إعراب القرآن للأصبهاني

وَمِنْ سُورَةِ (التَّحْرِيم)
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
قال الفراء: نزلت فى لا مارية القبطية، كان النبي صلى الله عليه يجعل لكل امرأة من نسائه يوماً، فلما كان يوم عائشة رضي الله عنها زارتها حفصة فخلا بيتها، فبعث رسول الله صلى الله عليه إلى مارية وكانت مع النبي صلى الله عليه في بيت حفصة، وجاءت حفصة إلى منزلها فإذا الستر مرخي، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أتكتمين عليَّ؟ - قالت: نعم، قال: فإنها عليَّ حرام، يعني " مارية " وأخبرك أنّ أباك وأبا بكر سيملكان من بعدي، فأخبرت حفصة عائشة الخبر، ونزل الوحي على النبي صلى الله عليه بذلك، فقال: ما حملك على ما فعلت؟ - قالت: ومن أخبرك أني قلت ذلك لعائشة؟ - قال: (نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ)، ثم طلق حفصة تطليقة واحدة، واعتزل نساءه تسعة وعشرين يومًا، ونزل عليه: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) من نكاح مارية، ثم قال: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) فكفَّر النبي صلى الله عليه عن يمينه، والتحلة: الكفارة، فأعتق رقبة، وعاد إلى مارية، ثم قال: عرَّف حفصة بعض الحديث، وترك بعض الحديث، وهذا الذي قال الفراء قول زيد بن أسلم ومسروق وقتادة والشعبي وعبد الرحمن بن زيد والضحاك.
وفي (النبي) لغتان: الهمز، وترك الهمز
فمن همز أخذه من أنبأ، وهو (فعيل) بمعنى (مُفعِل) أي: منبئ والمنبئ: المخبر؛ لأنّه يخبر عن الله تعالى، ويقال: سميع بمعنى مسمِع، قال عمرو بن معدي كرب:

(1/448)


أُمِنْ رَيَحانَةَ الدَّاعِي السمِيعُ ... يُؤَرِقُني وَأصحابي هُجُوعُ
يريد: المسمع.
وجمع (نبيء) بالهمز: نبآء، قيل: كريم وكرماء. قال عباس بن مرداس:
يا خاتَم النُّبَآء إنَّك مُرْسَلٌ ... بالخيرِ كلُّ هدى السَّبيلِ هُدَاكا
ويقال: نبيّ بغير همز، ويحتصل وجهين:
أحدهما: أن يكون من (أنبأ) إلا أنّه خُفف بترك الهمز، كما قالوا: برية وروية، وأصلها الهمز.
والوجه الثاني: أنّه يحتمل أن يكون من (النباوة) وهي المرتفع من الأرض، فلارتفاع ذكره سُمّي بذلك، وجمعه على هذا: أنبياء، بمنزلة: غني وأغنياء، وترك الهمز أفصح. ويروى أنّ رجلاً قال للنبي صلى الله عليه: يا نبيء الله - بالهمز - فقال: لست بنبيء الله ولكنني نبي الله، فهذا يدل على ترك الهمز، وكأنه كره التقعير.
* * *

قوله تعالى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)
يقال: لمَ جمعت القلوب؟
وعن هذا أجوبة
أحدها: أنّ التثنية جمع في المعنى، فوضع الجمع موضع التثنية، كما قال تعالى: (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ)، وإنما هو داود وسليمان عليهما السلام.

