إعراب القرآن للباقولي منسوب خطأ للزجاج

 [الجزء الثاني]

الباب المتم العشرين «1»
هذا باب ما جاء في التنزيل من حذف المفعول والمفعولين، وتقديم المفعول الثاني على المفعول [الأول] «2» وأحوال الأفعال المتعدية إلى مفعوليها، وغير ذلك مما يتعلق به ونحن نذكر من ذلك ما يدق النظر فيه، لأن ذلك لو حاول إنسان أن يأتي بجميعه توالت عليه الفتوق، ولم يمكنه القيام به لكثرته في التنزيل، وكان بمنزلة من يستقى من بئر زمزم فيغلبه الماء.
فمن ذلك قوله تعالى: (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) «3» أي:
وما يشعرون أن وبال ذلك راجع إليهم.
وكذلك: (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) «4» أي: لا يشعرون أنهم هم المفسدون، (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) «5» أي: لا يعلمون أنهم هم السفهاء.
فأما قوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) «6» فقيل: إن التقدير: كمثل الذي استوقد صاحبه ناراً، فحذف المفعول الأول.
وقيل: إن «استوقد» و «أوقد» كاستجاب، وأجاب.
__________
(1) في هامش الأصل مع هذا العنوان: «وهو مقدم أيضا» .
(2) تكملة يقتضيها السياق) .
(3) البقرة: 9.
(4) البقرة: 12.
(5) البقرة: 13.
(6) البقرة: 17.

(2/405)


ومنه قوله تعالى: (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) «1» . وجميع ما جاء من «لو شاء» كان مفعوله مدلول جواب «لو» ، والتقدير: ولو شاء الله إذهاب السمع والبصر لذهب بسمعهم وأبصارهم.
ومن ذلك قوله تعالى: (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) «2» أي: أضاء لهم البرق الطريق مشوا فيه.
ومنه قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) «3» أن: تتقون محارمه، وقيل: بل قوله (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) «4» مفعول «يتّقون» / و «الأرض» مفعول أول ل «جعل» ، و «فراشا» مفعول ثان، ومعنى «جعل» : صير.
وقد يجيء «جعل» بمعنى: صنع، وخلق فيكون متعدياً إلى مفعول واحد، قال الله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) «5» بمعنى: صنع، وخلق. وقال الله تعالى: (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) «6» .
وإذا كانت بمعنى «صيرت» تعدت إلى مفعولين، لا يجوز الإقتصار على أحدهما، وهي في هذا الوجه تنقسم على ثلاثة أقسام: كما تنقسم «صيرت» .
أحدها: بمعنى «سميت» ، كقوله تعالى: (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) «7» أي: صيروهم إناثاً بالقول والتسمية، كما تقول: «جعل زيد عمراً فاسقاً» . أي: صيره بالقول كذلك.
__________
(1) البقرة: 20.
(2) البقرة: 20.
(3) البقرة: 21.
(4) البقرة: 22.
(5) الأنعام: 1.
(6) الأعراف: 189. [.....]
(7) الزخرف: 191.

(2/406)


والوجه الثاني: أن تكون على معنى: الظن والتخيل، كقولك: اجعل الأمير غائباً وكلمه، أي: صيره في نفسك كذلك.
والوجه الثالث: أن تكون في معنى النقل، فتقول: جعلت الطين خزفاً أي: صيرته خزفاً ونقلته عن حال إلى حال.
قال الله تعالى: (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) «1» أي: صيره آمناً، وانقله عن هذه الحال.
قال «2» سيبويه: «وتقول جعلت متاعك بعضه فوق بعض» .
وله ثلاثة أوجه في النصب:
إن شئت جعلت «فوق» في موضع الحال، كما فعلت ذلك في «رأيت» ، [في رؤية العين] «3» وإن شئت نصبت على ما نصبت عليه «رأيت زيداً وجهه أحسن من وجه فلان» ، [تريد رؤية القلب] «4» .
وإن شئت نصبت على أنك إذا قلت: «جعلت متاعك» تدخله «5» معنى «ألقيت» ، فيصير كأنك قلت: «ألقيت متاعك بعضه فوق بعض» .
وهذه الوجوه الثلاثة يرجع وجهان منها إلى وجه واحد مما ذكرنا، وهو أن يجعل «جعلت» متعدياً إلى مفعول واحد.
غير أن معنى الوجهين اللذين ذكرهما مختلف، وإن كانا مجتمعين في التعدي إلى مفعول واحد.
__________
(1) إبراهيم: 35.
(2) الكتاب لسيبويه (1: 78) .
(4- 3) تكملة من الكتاب لسيبويه.
(5) الكتاب: «يدخل فيه» .

(2/407)


فأحد الوجهين هو الأول الذي قال فيه: إن شئت جعلت «فوق» في موضع الحال، فيكون معناه: عملت الباب مرتفعاً، أي: أصلحته، وهو في هذه «الحال» .
والوجه الثاني من هذين الوجهين هو الثالث مما ذكره سيبويه في قوله:
وإن شئت نصبته، على أنك إذا قلت: جعلت متاعك، يدخله معنى:
/ ألقيت، فيصير كأنك قلت: ألقيت متاعك بعضه فوق بعض لأن «ألقيت» كقولك: أسقطت متاعك بعضه فوق بعض، فيكون هذا متعدياً إلى مفعول، وهو منقول من: سقط متاعك بعضه فوق بعض.
فهو يوافق الوجه الأول في التعدي إلى مفعول واحد، ويخالف في غير ذلك، لأنك لم تعمل «المتاع» هاهنا لإصلاح شيء منه وتأثير فيه، كما تعمل الباب بنجره ونحته وقطعه. و «فوق» في هذا كالمفعول إلا في موضع الحال، لأنه في جملة الفعل الذي هو «ألقيت» ، لأنه منقول من: سقط متاعك بعضه فوق بعض، والسقوط وقع على «فوق» وعمل فيه، على طريق الظرف.
وفي المسألة الأولى يعمل فيه «جعلت» ، وإنما عمل فيه الاستقرار، وصار في موضع الحال. وهذان الوجهان كوجه واحد.
وقوله: وإن شئت نصبته على ما نصبت عليه: رأيت زيداً وجهه أحسن من وجه فلان فتعديه إلى مفعولين من جهة النقل والعمل، كما تقول: صيرت الطين خزفاً.

(2/408)


وإنما حملنا هذا الوجه على هذا، لأنه في ذكر «جعلت» الذي في معنى:
عملت، وأثرت.
قال: والوجه الثالث: أن تجعله مثل: ظننت متاعك بعضه أحسن من بعض.
فهذا أحد وجوه «صيرت» التي ذكرناها، وهو الذي في معنى التخيل، والذي هو من طريق التسمية يشبه هذا الوجه، إلا أنه لم يذكره اكتفاء بهذا «1» .
فأما قوله تعالى: (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ) «2» ف «الخبيث» هو المفعول. و «بعضه» بدل منه. وقوله «على بعض» ظرف ل «يجعل» ، كما تقول: يلقي الخبيث بعضه على بعض، ومن هذا الباب قوله تعالى:
(أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) »
وقوله: (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) «4» .
قال: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) «5» أي: اخبرهم عن ضيفه.
وقال: (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ)
«6» أي: يخبر به.
__________
(1) الكتاب لسيبويه (1: 78) .
(2) الأنفال: 37.
(3) البقرة: 31.
(4) البقرة: 33.
(5) الحجر: 51.
(6) القيامة: 13.

(2/409)


فلما كان «النبأ» مثل «الخبر» كان «أنبأته عن كذا» ، بمنزلة «أخبرته عنه» ، «ونبأته عنه» مثل «خبّرته عنه» ، و «نبأته به» مثل «خبرته به» .
وهذا يصحح ما ذهب إليه سيبويه، من أن معنى «نبأت زيداً» : نبأت عن زيد، فحذف حرف الجر، لأن «نبأت» قد ثبت أن أصله «خبرت» / بالآي التي تلوناها، فلما حذف حرف الجر وصل الفعل إلى المفعول الثاني، ف «نبّأت» يتعدى إلى مفعولين: أحدهما، يصل إليه بحرف جر، كما أن «خبرته عن زيد» كذلك.
فأما ما يتعدى إلى ثلاثة مفعولين نحو: نبأت زيداً عمراً أبا فلان. فهو في هذا الأصل إلا أنه حمل على المعنى، فعدي إلى ثلاثة مفعولين.
وذلك أن الإنباء، الذي هو إخبار، إعلام، فلما كان إياه في المعنى، عدي إلى ثلاثة مفعولين كما عدي الإعلام إليها.
ودخول هذا المعنى فيه، وحصول مشابهته للإعلام لم يخرجه عن الأصل الذي هو له من الإخبار، وعن أن يتعدى إلى مفعولين، أحدهما: يتعدى إليه بالباء أو ب «عن» نحو: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) «1» ونحو قوله: (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) «2» .
كما أن دخول «أخبرني» في: «أرأيت» لم يخرجه عن أن يتعدى إلى مفعولين، كما كان يتعدى إليهما إذا لم يدخله معنى «أخبرني به» ، إلا أنه امتنع من أجل
__________
(1) الحجر: 51.
(2) التحريم: 3.

(2/410)


ذلك أن يرفع المفعول بعده على الحمل على المعنى، من أجل دخوله فى حيّر الاستفهام، فلم يجز: «أرأيت زيداً أبو من هو» كما جاز: «علمت زيدأ أبو من هو» حيث كان المعنى: علمت أبو من زيد، وذلك دخول معنى الإعلام في الإنباء، والتنبؤ لم يخرجهما عن أصليهما وتعديهما إلى مفعولين، أحدهما يصل إليه الفعل بحرف الجر، ثم يتسع فيه فيحذف حرف الجر، ويصل الفعل إلى الثاني.
فأما من قال: إن الأصل في «نبأت» على خلاف ما ذكرنا، فإنه لم يأت على ما ادعاه بحجة ولا شبهة.
وأما قوله تعالى: (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) «1» . فيحمل على وجهين:
أحدهما: أن يكون (نَبِّئْ) بمنزلة «أعلم» ، ويكون (أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) قد سد مسدهما.
فيكون في هذه، في قول الخليل على هذا، في موضع جر، وعلى قول غيره، في موضع نصب.
فأما قوله تعالى: (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ) «2» ، فإن جعلت «اللام» متعلقة «بأنبئكم» ، جاز الجر، في «جنات» على البدل من «خير» وإن جعلته صفة «خير» لأنه نكرة، جاز الجر فى «جنات» أيضا.
__________
(1) الحجر: 49. [.....]
(2) آل عمران: 15.

(2/411)


وإن جعلتها متعلقة بمحذوف لم يجز الجر في «جنات» / وصار مرتفعاً بالإبتداء أو بالظرف، ولم يجز غير ذلك، لأن اللام حينئذ لا بد لها من شيء يكون خبراً عنها.
فأما قوله: (قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) «1» فلا يجوز أن يكون «من» فيه زيادة، على ما يتأوله أبو الحسن من زيادة «من» في الواجب، لأنه يحتاج إلى مفعول ثالث.
ألا ترى أنه لا خلاف في أنه إذا تعدى إلى الثاني، وجب تعديه إلى المفعول الثالث. وإن قدرت تعديه إلى مفعول محذوف، كما تأول قوله تعالى:
(يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها) «2» أي: شيئاً ما، لزم تعديته إلى آخر، فإن جعلت «من» زيادة أمكن أن تضمر مفعولاً ثانياً، كأنه: نبأنا الله أخباركم مشروحة.
ويجوز أن تجعل «من» ظرفاً غير مستقر، وتضمر المفعول الثاني والثالث، كأنه: نبأنا الله من أخباركم ما كنتم تسرونه تبييناً، كما أضمرت في قوله:
(أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) «3» أي: تزعمونهم إياهم.
وأما قوله تعالى: (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ) «4» فيكون «يستنبئونك» :
يستخبرونك فيقولون أحق هو؟.
ويكون «يستنبئونك» : يستعلمونك، والاستفهام قد سد مسد المفعولين.
__________
(1) التوبة: 94.
(2) البقرة: 61.
(3) القصص: 62.
(4) يونس: 53.

(2/412)


ومما يتجه على معنى الإخبار دون الإعلام قوله تعالى: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) «1» فالمعنى: يخبركم فيقول لكم: إذا مزقتم، وليس على الإعلام. ألا ترى أنهم قالوا:
(أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) «2» .
ومن ذلك قوله تعالى: (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) «3» أي: تكتمونه.
(إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ) «4» أي: أبى السجود واستكبر عنه.
(ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) «5» أي: اتخذتموه إلهاً.
وكذلك: (بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) «6» أي: باتخاذكم إياه إلها.
فخذف المفعول الثاني، لا بد من إضماره، لأنهم عوتبوا بذلك، ولا يعاتب أحد باتخاذ صورة العجل.
فإن قال قائل: فقد جاء في الحديث: «يعذب المصورون يوم القيامة» «7» .
وفي بعض الحديث: يقال لهم: «أحيوا ما خلقتم» ، قيل: «يعذب المصورون» يكون على من صور الله تصوير الأجسام.
وأما الزيادة من أخبار الآحاد، التي لا توجب العلم، فلا يقدح في الإجماع ما ذكر الله.
وأما «اتخذت» فإنه في التعدي، على ضربين:
أحدهما: / أن يتعدى إلى مفعول واحد.
والثاني: أن يتعدى إلى مفعولين.
__________
(1) سبأ: 7.
(2) : سبأ: 8.
(3) البقرة: 33.
(4) البقرة: 34.
(5) البقرة: 51.
(6) البقرة: 54.
(7) نص الحديث «إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون» (البخاري- اللباس: 7: 187) .

(2/413)


فأما تعديه إلى مفعول واحد، فنحو قوله: (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) «1» ، و (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ) «2» ، و (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً) «3» و (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ) «4» .
وأما إذا تعدى إلى مفعولين، فإن الثاني منهما الأول في المعنى، قال:
(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) «5» ، وقال: (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) «6» ، [وقال] : (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) «7» .
وأما قوله تعالى: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) «8» فإن من أجاز زيادة «من» في الإيجاب جاز على قوله أن يكون قد تعدى إلى مفعولين، ومن لم يجز ذلك كان عنده متعدياً إلى مفعول واحد.
ومن حذف المفعول «9» قوله تعالى: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) «10» أي: أنعمتها عليكم، فحذف [و] قوله تعالى: (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) «11» أي: ثواباً وكرامة لأن «زدت» فعل يتعدى إلى مفعولين، قال الله تعالى: (وَزِدْناهُمْ هُدىً) «12» ، وقال: (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) «13» ، وقال: (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) 1» .
فأما قوله تعالى: (فَزادَهُمْ إِيماناً) «15» فالمعنى: زادهم قول الناس إيماناً، أضمر المصدر فى الفعل، وأسند الفعل إليه.
__________
(1) الفرقان: 27.
(2) الزخرف: 16. [.....]
(3) مريم: 81.
(4) الأنبياء: 17.
(5) المنافقون: 2.
(6) الممتحنة: 1.
(7) المؤمنون: 110.
(8) البقرة: 125.
(9) في هامش الأصل بإزاء هذا السطر: «لا ما حذف فيه المفعول الثاني» .
(10) البقرة: 40.
(11) البقرة: 58.
(12) الكهف: 13.
(13) النحل: 88.
(14) البقرة: 247.
(15) آل عمران: 173.

(2/414)


وكذلك قوله تعالى: (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) «1» أي: مازادهم مجيء النذير.
وقال: (وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً) «2» أي: ما زادهم نظرهم إليهم أو رؤيتهم لهم إلا إيماناً.
وأما قوله: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا) «3» أي: ما زادوكم قوة ونصرة إلا خبالاً، فحذف المفعول الثاني.
وليس انتصاب «خبالاً» كانتصاب «إيماناً» لقوله: (وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً) «4» لكن على الاستثناء، أي: يوقعون خبالاً وفساداً.
هذا هو الصحيح في هذه الآية، وأظنني نقلت عن بعضهم غير هذا في هذه الأجزاء.
وقوله تعالى: (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) «5» أي: لأوضعوا بينكم ركائبهم عن أبي الهيثم. وقال أبو اسحاق: لأوضعوا فيما يحل بكم.
ومن حذف المفعول قوله تعالى: (وَإِذِ اسْتَسْقى / مُوسى لِقَوْمِهِ) «6» أي: استسقى ربه، وكذلك: (يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) «7» ، التقدير:
يخرج لنا شيئاً مما تنبت الأرض، فالمفعول مضمر، وقوله: (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) «8» في موضع الوصف له، أي: شيئاً مما تنبت الأرض.
__________
(1) فاطر: 42. [.....]
(2) الأحزاب: 22.
(3) التوبة: 47.
(4) الأحزاب: 22.
(5) التوبة: 47.
(6) البقرة: 60.
(7) البقرة: 61.
(8) البقرة: 61.

(2/415)


وهذه مسألة عرضت، فنقول فيها: إن «من» لا تزاد في الواجب عندنا. وقال الأخفش: تجوز زيادتها في الواجب، كما جازت زيادتها في النفي، وكما جاز: (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) «1» و (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) «2» ، و (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) «3» ، و (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ) «4» ، بالإتفاق، فكذا في الواجب، والتقدير عنده: (يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) «5» ، وكذا: (وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) «6» .
وسيبويه يحمل هذا ونظائره في التنزيل على حذف الموصوف، الذي هو المفعول، وإقامة الصفة مقامه.
فأما قوله تعالى: (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) «7» ، فإن التقدير:
ولقد جاءك شيء من نبأ المرسلين.
وجاز إضمار «شيء» وإن كان فاعلاً، لأن الفعل لا بد له من الفاعل، وقد تقدم هذا.
فأما قوله: (وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) «8» ، فمن خفف، كان «ما» بمنزلة «الذي» ، وفيه ذكر مرفوع يعود إلى «ما» .
__________
(1) الأعراف: 59.
(2) فاطر: 3.
(3) المائدة: 73.
(4) آل عمران: 62.
(5) البقرة: 61.
(6) النساء: 32.
(7) الأنعام: 34. [.....]
(8) الحديد: 16.

