة، والعرب تزيد (إن) مع (ما) نحو قول النابغة:
فَمَا إِنْ كَانَ مِنْ نَسَبٍ بَعِيد ... وَلكِن أُدركوكَ وَهُم غِضَابُ
وكذا قول الأخر:
فَمَا إِنْ طِبُّنا جُبْنٌ وَلَكِنْ ... مَنايانا ودَوْلةُ آخَرينا
وهذا إن شاع في الحروف فإنَّه في الأسماء بعيد و (ما) و (أنّ) اسمان في تأهيل المصدر، إلا أنّه يجوز أن تكون (ما) حرفاً فيسوغ زيادتها، ولا يسوغ إذا كانت مصدرية؛ لأنها في حيز الأسماء ولا يستحسن زيادة الأسماء. وأما الحروف فيستحسن زيادتها لاسيما (ما) نحو قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ)، و (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ) ونحو قوله (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً) فـ (ما) في أحد القولين زائدة، وقد زادت العرب (ما) زيادة لازمة نحو قولهم: افعل ذلك آثراً ما.
قرأ الكسائي وحمزة وعاصم من طريقة أبي بكر (مثل) بالرفع، وهي قراءة الأعمش، وقرأ الباقون بالنصب، وهي قراءة الحسن. فالرفع على أنّه نعت للحق، وأما النصب ففيه ثلاثة أوجه:

(1/396)


أحدها: أن يكون في موضع رفع؛ لأنَّه مبنيّ لإضافته إلى غير متمكن وهو الاسم الناقص، قال الشاعر:
لم يَمْنَع الشربَ منها غَيرَ أنْ نَطقَت ... حَمَامةٌ في غُصُون ذاتِ أوقَالِ
فَبنى (غير) لأنها مبهمة أضافها إلى مبني وهو (أنْ)، ومَوضع (غير أنّ نطقت) رفعا وكذلك (مثل) مبهم أضيف إلى مبني، فهذا وجه.
والوجه الثاني: أنّه منصوب على الحال. وهو قول الجرمي، وفيه بعد؛ لأنّ (حقاً) نكرة، والحال لا تكون من النكرة، إنما شرطها أن تكون نكرة بعد معرفة قد تم الكلام دونها، نحو قولك: جاء زيد راكبا، تنصب (راكباً) لأنّه نكرة جاء بعد (زيد) وهو معرفة يجوز أن يوقف دونه؛ لأنَّك لو قلت: جاء زيد، لكان كلامًا تامًّا، وهذه الحال منتقلة، إلا أنّه قد جاء عن العرب حرفٌ شاذٌ، وهو قولهم: وقع أمرٌ فجأةً، نصبوا (فجأة) على الحال من (أمر) وأمر نكرة، ولو حصله حامل على أنّه منصوب على المصدر لكان وجهاً؛ لأنّ المعنى: وقع أمر وفاجأ أمر سواء.
وقيل: إن (مثل ما) حال من مضمر في (حق) لأنّه وإن كان مصدراً نهو في موضع اسم الفاعل، واسم الفاعل يتضمن الضمير، نحو قولك: هذا زيدٌ قائم، ففي (قائم) ضمير، ألا ترى أنك لو أجريت (قائماً) على غير من هو له لأظهرت الضمير؛ فقلت: هذا زيدٌ قائمًا أبوه، وقائم أبوه، إن شئت، فـ (الهاء) في (أبوه) هو الضمير الذي كان في (قائم)، ولم يبق في (قائم) ضمير.
والوجه الثالث: أنّه منصوب على المصدر، كأنّه قيل: إنه لحق حقًّا كنطقكم، وهو قول الفراء، وزعم أنّ العرب تنصبها إذا رُفع بها اسم، فيقولون: مثلَ مَن عبدُ الله، ويقولون: عبد الله مثلَك، وأنت مثلَه، وعلة النصب فيها: أنّ الكاف قد تكون داخلةً عليها فتُنصب إذا ألقيت الكاف، قال: فإن قال قائل: أفيجوز أنّ نقول: زيد الأسدَ شدةً، فتنصب (الأسد) إذا ألقيت الكاف؛ - قلت: لا، وذلك أنّ (مثل) تؤدي عن الكاف والأسد، ولا يؤدي عنها، ألا ترى قول الشاعر:

