إعراب القرآن للأصبهاني وَمِنْ سُورَةِ (الْمَعَارِجِ)
قوله تعالى: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)
لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2))
قال مجاهد: هذا السائل هو الذي قال: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ
هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا
حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ)، وهو النضر بن الحارث، وقال الحسن:
سأل المشركون فقالوا: لمن هذا العذاب الذي تذكر يا محمد؟ -
فجاء جوابهم بأنه (لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ)، وقيل:
" اللام " في قوله: (للكافرين) بمعنى " على " أي: واقعٌ على
الكافرين، وقال الفراء: هي بمعنى " الباء " أي: بالكافرين
واقع، وهو قول الضحاك.
وقرأ نافع وابن عامر (سَال سَائل) بغير همزٍ في (سأل) وهمز
الباقون.
فمن همز جاز في (الباء) على قوله وجهان:
أحدهما: أن تكون بمعنى (عن) وعلى هذا تأويل قول الحسن لأنهم
سألوا عن العذاب: لمن هو.
والقول الثاني: أنّ (الباء) على بابها للتعدي، والتقدير: سأل
سائل بإنزال عذاب واقع، وهذا على تأويل قول مجاهد أنّه يعني به
" النضر بن الحارث ".
ومن ترك الهمز جاز في قراءته ثلاثة أوجه:
أحدها: أنّه خفف الهمزة استثقالًا لها.
والثاني: أنها لغة، حكى سيبويه: سِلْتُ أُسَالُ على وزن: خفت
أخاف، قال حسَّان:
سَالت هُذَيلَ رسُولَ اللهِ فَاحِشةً ... ضَلَّت هُذيل بَها
سَالت ولم تُصبِ
(1/468)
والثالث: أنّه من " السيل " يقال: سال يسيل
سيلًا. والتقدير: سال سيل سائل بعذابٍ واقع، و (الباء) على هذا
القول للتعدي وفي القولين الأولين يجوز أن تكون للتعدية على
قول مجاهد، وبمعنى (عن) على قول الحسن.
* * *
قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى
(16))
لظى: اسم من أسماء جهنم، والنزع: الاقتلاع. وقيل (نَزَّاعَةً)
للتكثير، والشوى هاهنا: جلدة الرأس، والشوى في غير هذا الموضع:
الأطراف، كاليدين والرجلين، والشوى أيضاً: كل ما يعدو القتل،
يقال: رماه فأشواه.
ويُسأَل عن الرفع في قوله: (لَظَى نَزَّاعَةٌ) ما موضعها من
الإعراب؟
والجواب: أنّ فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها مبتدأة. و (نَزَّاعَةٌ) خبره، والجملة خبر (إنَّ)
و (الهاء) ضمير القصة. وهو الذي يسميه الكوفيون " المجهول "
ويسمونه أيضًا " عماداً ".
والثاني: أن تكون (لَظَى) خبر (إنّ) و (نَزَّاعَةٌ) خبرٌ ثانٍ.
كما تقول هذا حلوٌ حامضٌ.
(1/469)
والثالث: أن تكون بدلًا من (الهاء) على
شريطة التفسير، كأنّه قال: إنّ لظى نزاعة للشوى.
ويجوز أن تُجعل (نزاعة) خبر مبتدأ محذوف. أي: هي نزاعة.
وقد قرأ بعضهم (نَزَّاعَةً) بالنصب. والنصب على الحال. وتكون
لظى في معنى: متلظية، فتعمل في الحال، وهي قراءة بعيدة.
* * *
قوله تعالى: (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ
(36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37))
المهطع: المسرع، هذا قول أبي عبيدة، وقال الحسن: مهطعين:
متطلعين، وقال عبد الرحمن بن زيد: لا يطرفون أي: شاخصين.
وواحد (العزين) عِزَة، والعزة: الجماعة، ومعنى (عزين) جماعات
في تفرقة.
واختلف فى المحذوف من (عزة):
فقيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنّه (واو) والأصل: عزوة؛ لأنّه من: عزوته، أي: نسبته،
والعزة منتسبة إلى غيرها من الجماعات.
(1/470)
والثاني: أنّ المحذوف (ياء) وهي من: عزيت؛
لأنّه يقال: عزوت وعزيت بمعنى واحد.
والثالث: أنّ المحذوف (هاء) والأصل: عزهة. وهو من: العزهاة،
وهو المنقبض عن النساء، المجتمع عن اللهو معهن، قال الأحوص:
إِذا كُنْتَ عِزْهَاةً عَنِ اللَّهْوِ والصِّبا ... فكُنْ
حَجَراً مِنْ يابسِ الصَّخْرِ جَلْمَدا
وهذا الجمع في الأسماء المحذوفة عوض من الحرف المحذوف، ومن هذا
الباب: ثبون وعضون وسنون كل هذا محذوف اللام، وهذا الجمع له
عوض من المحذوف.
* * *
(1/471)
وَمِنْ سُورَةِ (نُوحٍ) عليه السلام
قوله تعالى: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ
وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)
يسأل عن (مِنْ) هاهنا؟
وفيها وجهان:
أحدهما: أنها بمعنى (عن) أي: يصفح لكم عن ذنوبكم.
والثاني: أنّ المعنى: يغفر لكم ذنوبكم السالفة، وهي بعض الذنوب
التي يصار إليهم، فلما كانت ذنولهم التي يستأنفونها لا يجوز
الوعد بغفرانها على الإطلاق؛ إذ يجري ذلك مجرى الإباحة لها،
فقيدت بهذا التقييد.
