إعراب القرآن للأصبهاني وَمِنْ سُورَةِ (الْمُطَفِّفِينَ)
قوله تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا
اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا
كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3))
التطفيف: التنقيص، ويروى عن ابن مسعود أنّه قال: الصلاة مكيال،
فمن وفى وُفّي له، ومن طفّف فقد سمعتم ما قال الله تعالى في
المطففين.
والرفع في المصدر الذي ليس له فعل الوجه، نحو قوله: (وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ)، فإن كان له فعل كان الوجه النصب، نحو:
حمداً وشكراً، فلذلك أجمع القراء على الرفع، والنصب جائز.
قال الفراء: نزلت هذه السورة أول ما قدم النبي صلى الله عليه
المدينة، وكان أهلها إذا تبايعوا كيلًا أو وزناً استوفوا
وأفرطوا، وإذا باعوا نقصوا. فنزلت (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)،
فآمنوا فهم أوفى الناس كيلا إلى يومهم هذا.
وقوله: (عَلى النَاسِ) أي: من الناس، (على) بمعنى (من).
وقوله: (كَالوهُم أو وزَنُوهم) أي: كالوا لهم ووزنوا لهم، فـ
(هم) في موضع نصب،
(1/503)
ويجوز أن يكون (هم) في موضع رفع على
التوكيد للضمير، والوجه الأول أولى؛ لأنَّها في المصحف بغير
ألفٍ. ولو كانت توكيداً لثبتت الألف التي هي للفصل.
* * *
قوله تعالى: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ
أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13))
نزلت في النضر بن الحارث؛ لأنّه كان يقول: هذه أساطير الأولين
فيما يسمع من القرآن.
واختلف في واحد (الأساطير):
فقيل: واحدها (اسطورة)، وقيل: (إسطارة)، وقيل: هو جمع (أسطار)،
و (أسطار) جمع سطر، كـ فرخ وأفراخ، وقيل: هو جمع (أسطر) إلا
أنّ كسرته أُشبعت فتنشأت عنها ياء.
* * *
قوله تعالى: (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا
يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28))
قيل: (تسنيم) عين ماء تجري من علو الجنة، ويقال: تسنمتهم
العين. إذا أجريت عليهم من فوق.
ويُسأَل عن نصب (عَيْنًا)؟
وفيه أوجه:
أحدها: أنّ (تسنيمًا) معرفة فـ (عَيْنًا) قطع منها، أي حال.
(1/504)
والثاني: أن يكون (تسنيم) مصدراً، فيجري
مجرى قوله: (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)
يَتِيمًا)، فيكون مفعولًا به.
والثالث: أنّه على المدح، أي: أعني عيناً.
والرابع: أنّ المعنى: يُسقون عيناً.
وأجاز الفراء: أن يكون على تقدير: شم عينًا، أي: رفع عيناً،
وهذا أيضًا يكون على الحال، فهذه خمسة أوجه.
* * *
َ
(1/505)
وَمِنْ سُورَةِ (انْشَقَّتْ) الانشقاق
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى
رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6))
الكدح: السعي. يقال: كدح في أمره يكدح كدحاً.
ويُسأَل عن " الهاء " في قوله (فَمُلَاقِيهِ)؟
وفيها جوابان:
أحدهما: أنّ المعنى: فملاقي ربَّك
والثاني: أنّ المعنى: فملاقي كدحك، أي: عملك وسعيك.
* * *
قوله تعالى: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا
لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20))
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: (لَتَرْكَبَنَّ) بفتح " الباء "
على معنى: لَتَرْكَبَنَّ يا محمد، وقرأ الباقون:
(لَتَرْكَبُنَّ) بالضم، على تقدير: تركبُنّ أيها الناس،
والأصل: لتركبون، فدخلت النون الثقيلة للتوكيد، فسقطت نون
الإعراب؛ لأنهما لا يجتمعان، فصار: لتركبون، فالتقى ساكنان
(الواو) و (أول المشدد) فحذفت (الواو) لالتقاء الساكنين. وتركت
الضمة.
وقيل في قوله: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) أقوال:
أحدها: أنّ المعنى: لتركبنّ منزلة عن منزلة، وطبقاً عن طبق،
وذلك أنّ من كان على صلاحٍ دعاه إلى
صلاح قومه، ومن كان على فساد دعاه إلى فساد قومه. إنّ كلّ شيءٍ
يصير إلى شكله.
(1/506)
والثاني: أنّ المعنى: جزاء عن عمل.
والثالث: لتصيرُنّ من الدنيا إلى الآخرة.
والرابع: لتركبنّ حالًا عن حالٍ من إحياء وإماتة.
قال الفراء: وقد فُسّر: لتصيرنّ الأمور حالًا بعد حالٍ؛ لشدة
هول يوم القيامة، قال: والعرب تقول: وقع في بنات طبق، إذا وقع
في أمر شديد.
