الحجة في القراءات السبع

الخلف في سورة البقرة
قوله تعالى: فِيهِ هُدىً «2». يقرأ بالإدغام «3» والإظهار. فالحجة لمن أدغم: مماثلة الحرفين، لأن الإدغام على وجهين: مماثلة الحرفين، ومقاربتهما. فالمماثلة: كونهما من جنس واحد.
والمقاربة «4»: أن يتقاربا في المخرج كقرب القاف من الكاف، والميم من الباء، واللام من النون.
وإنما وجب الإدغام في ذلك لأن النطق بالمتماثلين والمتقاربين ثقيل، فخفّفوه بالإدغام، إذ لم يمكن حذف أحد الحرفين. والحجة لمن أظهر: أنه أتى بالكلام على أصل ما وجب له، ووفّاه حقّ لفظه، لأن الإظهار الأصل، والإدغام فرع عليه.
فإن كان الحرف الأول ساكنا لعلّة أو لعامل دخل عليه كان الإدغام أولى من الإظهار.
__________
الطاء، والظاء، والصاد، والضاد.
انظر: رسالة فيما يجب على القارئ أن يعلمه من مخارج الحروف. مخطوطة رقم 21347 بدار الكتب المصرية (قراءات).
(1) لأن الواو في قاموا واو الجماعة وموقعها فاعل بخلاف الواو في «عليهمو» فإنها زائدة لتدل على الجمع.
(2) البقرة: آية: 2
(3) الإدغام في اللغة: إدخال الشيء في الشيء، يقال: أدغمت اللجام في فم الدابة أي أدخلته فيه. وليس إدغام الحرف إدخاله فيه على الحقيقة- بل هو إيصاله به من غير أن يفكّ بينهما (شرح الشافية للعلامة المحقق رضي الدين الاسترابادي: 3: 235).
(4) يقول الرّضي في شرحه شافية ابن الحاجب. (لا يمكن إدغام المتقاربين إلا بعد جعلهما متماثلين، لأن الإدغام إخراج الحرفين من مخرج واحد دفعة واحدة، ولا يمكن اخراج المتقاربين من مخرج واحد، لأن لكل حرف مخرجا على حدة. والذي أرى أنه ليس الإدغام الإتيان بحرفين، بل هو: الإتيان بحرف واحد مع اعتماد على مخرجه قويّ سواء كان ذلك الحرف متحركا نحو يمدّ زيد، أو ساكنا نحو يمد وقفا) 3: 235 شرح شافية ابن الحاجب.

(1/63)


قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ «1» يقرأ بالهمز «2»، وتركه فيه، وفيما ضارعه «3». فالحجة لمن همز: أنه أتى بالكلمة على أصلها، وكمال لفظها، لأن الهمزة حرف صحيح معدود في حروف المعجم. والحجة لمن تركه: أنه نحا التخفيف، فأدرج اللفظ، وسهّل ذلك عليه سكونها وبعد مخرجها «4»، وكان طرحها في ذلك لا يخل بالكلام ولا يحيل «5» المعنى.
فإن كان سكونها علامة للجزم، أو كان تركها أثقل من الإتيان بها أثبتها، لئلا تخرج من لغة إلى أخرى، كقوله تعالى: أَوْ نُنْسِها «6». إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ «7». وكقوله: تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ «8».
فإن قيل: فإنّ تارك الهمز في «يؤمنون» يهمز الكأس، والرأس، والبأس، فقل:
هذه أسماء، والاسم خفيف، وتلك أفعال، والفعل ثقيل، فهمز لما استخف، وحذف لما استثقل. ومن القرّاء من يهمز إذا أدرج ولا يهمز إذا وقف، ويطرح حركة الهمزة على الساكن قبلها أبدا، فيقرأ إذا وقف: مَوْئِلًا «9»: وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ «10». ومِنْهُنَّ جُزْءاً «11» لأن هذه الأحرف في السّواد كذلك. فأما قوله: هُزُواً «12» وكُفُواً «13». فبالواو؛ لأنها ثابتة في السّواد.
ومنهم أيضا: من يحذف الهمزات ساكنها، أو متحركها، وينقل الحركة إلى الساكن
__________
(1) البقرة: 3.
(2) الجمهور يقرءون بالهمزة ساكنة بعد الياء، وأبو عمرو، وورش يحذفان الهمزة (البحر المحيط: 1: 4)، (وغيث النفع في القراءات السبع: 23).
(3) ضارعه: شابهه.
(4) لأن مخرج الهمزة المحققة من المزمار نفسه، إذ عند النطق بالهمزة تنطبق فتحة المزمار انطباقا تاما، فلا يسمح بمرور الهواء إلى الحلق، ثم تنفرج فتحة المزمار فجأة فيسمح صوت انفجار هو ما نعبر عنه بالهمزة. والنطق بالهمزة عمليّة تحتاج إلى جهد عضلي مما يجعل الهمزة أشد الأصوات. (الأصوات اللغوية د. إبراهيم أنيس: 77).
(5) ولا يحيل المعنى يقال: أحلت الكلام، أحيله إحالة: إذا أفسدته (اللسان).
(6) البقرة: 106
(7) المائدة: 101
(8) الأحزاب: 51.
(9) الكهف: 58
(10) الواقعة: 9.
(11) البقرة: 260.
(12) البقرة: 67.
(13) الإخلاص: 4.

(1/64)


قبلها فيقرأ: قَدْ أَفْلَحَ «1»، فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ «2». والحجة له في ذلك: أن الهمزة المتحركة أثقل من الساكنة، فإذا طرحت الساكنة طلبا للتخفيف كانت المتحركة بالطّرح أولى.
قوله تعالى: بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ «3». تقرأ بمدّ الألف، وقصرها «4». فالحجة لمن مدّ:
ان الألف خفيفة، والهمزة كذلك، فقوّاها بالمدّ، ليصح في اللفظ. وهذا مدّ حرف لحرف.
والحجة لمن قصر أنه أتى بالكلام على أصله، لأن الحرفين من كلمتين، فكأن الوقف منويّ عند تمام الحرف.
وقياس هذا الباب قياس الإدغام في الحرفين المثلين إذا أتيا في كلمتين كنت في إدغام الأول بالخيار، وإظهاره. وإذا كانا في كلمة واحدة وجب الإدغام كقوله: وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «5». وكذلك الممدود، إذا كان في كلمتين كنت مخيرا. وإذا كان في كلمة وجب مدّه كقوله: مِنَ السَّماءِ ماءً «6» والحروف اللّواتي يقع بهن المد ثلاثة: واو، وياء، وألف، لكون ما قبلهن منهنّ.
فالواو كقوله: قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ «7». والياء كقوله: وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً «8». والألف كقوله: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ «9».
قوله تعالى: أَأَنْذَرْتَهُمْ «10». يقرأ وما شاكله من الهمزتين المتفقتين بتحقيق الأولى «11»
__________
(1) المؤمنون: 1.
(2) آل عمران: 91.
(3) البقرة: 4.
(4) قصره قالون، وابن كثير، ومده الباقون وهم في مده متفاوتون على حسب مذاهبهم (غيث النفع: 23).
(5) النمل: 88.
(6) البقرة: 22.
(7) البقرة: 14.
(8) الأنعام: 25.
(9) الرّعد: 7.
(10) البقرة: 6.
(11) وهي قراءة أهل المدينة، وأبي عمرو، والأعمش، وعبد الله بن أبي إسحاق واختارها الخليل وسيبويه، وهي لغة قريش، وسعد بن بكر (تفسير القرطبي 1: 161).

(1/65)


وتعويض مدّة من الثانية، وبتحقيقهما متواليتين، وبهمزتين «1» بينهما مدّة. فالحجة لمن قرأ بالهمز والتعويض: أنه كره الجمع بين همزتين متواليتين، فخفّف الثانية، وعوّض منها مدّة كما قالوا. آدم وآزر، وإن تفاضلوا في المدّ على قدر أصولهم. ومن حققهما فالحجة له: أنه أتى بالكلام محققا على واجبه، لأن الهمزة الأولى ألف التسوية بلفظ الاستفهام، والثانية ألف القطع، وكل واحدة منهما داخلة لمعنى. والحجة لمن حققهما وفصل بمدّة بينهما: أنه استجفى الجمع بينهما، ففصل بالمدّة، لأنه كره تليين إحداهما، فصحّح اللفظ بينهما، وكلّ ذلك من فصيح كلام العرب.
قوله تعالى: وَعَلى أَبْصارِهِمْ «2». تقرأ بالإمالة «3» والتفخيم «4»، وكذلك ما شاكله مما كانت الراء مكسورة في آخره. فالحجة لمن أماله: أن للعرب في إمالة ما كانت الراء في آخره مكسورة رغبة ليست في غيرها من الحروف للتكرير «5» الذي فيها، فلما كانت الكسرة للخفض في آخر الاسم، والألف قبلها مستعلية «6» أمال ما قبل الألف، لتسهل له الإمالة، ويكون اللفظ من وجه واحد. والحجة لمن فخّم: أنه أتى بالكلام على أصله، ووجهه الذي كان له لأن الأصل التفخيم، والإمالة فرع عليه.
__________
(1) وهي قراءة ابن عباس وابن أبي إسحاق. وقد أنكر هذه القراءة الزمخشري، وزعم أن ذلك لحن، وخروج عن كلام العرب من وجهين: أحدهما: الجمع بين ساكنين على غير حدّه. الثاني: أن طريق تخفيف الهمزة المتحركة المفتوح ما قبلها هو بالتسهيل بين بين، لا بالقلب ألفا.
وقد ردّ عليه أبو حيان الأندلسي بأن الكوفيين أجازوا الجمع بين الساكنين على غير الحد الذي أجازه البصريون.
انظر: (تفسير القرطبي: 1: 161، والبحر المحيط لأبي حيان 1: 47، 48).
(2) البقرة: 7.
(3) الإمالة: هي أن تنحو بالفتحة نحو الكسرة، وبالألف نحو الياء وهي لغة عامة أهل نجد من تميم وأسد، وقيس.
(النشر في القراءات العشر 2: 29).
(4) التفخيم: عبارة عن سمن يدخل على جسم الحرف، فيمتلى الفم بصداه، والتفخيم والتجسيم، والتسمين، والتغليظ بمعنى واحد (رسالة فيما يجب على القارئ أن يعلمه ورقة: 25).
(5) التكرير في الراء: لأن ضمتها كضمتين، وفتحتها كفتحتين، وكسرتها ككسرتين (شرح شافية ابن الحاجب للرضي 3: 20).
(6) الاستعلاء: هو ارتفاع اللسان عند النطق بالحرف إلى جهة الحنك الأعلى (رسالة فيما يجب أن يعلمه القارى، ورقة: 24).
وقد زاد مكّي على حروف الاستعلاء السبعة الألف، وبيّن ابن الجزري أن هذا وهم، فإن الألف تتبع ما قبلها، فلا توصف بترقيق ولا تفخيم. (النشر 1: 203).

(1/66)


فإن قيل: فيلزم من أمال «النار» أن يميل «الجار» فقل: لما كثر دور «النار» في القرآن أمالوها، ولما قلّ دور «الجار» في القرآن أبقوه على أصله.
قوله تعالى: غِشاوَةٌ وَلَهُمْ «1». يقرأ بالرفع والنصب. فالحجة لمن رفع: أنه استأنف الكلام مبتدئا، ونوى به التقديم، وبالخبر التأخير، فكأنه قال: وغشاوة على أبصارهم.
والحجة لمن نصب: أنه أضمر مع الواو فعلا عطفه على قوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ «2» وجعل على أبصارهم غشاوة، وإضمار الفعل إذا كان عليه دليل كثير مستعمل في كلام العرب، ومنه قول الشاعر «3»:
ورأيت زوجك في الوغى ... متقلّدا سيفا ورمحا
يريد: وحاملا رمحا.
قوله تعالى: مَنْ يَقُولُ «4». يقرأ مدغما بغنة «5» وبغير غنّة، لأن النون والتنوين يدغمان عند ستة أحرف، يجمعها قولك: «يرملون» ويظهران عند ستة أحرف، وهن: الهمزة، والهاء، والعين، والحاء، والغين، والخاء. ويخفيان عند سائر الحروف. فالنون الساكنة والتنوين يدغمان في اللام والراء بغير غنّة، وفي الواو كذلك في قراءة (حمزة) «6».
ويدغمان في الميم والنون بغنّة لا غير. فالحجة لمن أدغم في اللام والراء والياء والواو بغير غنة: أن اللام والراء حرفان شديدان، والغنة من الأنف فبعدت منهما، والياء والواو رخوتان «7»، فجرتا مع النون والتنوين في غنة، الخياشيم «8».
واتفقوا على إدغام النون والتنوين عند الميم بغنة لا غير، لمشاركة الميم لهما في الخروج
__________
(1) البقرة: 7.
(2) البقرة: 7.
(3) عبد الله بن الزبعرى: انظر: (معاني القرآن للفرّاء 1: 121،: 473).
(4) البقرة: 8.
(5) تطلق على الصوت الخارج من الخيشوم، سواء قام بالنون والميم، أو قام بنفسه. (رسالة فيما يجب على القارئ أن يعلمه ورقة: 30).
(6) انظر: 61.
(7) الرخاوة في اللغة: اللين، وفي الاصطلاح: جري الصوت لضعف الاعتماد على المخرج مع نفس قليل. (رسالة فيما يجب على القارئ أن يعلمه ورقة: 24).
(8) الخياشيم: غراضيف في أقصى الأنف بينه وبين الدماغ، أو عروق في بطن الأنف (القاموس).

