التصاريف لتفسير القرآن مما اشتبهت أسمائه وتصرفت معانيه

كتاب التصاريف
كتاب مجهول
نستطيع أن نقول: إن كتاب التصاريف كتاب مجهول لم تذكره كتبُ التراجم عند حديثها عنِ ابن سلاّم، ولم يتعرّض إليه ابن خير في فهرسته رغم كونه قد أورد أسانيد دقيقة تتعلَّق بتفسير ابن سلام، ما لم نجد له أيّ ذكر في كتب علوم القرآن، ولم تشر إليه كتب الوجوه والنَّظائر الَّتي وقفنا عليها.
فالمصدر الوحيد الَّذي أثبت وجود الكتاب هو الكتاب نفسه. فقد حمل عنوانه واضحا في الجزأين الأول والرّابع.
والملاحظ أن ما نجده في الفهرست الَّتي وضعها المرحوم الشيخ البهلي النَّيَّال، عندما أشار إلى التَّصاريف، قد تمّ بالرّجوع إلى المخطوط نفسه. وقد أشار إلى الجزء الأول منه، بذكر عدد صفحاته وهي من 404 إلى 431 متعرِّضا باختصار إلى موضوعه قائلا: "والكتاب فيما اتَّفق لفظه واختلف معناه من كلام الله عز وجل".
ونتساءل: لمَ لمْ يشتهر هذا التأليف؟
هنالك فيما يبدو ثلاثة عوامل تتسبَّب في عدم اشتهار تأليف معيَّن:
1) أن يكون المؤلف مغمورا.
2) أن يكون التأليف عديم الأهمية.
3) أن يضيع التأليف.

(1/43)


من ألف كتاب التصاريف
يبدو للوهلة الأولى أن التَّساؤل عن مؤلف التصاريف في غير محلِّه، ذلك أن كلا الجزءين، الأوّل والرّابع، يحمل اسما نسب إليه الكتاب وهو: يحيى بن محمَّد بن يحيى بن سلاّم. وقد تمَّت إضافة التَّأليف إليه عن طريق اللام، هكذا: ليحي ابن محمد بن يحيى بن سلاّم.
ومن المعلوم أن هذا الَّذي نسب إليه كتاب التصاريف هو حفيد يحيى بن سلاّم المفسّر.
فلم التساؤل حول صحَّة نسبة الكتاب إلى ابن سلاَّم الحفيد إذن؟
إن الطَّريقة الَّتي وقعت بها نسبة الكتاب إلى ابن سلاّم الحفيد لا تُعتبر حاسمة حتَّى نسلِّم بكون المؤلف هو ابن سلاّم الحفيد.
ذلك أنه قد وقفنا على مثل هذه الطَّريقة أو شبيهها في نسبة الكتب عند اطِّلاعنا على مخطوطات تفسير يحيى بن سلاّم الجدّ. وهذه الطريقة لا يقصد بها الإشارة إلى نسبة التأليف إلى صاحبه دائما، إنَّما تدل كذلك على رواية التَّأليف. فقد وردت في قطعة التفسير رقم: 180 القيروان، لتدل على نسبة الكتاب إلى مؤلفه: "كتاب تفسير ليحيى بن سلاّم". أو بنفس القطعة: "تفسير يحيى بن سلاّم". ووردت في القطعة رقم: 162 القيروان، لتدلّ على الرواية لا على التأليف: "بقية الكهف ... ليحيى بن محمد بن يحيى بن سلام التّيمي".
كما وردت الطريقة الثانية لتدل على الرواية في القطعة رقم: 252 القيروان، "الجزء السادس عشر من تفسير القرآن ... . تفسير يحيى بن محمد بن يحيى بن السلام التيمي البصري".
ونحن نعلم أن ابن سلاّم الحفيد لم يكتب تفسيرا، إنَّما روى تفسير جدّه عن أبيه محمد. وذلك ما نجده في آخر هذه القطعة حيث ورد: "تم الجزء السادس عشر من التفسير عن يحيى بن محمد بن يحيى بن السَّلام البصري التيمي". وتدل لفظة "عن"، كما هو معلوم، على النقل والإِسناد. أو كما ورد في قطعة رقم: 170.

(1/44)


القيروان، "الجزء السادس والثلاثين من (التفسير وهو لأبي العرب) حدثني به يحيى بن محمد بن يحيى بن السلاّم، عن أبيه، عن جده يحيى رحمه الله".
كما ذكر ابن خير رواية الحفيد للتفسير فقال: "ورواه أيضا أبو عيسى عن أبي الحسن البجاني المذكور، عن يحيى بن محمد بن سلاّم، عن أبيه عن جدّه".
ونحن لو عدنا إلى حياة ابن سلاّم الحفيد، لا نجد أنفسنا أمام شيخ مشهور شهرة جدّه. فأبو العرب لم يفرده بترجمة واكتفى بأن أدرجه في ترجمة جدّه رغم طول صحبته له. ولم يترجم له المالكي، ولا عياض. وقد اختصه الدبَّاغ في معالمه بترجمة موجزة لم يُضف فيها شيئا يذكر عمَّا ورد في طبقات أبي العرب؟ وسمَّاه محمد بن محمد بن يحيى بن سلام. والصواب أنَّه يحيى بن محمد. ولا يعني هذا أنّ ابن سلاّم الحفيد لم يكن ذا علم، لكنَّه لم يبلغ درجة جدّه في ذلك. وبَّما صحّ قولنا بأنَّه اكتفى بنشر ما وصله من كتب جدّه عن طريق الرواية.
وبرجوعنا إلى نصّ التصاريف يمكن أن نخرج بملاحظة تتعلق بما نحن فيه، ذلك أنه بمقارنة ما ورد في التفسير بما جاء في التصاريف نلاحظ مطابقة قلما تتخلف بين الكتابين في تفسير الكلمات.
ولا يبدو ذلك التطابق في الاتفاق في المعاني الواردة فحسب، إنَّما يتجاوزه إلى العبارة أيضا.

(1/45)


وهذه بعض نماذج من التَّصاريف، وما يناسبها في التفسير، تؤكد ما ذهبنا إليه.
اللفظ
ص
التصاريف
ورقة
التفسير (*)
هدى
طه: 124
97
أفلم يهد، يعني أو لم يبيّن. وهو تفسير قتادة
31ظ
أفلم يهد لهم سعيد عن قتادة. أفلم نبيّن لهم. ومن قرأها بالياء يقول: أفلم يهد لهم، أفلم يبين لهم. قال يحيى ولا أعرف أي المقراتين (كذا) قرأ قتادة.
مريم: 76
98
ويزيد الله الذين اهتدوا هدى. يعني يزيدهم إيمانا.
24ظ
ويزيد الله الَّذِين اهتدوا هدى، يزيدهم إيمانا.
الأنبياء: 31
99
فجاجا سبلا لعلَّهم يهتدون، يعني لعلَّهم يعرفون الطريق. تفسير قتادة.
33و
ولعلهم يهتدون. لكي يهتدوا الطّرق.
الأنبياء: 73
98
وجعلناهم أئمة يهدون، يعني يدعون بأمرنا.
34ظ
وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا، يعني يدعونا بأمرنا.
السجدة: 23
101
وقال الحسن: وجعلناه هدى، يعني موسى، هدى لبني إسرائيل.

وجعلنه، تفسير الحسن، موسى هدى لبني إسرائيل لمن آمن به.
الإيمان
النحل: 106
109
إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، يعني بالتوحيد. قال يحيى: بلغني أنَّها نزلت في عمَّار بن ياسر.

قال يحيى: بلغني أن هذه الآية نزلت عند ذلك (ذكر قبل هذا خبر عمار ابن ياسر مع المشركين والرسول عليه الصلاة والسلام) .
الطمأنينه
النحل: 106
218
وقلبه مطمئن بالإيمان، أي راض بالإيمان.

... وقلبه مطمئن بالإيمان. مطمئن، راض بالإيمان.

(1/46)


الحسنى
النحل: 62
129
أن لهم الحسنى يعني اليقين، الغلمان.

أن لهم الحسنى: أي الغلمان وفي تفسير الحسن أن لهم الجنة.
أمة
النحل: 92
151
أن تكون أمة هي أربى من أمة، أن يكون قوم أكثر من قوم.

أن تكون أمة هي أربى من أمة، هي أكثر من أمة ... قال قتادة: أربى من أمة أن يكون قوم هم أعز وأكثر من قوم.
أمة
النحل: 93
151
أمة واحدة، يعني على ملة الإسلام.

أمة واحدة، على الإيمان.
النحل: 120
152
كان أمة، كان إماما يقتدى به في الخير. وهو قول قتادة.

كان أمة ... كان إمام هدى يهتدى به.
الفساد
الإسراء: 4
115
لتفسدن في الأرض ... . يعني لتهلكن في الأرض.

لتفسدن في الأرض ... . يعني لتهلكن في الأرض.
حسنا
الإسراء: 23
146
وبالوالدين إحسانا يعني برا.

وبالوالدين إحسانا ... يعني برا. تفسير السدي.
إمام
الإسراء: 71
148
يوم ندعوا كل أناس بإمامهم، يعني بكتابهم الذي عملوا في الدنيا وهو قول الحسن.
11و
يوم ندعو كل أناس بإمامهم، قال الحسن بكتابهم ما نسخت عليهم الملائكة من أعمالهم. وقال قتادة: بإمامهم، بنبيهم.
الفرقان: 74
148
واجعلنا للمتقين إماما، يعني قادة في الخير يقتدى بنا. وقال قتادة: قادة في الخير ودعاة هدى.
62و
واجعلنا للمتقين إماما. قال قتادة: قادة في الخير ودعاة هدى يؤتم بهم.
حسنة
النمل: 89 - 90
125
126
من جاء بالحسنة، يعني التوحيد، فله خير منها، ومن جاء بالسيئة، يعني الشرك.
70ظ
من جاء بالحسنة، بلا إله إلا الله مخلصا، فله خير منها وهي الجنة ... . ومن جاء بالسيئة يعني الشرك في تفسير قتادة.
شكل نماذج من التصاريف

(1/47)