و (عن) بمعنى (بعد). كما قال: (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ
نَادِمِينَ). أي: بعد قليل، قال الشاعر:
قَرِّبا مَرْبَطَ النَّعامةِ مِنِّي ... لَقِحَت حَرْبُ وائلٍ
عَنْ حِيَالِ
أي: بعد حيال.
* * *
(1/507)
وَمِنْ سُورَةِ (الْبُرُوجِ)
قوله تعالى: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ
الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ
الْأُخْدُودِ (4))
البروج: المنازل العالية، واحدها: برج، وهي هاهنا منازل الشمس
والقمر الثمانية والعشرين، تقطع الشمس كل برج منها في شهر،
ويقطعه القمر في يومين وثلث، فيكون مسيره فيها ثمانية وعشرين
يومًا، ويستسرُّ ليلة أو ليلتين.
وقال الفراء: هي النجوم المعروفة، وقيل: هي قصورٌ في السماء.
واليومُ الموعود: يوم القيامة، وهو يوم الجزاء وفصل القضاء،
وقد روي في خبرٍ مرفوع، وهو قول الحسن أيضاً وقتادة وعبد
الرحمن بن زيد.
والشاهد: النبي صلى الله عليه، والمشهود: يوم القيامة، وهو قول
الحسن بن علي رضي الله عنهما، وتلا: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ
شَهِيدًا)، (ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ
يَوْمٌ مَشْهُودٌ)، وهو قول ابن عباس وسعيد بن المسيب،
(1/508)
وروي عن ابن عباس أيضاً: أنَّ الشاهد هو
الله تعالى والمشهود يوم القيامة، وجاء في خبرٍ مرفوع: أنّ
الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة، وهو قول قتادة، وقيل:
الشاهد يوم النحر، والمشهود يوم عرفة، وهو قول إبراهيم.
والأخدود: شق في الأرض، قال ذو الرمة:
مِنْ العراقيَةِ اللاتي تُحيلُ لها ... بَينَ الفَلاةِ وَبينَ
النَّخلِ أخدودُ
يصف جدولًا.
ويسأل عن معنى (ذَاتِ الْوَقُودِ)، يسأل: لِمَ خُصّت بذات
الوقود، وكل نارٍ لها وقود؟
وعن هذا جوابان:
أحدهما: أنّه قد تكون نارًا ليست ذات وقود كنار الحجر، ونار
الليل، فقُيدت هاهنا للفرق.
والثاني: أنّه معرَّف، فصار مخصوصاً كأنّه وقودٌ بعينه.
واختلف في (أَصْحَاب الْأُخْدُودِ):
فقيل: هم قوم مؤمنون أحرقهم قوم من المجوس، وهذا مروي عن علي
بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقيل: كانوا من بنى إسرائيل، وهو قول الضحاك.
وقيل: (قُتِلَ) بمعنى: لُعِنَ، أي: لعنوا بتحريقهم في الدنيا.
وقيل: إن الكفار الذين كانوا قعوداً على النار، خرج إليهم منها
إنسان فأحرقهم عن آخرهم.
وقيل: كانوا نصارى من أهل نجران، حدثني أبي عن عمه عن منذر بن
سعيد عن أبي النجم عصام بن منصور عن أبي بكر أحمد بن عبد الله
البرقي، قال: حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام، قال: حدثنا
زياد بن عبد الله قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: كان أهل نجران
جاهلية يعبدون نخلة، فوقع إليهم رجل من أهل ملة عيسى يقال له
(فيميمون)، وكان أهل نجران يبعثون أولادهم إلى ساحر هنالك
يتعلمون منه، فأنفذ رجل يقال له (الثامر) ابناً له يسمى (عبد
الله) ليتعلم السحر، وكان (فيميمون) على طريقه، فعدل إليه (عبد
الله) وأعجبه ما رأى منه، فاتبعه على دينه، وسأله أن يعلمه اسم
الله الأعظم، وكان (فيميمون) إذا أتى بعليل دعا له بذلك الاسم
فيشفى، فقال لعبد الله: يا ابن أخي إنك
(1/509)
لن تقدر أن تحمله وأخشى ضعفك عنه، فلما رأى
(عبد الله) أنّ صاحبه قد ضنّ عليه بالاسم، عمد إلى قداح
فجمعها، فلم يدع اسما لله تعالى إلا كتبه في قدح منها ثم أوقد
نارا وأقبل يقذف فيها قِدحاً قِدحا حتى إذا مرَّ بالاسم الأعظم
قذفه فيها، فوثب القدح حتى خرج منها لم يضره شيئًا، فأخذه ثم
أتى صاحبه فأخبره فقال له: ما هو؟ فقال: كذا وكذا، قال: وكيف
علمت؟ فأخبره بما صنع، فقال: يا ابن أخي قد أصبته، فأمسك على
نفسك، وما أظنك أن تفعل، فجعل (عبد الله) إذا دخل نجران لا
يلقى أحداً به ضرّ إلا قال له: أتوحد الله، وتدخل في ديني،
وأدعو لك أن تعافى من هذا البلاء؟ -فيقول له: نعم، فيوحد
ويسلم، ويدعو له، فيشفى، حتى لم يبقَ بنجران أحدٌ به ضر إلا
أتاه فاتبعه على أمره. ودعا له، فعوفي.