(1/397)


وَزَعْتُ بكالهِراوة أَعْوَجِيٌّ ... إِذا وَنَتِ الرِّكابُ جَرَى وِثابا
أنّ الكاف قد أجزأت عن (مثِل)، وأنّ العرب تجمع بينهما، فيقولون زيد كمثلك، وقال الله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). قال: واجتماعهما دليل على أنّ معناهما واحد.
وهذا لا يجوز عند البصريين. و (الكاف) هاهنا زائدة. وإنما لم يجز عندهم؛ لأنَّه لا ناصب هنالك وإنما ينصب الاسم إذا حُذف منه حرف الجر إذا كان قبله فعل ينصبه، نحو قولك: أمرتك الخيرَ، أنت تريد: أمرتك بالخير. وأنت إذا قلت: إنه لحق كمثل ما أنكم تنطقون، فحذفت الكاف لم يبق ما ينصب (مثل) لأنّه لا فعل هنالك، وإنما قبله (حق) وهو مصدر. والمصدر لا يعمل في المصدر إلا أن يُضمر له فعل تقديره: إنه لحقٌّ يحقُّ حقًّا مثل نطقكم، ثم حذفت الفعل والمصدر جميعا وأقمت نعت المصدر مقامه، فهذا يجوز على هذا التقدير.
* * *

(1/398)


وَمِنْ سُورَةِ (الطُّورِ)
قوله تعالى: (يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23))
الكأس: القدح بما فيه، ولا يسمى كأسًا إذا لم يكن فيه شيء، قال الشاعر:
صَدَدتِ الكأسَ عَنَّا أُمَّ عَمرٍو ... وكانَ الكأسُ مَجراها اليَمِينَا
وقد تسمى الخمر نفسها كأساً. قال علقمة:
كأسٌ عزيزٌ من الأعنَابِ عتَّقها ... لبعضِ أربابها حانيَّةٌ حُرُمُ
ومعنى (يتنازعون) يتعاطفون كأس الخمر، قال الأخطل:
نَازَعتُه طيَبَ الراحِ الشَّمُولِ وَقَد ... صَاحَ الدجَاجُ وَحَانَتْ وَقعةُ الساري
واللغو واللغا: كل ما لا خير فيه من الكلام، قال الراجز:
عَنِ اللغَا ورفَثِ التكلُّمِ
والتأثيم والإثم والآثام واحد.

(1/399)


