إعراب القرآن للأصبهاني

وَمِنْ سُورَةِ (الْمُنَافِقِينَ)
قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ... (4))
الخُشُب: جمع خشبة. مثل: بُدُن وبدنة، والخَشَب: جمع خشبة أيضاً، مثل: شجرة وشجر. وقيل: خُشُب جمع خِشاب وخِشاب جمع خشبة كما يقال: ثِمَار وثُمُر، فعلى هذا يكون (خُشُبٌ) جمع الجمع، وكذلك (ثُمُر) من قوله تعالى: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ)، فخشبه وخشب بمنزلة شجرة وشجر، وخَشَب وخِشَاب بمنزلة جبل وجبال، وخِشاب وخُشُب بمنزلة كتاب وكتُب.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي (خُشْبٌ) بإسكان الشين، وقرأ الباقون (خُشُبٌ) بالضم. وخُشْبٌ مخففة من خُشُبٌ كما يقال: رُسْل في رُسُل وكُتْب وكُتُب.
* * *

قوله تعالى: (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)
جاء في التفسير: أنّ النبي صلى الله عليه كان في غزوة من غزواته، فالتقى رجل من المسلمين يقال له " جعال " وآخر من المنافقين على الماء فازدحما عليه فلطمه " جعال " وأبصره " عبد الله بن أبي " فغضب، وقال: ما أدخلنا هَؤُلَاءِ القوم ديارنا إلا لتلطم مالهم قاتلهم الله، يعني جعالًا وقومه، ثم قال: إنكم لو منعتم أصحاب هذا الرجل القوت، يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم - لتفرقوا

(1/442)


عنه وانفضوا، فأنزل الله تعالى: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ). ثم قال عبد الله بن أُبي: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، وسمعها " زيد بن أرقم " فأخبر بها النبي صلى الله عليه فأنزل الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ).
نصب (الْأَذَلَّ) لأنّه مفعول و (الْأَعَزُّ) فاعل، وأجاز الفراء: (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) على أنّ (لَيُخْرِجَنَّ) غير متعد لأنّه من خرج يخرج، قال: كأنك قلت: ليخرجن العزيز منها ذليلًا، وفي هذا بعد؛ لأنَّ (الأذل) معرفة، ولا يجوز أن تكون الحال معرفة، إلا أنّه ربما قُدِّرت الألف واللام كأنهما زائدتان، وقد حكى سيبويه: ادخلوا الأول فالأول، أي: ادخلوا متتابعين، فهذا على تقدير طرح الألف واللام، قال: وقرأ بعضهم: (لَنُخْرِجَنَّ الْأَعَزَّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) بنون مضمومة، وهذا يدل على هذه الإجازة، ونصب (الأعزَّ) لأنّه مفعول، قال: ومعناها: ليُخرجن الأعزُّ في نفسه ذليلًا.
* * *

قوله تعالى: (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10))
يُسأل عن نصب (فَأَصَّدَّقَ)؟
والجواب: أنّه منصوب لأنّه جواب التمني بالفاء، وكل جوابٍ بالفاء نصب إلا جواب الجزاء فإنه رفع على الاستئناف. لأنّ الفاء في الجزاء وصلة إلى الجواب بالجملة من المبتدأ والخبر، وإنما نصب الجواب للإيذان بأن الثاني يجب أن يكون بالأول، ودلت الفاء على ذلك، ولا يُحتاج إلى ذلك في الجزاء؛ لأنَّ حروف الجزاء تربط الكلام.
وقرأ أبو عمرو وحده (وَأَكُونَ) بالنصب والواو. وقرأ الباقون (وَأكُنْ) وقيل لأبي عمرو:

(1/443)