(2/416)


ولا يجوز فيمن خفف، أن يجعل «ما» بمنزلة المصدر مع الفعل، لأن الفعل يبقى بلا فاعل.
ولهذا المعنى، حملنا قراءة أبي جعفر: (حافظات للغيب بما حفظ الله) «1» بالنصب، على أن «ما» بمعنى «الذي» ، أي: بالشيء الذي حفظ أمر الله.
فلا تكون «ما» مصدرية، كما ذهب إليه عثمان «2» في «المحتسب» «3» ، لأنه يبقي «حفظ» بلا فاعل.
ولا يجوز فيمن جوّز زيادة «من» في الإيجاب، أن يكون «الحق» مع الجار في موضع الحال، وقد جعلت «ما» بمنزلة «الذي» لأنه لا يعود إلى الموصول شيء.
ومن شدد، كان الضمير الذي في «نزل» لاسم الله تعالى، والعائد محذوف من الصلة.
فأما دخول الجار، فلأن «ما» لما كان على لفظ الجزاء حسن دخول «من» معه، كما دخلت في قوله:
فما يك من خير أتوه «4»
فأما قوله تعالى: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) «5» ، / فإن أبا الحسن ذكر أن التقدير: وينزّل من السماء جبالا فيها بردا «6» .
__________
(1) النساء: 34.
(2) هو ابن جني.
(3) هو: المحتسب في إعراب شواذ القراآت.
(4) جزء من بيت، تمامه:
فما يك من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل
(5) النور: 43.
(6) وتكون «بردا» يدل على البدل من جبال، وفيها، أي في السماء (البحر المحيط 6: 464) .

(2/417)


قال: وقال بعضهم: ينزل من السماء من جبال فيها من برد. أي: في السماء جبال من برد. يريد به أن يجعل الجبال من برد في السماء، ويجعل الإنزال منها.
قال أبو علي: قلت أنا في هذه الآية، قبل أن أعرف هذا القول لأبي الحسن: إن قوله: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) «1» .
المعنى: وينزل من السماء جبالاً فيها من برد. فموضع «من» الأولى نصب، على أنه ظرف، والثانية: نصب على أنه فى موضع المفعول.
و «فيها» صفة ل «جبال» ، و «من» الثالثة للتبيين، كأنه بين من أي شيء هذا المكثر، كما تقول: عندي جبال من المال، فيكثر ما عنده منه، ثم تبين المكثر بقولك: من المال.
ويحتمل أن يكون موضع «من» من قوله «من جبال» نصبا على الظرف على أنه منزل منه. ويكون «من برد» نصبا، أي: وينزل من السماء من جبال فيها بردا «2» . ويكون «الجبال» على هذا التأويل، تعظيماً لما ينزل من البرد من السحاب.
ويحتمل أن يكون موضع «من» في قوله: «من برد» رفعا، وموضع «من» من قوله «من جبال» نصباً على أنه مفعول به، كأنه فى التقدير:
__________
(1) النور: 43.
(2) ساق هذا الرأي أبو حيان في كتابه (البحر المحيط) (6: 464) نقلا عن الزجاج.

(2/418)


وينزّل من السماء جبالا فيها برد. فيكون «الجبال» على هذا تعظيماً وتكثيراً.
لما ينزل من السماء من البرد والمطر، ويكون «من برد» مرفوع للموصوف، لصيرورة موضع قوله «من برد» رفعاً.
قال: وقد جعلنا «من» في بعض هذه التأويلات زائدة في الإيجاب، وذلك مذهب أبي الحسن والكسائي.
وحكى أبو الحسن أنهم يقولون: «قد كان من مطر» و «كان من حديث» .
يريدون: كان مطر، وكان حديث.
ولم يجز سيبويه هذا فقال: ولا يفعلون هذا «بمن» في الواجب.
يريد أن «من» لا تزاد كما زيدت «الباء» في «كفى بالله» و «ليس بزيد» .
وحمل أبو الحسن قوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) «1» على هذا.
وقال: المعنى: فكلوا ما أمسكن عليكم.
وإذا ثبت رأى ثقة بما لا يدفعه قياس لزم قبوله واستعماله، ولم يجب دفعه.
وجعل أبو الحسن «من» زائدة في التأويل الأول/ الذي ذكره. 70 ش
__________
(1) المائدة: 4.

(2/419)


قال: أما أنا فجعلت «من» الثانية في التأويل الأول زائدة منصوبة الموضع، على أنه مفعول به، والثالثة للتبيين وجعلت الثانية في التأويل الثاني زائدة نصباً على الظرف، والثالثة أيضاً زائدة في موضع نصب وجعلت الثانية في التأويل الثالث زائدة نصباً على المفعول، والثالثة أيضاً زائدة رفعاً، على أنه مرتفع بالظرف وجعلت «من» الأولى في الآية، في التأويلات الثلاث، نصباً على الظرف.
وأما أبو الحسن: فجعل «من» الثانية والثالثة في الآية في التأويل الأول زائدة.
فأما موضعهما من الإعراب، فالأولى نصب على أنه مفعول به، وهي الثانية من الآية. وموضع «من» الثالثة في الآية رفع بالظرف، وهذا هو التأويل الثالث، الذي ذكرناه نحن.
فأما القول الثاني: الذي ذكره في الآية «فمن» الثانية في الآية نصب بالظرف، والثالثة للتبيين من «الجبال» ، فكأنه على هذا التأويل ذكر الموضع الذي ينزل منه، لم يذكر المنزل للدلالة عليه.
ولا أدري ما صحة هذا الوجه الذي ذكره- أعني أبا إسحاق- عن بعضهم في التأويل.

(2/420)


وأما قوله: (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) «1» فقد قالوا: إن التّقدير:
كلوا طيبات المن والسلوى بدل «طيبات ما رزقناكم» ، وفوتموها أنفسكم بجنايتكم التي لأجلها جعلتم تتيهون في الفلوات أربعين سنة.
يدل على جواز هذا المعنى أنه قال: (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) «2» فجمع «الطيب» ، ثم جعل الطيبات بعض ما رزقوه، وهذا يفهم منه أنهم رزقوا أرزاقاً، منها الطيبات، ومنها الخبيثات، فأمروا بأكل الطيبات منها دون الخبيثات.
وليس هناك كل هذا، وإنما هناك المن والسلوى فقط، لم يكن لهم طعام غيرهما، ولأنهم اشتاقوا من المن والسلوى إلى البقل والقثاء، فأي استطابه لهما مع ذا؟
فثبت: أنه مغنى من «طيبات» ، أي بدلها، لا من هذه الطيبات.
ومن ذلك قوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ) «3» ، (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً) «4» ، (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ/ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا) «5» ، 71 ى (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) «6» .
هذا كله على مذهب سيبويه، المفعول محذوف. وعلى مذهب الأخفش «من» زيادة.
__________
(2- 1) البقرة: 57.
(3) الأنعام: 118.
(4) الأنفال: 69.
(5) البقرة: 172. [.....]
(6) الأنعام: 121.

(2/421)


ومن حذف المفعول قوله تعالى: (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) ، «1» أي: ما سألتموه بينكم، فحذف المفعولين. و «سألت» فعل يتعدى إلى مفعولين، مثل «أعطيت» .
ويجوز أن يقتصر فيه على مفعول واحد، فإذا اقتصر فيه في التعدي إلى مفعول واحد، كان على ضربين:
أحدهما: أن يتعدى بغير حرف، والآخر: أن يتعدى بحرف.
فأما تعديه بغير حرف فقوله تعالى: (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) «2» ، وقال: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) «3» .
وأما تعديه بحرف، فالحرف الذي يتعدى به حرفان:
أحدهما: «الباء» كقوله تعالى: (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) «4» والآخر: «عن» كقولك: سل عن زيد.
فإذا تعدى إلى مفعولين كان على ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يكون بمنزلة «أعطيت» ، وذلك كقوله:
سألت زيدا بعد بكر حقّنا
بمعنى: استعطيته هذا، أي: سألته أن يفعل ذلك.
والآخر: أن يكون بمنزلة: اخترت الرجال زيداً، (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) . «5»
فالمعنى هاهنا: ولا يسأل حميم عن حميمه، لذهوله عنه، واشتغاله بنفسه،
__________
(1) البقرة: 61.
(2) الممتحنة: 10.
(3) الأنبياء: 7.
(4) المعارج: 1.
(5) المعارج: 10.

(2/422)


كما قال الله تعالى: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) «1» فهذا على هذه القراءة، كقوله تعالى: (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) «2» .
والثالث: أن يتعدى إلى مفعولين، فيقع موقع المفعول الثاني منهما استفهام، وذلك كقوله تعالى: (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) «3» وقوله تعالى: (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) «4» .
فأما قول الأخطل:
واسأل بمصقلة البكري ما فعلا «5»
«فما» استفهام، وموضعه نصب «بفعل» ، ولا يكون «ما» جراً على البدل من «مصقلة» على تقدير: سل بفعل مصقلة، ولكن بجعله مثل الآيتين اللتين تلوناهما.
وإن شئت جعلته بدلاً، فكان بمنزلة قوله: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) «6» .
ولو جعلت المفعول مراداً محذوفاً من قوله: «واسأل بمصقلة» ، فأردت:
واسأل الناس بمصقلة ما فعل، لم يسهل أن يكون «ما» استفهاما، 71 ش لأنه لا يتصل بالفعل.
__________
(1) عبس: 37.
(2) البقرة: 211.
(3) الأعراف: 163.
(4) الزخرف: 45.
(5) صدره:
دع المغمر لا تسأل بمصرعه
(6) الأنبياء: 7.

(2/423)


ألا ترى انه قد استوفى مفعوليه، فلا تقع الجملة التي هي استفهام موقع أحدهما.
كما تقع موقعه في قوله تعالى: (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) «1» .
فإن جعلت «ما» موصولة وقدرت فيها البدل من «مصقلة» لم يمتنع.
وإن قلت: أجعل قوله «ما فعل» استفهاماً؟ وأضمر «قل» لأني إذا قلت: أسأل الناس بمصقلة، فإنه يدل على «قل» لأن السؤال قولٌ، فأحمله على هذا الفعل، لا على أنه في موضع المفعول، لاستغناء الفعل بمفعوليه، فهو قوله، يدل على ذلك قوله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) «2» .
ألا ترى أنه قد استوفى مفعوليه؟ أحدهما الكاف، والآخر قد تعدى إليه الفعل ب «عن» ، فلا يتعلق به «أيان» إلا على الحد الذي ذكرناه، وهو أن نقدر (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) ، قائلين: أيان مرساها؟
وأما قوله: (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) «3» ، فكان المعنى: سأل سائل النبي صلى الله عليه وآله والمسلمين بعذاب واقع، فلم يذكر المفعول الأول.
وسؤالهم عن العذاب، إنما هو استعجالهم له، لاستبعادهم لوقوعه، ولردّهم ما يوعدون به منه.
__________
(1) البقرة: 211.
(2) النازعات: 42. [.....]
(3) المعارج: 1.

(2/424)


وعلى هذا، (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ) «1» ، (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) «2» ، (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ) «3» .
ويدلك على ذلك قوله: (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) «4» وأما قوله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ) «5» ، فإنه يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يجعل «عنها» متعلقا بالسؤال، كأنه: يسألونك عنها كأنك حفي بها، فحذف الجار والمجرور.
وحسن ذلك لطول الكلام ب «عنها» التي من صلة السؤال.
ويجوز: أن يكون «عنها» بمنزلة «بها» وتصل الحفاوة مرة بالباء، ومرة «بعن» كما أن السؤال فصل مرة بالباء ومرة «بعن» ، فيما ذكرنا.
ويدلك على تعديه بالباء قوله تعالى: (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) «6» .
وقال: (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ/ خَبِيراً) «7» . 72 ى فقوله: «فاسأل به» مثل: سل عنه خبيراً.
__________
(1) الحج: 47.
(2) العنكبوت: 54.
(3) الرعد: 6.
(4) المعارج: 5، 6.
(5) الأعراف: 187.
(6) مريم: 47.
(7) الفرقان: 59.

(2/425)


فأما «خبيراً» فلا يخلو انتصابه من أن يكون على أنه حال أو مفعول به، فإن كان حالاً لم يخل أن يكون حالاً من الفاعل أو من المفعول، ولو جعلته حالاً من الفاعل السائل لم يسهل، لأن الخبير لا يكاد يسأل إنما يسأل.
ولا يسهل الحال أيضاً من المفعول، لأن المسئول عنه خبير به، فليس للحال كبير فائدة.
فإن قلت: يكون حالاً مؤكدة، فغير هذا الوجه إذا احتمل أولى، فيكون «خبيراً» إذن مفعولاً به، كأنه: فاسأل عنه خبيراً، أي: مسئولاً خبيراً.
وكأن معنى «اسأل» : تبين بسؤالك وبحثك من تستخبر، ليتقرر عندك مما اقتص عليك، من خلقه ما خلق، وقدرته على ذلك، وتعلمه بالفحص عنه، والتبين له.
ويجوز في قوله: «فاسأل به» أي: اسأل بالله خبيراً، أي: اسأل الله خبيراً، كما قال:
.... منه النّوفل الزّفر «1»
وسنعيد ذا لك إن شاء الله.
ومن حذف المفعول قوله تعالى: (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) «2» أي:
تؤمرونه، أي، تؤمرون به.
وقال: (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) «3» .
__________
(1) جزء من بيت لأعشى باهلة. والبيت كاملا:
أخو رغائب يعطيها ويسألها ... يأبى الظلامة منه النوفل الزفر
والنوفل: الرجل الكثير العطاء. والزفر: القوي على الحمالات.
(2) البقرة: 68.
(3) الحجر: 94.

(2/426)


وقال: (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) «1» . فإذا كانت «ما» خبرية، كان على هذا الوجه وإذا كانت مصدرية، لم يحتج إلى الضمير.
(وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) «2» أي: ذبح البقرة، (مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) «3» أي تكتمونه.
وقوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) «4» . قال أبو علي في «التذكرة» :
المعنى- والله أعلم-: ما يهبط رائيه، أو متأمله، أو المعتبر به، أي إذا رآها فتأمل ما فيها، هبط المتأمل له، والمعتبر به من أجل خشية الله، لأن ذلك يكسبه خشوعاً واتباعاً، ويزيل عنه العناد، وترك الانقياد للحق الذي علمه، فلما حدث ذلك بتأمل الحجر نسب إليه. و «هبط» متعد على هذا، وحذف المفعول، كقول لبيد:
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا ... يوماً فهم للفناء والنفد «5»
ومن حذف المفعول قوله تعالى: (بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) «6» أي: فتحه الله.
(أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) «7» أي: يسرونه ويعلنونه، إذا جعلت «ما» / خبراً، وإذا جعلته استفهاماً لم تقدر شيئا، وكان مفعولا. 72 ش (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) «8» أي: يظنون ما هو نافع لهم، فحذف المفعولين، وحذفهما جائز.
__________
(1) الصافات: 102.
(2) البقرة: 71.
(3) البقرة: 72. [.....]
(4) البقرة: 74.
(5) في الأصل:
يوما بصر للهلك والنكل
(اللسان: هبط) .
(6) البقرة: 76.
(7) البقرة: 77.
(8) البقرة: 78.

(2/427)


فأما قوله تعالى: (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) «1» . فمن وقف على «ظنوا» كان من هذا الباب، أي: ظنوا ما كانوا عليه في الدنيا منجياً لهم، ومن جعله مما يتلقى به القسم، جعل قوله: (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) «2» جواباً للقسم، فيتلقى بما يتلقى به «3» القسم، نحو: (أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) «4» ، (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ) «5» إذ لم يذكر «للظن» مفعولاه، فالأحسن أن يجعل بمنزلة القسم.
قال أبو عمر: يقبح الاقتصار على «علمت» و «ظننت» ، وألا يتعدى إلى مفعولين، وإن لم يقبح ذلك في باب «علمت» ، فإن «6» هذا عندي كما قال، وذلك لأنه لا يخلو مخاطبك، من أن يعلم أنك تعلم شيئاً وتظن آخر، فإذا كان كذلك، صار كالابتداء بالنكرة، نحو: «رجل منطلق» و «قام رجل» وليس كذلك قولك: «أعطيت» ولا «أعلمت» ، لأن ذلك مما قد يجوز أن لا تفعله، فلذلك حسن هذا وامتنع ذاك.
وأما قوله تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ) «7» فمن قرأ بالياء، ف «الذين» هم الفاعلون، و «أن» مع اسمه وخبره بدل من «الذين كفروا» .
قالوا: وهذا يوجب نصب قوله (خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) «8» وليس كذلك، لأن ذلك إنما يكون إذا جعلت «أن» باسمه هو البدل دون خبره.
__________
(2- 1) فصلت: 48.
(3) في الأصل: «بها» .
(4) البقرة: 63.
(5) آل عمران: 187.
(6) في الأصل: «فأو هذا» .
(7) آل عمران: 178.
(8) آل عمران: 178.

(2/428)


وكذلك القول في قوله تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) «1» من قرأ بالتاء كان المفعول الأول: المضاف المحذوف، أي: لا تحسبن بخل الباخلين هو خيراً لهم. ومن قرأ بالياء كان التقدير: ولا يحسبن الذين يبخلون البخل خيراً فيكون «هو خيراً لهم» كناية عن البخل.
وأما قوله تعالى: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) «2» ، فمن قرأ بالياء كان «الذين يفرحون» هم الفاعلون. ولم يذكر له مفعولين، لأن قوله:
(فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) «3» يدل عليه، ويكون الضمير في «يحسبن» يعود إلى «الذين» أي: لا يحسبن أنفسهم بمفازة، فهذا فيمن قرأهما بالياء.
وأما من قرأ بالتاء، فإنه جعل [الذين] «4» / مفعولاً أول، والمفعول الثاني قوله: (بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) .
ويكون قوله: (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) «5» تكراراً للأول، وتكون الفاء زيادة في الوجوه كلها، إذ لا وجه للعطف، ولا للجزاء.
__________
(1) آل عمران: 180.
(5- 3- 2) آل عمران: 188. [.....]
(4) تكملة يقتضيها السياق.

(2/429)


وإذا أخذ الرجل في الكلام طالباً منك باب التكرار، فاقرأ عليه ما أثبته لك هنا.
وقوله تعالى: (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ... فَلَمَّا جاءَهُمْ) «1» فهذا تكرير للأولى.
ألا ترى: أنا لا نعلم «لما» جاء جوابها بالفاء في موضع، فإذا كان كذا، ثبت أنه تكرير.
ومما يكون كذلك أيضاً: (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) «2» . ثم قال:
(رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) «3» .
وقال: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) «4» . بعد قوله: (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) «5» فكرر «في» .
وقال عز من قائل: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) «6» فكرر «في» .
قال أبو بكر: في آيات في سورة «الجاثية» إنها تكرار، وعند الجرمى أن قوله: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) «7» (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ) «8» إلى قوله (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) «9»
__________
(1) البقرة: 89.
(3- 2) يوسف: 4.
(4) النور: 36.
(5) النور: 35.
(6) هود: 108.
(7) الأنعام: 54.
(9- 8) المؤمنون: 35.