وقد قيل: إن المعنى: يغفر لكم من ذنوبكم بحسب ما يكون من
الإقلاع عنها، فهذا على احتمال بعضٍ إن لم يقلعوا عن بعض.
وأجاز الأخفش أن تزاد (مِن) في الواجب، فالتقدير على هذا: يغفر
لكم ذنوبكم.
* * *
قوله تعالى: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13))
قال ابن عباس ومجاهد والضحاك المعنى: ما لكم لا ترجون لله
عظمة، وقيل معنى ترجون:
تخافون، قال أبو ذؤيب:
إذا لَسَعَتْه النَّحلُ لَم يَرْجُ لَسْعَها ... وخالَفَها في
بَيْتِ نُوبٍ عَواملِ
أي: لم يخف، والنوب: النحل.
(1/472)
و (اللام) على هذا متعلقة بما دلّ عليه
الكلام، والتقدير: ما لكم لا ترجرن عظمة الله.
* * *
قوله تعالى: (وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22))
الكُبَار والكُبَّار والكبير بمعنى واحد، إلا أنّ بينها
تفاوتاً في المبالغة. فالكبَّار أشدها مبالغة، والكُبَار دون
ذلك، ويروى أنّ أعرابياً سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ
(وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا) فقال: ما أفصح ربك يا محمد،
وهذا من جفاء الأعراب؛ لأنّ الله تعالى لا يوصف بالفصاحة.
* * *
(1/473)
وَمِنْ سُورَةِ (الْجِنِّ)
قوله تعالى: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ
صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3))
الجدُّ هاهنا: العظمة؛ لانقطاع كل عظمة عنها، لعلوها عليها.
ومن هذا قيل لأب الأب " جد "، لانقطاعه. لعلو أبوته. وكل من
فوقه لهذا الولد " أجداد ".
والجد: الحظ، لانقطاعه بعلو شأنه، والجد: ضربٌ من السير
لانقطاعه عما هو دونه. وأصل الجد: القطع، والجِدّ: - بالكسر -
ضد الهزل؛ لانقطاعه عن السخف. وكذا الجد: الانكماش في الشيء
لانقطاعه عنَ التواني. والجُدُّ - بالضم - البئر القديمة.
لانقطاع من يعرف حالها في وقت حفرها، والجُد: ساحل البحر، ومنه
(جُدَّة) سُمي بذلك لأنّه آخر الأرض ومنقطعها. قال الحسن
ومجاهد وقتادة (جَدُّ رَبِّنَا) جلاله وعظمته، وروي عن الحسن:
غنى رَبِّنَا.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ)،
(وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا)، (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ)،
(وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ) بالفتح في الأحرف
الأربعة، وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم كذلك، إلا قوله:
(وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ) فإنهما قرأا بكسر
الهمزة، وقرأ الباقون ذلك كله بالفتح إلا ما جاء بعد قولٍ أو
فاء جزاء.
فمن فتح حمل على قوله: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ)، ومن
كسر (إِنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ)، فزعم الفراء: أنّ حبان
حدَّثه عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أوحي إلى النبي
- صلى الله عليه وسلم -
(1/474)
بعد اقتصاص أمر الجن وأن المساجد لله، قال:
وكان عاصم يكسر ما كان من قول الجن.
ويفتح ما كان من الوحي. لأنّ ما بعد القول لا يكون إلا
مكسوراً.
* * *
قوله تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا
مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ
اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19))
قال الفراء والزجاج: المساجد: مواضع السجود من الإنسان: الجبهة
واليدان والركبتان والرجلان، وقال الحسن: هي المساجد المعروفة،
والمعنى: فلا تدعُ مع الله أحدا كما تدعوا النصارى فى بيعها،
والمشركون في بيت أصنامها، وكان يقول: من السنة أن تقول إذا
دخلت المسجد: (لا إله إلا الله لا أدعو مع الله أحداً).
وقوله: (لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) يراد به:
النبي صلى الله عليه. كان إذا قال (لا إله إلا الله) كادوا
يكونون عليه جماعة متكاثفة بعضهم فوق بعض ليزيلوه بذلك عن
دعوته بإخلاص الإلهية.
وقال ابن عباسٍ: كاد الجن يركبونه حرصاً على سماع القرآن فيه،
وهو قول الضحاك. ويروى عن الحسن وقتادة أنهما قالا: تلبدت
الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه، فيأبي الله إلا أن يظهره
على من ناوأه، كما قال تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ
اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ).
* * *
(1/475)
وَمِنْ سُورَةِ (الْمُزَّمِّلِ)
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ
إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا
(3))
الْمُزَّمِّلُ: المتلفف في ثيابه، وكان النبي صلى الله عليه
إذا أُنزل عليه الوحي أخذته شدةٌ وكربٌ، فيقول: زملوني زملوني،
وكذلك (المدثر) لأنّه كان يقول مرة: دثروني دثروني.