وهنالك ملاحظة ثانية نستنتجها من نصّ التصاريف وتتمثل في وجود عبارة "قال يحيى" في بعض المواضع منه. فقد وردت في الجزء الثاني كما وردت في ثلاثة مواضع من الجزء الأوّل.
وإنما بدأنا بذكر الموضع في الجزء الثاني لما سنذكره حول نسبة الأقوال إلى أصحابها في التصاريف، هل هي من أصل النَّص، أم أنها زيدت عليه. أمَّا بالنسبة لهذا الموضع من الجزء الثاني، فإن نسبة القول فيه إلى يحيى قد كتبت بنفس الخط الَّذي كتب به النص، وبطريقة عادية، لا بين الأسطر.
وهذه العبارة هي الَّتي نجدها في مواضع كثيرة من تفسير ابن سلام. وأخصّ بالذّكر القطعة التي وقعت نسبة التَّفسير فيها إلى الحفيد، والتي أشرنا إليها من قبل.
وإنه ليس بدعا في الحقيقة، أن نلاحظ هذا التَّطابق بين التَّفسير وبين كتاب التصاريف، لأن هذا الأخير تابع بموضوعه لعلم التفسير. وقد حمل في عنوان الجزء الأول كلمة تفسير. كما وردت هذه اللفظة بمناسبة كل كلمة ذكرت للشرح. والتفسير في فتراته الأولى، لم يكن موكولا إلى الاجتهاد والرأي إنما كان يرتكز أساسا على الرّواية والنَّقل. وهذا ما يفسِّر اتِّفاق نسبة بعض الأقوال إلى أصحابها بين التَّصاريف وبين التفسير.
ونسوق أخيرا هذا الدليل لترجيح نسبة كتاب التَّصاريف إلى يحيى بن سلاّم الجدّ. ويتمثل في الاتفاق الملحوظ بين كتاب يحيى وكتاب الأشباه والنظائر لمقاتل ابن سليمان. ويظهر ذلك الاتفاق في أغلب الكلمات المذكورة للتفسير، وفي المعاني التي فسّرت بها، وكذلك في كيفية ترتيبها وترتيب وجوهها والآيات النظائر التي وقع الاستشهاد بها. ولم يختلف الكتابان إلاّ في القليل من ذلك.
ومعلوم أنّ ابن سلاّم قد نشأ بالبصرة. وقد كان قدوم مقاتل إليها بين سنتي (130-136هـ) . فلعل ابن سلاّم ومقاتلا قد سمعا هذا التأليف عن شيخ واحد، فذلك ما يفسِّر الاتِّفاق الموجود بينهما. نضيف إلى هذا، أن مقاتلا، كما لهُ كتاب في الوجوه والنظائر، فإن له كذلك تفسير للقرآن. فليس من الغريب إذن أن نجد لابن سلاّم كتابا في التفسير وآخر في الوجوه والنظائر.

(1/48)


إنّ ما سقناه يجعلنا نميل إلى اعتبار التَّصاريف من تأليف ابن سلاّم الجدّ، وحتَّى إن لم يكن هو المؤلف مباشرة، فالأقرب إلى الذّهن أن يكون يحيى الحفيد قد سلخه من التفسير وقدّمه في كتاب مستقل.
على أنّ نسبة الكتاب إلى هذا أو ذاك لا تغير من جوهره شيئا، لأنه مبنيّ على الرواية، وهذه لا تختلف باختلاف الرّاوي.
أمَّا السَّبب الثَّاني في عدم اشتهار كتاب معيَّن، وهو انعدام جدواه، فهذا ممَّا لا يصحّ في كتاب في علم الوجوه والنَّظائر، وقد مرّ بنا شدة اهتمام العلماء بهذا الفنّ وكثرة تآليفهم فيه.
بقي السبب الثالث، وهو إمكانية ضياع الكتاب، وهو هام في نظري لسببين:
1- ذلك أنَّنا لا نملك من التصاريف سوى نسخة واحدة، وهي نسخة ناقصة، كتبت بخطين مختلفين.
- ما أفدناه من السّماعات المسجَّلة بالجزأين: الأوّل والرّابع. والذي يمكن استخلاصه من تلك السَّماعات، أن الكتاب لم يشتهر في القيروان، إذ لم يرد ذكره في ترجمة أية شخصية من شخصياتها، ويظهر أنّه دُرِّسَ بسوسة على شيخ لم يشتهر، وعلى طلبة لم يعرفوا عموما. فلعلّ هذا هو السَّبب الأصلي في عدم اشتهار الكتاب في إفريقية وبالتَّالي في الشرق.

تجزئة كتاب التصاريف
يوجد بين أيدينا من التَّصاريف ما يلي:
الجزء الأوّل: وهو تامّ، كتب على الصفحة الأولى منه العنوان وصاحب الكتاب هكذا:
الأول من التصاريف، ليحيى بن محمد بن يحيى بن سلام
أمَّا الصفحة التي اعتبرناها الأخيرة في الجزء، فلم يسجل عليها عبارة تفيد انتهاء الجزء، ولم نلاحظ بها اسم النَّاسخ ولا تاريخ النَّسخ الَّذي تختم به الأجزاء الخطية القديمة عادة. إنما لاحظنا تسجيل عدّة سماعات إثر النَّص الَّذي توقف وسط الصّفحة تقريبا. وتسجَّل السّماعات في الغالب في آخر الكتاب (أو في أوّله) . وأوّل كلمة وردت في الجزء هي كلمة: "هدى". وآخر كلمة هي لفظة: "عدوا" التي لم يرد منها سوى العنوان. فاشتمل الجزء بذلك على اثنتين وثلاثين كلمة مفسرة وعنوان كلمة "عدوان".

(1/49)


الجزء الرّابع: فضّلنا الحديث عن الجزء الرّابع إثر الجزء الأوّل، وذلك لأنّ الأمور واضحة نسبياً في هذين الجزأين.
تحمل الورقة الأولى من هذا الجزء في وجهها، فهرسا للكلمات المشروحة به، وهي تسع وثلاثون كلمة، أوّلها كلمة: "ظهر"، وآخرها لفظة "يوم".
كما ورد في رأس هذه الورقة عنوان الجزء مع صاحب الكتاب هكذا:
الرّابع من التصاريف ليحيى بن محمد بن يحيى بن سلاّم
وكما جاء في آخر الجزء الأول عنوان أوّل كلمة سوف ترد في الجزء الثاني، كذلك حمل هذا الجزء عنوان أوّل كلمة سوف ترد في الجزء الخامس، الَّذي لم يصلنا. وتلك الكلمة هي: "الآخرة".
ونجد في هذه الورقة الأخيرة وفي الَّتي قبلها سماعات عديدة، كثير منها لا يقرأ. وتتَّفق في بعضها مع سماعات الجزء الأول، كما تتفق مع الشيخ الملقي للكتاب وهو: أبو زكرياء.
الجزء الثاني: وتتعقد الأمور فيما بين الجزءين الأول والرّابع. والَّذي سأعرضه إنَّما هو اجتهاد، يرتكز على ما تبقَّى بين أيدينا من كتاب التصاريف، بعد طرح هذين الجزأين.

(1/50)


لقد رأينا الجزء الأول يقف عند لفظة: "عدوان" دون أن يشرحها. فمعنى ذلك أنّ أوّل كلمة في الجزء الثاني سوف تكون لفظة: "عدوان". وعلى هذا الأساس اعتمدنا لتحديد بداية هذا الجزء.
وإذا رجعنا إلى ما تبقى من التَّصاريف، بعد طرح الجزأين الأوّل والرّابع نجد قطعة بها نقص بالأول وبالآخر، تشترك في أوّلها مع آخر الجزء الأوّل في الألفاظ التّالية: "الخير" (الوجه الرّابع) ، "الخيانة"، "الفتنة"، ثم تأتي لفظة: "عدوان". ويستمر الشرح.
كيف نفسر هذا الاختلاف بين الأجزاء؟
فهل أنّ تجزئة الكتاب تختلف من نسخة إلى أخرى؟
إنّ الذي نلاحظه أنّ عدد الكلمات بالجزء الأوّل اثنتان وثلاثون كلمة، وبالرابع تسع وثلاثون كلمة، وفيما تبقى من التَّصاريف نجد اثنتين وأربعين كلمة، بعد حذف الكلمات المشتركة مع الجزء الأول، وعددها ثلاث كلمات.
والملاحظ أيضا، أن بآخر القطعة نقصا. فمعنى ذلك أنّ عدد الكلمات بهذه القطعة أكثر من اثنتين وأربعين كلمة. وهذا كثير إذا ما قارنَّاه بما جاء في الجزئين الأوّل والرّابع. والتجزئة القديمة معروفة لا تتجاوز حجما معيَّناً. لذلك نميل إلى كون هذه القطعة، مثلما اشتملت على بعض من الجزء الأوّل قد اشتملت على الجزء الثَّاني الَّذي يبدأ بكلمة: "عدوان"، وكذلك على بعض الجزء الثالث، دون أن يعمد الناسخ إلى الفصل بين تلك الأجزاء.
والذي نستطيع أن نجزم به فيما يتعلَّق بالجزء الثالث، هو أنّ آخر كلمة اشتمل عليها هي كلمة: "الصَّلاح". فقد وردت في ظهر الورقة الأولى من الجزء الرّابع، تلك التي تحمل فهرس كلمات الجزء. وقد سجّل الناسخ بقية تفسيرها قبل أن يشرع في تفسير أوّل كلمة في الجزء، والَّتي هي كلمة: "ظهر".
نستخلص من هذا أنّ للتَّصاريف ثلاث نسخ ناقصة، تبقَّى من الأولى الجزء الأوّل وهو تام، ومن الثَّانية الرَّابع وهو تام، ومن الثَّالثة الجزء الثَّاني مع شيء من الجزء الأوّل، وربما بعض كلمات من الجزء الثالث.
وهكذا يكون لدينا من التَّصاريف الأجزاء: الأوّل، والثَّاني، والرَّابع وجميعها تام. وليس لنا من الجزء الثالث سوى بقية كلمة الصّلاح الَّتي يبدو أنَّها آخر كلم واردة فيه، وربَّما أيضا بعض كلمات من أوّله. والكلمة الأولى من الجزء الخامس.

(1/51)


فهل أن عدد أجزاء التَّصاريف خمسة؟
الأقرب إلى الذهن أنَّها كذلك، نظرا لأسبقية التصاريف في التَّاريخ. وكلّ فنّ في أيامه الأولى، يستبعد فيه الشمول.

وصف مخطوطات التصاريف
توجد جميع نسخ التصاريف بالمكتبة العتيقة بالقيروان.
ويندرج الجزء الأوّل تحت رقم: 151، ملفّ: 211.
تحتوي القطعة على 28 ورقة مكتوبة، يتوقَّف النَّص في منتصف الورقة: 27 ليسجَّل في بقيَّتها وبعض الورقة الموالية عدد من السَّماعات.
وقد وقع ترقيمها من طرف الأستاذ البهلي النَّيَّال من 404-1-211 إلى 431.
وقد كتبت على الرّق، بخط مغربي، واضح نسبيًّا، لم يطرد فيه الإعجام. مقاسها: (5، 28 × 16. 5سم) .
عدد الأسطر غير قارّ ويتراوح بين: 25 سطرا و 35 سطرا.
وفي هذا الجزء تشويش في كتابة النَّص خلافا لما عليه بقية الأجزاء الأخرى. فالناسخ لا يعود إلى السَّطر لكتابة العناوين، ويكتب أشباه العناوين حيث ينتهي به الكلام السَّابق، إلاّ في القليل النَّادر. لذلك كان الخطّ في هذا الجزء فيه شيء من التَّداخل.
ولا نجد تاريخ كتابة هذه القطعة، ولا اسم النَّاسخ. ونجد في الورقة الأخيرة منها سماعات، أرّخ بعضها سنة 370هـ، والبعض الآخر 371 هـ.