(1/449)


والثاني: أنّ أكثر ما في الإنسان اثنان اثنان نحو: اليدين والرجلين والعينين والخدين، وما أشبه ذلك، وإذا جُمع اثنان إلى اثنين صار جمعاً، فيقال: أيديهما وأرجلهما، ثم حمل ما كان في الإنسان منه واحد على ذلك لئلا يختلف حكم لفظ أعضاء الإنسان.
والثالث: أنّ المضاف إليه مثنًى فكرهوا أن يجمعوا بين تثنيتين فصرفوا الأول منهما إلى لفظ الجمع؛ لأنَّ لفظ الجمع أخف؛ لأنّه أشبه بالواحد؛ لأنَّه يُعرب بإعرابه ويستأنف كما يستأنف الواحد، وليست التثنية كذلك؛ لأنَّها لا تكون إلا على حدٍّ واحد، ولا تختلف، ومن العرب من يثني فيقول: قلباهما، قال الراجز فجمع بين اللغتين:
ومَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْنْ ... ظهراهُما مِثلُ ظهورِ التُّرْسَيْنْ
وقال الفرزدق:
بِمَا فى فُؤادَينَا مِن الشَّوقِ والهوَى ... فَيُجبرُ منهَاضُ الفؤادِ المشَغّفِ
ومن العرب من يفرد، ويروى أنّ بعضهم قرأ (فَبَدَتْ لَهُمَا سَوَّاتِهما).
قال الفراء في قوله: (صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) يعني: عائشة وحفصة قد صَغَتْ قُلُوبُهمَا، وذلك أنّ عائشة قالت: يا رسول الله: أما يوم غيري فتتمه وأمّا يومي فتفعل فيه ما فعلت، فنزلت: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ).

(1/450)


ومعنى صغت: زالت ومالت إلى ما كان من تحريم، وقيل: زاغت إلى الإثم، وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك.
ْقوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4))
المولي في الكلام على تسعة أوجه:
المولي: السيد، والولي: العبد، والولي: المنعِم، والولي: المنعَم عليه، والمولى: الولي، والمولى: ابن العم، والمولى: واحد الموالي وهم العصبة من قوله تعالى: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي). والمولى أولى من قوله تعالى (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) أي: أولى بهم، قالَ لبيد:
فَغَدَتْ كِلاَ الفَرْجَيْنِ تحسب أنَّه ... مَوْلَى المخافةِ خَلْفُها وأمامُها
أي: أولى.
وفي (جِبْرِيل) أربع لغات:
جِبريل - بكسر الجيم -، وجَبريل - بفتحها - وجَبرائيل - بفتح الجيم وكسر الهمزة -، وجَبرائيل، وقد قرئ بذلك كله، فقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم (جِبْرِيل) بكسر الجيم دون همز، وقرأ الكسائي وحمزة (جَبْرِائيل) مفتوح الجيم مهموز بين الراء والياء، وقرأ أبو بكر عن عاصم (جَبْرِئيل) على وزن (فبرعيل). وقرأ ابن كثير (جَبْرِيل) بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز، ومن العرب من يقول: جَبريلّ بتشديد اللام، ومنهم من يبدل من اللام نوناً.

(1/451)


وقيل في (صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) ثلاثة أقوال:
أحدها: خيار المؤمنين، وهو قول الضحاك.
والثاني: الأنبياء، وهو قول قتادة، و (ظَهِيرٌ) في هذين القولين في معنى ظهراء، والظهير: العين، وقع الواحد موقع الجمع وكذا: (صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) واحد في معنى الجمع، كما قال: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا)، ومثله: (سَامِرًا تَهْجُرُونَ).
والقول الثالث: أنّه عنى " أبا بكر " وقيل " عمر " وقيل: " علي " رضي الله عنهم.
ْوقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ) يجوز في قوله (هو) وجهان:
أحدهما: أن يكون فصلًا دخل ليفصل بين المبتدأ والخبر، والكوفيون يسمونه (عماداً).
والثاني: أن يكون مبتدأ و (مولاه) الخبر، والجملة خبر (إنّ).
ومن جعل (مولاه) بمعنى السيد والخالق كان الوقف على قوله (مولاه) وكان (جبريل) مبتدأ و (ظَهِيرٌ) خبره.
ومن جعل (مولاه) بمعنى ولي وناصر جاز أن يكون الوقف على قوله: (وجبريل). وجاز أن يكون على قوله (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) ويبتدأ (وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)، فيكون (ظَهِيرٌ) عائدا على (الملائكة).
* * *