ورفع شأنه إلى ملك نجران، ودعاه، وقال له: أفسدت عليّ أهل
قريتي، وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلنّ بك. فقال له: إنك لا
تقدر على ذلك، فجعل الملك يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على
رأسه فيقع إلى الأرض ليس به بأس، ويبعث به إلى مياه بنجران
كالبحور لا يقع فيها شيءٌ إلا هلك، فيُلقى فيها فيخرج ليس به
بأس، فلما غلبه، قال له (عبد الله): إنك لا تقدر علي حتى توحد
الله وتؤمن بما آمنت به، فإنك إن فعلت سُلطت عليَّ فقتلتني.
قال: فوحَّد اللهَ ذلك الملك وشهد شهادة عبد الله ثم ضربه بعصا
في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله، وهلك الملك مكانه، واستجمع
أهل نجران على دين (عبد الله)، وكان على ما جاء به عيسى من
الإنجيل وحكمه، ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث من
بعدُ.
قال: ثم إنَّ ذا نواسٍ الحميري سار إليهم بجنوده فدعاهم إلى
اليهودية، وكان قد تهوَّد اتباعًا لجده (تبع الأوسط) الذي يقال
له: (اسعرتبان) فامتنعوا، فخيرهم بين ذلك وبين القتل، فاختاروا
القتل، فخدَّ لهم أخدوداً، وأوقد فيه نارًا، وألقاهم فيها،
فيقال إن آخر من ألقى منهم امرأةً معها طفل، فتوقفت، فقال لها
ابنها -وهو أحد من تكلم في المهد- يا أم إنما هي ساعة ثم
الجنة، فألقت بنفسها، وأفلت منهم رجل يقال له " دوس ذو ثعلبان
" على فرس له، فسلك الرمل، فأعجزهم، فمضى على وجهه ذلك حتى أتى
قيصر صاحب الروم، فاستنصره، فقال له: بعدت بلادك عنا، ولكني
سأكتب لك إلى ملك الحبشة، فإنه على هذا الدين، وهو أقرب إلى
بلادك، فكتب له، فبعث معه النجاشي ملك الحبشة سبعين ألفاً من
الحبشة، وأمَّر عليهم رجلا منهم يقال له " أرباط " وهو كان سبب
دخول الحبشة اليمن.
(1/510)
قال ابن إسحاق ويقال: كان فيمن قبل " ذو
نواس " " عبد الله بن التامر "، قال وحدثني عبد الله بن أبي
بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنّه حُدِّث: أنّ رجلًا من أهل
نجران حفر خربة له في زمان عمر رضي الله عنه، فوجد " عبد الله
بن التامر " تحتها دُفن فيها قاعداً واضعاً يده على ضربة في
رأسه ممسكاً عليها بيده، فإذا أُخرت يده عنها تثعب دماً وإذا
أرسلت يده ردها عليها. فأمسك دمها، في يده خاتم فيه مكتوب (ربي
الله)، فكُتب إلى عمر رضي الله عنه في ذلك، فكتب: أنْ أقروه
على حاله. وردوا علحه الدفن الذي كان. ففعلوا.
والوقود: بالفتح - الحطب - وبالضم - المصدر.
قال الفراء: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ) جواب القسم، كما
كان جواب (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
زَكَّاهَا).
و (النار) جر على البدل من الأخدود، قال بعض الكوفيين: الألف
واللام تعاقب الإضافة، والمعنى: قتل أصحاب الأخدود ناره، وهو
على تقدير مذهب البصريين: النار منه، وقال أبو عبيدة: النار جر
على الجوار، كما قالوا: جحر ضبٍ خربٍ.
* * *
قوله تعالى: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ
الْمَجِيدُ (15))
قرأ حمزة والكسائي (المجيدِ) جراً، ورفع الباقون.
فمن جرّ فعلى النعت للعرش، وأضاف المجد إلى العرش؛ لأنَّه
يدلُّ على مجد صاحبه.
(1/511)
ومن رفع جعله مردودا إلى قوله (ذو).
* * *
قوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ
وَثَمُودَ (18))
قيل المعنى: قد أتاك حديثهم، والمعنى: تذكر حديثهم تذكّر
معتبر، فإنك تنتفع به، وهذا من الإيجاز الحسن. والتفخيم الذي
لا يقوم مقامه التصريح لا يذهب الوهم في أمرهمْ كل مذهب.
و (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) بدل من الجنود في موضع جر، وأجاز
بعضهم: أن يكون في موضع نصب بإضمار فعل، كأنّه قال: أعني فرعون
وثمود.
* * *
قوله تعالى: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ
مَحْفُوظٍ (22))
قرأ نافع (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٌ) بالرفع، ردّه على (قُرْآنٌ)،
وجرّ الباقون، ردُّوه على اللوح، واللوح المحفوظ: أمُّ الكتاب
عن مجاهدا وقيل معناه: أنّه حفظه الله بما ضَمَّنه.