وقرأ ابن كثير (لَا لَغْوَ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمَ) بالنصب، وقرأ الباقون بالرفع والتنوين.
فمن نصب أعمل (لا) في الموضعين وهي تنصب النكرة بلا تنوين؛ لأنَّها مشبهة بـ (إنَّ)، وذلك أنّ (إنَّ) موجبة و (لا) نافية. والعرب تحمل النقيض على النقيض. كما تحمل النظير على النظير، فلما كانت (إنَّ) تنصب الاسم وترفع الخبر، أعملوا (لا) ذلك العمل، وحكى يونس: لا رجلَ أفضلُ منك، تنصب (رجل) وترفع (أفضل) لأنّه خبر (لا) إلا أنها نقصت عن حكم (إنَّ) فلم تعمل إلا في النكرة، وذلك أنّ (إنَّ) مشبهة بالفعل، و (لا) مشبهة بـ (إنَّ) فلما كانت مشبهة بالشبه قُصِرت على شيء واحد، ولهذا نظير، وذلك أنك تقول: تالله ووالله وبربك ووربك، وتقول: تالله، ولا يجوز: تريك؛ وذلك أنّ (التاء) بدل من (الواو) و (الواو) بدل من (الباء) فلما كانت (التاء) مبدلة من مبدل قُصرت على شيءٍ واحد، وكذلك: فلانٌ من آل فلانٍ. ولا يجوز: فلان من آل المدينة؛ لأنَّ (الألف) من الآل بدل من (الهمزة) و (الهمزة) بدل من (أهل) فصارت بدلًا من بدل فقصرت على شيءٍ واحد، وكذلك: أسنى القوم، اذا دخلوا في السنة، وسواء كانت مخصبة أو مجدبة، فإذا قالوا: استنوا، لم يقع إلا على المجدبة؛ لأنّ (التاء) بدل من (الياء) و (الياء) بدل من (الواو) و (الهاء) على الخلاف في ذلك؛ لأنّه يقال؛ سانهت وسانيت، وقالوا: سنوات وسنة سنهاء، وهذا كله مذهب سيبويه، وذهب غيره من النحويين إلى أنّ (لا) مبنية مع ما بعدها على الفتح، وليس ما بعدها معربًا ولكنه مبني لتضمنه معنى الحرف؛ لأنّ حق الجواب أن يكون وفق السؤال و (لا) جواب لمن قال، هل من رجل عندك؟ فجوابه: لا رجل عندي، وكان يجب أن يقول: لا من رجلٍ، إلا أنّ (من) حذفت. وضُمن الكلام معناها، ووجب البناء؛ لأنّ كل ما تضمن معنى الحرف يُبنى. فإن قال: هل رجلٌ عندك؟ - قلت: لا رجلٌ عندي ترفع لا غير؛ لأنَّ الكلام لم يتضمن معنى (من) والنصب أبلغ في المعنى لتضمنه معنى (من) لأنّ (من) يدخل في " النفي " لاستفراق الجنس، نحو قولك: ما

(1/400)


ما جاءني من رجل. فقد نفيت جميع الرجال. ولو قلت: ما جاءني رجل، لجاز أنك تريد: جاءني اثنان فصاعداً، ومن هذا الوجه كان النصب في قوله (لَا لَغْوَ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمَ) أجود؛ لأنّه أشد في المبالغة.
ومن رفع جعل (لا) جواباً لـ (هل) من غير (من) وهذا يقتضي الرفع، والرفع على الابتداء، و (فيها) الخبر. و (تأثيم) عُطف على (لغو)، وإذا نصبت جعلت (فيها) خبرًا لـ (لا) ويجوز هاهنا خمسة أوجهٍ:
أحدها: نصب الاثنين.
والثاني: رفع الاثنين. وقد قرئ بهما، قال الشاعر في الرفع:
وَمَا هَجَرتُكِ حَتَى قُلتِ مُعلِنةً ... لا ناقةٌ لي في هَذا وَلاَ جَملُ
ويجوز نصب الأول بلا تنوين ونصب الثاني بتنوينٍ قال الشاعر:
لا نَسَبَ اليومَ وَلا خُلةً ... اتَّسَعَ الخَرقُ عَلى الراقِعِ
ويجوز رفع الأول منونا ونصب الثاني بلا تنوين، قال الشاعر:
فلا لغوٌ ولا تأثيم فيها ... وما فاهوا به أبداً مقيمُ
ويجوز نصب الأول بلا تنوين ورفع الثاني بتنوين، قال الشاعر:
وَإذا تكونُ كريهةٌ أدعَى لها ... وَإِذا يُحاسُ الحَيسُ يُدعى جُندبُ
هذا وَجَدَكُم الصَغارُ بعينِهِ ... لا أُمَّ لي إن كان ذاك ولا أبُ
وحق قوله (ولا أبُ) أن يكون منونا إلا أنّه قافية. والقوافي لا تنون في الوصل.
فهذه خمسة أوجه. فإن حذفت (لا) الثانية لم يجز فيما بعد الواو إلا التنوين رفعاً أو نصباً، نحو

(1/401)