(1/67)


من الخياشيم، واستدلوا على ذلك بأن المتكلم بالميم والنون الساكنة لو أمسك بأنفه لأخلّ ذلك بلفظهما.
قوله تعالى: وَما يَخْدَعُونَ «1». يقرأ بضم الياء «2» وإثبات الألف، وبفتح الياء وطرح الألف. فالحجة لمن أثبتها،: أنه عطف لفظ الثاني على لفظ الأول «3» ليشاكل بين اللفظين.
والحجة لمن طرحها: أن (فاعل) لا يأتي في الكلام إلا من فاعلين يتساويان في الفعل كقولك: قاتلت فلانا وضاربته. والمعنى بينهما قريب، ألا ترى إلى قوله تعالى: قاتَلَهُمُ «4» اللَّهُ أي: قتلهم، فكذلك: «يُخادِعُونَ» بمعنى: «يخدعون».
قوله تعالى: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً «5» يقرأ بالإمالة والتفخيم، وكذلك ما شاكله.
كقوله: شاء، وخاف، وجاء، وضاق. فالحجة لمن أمال كسر أوائل هذه الأفعال إذا أخبر بها المخبر عن نفسه، فقال: زدت، وخفت وما أشبه ذلك. والحجة لمن فخّم:
أنه أتى باللفظ، على أصل ما يجب للأفعال الثلاثية من فتح أوائلها إذا سمّي فاعلوها.
فإن زدت في أوائل هذه الأفعال حرفا من حروف المضارعة اتفقوا على التفخيم، كقوله تعالى أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «6» فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ «7».
وقد أمال بعض القرّاء، من هذه الأفعال بعضا، وفخم بعضا. والحجة له في ذلك:
أنه أتى باللغتين ليعلم أنّ القارئ بهما غير خارج عن ألفاظ العرب.
قوله تعالى: بِما كانُوا يَكْذِبُونَ «8». يقرأ بالتشديد بالذال، وبضم الياء، وبفتح الياء «9» وتخفيف الذال. فالحجة لمن شدّد: أن ذلك تردّد منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم مرة بعد أخرى فيما جاء به. والحجة لمن خفف: أنه أراد بما كانوا يكذبون عليك بأنك
__________
(1) البقرة: 9.
(2) هكذا قرأ الحرميّان (نافع وابن كثير) التيسير: 72.
(3) الأول: قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ الآية نفسها.
(4) التوبة: 30.
(5) البقرة: 10.
(6) الصّف: 5.
(7) مريم: 23.
(8) البقرة: 10.
(9) قراءة الكوفيّين (عاصم، حمزة، الكسائي) (التيسير: 72).

(1/68)


ساحر، وأنك مجنون، فأضمر حرف الجر لأن كذّب بالتشديد يتعدى بلفظه، وكذب بالتخفيف لا يتعدّى إلا بحرف جر. ومعنى القراءتين قريب، لأن من كذّب بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد كذب.
قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ «1». يقرأ وما شاكله من الأفعال بالكسر، وبإشمام «2» أوله الضمّ. فالحجة لمن كسر أوله: أنه استثقل الكسر على الواو التي كانت عين الفعل في الأصل، فنقلها إلى فاء الفعل بعد أن أزال حركة الفاء، فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها كما قالوا: ميزان وميعاد. ومن ضمّ فالحجة له: أنه بقّى «3» على فعل ما لم يسمّ فاعله دليلا في الضم، لئلا يزول بناؤه. وقد قرأ بعض القراء ذلك بكسر بعض، وضمّ بعض فالحجة له في ذلك: ما قدّمناه من إتيانه باللغتين معا.
قوله تعالى: السُّفَهاءُ أَلا «4». يقرأ بتحقيق الهمزتين، وتحقيق «5» الأولى وتخفيف الثانية تليينا. فالحجة لمن حقّق إتيانا باللفظ على واجبه ووفّاه حقه. والحجة لمن حقق الأولى، ولين الثانية: إنه نحا «6» التخفيف، وأزال عن نفسه لغة الثقل. فهذا معنى القراءة في الهمزتين المختلفتين.
فأمّا المتفقتان «7» فهم فيهما مختلفون: فمنهم من يحوّل الأولى «8» في المكسورة ياء، والمضمومة «9» واوا، ويترك الأولى في المفتوحة «10» ويحقّق الثانية «11». ومنهم من يحقق الهمزتين معا. فالحجة لهم في ذلك: أن العرب تتسع في الهمزة ما لا تتسع في غيره فتحقق، وتلين
__________
(1) البقرة: 11.
(2) قراءة الكسائي، وهشام: (هشام بن عمار بن نصير بن قيسرة السلمي القاضي الدمشقي، وتوفي بها 245 هـ ويكني:
أبا الوليد. (التيسير: 6،: 72).
(3) بقّى وأبقى (القاموس).
(4) البقرة: 13.
(5) الحرميّان، والبصري وهو: (أبو عمرو بن العلاء) يبدلون الثانية واوا خالصة، ويحققون الأولى. (غيث النفع:
27).
(6) نحا: النحو: القصد والطريق، يقال: نحا نحوه أي قصد قصده.
(7) المتفقتان في الحركة.
(8) كقوله تعالى: هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ البقرة: 31، وقوله تعالى: عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ النّور: 33.
(9) وذلك في موضع واحد في سورة الأحقاف: أَوْلِياءُ أُولئِكَ. آية 32.
(10) مثل قوله تعالى: جاءَ أَجَلُهُمْ يونس: 49. شاءَ أَنْشَرَهُ عبس: 22.
(11) قراءة أبي عمرو حيث يسقط الهمزة الأولى، ويحقق الثانية (النشر 1: 337).

(1/69)


وتبدل، وتطرح. فهذه أربعة أوجه، وورد القرآن بجميعها. ومنه قراءة «الصّابيون» «1» «والخاطيون» «2». والحجة له تأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: فِي طُغْيانِهِمْ «3». يقرأ بالإمالة، والتفخيم، وبينهما. فالحجّة لمن أمال:
أن النون مكسورة للخفض فقربت الياء منهما «4» ليكون اللفظ من وجه واحد. وسهل ذلك عليه لأن الطغيان هاهنا مصدر كالطّغوى «5» في قوله تعالى: بِطَغْواها «6»، فلما اتفقا في المعنى ساوى بينهما في الإمالة. والحجة لمن فتح: أنه أتى بالكلام على أصل ما بني عليه.
والحجة لمن قرأ بين ذلك: أنه عدل بين اللغتين فأخذ بأحسن اللفظين. فأمّا إمالة (الكسائي) «7» رحمه الله قوله تعالى: فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ «8». فإن كان أماله سماعا من العرب فالسؤال عنه ويل، وإن كان أماله قياسا فقد وهم، لأن ألف الجمع في أمثال هذا لا تمال، ويلزمه على قياسه أن يميل قوله: أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ «9»، وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ «10»، وإمالة هذا محال فإن قيل: فقد أمال غيره: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ «11» فقل: قد عرّفناك رغبة العرب
__________
(1) يقرأ بياء مضمومة، ووجهة أنه أبدل الهمزة ياء لانكسار ما قبلها، ولم يحذفها لتدل على أن أصلها حرف يثبت آية: 69 من سورة: المائدة. انظر: (إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات 1: 221.
(2) الحاقة: 37.
(3) البقرة: 15.
(4) أي من الألف والنون. قال أبو علي الفارسي في هذا الموضع: وحجة من أمال «الطغيان» هي أن الألف قد اكتنفها شيئان، كل واحد منهما يوجب الإمالة، وهي الياء التي قبلها، والكسرة التي بعدها، فإذا كان كل واحد منهما على انفراده يوجب الإمالة، فإذا اجتمعا كانا أوجب للإمالة.
فإن قلت: إن أول الكلمة حرف مستعل مضموم، وكل واحد من المستعلى والضم بمنع الإمالة، فهلا منعاها هنا أيضا؟ فالقول: إن المستعلى لما جاء الياء بعده وتراخي عن الألف بحرفين لم يمنع الإمالة. ألا ترى قوما أمالوا:
نحو المناشيط لتراخي المستعلي عن الألف مع أن المستعلي بعد الألف، فإذا تراخى في طغيان عنهما بحرفين مع أنه قبل الألف، كان أجدر بالإمالة. (الحجة لأبي علي الفارسي: ورقة: 131).
(5) قال أبو علي الفارسي: «فالواو مبدلة من الياء، لأنه اسم مثل» التقوى والدعوى لأن لغة التنزيل الياء بدلالة «الطغيان» المذكور في القرآن في مواضع، «ورقة 131 من كتاب الحجة».
(6) الشمس:
(7) انظر: 1
(8) البقرة: 9
(9) البقرة: 13
(10) الإنسان: 15
(11) التوبة: 94

(1/70)


في إمالة ذوات الراء حتى أمالوا «برى وترا» «1». وكذلك فرّق (أبو عمرو) «2» بين ذوات الراء وبين غيرها، واللفظ بهما واحد، فقرأ مِنْ أَصْوافِها «3» بالتفخيم وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها «4» بالإمالة.
قوله تعالى: بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ «5». يقرأ بالإمالة والتفخيم. وبينهما، وكذلك ما ضارعه من ذوات الياء اسما كان أو فعلا «6». فمن فخّم فالحجة له: أنه أتى بالكلام على أصل ما وضع له. والحجة لمن أمال: أنه قرّب الحرف المستعلى «7» من الياء ليعمل لسانه بالنطق من موضع واحد. والحجة لمن قرأ «بين بين»: أنه ساوى بين اللفظين. فأمّا (حمزة) «8» فأمال ذوات الياء، وفخم ذوات الواو، ليفرّق بين المعنيين.
قوله تعالى: مَشَوْا فِيهِ «9». قرأ ابن كثير «10» بإشباع كسرة «11» الهاء، ووصلها بالياء، وكذلك كل هاء قبلها «12». فإن كان قبل الهاء حرف مفتوح أو ساكن ضم الهاء، ووصلها بواو نحو: «فقدّر هو» «13». «فلما كشفنا عنه ضرّهو» «14». والحجة له في ذلك أن الهاء حرف خفي، فقوّاه بحركته وحرف من جنس الحركة. وقرأ الباقون بإشارة إلى الضم والكسر من غير إثبات حرف بعد الهاء. والحجة لهم في ذلك: أنهم كرهوا أن يجمعوا بين حرفين ساكنين ليس بينهما حاجز إلا الهاء، وهي حرف خفيّ، فأسقطوه «15»،
__________
(1) الوتر: محركة: شرعة القوس ومعلقها، جمعها: أوتار (القاموس: مادة: وتر).
(2) سبقت ترجمته: 61
(3) النحل: 80
(4) النحل: 80.
(5) البقرة: 16.
(6) مثل: أتى- أبى- سعى- يخشى- يرضى- الخ.
(7) الاستعلاء هنا: معناه العلو.
(8) انظر: 61
(9) البقرة: 20
(10) انظر: 61
(11) في الأصل: همزة الهاء وهو تحريف.
(12) انظر: التيسير: 29، وشرح ابن القاصح على الشاطبية: 49.
(13) الفرقان: 2
(14) يونس: 12
(15) أي: الحرف الموصول بالهاء

(1/71)