* * *
(1/512)
وَمِنْ سُورَةِ (الطَّارِقِ)
قوله تعالى: (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ
مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3))
الطارق: الآتي ليلا، وهو هاهنا النجم؛ لأنَّه يطرق ليلا، قالت
هند بنت عتبة: نحن بنات طارق نمشي على النمارق.
والثاقب: المنير المضيء. والعرب تقول: اثقب نارك، أي: أشعلها.
وقوله (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ)، ما: استفهام، وهي في
موضع رفع بالابتداء، والطارق، خبره، والجملة في موضع نصب؛
لأنَّه مفعول ثانٍ لـ (أدراك).
وقيل: (الطارق) هو الثاقب، وهو زحل، هكذا قال الفراء.
* * *
وقوله: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ)، قرأ
عاصم وحمزة وابن عامر (لَمَّا) بالتشديد، وقرأ الباقون
بالتخفيف.
فمن شدّد جعل (لمّا) بمعنى (إلا) حكى سيبويه: نشدتك الله
لَمَّا فعلت، في معنى: إلا فعلت، و (حافظ) خبر (إن)، وقيل
الأصل: (لمن ما) فأدغمت النون في الميم.
ومن خفف فـ (ما) عنده صلة، و (اللام) جواب القسم، والمعنى:
لعليها حافظ.
(1/513)
وقال بعضهم: (اللام) بمعنى (إلا) و (إن)
بمعنى (ما)، والمعنى: ما كل نفس إلا عليها حافظ.
وأنكر الكسائي تشديد الميم، وهو جائز عند البصريين.
قوله تعالى: (خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ
بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ
لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9))
قال الفراء: دافق: بمعنى مدفوق، كما قال: (فِي عِيشَةٍ
رَاضِيَةٍ)، قال الفراء: وأهل الحجاز لذلك أفعل من غيرهم،
يعني: وضع الفاعل في معنى المفعول.
والترائب: موضع القلادة من المرأة، هذا قول ابن عباس، وكذلك هو
في اللغة، واحدها (تريبة) قال الشاعر:
كَالزَّعَفَرانِ عَلَى تَرائبها ... شَرقًا به اللبُّاتُ
والصَّدرُ
وقد يقال في جمع تريبة: تريب، قال المثقب:
(1/514)
وَمَنْ ذهَبَ يُشَنُّ عَلى تَريبٍ ...
لكونِ العَاج ليسَ به غُضُونُ
والمعنى: من بين صلب الرجل وترائب المرأة.
والابتلاء: الاختبار.
واختلف في معنى قوله (عَلَى رَجْعِهِ):
فقال الضحاك: على رجع الإنسان ماء، كما كان. وقال عكرمة
ومجاهد: على رجع الماء في صلبه، أو في إحليله. وقال الحسن
وقتادة: على رجع الإنسان بالإحياء بعد الموت.
ويُسأَل عن الناصب لقوله: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)؟
وفيه اختلاف على قدر اختلاف العلماء في معنى (الرجع):
فقال الزجاج: العامل فيه فعل مضمر يدل عليه (على رجعه) تقديره:
يرجعه يوم تبلى السرائر،: لا يجوز أن يعمل فيه (على رجعه)
لأنّه مصدر ولا يجوز أن يُفرق بينه وبين صلته.
وقيل: العامل فيه (قادر) وهذا على مذهب من قال: إن معنى (على
رجعه) على بعثه وإحيائه بعد الموت، ويكون جواباً لقولهم:
(أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ)، وما أشبه ذلك مما فيه إنكارهم للبعث، وقيل:
هو نصب على إضمار (أعني).
* * *
(1/515)
وَمِنْ سُورَةِ (الْأَعْلَى)
قوله تعالى: (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ
غُثَاءً أَحْوَى (5))
الغثاء: ما حمله السيل، وهو الهشيم اليابس.
وأحوى: الأسود، وفي تقدير (أحوى) قولان:
أحدهما: أنّه على التقديم والتأخير، والمعنى: نجعله أحوى غثاء.
أي: أسود، والعرب تكني عن الأخضر بالأسود والأدهم، قال الله
تعالى في صفة الجنتين: (مُدهَامتان)، أي: خضراوان من الري، و
(أحوى) على هذا حال من (الهاء) في (جعله).
والثاني: أن يكون غير مقدم، ويكون التقدير: فجعله غثاء أسود، و
(أحوى) على هذا المذهب نعت لـ (غثاء).
* * *
قوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ
اللَّهُ)
قال الحسن: المعنى: فلا تنس إلا ما شاء الله أن تنساه، برفع
حكمه وتلاوته. وهو قول قتادة، وقيل: إلا ما شاء الله
كالاستثناء في الأيمان وإن لم تقع مشيئة إلا النسيان، وقيل؛
إلا ما شاء الله نسيانه مما لا يكلفك القيام بأدائه، وذلك أنّ
التغليف مضمن بالذكر.
