إعراب القرآن للأصبهاني وَمِنْ سُورَةِ (الْمُمْتَحَنَةِ)
قوله تعالى: (وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ
يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ رَبِّكُمْ)
يسأل عن موضع (أنّ تُؤمِنُوا)؟
والجواب: أنّ موضعها نصب، والمعنى: يخرجون الرسول ويخرجونكم
لأنّ تؤمنوا بالله، أي: من أجل ذلك، فـ (أنْ) مفعولُ له.
و (إياكم) معطوف على الرسول، إلا أنّه ضمير منفصل. والكاف
والميم في موضع جر بالإضافة عند الخليل وحكي: إذا بلغ الرجل
الستين فإياه وإيا الشوابِّ، وأنكر ذلك أكثر العلماء؛ لأنّ
(إيا) مضمر والمضمر لا يضاف، وقال المبرد: (إيا) اسم مبهم أضيف
إلى الكاف والميم، ولا يعرف اسم مبهم غيره، وهذا أيضاً قد أنكر
عليه؛ لأنّ المبهم لا يضاف، وأنه ليس بمبهم وإنما هو مضمر
بمنزلة (الكاف) من (رأيتك) ويدل على أنّه مضمر كونه على صفة
واحدة لضرب واحد من الإعراب، وهذا شرط المضمر، وقال ابن كيسان:
إنما جيء بها ليعتمد عليها (الكاف) لأنها لا تقوم بنفسها، وقال
الكوفيون: (إياك) اسم بكماله، وقال الأخفش: الكاف للخطاب لا
موضع لها بمنزلة الكاف في (ذلك) وكذا الهاء والياء في إياه
وإياي، وهذا القول هو المختار عند أبي علي وأصحابه.
* * *
قوله تعالى: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)
قيل في (الكوافر) قولان:
(1/435)
أحدهما: أنَّ المعنى: ولا تمسكوا بعصم
النساء الكوافر، وهو الظاهر.
والثاني: أنّ المعنى: ولا تمسكوا بعصم الفرق الكوافر، ذكره أبو
الفتح ابن جني، والآية تدل على القول الأول.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا
قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ
الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ
الْقُبُورِ (13)
اختلفوا في (الكفار) هاهنا:
فقيل: الكفار هاهنا يريد به: الذين يكفرون الموتى، أي:
يدفنونهم؛ لأنهم إذا دفنوهم يئسوا منهم، فكذلك هَؤُلَاءِ الذين
غضب الله عليهم قد يئسوا من البعث كما يئس هَؤُلَاءِ الذين
دفنوا الموتى منهم.
وقيل: الكفار هاهنا يريد به: الكفار بالله، والمعنى: أنّهم قد
يئسوا من البعث كما يئس الكفار الذين هم في القبور من ثواب
الله ورحمته؛ لأنهم إذا صاروا إلى القبور عاينوا ما أعدَّ الله
لهم من العذاب؛ لأنّه جاء في الحديث أنّه يُفتح لهم أبوابٌ من
النار فيشاهدون مواضعهم فيها.
وقيل المعنى: كما يئس كفار العرب أن يحيى أهل القبور.
وقيل، هم أعداء المؤمنين من قريش، قد يئسوا من خير الآخرة كما
يئس كفار العرب من النشأة الثانية.
* * *
(1/436)
وَمِنْ سُورَةِ (الصَّفِ)
قوله تعالى: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ
مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ
طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
(12))
التجارة: طلب الربح في شراء السلعة، فاستُعيرها هنا لطلب الربح
في عمل الطاعة.
والجهاد: مقاتلة العدو.
ومما يسأل عنه أن يقال: لم جاز (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) فيما
يقتضي الحمل على التجارة، ولا يصلح: التجارة تؤمنون، وإنما:
التجارة أن تؤمنوا بالله؟
والجواب: أنّه جاء على طريق ما يدل على خبر التجارة لا على نفس
الخبر إذ (فعل) يدل على مصدره وانعقاده بالتجارة في المعنى لا
في اللفظ، وفي ذلك تؤطئة لا يُبنى عَلى المعنى في الإيجاز.
ويُسأَل عن جزم (يَغْفِرْ لَكُمْ) (وَيُدْخِلْكُمْ)؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنّه جواب (هل) لأنها استفهام وجواب الاستفهام مجزوم
هذا القول أصحابنا. وقالوا: الدلالة على التجارة لا توجب
المغفرة.