قوله تعالى: (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12))

(1/452)


قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم وخارجه عن نافع (وكتبه) وقرأ الباقون (وكتابه)، والمعنى واحد، إلا أنّ من قرأ بالإفراد جعل الواحد في موضع الجمع، ومن جمع قرأ على الأصل؛ لأنَّ الله تعالى قد أنزل كتبًا قبل مريم عليها السلام، وقد آمنت بجميعها، ويجوز أن يعود قوله (وكتابه) على التوراة؛ لأنها كانت أظهر عندهم، وإذا حمل على الجمع أراد التوراة وصحف إبراهيم وإدريس وآدم عليهم السلام وغيرها من الصحف التي أنزل الله تعالى.
ويُسأل عن قوله (مِنَ الْقَانِتِينَ)، كيف قال: من القانتين، ولم يقل من القانتات؟.
والجواب: أنّ القنوت يقع من المذكر والمؤنث، وإذا اجتمعا غلب المذكر على المؤنث، فكأنه في التقدير: كانت من العباد القانتين، فعمَّ في القانتين، ولأنها كانت في قنوتها وخدمتها لبيت المقدس مقام رجل أو رجال.
* * *

(1/453)


وَمِنْ سُورَةِ (الْمُلْكِ)
قوله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)
قال علي بن عيسى: معنى (تبارك) تعالى؛ لأنَّه الثابت الدائم الذي لم يزل ولا يزال، وذلك أنّ أصل الصفة: الثبوت، من البروك وهو ثبوت الطير على الماء، ومنه البركة لثبوت الخير بها، قال: ويجوز في معنى (تبارك) تعالى من جميع البركات منه، إلا أنَّ هذا المعنى مضمن في الصفة غير مصرح به، وإنما المصرح به: تعالى باستحقاق التعظيم والملك: القدرة والسلطان، وأصله من أصل الملك، وأصل الملك من الشدّ، يقال: ملكت العجين إذا شددته، وقد شرح في الفاتحة.
* * *

قوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)
الابتلاء: الاختبار، يقال: بلوت هذا الأمر وابتليته أي: اختبرته، قال زهير:
فأبلاهُم خَيرَ البَلاءِ الذي يَبلُو
ويقال: لم يبلُ من يخبر، أي: يعلم، والجواب لتقوم الحجة، لئلا يبقى للخلق على الله حجة،

(1/454)


ويكون الثواب والعقاب بعد العلم بوقوع الأمر دون العلم بأنه سيكون كذلك.
وقوله (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) مبتدأ وخبر، ولا يعمل فيه (ليبلوكم) لأنّ البلوى لم تقع على قوله (أَيُّكُمْ)، وفي الكلام إضمار فعل، والتقدير ليبلوكم لينظر (أَيُّكُمْ) أطوع له، وكذلك قوله تعالى (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ)، وإنما يأتي هذا ونحوه في أفعال العلم، ولو قلت: اضرب أيُهم ذهب أو يذهب، لم يكن إلا نصباً؛ لأنّ الضرب ليس من هذا القبيل، ومن هذا القبيل قوله: (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى) وقوله: (لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا) وقوله: (فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا)، وقد شرحنا ذلك.
* * *

قوله تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14))
يسأل عن موضع (مَنْ) من الإعراب؟
والجواب: أنها في موضع رفع. لأنها فاعل (يعلم) والتقدير: يعلم الذي خلق ما في الصدور، ولا يجوز أن تكون مفعولة؛ لأنّ المعنى لا يصح على ذلك، وذلك أنَّ (مَن) لمن يعقل دون ما لا يعقل فلو

(1/455)


جعلت (مَنْ) مفعولة لصار المعنى أنّه يعلم العقلاء خاصة ولا يعلم سواهم وهذا لا يصح على القديم.
* * *

قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ)
يقال ما معنى (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ)؟
والجواب: أنّه تعالى وطأ لهن الهواء، ولولا ذلك لسقطن، وفي ذلك أكبر آية، قال مجاهد وقتادة: الطير تصفُّ أجنحتها تارة وتقبضها أخرى.
ومما يسأل عنه أن يقال: كيف عطف (يَقْبِضْنَ) وهو فعل على (صَافَّاتٍ) وهو اسم، ومن الأصل المقرر أنّ الفعل لا يُعطف على الاسم، وكذلك الاسم لا يعطف على الفعل؟
والجواب: أنّ (يَقْبِضْنَ) وإن كان فعلًا فهو في موضع الحال وتقديره تقدير اسم فاعل، و (صَافَّاتٍ) حال، فجاز أن يعطف عليه، فكأنه قال: أولم يرو أنّ الطير فوقهم صافات وقابضات، وقد جاء مثل هذا في الشعر، قال الراجز:
بات يُغَشِّيها بعَضْبٍ باترٍ ... يَقْصِدُ في أَسْوُقِها وجائِرُ
* * *

قوله تعالى: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22))
يقال: ما معنى الاستفهام هاهنا، وقد عُلم أنّ من يمشي على صراطٍ مستقيم أهدى ممن يمشي مُكِبًّا؟
والجواب: أنّه إنكار وتبكيت وليس باستفهام في الحقيقة؛ لأنّ الاستفهام إنما يكون عن جهل من

(1/456)


المستفهم بما يستفهم عنه، وهذا لا يجوز على القديم تعالى، ومثل هذا الإنكار قوله تعالى: (آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) وكذلك قوله: (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) فأما قوله: (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) فإنما جاز هذا وقد علم أنّه تعالى خير مما يشركون من قبل أنّهم كانوا يعتقدون أنَّ فيما يشركون خيراً، فخاطبهم على قدر اعتقادهم من جهة التبكيت لهم والإنكار عليهم، وفيه حذف والتقدير: أعبادة الله خير أم عبادة ما يشركون، ومثله (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ).
ويقال: أكب الرجل على وجهه فهو مكب، وكببته أنا، وهذا من نوادر الفعل، وذلك أنّ (أفعل) لازم و (فَعَل) متعدٍ. والأصول المقررة بخلاف ذلك، نحو قولك: قام وأقمته وخرج وأخرجته، فيكون (فَعَل) لازما في مثل هذا، و (أفعل) متعدياً، ومثل (أكب) قولهم: أنزفت البئر، إذا ذهب ماؤها، وأمرت الناقة، إذا درَّ لبنها، ومريتها أنا إذا استدررتها بالمسح، وأشنق البعير إذا رفع رأسه. وشنقته أنا إذا مددته بالزمام، وقال الله تعالى في (كبّ) متعديًا: (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ)، وكذلك: (فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ).
* * *

قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30))

(1/457)


يقال: غار الماء يغور غوراً، إذا غاص في الأرض.
والمعين: الذي تراه العيون، وقيل المعين: الجاري، وهو قول قتادة والضحاك، فعلى القول الأول يكون (مفعولاً) من العين، كمبيع من البيع ومكيل من الكيل، وعلى القول الثاني يكون في تقدير (الفاعل) وتكون (ميمه) أصلية. ويكون من الإمعان في الجري، ويجوز أن يكون في معنى (مفعول) فتكون (الميم) زائدة، كأنّه قد أجري عيوناً، قال الفراء: العرب تقول، (أصبح ماؤكم غورا ومياهكم غوراً، ويقال: هذا ماء غور وبئر غور وماءان غور ومياه غور، فلا يجمعون ولا يثنون، ولا يقولون: غوران ولا أغوار، وهو بمنزلة: الزور، يقال: هَؤُلَاءِ زور لفلان، وكذلك: الضيف والصوم والفطر، وفي تقديره وجهان:
أحدهما: أن يكون في تقدير: ذا غور.
والثاني: أن يكون المصدر وضع موضع اسم الفاعل، كما قالوا: جاء ركضًا ومشيًا، أي: راكضاً وماشياً.
* * *