وقوله (فلا تنسى) خبر على تقدير: سنقرئك فليس تنسى، وقيل: هو
نهي، و (تنسى)
(1/516)
بمعنى تترك وتثبت فيه الألف، وهو مجزوم.
كما قال الشاعر:
إذا العَجُوزُ غَضِبتْ فطلّقِ ... ولا ترضَاها ولا تَملّقِ
وهذا من الضرورات لا يجب أن يحمل القرآن عليه.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18)
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19))
قال قتادة: ما قصه الله تعالى في هذه السورة في الصحف الأولى،
وقيل: من قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) إلى آخر السورة
في الصحف الأولى، وقيل: كُتُب الله تعالى كلها أنزلت في شهر
رمضان، وأنزل القرآن لأربع عشرة ليلة منه، وقيل: القرآن في
الصحف الأولى، والتقدير على هذه الوجوه: معاني القرآن أو معنى
ما تقدم ذكره في الصحف الأولى.
وواحد الصحف: صحيفة، كما يقال: سفينة وسفن، وقد يقال: صحائف،
كما يقال: سفائن.
* * *
(1/517)
وَمِنْ سُورَةِ (الْغَاشِيَةِ)
قوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى
نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ
لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا
يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7))
(هل) بمعنى (قد)، والغاشية: القيامة؛ لأنَّها تغشى العباد،
ومعنى (خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ) أي: في الدنيا، قيل:
يعنى بذلك: الرهبان. وقال الحسن وقتادة: عاملة لم تعملها لله
في الدنيا، فأعملها في النار.
والآنية: المنتهية في الحرارة. وهو قول ابن عباس وقتادة، وهو
على وزن (فاعلة) من أنى يأني إذا انتهى، فأما على قوله:
(يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ)، فهو (أفعلة) جمع إناء، مثل:
إزار وآزرة.
والضريع: الشّبرق، وهو سم، عن ابن عباس، وقيل: (مِنْ ضَرِيعٍ)
أي: يضرع آكله في الإعفاء عنه لصعوبته.
(1/518)
قوله تعالى: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23))
المسيطر: المتسلط على غيره بالقهر، وقال ابن عباس
(بِمُسَيْطِرٍ) بجبَّار، وهو قول مجاهد أيضاً، وقال ابن زيد:
بجبارٍ بالإكراه على الإيمان، وهذا قبل فرض الجهاد.
وقوله: (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) قال الفراء: يكون
مستثنى من الكلام الذي كان التذكير يقع عليه، وإن لم يذكر،
يريد أنّه استثناء منقطع، وسيبويه يقدر الاستنثناء بـ (لكن).
والفراء بـ (سوى) و (لكن) فيه أظهر.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ
عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26))
الإياب: الرجوع. يقال: آب يؤوب أوبًا إذا رجع.
وقرأ بعضهم (إِيَّابَهُمْ) بالتشديد، وأصله: إيوابهم، على
(فيعال) فاجتمعت الواو والياء وسبقت الأولى منهما بالسكون،
فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء فيها.
* * *
(1/519)
وَمِنْ سُورَةِ (الْفَجْرِ)
قوله تعالى: (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)
هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5))
الفجر: انشثقاق عمود الصبح.
والليالي العشر: عشر ذي الحجة. والشفع: الخلق بما له من الشكل.
والوتر: الخالق الفرد؛ لأنّه لا مثل له، هذا قول ابن عباس
وأكثر أهل العلم، وقال الحسن: الشفع: الزوج، والوتر: الفرد،
وروي عن ابن عباسٍ أيضاً: أنّ الشفع: يوم النحر، والوتر: يوم
عرفة، وهو قول عكرمة والضحاك. وقيل: الشفع والوتر: كلاهما من
الخلق، وهو قول عبد الرحمن بن زيد، وقال عمران بن حصين: الشفع
والوتر: الصلاة المكتوبة منها شفع ومنها وتر، وروي عن أبي
الزبير: أنّ الشفع: اليومان الأولان من أيام النحر، والوتر:
اليوم الثالث.
وقيل: العشر: عشر ليال من أوّل المحرم.
والحجر: العقل؛ لأنَّه يمنع صاحبه.
و (إِرَمَ): مدينة، قيل: هي الإسكندرية، هذا قول القرطبي، وقال
المقبري: هي دمشق، وقيل: هي مدينة مبنية من الذهب والفضة في
البرية غُيِّبت عن الناس، وقيل: هي قبيلة، فعلى الأقوال الأول
تكون (عاد) منسوبة إلى (اْرَمَ)، وعلى القول الآخر يكون (عاد)
هي (إِرَمَ)، وقيل: إرم: سام بن نوحٍ، ولم ينصرف (إِرَمَ) في
الأقوال الأول؛ لأنها معرفة مؤنثة، وإذا جعل اسم رجل فزعم
(1/520)
الفراء: أنّه يترك إجراؤه؛ لأنّه كالأعجمي.