(1/52)


وهذا التَّاريخ قريب من الَّذي نراه على بعض نسخ تفسير يحيى بن سلاّم. فهنالك قطعة تحمل سماعا مؤرخا سنة 345هـ. وقد تمّ نسخها سنة 335هـ.
فهذا الجزء يجعلنا نميل إلى أن تكون كتابة هذا الجزء من التَّصاريف قد تمَّت حوالي منتصف القرن الرابع.
أما الجزء الثاني، فإنه يندرج تحت رقم: 159، ملف: 11.
به 32 ورقة، بعد حذف الكلمات المشتركة بينه وبين الجزء الأول. وقد رقَّمها الأستاذ البهلي النَّيَّال من 437 إلى 465.
وإن كنا نعلم بداية هذا الجزء - وهي كلمة "عدوان" - فلسنا نعلم على وجه التحديد آخر كلمة وردت فيه.
وقد كتب هذا الجزء بدوره على الرّقّ بخطّ مغربي، شديد الوضوح، إلاّ في أماكن معدودة.
مقاسه: (29. 5 × 17سم) .
عدد الأسطر يتراوح بين: 30 و 33.
ويمتاز هذا الجزء بنظامه الجميل في كيفية تقديم النَّص إذ كتبت العناوين الكبرى وسط السَّطر، ويعود الكاتب إلى السَّطر، كلّ مرة، لتسجيل أشباه العناوين. كما جعل هامشا جانبيّاً يسجّل في الكلمة المدروسة مع معناها المذكور لها.
ونلاحظ أن الناسخ قد جعل في الهامش أيضا حرفا أو حرفين أمام العنوان الأصلي للكلمة المشروحة. مثال ذلك: ز، هـ، ج، ج ي، أي الخ.
وقد لاحظنا هذه الظاهرة في السجلّ القديم لمكتبة القيروان. ولعلَّها طريقة قديمة في الترقيم.
أما الجزء الرَّابع، فإن مخطوطته توجد في أوراق مبعثرة، بها نقص، قد سجلت تحت رقم: 169، وقد تم جبر ذلك النّقص بالاعتماد على صورة للمخطوط جلبت من القاهرة.

(1/53)


ويشتمل الجزء على 27 ورقة، قد ظهر ترقيم الأستاذ البهلي النَّيَّال لها في الورقة الأولى: 432 - 1 - 211، لكنه اختفى بعد ذلك إلاّ من بعض الورقات. وبهذه القطعة نقص أيضاً بآخرها، قد أتممته بالرجوع إلى صورة ميكروفلم بها تفسير ابن سلام.
كما أنَّ به خروما لا بأس بها أتلفت جزءا كبيرا من تفسير بعض الكلمات. وقد كتب هذا الجزء أيضا على الرّقّ، بنفس الخطّ، وعلى نفس النِّظام الَّذي سار عليه الجزء الثَّاني.
ويحمل هذا الجزء سماعات في أعلى الورقة الأولى، وهي غير واضحة، كما يحمل سماعات في الورقتين الأخيرتين منه، معظمها غير واضح.

الخط والرسم في قطع التصاريف
قد ذكرنا بأن الخط الذي كتبت به أجزاء التَّصاريف خط مغربي قديم، والخط المغربي القديم النشأة ظهر بمجرد استقرار المسلمين بالقيروان بعد فتح عقبة لها. وهو مشتق من الخط الكوفي القديم، ويمتاز الرسم في قطع التصاريف بعدم اطِّراد الإعجام فيها، خاصة منها الجزء الأوّل، الذي خلا أيضاً خلوًا كليّاً من الحركات، وقد نجد شيئا منها في الجزءين الثاني والرّابع.
وقد سلك الناسخ في رسم بعض الأحرف مسلكا خاصا، فهو يضع مثلا تحت حرف السين ثلاث نقاط أفقية للتنبيه على كونها ليست شينا. مثال بببفلوا، حبببر. لـ: سفلوا، خسر. وعوض أن يرسم الألف مقصورة في الكلمات التي أصلها ياء فإنَّهُ يجعلها في الغالب ألفا ممدودة.
كما أهمل الناسخ رسم الهمزة، خاصة في آخر الكلمة، ولم يتَّبع في كتاب الآيات الرسم التَّوفيقي.
وقد أرجعت رسم المخطوط إلى الكتابة المتعارفة لدينا دون أن أنبَّه إلى ذلك.

الإضافات في قطع التصاريف
هنالك ملاحظة ينبغي لفت الانتباه إليها لأهميَّتها. ذلك أن المتتبّع لأجزاء

(1/54)


التَّصاريف، يلاحظ في الجزءين الأول والثاني، نسبة الأقوال أحيانا إلى قائليها كالحسن، ومجاهد، ويحيى (يعني ابن سلاّم الجدّ) . ولا نجد ذلك في الجزء الرّابع إلا نادرا.
وإذا تتبعنا كيفية إيراد نسبة الأقوال إلى قائليها، نجدها تختلف بين الجزء الأوّل والثَّاني.
فقد وردت في الجزء الأوّل، مدرجة وسط النَّص، بنفس الخطْ الَّذي كتب به النص. بينما نجدها في الجزء الثَّاني، قد وردت على صورة إضافات في الهامش أو بين الأسطر، بخطّ وحبر يختلفان عن الذي نجده في النَّص.
نستنتج من هذا أن تلك الإضافات ليست من الأصل، وإنما قد تم إدخالها عليه. وربَّما كان ذلك اثناء إلقاء الشيخ للكتاب.
والذي يجعلنا نطمئن إلى هذا الاحتمال، وجود عبارة تدل على الموضع الذي منه يستأنف الدرس في الحصة الموالية. وهي: "غدا عرضنا من هنا". فإنّ خطَّها يشبه كثيرا الخط الذي كتبت به تلك الإضافات. وينبغي أن نشير إلى أنّ الذي قام بهذه الإضافات لا بدّ أنَّه كان ملمّا بتفسير يحيى الجدّ، للاتفاق الموجود بينهما وبين ما ورد فيه.

(1/55)


السماعات
يحمل الجزء الأوّل والجزء الرابع، عددا من السَّماعات. لكنّ الكتابة في هذه السماعات لم تكن دائما واضحة. فنتج عن ذلك عدم التوفيق إلى معرفة كل الأسماء المذكورة.
ويظهر أن الأشخاص المذكورين لم يكونوا أولي شهرة، إذ لم نعثر في كتب التراجم إلاّ على واحد منهم، ذكر في سماعات الجزء الرابع. وهو: أبو حفص عمرون بن محمد بن عمرون السّوسي (ت 395/1004) . ويبدو من نسبه ومن

(1/56)


الشيوخ الَّذين درس عليهم، أنَّه من سوسة. ولم يشر عياض إلى شيخ تفقّه به أبو حفص يكنى أبا زكرياء. وهو الشيخ الذي ورد اسمه في السَّماعات.
وقد عمّر أبو حفص طويلا إذ توفي وقد بلغ المائة سنة أو تجاوزها بأربع سنوات.
وذكر عياض أَنَّه كان فقيها، فاضلا، متوقِّفا عن الشبهات. ويظهر أنه جلس للتَّدريس.
وقد وقفت على قطعة من تفسير يحيى الجدّ برواية يحيى الحفيد، كان الملقي لها هو "أبو حفص عمرون بن محمد الفقيه" وذلك سنة 345هـ.
وإذا قارنَّا هذا التاريخ بتاريخ سماع ابي حفص للتَّصاريف، يعني سنة 371هـ. نجده قد ألقى التفسير وعمره حوالي 54 سنة، وسمع التَّصاريف وعمره حوالي 80 سنة.
ويبدو أن هذا ليس أمرا غريبا. فقد ذكر عياض أن أحد شيوخ أبي حفص وهو عبد الله بن أحمد بن ابراهيم بن اسحق، المعروف بالإبياني (أبو العباس) (ت352/963) قد استكمل حفظ القرآن وله سبعون سنة.

(1/57)


تحليل كتاب التصاريف
يتكون كتاب التصاريف من فقرات، تحتوي كل فقرة منها:
- على كلمة قرآنية قد تناولها المؤلف بالتفسير عن طريق ذكر وجوهها، يعني معانيها التي وردت بها في القرآن.
- على مجموعة من الآيات وقع توزيعها باعتبار الوجوه المذكورة للَّفظ المدروس.
ففي الكتاب إذن تجميع للآيات المتحدة في مادة معينة، ثم توزيع لتلك الآيات على وجوه تلك المادة.
ويمكن أن تطرح في نطاق هذا الكتاب ثلاثة أسئلة:
1- على أيّ أساس وقع اختيار الألفاظ؟
2- كيف تم ترتيبها؟
3- ما هي طبيعة التفاسير التي فسرت بها؟

(1/58)


الأساس الذي وقع اختيار الألفاظ عليه:
لم يذكر ابن سلاّم الأساس الذي اختار على ضوئه الألفاظ المفسَّرة، وذلك لأنه لم يضع في أول تأليفه مقدّمة يوضّح فيها منهجه. لذلك يتعذّر على الباحث الوصول إلى القول الفصل في المسألة.
وقد سبق أن رأينا من بين الأسباب الداعية إلى التأليف في الوجوه والنَّظائر وجود كلمات يكثر ورودها في القرآن، فجمعها المؤلفون في هذا الفنّ، مبيّنين معانيها المختلفة التي استعملت بها في النصّ القرآني.
غير أن هذا السبب لا نراه كافيا ليعتبر أساسا لانتقاء الألفاظ في كتاب التصاريف لأنه لم يستوعب كلّ الكلمات التي هي من هذا النَّوع. والكتاب، وإن كان به نقص، فإننا نعتقد أنَّه قد وصلنا معظمه، وذلك بمقارنته بكتاب مقاتل الذي كان معاصرا لابن سلاّم، والذي يتفق معه ابن سلاّم في التَّصاريف، في أغلب ما أورده.
ولعلّ النظر في نوع الكلمات المفسَّرة يعين على حلّ المسألة. فالذي يلاحظه القارئ، أنّ أغلب الكلمات الواردة يسهل وضعها في إطاره مثل: الكفر، والهدى، والإيمان، والشِّرك فإنَّها كلمات تستعمل في ميدان العقيدة.
ومثل: الصيحة، والصّراط، والآخرة فإنَّها من علوم الآخرة.
ومثل: إمام، وفتنة، وعدوان، ووليّ فإنَّها من مشمولات الحقل الديني والحقل السياسي. وبتتبَّع هذه الكلمات وغيرها، نلاحظ أن الجانب الغالب عليها هو جانب أصول الدّين: العقيدة وما يتعلَّق بها.
فقد فسَّر ابن سلاّم كلمات الكفر، والشِّرك، والإيمان، والهدى، والضّلال وهي كما لا يخفى كلمات أساسيَّة للتعبير عن العقيدة.
ولم يكتف المؤلف بعقد فصل خاصّ لكلّ مصطلح منها، فقد ذكرها أيضاً باعتبارها وجها من أوجه كلمات عديدة أخرى وقع تفسيرها في الكتاب. فورد الشرك وجها لثلاث عشرة كلمة هي: هدى، إيمان، سوء، سيئة، فتنة، طهور، منكر وجها لثلاث عشرة كلمة هي: هدى، إيمان، سوء، سيئة، فتنة، طهور، منكر، ظلمات، ظالمين، ظلم، باطل، خاطئين وحنث.
وقد علَّق المؤلف على قوله تعالى: {وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم} بقوله: "يعني الذنب العظيم، وهو الشرك".