قال الفراء: الْمُزَّمِّلُ: الذي تزمَّل في ثيابه وتهيأ للصلاة
في هذا الموضع. وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وأصل
الْمُزَّمِّل: المتزمل، فأبدلت من التاء زايًا وأسكنت وأدغمت
في التي بعدها، وقيل: الْمُزَّمِّل، ويقال: تزمَّل الرجل في
ثيابه أي: تلفف. قال امرؤ القيس:
كأن أُبَانَا في أفَانينِ وَذقِهِ كبيرُ أُناسبي بجاد مُزملِ
كأَنَّ أَبَاناً فِي أَفَانِينِ وَدْقِهِ ... كبيرُ أُناسٍ فِي
بِجَادٍ مُزَمَّلِ
ويُسْأَل عن نصب قوله: (نصفَه)؟
والجواب: أنّه يدل من الليل، وهو بدل بعضٍ من كل، كأنّه في
التقدير: قم نصف الليل إلا قليلا، وهو بمنزلة قولك: قطعت
اللصَّ يدَه، وأكلت الرغيف ثلثيه.
* * *
قوله تعالى: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ
وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11))
(1/476)
قوله (وَالْمُكَذِّبِينَ) مفعولٌ معه. أي:
مع المكذبين، كما تقول: تركته والأسدَ، أي: مع الأسد، والمعنى:
ارضى بعتاب المكذبين، أي: لست تحتاج إلى أكثر من ذلك. كما
تقول: دعني وإياه فإنه يكفيك ما ينزل به مني. وهو تهديد.
* * *
ْقوله تعالى: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى)
(أنْ) هاهنا مخففة من المثقلة. و (الهاء) مضمرة معها،
والتقدير: أنّه سيكون منكم مرضى، و (مرضى) اسم (يكون) و (منكم)
الخبر، والجملة خبر (أن)، ولا يلي الفعل (أنْ) المخففة إلا مع
العوض، والعوض نحو: السين هاهنا، ونحو (لا) من قوله: (أَفَلَا
يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا).
* * *
قوله تعالى: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ
تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا)
(هو) فصل، وهو الذي يسميه الكوفيون عماداً، ونصب (خَيْرًا)
لأنّه مفعوٌل ثانٍ لـ (تَجِدُوهُ)، والفصل يدخل بين كل معرفتين
لا يستغني أحدهما عن الآخر، أو بين معرفة ونكرة تقارب
(1/477)
المعرفة، نحو قولك: زيد هو خيرٌ منك، وكان
عمروٌ هو أفضل من بكر، والمواضع التي يدخل فيها الفصلُ أربعة:
يدخل بين المبتدأ والخبر، وبين اسم كان وخبرها. وبين اسم (إنّ)
وخبرها، وبين مفعولي الظن.
* * *
(1/478)
وَمِنْ سُورَةِ (الْمُدَّثِّرِ)
قوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4))
قال ابن سيرين وعبد الرحمن بن زيد: اغسلها بالماء. وقيل: لا
تلبسها على معصية، وقيل: قصرها ولا تطلها، فإنّ ذلك يكون سبباً
لطهارتها، وقيل: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)، أي: لا تغدر فتدنس
ثيابك، فإنّ الغادر دنس الثياب، وقيل: (وَثِيَابَكَ
فَطَهِّرْ)، يقول: وعملك فأصلح، وهذه الأقوال الثلاثة عن
الفراء، وقيل: المعنى: قلبك فَطَهِّرْ، وكنى بالثياب عن القلب
واستشهدوا بقول امرئ القيس:
وإنهْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مني خليقَةٌ ... فَسُلِّي ثِيَابِي
مِنْ ثيابِكِ تَنْسُلِ
أي: قلبك من قلبي.
* * *
قوله تعالى: (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6))
قال الفراء: المعنى: لا تعطِ في الدنيا شيئًا ليصب أكثر منه.
ورفع (تَسْتَكْثِرُ)؛ لأنّه في موضع الحال، والمعنى: لا تمتن
مستكثراً.
وقرأ عبد الله بن مسعود: (ولا تَمنُنْ أن تَستَكِثَرَ)، فهذا
شاهد على الرفع؛ لأنّ (أنْ)
(1/479)
إذا حُذفت رفع الفعل، ومنه قول طرفة:
أَلا أَيُّهَذا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الوَغَى ... وأَن
أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنتَ مُخْلدي
* * *
قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)
سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ
(20))
(كَلَّا) زجر وردع، والمعنى: ليرتدع ولينزجر عن هذا، كما أنّ
(صه) بمعنى: اسكت، و (مه) بمعنى: اكفف، وكأنه قيل: لينزجر فإن
الأمر ليس على ما توهم.
والعنيد والمعاند سواء، وهو الذاهب عن الشيء على طريق العداوة
له، والإرهاق: الإعجال بالعنف، والصعود: العقبة الصعبة
المرتقى، وهو الكؤود أيضاً، والتفكير: من الفكرة، وهو تطلب
الرأي والتقدير والتخمين.