وقيل: (ذَاتِ الْعِمَادِ) ذات الطول، هذا قول ابن عباس ومجاهد.
وقال ابن زيد: ذات العماد في أحكام البنيان.
* * *
قوله تعالي: (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا
(21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22))
الدك: تسوية الأرض وبسطها، ومنه الدكان لاستوائه.
قال الحسن: المعنى: وجاء أمر ربِّك وقضاء ربِّك، وقال
المتكلمون: يفعل الله فعلاً يسميه مجيئًا، ومثل هذا قول النبي
صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربُّنا في كل ليلةٍ إلى السماء
الدنيا) أي: أمره، وهذا كما تقول: ضرب الأمير فلانًا. أي: ضربه
صاحبه بأمره. ولا يجوز أن يكون المجيء انتقالًا؛ لأنّ (لأنّ
الانتقال لا يصح على القديم تعالى.
* * *
(1/521)
وَمِنْ سُورَةِ (الْبَلَدِ)
قوله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ
حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2))
البلد: مكة، قال الفراء أي: هو حلال لك، وذلك يوم فتح مكة، لم
تحل قبله، ولا تحل بعده، أي: تقتل من رأيت قتله، فقيل له (ابن
خطل) متعلق بأستار الكعبة، فأمر بقتله، وقيل: لم تحل إلا
لنبينا صلى الله عليه ساعة من النهار. وهو قول عطاء.
* * *
قوله تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10))
قيل: النجدان: الطريقان؛ طريق الخير وطريق الشر، وقيل: هدى
الطفل إلى ثدي أمِّه.
وأصل النجد: المرتفع من الأرض، ونقيضه: تهامة؛ لأنها لما
انخفضت تهمت ريحها، يقال: تهمت ريحه وتمهت إذا تغيرت.
* * *
قوله تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا
أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ
إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا
مَقْرَبَةٍ (15))
الاقتحام: الدخول على مشقة، والعقبة: الطريقة الصعبةُ المرتقى.
والفك: التفرقة، يقال:
(1/522)
فككته أي:، فرقته، نحو: فك القيد والغل،
وتعنى (فَكُّ رَقَبَةٍ) أي: فرق بينها وبين الرق، والمسغبة:
المجاعة، والمقربة: القربى، والمتربة: الفقر، من قولهم: تربت
يداه.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي (فَكَّ رَقَبَةٍ أَوْ
أَطْعَمَ) على الفعل الماضي. وقرأ الباقون (فَكُّ رَقَبَةٍ
أَوْ إِطْعَامٌ) رد الفعل على الفعل فالمعنى على القراءة
الأولى: فلا اقتحم العقبة فك رقبة أو أطعم، والمعنى على
القراءة الثانية: وما أدراك ما العقبة؟ أي: هي فك رقبة، جعله
جواب لقوله (وما أدراك).
ونصب (يَتِيمًا) بـ (إطعام)، كما تقول: أعجبني ضرب زيد عمرًا؛
لأنّه مصدر. والمصدر يعمل عمل فعله، والفاعل محذوف، قيل
تقديره: أو إطعام أنت، وقيل تقديره: أو إطعام إنسان.
* * *
(1/523)
وَمِنْ سُورَةِ (الشَّمْسِ)
قوله تعالى: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ
وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8))
اختلف في (ما) هاهنا:
فقيل: بمعنى (مَنْ) أي: من بناها ومن طحاها ومن سوَّاها.
وقيل: هي مصدرية، وتقديره: والسماء وبنائها، والأرض وطحوها
ونفس وتسويتها.
و (طحاها) بسطها، ودساها: أخفاها. وقيل: هو نقيض (زكاها) أي:
زكاها بالعمل الصالح، ودساها بالعمل الفاسد.
[ ... ] كما يقال: زكا يزكو.
وقوله: (قَدْ أَفْلَحَ) جواب القسم، وهو على حذف (اللام).
وتقديره: لقد أفلح،
(1/524)
وقيل (دَسَّاهَا)
فأبدلت السين، كما قيل: تظني والفلاح: البقاء والخلود، وقيل:
الفلاح: الفوز، وقيل: الفلاح: الملك.
* * *
قوله تعالى: (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ
وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ
عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا
يَخَافُ عُقْبَاهَا (15))
نصب (نَاقَةَ اللَّهِ) بإضمار فعل، أي: اتركوا ناقة الله
وسقياها، أي: احذروا ناقة الله وسقياها، وربما قال بعض
النحويين: نصب على التحذير، وأجاز الفراء: الرفع، على أنّ معنى
التحذير باقٍ.
وعاقر الناقة أحمر ثمود واسمه (قدار)، قال الشاعر:
ولَكِنْ أَهْلَكَتْ لَواءٌ كَثِيراً ... وقَبْلَ اليَوْمِ
عالجَها قُدارُ
والدمدمة: ترديد الحال المستنكرة، وقيل: أصله (دم) فضغف، وقيل:
دَمٌ عقر.