(1/59)


وورد الكفر وجها من أوجه كلمة هدى، وفتنة، وحرب وضلال.
وورد الإيمان وجها من أوجه كلمة مشي، ورحمة، وخير، وصلاح وكلام.
وإلى جانب هذه المصطلحات العقدية، تعرض ابن سلاّم إلى المصطلحات الدَّالَّة على مشمولات العقيدة.
فذكر القرآن والكتب في كلمات: رحمة، وفرقان، وذكر، وحكمة.
وتعرّض إلى الأعمال من طاعة وعصيان في كلمات: فساد، وسوء، وخيانة، ولباس، وقانتين ومطيعين.
وذكر اليوم الآخر وما يتعلق به في كلمات إمام، وصيحة، وأمر، وأرض ونشور، وكلام، وأجل وصراط.
إلى جانب هذا يجد الباحث في الكتاب، ما يذكره بمسائل كان الخوض فيها حثيثا في عصر ابن سلاّم، من ذلك: الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وهي من الأصول الاعتزالية، وتفسير: قضى وكتب، حيث أكَّد أن كلّ ما يقع إنما هو من الله، أو الإشارة إلى نفي رؤية الله في الدّنيا، وتأويل الوجه إلى معنى الله. وتتعلق المسألة الأخيرة بالمتشابه من الصّفات في القرآن.
بحيث يمكن للباحث أن يتبيَّن عموما الاتجاه السنّي الذي درج عليه المؤلف في هذا الكتاب، ولا تستوقفه أية إشارة يتبين من خلالها التهمة الَّتي ألصقت به في نسبة الإرجاء إليه. وربَّما رأينا عكس ما يثبتها إذ نراه يؤكد على قيمة الأعمال كلما سنحت له الفرصة بذلك.
وليس من الغريب أن يتعيَّن اهتمام ابن سلاّم بالجانب الأصولي في انتقاء الكلمات. فالعصر الذي ظهر فيه، والبلاد التي نشأ فيها، يفسران وجهته تلك.
فقد نشأ ابن سلام في عصر كانت للعقيدة فيه المكانة المرموقة. فهو عصر تبلورت فيه المذاهب الكلامية، وتحمَّست كلّ فرقة فيه لما رأته.
كما أنه نشأ بالبصرة، ذلك البلد الذي التقى فيه الخارجي بالشيعي، وصاحب الأرجاء بالمعتزلي، للخوض في مسائل عقدية معلومة، كمسألة الكفر والإيمان، ومرتكب الكبيرة، وخلق القرآن والصّفات. وقد قال يحيى بن سلاّم حين سئل بالقيروان "ما أدركت النَّاس يقولون في الإيمان؟ " فأجاب: "أدركت مالكا وسفيان

(1/60)


الثوري وغيرهم يقولون: الإيمان قول وعمل، وأدركت مالك بن مغول، وقطن ابن خليفة وعمر بن ذر يقولون: الإيمان قول".
لكن الذي ينبغي ملاحظته في رأيي، هو أن النَّاظر في كتاب التصاريف لا يشعر بحرص المؤلف على نقل ما كان يدور بين هؤلاء وهؤلاء في تلك المسائل. فلا يفسّر الكلمة إلاّ بقول واحد، كما أنه لا يتعمَّق في شروحه. وغايته القصوى، بيان الاستعمال القرآني للألفاظ.
أوّل ملاحظة نبديها بالنسبة لهذه المسألة الاتفاق في ترتيب مجموعات من الكلمات بين كتاب التصاريف وكتاب الأشباه والنظائر لمقاتل بن سليمان. وقد أشرنا إلى هذه الملاحظة في موضع سابق.
ولم يتمّ ترتيب الكلمات في الكتابين على الأحرف الهجائية ولا حسب المحاور.
وقد لاحظت بالنسبة للجزء الأوّل، أن ابن سلاّم كان يبدأ دائما في ذكر النظائر بسورة البقرة، ولا يشذ عن ذلك إلا في شرح بعض الكلمات. كما لاحظت أنه قد تدرج بآياتها، من الآية الثالثة، وهي الآية التي وردت فيها كلمة هدى، أوّل ما جاء في الكتاب من الكلمات، إلى أن وصل إلى الآيات الأخيرة منها. ولم تتخلف هذه الطريقة في الجزء الأول إلا في القليل.
يستنتج من هذه الملاحظة أن ترتيب الكلمات في هذا الجزء ناتج عن أسبقية ورود الكلمة في المصحف. فكلمة "هدًى"، وردت في الآية الثالثة من سورة البقرة، لذلك جاءت قبل كلمة "الكفر" المذكورة في الآية السادسة. ثم وردت كلمة "المرض"، وهي في الآية العاشرة. وكلمة "الفساد"، وهي في الآية الحادية عشر. و "المشي"، وهي في الآية العشرين. الخ ... .
وهذا الترتيب شبيه بالذي جاء عليه كتاب لغات القرآن المرويّ عن ابن عباس. فإنه مرتب على السور، وقد استعرض راويه مجموعة من الكلمات، فأورد كل واحدة منها في آية أو بعض الآية، مثلما فعل ابن سلاّم في كتاب التصاريف، ثم شرحها. وعقَّب على ذلك باسم القبيلة التي تستعمل فيها الكلمة بذلك المعنى المذكور. مثال

(1/61)


ذلك: سورة البقرة، قال الله عزّ وجل: {أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السفهآء} والسفيه الجاهل بلغة كنانة. وقوله: {رَغَداً} [البقرة: 35] يعني الخصب بلغة طيء. الخ. وإلى جانب هذه الملاحظة الأولى، تبينت ملاحظة ثانية، وهي أنّ تسلسل بعض الكلمات ناتج عن انتمائها لنفس المحور، كتسلسل كلمات: "الكفر"، و "الشرك" و "الإيمان"، وثلاثتها كان الاستشهاد الأوّل فيها من سور مختلفة. وكذلك تسلسل كلمات: "سوء"، "الحسنة" و "السَّيِّئة" و "الحسنى".
لكن ملاحظتينا لا تطَّردان في بقية الأجزاء من الكتاب، لذلك لا نجزم بهما، إلاّ أن يكون قد دخل تغيير على ترتيب تلك الأجزاء وهو الأقرب إلى المعقول إذ تصور الشيخ الملقي لكتاب في الوجوه والنظائر يستعرض الكلمات في ترتيب تنازليّ للمصحف مُبيِّناً لكلّ آية ذُكرت فيها الكلمةُ لأوّل مرّة نظائرها في بقية السور الأخرى. هذه الإجابة لا تعدو أن تكون احتمالا نظرا لانعدام المستندات التي يمكن الاعتماد عليها بصفة يقينية.
طبيعة التفسير في كتاب التصاريف:
لقد سبق أن أشرنا إلى اتفاق كتاب التصاريف في المعاني التى ذكرها للكلمات مع كتاب التفسير ليحيى بن سلام. وهذا الكتاب، الذي نعُدّه اليوم أقدم تفسير تناول القرآن كاملا بالشرح، إذ هو من القرن الثاني للهجرة، يعتبر تفسيرا بالمنقول في عمومه. فقد اختص ابن سلاّم بكثرة مروياته عن عدد كبير من الذين التقى بهم في حياته، كما روى عمَّن لم يلتق بهم مباشرة؛ مثلما فعل مع الحسن البصري، إذ أنَّه أخذ عن تلاميذه.
فالتفاسير طُبعت في كتاب التَّصاريف بطابع الرواية. يؤيد ذلك ما أشرنا إليه من اتفاق الكتاب مع كتاب التفسير، كما يؤيده ظهور أسماء بعض الرواة فيه مثل: مجاهد، والحسن، وابن عباس، والكلبي وغيرهم.

(1/62)


ويقتصر ابن سلاّم عند شرح الكلمة في الغالب على الشرح اللّغوي والشرح القرآني يقدمها في إيجاز. فكلمة "هدى" تعني البيان، ودين الإسلام، والدعاء والمعرفة الخ ... . وكلمة "توحيد" تعني الإقرار باللسان، والتصديق، والتوحيد الخ ...
وهكذا بالنسبة لكل الكلمات الواردة في الكتاب.
لكن هذا لا يمنع أن يجد الباحث في كتاب التصاريف أيضا تعرّضا لذكر أسباب النزول، أو لذكر القراءات، أو لذكر المكي والمدني من الآيات. غير أنّ ذلك لم يرد فيه بكثرة.
فبالرجوع إلى ما ذكرنا يصحّ أن نعتبر كتاب التصاريف كتاب تفسير، إذ يصدق عليه تعريف كلمة التفسير بأنه بيان اللَّفظ عن طريق القرآن، أو عن طريق السَّماع والرواية. مع ملاحظة أنَّه يختلف عن كتب التفسير المعهودة في كيفية تقديم مادّته لأنه يرمي إلى غايتين معلومتين: الشرح والجمع.
ويجوز أن نتساءل، هل يوجد في الكتاب تأويل إلى جانب التَّفسير لما نعلمه من علاقة بين المصطلحين؟
فإن كان بعض العلماء قد وحَّد بين الكلمتين فإن البعض الآخر قد جعلهما مختلفتين، وقد عرّف بعضهم التفسير بأنه: "بيان لفظ لا يحتمل إلاّ وجها واحدا، والتَّأويل توجيه لفظ متوجّه إلى معان مختلفة إلى واحد منها، بما ظهر من الأدلة". وأضاف الأصبهاني: "وأما التأويل فإنَّه يستعمل مرّة عاما، ومرة خاصا، نحو الكفر المستعمل تارة في الجحود المطلق، وتارة في جحود الباري عزّ وجلّ خاصّة ... وإما في لفظ مشترك بين معان مختلفة، نحو لفظ وجد المستعمل في الجِدة، والوجد والوجود".
على هذا الأساس يعتبر كتاب التصاريف مشتملاً على التأويل مثلما هو كتاب تفسير. فهو كتاب تفسير بما فيه من الرواية، وهو كتاب تأويل أيضا بتوجيه اللَّفظ إلى المعنى المقصود دون غيره من المعاني المشتركة.
لكن ينبغي أن لا نغفل عن ملاحظة هامَّة. وهي أن التَّوجيه المقصود في التَّعريف المذكور موكول إلى الاجتهاد، ما دامت هنالك أدلَّة يتصرّف فيها المفسر، ويرجّح على ضوئها المعنى المقصود؛ فالمؤوّل يستنبط المعنى استنباطا.