وهذه الآية نزلت في " الوليد بن المغيرة " حدثني أبي عن عمه
قال: حدثنا القاضي منذر بن سعيد قال: حدثنا أبو النجم عصام بن
منصور قال: حدثنا أبو بكر عبد الله بن عبد الرحيم البرقي قال:
حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام قال: حدثنا زياد بن عبد الله
البكاي عن محمد بن إسحاق المطلبي قال: اجتمع نفرٌ من قريش إلى
الوليد بن المغيرة، وكان ذا سن فيهم، وكان أيام الموسم، فقال
لهم:
(1/480)
يا معشر قريش إنَّه قد حضر هذا الموسم وإنّ
وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صحابكم هذا،
فأجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد
قولكم بعضه بعضا، قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس أقم لنا رأيًا
نقول به، قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول (كاهن)، قال:
لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهان، فما هو بزمزمة الكاهن
ولا مسجعه، قالوا: فنقول (إنه مجنون)، قال: لا والله ما هو
بمجنون. لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه
ولا وسوسته، قالوا: فنقول (شاعر)، قال: لا والله ما هو بشاعر،
لقد عرفنا الشعر كله، رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما
هو بالشعر، قالوا: فنقول (ساحر)، قال: ما هو بساحر. قد رأينا
السحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده، قالوا: فما نقول يا أبا
عبد شمس؟ قال: والله إنَّ لقوله لحلاوة وإنّ أصله لعذق وإنّ
فرعه لجناه، وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عُرف أنّه
باطل، وإن أقرب القول منه أنّ تقولوا: ساحرٌ جاء بقولٍ هو سحر
يفرق بين المرء وابنه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته،
وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبيل
الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا ذكروا له أمره،
فأنزل إلله في الوليد فيما كان منه: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ
وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12)
وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14)
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ
لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ
فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ
قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20))، إلى آخر هذه القصة.
قال الفراء: قال الكلبي: يعني بالمال الممدود: العروض والذهب،
قال: وحدثني قيس عن إبراهيم بن المهاجر عن مجاهد قال: ألف
دينار، وكان له عشرة من البنين لا يغيبون عن عينيه في تجارة
ولا عمل.
وقوله (قُتِلَ) أي: لعن.
(1/481)
قوله تعالى: (إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ
(35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36))
اختلف في (نَذِيرًا):
فقيل: هو مصدر بمعنى: الإنذار. وقيل: هو اسم فاعل بمعنى: منذر.
ويسأل عن نصبه؟
وفيه ستة أقوال:
أحدها: أنها حال من (إحْدَى الْكُبَرِ)، لأنها معرفة. وهو قول
الفراء، قال: والنذير: جهنم، قال وتقديره تقدير إنذار.
والثاني: أنّه بدل من (الهاء) في قوله (إنها).
ًوالثالث: أنّه نصب بإضمار (أعني)، كأنّه قال: أعني نذيرًا
للبشر.
والرابع: أنّه على تقدير: جعلها نذيراً للبشر.
والخامس: أنّه مصدر، أي: إنذارًا للبشر؛ لأنّه لما قال:
(إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ) دلّ على أنّه أنذرهم بها
إنذارًا.
والسادس: أنّه حال من المضمر في (قُمْ) في أول السورة، كأنّه
قال: يا أيها المدثر قم نذيرًا للبشر، فأنذر، ونذير على هذا
الوجه بمعنى المنذر، وهو قول الكسائي.
* * *
(1/482)
وَمِنْ سُورَةِ (الْقِيَامَةِ)
قوله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا
أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2))
يسأل عن دخول (لا) هاهنا؟
وفيها ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنها صلة، نحو قوله تعالى: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ
الْكِتَابِ)، والمعنى: ليعلم.
والثاني: أنها بمعنى (ألا) التي يستفتح بها الكلام، كأنّه قال:
ألا أقسم بيوم القيامة، ثم أخبر أنّه لا يقسم بالنفس اللوامة.
والثالث: أنّه جوابٌ لما تكرر في القرآن من إنكارهم البعث؛
لأنَّ القرآن كله كالسورة الواحدة، وهو قول الفراء، واختيار
أبي علي.
وقرأ قنبل: (لأقسِمُ) بجعلها جواب قسم، قالوا: وحذف النون؛
لأنَّه أراد الحال، ولولا ذلك لقال (لأقسمنَّ)، والنون لا تدخل
في فعل الحال، وأكثر ما يستعمل اللام في القسم ومعها النون،
إلا أنّ بعضهم أجاز حذفها كما حذفت (اللام) وتركت النون، قال
الشاعر:
(1/483)
وَقَتيلِ مُرَّةَ أَثْارَنَّ فإنّهُ ...
فِرَغٌ وإنَّ أُخَاكم لم يثأرِ
يريد: لا ثارنّ، فحذف اللام.
والقول على قوله (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) كالقول على
(لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ).
* * *
قوله تعالى: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ
(4))
يسأل عن نصب (قَادِرِينَ)؟
والجواب: أنّه نصب على الحال، والعامل فيه أحدُ شيئين:
إما نجمعها قَادِرِينَ، وإما على تقدير: بلى نقدر قَادِرِينَ.
إلا أنّه لم يظهر (نقدر) استغناء عنه بـ (قَادِرِينَ). وهو
كقولك: قاعدًا وقد سار الركب، أي: تقعد وقد ساروا.
* * *
قوله تعالى: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
(14))
يسأل عن (الهاء) في (بَصِيرَةٌ)؟
وفيها ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنّ المعنى: بل الإنسان على نفسه عين بصيرة.
والثاني: أنّ المعنى: بل الإنسان على نفسه حجة بصيرة، أي:
بيّنة.
والثالث: أنّها للمبالغة، كما تقول: رجل علامة ونسابة.
(1/484)
وقال الرماني: التقدير: بل الإنسان على
نفسه من نفسه بَصِيرَةٌ جوارحه شاهدةٌ عليه يوم القيامة.
* * *
قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى
رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23))
الناضرة: الناعمة الحسنة البهجة، وهو قول الحسن، وقال مجاهد:
مسرورة.