قولك: لا غلامَ وجاريةٌ. ولا غلامَ وجاريَةً، قال الشاعر:
لا أبَ وابناً مثلُ مَروانَ وابنِه ... إذا هُوَ بالمجدِ ارتَدَى وتَأزَّرَا
وهذه الوجوه كلها تجوز في قولنا (لا حول ولا قوة إلا بالله).
* * *

(1/402)


وَمِنْ سُورَةِ (النَّجْمِ)
قوله تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3))
النجم هاهنا فيه ثلاثة أقوالٍ:
أحدُها: أنّه الثُّريا إذا سقطت مع الفجر، وهذا قول مجاهد.
والثاني: أنّ النجم هاهنا أحد نجوم القرآن، وهو أيضاً عن مجاهد، كأنّه قال: والنجم إذا نزل، أي: والقرآن إذا نزل، فهو قسمٌ به.
والقول الثالث: أنّ النجم واحد ويراد به الجماعة، أي: والنجوم إذا سقطت يوم القيامة، كقوله تعالى: (وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ)، وهذا قول الحسن، والنجم في كلام العرب يأتي ويراد به الجمع على طريق الجنس؛ قال الرعي:
وَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْم فِي مُسْتَحِيرةٍ ... سَريعٍ بأَيدِي الآكِلينَ جُمُودُها
والمستحيرة هاهنا: شحمة مذابة صافية؛ لأنَّها من شحمٍ سمين.

(1/403)


و (غَوى) من الغيّ، يُقال: غوى يغوي غيًّا، قال الشاعر:
فَمَنْ يَلقَ خَيرا يَحمدُ النَاسُ أمرَهُ ... وَمَنْ يَغْوَ لا يعدَم عَلى الغي لائمَا
والهوى: ميل الطباع إلى ما فيه الاستمتاع، وهو مقصور، وجمعه: أهواء، فأما (الهواء) الممدود: فكل منحرق. قال الله تعالى: (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)، أي: خاوية منخرقة لا تعي شيئًا، قال زهير:
كأن الرَّحلَ مِنْهَا فَوقَ صَعْلٍ ... مِنَ الظلمانِ جُؤجُؤه هَواءُ
أي: خاوٍ ومنخرق. و (عن) في قوله (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) بمنزلة (الباء) كأنّه قال: وما ينطق بالهوى، أى: برأيه وَهواه.
واختلف في قوله: (وَالنَّجْمِ) وما جرى مجراه من الأقسام التى أقسم الله بها:
فقيل: أقسم تفضيلا لها وتنويهاً بها، وقيل: بل القسم به محذوف، والتقدير: ورب النجم ورب الطور ورب التين والزيتون وما أشبه ذلك.

(1/404)


قوله تعالى: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10))
قال ابن عباس وقتادة والربيع: شديد القوى هاهنا: جبريل.
وأصل المرّة: شدة الفتل، يقال فى الحبل: هو شديد المرّة، أي: أمررت فتله وشددته، والمرّة والقوة والشده سواء، قال الشاعر:
أَلاَ قُلْ لِتَيَّا قَبْلَ مَرَّتَهَا اسْلَمِي ... تَحِيَّةَ مُشْتاقٍ إِليها مُتيّمِ
أي: قبل شدة عزيمتها في السير.
والأفق: واحد الآفاق، وهي نواحي السماء، وقد تُسمى نواحي الأرض آفاقا على التشبيه، قال الشاعر في المعنى الأول:
أخَذنَا بآفَاقِ السماءِ عليكمُ ... لنَا قمَراهَا والنجُومُ الطوَالعُ
وقال امرؤ القيس فى المعنى الثانى:
وَقَدْ طوفتُ في الآفَاقِ حَتَّى ... رضِيتُ مِنْ الغنيمةِ بَالإيَابِ
والتدلي: الامتداد إلى جهة السفل.
والقاب والقاد والقيد سواء، والمعنى: فكان قدر قوسين أو أدنى

(1/405)