(1/63)


أمَّا في التصاريف فلا أعتقد أنّ فيه من التأويل بهذا المعنى شيئا، لأنه كما سبق أن قدّمنا كتاب مبنيّ على الرّواية أساسا. والوجوه المذكورة للَّفظ الواحد إنَّما أخذها ابن سلاّم عمَّن روى عنهم. وهي راجعة على ما يبدو، إمَّا إلى اختلاف اللَّهجات العربية، والقرآن لم يخل من تلك اللَّهجات، أو إلى نتيجة تطوّر الكلمة في بيئة معيَّنة، من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي، وهذا ما يفسّر الاتفاق الملاحظ بين كتاب مقاتل وكتاب ابن سلام في الوجوه القرآنية، وكذلك اتفاق التصاريف مع كتب التفسير بالمأثور كالطبري، وكتب اللّغة كلسان العرب.
ما تمتاز به كتب الوجوه والنظائر
إن كان يوجد هذا الاتفاق بين كتاب التصاريف الذي هو في فنّ الوجوه والنظائر القرآنية، وبين كتب التفسير بالمأثور وكتب اللغة، فما هي فائدة كتب الوجوه والنظائر؟
لعل ذلك يبدو في أنه يوجد فيها ما لا يوجد في التَّفسير إلاّ نادرا. ذلك أنّ الباحث يظفر في تلك التآليف بتجميع الآيات المتحدة المعنى في مكان واحد. وهذا أمر هام، لأنه من ناحية شرح للقرآن بالقرآن، وهو كما نعلم أوّل أنواع التَّفاسير وأسماها.
وتظهر أهميته من ناحية أخرى لمن أراد الإحاطة بالمعاني القرآنية المتحدة في نظرة عضوية متكاملة، خاصّة وأن الفترة الَّتي ألَّف فيها كتاب التصاريف لم تكن المعاجم اللّغوية، أو المعجمات العامة، قد ظهرت فيها بعد. فاللّغة لم تزل مفرّقة في الصّدور، يأخذها الناس مشافهة، ويتناقلونها عن طريق الرواية. وأوّل معجم عام ظهورا هو كتاب العين للخليل بن أحمد، من رجال القرن الثاني.
لكتب الوجوه والنظائر إذن أهمية أتتْها خاصة من المنهج الذي سارت عليه في تقديم مادّتها. فهو يسهّل على النَّاظر فيها استيعاب ما ورد فيها بسرعة وبوضوح.
قيمة كتاب التصاريف
لكتاب التصاريف قيمة مزدوجة: تاريخية وفنية.
فهو يعتبر من الناحية التاريخية، إلى جانب كتاب مقاتل، من أقدم ما وصلنا من

(1/64)


آثار القرن الثاني، وذلك هام بالنسبة لدراسة نشأة تفسير القرآن، خاصّة وأنّ الكتاب معزّز بوجود كتاب التفسير لابن سلاّم ذاته، فبطل بذلك قول من جعل كتاب الطبري أقدم أثر وصلنا في تفسير القرآن كاملا.
وما دام ابن سلاّم قد تأخَّر في التاريخ عن مقاتل إذ توفي ابن سلام سنة (200/815) وتوفي مقاتل سنة (150/767) فإن اتفاق كتابه مع أغلب كتاب مقاتل طريق لتوثيقه. فنُبعد بذلك عن مقاتل ما رمي به من الكذب، في هذا الكتاب على الأقلّ، ونزيد اطمئنانا لما ورد في كتاب التصاريف، وبالتَّالي لكلّ ما وصلنا من كتب ابن سلاّم.
أمّا من الناحية الفنية فإنّ كتاب التصاريف هام، لأنَّه طرق موضوعا من أقدم المواضيع التي وقع تناول النَّص القرآني بها. والغريب ان ابن النَّديم لم يخصص فقرة للحديث عن كتب الوجوه والنظائر، وقد أشار إلى عدة تآليف تتعلَّق بمواضيع قرآنية مختلفة كلغات القرآن، وغريب القرآن والتفسير الخ ...
وقد ذكّرنا قبل حين بأهمية موضوع هذا العلم فيما يتعلق بدراسة القرآن، دراسة لغوية من جهة، إذ هو يعمد إلى شرح الكلمات شرحا لغويا، ودراسة معجمية من جهة أخرى إذ هو يعمد إلى تجميع الآيات النظائر يعني المتفقة في اللَّفظ والمعنى. فهو خطوة أولى لوضع المعاجم تتطلب من صاحبها يقظة ذهن ومعرفة دقيقة بالقرآن وباللّغة معا.
وممَّا يدل على أهمية كتب هذا الفن أنَّه قد استمرَّ وجودها ولم يقْض عليها ظهورُ المعاجم اللّغوية. والسَّبب في ذلك أنَّه رغم اتفاق المعاجم اللّغوية مع كتب الوجوه والنظائر في أغلب المعاني الموجودة فيها، فإن هذه الكتب طغت عليها الصّبغة القرآنية. فربَّما وجدنا فيها معاني لا تتعرّض إليها كتب اللّغة، لأنَّها قرآنية محضة. نذكر على سبيل المثال تفسير كلمة: "الناس" التي جعل لها ابن سلاّم أحد عشر وجها، لم يذكر منها ابن منظور سوى وجه واحد. وكذلك كلمة "المشي".
وربما كان هذا هو الذي أكسب كتب الوجوه والنظائر خصوصيتها، وإن شئت قلت: انعزاليتها، إذ لم نعثر في كتب التفسير أو في غيرها من كتب الدراسات

(1/65)


القرآنية واللغوية على من اعتمد هذا النَّوع من الكتب. فبقيت كتب هذا الفنّ كتب اختصاص، يقصدها من أراد تحقيق غاية معيَّنة وهي الإلمام بمعاني الكلمات القرآنية، في نسقها القرآني، واستحضار نظائرها بسرعة، فيعين ذلك حفَّاظ القرآن على امتلاكه لفظا ومعنى، مثلما امتلكوا المتشابه من لظفه مثلا عن طريق تجميع الآيات المتشابهة في مكان واحد.
وهذا ولا شكّ له أهميته في حفظ نوع معيَّن من التفسير، هو التفسير بالمأثور، ولكن يوجد إلى جانب ذلك في هذه الكتب شيء من السلبية إذ أنّ هذا النَّوع من التأليف يعتبر عاملا يقيّد الأفهام ويشدها إلى تلك المعاني المأثورة فيتحجَّر بذلك النَّص وتتضاءل فرص الإفادة منه.
ودليلنا على ذلك ما وجدنا في كتب الوجوه والنظائر ذاتها على مرّ العصور. فهي هي هي، لم تغيّر من معانيها إلا في القليل الذي لا يكاد يذكر. فمطالعة أقدم أثر في هذا الفنّ وأعني بذلك كتاب مقاتل وكتاب ابن سلاّم وكلاهما من القرن الثاني، تغني عن مطالعة أحدث ما وصلنا فيه وأعني بذلك كتاب ابن العماد الذي ظهر في القرن التاسع.
ولا أعتقد أنّ ملاحظة
P. Nwyia صائبة عندما اعتبر مقاتل بن سليمان قد نظر إلى النص القرآني في كتاب الوجوه نظرة تركيبية شاملة. ذلك لأن ما لاحظناه من تشابه كبير بين كتاب مقاتل وكتاب ابن سلاّم، يدلّ على أنّ كتاب مقاتل مبنيّ على الرّواية وليس على الاجتهاد الفردي. أضف إلى ذلك أنّ التفاسير المذكورة في الكتاب، بالاستناد إلى ما جاء في كتاب ابن سلاّم، لم تُرو عن مفسّر واحد. فكيف يصحّ القول بالنظرة التركيبيَّة بهذا الاعتبار؟
إن هذا الذي ذكرناه يطرح المشكلة الكلاسيكية المعروفة من جديد: هل ينبغي أن نتقيَّد في التَّفسير بما أثر عن الأوائل، أو ينبغي أن نجتهد فيه الرأي؟ وبعبارة أخرى: هل ينبغي أن نقتصر في فهمنا للقرآن على المنهج الأثري، اللّغوي ونُغفل ما وصل إليه الباحثون، خاصّة فيما يتعلَّق بتطوّر المفاهيم اللّغوية ونمُوّها عبر العصور؟

(1/66)


مؤلف كتاب التصاريف وراويه
يحيى بن سلام
اسمه:
أبو زكرياء يحيى بن سلام بن أبي ثعلبة التَّيمي تيم ربيعة مولاهم. هكذا ورد ضبط اسمه في معالم الإيمان في طبعته الحديثة.

(1/67)


وقد ذكر الدَّباغ أنّ أبَاه من الكوفة، ثم انتقل إلى البصرة. لذلك اتَّفقت المصادر على تلقيب يحيى بن سلام بالبصري. ولم نصادف من لقَّبه إلى جانب البصري بلقب ثان سوى ابن حجر حيث ذكر اسم يحيى بن سلاّم، نقلا عن سعيد بن عمرو البردعي، متْبُوعاً بـ "المغربي"، إشارة ولا شك، إلى انتقاله إلى إفريقية الَّتي استقر بها.
حياته:
تكاد تكون جميع كتب التَّراجم عالة على أبي العرب، والمالكي، فيما أوردته عن ابن سلاّم. لذلك لا نعتبر محظوظين فيما لدينا من معلومات عن هذا الرّجل، خاصة وأنّ أبا العرب لم ينهج منهج الإطالة فيما كتب، فقد علَّق عند حديثه عن ابن سلاّم بقوله: "وله مناقب كثيرة تركتها كراهة التَّطويل".
وربما عثرنا على شيء من التَّفصيل في كتاب المالكي، غير أنَّنا لا نظفر فيه بطلبتنا فيما يخصّ بعض المسائل التي بقيت غامضة إلى اليوم.
كانت ولادة يحيى بن سلاّم بالكوفة سنة (124/741 - 742) . ثم انتقل به أبوه ليسكن البصرة.
ويظهر أنّ ابن سلاّم قد اشتغل بتحصيل العلم. فقد ذكر المالكي أن يحيى كان يقول: "أحصيت بقلبي من لقيت من العلماء فعددت ثلثمائة وثلاثة وستين عالما سوى التَّابعين، وهم أربعة وعشرون، وامرأة تحدث عن عائشة رضي الله تعالى عنها".
وَالذي ينظر فيما وصلنا من تآليف ابن سلاّم يمكن أن يطمئن إل صحَّة هذا الخبر.
متى قدم يحيى إلى إفريقية؟
لقد رحل ابن سلاّم الرّحلة التَّقليديَّة في طلب العلم؛ فقد جاء أنَّه روى عن مالك. ويظهر أنه التقى به وله نصيب من العلم والمعرفة. فقد ذكر أنّ مالكا

(1/69)