وبقّوا الهاء على حركتها، وأصل حركتها الضم، وإنما يكسر إذا جاوز بها الهاء. وربما تركت على ضمها وقبلها الياء.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «1». قرأه حمزة بإشباع فتح الشين، ووقفة على الياء قبل الهمزة. وكذلك يفعل بكل حرف سكن قبل الهمزة. والحجة له في ذلك:
أنه أراد صحة اللفظ بالهمزة، وتحقيقها على أصلها، فجعلها كالمبتدإ. وسهل ذلك عليه أنها في حرف (عبد الله) «2» مكتوبة في السواد (شائ) بألف.
وقرأه الباقون وما شاكله مدرجا على لفظه بالهمز من غير وقفة ولا سكتة. والحجة لهم في ذلك: أنه لا يوقف على بعض الاسم دون الإتيان على آخره، ولذلك صار الإعراب في آخر الاسم دون أوله وأوسطه، لأنه تمامه وانتهاؤه.
قوله تعالى: مِنَ السَّماءِ ماءً «3» وقوله إِلَّا دُعاءً وَنِداءً «4»، وما أشبه ذلك من الممدود المنصوب المنوّن. يقرأ عند الوقف عليه بإثبات الألف عوضا من التنوين، وبالمدّ على الأصل.
وبالقصر وطرح الألف. فالحجّة لمن مدّ وأثبت الألف: أن الأصل في الاسم ثلاث ألفات «5»، فالأصل في ماء (موه) فقلبت من الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار (ماه)، ثم قلبوا من الهاء ألفا، لأنها أجلد منها، وأحمل للحركة فصار فيه ألفان، والثالثة: العوض من التنوين عند الوقف على المنصوب. والدليل على أن الأصل في «ماء» ما ذكرناه:
جمعه على أمواه. «ودعاء، ونداء» فيهما ألفان مجهولتان «6»، وألفان أصليتان، وألفان عوض من التنوين، فوفّى اللفظ حقه من النطق. والحجة لمن قصر وطرح الألف: أن يقول: الوقف يزيل الحركة في الرّفع والخفض، فإذا زالت الحركة في الرفع والخفض سقط التنوين، لأنه تابع لها، فجعل النصب قياسا على الرفع والخفض. ويستدل على ذلك أنها مكتوبة في السّواد بألف واحد.
__________
(1) البقرة: 20
(2) هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن سمخ بن فار بن مخزوم بن صاهلة: أبو عبد الرحمن الهذلي. كان يخدم النبي عليه السلام، يلبسه نعليه ويمشي معه وأمامه. ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، وتوفي ابن مسعود بالمدينة سنة ثلاث وثلاثين (أسد الغابة 3: 259، 260).
(3) البقرة: 22
(4) البقرة: 171
(5) في الأصل: لغات وهو تحريف
(6) زائدتان قبل الهمزة المتطرفة

(1/72)


قوله تعالى: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ «1». يقرأ بإمالة (الكافرين) وبتفخيمها في موضع النصب والجر. فالحجة لمن أمال: أنه لما اجتمع في الكلمة أربع كسرات، كسرة الفاء والراء والياء، والراء يقوم مقام كسرتين جذبن الألف لسكونها بقوّتهن فأملنها فإن قيل: فيلزم على هذا الأصل أن يميل الشَّاكِرِينَ «2» و «الجبّارين» «3»، فقل: لا يلزمه ذلك لثلاث علل: إحداهن: الإدغام الذي فيهما وهو فرع، والإمالة فرع، ولا يجمع بين فرعين في اسم. والأخرى: أن هذين الاسمين قليلا الدّور في القرآن، ولم يكثرا ككثرة «الكافرين» فترك إمالتهما. والثالثة: أنّ الشين والجيم والياء يخرجن من وسط اللسان بينه وبين وسط الحنك، فلما كانتا مجاورتين للياء كرهوا الإمالة فيهما كما كرهوا في الياء.
قوله تعالى: فَأَحْياكُمْ «4». يقرأ بالإمالة والتفخيم على ما قدّمنا القول في ذلك، وإنما ذكرت هذا الحرف، لأن، (حمزة) يميل أمثاله إذا كانت قبله الواو، ولا يميله مع الفاء. والحجّة له في ذلك: أنه فرّق بين المتصل «5» والمنفصل لخفة أحدهما وثقل الآخر.
وعلّته في ذلك: أن الثقل واقع في اللفظ لا في الحظ، واللفظ بهذين «6» الحرفين واحد، فمن استعمل وجها مع أحدهما لزمه استعماله مع الآخر أيضا.
قوله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ «7». يقرأ بإسكان الهاء «8» مع الواو والفاء وثمّ واللام، وبحركتها بالضم. فالحجة لمن أسكن: أنه لما اتصلت هذه الهاء بهذه الحروف أسكنت تخفيفا كما أسكنت لام الأمر في قوله تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا «9». والحجة لمن ضم: أنه أتى بلفظ الاسم على أصله قبل دخوله هذه الحروف عليه.
__________
(1) البقرة: 19
(2) آل عمران: 144.
(3) المائدة: 22
(4) البقرة: 28
(5) أي: اتصال الفاء بالفعل.
(6) من تعليق ابن خالويه على (حمزة)
(7) البقرة: 29.
(8) أبو عمرو والكسائي يسكنان الهاء من «هو، وهي» إذا كان قبلها واو أو فاء أو لام، والكسائي يسكن الهاء منهما مع «ثمّ» (التيسير: 72).
(9) النور: 22.

(1/73)


وقد فرّق (بعض القراء) بين هذه الحروف فأسكن مع ما لا يوقف عليه منها، وحرّك ما يوقف عليه. والحجة له في ذلك: أنّ الحرف إذا اتصل بالاسم اتصالا لا يمكن الوقف عليه دونه ثقل فخفّف بالإسكان، وإذا قام بنفسه قياما يمكن الوقوف عليه كان الاسم بعده كالمبتدإ فلم يمكن إسكانه.
قوله تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ «1». يقرأ بتحريك الياء «2» وإسكانها. فالحجة لمن فتحها: أنها هاهنا كالهاء والكاف في قولك: إنّه، وإنّك، وهي اسم مكنى والمكنّى مبنيّ على حركة ما، فكان الفتح أولى بها، لأنها جاءت بعد الكسر. والحجة لمن أسكن:
أن يقول: الحركة على الياء ثقيلة، وأصل البناء السكون، فأسكنتها تخفيفا.
والقرّاء يختلفون في هذه الياء وما شاكلها من ياءات الإضافة عند استقبال الهمزة:
فمنهم من يفتحها مع المفتوحة، ويسكنها مع المضمومة والمكسورة استثقالا للحركة معهما.
ومنهم من يسكنها مع المضمومة، ويفتحها مع ما سواها، لأن الضمة أثقل الحركات فخفّف الكلمة بالسكون، لأنه أخف من الحركة. ومنهم من يحذفها أصلا ويجتزي بالحركة منها.
فإن اتصلت بحرف واحد فالوجه فتحها لئلا تسقط لالتقاء الساكنين فتبقى الكلمة على حرف واحد، وإسكانها جائز.
وللعرب في ياءات الإضافة أربعة أوجه: فتحها على الأصل، وإسكانها تخفيفا، وإثبات الألف «3» بعدها تليينا للحركة، وحذفها اختصارا.
قوله تعالى فَأَزَلَّهُمَا «4». يقرأ بإثبات الألف «5» والتخفيف، وبطرحها والتشديد. فالحجة لمن أثبت الألف، أن يجعله من الزوال والانتقال عن الجنة. والحجة لمن طرحها، أن يجعله من الزلل، وأصله: فأزللهما، فنقلت فتحة اللام إلى الزاي فسكنت اللام فأدغمت للمماثلة.
__________
(1) البقرة: 30.
(2) فتح الياء الحرميّان والبصري، وهذه أول ياء ذكرت في القرآن الكريم من ياءات الإضافة المختلف فيها، وجملتها مائتان واثنتا عشرة آية. زاد الداني: اثنتين وهما: «آتاني الله» النمل: 36، «فبشر عبادي الذين»: الزمر:
17، 18 (غيث النفع: 33).
(3) في الأصل وإثبات الهاء، والصواب ما ذكرته.
(4) البقرة: 36
(5) قراءة حمزة (التيسير: 73).

(1/74)


قوله تعالى: أَنْبِئْهُمْ «1». قرأه (ابن عامر) «2» بطرح الهمزة وإثبات الباء، وكسر الهاء.
فإن كان جعله من أنبى ينبى غير مهموز فهو لحن، وإن كان خفف الهمزة وجعلها ياء وهو يريدها كان وجها.
قوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ «3». تقرأ برفع آدم ونصب «4» الكلمات.
وبنصب آدم ورفع الكلمات. فالحجة لمن رفع آدم: أن الله تعالى لما علّم آدم الكلمات فأمره بهن تلقّاهنّ بالقبول عنه. والحجة لمن نصب آدم أن يقول: ما تلقّاك فقد تلقّيته وما نالك فقد نلته. وهذا يسمّيه النحويون: المشاركة في الفعل.
قوله تعالى: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ «5». رواه (ورش) «6» عن (نافع) «7» بإسكان الياء وما شاكل ذلك من الياءات فجمع بين ساكنين، لأن الألف قبل الياء كالمتحركة للمدّ «8» الذي قبلها، ولذلك قرأ (أبو عمرو): «واللّاي يئسن» «9» بإسكان الياء. والاختيار ما عليه القرّاء من فتحها.
فأما قوله تعالى: عَلَيَّ «10» وإِلَيَّ «11» ولَدَيَّ «12» فلا يجوز في يائهن إلّا الفتح لالتقاء الساكنين.
وأمال (الكسائي) (هداي) وفتحه الباقون: فالحجة لمن أمال: أنها من ذوات الياء لتثنيتهم إياها (هديان) كما تقول: فتيان. والحجّة لمن فخم: أنها وإن كانت في
__________
(1) البقرة: 33
(2) انظر: 61
(3) البقرة: 37
(4) قراءة ابن كثير: (غيث النفع: 36).
(5) البقرة: 38.
(6) هو عثمان بن سعيد المصري، ويكني: أبا سعيد، وورش لقب به فيما يقال لشدة بياضه، وتوفي بمصر سنة 197 هـ (التيسير: 4).
(7) انظر: 61
(8) دليل قراءة الإسكان.
(9) الطلاق: 4.
(10) الإسراء: 62
(11) لقمان: 14 - 15
(12) ق: 29.

(1/75)


الأصل من ذوات الياء فقد انقلبت الياء فيها بالإضافة إلى لفظ الألف، فاستعمال اللفظ أولى من الرجوع إلى الأصل.
قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ «1». كان (ابن كثير) «2» يمدّ إسرائيل «3» أكثر من مد «بني». والحجة له في ذلك: أن مدّ (بني) لأجل استقبال الهمزة فهي مدّ حرف لحرف، والمدّ في «اسرائيل» من أصل بنية الكلمة لا لأجل غيرها. وسوّى الباقون بين مدّتيهما لأنهما في اللفظ بهما سيّان.
قوله تعالى: «ولا تقبل منهما شفاعة» «4». تقرأ بالياء والتاء. فالحجة لمن قرأ بالتاء:
أنه دل بها على تأنيث الشفاعة.
ولمن قرأ بالياء ثلاث حجج: أولاهن: أنه لما فصل بين الفعل والاسم بفاصل جعله عوضا من تأنيث الفعل. والثانية أن تأنيث الشفاعة لا حقيقة له ولا معنى تحته، فتأنيثه وتذكيره سيّان. والثالثة: قول (ابن مسعود) «5»: إذا اختلفتم في التاء والياء فاجعلوه بالياء «6».
قوله تعالى: «وإذ وعدنا» «7». هاهنا، وفي الأعراف «8»، وطه «9» يقرأن بإثبات ألف
__________
(1) البقرة: 47
(2) انظر: ص 61.
(3) لا ينصرف لأنه علم أعجمي، وقد تكلمت به العرب بلغات مختلفة. فمنهم من يقول: إسرائيل بهمزة بعدها ياء، بعدها لام. ومنهم من يقول: كذلك إلا أنه يقلب الهمزة ياء. ومنهم من يبقي الهمزة، ويحذف الياء، ومنهم من يحذفها فيقول: إسرال. ومنهم من يقول: إسرائين. (إملاء ما منّ به الرحمن للعكبري 1: 33).
(4) البقرة: 48.
(5) ابن مسعود انظر: 49.
(6) يناقش أبو علي الفارسي حديث ابن مسعود الذي استدل به أحمد بن يحيى «ذكّروا القرآن» فيقول: يريد بذلك الموعظة والدعاء كما قال تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ إلا أنه حذف الجار، وإن كان قد ثبت في الآية.
ويمكن أن يكون معنى قوله: ذكّروا القرآن: أي لا تجحدوه. ولا تنكروه، كما أنكره من قال فيه: أساطير الأولين، لإطلاقهم عليه لفظ التأنيث، فهؤلاء لم يذكّروه لكنهم أنثوه بإطلاقهم التأنيث على ما كان مؤنث اللفظ كقوله: «إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً». فإناث جمع أنثى، وإنما يعني به ما اتخذوه آلهة كقوله: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» (الحجة في القراءات لأبي علي الفارسي لوحة: 51، 52، 53).
(7) البقرة: 51.
(8) الأعراف: 142.
(9) طه: 80.