(2/430)


أنه تكرار، وقال: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) «1» إلى قوله:
(فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) «2» فيكون هذا كله تكرارا.
وأما قوله: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) «3» ، فمن «4» قرأ بالتاء، فلا إشكال فيه، لأن «الذين كفروا» مفعول أول، و «سبقوا» مفعول ثان.
ومن قرأ بالياء، فيجوز أن يكون التقدير: ولا يحسبن الكافرون أن سبقوا، فحذف «أن» ويكون «أن سبقوا» قد سد مسد المفعول الأول.
ويجوز أن يكون في «ولا يحسبن» ضمير الإنسان، أي: لا يحسبن الإنسان الكافرين السابقين.
وأما قوله تعالى: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) «5» فمن «6» قرأ «بالتاء» فلا إشكال فيه.، ويكون «الذين كفروا» مفعولاً أول، ويكون «معجزين» مفعولاً ثانياً.
ومن قرأ بالياء، كان في «لا يحسبن» ضمير الإنسان، أو يكون التقدير:
لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين، فحذف «أنفسهم» .
وأما قوله: (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) «7» ، ف «يرى» هذه هي التي تعدى إلى مفعولين، لأن «علم الغيب» لا يوجبه الحس، حتى إذا علمه أحسّ شيئا.
__________
(2- 1) آل عمران: 188.
(3) الأنفال: 59.
(5) النور: 57.
(6- 4) في الأصل: «فيمن» .
(7) النجم: 35.

(2/431)


وإنما المعنى: أعنده علم الغيب فهو يعلم الغيب كما/ يشهده، لأن من حصل له علم الغيب، يعلم الغيب كما يعلم ما يشاهد، والتقدير:
فهو يرى علم الغيب مثل المشاهدة، فحذفهما للدلالة عليه، قال «1» :
ترى حبها عاراً علي وتحسب «2»
وأما قوله تعالى: (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) «3» يجوز أن يكون من «الرؤية» التي هي حس، والضمير في «يرى» هو للسعي، فيكون على هذا كقوله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) «4» ألا ترى أن سعيه إنما هو حركات كما أن عمله كذلك.
وقد يجوز أن يكون «يرى» يفعل، من «رأيت» المتعدية إلى مفعولين، وذلك أن «سعيه» إن كان حركات ونحوها مما يرى، فقد يكون اعتقادات لا ترى، وإذا كان كذلك، حملته على المتعدية إلى مفعولين، لأن كل محسوس معلوم، وإن لم يكن كل معلوم محسوساً، فحمله على المتعدية إلى مفعولين أولى.
والموضع «5» الذي يعلم ذلك منه قوله تعالى: (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) ، «6» ، والذي أسلفته يكون اعتقادا غير مرئى، وأعمالنا مرئية.
__________
(1) الشاعر هو الكميت. [.....]
(2) عجز بيت، وصدره:
بأي كتاب أم بأية سنة
والبيت من قصيدة يمدح فيها آل البيت. ورواية الديوان: «ترى حبهم» . والضمير لآل البيت.
(3) النجم: 40.
(4) التوبة: 105.
(5) في الأصل: «والمواضع» .
(6) يونس: 30.

(2/432)


ويعلم من قوله: (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) «1» .
وقوله تعالى: (مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) «2» فيكون التقدير على هذا: وأن سعيه سوف يرى محصىً، لقوله: «إلا أحصاها» أو محصلاً أو مجزياً، ويكون المبتدأ والخبر، قبل دخول «رأيت» : سعيك يحصى، أو يحصل، أو مجزى عمله، فحذف المفعول الثاني، إذا بنيت الفعل للمفعول، لدلالة قوله: (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) «3» .
والاقتضاء الأول المقام مقام الفاعل، كما حذف من قوله: (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) «4» وحذف المفعول.
وقال: (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ) «5» وهو يستدعي مفعولين، والمعنى: ثم يجزى مثل سعيه، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
وكذلك: (كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) «6» .
وإن شئت جعلت المضاف المحذوف «الجزاء» فقلت: المعنى: ثم يجزى الإنسان جزاء سعيه، وترى كل نفس جزاء ما كسبت، على أن يخرج الجزاء من أن يكون مصدراً، كما أخرج «الصيد» و «الخلق» عن ذلك، فيصير في موضع المفعول، فإذا لم يخرج المفعول عن المصدر لم يجز، لأنك حينئذ قد عدّيت/ الفعل 74 ى إلى مصدرين، ولا يتعدى إلى مصدرين، كما لا يتعدى إلى حالين.
__________
(1) الحاقة: 19.
(2) الكهف: 49.
(5- 3) النجم: 41.
(4) القصص: 62.
(6) آل عمران: 161.

(2/433)


قال أبو إسحاق: جائز أن يقرأ: (سَوْفَ يُرى) «1» والأجود أن يقرأ:
«يرى» «2» لأن قولك: إن زيداً سوف أكرمه، فيه ضعف لأن «إن» عاملة، و «أكرم» عاملة، فلا يجوز أن ينتصب الاسم من جهتين، ولكنه يجوز على إضمار الهاء، على معنى: سوف يراه، فلا يجوز في الكلام أن يقول: إن زيداً سأكرمه.
قال أبو علي: أما جواز هذا على إضمار الهاء في «سوف يراه» ، فلا يجوز في الكلام، وإنما يجوز في الشعر، كذلك يجيزه أصحابنا في الشعر قياساً على قوله:
... كله لم أصنع «3»
وأجازوا على هذا الشعر: زيداً اضرب، يريد: اضربه.
ومنع غيرهم من هذا فقال: لا أجيزه في «زيد» ونحوه، وإنما أجيزه في «كل» ، لأن فيه معنى الجحد.
وأما إجازته في التنزيل فلا ينبغي أن يجيزه أحد.
__________
(1) النجم: 40.
(2) النجم: 40.
(3) جزء من بيت لأبي النجم، والبيت كاملا:
قد أصبحت أم الخيار تدعى ... على ذنبا كله لم أصنع

(2/434)


وأما إضمار الهاء في «إن» فمثل الأول، في أنه لا يجوز في الكلام وإنما يجوز في ضرورة الشعر، كالأبيات التي أنشدها في «الكتاب» نحو قوله:
إن من لام «1» ...
وإنّ من يدخل الكنيسة «2» ...
ومن ذلك قوله تعالى: (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) «3» فمفعول «يعلم» مضمر، والتقدير: قالت الرسل للمرسل إليهم: ربنا يعلم لم أرسلنا إليكم؟ لأن هذا جواب قولهم: (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) «4» يعنون كيف تكونون رسلاً وأنتم بشر مثلنا، فقالوا: (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) «5» ، استئناف الكلام، وليس «6» كسر «إن» لمكان اللام بل كسرها لأنه مبتدأ.
فأما قوله تعالى: (فَانْظُرْ ماذا تَرى) «7» ، فمن فتح التاء فقال:
«ماذا ترى» كان مفعول «ترى» أحد شيئين، أحدهما: أن يكون «ماذا» بمنزلة «الذي» فيكون مفعول «ترى» الهاء المحذوفة من الصلة، ويكون «ترى» على هذا التي معناها الرأي، وليس إدراك الجارحة، كما تقول: فلان يرى رأي أبي حنيفة.
ومن هذا قوله تعالى: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ) «8» .
__________
(1) جزء من بيت للاعشى، والبيت بتمامه:
إن من لام في بني بنت حسا ... ن ألمه وأعصه في الخطوب
(الكتاب 1: 439) . [.....]
(2) جزء من بيت، والبيت كاملا:
إن من يدخل الكنيسة يوما. ... يلق فيها جاذرا وظباء
(5- 3) يس: 16.
(4) يس: 15.
(6) في الأصل: «وليست» .
(7) الصافات: 102.
(8) النساء: 105.

(2/435)


فلا يخلو «أراك» من أن يكون نقلها بالهمزة من التي هي «رأيت» رؤية البصر، 74 ش/ أو «رأيت» التي تتعدى إلى مفعولين، أو «رأيت» التي بمعنى الرأي، الذي هو الاعتقاد والمذهب، فلا يجوز أن تكون من الرؤية التي معناها: أبصرت بعيني، لأن الحكم في الحوادث بين الناس ليس مما يدرك بالبصر، فلا يجوز أن يكون هذا القسم، ولا يجوز أن يكون من «رأيت» التي تتعدى إلى مفعولين، لأنه كان يلزم بالنقل بالهمزة أن يتعدى إلى ثلاثة مفعولين، وفي تعديه إلى مفعولين- أحدهما الكاف التي للخطاب، والآخر المفعول المقدر حذفه من الصلة، تقديره: بما أراكه الله، ولا مفعول ثالث في الكلام- دلالة على أنه من «رأيت» التي معناها الاعتقاد والرأي، وهي تتعدى إلى مفعول واحد، وإذا نقل بالهمزة تعدى إلى مفعولين، كما جاء في قوله تعالى: (بِما أَراكَ اللَّهُ) «1» .
فإذا جعلت قوله «ذا» من قوله: (ماذا تَرى) «2» بمنزلة «الذي» ، صار تقديره.
ما الذي تراه؟ فيصير «ما» فى موضع ابتداء، و «الذي» في موضع خبره، ويكون المعنى: ما الذي نذهب إليه فيما ألقيت إليك، هل تستسلم له وتتلقاه بالقبول، أو تأتي غير ذلك؟
فهذا وجه قول من قال: «ماذا ترى» بفتح التاء.
وقرئ: «ماذا تري» بضم التاء وكسر الراء، فإنه يجوز أن يكون «ما» مع «ذا» بمنزلة اسم واحد، فيكونا في موضع نصب، والمعنى: أجلداً تري على ما تحمل عليه أم خوراً؟
ويجوز أن تجعل «ما» مبتدأة و «ذا» بمنزلة أحد، ويعود إليه الذكر المحذوف، من الصلة، والفعل منقول من: رأى زيد الشيء، وأريته الشيء
__________
(1) النساء: 105.
(2) الصافات: 102.

(2/436)


إلا أنه من باب أعطيت، فيجوز أن يقتصر على أحد المفعولين دون الآخر، كما أن «أعطيت» كذلك، ولو ذكرت المفعول، كان: أرأيت زيداً جلداً، فيكون التقدير في الآية: ماذا ترينيه؟.
ومن ذلك قوله تعالى: (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) «1» أي: تزعمونهم إياهم، فالمفعولان محذوفان، لأنك إذا أظهرت العائد إلى «الذين» كان مفعولاً أول، فيقتضي مفعولاً ثانياً.
ومن حذف المفعول قوله تعالى: (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) «2» والتقدير: ننسكها، أي: نأمرك بتركها، أو بنسيانها، فالمفعول الأول محذوف، 75 ى (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) أي: نأتك بخير منها.
وأما قوله تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) «3» ينبغي أن تكون هذه من رؤية العين، لأنه اقتصر فيه على مفعول واحد، كأنه: أأبصرت؟ أو شاهدت؟
وهذا لا يسوغ أن يقع بعده الاستفهام، لأنه إنما يقع بعد الأفعال التي تلغى، فيعلق عنها.
وأما «أرأيت» الذي بمنزلة العلم، فإنها تكون على ضربين:
أحدهما: أن تتعدى إلى مفعول، ويقع الاستفهام في موضع خبره، كأنه قبل دخول «أرأيت» مبتدأ، وخبره الاستفهام، وعلى هذا الآي التي تلوها.
والثاني: أن يقع الاستفهام في موضع المفعول، فيعلق عنها، نحو:
أرأيت من زيد؟ فإذا قال: أرأيت زيدا؟ احتمل ثلاثة أضرب:
__________
(1) القصص: 62.
(2) البقرة: 106.
(3) الماعون: 1.

(2/437)


أحدها: أن يكون «رأيت» بمعنى: أبصرت، كقوله تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) «1» .
والآخر: أن يكون «رأيت» بمعنى: علمت، فيكون بمعنى: أخبرني.
فهذا: إذا كان كذلك، لم يجز أن يرتفع الاسم بعدها في قول من قال:
علمت زيدا أبو من هو؟
ويجوز: ألا يذكر قبل الاستفهام الاسم، نحو: أرأيت أبو من زيد؟
لأن دخول معنى آخر فيه لا يمنع من أن يستعمل على أصله الذي له.
وقوله تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) «2» ، وقوله تعالى:
(يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) «3» ، وقوله: (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) «4» و (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) «5» ، وغير ذلك من الآي.
إن قال قائل: ما مفعول «ود» في هذه الآي، وما موضع «لو» بعده، وهل تقتضي «لو» هنا جواباً؟
فالقول في ذلك: إن «ود» فعل متعد، وإذا كان متعدياً اقتضى المفعول به، وليس من جنس الأفعال التي تعلق، لأنه لا يلغى كما ألغيت المعلقة، ولا هو مثل ما شبه به نحو «انظر» في قوله: انظر أزيد أبو من هو؟
__________
(1) الماعون: 1.
(2) البقرة: 109.
(3) البقرة: 96. [.....]
(4) الممتحنة: 2.
(5) القلم: 9.

(2/438)


ولا مثل: (بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) «1» لأن هذه الأفعال تشبه الأول/ من حيث كانت بمعنى العلم، فلذلك أجريت مجراها، فأما 75 ش «وددت» فليس من هذا الباب.
ألا ترى أنه لا يشبه العلم، ولا يضمر بعده القول أيضاً، كما أضمر بعد قوله:
(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ) «2» .
ولا مثل: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) «3» .
ومثل قوله:
إني سأبدي لك فيما أبدي ... شجن لي ببلاد سند
وشجن لي ببلاد نجد «4» لأن هذه الأفعال ونحوها لما كانت بمعنى «القول» استقام إضمار «القول» بعدها لسدها مسده، حتى قال بعض الناس: إنها بمنزلة «القول» ، وليس «وددت» كذلك.
وإذا لم تكن مثله، وكان معناها التعدي، قلنا: إن «لو» بعده زائدة، والتقدير في الفعل الواقع بعد «أن» ، وحذفت «أن» ووقع الفعل موقع الاسم، فالفعل في موضع المفعول.
وحسن هذا الحذف لذكر «لو» في الكلام أنه حرف، فصار الحرف المذكور كالبدل من المحذوف، كما صار اللام في: قولهم: ما كان ليفعل، بدلاً من «أن» .
__________
(1) يوسف: 35.
(2) القمر: 10.
(3) النساء: 11.
(4) اللسان (شجن) :
إني سأبدي لك فيما أبدي ... لي شجنان شجن بنجد
وشجن لي ببلاد هند

(2/439)


وكما استجازوا أن يحذف حرف الجر مع «أن» في نحو: جئت أنك تريد الخير.
وذهب الخليل إلى أنه في موضع جر، ولم يقل ذلك أحد، إذ كان المصدر الصحيح لا تجوز إرادة الحذف معه.
وإذا كانوا قد حذفوا الحرف في الكلام لجري ذكر حرف فيه، نحو:
متى يمرر أمرر ونحو: ما مررت برجل إن صالح فطالح، فحذف الحرف حيث ذكرنا أسوغ.
وحسن ذلك ألا يظهر معه الحرف لكون المذكور بدلاً من المحذوف، ألا ترى أن الخليل وسيبويه استجازا حذف «1» الجار والمجرور من الصلة في قوله:
إن لم يجد يوماً على من يتكل «2»
لجرى ذكر «على» قبل.
فإذا كان كذلك كان حذف هذا أجدر، لذكر الحرف، وكونه بدلاً من المحذوف.
ألا ترى أن هذه قد حذفت في مواضع لم يقع منها بدل، والمعنى على الحذف قولهم: عسينا نفعل، وقول الشاعر.
ألا أيها ذا الزّاجرى أحضر الوغى «3»
__________
(1) في الأصل: «حرف» .
(2) عجز بيت، وصدره كما في الكتاب (1: 443) والصحاح «عمل» :
إن الكريم وأبيك يعتمل
(3) صدر بيت، وعجزه:
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

(2/440)


/ و: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) «1» ، فإذا حذفت، حيث لم يقع من حذفها عوض، كان حذفها هنا أجدر، لذكر «لو» فإذا كانت «لو» زائدة كان الفعل الواقع بعده في موضع المفعول، كما كان «ألهو» فيما أنشده أبو زيد من قوله:
وقالوا ما تشاء فقلت ألهو
واقعاً موقع المفعول، وهو فعل مشابه له.
ويدل على زيادة «لو» في هذا الموضع أنها تحذف بعد «وددت» فيقع الاسم بعده في موضع نصب.
فإذا صار دخولها وخروجها في المعنى واحداً كان كدخول «من» ونحوه، في نحو: ما جاءني من أحد.
وذلك نحو قوله تعالى: (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) «2» . فهذا في المعنى كقوله: (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي) «3» ، فهذا يدل على زيادة «لو» .
فإن قلت: ما ننكر أن يكون الفعل معلقاً، لأنه قد وقع بعده «أن» الثقيلة في نحو: (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) «4»
__________
(1) الزمر: 64.
(4- 2) الأنفال: 7.
(3) المعارج: 11.

(2/441)


كما وقعت بعد: «علمت أن زيداً منطلق» . فإذا جعل بمنزلة «علمت» في هذا جعل بمنزلته في التعليق.
فالقول: إن ذلك لا يوجب فيه التعليق، ولو جاز التعليق فيه لما ذكرت لجاز أن يعلق «سررت» لقول الأعشى:
هل سر حنقط أن القوم صالحهم ... أبو حريث ولم يوجد لهم خلف
ويروى: «ولم يؤخذ» . و «حنقط» امرأة، ويقال: حنقط: امرأة أبي حريث، وأبو حريث: رجل من بني ثعلبة بن يربوع، قتل يومئذ، يريد:
هل سرها أنه سلم ولم يتزوج بعد.
وكما أن هذا النحو من الأفعال لا يعلق وإن وقعت بعده «أن» كذلك لا يعلق «وددت» ، لأن «وددت» لا ينكر أن يقع بعدها «أن» الخفيفة كما وقعت الثقيلة، كما كان ذلك في «سررت» ، في نحو قوله:
هل سركم في جمادى أن نصالحكم
ومما يدل على زيادة «لو» في هذا النحو/ وأن الفعل في تقدير الحذف لأن معه رفعهم الفعل المعطوف عليه، في نحو قوله تعالى: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) «1» ، و (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ) «2» ، ثم قال:
__________
(1) القلم: 9.
(2) النساء: 102. [.....]

(2/442)


(فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ) «1» ، فهو نحو: عسى زيد يقوم فيذهب، فهذا هو الوجه، لأن الكلام في تقدير إيجاب.
وإذا كان كذلك بعد النصب كما بعد في قولك: أليس زيد عندك فتضربه؟ لأن المعنى موجب.
والذي ذكرنا أنه في بعض المصاحف (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) «2» بالنصب، على أحد أمرين:
إما أن يكون: لما كان معنى (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ) «3» معنى: ودوا أن تدهن، بحمل المعطوف على المعنى، كما أن قوله: هو أحسن الفتيان وأجمله، محمول على المعنى، لأن «أحسن الفتيان» و «أحسن فتى» واحد في المعنى.
وإما أن تكون «لو» ، وإن كانت زائدة في هذا الموضع، لما كانت على لفظ «غير» الزائدة أجريت مجراها للشبه اللفظي، كما أجرى «أحمد» مجرى «أضرب» في منع الجر والتنوين.
ألا ترى أن «لو» هذه على لفظ «لو» التي معناها الآخر في قوله:
............... ..... ... لو تعان فتنهدا «4»
والمعنى: أعانها الله.
__________
(1) النساء: 102.
(3- 2) القلم: 9.
(4) جزء من بيت، والبيت بتمامه:
سوّينا إليهم في جموع كأنها ... جبال شروري لو تعان فتنهدا
(العيني 4: 413) .