كتب عنه ثمانية عشر حديثا. وهذه شهادة على منزلة ابن سلاّم العلميَّة. إذ أنّ مالكا لا يأخذ سوى عن ثقة.
ثم تذكر كتب التراجم أنَّه قدم مصر، ثم صار إلى إفريقيَّة وسكن القيروان دهرا. لكنَّها لم تحدّد الفترة التي قدم فيها، ولا الأسباب التى دفعته إلى الإستقرار بها. وقد رأى الأستاذ صمّود الذي حقق قطعة من تفسير يحيى بن سلام بأن مجيئه إلى مصر لا يمكن أن يكون بعد 174/790. لأن ابن سلاّم قد روى مباشرة عن ابن لهيعة. وقد توفي هذا المحدث المصري سنة 174/790 بمصر "ولا نعلم لابن لهيعة رحلة إلى البصرة".
إنّ هذا الاستنتاج، وإن كان منطقيّاً، لا يمكن أن نقتنع به إذا راعينا بعض الملاحظات الأخرى.
رأينا أنّ ابن سلاّم قد رحل إلى المدينة للقاء مالك، فلعلَّه قد التقى عند مالك بابن لهيعة، وروى عنه.
كما يجوز أن يكون يحيى قد التقى بابن لهيعة بمصر في رحلته العلمية. فيكون قد زار مصر أثناء هذه الرّحلة، ثمّ زارها عند تحوّله نهائيّاً إلى إفريقية.
ويؤيد ما ذهبنا إليه، ما ذكره ابن حجر في اللسان، من أنّ ابن سلاّم قد حدّث عن سعيد بن أبي عروبة بالمغرب. وقد توفي ابن أبي عروبة سنة 156/772. وبالجمع بين هذا الخبر والخبر السَّابق، يتبيَّن أن ابن سلاّم قد قام برحلته قبل 156/772، حيث كان له من العمر ما يخوّل له أن يجعل مالكا يثق به في علمه ويروي عنه. ولا يمكن أن يكون قدومه بعد 156 هـ لوفاة ابن أبي عروبة في تلك السنة.
ونذكر دليلا ثانيا على استبعاد أن يكون أقصى تاريخ لتحول يحيى بن سلاّم إلى إفريقيَّة نهائيا، هو سنة 174/790 ما يستنتج من معالم الإيمان من أن محمد بن يحيى بن سلاّم، ولد بالبصرة حوالي سنة 180/796، فلا يمكن أن يكون تحوّل ابن سلاّم نهائيا إلى إفريقيَّة إذن قبل هذا التاريخ فهو التاريخ الأدنى لإمكانية قدومه. أمَّا أقصى تاريخ لقدومه إفريقية فيبدو لي أنَّه سنة 183/799، ذلك أنّ ابن سلاّم قد

(1/70)


سمع من البهلول بن راشد، وقد توفِّي البهلول 183/799 ولم يسمع منه يحيى سوى حديث واحد. معنى ذلك أنه لم تطل صحبته له.
فيحصل من هذا كله أن ابن سلاّم قدم إفريقيَّة بين 180/796 - و 183/799 ويكون حينذاك قد دخل في العقد السَّادس من عمره.
ما هي أسباب هجرة يحيى إلى إفريقية؟
لا سبيل إلى تقديم إجابة دقيقة حول هذا السؤال. فإن المصادر لا تعيننا على ذلك.
ولا أعتقد بأن المناخ السِّياسي بإفريقيَّة، في الفترة الَّتي دخلها ابن سلاّم هو الَّذي شجَّعه على القدوم إليها. فقد صادف دخوله الَّذي رجَّحنا أن يكون قد تمّ بين (180-183هـ) انقضاء إمارة المهالبة بسبب ثورة أهل تونس على المغيرة، عامل الفضل بن روح بن حاتم عليها سنة 178/794.
كما صادف ولاية محمد بن مقاتل العكِّي على إفريقيَّة سنة 181/797. ومعلوم أنه قد وقعت الثورة عليه من طرف عامله بتونس: تمَّام بن تميم التَّميمي لجوره. وانتهى الأمر بعزل العكي وتولية إبراهيم بن الأغلب (184/800) . فإن لم يكن الجوّ السياسي هو الذي قد دعا ابن سلاّم إلى دخول افريقية، فلعلّ الجانب العلمي هو الَّذي دفعه إليها. ولا نقصد أن القيروان قد أصبحت في هذه الفترة المبكرة من التاريخ محطّ أنظار طلاّب العلم، يرحلون إليها للأخذ عن علمائها فإن ذلك لم يحصل بعد، إنَّما الذي نقصده ربَّما كان عمليَّة عكسيَّة.
فقد قصد رجال القيروان في القرن الثَّاني بلاد المشرق طلبا للعلم. وبرز في تلك الفترة، من تلاميذ مالك الأفارقة، عبد الرحمن بن زياد بن أنعم المعافري (ت161/

(1/72)


777) الَّذي روى عنه جلَّة المشارقة كسفيان الثوري، وعبد الله بن لهيعة، وعبد الله ابن وهب.
وعبد الله بن فرّوح (ت176-792) الذي يروي عنه يحيى بن سلام. وقد كان ذا مكانة عند مالك.
وأبو يزيد رباح بن يزيد اللخمي (ت 172/788) .
والبهلول بن راشد (ت183/799) وغيرهم.
والذي نتصوره أن يحيى بن سلام قد التقى ببعضهم، وأخذ عن البعض منهم أو عمَّن روى عنهم.
فلعلّ إعجابا بهؤلاء دفع ابن سلاّم إلى اللَّحاق بهم في بلادهم، وهو المولع بالرواية. كما يمكن أن نتصور تحوّل ابن سلاّم إلى إفريقيَّة، ناتجا عن رغبته في بث علمه بتلك المنطقة النائية، سالكاً في ذلك مسلك غيره من المشارقة الذين قدموا إفريقية لهذا الغرض أو لغيره، خاصّة أيَّام أمراء المهالبة الَّذين أحسنوا وفادة العلماء.
شيوخ يحيى بن سلاّم:
لقد تعرضت المصادر إلى ذكر بعض الشيوخ الَّذين روى عنهم يحيى بن سلاّم. وهؤلاء الذين ذكرتهم المصادر، أمثال الحسن بن دينار وحماد بن سلمة (ت 167/783) ، وهمَّام بن يحيى (ت164/780) ، وسعيد ابن أبي عروبة (ت156/772) ، والبهلول بن راشد (ت 183/799) ، وعبد الله بن فرّوخ (ت176 وقيل 175/792) ، قلَّة من وفرة.

(1/73)


وقد أخبر يحيى أنَّه لقي ثلثمائة وثلاثة وستين عالما، سوى التَّابعين، وهم أربعة وعشرون وامرأة تحدّث عن عائشة.
ولا نعتقد أن في هذا الخبر مبالغة، فإنّ من ينظر في التَّفسير الَّذي ألَّفه يحيى ابن سلاّم يتبيَّن مدى صدقه.
ولعلّ هذا التَّعدّد في الشّيوخ يرجع إلى ناحيتين:
1- كثرة ترحال ابن سلاّم. فكلّ بلد دخله روى عن شيوخه. فقد روى عن شيوخ من الكوفة، مثل يونس بن أبي إسحاق (ت 159/775) .
ومن البصرة، مثل أبي الأشهب (ت165/781) .
ومن الشام، مثل عبد الرحمن بن يزيد (ت153/770) .
ومن مكة، وعلى رأسهم مالك بن أنس (ت179/795) .
ومن مصر، مثل عبد الله بن لهيعة (ت174/790) .
ومن إفريقيَّة، مثل عبد الله بن فرّوح (ت176/792) .
2- عدم تقيّده بشروط اشترطها فيمن روى عنهم. فهو يروي عن الثِّقة الَّذي لا مغمز فيه، كسفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث. ويروي عن الضعفاء كالحارث بن نبهان (ت بين 150 - 160/ 767 - 776) ، وبحر بن كنيز السَّقَّا (ت160/779) الذي اتَّفق علماء الحديث على ضعفه. كما يروي عن أصحاب الأهواء والمتَّهمين أمثال إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى (ت184/800) الذي سئل عنه مالك أكان ثقة؟ فقال: "لا، ولا ثقة في دينه". وكان قدريا معتزليّا جهميا كلّ بلاء فيه.

(1/74)


وحمَّاد بن أبي سلمة (ت120/737) وقد ألحّ علماء الحديث على إرجائه ونافع بن الأزرق الخارجي (ت65/685) .
والكلبي (ت146/763) وهو كما نعلم متَّهم بالكذب. وقد أكثر يحيى من الرواية عنه.
فاجتمع له بذلك الوفرة في عدد الشيوخ مع التَّنوّع.
ولا تحدّثنا المصادر عن الشّيوخ الذين تأثَّر بهم يحيى بن سلاّم أكثر من غيرهم، ولا يستطيع الباحث أن يعلم ذلك، بالوقوف على ما وصلنا من تآليف يحيى، غاية ما يمكن ملاحظته، أنّ هنالك أسماء ربَّما وردت أكثر من غيرها في التَّفسير، مثل قتادة، والحسن البصري، والحسن بن دينار، والسّدّي، وابن عباس. ولا تخفى شهرة هؤلاء في ميدان التَّفسير. فلعلّ ذلك هو السَّبب الذي جعله يكثر من الرواية عنهم، مثلما فعل غيره من المفسّرين الذين يعتمدون الرّواية في التَّفسير.
وخلاصة القول، أنّ ابن سلاّم قد أكثر في كتبه من الرّواية عن الشيّوخ، ولم يتخيَّر عمَّن يروي.
ونوَدّ أن نشير إلى أنَّنا لم نعثر في مرويات يحيى عن مقاتل بن سليمان، صاحب الأشباه والنظائر في القرآن، رغم اشتهار هذا في ميدان التفسير وعلوم القرآن.
تلاميذ يحيى بن سلاّم:
ذكرت المصادر عددا من تلاميذ يحيى بن سلاّم، أو من رووا عنه، وأغلب من ذكر، وهم في مجموعهم قلَّة، أفارقة. وهذا أمر طبيعيّ ما دام ابن سلام قد استقرّ بالقيروان.
وقد أخبر ابن سلاّم أنّ مالك بن أنسٍ، روى عنه أربعة وعشرين حديثا. وكان يقول: "كلّ من رويت عنه العلم روى عنِّي إلاّ القليل".
كما روى عنه أصبغ بن الفرج (ت225 أو 224/838) من أهل مصر. وقد كان كاتبا لابن وهب، صدوقا، ثقة، حجَّة في مذهب مالك.
ونخصّ بالذّكر تلميذين له من إفريقيَّة هما: ابنه محمد (ت262/875) ، وأبو داود أحمد بن موسى بن جرير الأزدي العطَّار (ت274/887) ، لأنَّهما

(1/75)


اللَّذان وصل إلينا تفسير ابن سلاّم عن طريقهما، بروايتهما له عن يحيى بن سلاّم المؤلف، وذلك ما نجده في قطع تفسير ابن سلام وفي فهرست ابن خير.
محمد بن يحيى بن سلاّم:
قد ترجم لمحمد بن يحيى بن سلام الدَّبَّاغ في معالمه، ولم يفعل ذلك أبو العرب الَّذي اكتفى بالإشارة إليه ضمن ترجمة أبيه.
ولا تفيدنا هذه الترجمة كثيراً عن حياة هذا الشيخ.
فقد ذكر فيها أنَّه ولد بالبصرة. ويظهر أنَّه قد اشتغل بتحصيل العلم مثل أبيه. فقد ذكر الدَّبَّاغ أنَّه كان "فقيها، حافظا، له عناية كاملة بالحديث، ونقله وروايته، وضبطه، ومعرفة رجاله وحملته".
ويظهر أن تكوين محمد بن يحيى قد تمّ بإفريقيَّة، إذ قد رجَّحنا أن يكون قدوم يحيى بن سلاّم إلى إفريقيَّة بين 180/183هـ. وقد ولد محمد 180هـ. ولم نعثر على ذكر لشيوخ محمد، إلاّ ما نعْلمه من تلمذته لأبيه يحيى عن طريق روايته للتَّفسير عنه.
لكنَّنا لا نشكّ في كونه قد تفقَّه برجال القيروان، ما دام قد نشأ بها. ولا نعلم لمحمد رحلة سوى ما ذكره من مرافقته لأبيه في سفرته للحجّ. وقد خرج يحيى ابن سلاّم للحجّ سنة 200هـ وتوفي في تلك السنة، فيكون عمر محمد عند خروجه مع أبيه عشرين سنة.
وقد عثرنا على بعض تلاميذ محمد بن يحيى. فمنهم:
- أبو عبد الله محمد بن أبي داود العطار (ت300/912) ، الَّذي سمع أيضا من أبيه، أحمد بن موسى، الرّاوي الثَّاني لتفسير يحيى بن سلاّم.
- وأبو العرب، محمد بن أحمد بن تميم التميمي (ت333/944) .