(1/76)


بين الواو والعين، وبطرحها. فالحجة لمن أثبت الألف: أن الله تعالى وعد موسى عليه السّلام وعدا فقبله، فصار شريكا فيه، فجاء الفعل ب «فاعلت» لأنه بنيّة فعل الاثنين. فإذا جاء للواحد فهو قليل. والحجة لمن طرح الألف: أن يقول: الله هو المنفرد بالوعد والوعيد، وإنما تكون المواعدة بين المخلوقين، فلما انفرد الله تعالى بذلك كان فعلت فيه أولى من فاعلت.
قوله تعالى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ «1». تقرأ بالإظهار والإدغام. فالحجّة لمن أظهر: أنه أتى بالكلمة على أصلها، واغتنم الثواب على كلّ حرف منها. والحجّة لمن أدغم: أنّ الظاء والثاء، والذال مخرجهنّ من طرف اللسان، وأطراف الثّنايا العلى «2» فوجب الإدغام لمقاربة المخرج والمجانسة.
فإن قيل: فيلزم من أدغم: (اتخذتم) أن يدغم لَبِثْتُمْ «3» فقل: إنّ مدغم (اتخذتم) ومظهر «لبثتم» أتى باللغتين معا ليعلم من قرأ بهما أنه غير خارج عن الصواب.
قوله تعالى: إِلى بارِئِكُمْ «4». رواه (اليزيدي) «5» عن أبي عمرو «6» بإسكان الهمزة فيه وفي قوله: يَأْمُرُكُمْ «7»، وَيَنْصُرْكُمْ «8»، ويَلْعَنُهُمُ «9»، ويَجْمَعُكُمْ «10» وأَسْلِحَتِكُمْ «11» يسكّن ذلك كله كراهية لتوالي الحركات، واستشهد على ذلك بقول امرئ القيس «12»:
__________
(1) البقرة: 51.
(2) جمع عليا أنثى أفعل مثل: صغرى وصغر، وكبرى وكبر.
(3) الإسراء: 52.
(4) البقرة: 54.
(5) محمد بن يحيى بن المبارك، المعروف باليزيدي، كان ثقة علامة فصيحا متواضعا إماما في اللغة والآداب حتى قيل: أملي عشرة آلاف ورقة من صدره عن أبي عمرو خاصة غير ما أخذه عن الخليل وغيره، وتوفي 202 هـ عن أربع وستين سنة (النشر 1: 134).
(6) انظر ص: 61.
(7) البقرة: 67
(8) آل عمران: 160
(9) البقرة: 159
(10) الجاثية: 26.
(11) النساء: 102.
(12) هو امرؤ القيس بن جحر بن عمرو الكندي وهو من أهل نجد من الطبقة الأولى. (الشعر والشعراء: 31، مطبعة مصطفى محمد، طبعة ثانية).

(1/77)


فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل
«1» أراد: «أشرب» فأسكن الباء تخفيفا.
وحكى سيبويه «2» عن هارون «3» (بارئكم) باختلاس الهمزة والحركة فيما رواه (اليزيدي) «4» عنه. بالإسكان، لأن أبا عمرو كان يميل إلى التخفيف فيرى من سمعه يختلس بسرعة أنه أسكن.
وقرأ الباقون بالإشباع، والحركة. والحجّة لهم: أنهم أتوا بالكلمة على أصل ما وجب لها.
قوله تعالى: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «5»، وَأَرِنا مَناسِكَنا «6»، وما شاكله. يقرأ بكسر الراء وإسكانها. فالحجّة لمن كسر: أنه يقول: الأصل في هذا الفعل (أرإينا) على وزن «أكرمنا» فنقلت كسرة الهمزة إلى الراء، وحذفت الهمزة تخفيفا للكلمة، وسقطت الياء للأمر.
ولمن أسكن الراء حجّتان: إحداهما: أنه أسكنها، والأصل كسرها تخفيفا كما قالوا في فخذ: فخذ. والثانية: أنه بقّى الراء على سكونها وحذف الهمزة بحركتها ولم ينقلها.
فأمّا ما روي عن أبي عمرو من إمالة قوله: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ «7»، وما شاكله فغلط
__________
(1) الخصائص 1: 74، 3: 96. «الموشح»: ص: 150 «رسالة الغفران» تحقيق بنت الشاطئ: 290، 368، «الدرر اللوامع» 1: 32، «مجلة المجمع العلمي العربي» م 15 ج 3: 118، «الخزانة» للبغدادي 3: 530، شرح، المفصل» لابن يعيش 1: 48، «الكتاب» لسيبويه: 2: 297.
(2) عمرو بن عثمان بن قنبر إمام البصريين، وكنيته أبو بشر، ويقال أبو الحسن، نشأ بالبصرة، وأخذ عن الخليل، ويونس، وأبي الخطاب الأخفش، وعيسى بن عمر. وقد اختلف في تاريخ وفاته، فقيل: توفي سنة ثمانين ومائة.
وقيل سنة إحدى وستين، وقيل سنة ثمان وثمانين، وقال ابن الجوزي: مات «بساوة» سنة أربع وتسعين (البغية:
366).
(3) هارون بن موسى القارئ الأعور النحوي، صاحب القرآن والعربية ضبط النحو وحفظه، وهو أول من تتبع وجوه القرآن وألّفها وتتبّع الشاذ منها، وبحث على إسناده. ومات في حدود السبعين ومائة (البغية: 406).
(4) انظر: 77
(5) النساء: 153 (خالف بذكر هذه الآية في سورة البقرة منهجه وترتيبه)
(6) البقرة: 128
(7) الأنعام: 77

(1/78)


عليه، لأن الإمالة «1» من أجل الياء، فلما سقطت «2» الياء سقطت الإمالة.
فإن قيل: فيلزم على هذا أن لا يقف على المخفوض بالإمالة، لأن الكسرة قد زالت بالوقف، فقل: من شرطه أن يشمّ الكسرة في الوقف فأمال الإشارة، ليعلم أنه كذلك يصل. فإن كانت هذه الرواية صحّت «3» فإنما أراد أن يعلم أنه كذلك يقف، وفي هذا بعض الوهن، ولكنّه عذر له، والمشهور عنه في ذلك الفتح «4».
قوله تعالى: «يغفر لكم خطاياكم» «5». تقرأ بالتاء والياء وضمهما، وبالنون. فالحجّة لمن قرأها بالتاء والياء ما قدّمناه في قوله: «ولا تقبل منها شفاعة» «6» والضمّ دلالة على بناء الفعل لما لم يسمّ فاعله.
ولمن قرأ بالياء حجّة رابعة، وهي: أن «خطايا» جمع، وجمع ما لا يعقل مشبه لجمع من يعقل من النساء، فكما ذكّر الفعل في قوله: وَقالَ نِسْوَةٌ «7» لتذكير لفظ الجمع، فكذلك يجوز التذكير في قوله: نَغْفِرْ، لأنه فعل للخطايا، ولفظها لفظ جمع.
فإن قيل: لم اتفقت القرّاء على قوله: خَطاياكُمْ هاهنا، واختلفوا في الأعراف «8» وسورة نوح «9»؟ فقل: لأن هذه كتبت بالألف في المصحف فأدّى اللفظ ما تضمّنه السّواد، وتينك كتبتا بالتاء من غير ألف، وهما في الحالين جمعان ل «خطية»، فخطايا جمع تكسير، وخطيئات جمع سلامة. وكان الأصل في خطايا: (خطائئ) على وزن (فعائل)، فاستثقل «10» الجمع بين همزتين فقلبوا الثانية ياء لانكسار ما قبلها فصار (خطائي)، فوجب سقوط الياء لسكونها، وسكون التنوين، فكرهوا ذهاب الياء مع خفاء الهمزة،
__________
(1) أي إمالة الهمزة من: «رأي» وذلك إذا لم يأت بعد الياء ساكن.
(2) لوجود ساكن بعدها، انظر في هذا الموضع: (التيسير: 101،: 102)
(3) أي إمالة رأي في حالة اتصالها بالساكن بعدها.
(4) أي فتح القارئ لفيه بلفظ الحرف، ويقال له أيضا: التفخيم، وربما قيل له النصب، (النشر 1: 29).
(5) البقرة: 58.
(6) البقرة: 48، وانظر: 52 عند قوله تعالى: «ولا تقبل منها شفاعة».
(7) يوسف: 30
(8) الأعراف: 11
(9) نوح: 25
(10) ثم قلبت الياء همزة لوقوعها بعد ألف الجمع.

(1/79)


فقلبوا من الكسرة فتحة، ومن الياء ألفا فصار: خطاءا بثلاث ألفات، فكرهوا الجمع من ثلاث صور، فقلبوا من الألف الوسطى ياء فصار: «خطايا».
وأدغم (أبو عمرو) وحده الرّاء في اللام من (يغفر لكم) وما شاكله في القرآن، وهو ضعيف عند البصريين. وقد روى عنه الإظهار. والحجة له في ذلك: أنه لما كانت تدغم في الراء كقوله: قُلْ رَبِّ «1»، بَلْ رانَ «2» كانت الراء بهذه المثابة تدغم في اللام.
قوله تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ «3» يقرأ بكسر الهاء والميم، وبضمّهما، وبكسر الهاء وضم الميم في كل موضع استقبلتهما فيه ألف ولام. فالحجة لمن كسرهما: أنه كسر الهاء لمجاورة الياء، وكسر الميم لالتقاء الساكنين. والحجة لمن ضمّهما: أنه لما ضم الهاء على أصل ما كانت عليه حرّك الميم أيضا بالضمّ على الأصل، لأنه كان (همو) قبل دخول حرف الجر عليه. والحجة لمن كسر الهاء، مجاورة الياء. وضمّ الميم، لأنه لم يجد بدّا من حركتها، فحرّكها بما قد كان في الأصل لها.
فإن قيل: فلم وافق (الكسائي) (حمزة) هاهنا وخالفه في قوله: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ «4»؟
فقل: لما كانت الميم ساكنة كره الخروج من ياء إلى ضمة فكسر الهاء لمجاورة الياء هناك وبقّى الميم على سكونها ولمّا لم يجد هاهنا بدّا من حركة الميم لالتقاء الساكنين- فلو ترك الهاء على كسرها لمجاورة الياء لخرج من كسر إلى ضم- ردّ الهاء إلى أصلها وحرّك الميم بالضم لالتقاء الساكنين.
قوله تعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ «5». يقرأ بالهمز وتركه، وكذلك «النبوّة» و «الأنبياء».
فالحجّة لمن همز: أنه أخذه من قوله: «أنبأ بالحق» إذا أخبر به، ومنه: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ «6». والحجّة لمن ترك من ثلاثة أوجه: أولها. أن الهمز مستثقل في كلامهم، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «لست نبيء الله» «7» كأنه كره الهمز لأن قريشا
__________
(1) المؤمنون: 93.
(2) «المطففين»: 14
(3) البقرة: 61.
(4) فاتحة الكتاب: 7
(5) البقرة: 61
(6) البقرة: 31.
(7) انظر: (اللسان: مادة: نبأ) وانظر: (الفائق في غريب الحديث للزمخشري: 3: 62).