(2/443)


وكذلك قوله تعالى: (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ) «1» ، المعنى: لتكن لنا كرة، إلا أن الدعاء لا يقال فيه أمر، فالتقدير: أحدث لنا كرة فنكون.
ومثله في التشبيه اللفظي في الحروف قوله:
يرجى العبد ما إن لا يراه «2»
وقوله: لما أغفلت شكرك.
فكذلك «لو» هذه أجريت مجرى غير الزيادة.
قوله تعالى: (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) «3» . التقدير: ربنا واجعلنا مسلمين لك وأمة مسلمة لك من ذريتنا، ففصل بين الواو والمفعول بالظرف.
وقوله تعالى: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) «4» يكون على أحد أمرين:
يكون على قياس قول أبي الحسن «من» زائدة، والتقدير: واجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي/ مقيم الصلاة، والمفعول محذوف، لا بد من ذلك، ألا ترى أنه لا يجوز: رب اجعلنى من ذريتى.
__________
(1) الشعراء: 102.
(2) عجزه:
ويأبى الله إلا ما يريد
(3) البقرة: 128.
(4) إبراهيم: 40.

(2/444)


قوله تعالى: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) «1» َ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها)
«2» .
قال أبو علي: وليتك القبلة، إذا صيرتك تستقبلها بوجهك، وليس هذا المعنى في «فعلت» منه.
ألا ترى أنك إذا قلت: وليت الحائط، ووليت الدار، لم يكن في «فعلت» منه دلالة على أنك واجهته، كما أنك في قولهم: وليتك القبلة، ووليتك المسجد الحرام، دلالة على أن المراد واجهته، ف «فعلت» في هذه الكلمة ليس بمنقول من «فعلت» الذي هو «وليت» ، فيكون على حد قولك:
«فرح» و «فرّحته» ، ولكن هذا المعنى الذي هو المواجهة عارض في «فعلت» ولم يكن في «فعلت» .
وإذا كان كذلك كان فيه دلالة على أن النقل لم يكن من «فعلت» كما كان قولهم: ألقيت متاعك بعضه على بعض، لم يكن النقل فيه من:
لقي متاعك بعضه بعضاً، ولكن «ألقيت» كقولك «أسقطت» .
ولو كان منه زاد مفعول آخر في الكلام، ولم يحتج في تعديته إلى المفعول الثاني إلى حرف الجر وإلحاقه المفعول الثاني في قولك: ألقيت بعض متاعك على بعض، كما لم يحتج إليه في: ضرب زيد عمراً، وأضربته إياه، ونحو ذلك.
وكذلك: وليتك قبلة، من قولك: وليت، كألقيت من قولك: «لقيت» .
__________
(1) البقرة: 144.
(2) البقرة: 148.

(2/445)


وقال عز وجل: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) «1» فهذا على المواجهة له، ولا يجوز على غير المواجهة مع العلم أو غلبة الظن، الذي ينزّله منزلة العلم، في تحري القبلة.
وقد جاءت هذه الكلمة مستعملة على خلاف المقابلة والمواجهة، وذلك في نحو قوله:
(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) «2» ، (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) «3» ، (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) «4» أي: أعرض عنه.
وقال عز وجل: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) . «5»
(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) «6» .
فهذا مع دخول الزيادة للفعل في غير الزيادة.
__________
(1) البقرة: 144.
(2) البقرة: 83.
(3) البقرة: 64.
(4) عبس: 1.
(5) يوسف: 84. [.....]
(6) النجم: 29.

(2/446)


قوله تعالى: (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) «1» .
فالحال مؤكدة، لأن في «توليتم» دلالة على أنهم «مدبرين» ، فهذا على نحوين:
أما ما لحق التاء أوله فإنه يجوز أن يكون من باب «تحوّب» و «تأثّم» ، إذا ترك الحوب، والإثم، وكذلك إذا ترك الجهة، التي هي المقابلة.
ويجوز أن تكون الكلمة استعملت على الشيء وعلى خلافه، كالحروف المروية في الأضداد.
فأما قوله تعالى: (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) «2» ، وقوله: (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) «3» ، وقوله: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) «4» .
فهذا منقول من «فعل» ، تقول: داري تلي داره، ووليت داري داره، فإذا نقلته إلى «فعل» قلت: وليت مآخيره، وولاني مآخيره، ووليت ميامنه، وولاني ميامنه، فهو مثل: فرح وفرحته، وليس مثل: لقي وألقيته ولقيته.
وقوله: (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) «5» ، وقوله: (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) «6» ، المفعول
__________
(1) التوبة: 25.
(2) آل عمران: 111.
(3) الحشر: 12.
(4) القمر: 45.
(5) الحشر: 12.
(6) القمر: 45.

(2/447)


الثاني في نقل «فعل» إلى «فعل» محذوف، ولو لم يحذف كان كقوله:
(يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) «1» .
وأما قوله تعالى: (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) «2» فيمن قرأ «تلوا» فمعناه والله أعلم: الإقبال عليهم، والمقاربة لهم في العدل في قسمهم.
ألا ترى أنه قد عودل بالإعراض في قوله تعالى: (أَوْ تُعْرِضُوا) ، فكان قوله: (وَإِنْ تَلْوُوا) ، كقوله: إن أقبلتم عليهم ولم تعرضوا عنهم.
فإن قلت: فهل يجوز أن يكون في «تلوا» دلالة على المواجهة فتجعل قوله (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ) «3» منقولاً من هذا ثم اقتضى المواجهة، وتستدل على ذلك بمعادلته: على خلاف، الذي هو الإعراض.
فالقول إن ذلك في هذه الكلمة ليس بالظاهر، ولا في الكلمة دلالة على هذه المخصوصة التي جاءت في قوله: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) «4» .
وإذا لم يكن عليها دلالة، لم يصرفها عن الموضع الذي/ جاء فيه فلم يتعدها إلى سواها.
وقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) «5» فالضمير في «عنه» إذا جعلته للرسول احتمل أمرين:
(لا تَوَلَّوْا عَنْهُ) : لا تنفضوا عنه، كما قال: (انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) «6» .
__________
(1) آل عمران: 111.
(2) النساء: 135.
(4- 3) البقرة: 144.
(5) الأنفال: 20.
(6) الجمعة: 11.

(2/448)


وقال: (وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) «1» وقال: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) «2» .
وعلى هذا المعنى قوله تعالى: (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) «3» أي: بعد أن تتفرقوا عنها. ولا يكون «لا تولوا عنه» : لا تعرضوا عن أمره، وتلقوه بالطاعة والقبول. كما قال عز وجل: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) «4» .
ومن إضمار المفعول قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) »
المعنى:
فمن شهد منكم المصر في الشهر.
فحذف المفعول لا بد من تقديره، لأن المسافر شاهد الشهر، ولا يلزمه الصوم، بل يجوز له الإفطار، فانتصاب الشهر على الظرف، وإنما قال:
«فليصمه» : ولم يقل، فليصم فيه، والظروف إذا كنى عنها رد حرف الظرفية معها، لأنه قد اتسع فيها، ونصبه نصب المفعول بعد أن استعمله ظرفاً.
واعلم أن «شهد» فعل استعمل على ضربين:
أحدهما: الحضور والآخر: العلم.
فالذي معناه الحضور، يتعدى إلى مفعول.
__________
(1) النور: 62.
(4- 2) النور: 63. [.....]
(3) الأنبياء: 57.
(5) البقرة: 185.

(2/449)


ويدلك على ذلك قوله:
لو شهد عاد في زمان عاد «1»
وقوله:
ويوماً شهدناه سليماً وعامراً
فتقدير هذا: شهدنا فيه.
ومن ذلك قوله:
شهدنا فما نلقى [به] من كتيبة ... يد الدّهر إلّا جبرئيل أمامها
فهذا محذوف المفعول، التقدير فيه: شهدنا المعركة، أو: من تجمع لقتالنا.
ومنه قوله:
لقد شهدت قيس فما كان نصرها ... قتيبة إلا عضها بالأباهم «2»
فهذا الضرب المتعدي إلى مفعول واحد إذا نقل بالهمزة تعدى إلى المفعولين، تقول: شهد زيد المعركة، وأشهدته إياها.
فمن هذا قوله: (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) «3» لما نقل بالهمزة صار الفاعل مفعولاً، والتقدير: ما أشهدتهم/ فعلى. وال «فعل» في أنه مفعول ثان، وإن كان غير عين، مثل «زيد» ، ونحوه من الأسماء المختصة.
وقالوا: امرأة مشهد، إذا كان زوجها شاهداً لم يخرج في بعث من غزو وغيره.
__________
(1) صدر بيت، وعجزه:
لابتزها مبارك الجلاد
أراد: شهد، بكسر الهاء فسكنه تخفيفا. ومبارك الجلاد: وسط الحرب ومعظمها. يقول: لو شهد الممدوح عادا في الحرب لفاز عليها وفاز بمعظم الحرب دونها. (المخصص 17: 42- الكتاب 2:
27- البحر 4: 323) .
(2) البيت للفرزدق. يريد: الأباهيم، غير أنه حذف، لأن القصيدة ليست مردفة.
(3) الكهف: 51.

(2/450)


وامرأة مغيب، إذا لم يشهد زوجها، فكأن المعنى: ذات غيبة، أي: ذات غيبة وليها، وذات شهادة وليها. والشهادة خلاف الغيبة، قال الله تعالى:
(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) «1» .
فهذا في المعنى قريب من قوله: (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) «2» (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) «3» .
وأما «شهدت» الذي بمعنى «علمت» فيستعمل على ضربين:
أحدهما: أن يكون قسماً.
والآخر: أن يكون غير قسم.
فاستعمالهم إياه قسماً، كاستعمالهم: علم الله، ويعلم الله، قسماً. تقول:
علم الله لأفعلن، فتلقّاه بما يتلقى به الأقسام، وأنشد سيبويه:
ولقد علمت لتأتين منيتي ... إن المنايا لا تطيش سهامها «4»
وتقول: أشهد بالله إنك لذاهب، وأشهد إنك لذاهب.
قال: وحدثنا أبو الحسن أن محمداً قال: إن زفر يذهب إلى أنه إذا قال: أشهد بالله، كان يميناً فإن قال «أشهد» ولم يقل «بالله» لم يره يمينا.
__________
(1) التغابن: 18.
(2) النمل: 25.
(3) الأنعام: 3.
(4) البيت للبيد. (الكتاب 1: 456) .

(2/451)


قال: وقال محمد: «أشهد» غير موصولة بقولك «بالله» في أنه يمين، كقولك: أشهد بالله.
وقال: واستشهد محمد على ذلك بقوله: (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) «1» .
وقال: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) «2» .
فجعله يميناً ولم يوصل بقوله «بالله» .
وأما «شهدت» الذي يراد به «علمت» ، ولا يراد به اليمين، فهو ضرب من العلم مخصوص. وكل شهادة علم، وليس كل علم شهادة.
ومما يدل على اختصاصها بالعلم، انه [لو] «3» قال عند الحاكم: أعلم أن لزيد على عمرو عشرة، لم يحكم به حتى يقول: أشهد.
فالشهادة مثل التيقن في أنه ضرب من العلم مخصوص، وليس كل علم تيقناً، وإن كان كل تيقن علماً، وكان التيقن هو العلم الذي عرض لعالمه إشكال فيه.
__________
(1) المنافقون: 1.
(2) المنافقون: 1، 2.
(3) تكملة يقتضيها السياق.

(2/452)


نتبين ذلك في قصة ابراهيم عليه السلام (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) «1» ويبين ذا قول رؤبة:
/ يا دار عفراء ودار البخدن ... أما جزاء العالم المستيقن
فلو لم يكن في «المستيقن» زيادة معنى، لم يكن في الوصف الأول، لم يحسن هذا الكلام، وكان غير مفيد، وهذا كقول زهير:
فلأياً عرفت الدار بعد توهم «2»
وقال بعد:
فلما عرفت الدار «3»
أي: عرفتها بعد إشكال أمرها والتباسها علي.
وعلى هذا قول الآخر:
حيّوا الدّيار وحيوا ساكن الدار ... ما كدت أعرف إلا بعد إنكار
وكان معنى: أشهد أيها الحاكم على كذا، أي: أعلمه علماً يحضرني قد تذلل لي فلا أتوقف عنه ولا أتلبث فيه، لوضوحه عندي وتبينه لي وليس كذلك سبيل المعلومات كلها.
ألا ترى أن منها ما يحتاج إلى توقف فيه واستدلال عليه، وتذليل له ويدل على هذا، وأن الشهادة يراد بها المعنى الزائد على العلم، أنه لا يخلو من أن يكون العلم مجرداً مما ذكرناه، أو العلم مقترناً بما وصفناه من المعاني، والذي يدل على أنه المقترن بالمعنى، الذي ذكرنا.
__________
(1) الأنعام: 75.
(2) عجز بيت صدره:
وقفت بها من بعد عشرين حجة
[.....]
(3) جزء من بيت، والبيت كاملا:
فلما عرفت الدار قلت لربعها ... ألا أنعم صباحا أيها الربع واسلم

(2/453)


وقوله تعالى: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) «1» ، وقوله: (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) «2» .
فلو كان معنى «شهد» العلم خالياً من هذه المعاني، لكان المعنى:
وما علمنا إلا بما علمنا، ومن علم الحق لم يقل: بما علما إلا ما علمنا، وهو يعلم.
فإذا لم يسهل حمله على هذا، علم أن معناه ما ذكرنا.
و «شهد» في هذا الوجه يتعدى بحرف جر، فتارة يكون الباء والأخرى «على» .
ومما يعدّى ب «على» قوله تعالى: (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) «3» ، وقوله تعالى: (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ) «4» ، و (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ) «5» ، وَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ)
«6» .
ومن التعدي بالباء قوله تعالى: (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) «7» ، و (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ) «8» ، وقوله تعالى: (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ) «9» .
فإذا نقل بالهمزة، زاد بالهمزة مفعول، كسائر الأفعال المتعدية إذا نقلت بالهمزة.
وقال عز من قائل: (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) «10» .
فأما قوله: (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) «11» ، فمن الشهادة التي هي الحضور، كأنهم ونجوا على ما قالوا مما لم يحضروه/ مما حكمه أن يعلم بالمشاهدة.
__________
(8- 1) الزخرف: 86.
(2) يوسف: 81.
(3) فصلت: 21.
(4) فصلت: 20.
(5) النور: 24.
(6) الأنعام: 130.
(7) يوسف: 81.
(9) النور: 6.
(10) الأعراف: 172.
(11) الزخرف: 19.

(2/454)


ومن قرأ (أشهدوا خلقهم) «1» فالمعنى: أو أحضروا ذلك؟ وكان الفعل يتعدى إلى مفعولين بعد النقل، فلما بني للمفعول به نقص مفعول، فتعدى الفعل إلى مفعول واحد.
ويقوي هذه القراءة قوله تعالى: (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) «2» ، فتعدى إلى مفعولين، لما بني الفعل للفاعل.
فأما قوله تعالى: (إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ) «3» ، فعلى إعمال الثاني، كما أن قوله تعالى: (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) «4» ، كذلك، والتقدير:
إني أشهد الله أنى برئ، وأشهد أنى برئ. فحذف المفعول الأول على حد:
ضربت وضربني زيد.
وهذا منقول من: شهد بكذا، إلا أن حرف الجر يحذف مع «أن» .
ومن حذف المفعول قوله تعالى: (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) «5» أي: اتقى محارم الله.
وكذلك: (لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ) «6» أي: اتقى محارمه.
وقال: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) «7» .
وقال: (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) «8» .
ف «هلك» لازم في المعروف، و «يهلك» متعد، وقد جاء «هلك» متعديا، وأنشدوا:
__________
(1) الزخرف: 19.
(2) الكهف: 51.
(3) هود: 54. [.....]
(4) الكهف: 96.
(5) البقرة: 189.
(6) البقرة: 203.
(7) الأنفال: 42.
(8) البقرة: 205.

(2/455)


ومهمهٍ هالك من تعرجا «1»
فكأنه قال: هالك من تعرج فيه، أي: هالك المتعرج، «فمن تعرج» ، على هذا التقدير، فاعل في المعنى، وعلى تقدير من حمله على «مهلك» أنه حذف مفعوله في المعنى، بمنزلة: ضارب زيد.
ومن حذف المفعول قوله: (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) «2» ، أي: يغفر الذنوب، في جميع التنزيل.
ومن ذلك قوله تعالى: (لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) «3» .
قال أبو علي: يحتمل وجهين:
يجوز أن يكون من النسيان، الذي هو خلاف الذّكر، و «الخطأ» ، من الإخطاء، الذي ليس التعمد.
ويجوز أن يكون من «نسينا» ، على: أن تركنا شيئاً من اللازم لنا.
ومثله قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) «4» أي: ترك عهدنا إليه.
ومنه قوله: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) «5» .
أي: لم يلطف لهم كما يلطف للمؤمنين في تخليصهم أنفسهم من عقاب الله. والتقدير: ولا تكونوا كالذين نسوا أمر الله أو طاعته، فأنساهم تخليص نفسهم من عذاب الله.
__________
(1) الشعر للعجاج.
(2) البقرة: 284.
(3) البقرة: 286.
(4) طه: 115.
(5) الحشر: 19.

(2/456)


وجاز أن ينسب الإنساء إلى الله، وإن كانوا هم/ الفاعلون له، والمذمومون عليه، كما قال: (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى) «1» .
فأضاف الرمي إلى الله، لما كان يقويه إقداره، فكذلك نسب الإنساء إليه لما لم يلطف لهذا المنسي كما لطف للمؤمن الذي قد هدى.
وكذلك قوله تعالى: (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) «2» أي:
الاستعداد للقاء يومكم هذا، والعمل من التخلص من عقابه.
وأما قوله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) «3» فعلى معنى الترك، لأنه إذا كان المقابل للذكر لم يكن مؤاخذاً.
وقوله تعالى: (وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) «4» أي: نسي السامري أي: ترك التوحيد باتخاذه العجل، وقيل: نسي موسى ربه عندنا، وذهب يطلبه في مكان آخر.
وأما قوله تعالى: (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) «5» . فإن إنساء الشيطان هو أن يسول له، ويزين الأسباب التي ينسى معها. وكذلك: (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) «6» .
ويجوز أن يكون الضمير في «أنساه» ليوسف، أي: انسى يوسف ذكر ربه.
كما قال: (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى) «7» .
__________
(1) الأنفال: 17.
(2) الجاثية: 34.
(3) الكهف: 24.
(4) طه: 88. [.....]
(5) يوسف: 42.
(6) الكهف: 63.
(7) الأنعام: 68.