(1/76)


وقد كان سبب طلبه للعلم إعجابه بما شاهده في دار محمد بن يحيى بن سلاّم من طلبة وما كانوا عليه، فأصبح يقصد بدوره ابن سلاّم ويكتب ما يقوله.
- ويحيى بن محمد بن يحيى بن سلاّم (ت280/893) الَّذي روى تفسير جده عن أبيه.
وقد ذكر أبو العرب أن محمَّدا كان ثقة، نبيلا. ويظهر أنه كان على السّنَّة مقاوما للبدعة. فقد ذكر أبو العرب، نقلا عن يحيى الحفيد، أنّ أباه عاتب عباسا السدري، وأنكر عليه رأيه السّوء. ولا نعلم أيّ الأهواء كان عليها أبو الفضل. كما يبدو أنّه ذو خلق كريم حبَّبه إلى النَّاس.
أمَّا نشاطه العلمي فيتمثَّل في جلوسه للإلقاء. ومرّ بنا خبر أبي العرب في ذلك. كما تعرّفنا أيضاً على بعض تلاميذه.
وقد روى محمد تفسير أبيه فأخذه عنه الناس. وذكر ابن خير منهم أربعة بين افارقة وأندلسيين.
ولا نعلم لمحمد بن يحيى تأليفا سوى ما ذكره ابن خير، من كونه قد زاد على تفسير أبيه يحيى. وقد حدّث بتلك الزيادة أبو الحسن علي بن الحسن المُرّي البَجَّاني (ت274/887) عن يحيى بن محمد بن يحيى بن سلاّم.
أبو داود العطار:
هو أحمد بن موسى بن جرير الأزدي العطار. كان من بيت علم "أقامت لهم الرئاسة وسؤدد العلم نحو مائة وثمانين سنة".
ولد سنة 183/799 وأخذ في طلب العلم منذ حداثة سنه، إذ كان أبوه، أبو أحمد موسى بن جرير، يصطحبه معه؛ فسمع بسبب ذلك من جلَّة شيوخ القيروان.

(1/77)


فأخذ عن سحنون، ويحيى بن سلاّم، ومعاوية الصّمادحي، وأسد بن الفرات. كما أخذ عن أبيه موسى.
ويظهر أن موسى، والد أبي داود، قد ألقى تفسير ابن سلاّم. وسمعه منه عيسى بن مسكين. فلا يستبعد أن يكون أبو داود قد أخذ ذلك التفسير عن والده. لكن الأمر الذي لا شك فيه، أن أبا داود قد أخذ التفسير مباشرة عن مؤلفه يحيى بن سلاّم، كما ورد في فهرست ابن خير، وفي قطع التفسير القيروانية.
وقد أخذ تفسير ابن سلاّم عن أبي داود عدد كبير من الناس، من القيروان ومن الأندلس.
وكان أبو داود ثقة. وذكر أن في كتبه خطأ وتصحيفا، ولم يذكر نوعه. وقد توفي أبو داود في ذي الحجَّة 274/888 وهو ابن 91 سنة.
تهمة يحيى بن سلاّم بالأرجاء
يقف النَّاظر في كتاب أبي العرب، وفي كتاب المالكي عند ترجمة يحيى بن سلاّم على خبر تهمته بالإرجاء. وتدلّ عبارة أبي العرب، في قوله: "ورمي بالإرجاء"، وما ذكره من تبرئة يحيى نفسه من هذه التهمة، وموقفه الدّفاعي عنه عندما علَّق على كلام حفيد يحيى الَّذي برّأ جدّه من التّهمة بقوله: "وكان يحيى ثقة، صدوقا، لا يقول عن جدّه إلاّ الحقّ"، يدلّ هذا كلّه على الرّغبة الملحَّة في تبرئة يحيى ممَّا نسب إليه.
وهذه الرَّغبة نلمسها أيضا عند المالكي، حين أورد مقالة عون بن يوسف الخزاعي في مجلس ابن وهب، وقد أمر ابو وهب باطِّراح قول ابن سلاّم لقوله بالإرجاء.

(1/78)


وإن اختلفت صورة خبر عون في كتاب أبي العرب وكتاب المالكي، فإن جوهره فيهما واحد. ومفاده: أنّ ابن سلام ليس من المرجئة، إنَّما انجرّت إليه التّهمة بسبب سوء تفاهم وقع بين موسى بن معاوية الصّمادحي وسحنون حول المسألة.
ولا يمكن أن نتبيّن حقيقة مذهب ابن سلاّم بالاكتفاء بما ورد في هذين المصدرين، خاصة وأن مقالة أبي العرب متأثرة بما ورد عن حفيد ابن سلاّم، وإن كان موثّقا.
فالأسلم أن نبحث في التَّفسير، هل نجد فيه أثرا لهذا المذهب.
ماذا نجد في التّفسير؟
نجد فيه ذمّا للأهواء والبدع، ودعوة إلى اتِّباع السّنَّة. فقد جاء في تفسير قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ} ما يلي: "قال النَّضر، وسمعت أبا قلابة يقول لأيّوب: يا أَيّوب، احفَظ منِّي ثلاثا: لا تقاعد أهل الأهواء، ولا تستمع منهم ... ".
وروى يحيى حديثا عن مكحول، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السّنَّة سنَّتان، سنة في فريضة، الأخذ بها هدى، وتركها ضلالة، وسنَّة في غير فريضة، الأخذ بها فضيلة، وتركها ليس بخطيئة".
ونجد في التَّفسير تأكيدا على التَّوحيد، ومبالغة في ذمّ الشرك. روى يحيى عن سفيان الثوري أن رسول الله صلى عليه وسلم، سئل عم الموجبتين، فقال: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنَّة، ومن مات يشرك بالله دخل النَّار".
ونجد فيه أيضا إشادة بالأعمال. روى يحيى عن جعفر بن برقان الجزري عن أبي الدرداء، قال: "ويل لمن لا يعلم مرّة، ويل لمن يعلم ثمّ لا يعمل سبع مرات".
فالجزاء مرتبط بالأعمال: "خلق الله تبارك وتعالى السماوات والأرض للقيامة ليجزي الناس بأعمالهم".

(1/79)


وبالأعمال تتفاوت الدّرجات. جاء في تفسير قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} ، المؤمنون والمُشركون، للمؤمنين درجات في الجنَّة، عل قدر أَعمالهم، وللمشركين درجات في النار، على قدر أعمالهم".
والطَّاعات، كفَّارات للصغائر. يقول في تفسير الآية: 7 من العنكبوت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفَّارات لما بينهنّ، ما اجتنبت الكبائر".
ويذكر ابن سلاّم صورة حيَّة عن أهميَّة الأعمال بالنِّسبة لحياة الإنسان الأخروية، في حديث طويل تظهر فيه الزّكاة، والصّلاة، والدّور الذي تلعبانه في تحديد مصير الإنسان.
فهذا الذي ذكرناه لا نلمس فيه إرجاء مطلقا، ما دام هنالك اهتمام وتأكيد على الأعمال إلى جانب الإيمان.
لكنَّه وردت في التَّفسير إشارات أخرى، تجعل الباحث يقف وقفة تردّد. فقد جاء عند تفسيره لسورة التحريم، نقلا عن سفيان الثوري: "التَّائب من الذنب كمن لا ذنب له". ثم تلا هذه الآية: {إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين} . فإذا أحبّ عبدا لم يضرّه ذنب.
وذكر أثناء تفسيره لسورة مريم حديثا يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات كتبهنّ الله على عباده، من جاء بهنّ تامَّات، فإن له عند الله عهدا أن يدخله الجنَّة، ومن لم يأتي بهنّ تامَّات، فليس له عند الله عهد، إن ساء عذّبه وإن شاء غفر له".
وهذه مقالة أخرى جاءت في التَّفسير، فيها إشارة إلى مبدإ أساسي من مبادئ الإِرجاء، وهو الإمساك عن القول في الصّحابة. وقد نشأ هذا المبدأ إثر وقوع الفتنة أيّام عثمان، رضي الله عنه، واستمرّ القول به في عهد الدولة الأموية، يقول يحيى بن سلاّم، قال النَّضر: وسمعت أبا قلابة يقول لأيوب: يا أيوب، احفظ

(1/80)


منِّي ثلاثا: لا تقاعد أهل الأهواء، ولا تستمع منهم، ولا تفسِّرَنّ القرآن برأيك فإنَّك لست من ذلك في شيء، وانظر هؤلاء الرّهط من أصحاب النبي، فلا تذكره إلا بخير". وفي رواية أخرى: "ثلاث ارفضوهن: مجِادلة أصحاب الأهواء، وشتم أصحاب رسول الله، والنظر في النجوم ... ".
وقد وقفت في تفسير ابن أبي زمنين (4399/1009) ، وهو مختصر لتفسير يحيى بن سلاّم، على نصوص معبِّرة منها:
"يحيى بن عمار الدهني ... عن الحسن قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على ثلاث: الجهاد ماض منذ بعث الله نبيه إلى آخر فئة من المسلمين، تكون هي التي تقاتل الدّجَّال، لا ينقصه جور من جار، والكفّ على أهل لا إله إلا الله أن يكفروهم بذنب، والمقادير خيرها وشرها من الله".
وجاء في موضع آخر: "يحيى عن عاصم بن حكيم ... . عن عليّ قال: "لا تنزلوا العارفين المحدثين الجنَّة ولا النَّار حتَّى يكون الله هو الذي يقضي فيهم يوم القيامة".
فهذه الملاحظات، التي بدت فيها مبادئ الإرجاء ومصطلحاته كعبارة: الذنب لا يضر، وعدم التكفير بالذّنب، وإرجاء الحكم لله في العفو والعقاب، وفي الصحابة، تجعل الباحث يعود ليتساءل أن كان يحيى بن سلام من المرجئة.
إنّ الأقرب إلى الذّهن أن نقول: كان ابن سلاّم من مرجئة أهل السّنَّة لا من مرجئة البدعة.
فلقد قسم العلماء المرجئة إلى هذين القسمين الكبيرين. ومنهم من أدخل في القسم الأول أبا حنيفة، وسعيد بن جبير، ومقاتل بن سليمان. فإنّ هؤلاء جميعا لا يكفرون بالذَّنب، ويرجئون الحكم لله في الجزاء، ويتوقَّفون عن الكلام في الصَّحابة، رضي الله عنهم. وهذا هو ما ذهب إليه ابن سلاّم.
فإن صحَّت نسبة الإرجاء إلى ابن سلاّم فلا يمكن اعتباره من مرجئة البدعة الَّذين لا يحفلون بالأعمال، ما دام قد أكدَّ عليها كما رأينا ذلك. أمَّا ما ورد عنده من أحاديث تؤكد على أهميَّة الإيمان، وذمّ الشرك، فإنَّه لم يخالف بإيراده لذلك، أهل السّنَّة والجماعة.