(1/80)


لا تهمز. والثاني: أنه مأخوذ من النّبوة «1» وهي: ما ارتفع من الأرض وعلا، لأنه أخبر عن العالم العلوي، وأتى به عن الله تعالى. والثالث: أن العرب تدع الهمزة من (النّبي) وهو من: أنبأت، ومن (الخابية) وهي من خبأت، ومن (البريّة) وهي من برأ الله الخلق، ومن (الذّريّة) وهي من ذرأهم، ومن (الرّويّة): وهي من: روّأت في الأمر.
قوله تعالى: وَالصَّابِئِينَ «2». يقرأ وما شاكله بالهمز وتركه. فالحجّة لمن همز: أنه مأخوذ من، صبأ فلان: إذا خرج من دين إلى دن. والحجة لمن لم، يهمز: أن يكون أراد: الهمز، فليّن وترك، أو يكون أخذه من: صبا يصبو: إذا مال. وبه سمى الصبي صبيّا لأن قلبه يميل إلى كل لعب لفراغه.
فإن قيل: فلم أجمع «3» على همز الصابئين، وترك الهمز في النبيّين؟ فقل: لأن من ترك الهمز في النبيّين بقّى خلفا وهو الياء، ومن ترك الهمز في الصائبين لم يبق خلفا، لأنه كتب في المصحف بغير واو ولا ياء.
قوله تعالى: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً «4». يقرأ هزؤا» وكُفُواً «5» بالضم والهمز، وجُزْءاً «6» بإسكان «7» الزاي والهمز. والحجّة في ذلك اتّباع الخط، لأن «هزؤا» «وكفؤا» في المصحف مكتوبان بالواو، و «جزءا» بغير واو، فاتّبعوا في القراءة تأدية الخط.
وقرأ (حمزة) ذلك كله مسكنا «8» مخفّفا. ووقف على «هزوا» و «كفوا» بالواو «9»،
__________
وقال السيوطي في الإتقان: «الحديث الذي أخرجه الحاكم في «المستدرك» من طريق حمران بن أعين عن أبي الأسود الدولي عن أبي ذر قال: «جاء أعرابي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا
نبيء الله فقال: لست بنبيء الله، ولكني نبيّ الله». قال الذهبي: حديث منكر، وحمران رافضي ليس بثقة. (الإتقان 1: 98).
(1) والنباوة أيضا: القاموس: مادة: نبا.
(2) البقرة: 62.
(3) أجمع القراء كلهم إلا نافعا على همز «الصابئين» «بالبقرة» و «الحج» بزيادة همزة مكسورة وأمّا «الصابئون» «بالمائدة» فبزيادة همزة مضمومة بعد كسرة. وقرأ نافع جميع ذلك بلا همز (شرح ابن القاصح على الشاطبيّة: 156).
(4) البقرة: 67.
(5) الإخلاص: 4.
(6) البقرة: 260.
(7) قرأ شعبة بضم الزاي (غيث النفع: 57).
(8) الإسكان لغة تميم وأسد وقيس. (غيث النفع: 40).
(9) بإبدال الهمزة واوا مفتوحة مع اسكان الزاي اتباعا للخط. والقياس أن يلقى حركتها على الفاء أو الزاي (التيسير:
226).

(1/81)


ووقف على «جزءا» بغير واو، ليجتمع له بذلك الإشراك بين الحروف إذ كان الجزء والهزء سيّان، ويتبع الخط في الوقف عليها.
وفي «جزءا» أربع لغات: جزؤ بالضم والهمز، وجزء بالإسكان والهمز، وجزو بالإسكان والواو، وجزو بضم الزّاي والواو من غير همز، وهو رديء لأنه ليس في كلامهم اسم آخره واو قبلها حركة إلّا الربو وهذا شاذ. فإن كان أراد: أن أصل الواو فيه الهمز جاز. وقرأ (عاصم) «1» ذلك كله في رواية (أبي بكر) «2» بالهمز والتثقيل، ولم يلتفت إلى اختلاف صورهن في الخط لأن فيه ما قد أثبت في موضع، وحذف من نظيره لغير ما علّة كقوله: لَأُعَذِّبَنَّهُ «3» «أولا أذبحنه» «4» كتب الأول بغير ألف، والثاني بزيادة ألف، ولفظهما واحد، فحمله على هذا.
وروى عنه (حفص) «5» رِجْزاً ساكن الزاي مهموزا، وهزوا وكفوا بالواو من غير همز اتّباعا للسّواد.
قوله تعالى: مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ «6». وقوله: إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ «7». وقوله: أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ «8».
وقوله: وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ «9». يقرأن بالياء والتاء، فالتاء في الأول أكثر لقوله تعالى مخاطبا لهم: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ «10» والياء والتاء في الثاني معتدلتان. فالحجة لمن قرأ بالتاء: أنه أراد: وما الله بغافل عما تعملون أنتم وهم. والاختيار فيه التاء لعلّتين: إحداهما: أنّ ردّ اللفظ على اللفظ أحسن، والثانية أنه لما ثبت أنّ الله ليس
__________
(1) انظر: 61.
(2) هو: شعبة بن عياش بن سالم الكوفي الأسدي. وتوفي بالكوفة سنة أربع وتسعين ومائة (التيسير: 6)، (الفهرست:
49).
(3) النمل: 21.
(4) النمل: 21.
(5) هو حنفي بن سليمان بن المغيرة الأسدي البزّاز الكوفي، ويكني: أبا عمر، قال وكيع: وكان ثقة. وقال ابن معين:
هو أقرأ من أبي بكر، وتوفي قريبا من 190 هـ. (التيسير: 6).
(6) البقرة: 74.
(7) البقرة: 85.
(8) البقرة: 144.
(9) البقرة: 149.
(10) البقرة: 74.

(1/82)


بغافل عما يعمل كل أحد اعتدلت التاء والياء فيهما. والحجة لمن قرأ بالياء: أن العرب ترجع من المخاطبة إلى الغيبة كقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ «1»، ولم يقل: بكم.
والياء، والتاء، في الثالث قريبتان، والاختيار الياء لقوله: مِنْ رَبِّهِمْ والياء والتاء في الرابع متساويتان لأنه لم يتقدّم في قوله: وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ما تكون إحداهما أولى بالردّ عليه إلا أن يجعل قوله: (من ربّك) إفرادا للنبي عليه السلام بالخطاب، والمعنى له ولأمته، فيكون الاختيار على هذا الوجه التاء كما قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ «2».
قوله تعالى: وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ «3» يقرأ بالتوحيد والجمع. فلمن أفراد حجتان:
إحداهما: أنّ الخطيئة هاهنا يعني بها: الشرك. والأخرى: أنّه عطف لفظ «الخطيئة» على لفظ «السيئة» قبلها، لأن الخطيئة سيئة، والسيئة خطيئة. والحجة لمن جمع: أن السيئة والخطيئة وإن انفردتا لفظا فمعناهما الجمع ودليله على ذلك أن الإحاطة لا تكون لشيء مفرد، وإنما تكون لجمع «أشياء».
فأمّا قوله: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها «4» فإنه وإن كان واحدا فهو جمع للشيء المحيط بجميع أجزاء المحاط به. ويمكن أن يكون أراد بالجمع هاهنا: وأحاطت به عقوبات خطيئته. والدّليل على ذلك قول (قتادة): «5» السيئة: الشرك، والخطيئة: الكبائر.
قوله تعالى: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ «6». يقرأ بالياء والتاء. فالحجّة لمن قرأ بالتاء: مواجهة الخطاب فيكون أخذ الميثاق قولا لهم. والحجة لمن قرأ بالياء: معنى الغيبة.
قوله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً «7». يقرأ بضم الحاء وإسكان السين، وبفتح الحاء
__________
(1) يونس: 22.
(2) الطلاق: 1.
(3) البقرة: 81.
(4) الكهف: 29.
(5) قتادة: هو قتادة بن النعمان بن زيد، صحابيّ، شهد العقبة مع السبعين، وكان من الرّماة المذكورين، وشهد بدرا وأحدا وتوفي سنة ثلاث وعشرين وهو ابن خمس وستين سنة، وصلى عليه عمر. انظر: «صفة الصفوة»: 183، 184، «أسد الغابة» 4/ 195. هذا ومن الممكن أن يكون المراد: قتادة بن دعامة السدوسي، حافظ ثقة ثبت، احتج به أصحاب الصحاح. مات كهلا (ميزان الاعتدال في نقد الرجال: 3/ 385).
(6) البقرة: 83.
(7) البقرة: 83.

(1/83)


والسين: فالحجة لمن ضمّ: أنه أراد: المصدر والاسم. ودليله قوله: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً «1». والحجة لمن فتح: أنه أراد قولا حسنا فأقام الصفة مقام الموصوف. والأول أصوب، لأن الصفة مفتقرة إلى الموصوف كافتقار الفعل إلى الاسم.
قوله تعالى: تَظاهَرُونَ «2». يقرأ بالتشديد، والتخفيف. فالحجة لمن شدّد: أنه أراد:
تتظاهرون بتاءين، فأسكن الثانية وأدغمها في الظاء، فشدّدها لذلك. والحجّة لمن خفف:
أنه أراد أيضا: تتظاهرون، فأسقط إحدى التاءين تخفيفا وكراهية للإدغام وثقله.
فإن قيل: فأيّ التاءين الساقط؟ فقل: قال (سيبويه) «3»: الساقط الأول. وقال هشام «4»: الثاني. وقال (الفراء) «5»: إحداهما بغير تعيينها «6». ولكلّ حجة ودليل.
قوله تعالى: أُسارى تُفادُوهُمْ «7». يقرأ بإثبات الألف فيهما جميعا. وبإسقاطها فيهما.
وبإثباتها في الأول، وطرحها من الثاني. فالحجة لمن أثبتها فيهما: أنه جعله جمع الجمع، وجعل (تفادوهم) فعلا من اثنين، لأن الفداء: أن تأخذ ما عنده، وتعطي ما عندك، فتفعل به كما يفعل بك. والحجة لمن أسقطها: أن جمع (أسير): أسرى، كما تقول:
مريض ومرضى، وجعل الفعل من فدى يفدي. وأصل الأسر: الشّدّ، وبه سمى الأسير.
والحجة لمن أثبت وطرح ما قدّمناه من الوجهين.
قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ «8». يقرأ بالإدغام والإظهار. فالحجة لمن أدغم: مقاربة مخرج اللام من الطاء. والحجة لمن أظهر: أنه أتى بالكلام على الأصل ليفرق بين ما يتصل فلا يجوز إظهاره ولا الوقوف عليه كقوله: وَالطَّارِقِ «9» وبين ما ينفصل ويوقف عليه كقوله:
(بل طبع).
__________
(1) العنكبوت: 8.
(2) البقرة: 85.
(3) انظر: 78.
(4) هشام بن معاوية الضّرير، ويكني: أبا عبد الله صاحب الكسائي (الفهرست: 110).
(5) أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء، ولد بالكوفة، وكان يتفلسف في تأليفه ومصنفاته وكان أكثر مقامه ببغداد، فإذا كان آخر السنة خرج إلى الكوفة وأقام بها أربعين يوما في أهله، يفرق فيهم ما جمعه ويبرهم. وتوفي الفراء بطريق مكة سنة 207 هـ (الفهرست لابن النديم: 104: 106).
(6) في الأصل: عنها.
(7) البقرة: 85.
(8) ليست من سورة البقرة، وموضعها سورة النساء، آية: 155، وهي ساقطة هناك لم يعدها.
(9) الطارق: 1.

(1/84)


فإن قيل: فيلزم من أدغم هذا للمقاربة أن يدغم قوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ «1» للمقاربة أيضا. فقل: سكون اللام في: (يفعل) عارض للجزم، وسكون اللام في «بل» سكون بناء. فهذا فرقان واضح.
قوله تعالى: بِرُوحِ الْقُدُسِ «2». قرأه (ابن كثير) بإسكان الدّال. والحجة له: أنه كره توالي ضمتين في اسم، فأسكن تخفيفا، أو يكون الإسكان لغة. والحجة لمن ضم: أنه أتى بالكلمة على أصلها. والرّوح هاهنا،: جبريل عليه السلام. والقدس في اللغة: الطّهر.
قوله تعالى: أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ «3». يقرأ بالتشديد والتخفيف،. فالحجّة لمن شدد: أنه أخذه:، من نزّل، ينزّل،. ومن خفف أخذه من أنزل ينزل.
والقراء فيه مختلفون، فقرأ «عاصم» و «نافع» و «ابن عامر» ذلك حيث وقع بالتشديد. وقرأه «أبو عمرو» بالتخفيف إلّا قوله في (الحجر): وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ «4». وفي (الأنعام): عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً «5». وزاد «ابن كثير» حرفا ثالثا قوله:
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ «6». والحجّة لهما في ذلك: تكرار النزول، ومداومته شيئا بعد شيء.
وقرأ «الكسائي» و «حمزة» ذلك كله بالتشديد إلّا قوله: في (لقمان) وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ «7» وفي عسق: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ «8». والحجة لهما في ذلك قوله: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً «9»، فمضارع أنزل: ينزل بالتخفيف فاعرفه.
قوله تعالى: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «10». فيهما أربع قراءات: جبرئيل. بفتح الجيم والراء وبالهمز «11». وبكسر الجيم، والراء وترك الهمز. وبفتح الجيم وكسر الراء وترك الهمز «12».
__________
(1) آل عمران: 28.
(2) البقرة: 87.
(3) البقرة: 90.
(4) الحجر: 21.
(5) الأنعام: 37.
(6) الإسراء: 82.
(7) لقمان: 34.
(8) الشورى: 28.
(9) الفرقان: 48.
(10) البقرة: 98.
(11) قراءة أبي بكر: (شعبة بن عياش بن سالم الكوفي م 194 هـ) وانظر: (التيسير: 57.)
(12) قراءة أبي بكر، انظر: (التيسير ص: 57).