وقيل إنما مثّل بالقوس؛ لأنَّ مقدارها في الأغلب واحد لا يزيد ولا ينقص.
وقيل: فاستوى جبريل ومحمد عليهما السلام بالأفق الأعلى، وقيل: الأفق الأعلى: مطلع الشمس.
واختلف في (هو):
فقيل: (هو) مبتدأ، وخبره (بِالْأُفُقِ)، والجملة في موضع نصب على الحال.
والثاني: أنّه معطوف على المضمر في (استوى) أي: استوى هو وهو، وحسُن ذلك كراهة أن يتكرر (هو)؛ لأنّ الوجه أنّ لا يعطف على المضمر المرفوع إلا بعد التوكيد، نحو قولك: قمت أنا.
وزيد، ونحو قوله (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)، إلا أنّه حسُن هاهنا لا ذكرناه، وهذا قول الفراء، وأنشد:
ألم تَرَ أنَّ النّّبْعَ يَخْلُقُ عَودُهُ ... وَلَا يَسْتَوِي والخِرْوَعُ المَتَقصِّفُ
وكان حقه أن يقول: ولا يستوي هو والجزوع، إلا أنّه لم يقل، وهو في الآية أحسن منه هاهنا، ومثل ذلك قول الشاعر:
قُلْتُ إذا أقبلَتْ وَزُهرٌ تَهَادَى ... كنِعَاجِ المَلا تَعَسَّفْنَ رَمْلاً
قال الربيع: فاستوى جبريل عليه السلام، وهو بالأفق الأعلى، فـ (هو) على هذا كناية عن جبريل عليه السلام، وهذا هو القول الأول، و (هو) كناية عن محمد عليه السلام في القول الثاني.

(1/406)


قال القتبي: الكلام على التقديم والتأخير في قوله (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى) والمعنى: ثم تدلى فدنا، وهذا لا يجوز في (الفاء)؛ لأنَّها مرتبة. وليست كالواو، ولا يُحتاج هاهنا إلى هذا التقدير؛ لأنّ المعنى بيِّن. والتقدير: ثم دنا وامتد في دنوه.
* * *

قوله تعالى: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15))
الفؤاد هاهنا: القلب، والمراء: الجدال بالباطل، والسدرة: واحدة السدر، وهو شجر النبق، وقيل: سدرة المنتهى في السماء السادسة إليها ينتهي من يعرج إلى السماء، هذا قول ابن مسعود والضحاك، وقال غيرهما: إليها تنتهي أرواح الشهداء.
وجنة المأوى: جنة الخلد، وقيل هي في السماء السابعة، وقال الحسن: جنة المأوى: هي التى يصير إليها أهل الجنة.
قال إبراهيم في قوله (أَفَتُمَارُونَهُ) أي: أفتجحدونه، وقال غيره: المعنى: أفتجادلونه، وجاء في التفسير عن عبد الله بن مسعود وعائشة ومجاهد والربيع: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى

(1/407)


جبريل في صورته التي خلقه الله عليها مرتين، قال ابن مسعود: رآه وله ستمائة جناح، وقال ابن عباس: رأى ربَّه بقلبه، وروي مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأجمع العلماء على أنّ النبي صلى الله عليه عُرج به، إلا أنّه روي عن الحسن أنّه قال: عُرج بروحه، يذهب إلى أنها رؤية النوم، وهذا القول مرغوبٌ عنه؛ لأنّه لا فضيلة له في ذلك؛ لأنّ الإنسان يرى في منامه مثل ذلك ولا تكون معجزة.
* * *

قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20))
اللات والعزى: صنمان، واشتقاق (اللات) من لويت إذا تحبَّست ووقفت، يُقال: لويت عليه، وما لويت عليه، ومما يدل على ذلك قوله تعالى (فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ)، والعكوف والليُّ سواء؛ وذلك أنّهم كانواً يلزمونها بالعبادة، ويعكفون عليها ولا يلوون على سواها والأصل فيها: لوية، فحذفت الياء كما حذفت من " يد " و " دم " طلبا للاستخفاف، ثم فتحت (الواو) لوقوع علامة التأنيث بعدها. ثم قلبت (ألفاً) لتحركها وانفتاح ما قبلها. فقيل: لات، والألف واللام في (اللات) زائدتان وليستا للتعريف وكذلك في (العزى)؛ لأنَّ هذه الأصنام معارف عندهم كالأعلام نحو: زيد وعمرو، يدل على ذلك قوله تعالى: (لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) ألا ترى كلها بغير ألف ولام. وكذلك قول الشاعر:

(1/408)


أَمَا ودِماءٍ ما تَزال كأنّها ... عَلَى قُنَّةِ العُزَّى وبالنَّسْرِ عَنْدَما
الألف واللام في (النسر) زائدتان، هذا قول الأخفش، وتابعه عليه أبو علي الفارسي، فأمْا مَن قرأ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَّ) بالتشديد فإنه من (لتت السويق) ذكروا أنّ رجلاً كان يَلتُّ السويق هنالك عند هذا الصنم فسُمي الصنم باسمه.
* * *

(1/409)


وَمِنْ سُورَةِ (الْقَمَرِ)
قوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2))
جاء في التفسير: أنّ القمر انشق على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الزجاج: وقد عاند قوم وارتكبوا العناد، فقالوا: لم ينشق وإنما المعنى: سينشق، وقد روى ذلك عن جماعة، حدثنا الشيخ الفقيه أبو محمد عبد الله بن الوليد عن التميمي قال حدثنا ابن مقسم قال حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج قال حدثنا القاضي إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا مسرد قال حدثنا يحيى عن شعبة وسفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمرٍ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه فرقتين: فرقة فوق الجبل وفرقة دونه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اشهدوا)، قال مسرد وحدثنا يحيى عن شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر مثله، قال القاضي إسماعيل وحدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال أخبرنا ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (اشهدوا اشهدوا)، وبهذا الإسناد عن ابن مسعود أنّه قال: انشق القمر، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه: (اشهدوا)، قال إسماعيل وحدثنا محمد بن أبي بكر عن محمد بن كثير عن سليمان عن حصين عن محمد بن جبير عن أبيه قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه حتى صار فرقتين على هذا الجبل وعلى هذا الجبل، فقال ناس: سحر محمد القمر، فقال رجل: إن كان سحره وسحركم فلم لم يسحر الناس كلهم، قال محمد بن أبي بكر أخبرني زهير بن إسحاق عن داود عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: ثلاث ذكرهن الله قد مضين: اقتربت الساعة وانشق القمر، فقد انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه والدخان والروم.
قال إسماعيل وحدثنا حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة وعطاء بن السائب عن عبد الله بن حبيب قال: كنا بالمدائن، فجئنا إلى الجمعة، فخطبنا حذيفة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد - فإن الله تعالى يقول: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)، ألا إن اليوم المضمار وغداً السباق، ألا وإن الغاية النارُ، قال: فلما كانت الجمعة الأخرى، قال مثل ذلك، ثم قال: والسابق من سبق إلى الجنة.

(1/410)