(1/458)


وَمِنْ سُورَةِ (الْقَلَمِ)
قوله تعالى: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)
النون: في قول ابن عباس ومجاهد: الحوت الذي عليه الأرضون وجمعه (نينان) سماعًا لا قياسًا، وروي عن ابن عباس من طريقة أخرى: أنّ (النون) الدواة. وهو قول الحسن وقتادة، وقيل: (النون) لوح من نورٍ ذكر في خبر مرفوع، وقيل: هو اسمٌ للسورة، وحكمه في الإعراب إذا كان اسمًا للسورة حكم (الم).
وقرأ الكسائي وعاصم في طريقة أبي بكر (ن والقلم) بالإخفاء، وقرأ الباقون بالإظهار، وقال الفراء: وإظهارها أعجب إليَّ؛ لأنَّها هجاء، والهجاء كالموقوف عليه وإن اتصل، ومن أخفاها بنى على الاتصال.
* * *

قوله تعالى: (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6))
يسأل عن (الباء) هاهنا؟
وفيها ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنها زائدة، والتقدير: أَيّكُمُ الْمَفْتُونُ.

(1/459)


والثاني: أنّها بمعنى (في) والتقدير: في أي فرقكم المفتون، أي: المجنون. وهذا قول الفراء.
والقول الثالث: أنّ (المفتون) بمعنى: الفتون، كما يقال: ماله معقول، وليس له محصول، وهذا قول ابن عباس.
قال مجاهد: المفتون: المجنون. وقال قتادة المعنى في (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) أيكم أولى بالشيطان، جعل (الباء) زائدة.
قال الراجز:
نَحنُ بني جَعَدة أصحابُ الفَلجَ ... نَضربُ بالسيفِ ونرجُو بالفَرجْ
أىِ: نرجو الفرج.
* * *

قوله تعالى: (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20))
السمة: العلامة، يقال: وسمه يسمه وسماً وسماً.
والخرطوم ما نتأ من الأنف، وهو الذي يقع به الشم، ومنه قيل: خرطوم الفيل، وخرطمه: إذا قطع أنفه، وجمعه: خراطيم.
قال قتادة المعنى: سنسمه على أنفه، وروي عن ابن عباس في (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) سنُحطمه بالسيف في يوم بدر، قال الفراء: أي سنكويه ونسمه سمة أهل النار، ومعناه: سنسوّد وجهه، وهو وإن كان الخرطوم قد خصّ بالسمة فإنه كأنّه في مذهب الوجه؛ لأنَّ بعض الوجه يؤدي عن

(1/460)


البعض. والعرب تقول: والله لأسمنك وسماً لا يفارقك.
وقيل: الخرطوم: الخمر، والمعنى: سنسمه على شرب الخمر، قال الشاعر:
أَبَا حاضِرٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفْ زِناؤُهُ ... ومَنْ يَشرَبِ الخُرْطُومَ يُصْبِحْ مُسَكَّرا
والجنة: البستان، والصرام: الجداد في النخيل بمنزلة: الحصاد والقطاف في الزرع والكرم، يقال: صرمت النخل وجددتها، وأصرمتْ هي وأجدت إذا حان ذلك منها.
ومصبحين: داجلين وقت الصبح.
ولا يستثنون: لا يقولون (إن شاء الله).
والطائف: الطارق بالليل، فإذا قيل: (أطاف به) صلح في الليل والنهار.
وأنشد الفراء:
أَطَفْتُ بِهَا نَهَارًا غَيْرَ لَيْلٍ ... وأَلْهَى رَبَّها طَلبُ الرّخَالِ
والرخال: الإناث من أولاد الضأن، والصريم: الليل الأسود، قاله ابن عباس، وأنشد أبو عمرو:
ألا بكَرت وَعَاذلِتي تلُوم ... تُهَجِدُني وَمَا انكشَفَ الصَريمُ

(1/461)