(1/85)


وبفتح الجيم والراء واختلاس الهمز.
و «ميكال» يقرأ بالمد والهمز. وبالألف من غير مدّ ولا همز «1». وبالهمز من غير ألف. وبالقصر والهمز. والحجة في ذلك: أن العرب إذا أعربت اسما من غير لغتها أو بنته اتسعت في لفظه، لجهل الاشتقاق فيه.
قوله تعالى: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ «2» يقرأ بتخفيف النون والرفع، وبتشديدها والنصب، وكذلك ما شاكله. والحجة لمن خفف ورفع: أنّ «لكن» وأخواتها إنما عملن لشبههنّ بالفعل لفظا ومعنى، فإذا زال اللفظ زال العمل، والدليل على ذلك أنّ «لكن» إذا خففت وليها الاسم والفعل، وكل حرف كان كذلك ابتدئ ما بعده. والحجّة لمن شدّد
ونصب:
أنه أتى بلفظ الحرف على أصله. والمعنى فيه شدّد أو خفّف: الاستدراك بعد النفي.
قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ «3». يقرأ بضم النون «4» وفتحها. فالحجّة لمن ضم: أن المعنى: ما ننسخك يا محمد من آية كقولك: أنسخت زيدا الكتاب. ويجوز أن يكون ما ننسخ من آية: أي نجعلها ذات نسخ كقوله تعالى: فَأَقْبَرَهُ «5» أي جعله ذا قبر.
والحجة لمن فتح: أنه جعله من الأفعال اللّازمة لمفعول واحد.
قوله تعالى: «أو ننسأها» «6». يقرأ بفتح النون والهمز، وبضمها وترك الهمز. فالحجة لمن فتح النون وهمز: أنه جعله من التأخير، أو من الزيادة. ومنه قولهم: «نسأ الله أجلك وأنسأ في أجلك». والحجة لمن ضمّ وترك الهمز: أنه أراد: الترك. يريد: أو نتركها فلا ننسخها. وقوله: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها «7» قيل: بأخف منها في العبادة. وقيل: نبدل آية العذاب بآية رحمة، فذلك خير. وقيل: بل بأشد منها لأنه تخويف من الله لعباده وترغيب فيما عنده، فذلك خير.
والنسخ على وجوه: نسخ اللفظ والحكم. ونسخ اللفظ وإبقاء الحكم. ونسخ الحكم وإبقاء اللفظ.
__________
(1) قراءة أبي عمرو، وحفص. انظر: (المرجع السابق والصفحة).
(2) البقرة: 102.
(3) البقرة: 106.
(4) أي وكسر السين، وهي قراءة ابن عامر انظر: (شرح ابن القاصح: 159).
(5) عيسى: 21.
(6) البقرة: 106.
(7) البقرة: 106.

(1/86)


فإن قيل: ما معنى قوله: أو مثلها؟ فقل: المماثلة: موافقة الشيء من وجه من الوجوه، ولو ماثله من جميع وجوهه لكان هو، ولم يكن له مثلا. والمعنى هاهنا: أنها قرآن مثلها، وهي في المعنى غيرها، لأن هذه آية رحمة، وهذه آية عذاب.
قوله تعالى: وَلا تُسْئَلُ «1» يقرأ بالرفع والجزم. فالحجة لمن رفع: أنه أخبر بذلك وجعل «لا» نافية بمعنى ليس، ودليله قراءة (عبد الله) «2» و (أبيّ) «3»: (ولن تسأل).
والحجة لمن جزم: أنه جعله نهيا. ودليله: ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما:
«ليت شعري ما فعل أبواي» «4»؟ فأنزل الله تعالى: «وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ» فإنا لا نؤاخذك بهم،. والزم دينك.
فأمّا من ضمّ التاء فإنه جعله فعل، ما لم يسم فاعله. ومن فتحها جعلها فعل فاعل.
قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى «5». يقرأ بكسر الخاء وفتحها.
فالحجة لمن كسر: أنهم أمروا بذلك. ودليله قول (عمر) «6»: «أفلا نتخذه مصلى؟»، فأنزل الله ذلك موافقا به قوله. والحجة لمن فتح: أن الله تعالى، أخبر عنهم بذلك بعد أن فعلوه.
فإن قيل،: فإن الأمر ضد الماضي، وكيف جاء القرآن، بالشيء وضده؟ فقل: إن الله تعالى أمرهم بذلك مبتدئا، ففعلوا ما أمروا به، فأثنى بذلك عليهم وأخبر به، وأنزله في العرضة الثانية.
قوله تعالى: فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا «7». يقرأ بتشديد التاء، وتخفيفها «8». فالحجة لمن شدد:
__________
(1) البقرة: 119.
(2) عبد الله بن مسعود. انظر: 49.
(3) أبيّ: هو أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري البخاري، أبو المنذر وأبو الطفيل، سيّد القراء، كان من أصحاب العقبة الثانية، وشهد بدرا والمشاهد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ليهنئك العلم أبا المنذر. مات في خلافة عثمان سنة ثلاثين، وهو أثبت الأقاويل. انظر: (الإصابة في تمييز الصحابة 1: 16) مطبعة السعادة.
(4) انظر: (ابن كثير 1: 162)، (القرطبي 2: 84)، (وصحيح مسلم 3: 79). (وسنن أبي داود 9: 97).
(5) البقرة: 125.
(6) عمر بن الخطاب: انظر: ترجمته في: أسد الغابة: 52، وغيره من كتب الطّبقات.
(7) البقرة: 126.
(8) قراءة ابن عامر: (الحجة لأبي علي الفارسي: 2 لوحة: 337).

(1/87)


تكرير الفعل ومداومته. ودليله قوله: وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ «1». والحجة لمن خفف: أن تكرير الفعل لا يكون معه (قليلا)، فلما جاء معه ب «قليل» كان (أمتع) أولى به من (امتّع). على أن أفعل وفعّل يأتيان في الكلام بمعنى واحد «2»، كقولك: أكرمت وكرّمت.
ويأتيان والمعنى مختلف، كقولك: أفرطت: تقدمت وتجاوزت الحد. وفرّطت: قصّرت.
وتأتي «فعّلت» بما لا يأتي له «أفعلت» كقولك: «كلّمت زيدا»، ولا يقال: «أكلمت» وأجلست زيدا. ولا يقال: «جلست».
قوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً «3». قرأه ابن عامر بغير واو. والحجة له: أنه استأنف القول مخبرا به ولم يعطفه على ما قبله.
وقرأه الباقون «4» بالواو. والحجة لهم: أنهم عطفوا جملة على جملة. وأتوا بالكلام متصلا بعضه ببعض. وكلّ من كلام العرب.
قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ «5» قرأه ابن عامر بالنصب. والحجة له: الجواب بالفاء، وليس هذا من مواضع الجواب، لأن الفاء لا ينصب إلا إذا جاءت بعد الفعل المستقبل كقوله: لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ «6». ومعناه: فإن تفتروا يسحتكم. وهذا لا يجوز في قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ، لأن الله تعالى أوجد بهذه اللفظة شيئا معدوما.
ودليله حسن الماضي في موضعه، إذا قلت: كن فكان.
وقرأه الباقون بالرفع والحجة لهم ما قدّمناه من القول.
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ «7». قرأه ابن عامر بألف في موضع الياء هاهنا، لأنه في السواد بغير ياء.
__________
(1) يونس: 98.
(2) قال أبو علي الفارسي: وزعموا أن في حرف «عبد الله»: «وأنزل الملائكة تنزيلا» «الفرقان»: 25. وأنشدوا للرّاعي:
خليلين من شعبين شتّى تجاورا ... قليلا وكانا بالتفرّق أمتعا
(الحجة: لوحة 337)، و (اللسان: مادة: متع).
(3) البقرة: 116.
(4) قال مكّي: وإثبات الواو هو الاختيار لثباتها في أكثر المصاحف، ولأن الكلام علة قصة واحدة، وإجماع القراء عليه سوى ابن عامر: (الكشف عن وجوه القراءات 1: 132).
(5) البقرة: 117.
(6) طه: 61.
(7) البقرة: 126.

(1/88)


وفيه أربع لغات: إبراهيم،، وإبراهام، وإبراهم، وإبرهم قال الشاعر:
* عذت بما عاذ به إبراهم «1» * وقال الآخر:
نحن آل الله في قبلته ... لم يزل ذاك على عهد ابرهم
«2» وقد عرفتك اتساع العرب في الأسماء الأعجمية إذا عرّبتها.
قوله تعالى: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ «3». يقرأ بالتشديد من غير ألف، وبالتخفيف وإثبات الألف. وقد تقدم القول في ذلك وأوضحنا الفرق بين فعّل وأفعل «4».
قوله تعالى: أَمْ تَقُولُونَ «5». تقرأ بالتاء والياء. فالحجة لمن قرأه بالياء،: أن الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم. والمعنى لمن قال ذلك- لا للنبي- فأخبر عنهم، بما قالوه. والحجة لمن قرأ بالتاء،: أنه عطف باللفظ على معنى الخطاب في قوله،: أَتُحَاجُّونَنا «6». «أَمْ تَقُولُونَ». قُلْ أَأَنْتُمْ «7» فأتى بالكلام على سياقه.
قوله تعالى: لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ «8». يقرأ بإثبات الواو والهمز، وبطرحها والهمز. فالحجة لمن أثبت الواو: أن صفات الله تعالى على هذا الوزن جاءت كقوله: غفور، شكور، ودود، وهو أفخم، لأن ذلك لا يقال إلا لمن دام الفعل منه وثبت له كقول الشاعر:. «9»
نبيّ هدى طيّب صادق ... رؤف رحيم بوصل الرّحم
والحجة لمن طرح الواو وهمز: أنه مال إلى التخفيف لاجتماع الهمز والواو، وكان
__________
(1) (المعرب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم: 13). (إعراب ثلاثين سورة لابن خالويه ص: 4) وينسبه ابن خالويه لزيد بن عمرو ويروى لعبد المطلب.
(2) انظر: (المعجم الكبير: 112)، (والمعرّب: 13) و (إعراب ثلاثين سورة: 4).
(3) البقرة: 132.
(4) انظر: 88
(5) البقرة: 140
(6) البقرة: 139.
(7) البقرة: 140.
(8) البقرة: 143.
(9) هذا البيت نسبه البغدادي في (خزانة الأدب) إلى أمية بن أبي الصلت، وقد بحثت عنه في أمهات المراجع فلم

(1/89)


طرحها لا يزيل لفظا ولا يحيل «1» معنى، فاستجاز ذلك.
قال الشاعر:
يرى للمسلمين عليه حقّا ... كفعل الوالد الرّؤف الرّحيم
«2» قوله تعالى: هُوَ مُوَلِّيها «3». قرأه (ابن عامر): «مولاها». والحجة له في ذلك: أنه جعل «المولى» مفعولا به. وأصله موليها، فلما تحركت الياء انقلبت ألفا. والحجّة لمن قرأها بالياء وكسر اللام: أنه أراد: مولي وجهه إليها، فتكون الهاء كناية عن محذوف لأن كلّا يقتضي مضافا. و «المولى» هاهنا: هو الفاعل.
قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ «4». يقرأ بالهمز وتركه. فالحجّة لمن همز: أنه أتى باللفظ على الأصل، لأنها (أن) دخلت عليها اللام. والحجّة لمن خفف: أن العرب تستثقل الهمز ولا زيادة معه، فلما قارن الهمزة لام مكسورة، واجتمع في الكلمة كسر اللام وزيادتها، ثقل الهمز ليّنها تخفيفا، وقلبها ياء للكسرة التي قبلها.
قوله تعالى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً «5». يقرأ بالتاء وفتح العين، وبالياء وإسكان العين «6».
فالحجة لمن قرأ بالتاء والفتح: أنه جعله فعلا ماضيا على بنائه في موضع الاستقبال، لأن الماضي يقوم مقام المستقبل في الشرط. والجواب الفاء في قوله: (فهو خير له). والحجّة لمن قرأ بالياء وإسكان العين: أنه أراد: يتطوّع فأسكن التاء، وأدغمها في الطاء، وبقّى الياء ليدل بها على الاستقبال، وجزمه بحرف الشرط.
__________
أجده، وانفرد البغدادي بذكره في الخزانة، لا على أنه من أبيات الشواهد ولكنه ورد ضمن قصيدة مدح بها أمية النبيّ عليه السلام.
أولها:
لك الحمد والمن ربّ العبا ... د أنت المليك وأنت الحكم
إلى أن قال: نبي هدى الخ ..
انظر: (خزانة الأدب لعبد القادر بن عمر البغدادي 1: 252 تحقيق الأستاذ عبد السلام هارون).
(1) يحيل: يفسد.
(2) (البحر المحيط 1: 247)، (اللسان: مادة: رأف).
(3) البقرة: 148.
(4) البقرة: 150.
(5) البقرة: 184.
(6) قراءة حمزة والكسائي. انظر: (شرح ابن القاصح ص: 62).