لمَ سقطت من المصحف؟ - فقال: كما كتبوا (كلمن)، يعني: أنها كذا يجب أن تكون، وإنما حذفت من المصحف استخفافاً، وهي قراءة عبد الله، وأجاز الفراء: النصب مع حذف الواو، والنصب على العطف.
وأما من قرأ (وَأكُنْ) فإنه عطف على (الفاء) قبل دخولها؛ لأنَّها لو لم تدخل لكان الفعل مجزوماً، وكل جواب يكون منصوبًا بالفاء فهو مجزوم بغير (الفاء) إلا الجحد فإنه لا يكون إلا بـ (الفاء)، والفاء تدخل جوابًا لسبعة أشياء وهي: الأمر والنهي والتمني والجحد والاستفهام والعرض والشرط.
* * *

(1/444)


وَمِنْ سُورَةِ (التَّغَابُنِ)
قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
قال علي بن عيسى: أنِفُوا من اتباع بشرٍ؛ لأنّه من جنسهم، فهو كما قال في موضعٍ آخر (أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ)، وكل متكبر في العباد مذموم؛ لأنّ كبره طريق إلى ترك تعلّم ما ينبغي أن يتعلم، والاتباع لمن ينبغي أن يتبع.
ويقال: ما معنى (بَشَرٌ) هاهنا؟
والجواب: أنّ البشر والإنسان سواء، وقيل: إنه مأخوذ من البشرة وهو ظاهر الجلد.
وفي رفع (بَشَرٌ) وجهان:
أحدهما أنّه فاعل بإضمار فعل يدلُّ عليه (يهدوننا)، كأنّه قال: أيهدوننا بشر يهدوننا، وإنما احتجت إلى إضمار فعلٍ لأنّ الاستفهام بالفعل أولى.
والقول الثاني؛ أنّه مبتدأ و (يهدوننا) خبره، وهو قول أبي الحسن الأخفش.
* * *

(1/445)


وَمِنْ سُورَةِ (الطَّلَاقِ)
قوله تعالى: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (4))
المحيض: بمعنى الحيض، والمحيض أيضاً: موضع الحيض وزمانه.
والارتياب: الشك، وجاء في التفسير في قوله (إِنِ ارْتَبْتُمْ) أنّ المعنى: إذا لم تدروا للكبر أو لدم الاستحاضة، فالعدة ثلاثة أشهر. وهو قول الزهري وعكرمة وقتادة، وقيل: إن ارتبتم فلم تدروا الحكم في ذلك فعدتهن ثلاثة أشهر.
ويُسأَل عن خبر قوله: (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ)؟
والجواب: أنّه محذوف وهو جملة تقديرها: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ عدتهن ثلاثة أشهر، ودلَّ عليه ما قبله.
و (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ) مقطوع مما قبله؛ لأنَّ أجلهن مؤقت، وهو وضع حملهن.
* * *

قوله تعالى: (قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ)

(1/446)


يُسأل عن نصب (رَسُولًا)؟
وفيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: أن يكون بدلًا من (ذِكْرًا)، والذكر على وجهين:
أحدهما - أن يكون القرآن، فيكون (رَسُولًا) بدلا منه؛ لأنّ المعنى يشتمل عليه. ويكون الذكر هو الرسول. فكأنه في التقدير: قد أنزل الله إليكم ذكراً ذا رسول.
والوجه الثاني - أن يكون الذكر الشرف. فيكون الرسول هو الذكر في المعنى، كما قال: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ).
والوجه الثاني: أن يكون منصوبًا بـ (جعل)؛ لأنَّ (أنزل) يدل عليه؛ لما قال: أنزل ذكراً، دل على أنّه جعل رسول، ومثله قول الشاعر:
بادَت وغيَّرَ آيَّهُنَّ مَعَ البلى ... إلا رَواكِدَ جمرُهن هَبَاءُ
ومُشَجَّجٍ أَمَّا سَواءُ قَذالِهِ ... فَبَدا وغَيَّبَ سارَهُ المَعْزاءُ
لأنّه لما قال: إلا رواكد، دلّ على أنّ بها رواكد، فحمل قوله: ومُشَجَّجٍ على المعنى.
والثالث: أن يكون منصوباً بإضمار (أعني).
وأجاز الفراء: الرفع في (رسول)؛ لأنّ (الذكر) رأس آية والاستئناف بعد الآيات حسن.
* * *

(1/447)