قال الضحاك في قوله: (وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا) لم يخف الذي
عقرها عقباها، وقيل المعنى: ولا يخاف الله عقبي ما فعل من
الدمدمة.
وقيل (فَسَوَّاهَا) أي: سوى العقوبة لهم، وقيل: سوى أرضهم
عليهم.
(1/525)
وقرأ أبو عمرو وابن كثير وحمزة والكسائي
وعاصم (وَلَا يَخَافُ) بالواو لأنها في [ ... ]، وقرأ نافع
وابن عامر (فَلَا يَخَافُ) لأنها في مصاحف أهل المدينة والشام
كذلك.
فمن قرأ بالفاء جاز أن يقف على قوله: (فَسَوَّاهَا) ومن قرأ
بالواو لم يجز له أن يقف؛ لأنَّها واو حالٍ، ولا يجوز الوقف
دون الحال.
* * *
(1/526)
وَمِنْ سُورَةِ (اللَّيْلِ)
قوله تعالى: (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)
(ما) بمعنى (مَن) وقيل: بمعنى (الذي)، وقيل: جاءت على لغة من
يقول سبحان ما سبحت له.
وأجاز الفراء: الجر في (الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى) على البدل من
(ما)، وفي القراءة الأولى يكون (الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) نصبًا
ب (خلق)، والفاعل مضمر، أي: خلق هو، وإن شئت جعلت (ما) مصدرية،
والتقدير: وخلقه الذكر والأنثي.
* * *
قوله تعالى: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى
(19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20))
يسأل عن نصب (ابْتِغَاءَ)؟
الجواب: أنّه استثناء منقطع، والمعنى لكن ابتغاء وجه ربِّك،
قال الفراء: نصب الابتغاء في جهتين:
إحداهما: أن تجعل فيها نية إنفاقه.
والأخرى: على اختلاف ما قبل (إلا) وما بعدها، والمعنى: ما ينفق
إلا ابتغاء وجه ربِّه، قال: والعرب تقول: ما في الدار أحد إلا
كلبا. وهذا هو الاستثناء المنقطع، قال: وهذا مذهب أهل الحجاز،
فأما بنو تميم فإنهم يجعلون الثاني بدلًا من الأول، وأنشد:
(1/527)
وبَلْدَةٍ ليسَ بها أنيسُ ... إلاَّ
اليَعافيرُ وإلاَّ العِيْسُ
قال: ولو رفع رافع (ابتغاء) لم يكن خطأ؛ لأنَّك لو ألقيت (من)
من (نعمة) لصار: وما لأحد عنده نعمة إلا ابتغاءُ، فهذا يكون
على البدل، كما تقول: ما أتاني من أحدٍ إلا أبوك.
* * *
(1/528)
وَمِنْ سُورَةِ (الضُّحَى)
قوله تعالى: (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3))
الضحى: صدر النهار، وقيل: الضُّحى [ ... ] الضُّحَاء ممدود
مفتوح الأول، وهو قريبٌ من نصف النهار. وسجا: سكن، وقال الحسن:
غشى بظلامه. والأوّل قول قتادة والضحاك. وودعك: تركك. وقلى:
أبغض، والقِلى البغض إذا كسرت (القاف) وقصرت، وإذا فتحت مددت
"، قال الشاعر:
عَلَيكِ سَلامٌ لَا مُلِلْتِ قَرِيبَةً ... وَمَا لَكِ عِنْدي،
إِنْ نَأَيْتِ قَلاءُ
والتقدير: ما ودعك ربُّك وما قلاك، إلا أنّ (الكاف) حذفت
اكتفاء بالأولى، ولتتفق رؤوس لآي، ومثله: أعطيتك وأحسنت،
والمعنى إليك.
قال الفراء: الضحى النهار كله، وسجى أظلم وذلك في طوله.
* * *
قوله تعالى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ
ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8))
(1/529)
آوى: ضمَّ، وقيل في (ضال) ثلاثة أقوال:
أحدها: وجدك لا تعرف الحق. فهداك إليه.
والثاني: وجدك ضالًا عما أنت عليه الآن من النبوة والشريعة
فهداك إليه.
والثالث: وجدك في قوم ضُلَّال، أي: فكأنك منهم.
* * *
(1/530)
وَمِنْ سُورَةِ (أَلَمْ نَشْرَحْ)
قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْرًا (6))
العسر الأول هو العسر الثاني، واليسر الأول غير اليسر الثانى،
وقد جاء في الحديث: (لن يغلب عسر يسرين)، ووجه ذلك: أنّ العسر
معروف، فهو واحد؛ لأنّه ذلك المعرف بعينه، واليسر منكر، ولو
كان اليسر الثاني هو الأول لتكرر وفيه الألف واللام ليعرف
ذكره، كما تقول: رأيت الرجل، إذا كررت (الرجل)، قال الله
تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا
عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15)
فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) عرّف الثاني لما كان هو الأول،
وقال: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ
الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ
دُرِّيٌّ)، ومثل تكرير (العسر) وفيه الألف واللام والثاني هو
الأول قول الشاعر:
لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ... نَغَّصَ الموتُ ذا
الغِنَى والفَقِيرا
والموت في ذلك كله شيء واحد.