(1/90)


قوله تعالى: وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ «1» يقرأ بالإفراد والجمع إذا كانت فيه الألف واللام في اثني عشر موضعا «2». فالحجّة لمن أفرد: أنه جعلها عذابا، واستدل بقول النبيّ صلى الله عليه: «اللهم اجعلها رياحا لا ريحا» «3». والحجّة لمن جمع: أنه فرّق بين رياح الرحمة، ورياح العذاب، فجعل ما أفرده للعذاب، وما جعله للرحمة.
والأرواح أربعة «4» أسّست أسماؤها على الكعبة. فما استقبلها منها، فهي الصّبا والقبول.
وما جاء عن يمينها، فهي الجنوب. وما جاء عن شمالها، فهي الشّمال «5». وما جاء من مؤخرها فهي الدّبور، وهي ريح العذاب، نعوذ بالله منها. وباقيها ريح الرحمة.
قوله تعالى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا «6». يقرأ بالتاء والياء. فالحجّة لمن قرأ بالتاء:
أنه أراد: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا إذ عاينوا العذاب لرحمتهم. والحجة لمن قرأ بالياء:
أنه جعل الفعل لهم. ومعناه: ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله. ولو ابتدأت إن مع «7» التاء بالكسر لكان وجها: كقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ «8» أي لو عاينتهم في هذا الحال لرحمتهم. وترفع الملائكة، وتحذف جواب لو كقوله: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ «9» يريد: لكان هذا، فحذفه.
قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ «10» يقرأ بضم الطاء وإسكانها. فالحجة لمن ضمّ: أنه أتى بلفظ الجمع على حقيقة ما وجب له، لأنه جمع: خطوة ودليله قوله وَهُمْ
__________
(1) البقرة: 164
(2) انظر: هذه المواضع في (شرح ابن القاصح على الشاطبية: 163،: 164).
(3) في (الفائق في غريب الحديث) للزمخشري: كان صلى الله عليه وسلم يقول: إذا هاجت الريح «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا». انظر (الفائق في غريب الحديث 1: 511).
(4) قال العكبري: وياء الريح مبدلة من واو لأنه من: راح يروح وروحته، والجمع: أرواح. أما الرياح، فالياء فيه مبدلة من واو، لأنه جمع أوله مكسور، وبعد حرف العلة فيه ألف زائدة، والواحد عينه ساكنة فهو مثل: سوط وسياط إلا أنّ واو الريح قلبت ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها، انظر: (إعراب القرآن ج 1: 72).
(5) فيها خمس لغات: شمل بالتسكين، وشمل بفتحتين، وشمال، وشمأل، مقلوب منه، وربما جاء: شمألّ بتشديد اللام. وجمع الشمال: شمالات وشمائل.
(6) البقرة: 165.
(7) في قوله تعالى في الآية نفسها: أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً.
(8) الأنفال: 50.
(9) الرعد: 31.
(10) البقرة: 168 وفي الأصل «لا تَتَّبِعُوا» من غير واو.

(1/91)


فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ «1» لأنه جمع غرفة. والحجّة لمن أسكن: أنه خفف الكلمة لاجتماع ضمتين متواليتين وواو، فلما كانوا يسكنون مثل ذلك مع غير الواو كان السكون مع الواو لثقلها أولى. ومعنى خطوات الشيطان: طرقه. والخطوة بفتح الخاء الاسم، وبضمّها:
قدر ما بين قدميك.
قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ «2». يقرأ وما شاكله من النونات الخفيفة، والتنوين، والحروف المبنية على السكون بالضم والكسر. فالحجة لمن كسر: التقاء الساكنين. والحجّة لمن ضم: أنه لما احتاج إلى حركة هذه الحروف كره الخروج من كسر إلى ضمّ، فأتبع الضمّ الضمّ، ليأتي باللفظ من موضع واحد.
فإن قيل: فلم وافقهم (أبو عمرو) على الكسر إلّا في الواو واللام وحدهما «3»؟ فقل:
لما احتاج إلى حركة الواو حركها بحركة هي منها، لأن الضم فيها أسهل من الكسر. ودليله قوله: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى «4».
فإن قيل: فما حجة ابن عامر في ضم التنوين؟ فقل: الحجة له: أنّ التنوين حركة لا تثبت خطّا ولا يوقف عليه، فكانت الحركة بما بعده أولى من الكسر «5».
قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا «6». يقرأ «البر» بالرفع والنصب «7». فالحجة لمن رفع: أنه جعله اسم «ليس» والخبر «إِنْ تَوَلَّوْا» «8» لأن معناه: توليتكم. والحجة لمن قرأ بالنصب: أنه جعله خبر ليس، والاسم «إِنْ تَوَلَّوْا» «9». ودليله أن ليس وأخواتها إذا أتى بعدهن معرفتان كنت مخيّرا فيهما. وإن أتى بعدهن معرفة ونكرة كان الاختيار أن تجعل المعرفة الاسم، والنكرة الخبر.
__________
(1) سبأ: 37.
(2) البقرة: 173.
(3) في الأصل: وحدها، وهو تحريف.
(4) البقرة: 16.
(5) أي حركة الحرف الذي يلي الحرف الساكن.
(6) البقرة: 177.
(7) قراءة حمزة وحفص.
(8) وذلك لأن الأصل تقديم الفاعل على المفعول.
(9) وقوى ذلك عند من قرأ به لأنّ «تولوا» أعرف من البرّ إذ كان كالمضمر في أن لا يوصف، والبرّ يوصف: (إعراب القرآن للعكبري 1: 77).

(1/92)


قوله تعالى: مِنْ مُوصٍ «1». يقرأ: بفتح الواو «2» وتشديد الصاد، وبإسكان الواو وتخفيف الصاد. فالحجّة لمن شدّد: أنه أخذه من: «وصّى». ودليله قوله: وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ «3». والحجّة لمن خفّف: أنه أخذه من: أوصى. ودليله قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ «4» قوله تعالى: فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ «5» يقرأ بالتنوين والتوحيد، وبالإضافة والجمع.
فالحجة لمن رفع ووحد: أن «الفدية» مبتدأ و «طعام» بدل منها، و «مسكين» واحد، لأن عليه عن كل يوم يفطره إطعام مسكين. والحجة لمن أضاف «6» وجمع: أنه جعل الفدية عن أيام متتابعة لا عن يوم واحد.
قوله تعالى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ «7». يقرأ بالتشديد والتخفيف. فالحجة لمن شدّد: تكرير فعل الصيام في الشهر إلى إتمام عدته. والحجة لمن خفف: أنه جعل عقد شهر رمضان عقدا واحدا. ودليله: قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «8».
قوله تعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها «9». يقرأ وما شاكله من الجموع بالضم والكسر.
فالحجة لمن ضم: أنه أتى بالكلام على أصل ما وجب للجمع، لأن هذا الوزن ينقسم في الكلام قسمين: جمعا كقولك: «فلوس». ومصدرا كقولك: «قعد قعودا». والحجة لمن كسر: أنه لما كان ثاني الكلمة ياء كرهوا الخروج من ضم إلى ياء، فكسروا أول الاسم لمجاورة الياء، ولم يجمعوا بين ضمتين، إحداهما على ياء.
فإن قيل: فما حجّة من ضم العين من «العيون» والجيم من «الجيوب» وكسر الباء من «البيوت»؟ فقل: العين حرف مستعل مانع من الإمالة، فاستثقل الكسر فيه فبقّاه على أصله، والجيم حرف شديد متفشّ «10»، فثقل عليه أن يخرج به من كسر إلى ضم، فأجراه على
__________
(1) البقرة: 182.
(2) وهي قراءة حمزة (شرح رسالة حمزة: 49).
(3) الشورى: 13.
(4) النساء: 11.
(5) البقرة: 184.
(6) أي أضاف الفدية إلى الطعام وجمع «مسكين».
(7) البقرة: 185.
(8) المائدة: 3.
(9) البقرة: 189.
(10) لأنها من الحروف الشجرية، ومخرجها من وسط اللسان بينه وبين وسط الحنك (النشر 1: 200).

(1/93)


أصله. والحجة لمن كسر الباء كثرة استعمال العرب لذلك، وهم يخففون ما يكثرون استعماله: إمّا بحذف، وإمّا بإمالة، وإمّا بتخفيف. ودليل ذلك إمالتهم «النار» لكثرة الاستعمال، وتفخيم «الجار»، لقلة الاستعمال.
قوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ .. حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ .. فَإِنْ قاتَلُوكُمْ «1». يقرأ بإثبات الألف وطرحها.
ومعناهما قريب. والوجه فيهما: لا تبادئوهم بقتال ولا بقتل حتى يبدءوكم بهما، فإن بدءوكم فابدءوهم.
قوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ «2» يقرأ بالرفع والتنوين في «الفسوق»، و «الرفث» فقط. وبالنصب وترك التنوين في الجميع. فالحجّة لمن نصب:
أنه قصد التبرئة ب «لا» في الثلاثة، فبنى الاسم مع الحرف، فزال التنوين للبناء. والحجة لمن رفع «الرفث» وهو: «الجماع». والفسوق وهو: «الخروج» عن الحدّ: أنهما قد يكونان في حال من أحوال الحجّ، فجعل «لا» بمعنى ليس فيهما، ونصب «الجدال» في «الحج» على التبرئة لأنه يريد به. المراء والشك في تأخيره «3» وتقديمه على ما كانت العرب تعرفه من أفعالها.
واختار بعض النحويين الرفع في الأوّلين «4» بمعنى: فلا يكون ممّن فرض الحج رفث ولا فسوق، ثم يبتدئ بنفي الجدال فيه فينصبه ويبنيه. والاختيار في النفي إذا أفرد ولم يتكرّر النصب. وإذا تكرر استوى فيه، الرفع والنصب.
قوله تعالى: ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ «5». أماله الكسائي. والحجة له: أن ذوات الواو إذا
__________
ويقول الدكتور إبراهيم أنيس: الجيم صوت شديد مجهور مخرجه عند التقاء وسط اللسان بوسط الحنك الأعلى التقاء محكما بحيث ينحبس هناك مجرى الهواء، فإذا انفصل العضوان انفصالا بطيئا سمع صوت يكاد يكون انفجاريا هو الجيم العربية. انظر: (الأصوات اللغوية: 70).
(1) البقرة: 191.
(2) البقرة: 197.
(3) أي في تأخيره وتقديمه مواعيد الحج وفق ما كان العرب يفهمون من مدلولات هذه الأفعال.
(4) قرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع «فلا رفث»، «ولا فسوق» وتنوينهما، وفتح «ولا جدال» من غير تنوين. قال السفاقسي: والمختار في الأولين رفعهما على الابتداء وموضع «لا» مع الثالث أيضا رفع على الابتداء «وفي الحج» يصح أن يكون خبرا عن الجميع، لأن الجميع مبتدآت. (إعراب القرآن للسفاقسي. نسخة رقم: (222) تفسير دار الكتب المصرية. مخطوط).
(5) البقرة: 207.

(1/94)


زيد «1» فيها ألحقت بذوات الياء، فأمالها ليدل بالإمالة على ذلك.
وفخّمها الباقون والحجة لهم: أن ألفها منقلبة من واو، وأصلها: مرضوة من «الرضوان» فقلبت الواو ألفا لتحريكها وانفتاح ما قبلها، فكان التفخيم أولى بها من الإمالة.
ووقف (حمزة) عليها بالتاء ومثله: هَيْهاتَ هَيْهاتَ «2» ولاتَ «3» واللَّاتَ «4» و «التَّوْراةَ» «5» ويا أَبَتِ «6». والحجة له في ذلك: أنّ التاء أصل علامة التأنيث. ودليله على أصل ذلك: أن الهاء تصير في الدرج تاء، والتاء لا تصير هاء وقفا ولا درجا.
ووقف الباقون بالهاء، ولهم في ذلك حجتان: إحداهما: أنه فرّق بين التاء الأصلية في «صوت» و «بيت» وبين الزائدة لمعنى. والثانية: أنه أراد أن يفرّق بين التاء المتصلة بالاسم كنعمة ورحمة، وبين التاء المتصلة بالفعل كقولك: قامت ونامت.
قوله تعالى: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً «7». يقرأ هاهنا، وفي الأنفال «8» وفي سورة محمد «9» صلى الله عليه وسلم بفتح السين وكسرها. والحجّة لمن فتح: أنه أراد الصلح.
ومن كسر أراد: الإسلام: وأنشد:
* في جاهليّات مضت أو سلم «10» * قوله تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ «11» يقرأ بفتح التاء وضمها. فالحجّة لمن فتحها:
أنه أراد: تصير. والحجة لمن ضمها: أنه أراد: تردّ.
قوله تعالى: حَتَّى يَقُولَ «12». تقرأ بالرفع والنصب «13». فالحجة لمن رفع: أنه أراد
__________
(1) المراد بالزيادة: أن تكون الكلمة زائدة على ثلاثة أحرف اسما كانت أو فعلا. انظر في هذا الموضع: (شرح ابن القاصح على الشاطبية ص: 106)
(2) المؤمنون: 36
(3) ص: 3
(4) النجم: 19
(5) آل عمران: 3
(6) الصافات: 102.
(7) البقرة: 208.
(8) الأنفال: 61
(9) محمد: 35.
(10) لم أهتد بعد إلى قائل هذا الرجز.
(11) البقرة: 210.
(12) البقرة: 214.
(13) قرأها بالرفع مجاهد، وبعض أهل المدينة وقرأها الباقون بالنصب، وكان الكسائي قرأ بالرفع دهرا ثم رجع إلى النصب.
(معاني القرآن للفراء 1: 133).