وروى مسروق عن عبد الله قال: مضى اللزام ومضت البطشة ومضى الدخان ومضى القمر ومضى الروم، والأخبار في هذا كثيرة. وسمي القمر قمرًا لبياضه، والأقمر: الأبيض، وهو يسمى قمرًا من الليلة الثالثة، وقيل: إذا حجر، أي: بان السواد حوله، وقيل: إذا بهر، وذلك يكون في السابعة، فإذا انتهى واستوى قيل له بدر، وذلك ليلة أربع عشرة سمي بذلك لتمامه، ومنه اشتقاق البدرة، وقيل: سمي بذلك لمبادرته الشمس بالطلوع، والعرب تقول للهلال أول ليلة: ليلة عتمة سخيلة حلّ أهلها برميلة، وابن ليلتين: حديث أمتين كذبٌ ومين، وابن ثلاث: قليل اللباث، وابن اربع: عتمة ربع لا جائع ولا مرضع، وابن خمس: عشاء خلفات قعس، ويقال: حديث وأنس، وابن ست: سِرْ وبِتْ، وابن سبع: دلجة الضبع، وابن ثمان: قمرٌ إضحيان، وابن تسع: يُلتقط فيه الجزع، وربما قالوا: مقطع الشسع، وابن عشر: مخنق الفجر، وربما قالوا: ثلث الشهر، وليس له اسم بعد ذلك لقربه من الصباح.
وسمي الهلال هلالا لإهلال الناس عند رؤيته، والإهلال: الصياح، ومنه: استهل الصبي، إذا صرخ عند الولادة.
* * *

قوله تعالى: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16))
العذاب: اسمٌ للتعذيب، بمنزلة: الكلام من التكليم والسلام من التسليم. في أنهما اسمان لمصدرين، وليس بمصدرين.
والنُّذُر: قيل هو جمع (نذير) بمنزلة: رغيف ورُغُف، وقيل: هو واحد، وفي هذه الآية دلالة على أنّ (الواو) لا ترتب؛ لأنّ النذر قبل العذاب، بدليل قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).

(1/411)


قوله تعالى: (فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ (24))
نصب (بَشَرًا) بفعلٍ مضمرٍ يدلُّ عليه (نَتَّبِعُهُ)، والتقدير: أنتبع بشرًا منا واحداً نتبعه، إلا أنّه حذف اكتفاءً بالظاهر الذي هو (نتبعه) ولا يجوز إظهاره، ولا يجوز أن يكون منصوباً ب (نَتَّبِعُهُ)؛ لأنّه عامل في (الهاء)، ولا ينصب أكثر من مفعول واحدٍ، ويجوز في الكلام الرفع على الابتداء و (نَتَّبِعُهُ) الخبر، إلا أنّ النصب أجود؛ لأنَّ الاستفهام بالفعل أولى؛ لأنّه يقتضي الفائدة، والفائدة أصلها أن تكون بالفعل.
* * *

قوله تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49))
يسأل عن نصب (كُلَّ)؟
وفيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنّه منصوب بإضمار فعل يدل عليه (خلقناه) كأنّه في التقدير: إنَّا خلقنا كلّ شيء خلقناه، ثم حذف على ما تقدم في قوله: (أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا)، ومثله: زيدًا ضربته، إلا أنّه مع الاستفهام أجود.
والثاني: أنّه جاء على ما هو بالفعل أولى؛ لأنّ (إنَّا) يطلب الخبر في (خلقناه) فهو على قياس:

(1/412)


أزيدًا ضربته. وهذا الوجه في القوة مثل قوله: (أَبَشَرًا مِنَّا).
والثالث: أنّه على البدل الذي المعنى يشتمل عليه، كأنّه قال: إن كلًّا خلقناه بقدر، وكان سيبويه يقول: الرفع أجود هاهنا، إلا أنّ العامة أبوا إلا النصب.
والرفع على الابتداء والخبر والجملة خبر (إِنَّا).
* * *

(1/413)


وَمِنْ سُورَةِ (الرَّحْمَنِ)
قوله تعالى: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5))
يسأل عن معنى (بِحُسْبَانٍ)؟
والجواب: أنّ المعنى: بحساب يقال: حسبت الشيء حسباً وحسبانًا، بمنزلة: الشران والكفران، وقيل: هو جمع حساب، كشهاب وشهبان، قال ابن عباس وقتادة وابن زيد: بحسبان، أي: بحساب ومنازل يجريان فيهما.
وفي تقدير الخبر وجهان:
أحدهما: أن يكون (بِحُسْبَانٍ) الخبر.
والثاني: أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة المجرور عليه. والتقدير: والشمس والقمر يجريان بحسبانٍ، والتقدير في الوجه الأول: وجري الشمس والقمر بحسبان، والمعنيان يتقاريان، إلا أنك تقدر في الوجه الأول حذف مضاف وحذف الخبر، وتقدر على الوجه الثانى حذف الخبر فقط، وحذف شيء واحد أولى من حذف شيئين.
* * *