وناظرة: مبصرة، ودخول (إلى) يدل على أنّ (ناظرة) بمعنى: مبصرة
لأنّه لا يقال: نظرت إليه، بمعنى: انتظرته، وأما من زعم أنّ
المعنى: ثواب ربها منتظرة، فليس بشيء. لأنّ الله تعالى أخبر
أنّهم في النعيم والنضرة بقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
نَاضِرَةٌ)، ولا يقال لمن كان في النعيم: هو منتظر للثواب؛
لأنَّ النعيم هو الثواب.
وقد حمل قومًا تعصبُهم أنّ زعموا أنّ (إلى) واحد (الآلاء)،
وليست بحرف، وكأن التقدير: نعمة ربها ناظرة؛ لأنّ الآلاء:
النعم، وهذا لا يجوز لما قدّمنا ذكره من أنّه من كان فى النعيم
فلا يقال: هو منتظر النعم.
وقد تناصرت الأخبار بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، وهي
مشهورة في أيدي الناس. مع دلالة قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّهُمْ
عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)؛ لأنَّه لو كان
غيرهم محجوبًا لما كان في ذلك طردًا لهم ولا تعنيفًا؛ لأنّ
المساواة قد وقعت. فإذا كان أعداء الله محجوبين عنه، فأولياؤه
غير محجوبين.
(1/485)
قوله تعالى: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ
بِالسَّاقِ (29))
الساق: الشدة، يقال: قامت الحرب على ساقها، أي: على شدة.
وأصله: أنّ الإنسان إذا عانى أمراً شديداً كشف عن ساقه. ومنه
قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)، أي: عن شدة. قال
الراجز:
قَد كَشَفَتْ عن سَاقٍ فشُدُّوا
والمعنى: والتفت شدّة آخر الدنيا بشدة أوّل يوم الآخرة، وقيل:
المعنى: اشتد الأمر عند نزع النفس حتى يتقلَّب ساق على ساق،
ويلتف بها عند تلك الحال.
* * *
قوله تعالى: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ
كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ
يَتَمَطَّى (33))
(لا) بمعنى (لم)، أي: لم يصدق ولم يصلّ، ولا يجوز أن تدخل (لا)
على الفعل الماضي إلا على معنى التكرير، لئلا يشبه الدعاء.
والأصل في (تمطى): تمطط، أي: تمدد، ومنه: مططت في الكتابة،
فأبدلوا من إحدى الطائين (تاء) كراهية التضعيف، كما قال
الراجز:
تَقَضِّيَ البازِيُّ إذَا البازِيُّ كَسَرْ
يريد: تقضض، ثم أبدلت (الياء) من (تمطى) ألفا لتحركها وانفتاح
ما قبلها.
* * *
(1/486)
وَمِنْ سُورَةِ (الْإِنْسَانِ)
قوله تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ
الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1))
الْإِنْسَان هاهنا: آدم عليه السلام، قال الفراء: كان شيئاً،
ولم يكن مذكوراً، وذلك من حين خلقه الله من طين إلى أن نفخ فيه
الروح.
و (هل) بمعنى (قد)، هذا المشهور عن العلماء، وقال ابن الرماني:
قد قيل إنّ معناها: أأتى على الإنسان، والأغلب عليها الاستفهام
والأصل فيها (قد).
* * *
قوله تعالى: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ)
يُسأل عن نصب قوله (عَيْنًا) وفيه أجوبة:
أحدها: أنّه منصوب على البدل من (كافوراً).
والثاني: أنّه على تقدير: ويشربون عيناً.
والثالث: أنّه على الحال من (مزاجها)، وهو قول الفراء. وقيل:
يمزج بالكافور ويختم بالمسك، قال الفراء: إن شئت نصبتها على
القطع من قولك (مزاجها) من (الهاء) في المزاج.
(1/487)
والرابع: أنّ المعنى: يُعطون عينا.
ومعنى (بها) كمعنى (فيها)، وقيل: المعنى (منها).
* * *
قوله تعالى: (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ
قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14))
يسأل عن نصب (دَانِيَةً)؟
وفيها ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنها معطوفة على (جنة)، والمعنى: وجزاهم بما صبروا جنةً
وحريرًا ودَانِيَةً عليهم، أي: وجنةً دانيةً ثم حذف الموصوف.
والثاني: أنها معطوفة على (متكئين)، فهو حال على هذا القول.
والثالث: أنّه نصب على المدح. كقولك: عند فلان جاريةً جميلةً
وشابةً بعد طريةً.
وأجاز الرماني أن يكون معطوفاً على موضع (لَا يَرَوْنَ فِيهَا
شَمْسًا).
(1/488)
قوله تعالى: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ
بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15)
قَوَارِيرَ)
الأكواب: جمع كوب، والكوب: إبريقٌ له عروة واحدة، قيل: هو من
فضة إلا أنّه في صفاء القوارير لا يمنع الرؤية.
واختلف القراء في قوله (قَوَارِيرَا قَوَارِيرَ). فنونهما
جميعاً أهل المدينة، ونون أبو عمرو الأول، والباقون قرأوا بلا
تنوين، وهو الأصل؛ لأنَّه لا ينصرف، فأما من نون فقد عُللت
قراءته بأشياء: منها: أنّه وقع في المصحف بألفٍ فتوهم أنها ألف
التنوين فنوَّن.
ومنها: أنها لغةً لبعض العرب، ذكر الكسائي أنّه سمع من العرب
من يصرف جميع ما لا ينصرف إلا (أفضل منك).