(1/81)


ولعلّ شيوع التهمة عليه، إنَّما تمّ للسَّبب الذي ذكره أبو العرب. وهو أنّ موسى بن معاوية الصّمادحي، نقل إلى سحنون خبرا عن ابن سلاّم، فيه مقالة أناس بالشّرق، مذهبهم أن الإيمان قول، فظنّ سحنون أنه نقل بذلك عقيدة ابن سلاّم فقال: هذا مرجئي.
ولا يخفى أن سحنونا (ت 240/854) كان متصدّيا للبدع بالقيروان. وهو أوّل من شتَّت حلقات المبتدعة من المساجد. فهو بالمرصاد لكلّ الشّبه يقطعها من أصلها.
ويظهر أن موسى بن معاوية الصّمادحي (ت 225/839) كان بدوره مقاوما للبدع. فقد عثرت على قطعة بالمكتبة الأثرية بالقيروان، جاء في عنوانها: "كتاب فيه أحاديث في السَّنَّة والنهي عن البدعة، ممَّا حدثني به أحمد بن أحمد بن أحمد بن يزيد المعلم، عن موسى بن معاوية الصمادحي وغيره".
وفي القطعة تشديد كبير على أهل البدع. فقد وردت فيها أحاديث حول القول بكفر من قال بخلق القرآن، وأحاديث حول القدرية، والجمهيَّة، والمرجئة. وقد ورد في شأن المرجئة أنَّهم الخبثاء.
ويمكن أن نضيف إلى هذا، أن ابن سلاّم كان حسب ما ورد في تفسيره ميَّالا إلى مذهب السَّلف، وإلى العامَّة.
زد إلى ذلك أن تهمة الإرجاء لا نجدها في مؤلَّفات المشارقة الذين تحدَّثوا عن يحيى بن سلاّم، وربَّما وجدنا فيها ما يثبت عكس التهمة. فقد ذكر ابن الجزري مثلا أنّ ابن سلام كان صاحب سنَّة.

(1/82)


مؤلفات يحيى بن سلاّم:
إن الإجمال الذي رأيناه محيطا بحياة يحيى بن سلاّم، نجده ايضا فيما يتعلَّق بتآليفه. فقد ذكر أبو العرب أنّ له مصنَّفات كثيرة في فنون العلم، ولم يشر إلى أيّ واحد منها، سوى ملاحظة عابرة، ذكرها حول التَّفسير في ترجمة أبي أحمد موسى بن جرير العطَّار.
ولعلَّ أوّل من اهتمّ بذكر تفسير ابن سلاّم، هو ابن خير في الفهرست حيث أورد عدّة أسانيد رُوي بها ذلك التفسير.
ثمّ تظافرت المصادر على ذكره والتَّنويه بشأنه. فقد قال فيه ابن الجزري: "وليس لأحد من المتقدّمين مثله".
ولا زال هذا التفسير مخطوطا. وقد وقعت العناية بتحقيق عدد من أجزائه. ولم تنشر هذه الأعمال بعد.
ونسخ هذا التفسير متعدّدة، ولا زالت مشتَّتة تحتاج إلى الضبط.
وتغلب على التفسير نزعة الرّواية، دون أن يغفل المؤلف التذكير برأيه إن اقتضى الأمر ذلك، أو أن يستعين على الشرح بالرّجوع إلى اللّغة، أو النَّحو، أو غيرهما من العلوم القرآنية السائدة في عصره.
وأشار ابن الجزري إلى كتاب الجامع. ولم أعثر عليه، ولعلَّه حسب عنوانه، في الحديث.
وذكر الدَّبَّاغ، أن لابن سلاّم اختيارات في الفقه، ولم أعثر عليه أيضا. غير أنه يوجد بالمكتبة الأثريَّة بالقيروان ورقة بها تمزيق، بدا لي من موضوعها ومن ذكر يحيى فيها، أنَّها من اختياراته الفقهيَّة. فهي تتحدث في الطَّلاق، وفي الخُلْع. وممَّا ورد فيها: "سعيد عن قتادة قال: إنما يبعث الحكمان ليصلحا، فإن أعياهما أن يصلحا شهد على الظالم بظلمه، وليس بأيديهما الفرقة، ولا يملكان ذلك. وبه يأخذ يحيى. الخ ... ". وهذه العبارة تكررت في التفسير مرارا.

(1/83)


كما عثرت بنفس المكتبة على بقية من ورقة جاء فيها:
مقابل بكتاب محمد بن يحيى بن سلام
ب الأشربة
سلام حدثني به يحيى بن محمد
ابن السلام عن أبيه عن جده
بن أحمد بن تميم
في سنة ثلث وسبعين ومائتين
ذلك في سنة خمس وسبعين ومائتين
ويتعلَّق النَّصّ الوارد في ظهر الورقة بتفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} . فذكر مراحل تحريمهما، وتاريخه، ووصف ردّ فعل الصّحابة رضي الله عنهم عند سماعهم بخبر تحريم الخمر، ثم ذكر حكم شارب الخمر في الدّين: "فطر عن يونس بن خبَّاب ... .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شرب الخمر لم يقبل الله منه صلاة سبعة أيام، ومن انتشى منها، لم يقبل منه أربعين ليلة، وإن مات فيها، مات كافرا ... الخ ... ".
ويدلّ هذا الحديث على شدّة اهتمام يحيى بالأعمال بالنِّسبة لمصير الإنسان.
مقالة العلماء في يحيى بن سلاّم - شهرته:
اتَّفقت المصادر الإفريقيَّة والشَّرقيَّة على توثيق يحيى بن سلاّم في علمه. فقد شهد له بالثقة أبو العرب، وأضاف الدَّبَّاغ: "ومحلّه من العلم معلوم". ولقَّبه ابن الجزري بالإمام. ورغم كون الدارقطني قد ضعَّفه، فقد ذكر بأن حديثه يكتب. ووصفه ابن أبي حاتم الرازي بأنه صدوق.

(1/84)


وممَّن ذكر يحيى بن سلام في تآليف الداني في كتابه المقنع، وفي كتابه الوقف.
كما اورده ابن عطية في تفسيره، وان لم يكثر من الرواية عنه. مغادرة يحيى بن سلاّم إفريقية - وفاته:
نجد ذكر سبب مبارحة يحيى بن سلام إفريقية، عند ابن الأبار في الحلَّة. فقد ذكر بأنّ يحيى كان قد سفر بين أبي العبَّاس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب، وبين عمران بن مجالد بن يزيد الرّبعي، الَّذي كان قد ثار على إبراهيم بن الأغلب ثم سأل الأمان فأمنه.
ولم يلبث أبو العباس، حتى كاد لعمران فقتله، "فلمَّا قتله وجِدَ (يعني يحيى بن سلام) لذلك وقال: لا أسكن بلدا أخفر فيه العهد على يدي". فَخرج إلى مصر، ومنها إلى مكة. وفي طريق رجوعه توفي سنة 200/815، وبالتَّدقيق لأربع بقين من صفر. ودفن بمصر، بالمقطَّم.

يحيى بن محمد بن يحيى بن سلام راوي كتاب التصاريف
أفرده بالتَّرجمة الدَّبَّاع تحت اسم: محمد بن محمد بن يحيى بن سلاّم التيمي، تيم ربيعة. ولم يرد بهذا الاسم في غير هذا الكتاب. وتذكره المصادر الأخرى باسم: يحيى بن محمد بن يحيى بن سلاّم. كما نجده بهذا الاسم في قطع تفسير ابن سلام، جدّه، الَّتي رواها عن أبيه محمد. ولم يختصّه بترجمة مستقلِّة سوى الدّباغ.
أمّا بقية المصادر، فإنَّها تتحدث عنه بالمناسبة، خاصّة عند الحديث عن جدّه يحيى بن سلام.

(1/85)


ولد يحيى الحفيد، حسب ما ورد في طبقات أبي العرب، سنة 198/813. ولم تذكر المصادر مكان الولادة، ولكن لا بدّ أن يكون افريقيَّة، ما دامت عائلة ابن سلاّم قد استقرّت بها.
ولا بدّ أن يكون يحيى الحفيد قد اشتغل بتحصيل العلم، لكنّ المصادر لا تسعفنا بمعلومات كثيرة عن ذلك، سوى ما ذكره الدّبَّاغ من كون يحيى الحفيد سمع من أبيه محمد. ويشهد على هذا السماع، ما وصلنا من رواية يحيى الحفيد لتفسير جدّه، عن طريق أبيه محمد. وقد أثبت ابن خير هذه الرواية في فهرسته. ويظهر أن يحيى كان يتمتَّع بسمعة طيِّبة في الوسط العلمي، علما، وخلقا. فقد وصفه أبو العرب بكونه ثقة، صدوقا، محسنا في علمه، متواضعا فيه، ذا خلق كريم. كما وصفه الدّبَّاغ بالفقه، والضبط، والصّلاح.
وقد وقفنا على عدد من تلاميذه نذكر في طليعتهم أبا العرب (ت 333/944) ، صاحب كتاب الطبقات. وقد طالت صحبته له، جعلها الدَّبَّاغ نحوا من سبعين سنة.
ومن الغريب أنّ أبا العرب لم يفرد يحيى الحفيد بترجمة مستقلَّة، ولم يذكر روايته لتفسير جدّه. ولا لكتاب التصاريف.
وتتلمذ على يحيى الحفيد، أبو الحسن علي بن الحسن البجاني (ت334هـ/945م) . الذي روي عنه تفسير جده.
وكما ذكرت سابقا، لم تذكر المصادر ليحيى الحفيد تأليفا إلاّ ما ذكر من روايته لتفسير جدّه.
وكتاب التَّصاريف الذي يوجد بين أيدينا، قد نسب له، ولكن قد بيَّنَّا رأينا حول نسبة هذا التأليف ليحيى الحفيد.
أما وفاته فقد جعلها أبو العرب سنة 280/893. وكذلك جاء عند الدباغ. وقد اختلفا في عمره الذي توفي عليه لاختلافهما في سنة ولادته.

(1/86)