إعراب القرآن للأصبهاني

وَمِنْ سُورَةِ (الْمُجَادَلَةِ)
قوله تعالى: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ)
النجوى هاهنا: المتناجون، فأما قوله (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ)، فمعناه:
التناجي، وأصله السرّ، قال قتادة: كان المنافقون يتناجون بينهم فيغيظ ذلك المؤمنين، وقيل: كانوا يوهمون أنّه حديث على المسلمين من حرب أو نحوها، وهو قول عبد الرحمن بن زيد، وقيل: نهى النبي صلى الله عليه اليهود عن النجوى؛ لأنَّهم كانوا لا يتناجون إلا بما يسوء المؤمنين.
ويجوز في (ثلاثة) و (خمسة) الجر والرفع:
فالجر: على أنّه نعتٌ على اللفظ.
والرفع: نعت على الموضع؛ لأنّ (مِنْ) زائدة، والمعنى: ما يكون نجوى ثلاثة، ومثله: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) و (غَيْرِهِ).
ويجوز أن تكون النجوى بمعنى التناجي، فتكون (ثلاثة) مجرورة بالإضافة. وفيه بعد من قبل حذف الموصوف؛ لأنّ التقدير: ما يكون من نجوى نفرٍ ثلاثة. ولا يجوز الرفع على هذا الوجه.

(1/430)


قوله تعالى: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ)
الاستحواذ: الاستيلاء على الشيء بالاقتطاع له، وأصله من: حاذه يحوذه حوذاً، مثل: حاز يحوزه حوزاً، وهو أحد ما جاء على أصله ولم يُعَل، وكان قياسه: استحاذ، مثل: استقام واستعان، إلا أنّه جاء على أصله. كما يقال: حَوكةٌ وقَوَمةٌ وأغيلت المرأة وأغيمت السماء، وقالوا: استنوق الجمل، واستتيست الشاة والقياس في هذه الأشياء: حاكة وقامة وأغالت المرأة وأغامت السماء واستناق الجمل واستتاست الشاة.
* * *

(1/431)


وَمِنْ سُورَةِ (الْحَشْرِ)
قوله تعالى: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
اللينة: كل نخلة سوى العجوة، هذا قول ابن عباس وقتادة، وقال مجاهد وعمرو بن ميمون وعبد الرحمن بن زيد: كل نخلة لينة، وقال سفيان: اللينة: الكريمة من النخل.
قال الفراء: حدثني حبان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أمر النبي صلى الله عليه بقطع النخل كله إلا " العجوة " وهو " البرني " في قول الفراء، والمستعمل في الكلام أنَّ (البرني) غير (العجوة) فيما يستعمله الآن أهل الحجاز، وذكر ابن إسحاق: أنّ النبي صلى الله عليه أمر بقطع نخل بني قريظة والنضير إلا (العجوة) فقالوا: محمد يزعم أنّه أُرسل مصلحاً وهو يقطع النخل وهذا إفساد. فأنزل الله تعالى: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ)، أي: بأمر الله، وجمع لينة: ليان. قال امرؤ القيس:
وسالِفةٍ كسَحُوق اللِّيا ... نِ أضْرَمَ فِيهَا الغَوِيُّ السُّعُرْ
ويقال: لِينٌ، بمنزلة: سِدرة وسدر. ويقال -: لِين، مثل: سدرة وسدَر. وكسرة وكِسَر قال: ذو الرُّمة:
طِراقُ الخَوافِي واقعٌ فوقَ رِيْعَةٍ ... ندى ليلِه في رِيْشِهِ يَتَرَقْرَقُ

(1/432)


ويحتمل اشتقاق (لينة) وجهين:
أحدهما: أن يكون من اللين، سميت بذلك للين ثمرتها.
والثاني: أن يكون من اللون فـ (الياء) على هذا القول بدل من (واو) لأنّه لون من التمر.
* * *

قوله تعالى: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16))
جاء في التفسير أنّ الإنسان هاهنا: إنسانٌ بعينه كان من الرهبان وقع في بلية فأغواه الشيطان بأن قال له: إن خلصتك أتسجد لي سجدة واحدة، فأجابه إلى ذلك وسجد له فلما سجد واستراح إليه [ ... ]، حتى قتل، وكان يُسمى (برصيصاً)، هذا قول ابن عباس وابن مسعود، قال مجاهد: هو عام في جميع الكفار من الناس.
* * *

قوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)
أجمع القراء المشهورون على كسر (الواو) وضم (الراء) من (الْمُصَوِّرُ)، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنّه قرأ (الْمُصَوِّرَ) بكسر الواو وفتح الراء، وروي (الْمُصَوَّرُ) بفتح الواو والراء جميعاً، وروي عن الأعمش (الْمُصَوَّرُ).
فمن نصب (الْمُصَوَّرَ). وفتح (الواو)، وجعل (الْمُصَوَّرَ) مفعولا بـ (الْبَارِئُ) وهو نعتٌ لمحذوف تقديره: البارئ الإنسان الْمُصَوَّرَ، أو آدم الْمُصَوَّرَ.

(1/433)


ومن كسر فهو يريد هذا المعنى إلا أنّه شبه هذا بالحسن الوجه على تقدير قول من قال: هذا الضاربُ الرجلِ، كما تقول: هذا الحسن الوجه، فيجر (الرجل) على التشبيه بالوجه. ويشبه (الضارب) بالحسن؛ لأنَّهما وصفان، ولأنهما يجتمعان في الجمع المسلّم، ولأنّ كل واحد منهما يأتي تأنيثه على حد تأنيث الآخر، نحو حسنٍ وحسنةٍ، كما تقول: ضاربٌ وضاربة، وقد نصبوا (الوجه) في قولهم: هذا الحسن الوجهَ على التشبيه، كقولك: هذا الضاربُ الرجلَ.
فأما الرفع في (المصوّر) فإنه بعيد. ويروى عن الأعمش، ووجهه فيما ذكروا أنّ المعنى: المصورُ في القلوب بآياته وعلامات ربوبيته، ولا يستحسن العلماء هذه القراءة لبعدها.
* * *

(1/434)