ومنها: أنّ هذا الجمع إنما امتنع من الصرف؛ لأنّه لا نظير له
في الآحاد، وأنّه غاية الجموع. وأنه لا يجمع، ثم إنّ العرب قد
تجمعه، حكى الأخفش: هن مواليات فلان، جمع موالي، وموالي جمع
مولاة. وفي الحديث -: (أنتُنّ صواحبات يوسف)، جمع صواحب،
وصواحب جمع صاحبة، وقال الفرزدق:
وإذَا الرِّجالُ رأوا يزيدَ رأيتَهمْ ... خُضُعَ الرِّقابِ
نواكِسِي الأبصارِ
(1/489)
يريد: نواكسين، وهو جمع نواكس، ونواكس جمع
ناكس، فلما جمع هذا الجمع أشبه الواحد، فَنُون كما ينوّن
الواحد.
والقول على قوله (سلاسل) كالقول على قوله (قَوَارِيرَا
قَوَارِيرَ).
ومن نوّن الأول ولم ينوّن الثاني فلأنّ الأول رأس آية،
والفواصل تشبّه بالقوافي فتنوّن، ولم ينوّن الثاني لأنّه ليس
برأس آية، وقد قال الزجاج: ّإن من نونهما جميعا اتبع الثاني
الأول؛ لأنّه نوّن الأول؛ لأنّه فاصلة ونوّن الثاني اتباعاً له
كما قالوا (جحر ضبٍّ خربٍ)، فجر (خربًا) لمجاورته (ضبًّا) وهو
نعت لجحر.
* * *
قوله تعالى: (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ
وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ)
السندس: الديباج الرقيق الفاخر الحسن، والإستبرق: الديباج
الغليظ وهو معرَّب.
وقرأ محيصن بترك الصرف، وقرأ نافع وحمزة وعاصم في رواية أبان
والمفضل (عَالِيْهم) بتسكين (الياء)، ونصب الباقون.
وقرأ نافع وحفص عن عاصم (خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) بالرفع، وقرأ
حمزة والكسائي بالجر، وقرأ ابن كثير وعاصم من رواية أبي بكر
بجر (خُضْرٍ) ورفع (إِسْتَبْرَقٌ)، وقرأ أبو عمرو وابن عامر
برفع (خُضْرٌ) وجر (إِسْتَبْرَقٍ).
فمن أسكن (الياء) جعل (عاليهم) مبتدأ و (ثياب) الخبر.
ومن نصب جعله ظرفاً، كقولك: فوقهم، وهو قول الفراء، وأنكره
الزجاج، وقال: هو نصب على الحال من المضمر في (عاليهم)، ويجوز
أن يكون من المضمر في رأيتهم. وإنما أنكره الزجاج لأنّه
(1/490)
ليس باسم مكان، كخارج الدار وداخلها، وهو
مذهب سيبويه.
ومن رفع (خضراً) و (إستبرقاً) ردهما على (ثياب)، فـ (خضر) وصف،
و (إستبرق) عطف.
ومن كسرهما ردهما على (سندس).
ومن جر (خضراً) ورفع (إِسْتَبْرَقاً) رد (خضراً) إلى سندس و
(إِسْتَبْرَقا) إلى (ثياب).
ومن رفع (خضراً) وجر (إِسْتَبْرَقا) رد (خضرا) لـ (ثياب) و
(إِسْتَبْرَقا) إلى (سندس). وهذه القراءة أجود القراءات.
* * *
قوله تعالى: (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا)
نصب (الظالمين) بفعل مضمر تقديره: ويعذب الظالمين أعدَّ لهم،
ولا يجوز نصبه بإضمار (أعدَّ) لأنّه لا يتعدى إلا بحرف جر، إلا
على قراءة ابن مسعود؛ لأنّه قرأ (وَللظَّالِمِينَ أَعَدَّ
لَهُمْ)، وأجاز الفراء الرفع في (الظالمين) وجعله مثل قوله:
(وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ)، والوجه: النصب
بإضمار فعل؛ لأنّ في صدر الكلام فعلًا، وهو قوله: (يُدْخِلُ
مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ). فأضمر فيه فعلا ليعتدل الكلام
بعطف فعلٍ على فعل. كما قال:
(1/491)
أَصْبَحْتُ لَا أَحْمِلُ السلاحَ وَلَا ...
أَملكُ رَأْسَ البعيرِ إِن نَفَرا
والذِّئبَ أَخْشَاه إِن مَرَرْتُ بِهِ ... وَحْدِي وأَخْشَى
الرِّياحَ والمَطَرا
* * *
(1/492)
وَمِنْ سُورَةِ (الْمُرْسَلَاتِ)
قوله تعالى: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)
قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وقتادة وأبو صالح: المرسلات:
الرياح، وروي عن ابن مسعود وأبي صالح أيضاً: أنها الملائكة،
وقيل: (عرفاً) أي: بالمعروف. فعلى هذا يكون مفعولًا له، وقيل:
(عرفا) أي: متتابعين، من قولهم: جاءوا إليه عُرفاً واحداً،
فعلى هذا يكون نصباً على الحال.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11))
قال مجاهد: أُقِّتَتْ بالاجتماع لوقتها يوم القيامة، كما قال
تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ)، وقيل: أُقِّتَتْ:
أجلت لوقت ثوابها، وقيل: أُقِّتَتْ: جعل لها وقت يفصل فيها
القضاء بين الأمة.