قوله تعالى: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6))
النجم من النبات: ما لم يقم على ساق، نحو: العشب والنقل، والشجر: ما قام على ساق.
ويُسأَل عن معنى (يَسْجُدَانِ)؟

(1/414)


وفيه جوابان:
أحدهما: أنّ ظلهما يسجد لله بكرة وعشياً. هذا قول مجاهد وسعيد بن جبير، وكلُّ جسم له ظلٌّ فهو يقتضي الخضوع بما فيه من الصنعة.
والثاني: وهو قول الفراء: أنهما يستقبلان الشمس إذا أشرقت ثم يميلان حين ينكسر الفيء، فذلك سجودهما.
وقيل: سجودها: الخضوع لله بالأقوات المجعولة فيهما للناس وغيرهم من الحيوان، والاستمتاع بأصناف الرياحين وما في الأشجار من الثمار الشهية، وصنوف الفواكه اللذيذة، فلا شيء أدعى إلى الخضوع والعبادة لمن أنعم بهذه النعمة الجليلة مما فيه مثل الذي ذكرنا في النجم والشجر.
* * *

قوله تعالى: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32))
يسأل ما معنى (سنفرغ)؟
والجواب: أنّ معناه: سنعمل عمل من يتفرغ للعمل لتجويده من غير تصحيح فيه، وهذا من أبلغ الوعيد وأشده؛ لأنّه يقتضي أن يجازى العبد بجميع ذنوبه، وليس من الفراغ الذي هو نقيض المشتغل؛ لأنّ الله تعالى لا يشغله شيء عن شيء.
والثقلان: الإنس والجن، سميّا بذلك لعظم شأنهما إلى ما في الأرض من غيرهما، فهما أثقل وزناً

(1/415)


لعظم الشأن بالعقل والتمكين والتكيف لأداء الواجب في الحقوق.
ومما يسأل عنه أن يقال: لم كرَّر في هذه السورة (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) في عدة مواضع؟
والجواب: أنّه ذكر آلاءً، كثيرة، فكرر التقرير. ليكون كل تقرير لنعمة، والعرب تكرر مثل هذه الأشياء للتوكيد، نحو قولك: اعجل اعجل، وتقول للرامي: ارم ارمِ، قال الشاعر:
كم نِعمة كانَتْ لكُم كَم كَم وَكم
وقال آخر:
هَلاّ سَألتَ جُمُوعَ كِنَدةَ ... يَومَ ولَّوا أينَ أينَا
وقال الفرزدق:
ألفَينَا عَينَاكَ عِندَ القَفَا ... أولَى فَأُولى لكَ ذا واقِيَهْ
وقال عوف بن الخرع:
فَكَادَت فَزارَةُ تَصلى بِنَا ... فَأولى فَزارَةَ أولى فَزارَة
وقُرىء (سَنَفْرُغُ) و (سَنَفْرَغُ)، فمن قرأ (سَنَفْرُغُ) فهو على بابه، مثل: دخل يدخُل وخرج يخرُج، ومن قرأ (سَنَفْرَغُ)، فتح (الراء) من أجل حرف الحلق. لأنّ حرف الحلق إذا كان عيناً أو لاماً جاء في غالب الأمر على (يفعَل) بالفتح، إذا كان من (فَعَل) وحروف الحلق ستة وهي:

(1/416)


الهمزة، نحو: قرأ وسأل، والهاء، نحو: ذهب ووهب، والعين. نحو: جعل وصنع، والحاء، نحو: سمح ولحج. والغين، نحو: فغر وولغ. والخاء، نحو: صلخ وبخع وما أشبه ذلك.
* * *

(1/417)