(2/457)


ويجوز أن يكون الضمير في «أنساه» للذي ظن أنه ناج منهما، ويكون ربه ملكه.
وفي الوجه الأول، يكون «ربه» الله سبحانه وتعالى، كأنه أنساه الشيطان أن يلجأ إلى الله في شدته.
وأما قوله تعالى: (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) «1» .
والتقدير: تنسون دعاء ما تشركون، فحذف المضاف، أي: تتركون دعاءه والفزع إليه، وإنما يفزعون إلى الله- سبحانه وتعالى. ويكون من النسيان الذي هو خلاف الذكر، كقوله تعالى: (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) «2» أي: تذهلون عنه فلا تذكرونه.
وقال: (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) «3» .
فهذا يجوز أن يكون منقولاً من الذي بمعنى الترك، ويمكن أن يكون من الذي هو خلاف الذكر، واللفظ على: أنهم فعلوا بكم النسيان.
والمعنى: أنكم أنتم أيها المتخذون عبادي سخرياً/ نسيتم ذكري، باشتغالكم باتخاذكم إياهم سخرياً، وبالضحك منهم، أي: تركتموه من أجل ذلك، وإن كانوا ذاكرين غير ناسين. فنسب الإنساء إلى عباده الصالحين وإن لم يفعلوا، لما كانوا كالسبب لإنسائهم.
فهذا كقوله: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) «4» .
__________
(1) الأنعام: 41.
(2) الإسراء: 67.
(3) المؤمنون: 110.
(4) إبراهيم: 36.

(2/458)


وعلى هذا قوله تعالى: (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) «1» فأسند النسيان إليه، والمعنى على أنهم نسوا ذلك.
وأما قوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) «2» فالأشبه أن يكون من الذي هو خلاف الذكر. وهذا أشبه من أن يحمل على ما يراد به الترك.
وذلك أن النبي، صلى الله عليه وعلى آله، كان إذا نزل عليه القرآن أسرع القراءة وأكثرها مخافة النسيان، فقال: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) «3» أي تنساه، لرفعه ذلك بالنسيان كرفعه إياه بالنسخ بآية أو سنة.
ويؤكد ذلك قوله تعالى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)
«4» .
وقوله تعالى: (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) «5» فحمل قوله: «فلا تنسى» ، إذا كان يسلك هذا المسلك، ليس بالوجه.
ومما حذف المفعول قوله: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) «6» أي: بشرهم بالجنة.
ومن حذف المفعول قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) «7» أي كحب الله المؤمنين. فالمصدر مضاف إلى الفاعل، والمفعول محذوف.
__________
(1) الحشر: 19.
(2) الأعلى: 6.
(3) الأعلى: 6.
(4) القيامة: 16 و 17 و 18
(5) طه: 114.
(6) الصف: 13.
(7) البقرة: 165. [.....]

(2/459)


وإن شئت كان: كحب المؤمنين الله، فحذف الفاعل، والمضاف إليه مفعول في المعنى.
ويقوي الأول قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) «1» .
ومثله: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) «2» إن شئت، كان التقدير: أقم الصلاة لأذكرك، فيكون مضافاً إلى الفاعل. وإن شئت كان التقدير:
لذكرك إياي فيها.
كقوله تعالى: (فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) «3» أي: عن ذكرهم إياي.
ومثله: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) «4» إن شئت كان التقدير: ولذكركم الله أكبر من كل شيء، فحذف الفاعل، وأضافه إلى المفعول، كما قال: (مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) «5» ، أي: من دعائه الخير.
وقال: (بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) «6» أي: بسؤاله نعجتك.
وقال: (رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) «7» أي: هذا ذكر الله رحمة/ عبده، فحذف الفاعل، وأضاف إلى المفعول، وهو الرحمة، والرحمة مضاف إلى الفاعل.
ونصب «بعضا» به، كقوله: (كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) «8» .
__________
(1) البقرة: 165.
(2) طه: 14.
(3) الكهف: 101.
(4) العنكبوت: 45.
(5) فصلت: 49.
(6) ص: 24.
(7) مريم: 2.
(8) الحجرات: 2.

(2/460)


وكقوله: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) «1» أي: أن دفع الله الناس، فأضاف إلى الفاعل ونصب المفعول به.
ومنه قوله تعالى: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) «2» أي: من بعد أن غلبهم الفرس «3» يغلبون الفرس «4» ، فالمصدر مضاف إلى المفعول وقد حذف الفاعل، كأن المشركين سرتهم غلبة الفرس «5» الروم، فرجع أبو بكر إلى النبي- صلى الله عليه وعلى آله- وأخبره بأنه ذكر للمشركين ذلك، وأن بينه وبينهم خطراً، والصديق ضرب المدة في ثلاث سنين.
فالنبي- صلى الله عليه وآله- أمره أن يرجع إليهم، ويزيد في الأجل وفي الخطر، ففعل ذلك.
وقرأها الحسن: (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) «6» مرتباً للمفعول به. وقرئ:
(غُلِبَتِ الرُّومُ) بفتحتين. مرتباً للفاعل. وفسر ابن عمر: غلبت الروم على أدنى ريف الشام. يعني بالريف: السواد، فيكون المصدر- أعني «من بعد غلبهم» - مضافاً إلى الفاعل، أي: من بعد أن غلبوا على الريف.
وهذه القراءة أيضاً مروية عن علي وابن عمر وابن عباس ومعاوية عن قرة.
ومثله: (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) «7» .
__________
(1) البقرة: 251- الحج: 40.
(6- 2) الروم: 1 و 2 و 3.
(5- 4- 3) في الأصل: «الفارس» .
(7) ص: 32.

(2/461)


أي: عن ذكرى ربي، فحذف الفاعل وأضاف إلى المفعول، يعني به صلاة العصر.
وقال قوم: بل التقدير: عن ذكر ربي إياي حيث أمرني بالصلاة، فيكون قد حذف المفعول والمصدر.
ويجوز إضافته إلى الفاعل، وينصب به المفعول.
ويجوز حذف المفعول، إذا أضيف إلى الفاعل به.
ويجوز إضافته إلى المفعول ورفع الفاعل.
ويجوز في هذا الوجه حذف الفاعل.
ويجوز أن ينون، يرفع الفاعل به، وينصب المفعول.
ويجوز حذف الفاعل مع التنوين، وحذف المفعول مع التنوين.
فمما جاء من ذلك في التنزيل قوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً) «1» «شيئا» ينتصب/ ب «رزقا» ، أي: ما لا يملك لهم أن يرزقوا شيئاً. فحذف الفاعل، ونصب المفعول بالمصدر المنون.
وأما قوله: (قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولًا) «2» . فيجوز أن ينتصب رسولا ب (ذكرا) أي: أنزل الله إليكم بأن ذكر رسولاً. ويجوز أن ينتصب بفعل مضمر، أي: أرسل رسولا.
__________
(1) النحل: 73.
(2) الطلاق: 10 و 11. [.....]

(2/462)


ويجوز أن يكون التقدير: أنزل الله إليكم ذا ذكر رسولاً، فحذف المضاف، ويكون «رسولاً» بدلاً منه.
ومن ذلك قوله تعالى: (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً) «1» أي:
أن تطعم يتيما، فنصب «يتيما» ب «إطعام» .
وأما قوله تعالى: (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) «2» .
فمن نون احتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون «ذكري» بدلاً من «الخالصة» ، تقديره: إنا أخلصناهم بذكر الدار.
ويجوز أن يقدر في قوله: «ذكري» التنوين، فيكون «الدار» في موضع نصب، تقديره: بأن يذكروا الدار، أي: يذكرون بالتأهب للآخرة ويزهدون في الدنيا.
ويجوز ألا يقدر البدل، ولكن تكون «الخالصة» مصدراً.
فتكون مثل: (مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) «3» فيكون المعنى: بخالصة تذكير الدار.
ويقوي هذا الوجه: ما روي من قراءة الأعمش: (بخالصتهم ذكر الدار) فهذا يقوي النصب، ويقوي أن من نون «خالصة» أعملها في «ذكرى الدار» ، كأنه: بأن أخلصوا تذكير الدار.
فإذا نونت «خالصة» احتمل أمرين:
أحدهما، أن يكون المعنى: بأن خلصت لهم ذكرى الدار، فيكون «ذكرى» في موضع رفع بأنه فاعل.
__________
(1) البلد: 14 و 15.
(2) ص: 46.
(3) فصلت: 49.

(2/463)


والآخر: أن تقدر المصدر الذي هو «خالصة» من الإخلاص، فحذفت الزيادة كما حذفت من نحو: دلو الدالي، ونحوه:
فيكون المعنى: بإخلاص ذكرى، فيكون في موضع نصب، كانتصاب لاسم في: عمرك الله الدار، ويجوز أن يعنى بها الآخرة.
والذي يدل على أنه يجوز أن يراد بها الدنيا: قوله تعالى في الحكاية عن ابراهيم: (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) «1» .
وقوله تعالى: (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) «2» ، فاللسان هو القول الحسن والثناء عليه، وليس اللسان هنا الجارحة.
وأما جواز كون «الدار الآخرة» في قوله تعالى: (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) «3» فيكون: ذلك بإخلاصهم ذكرى الدار، ويكون/ ذكرهم لها وجل قلوبهم منها ومن حسابها.
كما قال: (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) «4» ، (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) «5» .
__________
(1) الشعراء: 84.
(2) مريم: 50.
(3) ص: 46.
(4) الأنبياء: 49.
(5) النازعات: 45.

(2/464)


ف «الدار» مفعول بها، وليست كالوجه الآخر المتقدم.
وأما من أضاف فقال: (بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) «1» فإن «الخالصة» تكون على ضروب: تكون للذكر وغير الذكر.
فإذا أضيفت إلى «ذكرى» اختصت «الخالصة» بهذه الإضافة، فتكون الإضافة إلى المفعول به، بإخلاصهم ذكرى الدار، أي: أخلصوا ذكرها والخوف منها لله.
ويكون على إضافة المصدر، الذي هو «الخالصة» إلى الفاعل، تقديره:
بأن خلصت لهم ذكرى الدار.
و «الدار» على هذا يحتمل الوجهين اللذين تقدما من كونها للآخرة والدنيا.
وأما المصدر المعرف باللام فإنهم كرهوا إعماله، ومع ذلك فقد جاء في التنزيل في موضعين:
أحدهما قوله تعالى: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) «2» .
ف «من» في موضع الرفع من «الجهر» ، أي: لا يحب الله أن يجهر بالسوء من القول إلا المظلوم.
والموضع الآخر قوله تعالى: (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ) «3» أي: أن يشفع أحد إلا الشاهد بالحق.
__________
(1) ص: 46.
(2) النساء: 148.
(3) الزخرف: 86.

(2/465)


ومن حذف المفعول قوله تعالى: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) «1» .
إن أضمرت المفعول به، كما أضمر في قوله: (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) «2» ، والمعنى: كلما أضاء لهم البرق الطريق مشوا فيه، جاز ذلك.
وحذف المفعول وإرادته قد كثر عنهم، فلا يكون (أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) «3» على هذا التأويل مراداً، ولكن يكون مفعولاً له، ويكون المفعول المحذوف كأنه: أنا أريد كفك عن قتلي وامتناعك منه. ونحو ذا مما يدل عليه قوله تعالى:
(ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) «4» .
ألا ترى أن معنى هذا أنه يريد الكف والامتناع عن مقاتلته، والتقدير:
إني أريد كفك عن قتلي كراهة أن تبوء بإثمي وإثمك، ولأن تبوء بإثمي وإثمك.
وقال: (قَتْلَ أَخِيهِ) «5» أي: قتله أخاه، فحذف الفاعل، وقال: (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) «6» / المصدر فيه مضاف إلى الفاعل.
والمعنى: أنكم أشركتم الآلهة مع الله- سبحانه- وكفرتم، كقوله:
(تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) «7» في نحو آي تشبهها.
وقوله: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) «8» أي: يحبون الأنداد كحب الله، فحذف على ما تقدم.
__________
(3- 1) المائدة: 29.
(2) البقرة: 20.
(4) المائدة: 28. [.....]
(5) المائدة: 30.
(6) فاطر: 14.
(7) القصص: 63.
(8) البقرة: 165.

(2/466)


ومثل ذلك جميع ما جاء في التنزيل من قوله تعالى:
(وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) «1» (وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) «2» .
فالمصدر مضاف إلى المفعول، و «جزى» فعل يتعدى إلى مفعولين، قال الله تعالى: (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) «3» أي: سكنى جنة.
قال أبو علي في قوله تعالى: (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) «4» أي: جزيتهم بجزاء ما صبروا.
ألا ترى أنهم لا يجزون صبرهم، إنما يجزون جزاء صبرهم، عما حظر عليهم ونهوا عنه.
وكذلك: (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) «5» أي جزاء أعمالكم، إذ أنهم لا يجزون تلك الأعمال التي عملوها، ولكن جزاءها والثواب عليها.
وأما قوله تعالى: (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) «6» فيكون على: وجزاهم بصبرهم سكنى جنة ولباس حرير، فيكون على الإلباس والإسكان الجزاء.
وكذلك ما ذكر من قوله تعالى: (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) «7» أي: جزاهم جنة، أي: سكنى جنة دانية عليهم ظلالها، فيكون في المعنى كقوله:
(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) «8» .
__________
(1) المائدة: 29.
(2) المائدة: 85.
(3) الإنسان: 12.
(4) المؤمنون: 111.
(5) الجاثية: 28.
(6) الإنسان: 12.
(7) الإنسان: 14.
(8) الرحمن: 46.

(2/467)


ومن حذف المفعول قوله تعالى: (فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً) «1» . تقديره: الذين اتخذوهم قرباناً آلهة.
«قربان» لفظه مفرد في معنى الجمع، كما أريد به التثنية في قوله:
(إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) «2» .
والمعنى: قرب كل واحد منهما قرباناً، فحذف المضاف. يقوي ذلك أن «قرباناً» جمع أنه قد جمع في قول ابن مقبل:
كانت لساسته تهدى قرابيناً «3»
فلو كان هذا على الظاهر، لثني، كما جمع «القرابين» في قول ابن مقبل و «قربان» فى الأصل مصدر ك «غفران» ، فمن أفرد، حمل على الأصل، ومن جمع، اعتبر اللفظ، لأنه صار اسماً، وخرج عن المصدرية، كقوله:
لله در اليوم من لامها «4»
ألا ترى أنه قال: هو بمنزلة: لله بلادك.
وأما قوله: (سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) «5» ف «من» مبتدأ الاستفهام، و «يأتيه» الخبر و «يخزيه» صفة العذاب، و «العلم» معلق، مثلها في: علمت «6» من في الدار، (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) ، «من» استفهام أيضا، و «هو كاذب» مبتدأ وخبر، في موضع خبر «من» .
__________
(1) الأحقاف: 28.
(2) المائدة: 27. [.....]
(3) صدره:
من مشرف نيط البلاط به
(جمهرة أشعار العرب 332) .
(4) عجز بيت لعمرو بن قميئة، وصدره:
لما رأت ساتيدما استعبرت
وساتيدما: جبل.
(5) هود: 93.
(6) في الأصل: «عملت» .

(2/468)


وليس «من» موصولة، لأنه معطوف على «من يأتيه» ، وهو مبتدأ وخبر، لأنها علقت «العلم» ، والموصولة لا تعلّق.
وأما قوله تعالى: (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) «1» ، «أروني» هنا منقولة من: رؤية القلب. و «شركاء» المفعول له الثالث.
ويقويه: (أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) «2» . فأقام الجملة الاستفهامية مقام المفعولين.
و «ألحقتم» من قوله: ألحق الحاكم الولد بأبيه، أي: حكم بذلك، والمعنى على ذلك، لأن التقدير: دلوني على هذا الذي تدعونه، وهو من باب علم القلب.
وإن جعلت «أروني» من «رؤية البصر» كان «شركاء» حالاً، أي: أوجدونيهم مشركين، أي: في هذه الحال، ويكون من «رؤية العين» ، لأن الضلال قد يكون اعتقاداً فلا يحس.
وإن جعلته من «رؤية البصر» جاز، لأنه أراد: عبادة الأصنام، وذلك مما يحس، فيكون (شُرَكاءُ) «3» على هذا حالاً «4» ويقوي ذلك قوله تعالى: (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) «5» فلم يذكر المفعول الثالث.
__________
(3- 1) سبأ: 27.
(2) الأحقاف: 4.
(4) السياق يشعر بتكرار.
(5) الأنعام: 75.

(2/469)


ويمكن أن يقال: إنه محذوف «أي «منا» فيكون «كذلك» حالاً.
ويجوز أن يكون «كذلك» هو المفعول الثالث.
وأما قوله تعالى: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) «1» ، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) «2» ، (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ) «3» .
«ما» فيه استفهام.
فمما يدل على ذلك قوله تعالى: (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً) . «4» ألا ترى أن «ما» لا تخلو فيه من أن تكون استفهاماً أو موصولة.
فلو كان صلة لم يخل من ذكر عائد إلى الموصول، فلما جاء (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً) «5» . فلم يذكر «هو» دل على أنه استفهام وليس بوصل.
فأما قوله تعالى: (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) «6» تكون الموصولة، والعائد قد حذف من اسم الفاعل، كما يحذف من الفعل، وحذفه من اسم الفاعل لا يكثر كثرة حذفه من الفعل.
ولو جعلت «ما» استفهاماً معناه الرفع، والوضع: مما يقتضيه، يريد:
أن ما/ يقتضيه ليس في شيء، لأنك إنما تقتضي في العاجلة. ولو جعلت موضع «ما» نصبا ب «قاض» لكان قولا.
__________
(1) هود: 39.
(2) الأنعام: 135.
(3) السجدة: 17.
(4) الجن: 24.
(5) الجن: 24.
(6) طه: 72. [.....]

(2/470)


وأما قوله تعالى: (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) «1» فنقول: من قال «يرون» يحتمل رؤية العين، ورؤية القلب، فمن قال: هو من رؤية القلب، ففي المعنى يتعدى إلى مفعولين، فإذا جعلتها المتعدية إلى مفعولين سد مسدهما. وأن تكون من رؤية العين أولى لأنهم يستنظرون في مشاهدة ذلك، والإعراض عنه، وترك الاعتبار به، وهذا أبلغ في هذا الباب من المتعدية إلى مفعولين ألا ترى أن تارك الاستدلال أعذر من المنصرف عما يشاهد.
ومن قرأ (أَوَلا يَرَوْنَ) فبنى الفعل للمفعول به، كان «أنّ» فى موضع نصب «أنه» مفعول الفعل الذي يتعدى إلى مفعول واحد، وذلك أنك تقول: رأى عمرو كذا وتقول: أرأيت عمراً كذا، فيتعدى إلى مفعولين بالنقل، فإذا بنيت الفعل للمفعول به تعدى إلى مفعول واحد، كالدرهم، في قولك: أعطى زيد درهماً.
ولا يكون «يرون» هنا كالتي في قولك: أرى زيداً منطلقاً، لأن المعنى: ليس على: يظنون أنهم يفتنون في كل عام إنما المعنى: على أنهم يشاهدون ذلك ويعلمونه علم مشاهدة.
وليس المعنى: أنهم يظنون الفتنة في كل عام لأن الظن في الفتنة ليس بموضع اعتبار، وإنما فزعوا على ترك الاعتبار بالمشاهدة، وأنهم مع ذلك لا يتوبون ولا يذكرون فيعتبروا ويتنبهوا على ما يلزمهم الانتهاء والإقلاع عنه.
__________
(1) التوبة: 126.