وقرأ أبو عمرو (وقتت) بالواو، وهو الأصل؛ لأنَّه من الوقت،
وقرأ الباقون (أقتت) بإبدال الهمزة من الواو، وهو مطرد في كلام
العرب، نحو: وجوهٍ وأجوه، ووعد وأعد. وأدور وأدر وما أشبه ذلك.
(1/493)
قوله تعالى: (وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ
فَيَعْتَذِرُونَ (36))
يسأل عن هذا فيقال: قد قال تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ
نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا).
وقال هاهنا: (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ)؟
الجواب: أنّ ابن عباس قال: هذه مواقف يؤذن لهم مرة في الكلام
ومرة لا يؤذن لهم في الكلام، وقال الزجاج: أي لا ينطقون بحجة
وهذا كقول القائل يتكلم بغير حجة هذا ليس بكلام.
* * *
(1/494)
وَمِنْ سُورَةِ (يَتَسَاءَلُونَ) النَّبَإِ
قوله تعالى: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21)
لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24))
المرصاد: المراقب، وهو مفعال من الرصد، والأحقاب: جمع حقب وهو
ثمانون سنة، والبرد: النوم، والعرب تقول: منع البردُ البردَ،
أي: منع البردُ النوم، وقال الشاعر:
بَرَدَت مراشِفُها عَليَّ فَصَدَّني ... عَنهَا وَعَنْ
قُبُلاتِهَا البَردُ
ومما يسأل عنه أن يُقال: قد ذكر الله تعالى أنّهم خالدون فيها
أبداً، وقد حدد خلودهم هاهنا بقوله: (لَابِثِينَ فِيهَا
أَحْقَابًا)؟
وللعلماء في هذا عشرة أقوال:
أحدها: أنّ المعنى: أحقاباً لا انقطاع لها، كلما مضى حقب جاء
بعده حقب، والحقب ثمانون سنة من سني الآخرة، وهذا قول قتادة.
والقول الثاني للربيع، وهو أنّه قال: هذه أحقاب لا يعلم عددها
إلا الله تعالى.
والثالث للحسين: وهو أنها أحقاب ليس لها عدة إلا الخلود في
النار، ولكن قد ذكروا أنّ الحقب الواحد سبعون ألف سنة، كل يوم
من تلك السنين ألف سنة لقوله تعالى: (كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا
تَعُدُّونَ).
(1/495)
والرابع للمبرد قال المعنى: أنّهم لابثون
فيها أحقاباً، هذه صفتها.
والخامس: لخالد بن معدان، قال: يعني به: أهل التوحيد.
والسادس لمقاتل، قال: هي منسوخة بقوله: (فَذُوقُوا فَلَنْ
نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا)، وفيه نظر؛ لأنّه خبر، والنسخ لا
يكون في الخبر.
والسابع عن ابن مسعود، وهو أنّه قال: ليأتين على جهنم زمانٌ
تخفق أبوابها ليس فيها أحد.
والثامن يروى عن أبي هريرة قال: ليأتين على جهنم يومٌ لا يبقى
فيها أحد، وقرأ: (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) إلى قوله:
(مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ).
والتاسع عن الحسن، قال: لو لبثوا في النار كعدد رمل عالج لكان
لهم يوم يستريحون فيه، وهذا قولٌ ثانٍ له.
والعاشر: أنّ قوله (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) يعود إلى
ذكر الأرض، كأنّه لما قال: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ
مِهَادًا) قال: (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا)، ولا يمتنع مثل
هذا وإن تقدم في صدر الآية ذكر الطاغين، وجاء بعد ذلك (لَا
يَذُوقُونَ فِيهَا)؛ لأنّ العرب تفعل مثل ذلك، قال الله تعالى
(وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ). والتسبيح لله
تعالى، والتعزير والتوقير للنبي صلى الله عليه، ويروى أنّ ابن
كيسان أو غيره من العلماء سئل عن قوله: (لَابِثِينَ فِيهَا
أَحْقَابًا) فلم يجاوب إلا بعد عشرين سنة، فقال في الجواب:
(لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا
بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24)) فإذا انقضت هذه الأحقاب التي
عُذّبوا فيها بمنع البرد والشراب بدلوا بأحقاب أخر فيها صنوف
من العذاب، وهي أحقاب بعد أحقابٍ لا انقضاء لها، وهذا أحسن ما
قيل فيه.
* * *
(1/496)
وَمِنْ سُورَةِ (النَّازِعَاتِ)
قوله تعالى: (إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ
طُوًى (16))
قرأ الحسن (طِوًى) بكسر الطاء. وقال: طِوى بالبركة والتقديس
مرتين، قال طرفة:
أَعَاذِلُ إِنَّ اللَّوْمَ فِي غَيْرِ كُنْهِهِ ... عَليَّ
طِوًى مِنْ غَيِّكِ المُتَرَدِّدِ
أي: لومك مكرر، قال الفراء: (طوى) وادٍ بين المدينة ومصر، ومن
أجرى (طوى) قال هو موضع يسمى (مذكر)، ومن لم يجره جعله معدولًا
عن جهته، كما تقول: عُمر وزُفَر، قال: ولم نجد اسمًا من الواو
والياء عدل عن جهته غير (طوى)، فالإجراء فيه أحب إليَّ؛ إذ لم
أجد له في المعدول نظيرًا.
وقيل: لم ينصرف (طوى) لأنّه معرفة، وهو اسم للبقعة، فاجتمع فيه
التعريف والتأنيث.