* * *
(1/531)
وَمِنْ سُورَةِ (وَالتِّينِ)
قوله تعالى: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ
(2))
التِّين وَالزَّيْتُون: نوعان من الشجر نبه الله [ ... ]؛ بهما
ونوّه بهما، فأقسم بهما، وقيل: التين والزيتون: جبلان. فالتين
بدمشق والزيتون ببيت المقدس. وقال عبد الرحمن بن زيد: التين
مسجد دمشق، والزيتون بيت المقدس، وقال الحسن ومجاهد وعكرمة
وقتادة: التين هو الذي يؤكل، والزيتون هو الذي يعصر.
وطور سينين: جبل بين الحجاز والشام، وهو الذي كلم الله موسى بن
عمران عليه، وهذا قول الحسن، يقال: طور سينين وطور سيناء بمعنى
واحد، وقيل: سينين بمعنى: حسن؛ لأنَّه كثير النبات والشجر. وهو
قول عكرمة، وقال مجاهد وقتادة: الطور الجبل. وسينين بمعنى:
مبارك، وكأنه قيل: جبل الخير.
* * *
قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا
يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّين (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ
الْحَاكِمِينَ (8))
قيل في قوله (غَيْرُ مَمْنُونٍ) ثلاثة أقوال:
أحدها: أنّ المعنى غير منقوص.
والثانى: أنّ المعنى غير مقطوع.
(1/532)
والثالث: أنّ المعنى غير محسوب، من قولك:
مننت عليه بكذا. أي حسبته عليه، وهو قول مجاهد.
والهمزة في (أَلَيْسَ اللَّهُ) همزة تقرير. مثل الذي في قول
جرير:
ألستُم خيرَ مَن ركبَ المَطايَا ... وأندَى العَالمينَ بُطُونَ
راح
ودخلت (الباء) في خبر (أليس) وإن كان قد انتقض معنى النفي؛
لأنَّ الهمزة وإن نقلت النفي إلى الإيجاب. فإنها لم تنقل (ليس)
عن حكمها. وقيل: المعنى: أليس الله بأحكم الحاكمين صنعاً
وتقديراً؛ لأنّه لا خلل فيه ولا اضطراب ولا ما يخرج به عما
تقتضيه الحكمة.
* * *
(1/533)
وَمِنْ سُورَةِ (الْعَلَقِ)
قوله تعالى: (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)
(أنّ) في موضع نصب. لأنّه مفعول له، والمعنى إنّ الإنسان ليطغى
لأنّ رآه استغنى، ومن أجل أنّ رآه استغنى.
و (رأى) هاهنا بمعنى: علم؛ لأنّه لا يقال: زيد رآه، من رؤية
العين، وإنما يقال: زيد رأى نفسه، ولكن من رؤية القلب يجوز،
نحو: زيد رآه عالماً، ورآه استغنى. وكذا الأفعال المؤثرة، ولا
يجوز أن يعمل في ضمائر ما يكون خبراً عنه، فأما قولهم: عدمتني
وفقدتني، فلأنه جرى على المجاز، ألا ترى أنّه لا يصح أن يعدم
نفسه ولا يفقدها، وإنما يعدمه غيره.
* * *
قوله تعالى: (لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ
كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ
الزَّبَانِيَةَ (18))
السفع: أصله من سفعته النار إذا غيَّرته عن حاله.
والناصية: شعر مقدم الرأس، وهو من ناصى يناصي مناصاة إذا واصل.
والنادي: المجلس، يقال: نادي وندي، والجمع: أندية، قال سلامة
بن جندل:
(1/534)
يومَانَ يَومُ مَقاماتٍ وأَنْدِيَةٍ ...
ويَومُ سَيْرٍ إِلَى الأَعْداءِ تَاوِبُ
والزَّبَانِيَةَ: الأعوان، واحدها: زبينة، هذا قول أبي عبيدة،
وقال الكسائي: زبني، وقيل:
هو جمع لا واحد له، واشتقاق الزبانية من الزبن: وهو الدفع،
ومنه يقال: حرب زبون، قال الشاعر:
فواَرِسُ لا يملُّونَ المنَايَا ... إِذَا دَارتْ رَحَا الحربِ
الزبُونِ
والزبانية هاهنا: الملائكة. هذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد
والضحاك.
و (النون) في (لنسفعن): نون التوكيد الخفيفة، والاختيار عند
البصريين أن تكتب بالألف؛ لأنّ الوقف عليها بالألف، واختار
الكوفيون: أن تكتب بالنون، لأنها نونٌ في الحقيقة.
وخفض (ناصيةٍ) بدل من (الناصية) الأولى، وحكى الفراء: أنّ
بعضهم قرأ (ناصيةً) بالنصب على تقدير: لنسفعًا بها ناصيةً.
ينصبها على القطع.
(1/535)
|