(2/471)


فهذا وجه قراءة من ضم «الياء» أن قرئ به.
قوله تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) «1» دخلت اللام في «إبراهيم» على حد دخولها في: (رَدِفَ لَكُمْ) .
ألا ترى أن «بوأ» يتعدى إلى مفعولين، قال: (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) «2» .
وقال: (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) «3» .
فيجوز أن يكون «المبوأ» المفعول الثاني، كما أن (مَكانَ الْبَيْتِ) كذلك، كل واحد منهما يجوز أن يكون ظرفاً، و «أن» من قوله: (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) «4» .
يجوز أن يكون/ بمعنى «أي» ، لأن ما قبلها كلام تام، ويجوز أن تكون الناصبة للفعل، وصلت بالنهي كما توصل بالأمر.
ويجوز أن يكون تقديره لإبراهيم، أي: لمكان إبراهيم، أي: مكان دعوته، وهو قوله: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) «5» .
وأما قوله: (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما) «6» ، فكالتي في قوله: (رَدِفَ لَكُمْ) «7» ، والمفعول الأول كعلامة الضمير في قوله: (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) «8» .
__________
(1) الحج: 2.
(2) العنكبوت: 58.
(3) يونس: 93.
(4) الحج: 26.
(5) إبراهيم: 37.
(6) يونس: 87.
(7) النمل: 72.
(8) العنكبوت: 58.

(2/472)


ألا ترى أن المطاوع من الأفعال على ضربين:
أحدهما: لا يتعدى، نحو: انشوى، وانتأى، فى مطاوع: شويته، ونأيته.
والآخر: أن يتعدى كما تعدى ما هو مطاوع له، وذلك نحو: تعلقته، وتقطّعته، ف «تعلقته» يتعدى كما تعدى «علقته» ، وليس فيه أن ينقص مفعول المطاوع عما كان يتعدى إليه ما هو مطاوع له.
فإذا كان كذلك، كان «اللام» على الحد الذي ذكرنا.
ويقوي ذلك قوله تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) «1» . فدخلت «اللام» على غير المطاوع في قوله: (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما) . «2»
فأما قوله: (مَكانَ الْبَيْتِ) «3» ، فيحتمل ضربين:
أحدهما: أن يكون ظرفاً.
والآخر: أن يكون مفعولاً ثانياً.
فأما الظرف: فيدل عليه قول ابن هرمة:
وبوئت في صميم معشرها ... وتم في قومها مبوؤها «4»
فكما أن قوله «في صميم معشرها» ظرف، كذلك يكون (مَكانَ الْبَيْتِ) .
والمفعول الثاني الذي ذكر في قوله تعالى: (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) «5» لم يذكره في هذه، لأن الفعل من باب «أعطيت» ، فيجوز ألا يذكر، ويقتصر على الأول.
__________
(3- 1) الحج: 26.
(2) يونس: 87.
(4) يريد: نزلت من الكرم في صميم النسب.
(5) العنكبوت: 58.

(2/473)


ويجوز أن يكون «مكان البيت» مفعولاً ثانياً.
وكذلك قوله: (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) «1» فيجوز أن يكون:
مكاناً مثل مكان البيت، والمفعول الثاني فيه محذوف، وهو: القرية، التي ذكرت في قوله: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها) «2» .
ويجوز أن يكون مصدراً، أي: تبوأ صدق.
ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً من وجهين:
أحدهما: أن/ تجعله اسماً غير ظرف.
والآخر: أن تجعله اسماً بعد أن استعملته ظرفاً، كما قال:
... وسطها قد تفلقا «3»
وفي التنزيل: (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ) «4» .
ويجوز فيه وجه ثالث: وهو أن يمتنع، فيقرر نصبه، بأن كان مصدراً انتصب انتصاب المفعول به.
وقوله: (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) «5» فتقديره: بوأكم في الأرض منازل، أو بلاداً، وانتصاب قوله: (بُيُوتاً) «6» على أنه مفعول به، وليست بظرف لاختصاصها بالبيوت.
__________
(1) يونس: 93. [.....]
(2) البقرة: 58.
(3) جزء من بيت للفرزدق، والبيت بتمامه:
أتته بمجموش كأن جبينه ... صلاية ورس وسطها قد تفلقا
(الديوان: 596) .
(4) آل عمران: 163.
(6- 5) الأعراف: 74.

(2/474)


كال «غرف» في قوله: (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) «1» .
فأما قوله: (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) «2» ، فيجوز في قياس قول أبي الحسن أن يكون قوله «من الجنة» كقولك: نتبوأ الجنة فأما قوله: (حَيْثُ نَشاءُ) فيحتمل أن يكون ظرفاً.
فإذا جعلته ظرفاً، كان المفعول الثاني محذوفاً، كأنه: نتبوأ الجنة منازلها حيث نشاء.
ويجوز أن يكون «حيث نشاء» في موضع نصب، بأنه المفعول الثاني و «بوأته منزلاً» من قولك: باء فلان منزلاً، أي: لزمه، وتعديه إلى مفعولين، وإن كنا لا نرى ذلك، ولكن يدل على ذلك «المباءة» وقالوا في «المباءة» هي المراح تبيت فيه، ف «المباءة» اسم المكان.
فإذا كان اسم المكان: مفعلاً، أو مفعلة، فالفعل منه قد يكون: فعل، يفعل، أو يفعل فكأنه: باء المنزل، وبوأته أنا المنزل.
ومن حذف المفعول قوله تعالى: (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا) «3» أي: فإن أعطوا شيئاً منها رضوا. وعند الأخفش: إن أعطوها رضوا ومن ذلك قوله تعالى: (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ) «4» . تقديره:
أسكنت ناساً أو جماعة من ذريتي. وعن الأخفش، أسكنت ذريتى.
__________
(1) العنكبوت: 58.
(2) الزمر: 74.
(3) التوبة: 58.
(4) إبراهيم: 37.

(2/475)


ومن ذلك قوله تعالى: (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) «1» أي: أخفى سره، كقوله: (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) «2» وقيل: بل تقديره: بل أخفى من السر، فحذف الجار والمجرور، كقوله:
الله أكبر، أي: أكبر من كل شيء.
ومن حذف المفعول قوله تعالى: (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا) «3» .
وقيل: / التقدير: أتقولون للحق لما جاءكم هذا سحر؟ فحذف الجملة، ثم ابتدأ، فقال: أسحر هذا؟ فحسن الوقف على «جاءكم» .
وقيل: هو على التكرير، كقولك: أتقول: أعندك مال؟ فيكون تأكيداً، لأنك لو قلت: أعندك مال؟ لكفى.
وقيل: يجوز أن يكون حكاية قولهم على التعجب، فيكون قوله «أسحر هذا» مفعول «أتقولون» حكاية بينهم على التعجب.
وزعم الرازي: (لَمَّا جاءَكُمْ) كأنه ذهب إلى قول قاسم: إن التقدير:
أتقولون للحق لما جاءكم هذا سحر! فأضمر المفعول، ثم استأنف فقال:
(أَسِحْرٌ هذا) «4» .
ومن حذف المفعول، قوله تعالى: (أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) «5»
__________
(1) طه: 7.
(2) الجن: 26.
(4- 3) يونس: 77.
(5) المطففين: 3.

(2/476)


التقدير: أو وزنوا لهم ما يوزن يخسرونهم الموزون، فحذف المفعول من «أو وزنوهم» والمفعولين من «يخسرون» .
فأما قوله تعالى: (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ) «1» ف «من» زيادة عند الأخفش، أي: لننزعن كل شيعة، والفعل معلق عند يونس، نحو: علمت لزيد في الدار، لأن النزع هذا يراد به التمييز.
وقال الخليل: هو رفع على الحكاية، على تقدير: من يقال له: أيهم.
وقال سيبويه: هو نصب، مفعول «لننزعن» لكنه بني على الضم، على تقدير: أيهم هو أشد.
وقد ذكرنا وجه كل قول في الخلاف.
وأما قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) «2» فيكون على: تبوءوا دار الهجرة واعتقدوا الإيمان، لأن الإيمان ليس بمكان فيتبوأ، فيكون كقوله: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) «3» .
ويجوز على: تبوءوا الدار مواضع الإيمان.
ويجوز أن يكون: تبوءوا الإيمان، على طريق المثل، كما قال: تبوأ من بني فلان الصميم.
وحذف المفعول كثير جداً.
وأما قوله تعالى: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) «4» .
__________
(1) مريم: 69.
(2) الحشر: 9. [.....]
(3) يونس: 71.
(4) الرعد: 14.

(2/477)


فيجوز أن يكون التقدير: والذين تدعونهم، فحذف العائد إلى «الذين» ، ويعني به الأصنام، والضمير في «تدعون» للمشركين، أي: الأصنام الذين يدعوهم المشركون من دون الله، لا تستجيب لهم الأصنام بشيء.
ويجوز أن يكون التقدير: والمشركون الذين يدعون الأصنام، فحذف المفعول، والعائد إلى «الذين» «الواو» في تدعون.
[وأما قوله تعالى] «1» (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ) «2» [أي] «3» :
إلا كاستجابة باسط كفيه إلى الماء، فالمصدر المحذوف المشبه به في تقدير الإضافة إلى المفعول به، وفاعل المصدر مراد في المعنى، وهو: الماء.
المعنى: كاستجابة باسط كفيه إلى الماء الماء، كما أن معنى:
(بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) «4» ، و (مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) «5» ، لم يذكر معهما الفاعل فكذلك هاهنا. و «اللام» متعلق بالبسط.
وأما قوله: (وَما هُوَ بِبالِغِهِ) «6» فيأتيك في اختلافهم في عود الضمير إلى ما قبله، وهو باب مفرد.
وأما قوله تعالى: (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ) «7» فيجوز فيه التقديران المتقدمان.
يجوز: أولئك الذين يدعونهم يبتغون، فحذف العائد.
ويجوز أن يكون التقدير: أولئك المشركون الذين يدعون غير الله يبتغون إلى ربهم الوسيلة.
وحذف العائد من الصلة إلى الموصول أكثر من أن أحصيه لك في التنزيل.
__________
(3- 1) تكملة يقتضيها السياق.
(6- 2) الرعد: 14.
(4) ص: 24.
(5) فصلت: 49.
(7) الإسراء: 57.

(2/478)


قال: (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) «1» أي: بعثه الله، ولم يأت في الصلة «الهاء» فى التنزيل إلا في مواضع معدودة، منها:
قوله تعالى: (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ) «2» وبعده: (يَعْرِفُونَهُ) «3» في موضعين من البقرة.
وقال الله تعالى: (إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ) «4» .
وقال: (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) «5» في سورة الأنعام.
وقال: (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ) «6» .
وقال: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) «7» .
وقال: (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) «8» .
وقال: (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) «9» من ربك وقال: (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) «10» في الأنعام أيضاً.
وقال: (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) «11» فهذه مواضع، جاء فيها العوائد إلى الموصولات، وهي مفعولات، وأمكن حصرها، ولا يمكن حصر ما حذف لكثرته.
__________
(1) الفرقان: 41.
(2) البقرة: 121.
(3) البقرة: 146.
(4) البقرة: 275.
(5) الأنعام: 20.
(6) الأنعام: 71.
(7) الأعراف: 175. [.....]
(8) الأنعام: 114.
(9) الرعد: 36.
(10) الأنعام: 89.
(11) العنكبوت: 47.

(2/479)


فأمّا إذا اتصل به الجار، فإنه قد جاء محذوفاً في موضعين:
أحدهما قوله: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) «1» أي: خاضوا فيه.
وقال: (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ) «2» / التقدير: ذلك الذي يبشر الله به، فحذف «الباء» ثم «الهاء» .
ويحكى عن يونس أنه أجرى «الذي» في الآيتين مجرى «ما» ، فجعله في حكم المصدر، على تقدير: وخضتم كخوضهم، و: ذلك تبشير الله عباده.
كقوله تعالى: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) «3» أي: بصبركم.
وقال: (كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) «4» أي: نسيانهم. وغير ذلك.
وأما قوله: (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) ، «5» و (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) «6» .
فقد ذكرنا أن التقدير: بما تؤمر به أي، بما تؤمر بالصدع به.
وقد شرحناه في باب حذف المضاف.
وقوله تعالى: (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) «7» أي: بما عهد به عندك، فحذف «به» إن جعلت «ما» موصولة.
ومن ذلك قوله تعالى: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ) «8» .
__________
(1) التوبة: 69.
(2) الشورى: 23.
(3) الرعد: 24.
(4) الأعراف: 51.
(5) الحجر: 94.
(6) الصافات: 102.
(7) الأعراف: 134.
(8) النجم: 26.

(2/480)


المعنى: لا تغني شفاعتهم أن لو يشفعوا، ليس أن هناك شفاعة مثبتة.
فأطلق على المعنى الاسم، وإن لم يحذف، كما قال:
لما تذكرت بالديرين أرقني ... صوت الدجاج وقرع بالنواقيس «1»
والمعنى، انتظار أصواتها. فأوقع عليه الاسم، ولما يكن، فإضافة الشفاعة إليهم كإضافة الصوت إليها.
وقوله: (لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) «2» أي: لمن يشاء شفاعته، على إضافة المصدر إلى المفعول به، الذي هو مشفوع له، ثم حذف المضاف، فصار: لمن يشاؤه، أي: يشاء شفاعته، ثم حذف الهاء «3» ، كما أن «يرضى» تقديره: يرضاه.
ومن ذلك قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) «4» .
«أفرأيتم» بمنزلة «أخبرونى» . و «اللات» المفعول الأول. و «لكم» سد مسد الثاني.
والمعنى: أرأيتم أن جعلتم اللات والعزى بناتاً لله ألكم الذكر؟
فإن قلت: فقد نص على أن الموصول لا يحذف، فكيف ساغ هذا؟
قيل: هذا جائز لأن هذا المعنى قد تكرر، وهو معلوم، ودل على حذفه (أَلَكُمُ الذَّكَرُ) «5» .
__________
(1) البيت لجرير بن عطية بن الخطفي.
(2) النجم: 26. [.....]
(3) في الأصل: «ثم حذف الياء» .
(4) النجم: 19.
(5) النجم: 21.

(2/481)


ومن ذلك قوله: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً) «1» أي: جعلها الله لكم قياما، أي: ذا قوام معايشكم ومعايش سفهائكم.
فعلى هذا «جعل» بمعنى «صير» ، فحذف المفعول الأول، وهو الهاء، والمفعول الثاني المصدر الذي هو بمعنى: القوام.
وقيل: يعني الأموال التي جعلتم قواماً عليها وحفظة لها على السفهاء.
فعلى هذا «قياماً» جمع «قائم» . وهو في معنى الحال، والمفعول مضمر، أي:
جعلها لكم قياماً على هذا، أي: لسفهائكم، كما أن «أموالكم» في أحد التأويلين:
أموال سفهائكم، فحذف، والذكر إلى الموصول كان مجرورا ب «على» ، فحذف كما حذف: كالذي كانوا عليه، أي: جعلكم الله قواما لسفهائكم قياما عليها.
قوله تعالى: (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) «2» ، «في السماء» أي:
في كتاب، لقوله: (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) «3» ، و (وَما تُوعَدُونَ) أي: توعدونه من الثواب والعقاب، لأن هذا اللفظ قد وقع عليهما بالثواب قوله: (هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ) و (هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ) «4» .
قوله: (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) «5» ، «فجر» فعل يتعدى إلى مفعول واحد.
قال الله: (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) «6» فالعيون يحتمل انتصابها على وجهين:
أحدهما: أن يكون بدلاً من «الأرض» ، على حد: ضرب زيد رأسه، لأن «العيون» بعض «الأرض» .
__________
(1) النساء: 5.
(2) الذاريات: 22.
(3) الرعد: 39.
(4) ق: 32.
(5) القمر: 12.
(6) الكهف: 33.

(2/482)


أو يريد «1» : فجرناها بعيون، فحذف الجار، ولا يكون حالاً، لأنه ينبغي أن يكون ذا الحال، «والعيون» لا تكون كل الأرض.
ويجوز أن يقدر: ذات عيون، على حذف المضاف.
ومن هذا الباب قوله تعالى: (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) «2» .
أي: يسقون مواشيهم. (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) «3» .
أي: تذودان مواشيهم. (قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي) «4» . أي: لا نسقي مواشينا (حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) «5» . أي: يصدروا مواشيهم، فيمن ضم الياء.
ومن هذا الباب قوله تعالى: (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) «6» . «فتنة» مفعول ثان، و «الشّجرة» معطوفة على «الرؤيا» . ومفعولها الثاني مكتفى منه بالمفعول الثاني الذي هو «الفتنة» ، و «الرؤيا» ليلة الإسراء، و «الشجرة» : الزقوم. و «الفتنة» أنهم قالوا: كيف يكون في النار شجرة، والنار تأكل الشجرة.
ومن ذلك قوله تعالى: (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) «7» . يحتمل أمرين:
أحدهما: يكون: مكاناً فوق الأعناق، فحذف المفعول/ وأقيمت الصفة مقام الموصوف، وفيها ذكر منه.
ويجوز أن يجعل المفعول محذوفاً. أي: فاضربوا فوق الأعناق الرؤوس، فحذفت.
__________
(1) هذا هو ثاني الوجهين.
(2) القصص: 23.
(3) القصص: 23.
(5- 4) القصص: 23.
(6) الإسراء: 60. [.....]
(7) الأنفال: 12.

(2/483)


والآخر: أن تجعل «فوق» مفعولاً على السعة، لأنه قد جاء اسماً نحو:
(وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) «1» . وقالوا: فوقك رأسك، فتجعل «فوق» على هذا مفعولاً به، ويقوي ذلك عطف البيان عليه، كأنه قال: اضربوا الرأس، واضربوا كل بنان.
وقال: (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) «2» ، كأن المعنى: ارتفعن على هذه العدة، أي: زدن عليها، وكأن الآية علم منها الزائدات على اثنتين، وعلم حكم الاثنتين، وأنهما ترثان الثلثين، كما ترث الثلثين الزائدات على الاثنتين، من أمر آخر من توقيف وإجماع عنه.
وأما قوله تعالى: (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) «3» ، يكون «فوق» ظرفاً، ويكون حالاً، فإذا كان ظرفاً كان كقوله: (وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) «4» ، ويعلق بالظاهر.
ويجوز أن يكون ظرفاً حالاً فيه ذكر مما في اسم الفاعل، ولا يجوز أن يكون فيه ذكر من الألف واللام.
ويجوز في (على أمره) أن يكون حالا مما فى «غالب» .
__________
(1) الأعراف: 41.
(2) النساء: 11.
(3) الأنعام: 18.
(4) يوسف: 21.