* * *
قوله تعالى: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ
وَالْأُولَى (25))
قال ابن عباس ومجاهد والشعبي " الأولى " قوله: (مَا عَلِمْتُ
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)، "والآخرة" قوله: (أَنَا
رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)، وقال الحسن وقتادة: عذاب الدنيا وعذاب
الآخرة، وقال
(1/497)
مجاهد: أول عمله وآخره.
قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ
الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41))
قال البصريون: المعنى: فهي الْمَأْوَى له، فحذف العائد؛ لأنّ
المعنى مفهوم، ومثله قوله تعالى (مُفَتَّحَةً لَهُمُ
الْأَبْوَابُ)، أي: الأبواب منها.
وقال الكوفيون: الألف واللام عقيب الإضافة. والمعنى: فهي
مأواه، ومثله: زيد أمّا المال فكثير، وأمَّا الخلق فحسن.
تقديره عند البصريين: أما المال عنده وأما الخلق منه، وتقديره
عند الكوفيين أما ماله وأما خلقه.
* * *
(1/498)
وَمِنْ سُورَةِ (عَبَسَ)
قوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى
(2))
هذه الآية وما بعدها نزلت في عبد الله بن أمّ مكتوم، وهو قول
ابن عباس وقتادة والضحاك. وابن زيد
وابن إسحاق، قال ابن إسحاق: كان النبي صلى الله عليه قد وقف مع
الوليد بن المغيرة يكلمه وقد طمع في إسلامه، فمرّ به عبد الله
بن أمّ مكتوم فوقف يسأله عن شيء، أو قال: يستقريه القرآن.
فشقَّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه حتى أضجره؛ لأنّه يشغله
عما كان فيه من أمر الوليد، وما طمع فيه من إسلامه، فلما أكثر
عليه انصرف عنه عابساً وتركه فعاتبه الله تعالى على ذلك.
وموضع (أنّ) نصب على أنّه مفعول له، أي: من أجل أن جاءه
الأعمى، ولأن جاءه، وزعم بعض الكوفيين أنها بمعنى (إذ)، وليس
بشيء.
* * *
قوله تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)
أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25))
قرأ حمزة والكسائي وعاصم (أَنَّا) بفتح الهمزة وقرأ الباقون
بالكسر، والكسر على الاستئناف. والفتح على البدل من
(طَعَامِهِ). فموضعها على هذا جرّ، كأنّه قال: فلينظر الإنسان
إلى أنا صببنا الماء. وهذا بدل الاشتمال. ويجوز أن يكون خبر
مبتدأ محذوف. أي: هو أنا صببنا الماء.
* * *
(1/499)
وَمِنْ سُورَةِ (كُوِّرَتْ) التكوير
قوله تعالى: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا
النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2))
ارتفعت (الشمس) بفعل مضمر تقديره: إذا كورت الشمس كورت. ولا
يجوز إظهاره؛ لأنَّ ما بعده يفسره. وإنما احتيج إلى إضمار فعل؛
لأنَّ (إذا) فيها معنى الشرط، والشرط بالفعل أولى، وقال الأخفش
والكوفيون: هو مبتدأ. و (كورت) الخبر، وجواب (إذا)، علمت،، وهو
الناصب لـ (إذا).
* * *
قوله تعالى: (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24))
قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي (بِظَنِينٍ) بالظاء، وقرأ
الباقون بالضاد، وكذلك هو في المصحف.
فمن قرأ بالظاء فمعناه: متهم، ومن قرأ بالضاد فمعناه: بخيل،
والقراءة بالضاد أجود، لا يقال: اتهمته على كذا. وإنما يقال
اتهمته بكذا، ومجاز القراءة بالظاء أنّه وضع (على) موضع الباء.
* * *
قوله تعالى: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا
ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27))
قال الفراء: العرب تقول: إلى أين تذهب، وأين تذهب. ويقولون:
ذهبت الشام، وخرجت الشام، وذهبت السوق، وانطلقت السوق، سمعناه
في هذه الثلاثة الأحرف (خرجت - وذهبت وانطلقت)، وقال الكسائي:
سمعت العرب تقول " انطلق بنا الغورَ " بالنصب، وأنشد الفراء:
تَصِيحُ بنا حَنيفَةُ إذِ رَأتنا .... وَأيّ الأرضِ تَذَهبُ
لِلصياحِ
(1/500)
يريد: إلى أيِّ الأرض.
ولم يحك سيبويه من هذا إلا: ذهبت الشام، وعلى هذا جاء قوله:
(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ)، ومعناه: فإلى أين تذهبون، وقيل
المعنى: فأين تذهبون عن الحق الذي قد ظهر أمره إلا إلى الضلال.
* * *
(1/501)
وَمِنْ سُورَةِ (انْفَطَرَتْ) الانفطار
قوله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ
مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ
نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو (يومُ لا تَملكُ) بالرفع جَعلاه بدلا
من قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ)، كأنّه في
التقدير: وما أدراك ما يومُ لا تملك.
وقرأ الباقون بالنصب على البدل
من قوله تعالى: (يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ)، هذا قول
البصريين، وقال الكوفيون: هو في موضع رفع، إلا أنّه مبني لأنّه
مضاف إلى الفعل، والبصريون يقولون: إذا أضيف إلى فعلٍ معرب لم
يبنَ، وإنما يبنى إذا أضيف إلى فعل مبني كالماضي.
* * *
(1/502)
|