وقال آخر:
تَطاوَلَ ليلُكَ الجَونُ البَهيمُ ... فَمَا يَنجابُ عَن صُبحٍ صَريمُ
إذَا ما قلت أقشع أو تناهى ... جُرَت من كُل ناحِيةٍ غُيومُ
ويُسمى النهار صريماً، وهو من الأضداد؛ لأنّ الليل ينصرم عند مجيء النهار، والنهار ينصرم عند مجيء الليل، وقيل: الصريم: المصروم، أي: صرِم جميع ثمارها، والمعنى: فأصبحت كالشيء المصروم، وقيل: الصريم: الصحيفة، أي: أصبحت بيضاء لا شيء فيها، وقيل: الصريم: منقطع الرمل الذي لا نبات فيه، قال الفراء المعنى: بلونا أهل مكة كما بلونا أصحاب الجنة، وهم قوم من أهل اليمن كان لرجلٍ منهم زرع وكرم ونخل، وكان يترك للمساكين من زرعه ما أخطأه المنجل، ومن النخل ما سقط عن البسط، ومن الكرم ما أخطأه القطاف، فكان ذلك يرتفع إلى شيء كثير، ويعيش به اليتامى والأرامل والمساكين. فمات الرجل وله بنون ثلاثة، فقالوا: كان أبونا يفعل ذلك والمال كثير والعيال قليل، فأما إذ كثر العيال وقلَّ المال فإنا لا نفعل ذلك، ثم تآمروا أن يصرموا في سدف، أي: في ظلمة باقية من الليل؛ لئلا يبقى للمساكين شيء، فسلط الله على مالهم نارًا فأحرقته ليلًا.
(وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ) أي: على منع، من قولهم: حاردت السَّنَة إذا منعت قطرها. وقال الفراء:
على قصدٍ، وقال أيضاً: على قدرة وجدٍّ في أنفسهم، وأنشد في الحرد بمعنى القصد:
أَقْبَل سَيْلٌ جَاءَ مِنْ عِند اللَّهْ ... يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلَّهْ
في كُل شهر دائم الأهلّة

(1/462)


وقيل: (عَلَى حَرْدٍ) على جد من أمرهم، وهو قول مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد، وقال الحسن: على جهدٍ من الفاقة، وقال سفيان: على حنق، قال الأشهب بن رميلة:
أُسُودُ شَرىً لاقَتْ أُسُودَ خَفِيَّةٍ ... تَسَاقَوْا عَلَى لَوحٍ دِماءَ الأَساوِدِ
وقيل: (عَلَى حَرْدٍ) على غضب.
قال: فلما جاءوا إليها ليصرموها لم يروا شيئًا إلا سواداً، فقالوا: إنا لضالون ما هذا بمالنا الذي نعرف. أي: ضللنا عن جنتنا، وقيل: ضالون عن طريق الرشاد في إدراك جنتنا قال قتادة: أخطأنا الطريق، وقيل: ضالون عن الحق في أمرنا، ولذلك عوقبنا بذهاب ثمرتنا، ثم قال بعضهم: هو مالنا، وحُرمنا بما صنعنا بالأرامل والمساكين (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) أي: أعدلهم طريقةً، وكانوا قد أقسموا ليصرمنها في أول الصباح، ولم يقولوا " إن شاء الله " فقال لهم أوسطهم، وهو أخٌ لهم: ألم أقل لكم لولا تسبحون. أي: تستثنون، والتسبيح هاهنا: الاستثناء، وهو أن يقول " إن شاء الله ".
وموضع (الكاف) نصب، لأنها نعتٌ لمصدرٍ محذوف، والتقدير: إنا بلوناهم بلاءً كما بلونا أصحاب الجنة.
* * *

(1/463)