(2/484)


قال سيبويه: وتقول: «أخذتنا بالجود» .
قوله: امتنع «فوق» من الحمل على «الباء» وإن كانت «من» تدخل عليها، كما امتنعت «عند» من ذلك، أي: من مع ذلك، ولهذا امتنعت، لا لأن «الجود» ليس فوقه مطر، ألا ترى أن «الوابل» فوق الجود، قال:
إن دوموا جادوا وإن جادوا وبل «1»
ومعنى هذا الكلام: أخذتنا السماء بالجود من المطر، وبمطر فوق الجود.
لأن العرب لا تكاد تدخل «الباء» على «فوق» لا يقولون: أخذتنا بفوق الجود. وإنما يقولون: أخذتنا بمطر فوق الجود، ولو جررت جاز، وليس الاختيار.
ومن ذلك قوله تعالى: (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) «2» .
أي: كيف تتقون عذاب يوم، أو جزاء يوم، ف «اليوم» على هذا اسم لا ظرف.
ومن هذا الباب قوله تعالى: (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) «3» . من أجرى الطعام مجرى الإطعام، كما حكاه البغداديون: عجبت من طعامك طعامنا، كان المصدر مضافاً إلى المفعول/ والفاعل محذوف، أي: من إطعامه المسكين، وأصله: على طعام المطعم المسكين.
__________
(1) صدره:
هو الجواد ابن الجواد ابن سبل
(اللسان: دوم) .
(2) المزمل: 17.
(3) الماعون: 3.

(2/485)


ومن لم يعمل «الطعام» عمل الفعل كان «الطعام» عنده عيناً كقوله: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) «1» تقديره عنده: على إطعام طعام المسكين، لا يكون إلا كذلك، لأن الحض لا يقع على العين، والطعام على هذا منصوب الموضع، بالإطعام المراد، وإضافة الطعام على هذا إلى المسكين، هو للملابسة بينهما.
ومن ذلك قوله تعالى: (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ) «2» .
التقدير: ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب بنيه.
ومن حذف المفعول قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) «3» أي:
غير باغ الميتة قصداً إليها، أي: لا يطلبها تلذذاً بها، واقتضاءا لشهوة، ولا يعدو حد ما يسد به رمقه، فحذف المفعولين من «باغ» و «عاد» .
والتقدير: فمن اضطر فأكل الميتة غير باغيها ولا طالبها تلذذاً بها فانتصاب قوله «غير باغ» على الحال من الضمير الذي في «أكل» المضمر، لدلالة الكلام عليه. ألا ترى أن المنصوب يقتضي الناصب. وفي الآية إضمار الجملة، وإضمار المفعولين.
فإن قلت: فلم لا تجعل «غير باغ» حالاً من الضمير في «اضطر» دون الضمير في «أكل» ؟ فإن الآية سيقت في تحريم أكل الميتة.
ألا ترى أن قبل الآية: (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) «4» ثم عقب التحريم بقوله: (فَمَنِ اضْطُرَّ) ، فوجب أن يكون التقدير: فأكل غير باغ بها.
__________
(1) الإنسان: 8.
(2) البقرة: 132.
(4- 3) البقرة: 173.

(2/486)


وإذا لم تحمله على «أكل» ، وحملته على «اضطرّ» ، لم يكن لقوله «باغ» مفعول، و «باغ» متعد.
ألا ترى قوله: (تَبْغُونَها عِوَجاً) «1» والتقدير: تبغون لها عوجاً.
فإن قيل: لا يكون «باغ» هاهنا بمعنى: الطالب، وإنما يكون من قوله:
(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ) «2» . فيكون التقدير في الآية:
فمن اضطر غير باغ على الإمام، ولا عاد على الأمة بقطع الطريق.
قلنا: أنك في هذا القول أضمرت الجار والمجرور، ونحن أضمرنا المفعول، وكلاهما وإن جاء في التنزيل، فإضمار المفعول أحسن، لأنه أقرب وأقل إضماراً، على أن الآية في ذكر الميتة، وليس من ذكر الإمام والأمة في شيء.
وأبداً إنما يليق الإضمار بما تقدم في/ الكلام حتى يعود إليه، ولا يضمر شيء لم يجر ذكره، والآية متعلقة به، فجميع ما جاء في التنزيل من قوله: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) «3» إنما جاء عقيب ذكر الميتة، وتحريم أكلها، ولم يأت في موضع بعد حديث الإمام والأمة، فما بال العدول عن نسق الآية إلى إدخال شيء في الكلام، وإضماره، ولم يجر له ذكر، فانتصاب «غير» إنما هو على الحال من الضمير في «أكل» لا فى «اضطرّ» .
__________
(1) آل عمران: 99.
(2) القصص: 76.
(3) البقرة: 173. [.....]

(2/487)


فإن قلت: فهل يجوز حذف الصلة، وإبقاء الموصول، والصلة بعض الموصول، ولا يجوز حذف بعض الاسم، فإذا أضمرتم «أكل» فهو داخل في صلة «من» ، فما وجه ذلك؟
قلنا: إن «من» وصلت بفعلين: أحدهما «اضطر» والآخر «أكل» ، فإذا ذكر «اضطر» وذكر ما انتصب عن فاعل «أكل» كان «أكل» كالمذكور الثابت في اللفظ، إذ المنصوب لا بد له من الناصب.
وإذا ذكرت «اضطر» وجعلت «غير باغ» حالاً من الضمير فيه، ثم أضمرت بعده «أكل» كنت أضمرت شيئاً يستغنى عنه في الصلة لأن الموصول قد تم بالفعل وما يقتضيه، ولم تذكر معمولاً يحتاج إلى عامل، وكنت كأنك أضمرت شيئاً فاضلاً.
فالأحسن أن تضمر الفعل بجنب الفعل، ويصرف الحال إلى الضمير في الفعل المضمر دون الفعل الظاهر، وإضمار «أكل» على الحد الذي أضمرنا يقتضيه نصب «غير باغ» وتعليق الغفران به.
وعلى الحد الذي يقوله السائل، يضمره لتعلق الغفران به، دون تعليق الحال به.
وهكذا القول [في] «1» : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) «2» فأكل غير متجانف لإثم.
__________
(1) تكملة يقتضيها السياق.
(2) المائدة: 3.

(2/488)


فانتصاب «غير» إنما هو من فاعل «أكل» وفيه قولان:
أحدهما: أن يأكل ما حرم عليه مما قدم ذكره من غير ضرورة.
والثاني: ألا يتجاوز في الضرورة ما أمسك الرمق، ولا ينتهي إلى حد الشبع.
ويجوز، على القول الأول، أن ينتهي إلى حد الشبع.
فإن قيل: إذا كان هذا الأكل مباحاً فلماذا «1» عقبه قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) «2» ولا معصية هناك؟
فجوابنا: أن المراد به أنه غفور إن وقع في هذه/ الرّخصة ضرب من التجاوز، لأن ذلك مبنىّ على الاجتهاد وأنه رحيم من حيث رخص في ذلك عند الشدة.
ومن ذلك قوله تعالى: (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) «3» أي: ما أكله السبع، أي:
أكل بعضه، فحذف المضاف المفعول.
ومن ذلك قوله تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) «4» .
أي: والسموات غير السموات.
ومثله ما روى من قوله عليه السلام: «ألا لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده» أي: ولا ذو عهد في عهده بكافر. ونحو ذلك مما يذكر على تكرير المفعول فيه، وحذفه لتقدم ذكره فيما تقدم من الكلام.
ومن حذف الفاعل وإضافة المصدر إلى المفعول قوله تعالى: (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ) «5» أي: كخشيتهم من الله. وقوله: (يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) «6» .
__________
(1) في الأصل: «فلم ذا» .
(2) المائدة: 3.
(3) المائدة: 3.
(4) إبراهيم: 48.
(5) النساء: 77.
(6) البقرة: 74.

(2/489)


وأما قوله: (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) «1» ، ف «الساعة» مفعول به حقيقة، وليس على الاتساع، وجعل الظرف مفعولاً على السعة.
ألا ترى أن الظرف إذا جعل مفعولاً على السعة فمعناه: متسعاً فيه، بمعنى الظرف.
وإذا كان كذلك كان المعنى: يعلم الساعة، وليس ذلك بالسهل، لأنه سبحانه يعلم على كل حال، وإنما معنى «يعلم الساعة» أي: يعرفها وهي حق، وليس أمرها على ما أنتم عليه من إنكارها، من قوله: (لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) «2» .
وإذا كان كذلك فمن نصب «وقيله» «3» كان حملاً له على المعنى، وموضع «الساعة» منصوب في المعنى، لأنه مفعول بها.
وقيل: إن «قيله» منتصب بالعطف على قوله: (لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) «4» ، «وقيله» .
قال أبو علي: ووجه الجر في قوله «وقيله» على قوله: (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) «5» أي: يعلم الساعة، ويصدق بها، ويعلم قيله «6» .
ومعنى يعلم «قيله» أي: يعلم أن الدعاء مندوب إليه، نحو قوله:
(ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) «7» . و (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) «8» .
__________
(5- 1) الزخرف: 85.
(2) سبأ: 3.
(3) الزخرف: 88.
(4) الزخرف: 80.
(7) غافر: 60.
(6) ساق المؤلف وجه المعنى على الجر ولم يسق وجه اللفظ. فمن جر جعل «وقيله» عطف على الساعة، وعلى أنها أمر القسم والجواب محذوف، أي: لينصرن، أو لأفعلن بهم ما أشاء. (البحر 8: 30) . [.....]
(8) الأعراف: 55.

(2/490)


قلت: في قول أبي علي هذا فيه نظر، لأن الضمير في قوله: (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) «1» يعود إلى الله سبحانه، هو العالم بوقت حلولها.
وإنما التقدير: وعنده علم وقت الساعة، ولا يتوجه على هذا عطف «وقيله» على موضع «الساعة» / على معنى ما قال أبو علي «ويعلم قيله» .
أي: يعلم أن الدعاء مندوب إليه، لأن هذا مما الأشبه به أن يكون من صفة الرسول، وبعد أن يعلم أن المصدر، الذي هو «قيل» ، مضاف إلى «الهاء» ، وهي مفعولة في المعنى لا فاعلة، أي، وعنده علم أن يقال: (يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) «2» والمصدر هنا مضاف إلى المفعول لا إلى الفاعل.
وإنما هو من باب قوله: (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) «3» أي:
بسؤاله إياك نعجتك، لا بد من هذا التقدير.
ألا ترى أنه لا يجوز أن نقدره على أنه: وعنده علم أن يقول الله: (يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) «4» لأن هذا إنما يقال لله تعالى دون أن يكون هو سبحانه يقول: «يا رب إن هؤلاء» كذا، فتم الكلام على «يؤمنون» .
وأحسن من جميع ما ذكره أبو علي: أن يكون نصب «قيل» ، بالعطف على مفعول «يعلمون» .
والتقدير: وهم يعلمون الحق، «وقيله» أي قول الحق، أو قول محمد عليه السلام، والمراد ب «قيله» : شكواه إلى ربه. ويجوز أن يكون ينتصب «قيله» بفعل مضمر، أي: قال قيله وشكواه.
__________
(1) الزخرف: 85.
(4- 2) الزخرف: 88.
(3) ص: 24.

(2/491)


ومن ذلك قوله تعالى: (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى) «1» .
أي: أخذ ربك القرى، إذا أخذ القرى، إن أخذه القرى أليم شديد، فحذف المفعولين في الموضعين.
ومن ذلك قوله تعالى: (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) «2» ، إذا جعلته من «الإحباب» الذي هو إرادة، فإن الحب في القياس كان ينبغي أن يكون الإحباب، ولكن المصدر حذف منه، كما حذف من: عمرك الله،
وكما حذف في قوله: ... وإن يهلك فذلك كان قدري
أي: بقدري.
وكما قال: أبغضت قوماً، يريد: قياماً.
وأضاف المصدر إلى المفعول، وإن كان محذوفاً، كما نصب الاسم في «عمرك الله» وأضافه إلى المفعول، وإن كان محذوفاً منه، وكما قال:
وبعد عطائك المائة الرتاعا «3» أي: «إعطائك» ، واستغنى بإضافة المصدر إلى المفعول عن إعمال الفعل الذي هو «أحببت فيه» .
لأن المفعول قد يحذف من الكلام، إذا قامت عليه دلالة في مواضع، ومن حمل «أحببت» على البروك، من قوله:
بعير السّوء إذ أحبا «4»
فإن «حب الخير» ينبغي أن ينتصب على أنه مفعول له.
__________
(1) هود: 102.
(2) ص: 32.
(3) عجز بيت للقطامي، صدره:
أكفرا بعد رد الموت عني
(4) جزء من بيت لأبي محمد الفقعسي، والبيت:
حلت عليه بالقفيل ضربا ... ضرب بعير السوء إذ أحبا
القفيل: السوط. ومعنى الآية على هذا: لصقت بالأرض لحب الخيل حتى فاتتني الصلاة.

(2/492)


قوله تعالى/: (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً) «1» .
فانتصاب «مكان» على أحد أمرين: إما أن تنصبه «بموعد» على: موعد مكاناً. أي: تعدنا مكاناً، مثل:
مغار ابن همام على حي خثعما «2»
والآخر: أن يكون مفعولا ثانيا ل «جعلت» ، على أن يكون على الكلام قبل دخول «جعل» : موعدك مكاناً سوى، كما تقول: موعدك باب الأمير، وكما قرئ: (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) «3» ، فيجعل «الموعد» الباب، و «اليوم» المكان على الاتساع، وتدخل «جعلت» عليه كما دخلت في قوله تعالى: (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) «4» .
وأن تحمله على» جعلت «أوجه، لأن «الموعد» قد وصف، وإذا وصف لم يسغ أن يعمل عمل الفعل.
ألا ترى أنه لم يستحسن: هذا ضارب ظريف زيداً، ولا يكون (مَكاناً سُوىً) محمولاً «5» على «نخلفه» لأنه ليس المعنى: لا نخلف الموعد في مكان عدل ووسط بيننا وبينكم، إنما المعنى: تواعدوا مكانا وسطا بيننا لنحضره جميعا.
__________
(1) طه: 58.
(2) عجز بيت لحميد بن ثور، صدره:
وما هي إلا في إزار وعلقة
(3) طه: 59.
(4) الزخرف: 19.
(5) في الأصل: «محمول» . تحريف.

(2/493)


ومن ذلك قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) «1» ، العامل في «اللام» المصدر الذي هو «العلم» ، ونحمله على ضربين:
أحدهما: أن يكون مفعولاً له.
والآخر: أن يكون مثل: (رَدِفَ لَكُمْ) » .
والمعنى أنه يعلم ما علمناه، أي: لم ينسه، ولكن تمسك به فلم يضيعه.
وقال: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) «3» ، لا يجوز أن يكون «ما» نفياً.
ألا ترى أن من نابذهم أصحاب الكهف وخرجوا عنهم كانوا كفاراً فإذا حملت «ما» على النفي كان عكس المعنى، فإذا لم يجز أن يكون «ما» نفياً مع القراءة بالياء، احتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون بمعنى «الذي» ، كأنه: وإذ اعتزلتموهم والذين يعبدونه من دون الله، وذلك آلهة كانوا اتخذوها.
يدلك على ذلك قوله: (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) «4» .
ويقوي ذلك قوله تعالى: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) «5» في قصة إبراهيم، وكانوا قد اتخذوا أيضاً آلهة.
ويجوز أن تكون «ما» مصدرية/ على تقدير: وإذ اعتزلتموهم وعبادتهم إلا عبادة الله، فيكون الاستثناء منقطعا والمضاف محذوفا، و «ما» منصوب المحل بالعطف على المفعول.
__________
(1) يوسف: 68. [.....]
(2) النمل: 72.
(3) الكهف: 16.
(4) الكهف: 15.
(5) مريم: 48.

(2/494)


ومن حذف المفعول قوله تعالى: (فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ) «1» .
أي: فلما آتاهم ما تمنوا.
ومثله: (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) «2» أي: لمن نريد تعجيله له، و «الهاء» في «تعجيله» يعود إلى «ما نشاء» ، والتي في «له» تعود إلى الموصول.
وليس هذا على حد: الذي مررت زيد، وأنت تريد: الذي مررت به، فيمكن أن يكون على حد: من تنزل عليه أنزل.
ألا ترى أن «اللام» الجارة والتعجيل قد جرى ذكرهما، وما حذف على هذا النحو كان في حكم المثبت، فأما اللام في «لمن نريد» فيحتمل ضربين:
أحدهما: أن يكون المعنى: هذا التعجيل «لمن نريد» ليس لكل أحد، كقوله تعالى: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى) . «3» أي: هذه التوسعة لمن اتقى ما أمر أن يتقيه.
والآخر: أن يكون بدلاً من «اللام» الأولى التي في قوله: (عَجَّلْنا لَهُ) «4» ، كأنه: عجلنا لمن نريد ما نشاء، فيكون «ما نشاء» منتصبا ب «عجّلنا» .
ومن حذف المفعول قوله تعالى: (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) . «5» أي: ووهبنا لهم من ذرياتهم فرقاً مهتدين، لأن الاجتباء يقع على من كان مهتديا.
__________
(1) التوبة: 76.
(4- 2) الإسراء: 18.
(3) البقرة: 203.
(5) الأنعام: 87.

(2/495)


وأما قوله تعالى: (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) «1» الضمير الذي بعد الضمير المرفوع في «كالوا» منصوب، وليس بمرفوع على أن يكون وصفاً للمضمر، لأن المعنى ليس عليه.
وذلك أن المراد: أنهم إذا قبضوا من الناس استوفوا منهم المكيال، وإذا دفعوا إليهم بخسوهم، فمن هنا استحقوا الوعيد في التطفيف، وإنما هو على: «كلتك» و «وزنتك» .
فالمعنى: إذا قبضوا من الناس استوفوا، وإذا أقبضوا الناس لم يوفوهم، فهذا موضع ذمهم، والمكان الذي استحقوا منه الوعيد. والتقدير: وإذا كالوا الناس أو وزنوهم، أخسروهم مكيلهم وموزونهم فيخسرون، يراد تعديته إلى مفعولين/، وحذف المفعولين، يدلك على ذلك، أن «خسر» يتعدى إلى مفعول، بدلالة قوله تعالى: (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) «2» فإذا نقلته بالهمزة تعدى إلى مفعولين، تقول: أخسرت زيداً ماله، فتعديه إلى مفعولين، وهو من باب «أعطيت» ، فكذلك أريد المفعولان في قوله: (يُخْسِرُونَ) ، فحذف المفعولان، كما حذف فيما يتعدى إلى مفعولين، الثاني منه هو الأول في المعنى، كقوله: (كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) «3» وقوله: (فَهُوَ يَرى) «4» .
__________
(1) المطففين: 3.
(2) الحج: 11.
(3) القصص: 62.
(4) النجم: 35.