(1/437)
والقول الثاني: أنّه محمول على المعنى؛
لأنَّ قوله (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) معناه: آمنوا بالله ورسوله
وجاهدوا في سبيل الله، فهو أمرٌ جاء في لفظ الخبر، ويدل على
ذلك أنّ عبد الله بن مسعود قرأ (آمنُوا باللهِ ورسُوله
وَجَاهدُوا في سبيل اللهِ) ولا يمتنع أن يأتي الأمر بلفظ الخبر
كما أتى الخبر بلفظ الأمر في قوله تعالى: (فَلْيَمْدُدْ لَهُ
الرَّحْمَنُ مَدًّا). والمعنى: يمدُّ له الرَّحْمَنُ مَدًّا؛
لأنَّ القديم تعالى لا يأمر نفسه، ومثل ذلك (أَسْمِعْ بِهِمْ
وَأَبْصِرْ)، فلفظه لفظ الأمر، ومعناه الخبر أي: ما أسمعهم
وأبصرهم. أي: هَؤُلَاءِ ممن يجب أن يقال لهم ذلك.
* * *
(1/438)
وَمِنْ سُورَةِ (الْجُمُعَةِ)
قوله تعالى: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا
فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
(1))
التسبيح: التنزيه لله تعالى، والقدوس: المطهر من العيوب،
والتقديس: التطهير، ومنه يقال: القدس حظيرة الجنة، ويقال:
للسطل قدس؛ لأنّه يتطهر به، والعزيز: الممتنع. وقيل: الغالب،
ومنه قوله تعالى: (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ)، والحكيم:
المحكم للأشياء، وأصل أحكم: منع. قال الأصمعي: قرأت في كتاب
بعض الخلفاء: (أحكموا بني فلان عن كذا)، قال الشاعر:
ْأبَني حنيفة أحكِموا سُفهَاءَكم ... إني أخافُ عليكم أنّ
أغَضَبَا
ومن هذا أخذت حكمة الدابة للحديدة.
ومما يسأل عنه أن يقال: لم جاز (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ)، و (ما) إنما يقع على ما لا يعقِل، والتسبيح
إنما هو لمن يعقل؟
وعن هذا جوابان:
أحدهما: أنّ (مَا) هاهنا بمعنى (مَنْ) كما حكى أبو زيد عن أهل
الحجاز أنّهم كانوا إذا سمعوا الرعد قالوا: سبحان ما سبحت له.
(1/439)
والثاني: أنّ (ما) أعم مِنْ (مَنْ) وذلك
أنها تقع على ما لا يعقل وعلى صفات من يعقل، فقد شاركت (مَن)
في من يعقل وزادت عليها بكونها لما لا يعقل فصارت أعمّ منه،
فجاءت لتدل على أنّ التسبيح من جميع الخلق عاقلهم وغير عاقلهم
عام، ويدل على هذا قوله تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ).
* * *
قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا
انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ
اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ
خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
جاء في التفسير: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم
الجمعة فقدِم دحية الكلبي بتجارة من الشام وفيه كل ما يحتاج
إليه الناس. فضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه، فخرج جميع الناس
إلا ثمانية نفر، فأنزل الله سبحانه: (وَإِذَا رَأَوْا
تِجَارَةً)، يعني التي قدم بها، (أَوْ لَهْوًا)، يعني الضرب
بالطبل.
ويُسأَل عن قوله: (انْفَضُّوا إِلَيْهَا)، ولم يقل (إليهما)؟
وفى حرف عبد الله (انْفَضُّوا إِلَيْهِ)، ففي القراءة الأولى
عاد الضمير إلى التجارة وفي القراءة الثانية على اللهو، وجاز
أن يعود الضمير على أحدهما اكتفاءً به، وكأنه على حذفٍ،
والمعنى: وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها وإذا رأوا لهوا انفضوا
إليه، فحذف (إليه) لأنّ (إليها) يدل عليه.
قال الفراء: إنما قال (إليها) لأنها كانت أهم إليهم، وهم بها
أسرُّ من الطبل؛ لأنّ الطبل إنما دلّ على التجارة، والمعنى كله
له.
(1/440)
فصل:
ومما يُسأل عنه أن يقال: لِمَ قدم التجارة على اللهو هاهنا،
وأخرها في قوله: (قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ
اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ)؟
والجواب: أنّ التجارة هي المطلوبة، والفائدة فيها واللهو لا
فائدة فيه، فأعلمهم أنّهم إذا رأوا تجارة وهي المرغوب فيها
عندهم أو لهواً ولا فائدة فيه فينفضون، وعجَّزهم بذلك وبكتهم
لأنهم يُعذرون في بعض الأحوال على التجارة ولا يعذرون على
اللهو لأنّه ليس مما يرغب فيه العقلاء كما يرغبون في التجارة،
ثم قال لنبيه عليه السلام: (قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ
مِنَ اللَّهْوِ) الذي لا فائدة فيه (وَمِنَ التِّجَارَةِ) التي
فيها الفائدة، فأُخِّر الأول هاهنا ليعلمهم أنّ ما عند الله
خير مما لا فائدة فيه ومن الذي فيه فائدة، والعرب تبتدئُ
بالأدنى ثم تتبعه بالأعلى، نحو قولهم: فلان يعطي العشرات
والمئين والآلاف.
* * *
(1/441)
|