وَمِنْ سُورَةِ (الْحَاقَّةِ)
قوله تعالى: (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5))
الحاقة: اسم من أسماء القيامة، لأنها يحقُّ فيها الجزاء، وكذلك القارعة؛ لأنَّها تقرع قلوب العباد.
وثمود وعاد: قبيلتان من الجبلة الأولى، وهي ستة: عاد وثمود وطسم وجديس وأميم وأرم.
والطاغية: قيل معناه: الخصلة الطاغية، وقيل معناها: الطغيان، بمنزلة العاقبة والعافية، قال ابن عباس: القارعة: يوم القيامة، وقال قتادة: الطاغية: الصيحة المتجاوزة في العظم، وقال ابن عباس والضحاك وقتادة وابن زيد. الحاقة: القيامة.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لِمَ كرر لفظها، ولم يضمر لتقدم ذكرها؟
والجواب: أنها كررت، ولم تضمر للتعظيم والتفخيم لشأنها، ومثله: (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2))، ومثله قوله: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2).

(1/464)


ويسأل عن موضع (الْحَاقَّة) من الإعراب؟
وفيها جوابان:
أحدهما: أن تكون مبتدأة، وقوله (مَا الْحَاقَّةُ) خبرها، كأنّه قال: الحاقة أيّ شيء هي.
والثاني: أن تكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هذه الحاقة، ثم قيل: أي شيء الحاقة. تفخيماً لشأنها. وتلخيص المعنى: هذه السورة الحاقة.
وقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ)، (ما) في موضع رفع بالابتداء، وهي استفهام، و (الْحَاقَّةُ) الخبر. والجملة في موضع نصب على المفعول الثاني لـ (أدراك) من قوله (وما أدراك).
* * *

قوله تعالى: (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا)
الأرجاء: الجوانب، واحدها " رجا "، وهو يُكتب بالألف؛ لأنَّ تثنيته بالواو، قال الشاعر:
فَلَا يُرْمَى بِيَ الرَّجَوانِ أَنِّي ... أَقَلُّ القَوْمِ مَنْ يُغْنِي مَكانِي
والملك: واحد ويُراد به الجماعة؛ لأنّه جنس، ولا يجوز أن يكون واحداً بعينه؛ لأنّه لا يصح أن يكون ملك واحد على أرجائها، أي: جوانبها فى وقت واحد. ومثل ذلك قوله تعالى:

(1/465)


(وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2))، أي: إن الناس؛ لأنّه قال: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، ولا يستثنى من الواحد، ومثله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) أي: المفسدين من المصلحين، وكذا قول العرب:
أهلك الناس الدينار والدرهم، أي: الدنانير والدراهم.
* * *

قوله تعالى: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42))
قول الشاعر: ما ألفه بوزنٍ، وجعله مقفى، وله معنى. وقول الكاهن: السجع، وهو كلام متكلف يُضم على معنى يشاكله.
ومما يسأل عنه: لِمَ مُنع الرسول عليه السلام من الشعر؟
وعن هذا جوابان:
أحدهما: أنّ الغالب من حال الشعراء أنّه يبعث على الشهوة، ويدعو إلى الهوى، والرسول عليه السلام إنما يأتي بالحكم التي يدعو إليها العقل للحاجة إلى العمل عليها، والاهتداء بها.
والثانى: أنّ في منعه من قول الشعر دلالة على أنّ القرآن ليس من صفة الكلام المعتاد بين الناس، وأنه ليس بشعر؛ لأنَّ الذي يتحدى به غير شعر، ولو كان شعراً لنُسب إلى من تحدى به وأنه من قوله.
ويسأل عن نصب قوله: (قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ) و (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)؟
وفيه وجهان:

(1/466)


أحدهما: أن يكون نعتًا لمصدرٍ محذوف، أي: إيماناً قليلاً ما تؤمنون. وادكارا، قليلًا تذكرون.
والثاني: أن يكون نعتًا لظرف محذوف، أي: وقتا قليلًا تؤمنون ووقتاً قليلًا تذكرون، و (ما) على هذا التقدير صلة، وإن شئت جعلت (ما) مصدرية. فيكون التقدير: قليلًا إيمانكم وقليلًا ادكاركم. وتكون في موضع رفع بـ (قليلًا).
* * *

(1/467)