(2/496)


ومن حذف المفعول قوله: (بِما حَفِظَ اللَّهُ) «1» . أي: بما حفظهن الله. وقد قرئ بالنصب.
قال الفراء: وتقدير هذا: بالذي حفظ أمر الله، نحو قوله: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) «2» . وقوله: (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) «3» .
ولست أشتهي النصب، لأنه مصدر، وليس يقصد شيئاً، فأما إذا كان مصدراً، خلا الفعل من الفاعل، لأنه حرف عندهم ذهبو فيه إلى قول سيبويه، ولكن إذا نصب جعل «ما» بمنزلة «الذي» .
قوله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) «4» .
استدل مستدل على أن الحركات «ترى» لأنه لم يتعد «رأيت» إلا إلى مفعول واحد. فلولا أن معناها الرؤية، التي هي حس البصر، لتعدى إلى مفعول ثان.
فالقول عندنا: إن الذي ذهب إليه في ذلك ليس له دلالة فيه، على ما ذكر، لغير شيء:
أحدها: أن (سيرى) من قوله: (فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) «5» لا يراد به الحس، لأن من أعمالهم ما لا يحس بالأبصار، نحو الآراء والاعتقادات.
__________
(1) النساء: 34.
(2) الإسراء: 32. [.....]
(3) النساء: 25.
(5- 4) التوبة: 105.

(2/497)


ولأن المعنى في (فَسَيَرَى اللَّهُ) أنهم يجازون على أعمالهم جزاء هو ثواب أو عقاب، كما يعرف عريف الجيش من هو عليهم بحلاهم وصفاتهم.
وعلى هذا تقول لمن توعد: قد علمت ما صنعت، لا تريد أن تفيده أنك فهمته، ولكن توعده وتهدده بالجزاء عليه.
وكذلك قوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) «1» أي: يرى الجزاء عليه، / وليس يراد به الرؤية التي هي إدراك البصر ألا ترى أن في الجزاء وفي الثواب أو العقاب ما لا يعلم بإدراك البصر.
ومثله قوله تعالى: (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) «2» أي:
يجازيهم عليه.
وكذلك قراءة من قرأ: (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) «3» .
أي: جازى على بعض، وهو إفشاء السر، الذي كان أسره- عليه السلام- إلى بعض أزواجه، وأعرض عن بعض ما أغضى عنه، ولم يخبر به.
وليس المعنى على أنه عرف ذلك عرفاناً، ألا ترى أنه- عليه السلام- عرف جميع ما أسره، ولا يجوز أن يكون عرف بعضاً، ولم يعرف بعضاً.
فكما أن هذه الآي على الجزاء، فكذلك (فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) «4» .
__________
(1) الزلزلة: 7.
(2) النساء: 63.
(3) التحريم: 3.
(4) التوبة: 105.

(2/498)


وجزاء الرسول هو دعاؤه لهم أو عليهم، وتزكيته إياهم بذلك أو لعنه لهم، وجزاء المسلمين هو الولاية أو البراءة.
ومن ذلك قوله تعالى: (فَلَمَّا جاوَزا) «1» أي: مكان الحوت فحذف المفعول.
قوله: (فَأَتْبَعَ سَبَباً) «2» (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) «3» ، فالقول في ذلك أن «تبع» فعل يتعدى إلى مفعول واحد، فإذا نقلته بالهمزة تعدى إلى مفعولين.
يدلك على ذلك قوله تعالى: (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) «4» ، وفي أخرى: (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً) . «5» لما بني الفعل للمفعول، قام أحد المفعولين مقام الفاعل.
فأما «أتبع» ، ف «افتعل» يتعدى إلى مفعول واحد، كما تعدى «فعل» إليه، مثل: شويته واشتويته، وحفرته واحتفرته، وجرحته واجترحته.
وفي التنزيل: (اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ)
«6» .
وفيه: (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) «7» .
__________
(1) الكهف: 62.
(2) الكهف: 85.
(3) الكهف: 89، 92.
(4) القصص: 42.
(5) هود: 99.
(6) الجاثية: 21.
(7) الأنعام: 60.

(2/499)


وكذلك: فديته وافتديته، وهذا كثير.
وأما قوله تعالى: (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) «1» فتقديره: فأتبعوهم جنودهم، فحذف أحد المفعولين، كما حذف من قوله: (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) «2» ، ومن قوله: (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا) «3» .
المعنى: لا يفقهون أحداً، ولينذر الناس بأساً شديداً.
(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) «4» أي: عذابه أو حسابه.
فقوله: (فَأَتْبَعَ سَبَباً) «5» إنما هو افتعل/ الذي للمطاوعة فيعدى إلى مفعول واحد، كقوله: (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) »
(وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) «7» .
وأما قوله تعالى: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً) «8» . فتقديره:
أتبعهم فرعون طلبته إياهم، أو تتبعه لهم.
كذلك (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) «9» . المعنى: أتبعه شهاب مبين الإحراق، أو المنع من استراق السمع.
وقوله تعالى: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) «10» . مطاوع «تبع» يتعدى إلى مفعول
__________
(1) الشعراء: 60. [.....]
(2) الكهف: 2.
(3) الكهف: 93.
(4) الأنعام: 51.
(5) الكهف: 85.
(6) البقرة: 102.
(7) الشعراء: 111.
(8) يونس: 90.
(9) الحجر: 18.
(10) هود: 116.

(2/500)


واحد ومثله. (وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) «1» .
ومن قرأ (فَأَتْبَعَ سَبَباً) «2» أي: أتبع سبباً سبباً، أو: أتبع أمره سبباً، أو أتبع ما هو عليه سبباً.
وقوله: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) «3» فقد يكون «الباء» زيادة، أي:
أتبعهم جنوده، وقد يكون «الباء» للحال، أي: أتبعهم عقوبته، ومعه جنوده.
قوله: (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ) «4» ، «هدى» فعل يتعدى إلى مفعولين، يتعدى إلى الثاني منهما بأحد حرفي الجر: إلى، واللام.
فمن تعدّيه ب «إلى» قوله: (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) «5» ، (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) «6» .
ومن تعدّيه ب «اللام» قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) «7» .
وقوله: (قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ) «8» .
__________
(1) الشعراء: 111.
(2) الكهف: 85.
(3) طه: 78.
(4) الأعراف: 186.
(5) الصافات: 23. [.....]
(6) ص: 22.
(7) الأعراف: 43.
(8) يونس: 35.

(2/501)


فهذا الفعل بتعديه مرة باللام، وأخرى بإلى، مثل: (أَوْحى) في قوله: (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) «1» ، وقوله: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) «2» .
وقد يحذف الحرف في قولك من قولهم: هديته لكذا وإلى كذا، فيصل الفعل إلى المفعول الثاني، كما قال: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) «3» أي دلنا عليه، واسلك بنا فيه، فكأنه سؤال واستنجاز لما وعدوا به.
وقوله: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) «4» أي:
سبل دار السلام، بدلالة قوله: (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) «5» .
ومن ذلك قوله: (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) «6» أي: ثم ائتوني صفاً، إن جعلت «صفاً» حالاً أضمرت المفعول، ويجوز أن تجعل «الصف» مفعولاً به.
ومن ذلك قوله تعالى: (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ) «7» ، أي: إما أن تلقي العصا، وإما أن نكون أول من ألقى ما معه. قال: (بَلْ أَلْقُوا) . «8»
أي: ألقوا ما معكم.
__________
(1) النحل: 68.
(2) الزلزلة: 5.
(3) فاتحة الكتاب: 5.
(4) المائدة: 16.
(5) الأنعام: 127.
(6) طه: 64.
(7) طه: 65.
(8) طه: 66.

(2/502)


ومثل هذا كثير يتسع على العاد الخرق اتساعه على الراقع.
/ ومن ذلك قوله: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) «1» .
قال كعب: ألف قصر في الجنة، كل قصر مخلوق من در واحد.
«فترضى» أفترضى بالعطاء عن المعطي؟ قال: بلى «2» (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) «3» أي: فآواك. (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) «4» عن الطريق (فَهَدى) «5» أي:
فهداك، (وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى) أ «6» أي: فأغناك، كما قال: (أَغْنى وَأَقْنى) «7» ، و (أَضْحَكَ وَأَبْكى) «8» ، و (أَماتَ وَأَحْيا) «9» .
فحذف المفعول فيهن كلهن.
(لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) «10» أي: تعبدونه، (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) «11» أي: ما أعبده، وكذلك: (ما عَبَدْتُّمْ) «12» أي: ما عبدتموه. (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) «13» أي: فسبحه.
ومن ذلك قوله تعالى: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) 1» .
التقدير: وألقيناه على كرسيه جسداً، ذا جسد. أي: مريضاً، فقوله:
«جسداً» ، في موضع الحال، والمفعول محذوف.
وقال قوم بخلاف هذا، وجعلوا «جسداً» مفعولاً به، وإنه ما أقعد مكانه جسد آخر، في قصة يذكرونها طويلة.
__________
(1) الضحى: 5.
(2) بالأصل: «فلا» .
(5- 4- 3) الضحى: 6. [.....]
(6) تكملة يقتضيها السياق.
(7) النجم: 48.
(8) النجم: 43.
(9) النجم: 44.
(10) الكافرون: 2.
(11) الكافرون: 3 و 5.
(12) الكافرون: 4.
(13) النصر: 3.
(14) ص: 34.

(2/503)


ومن ذلك قوله: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) «1» ، أي: أوتيت من كل شيء شيئاً.
وعليه قوله: (فَغَشَّاها ما غَشَّى) «2» . أي: ما غشاها إياه، فحذف المفعولين جميعاً.
ومن ذلك قوله تعالى: (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ) «3» ، ف «جعل» هنا من أخوات «ظننت» ، وقد قالوا: زيداً ظننته منطلقاً، فلما أضمرت الفعل، فسرته بقولك «ظننته» ، وحذفت المفعول الثاني من الفعل الأول المقدر، اكتفاء بالمفعول الثاني الظاهر في الفعل الآخر، وكذلك بقية أخوات «ظننت» .
ومن ذلك قوله تعالى: (وَدَعْ أَذاهُمْ) «4» ، والتقدير: دع الخوف من أذاهم.
فحذف المفعول والجار، كقوله: (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً) «5» .
ومن ذلك قوله تعالى: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) «6» .
قيل: التقدير: آتنا ما نريد في الدنيا، فحذف المفعول الثاني. وقيل: «في» زائدة، أي: أتنا الدنيا.
ومن ذلك قوله تعالى: (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ) «7» .
يجوز أن يكون المراد بالبلاغ، ما بلغ النبي- صلى الله عليه وعلى آله- عن الله وآتاه.
__________
(1) النمل: 23.
(2) النجم: 54.
(3) الحج: 36.
(4) الأحزاب: 48.
(5) الكهف: 2. [.....]
(6) البقرة: 200.
(7) الجن: 23.

(2/504)


والمعنى: لا يجيرني إلا أن أعمل بما آتاني. وهو قوله: (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ/ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها) «1» . ويجوز أن يكون المراد بالبلاغ ما يبلغ به عن الله إلى خلقه، كما قال: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) «2» ، أي: أن تبلغ ما أمرت في أداء الرسالة.
فعلى الأول: يكون «ورسالاته» جراً عطفاً على لفظة «الله» .
وعلى الثاني: يكون نصباً عطفاً على المفعول المحذوف، الذي يقتضيه «بلاغ» ، فكأنه قال: إلا أن أبلغ من الله ما يحب هو أن يعرف، وتعتقد صفاته.
فأما قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) «3» . أي: يفعلون ويعملون بالطاعة لأجل طهارة النفس عن المعاصي، كقوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) «4» و (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) «5» .
ومن حذف المفعول قوله: (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ)
«6» ، أي: على أن يبدلكم بأمثالكم، و (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) «7» ، التقدير: على أن نبدلهم بخير منهم، كقوله: (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) «8» .
وأما قوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) «9» .
فالتقدير: تذكروا اسم الله، فحذف.
__________
(1) النمل: 91.
(2) الشورى: 48.
(3) المؤمنون: 4.
(4) الأعلى: 14.
(5) الشمس: 9.
(6) الواقعة: 61.
(7) المعارج: 41.
(8) الكهف: 2.
(9) الأعراف: 201.

(2/505)


وقال: (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) «1» أي: نعم الله ويفكر ليدرك العلم بقدرته، ويستدل على توحيده.
وتخفيف حمزة، على: أنه يذكر ما نسيه في أحد هذين الوقتين في الوقت الآخر. ويجوز أن يكون: على أن يذكر تنزيه الله وتسبيحه.
وأما قوله تعالى: (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) «2» . فروي عن الحسن:
(كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ) «3» قال: القرآن.
وأما قوله: (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) «4» فتقديره: إن ذلك ميسّر له. كما قال:
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) «5» .
أي: لأن يحفظ ويدرس، فيؤمن عليه التحريف والتبديل، الذي جاز على غيره من الكتب. لتيسيره للحفظ، وكثرة الدرس له، وخروجه بذلك عن الحد الذي يجوز معه كذلك له، والتغيير أي: من شاء الله ذكره، أي ذكر القرآن.
وقال الله تعالى: (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) «6» أي: خاف ظهور الجنف.
وقال: (وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) «7» . أي: وما أكل السبع بعضه، فحذف.
ومن ذلك قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) «8» . أي:
/ أرسلنا رسلا.
__________
(1) الفرقان: 62.
(4- 2) المدثر: 55- عبس: 12.
(3) المدثر: 54- عبس: 11. [.....]
(5) القمر: 22.
(6) البقرة: 182.
(7) المائدة: 3.
(8) الأنعام: 42.

(2/506)


ومن ذلك قوله: (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) «1» ، مفعول «يشعركم» محذوف، أي: ما يشعركم إيمانهم، و «ما» ليست بنافية، لأنها تبقي «يشعركم» بلا فاعل، ولا يكون ضمير الله تعالى، لأنه أعلمنا أنهم لا يؤمنون بقوله: (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) «2» .
ومن حذف المفعول قوله تعالى: (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) «3» .
وقال: الظرف متعلق بمحذوف، وهو مفعول ثان للظن، أي: ما ظنهم في الدنيا حالهم يوم القيامة، و «ما» استفهام.
وقال في موضع آخر «يوم القيامة» متعلق بالظن، الذي هو خبر المبتدأ، الذي هو «ما» .
ألا ترى أنه لا يجوز أن يتعلق «بالكذب» ، ولا «يفترون» ، لأن ذلك لا يكون في الآخرة، كأنه: ما ظنهم: أشدة العذاب أم التجاوز عنهم؟
ومن ذلك قوله تعالى: (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) «4» . قال الأخفش:
التقدير: من كل شيء سألتموه، فحذفه وأضمره، كما قال: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) «5» أي: من كل شيء في زمانها.
وقال الكلبي: من كل ما سألتموه وما لم تسألوه. وقال قوم: هذا من العام الذي يراد به الخاص.
__________
(1) الأنعام: 109.
(2) الأنعام: 111.
(3) يونس: 60.
(4) إبراهيم: 34.
(5) النمل: 23.

(2/507)


قال سيبويه: جاءني أهل، الدنيا وعسى أن يكون قد جاء خمسة منهم، وقيل: (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) «1» لو سألتموه.
ومن ذلك قوله تعالى: (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا) «2» فيمن ضم الياء.
أي: من يخاطبونه شيئاً، فحذف أحد المفعولين، وقيل: لا يفقهون غير لسانهم إياهم، ولو لم يفقهوا غيرهم شيئاً، لما صح أن يقولوا ويفهموا.
ومن ذلك قوله تعالى: (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) . «3» انتصاب «لسان» بالفعل الثاني دون الأول عنده. وعلى قول الأخفش:
«من رحمتنا» «من» »
زائدة.
وأما قوله: (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) «5» . قيل: «السجل» اسم ملك، وقيل: اسم رجل كاتب، فيكون المصدر مضافاً إلى الفاعل، «واللام» مثلها في (رَدِفَ لَكُمْ) «6» .
وقيل: «السجل» : الصحيفة تطوى على ما فيها من الكتابة والمصدر مضاف إلى المفعول. أي: كما يطوى السجل على الكتاب.
وقد/ رواه أبو علي: كطي الطاوي الصحيفة مدرجاً فيها الكتب.
أي: كطي الصحيفة لدرج الكتب فيها، على تأويل قتادة: وكطي الصحيفة لدرج الكتب، فحذف المضاف، والمصدر مضاف إلى الفاعل، على قول السّدى، والمعنى: كطى زيد الكتب.
__________
(1) إبراهيم: 34.
(2) الكهف: 93.
(3) مريم: 50.
(4) في الأصل: «ما زائدة» .
(5) الأنبياء: 104. [.....]
(6) النمل: 72.

(2/508)


ومن ذلك قوله تعالى: (إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) «1» مفعول «ألقى» مضمر، أي: ألقى الشيطان في تلاوته ما ليس منه.
ومن ذلك قوله: (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) «2» ، أي: أرسلني مضموماً إلى هارون، فحذف المفعول، والجار في موضع الحال.
وأما قوله: (أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) «3» ، ليس التقدير: ما سقيته لنا، وهو الماء، فلا يكون للماء أجر، وليس الجزاء للماء إنما هو لاستقائه.
فإن قلت: اجعل المعنى: ليجزيك أجر الماء، لم يستقم أيضاً، لأن الأجر لاستقاء الماء لا للماء.
فإذا كان كذلك، كان المعنى: ليجزيك أجر السقي لنا.
ومن ذلك قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) «4» .
قال أبو علي: «أرأيتم» هذه تتعدى إلى مفعولين، الثاني منهما استفهام، والأول منصوب، وهو هاهنا مضمر، وهو للقرآن.
أي: أرأيتم القرآن إن كان من عند الله، والمفعول محذوف، وتقديره: أتأمنون عقوبته، أو: لا تخشون انتقامه.
وقدره الزجاج: قل أرأيتم القرآن إن كان من عند الله، إلى: قوله (فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) «5» أفتؤمنون به؟
__________
(1) الحج: 52.
(2) الشعراء: 13.
(3) القصص: 25.
(4) الأحقاف: 10.
(5) الأحقاف: 10.

(2/509)


ومن ذلك قوله تعالى: (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ) «1» ، فهذا على: (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) «2» .
فالمعنى: ووهبنا من ذرياته فرقاً مهتدين، لأن الاجتباء إنما يقع على من كان مهتديا مرتضى، فحذف المفعول به.
__________
(1) الأنعام: 87.
(2) الأنعام: 84.

(2/510)