(1/95)


بقوله «وَزُلْزِلُوا»: المضيّ، وبقوله «حَتَّى يَقُولَ»: الحال. ومنه قول العرب: قد مرض زيد حتى لا يرجونه. فالمرض قد مضى وهو الآن في هذه الحال». والحجّة لمن نصب: أنه لم يجعل «القول» من سبب قوله: «وَزُلْزِلُوا». ومنه قول العرب: قعدت حتى تغيب الشمس، فليس قعودك سببا لغيبوبة الشمس.
وتلخيص ذلك: أن من رفع الفعل بعد (حتى) كان بمعنى: الماضي، ومن نصبه كان بمعنى: الاستقبال. وأضمرت له عند البصريين مع حتى «أن» لأنها من عوامل الأسماء فأضمروا مع الفعل ما يكون به اسما.
قوله تعالى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ «1» يقرأ بالباء والثاء. فالحجة لمن قرأ بالباء: قوله بعد ذلك: (وإثمهما أكبر من نفعهما). ولم يقل: أكثر. والحجّة لمن قرأ بالثاء: أنه لما وقع اللفظ على أعداد: وهي الخمرة المشروبة، والميسر، وهو: القمار كانت الثاء في ذلك أولى. ودليله: قوله تعالى: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ «2»، ولم يقل: أكبر.
قوله تعالى: قُلِ الْعَفْوَ «3». يقرأ بالرفع والنصب. فمن رفع جعل «ذا» «4» منفصلة من (ما) فيكون بمعنى الذي، فكأنه قال: ما الذي ينفقون؟ فقال: الذي ينفقون:
العفو، فترفعه بخبر الابتداء، لأنه جعل الجواب من حيث سألوا. والحجّة لمن نصب: أنه جعل «ماذا» كلمة واحدة، ونصب: العفو: بقوله: ينفقون، كأنه قال قال: ينفقون:
العفو. فإن قيل: فلم بنيت «ما» مع «ذا» ولم تبن «من» معها؟ فقل: لما كانت «ما» عامة لمن يعقل ولما لا يعقل، «وذا» مثلها في الإبهام والعموم بنوهما للمشاركة، ولما اختصت (من) بمن يعقل لم يبنوها مع «ذا» لهذه العلة.
قوله تعالى: حَتَّى يَطْهُرْنَ «5». يقرأ بالتشديد والتخفيف. فالحجّة لمن شدد: أنه طابق بين اللفظين لقوله: «فَإِذا تَطَهَّرْنَ». والحجّة لمن خفف: أنه أراد: حتى ينقطع الدم، لأن ذلك ليس من فعلهن. ثم قال: فإذا تطهرن يعني بالماء. ودليله على ذلك: قول العرب:
طهرت المرأة من الحيض، فهي طاهر.
__________
(1) البقرة: 219.
(2) المجادلة: 7.
(3) البقرة: 219
(4) من قوله تعالى: ماذا يُنْفِقُونَ، الآية نفسها.
(5) البقرة: 222.

(1/96)


قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَخافا «1» يقرأ بفتح الياء وضمها، فمن فتح الياء جعل الفعل لهما وسمّى: الفاعل. ومن ضم الياء جعله فعل ما لم يسم فاعله. ومعنى يخافا هاهنا: تيقّنا، لأن الخوف يكون يقينا وشكا.
قوله تعالى: يُبَيِّنُها «2» يقرأ بالياء والنون. فالحجة لمن قرأ بالياء تقدّم اسم الله عز وجل، ليأتي الكلام على سنن واحد، لمكان حرف العطف. والحجة لمن قرأ بالنون: أن الله تعالى أخبر بذلك عن نفسه مستأنفا بالواو. وجعل «تلك» إشارة إلى ما تقدّم من الأحكام والحدود قوله تعالى: لا تُضَارَّ «3» يقرأ بالرفع والنصب. فالحجة لمن جعله مرفوعا: أنه أخبر ب «لا» فردّه على قوله: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لا تُضَارَّ. والحجّة لمن نصب: أنه عنده مجزوم بحرف النهي. والأصل فيه: لا تضارر، فأدغم الراء، في الراء وفتح لالتقاء الساكنين. ومثله: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ «4».
قوله تعالى: ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ «5» يقرأ بالمدّ والقصر، وهما فعلان ماضيان. فالحجة لمن مدّ: أنه من الإعطاء. ووزنه: (أفعلتم)، ودليله قوله: «إِذا سَلَّمْتُمْ»، والتسليم لا يكون إلّا بالإعطاء: والحجّة لمن قصر: أنه من المجيء. ووزنه (فعلتم). وفيه إضمار معناه:
«به»، فنابت عنه قوله: «بالمعروف».
وكل ما في كتاب الله من «آتى» بالمد فمعناه: الإعطاء، وما كان فيه من «أتى» بالقصر فهو من المجيء إلا قوله: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا «6» أي: أخذهم.
وقوله في قراءة ل (مجاهد) «7»: أَتَيْنا بِها «8»: جازينا بها. وقوله: كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ «9» أي: أريناهم.
__________
(1) البقرة: 229.
(2) البقرة: 230.
(3) البقرة: 233.
(4) البقرة: 282.
(5) البقرة: 233.
(6) الحشر: 2.
(7) مجاهد، يكني: أبا الحجاج وهو مولي عبد الله بن السائب بن أبي السائب المخزومي، أسند مجاهد عن ابن عباس وابن عمر، وابن عمرو الخ. ومات سنة اثنتين ومائة يوم السبت وهو ساجد. انظر: (صفة الصفوة 2: 117.
118، 119).
(8) الأنبياء: 47.
(9) البقرة: 211.

(1/97)


قوله تعالى: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ «1». يقرأ بإسكان الدال وحركتها.
فالحجة لمن أسكن: أنه أراد: المصدر. والحجّة لمن حرّك: أنه أراد: الاسم. وقيل:
هما لغتان.
قوله تعالى: ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ «2». يقرأ بضم التاء وإثبات الألف بعد الميم، وبفتح التاء وطرح الألف. فالحجّة لمن أثبت الألف: أن «ماسّ» فعل من اثنين. ودليله قوله:
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا «3». والحجة لمن طرحها: أنه جعل الفعل للرجال. ودليله قوله: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ «4».
قوله تعالى: وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ «5». يقرأ بالرفع والنصب. فالحجّة لمن رفع: أنه أراد: فلتكن وصية، أو فأمرنا وصية. ودليله قراءة (عبد الله): (فالوصية لأزواجهم متاعا). والحجّة لمن نصب: أنها مصدر، والاختيار في المصادر النصب إذا هي وقعت مواقع الأمر كقوله: فَضَرْبَ الرِّقابِ «6». ومنه قول الرّاجز:
شكا إليّ جملى طول السّرى ... صبرا جميلا فكلانا مبتلى
«7».
قوله تعالى: فَيُضاعِفَهُ «8». يقرأ بالتخفيف وإثبات الألف، وبالتشديد وطرحها.
فالحجة لمن خفف: أن (ضاعف) أكثر من (ضعّف) لقوله: (أضعافا كثيرة). ودليله قوله عَشْرُ أَمْثالِها «9». والحجّة لمن شدّد: التكرير ومداومة الفعل.
ويقرأ برفع الفاء ونصبها. فمن رفع عطف على (يقرض). ومن نصب فعلى جواب الاستفهام.
__________
(1) البقرة: 236.
(2) البقرة: 236.
(3) المجادلة: 3.
(4) مريم: 20.
(5) البقرة: 240.
(6) محمد: 4.
(7) انظر: (معاني القرآن للفراء 2: 156). و (إعراب ثلاثين سورة لابن خالويه: 19).
(8) البقرة: 245.
(9) الأنعام: 160 (أي من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها).

(1/98)


قوله تعالى: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ «1»، وقوله: وَزادَهُ بَسْطَةً «2» هاهنا وفي الأعراف «3».
يقرأ ذلك بالسين والصاد، وقد ذكرت علله في أمّ القرآن.
قوله تعالى: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً «4». يقرأ بالفتح والضم، فالغرفة باليد مفتوح، وفي الإناء مضموم.
قوله تعالى: لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ «5». يقرأ ذلك بالرفع والتنوين، وبالنصب وترك التنوين. فالحجة لمن رفع: أنه جعله جوابا لقول قائل: هل عندك رجل؟ فقال لا رجل، فلم يعمل «لا» لأن هل غير عامله. والحجة لمن نصب: أنه جعله جوابا لقول قائل: هل من رجل؟ فقال: لا رجل، لأن «من» لما كانت عاملة في الاسم كان الجواب عاملا فيه النصب، وسقط التنوين للبناء كما سقط في «رام هرمز» «6».
قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ «7». هاهنا وفي الحج «8» يقرءان: دفع، ودفاع.
فالحجة لمن أسقط الألف: أنه أراد المصدر من: دفع دفعا. والحجّة لمن أثبتها: أنه أراد المصدر من: دافع دفاعا. ومعنى الآية: أنه لولا مجاهدة المشركين وإذلالهم لفسدت الأرض.
قوله تعالى: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ «9». يقرأ بإثبات الألف في كل ما استقبلته الهمزة وطرحها في الدرج. فالحجة لمن أثبتها: أنه أتى بالكلمة على أصلها وما وجب في الأصل لها، لأن الألف في (أنا) كالتاء في (أنت). والحجّة لمن طرحها أنه اجتزأ بفتحة النون، ونابت الهمزة عن إثبات الألف. وهذا في الإدراج. فأما في الوقف على «أنا» فلا خلف في إثباتها.
__________
(1) البقرة: 245.
(2) البقرة: 247.
(3) الاعراف: 69.
(4) البقرة: 249.
(5) البقرة: 254.
(6) رام هرمز: بلد بخوزستان (القاموس: مادة هرز).
(7) البقرة: 251.
(8) الحج: 40.
(9) البقرة: 258.

(1/99)


وفي (أنا) أربع لغات «أنا» فعلت. وأن فعلت. وأن فعلت. وأنه فعلت «1».
قوله تعالى: كَمْ لَبِثْتَ «2» يقرأ بإدغام الثاء في التاء وبإظهارها. فالحجّة لمن أدغم:
قرب مخرج الثاء من التاء. والحجة لمن أظهر: إتيانه بالكلام على أصله.
قوله تعالى: قال أَعْلَمُ «3». يقرأ بقطع الألف والرفع، وبوصلها والوقف. فالحجة لمن قطع: أنه جعله من إخبار المتكلم عن نفسه. والحجة لمن وصل: أنه جعله من أمر الله
تعالى للمخاطب.
قوله تعالى: لَمْ يَتَسَنَّهْ «4». يقرأ وما شاكله بإثبات «5» الهاء، وطرحها في الإدراج.
فالحجة لمن أثبتها: أنه اتّبع الخط، فأدّى ما تضمّنه السّواد «6». والحجّة لمن طرحها: أنه إنما أثبت، ليتبيّن بها حركة «7» ما قبلها في الوقف، فلما اتصل الكلام صار عوضا منها، فغنوا عنها.
وميزانها في آخر الكلام كألف الوصل في أوله.
وكان بعض القراء يتعمّد الوقوف على الهاء ليجمع بذلك موافقة الخط، وتأدية اللفظ. وبعضهم يثبت بعضا ويطرح بعضا لغير ما علة لكن ليعلم أن كلا جائز.
وللهاء في يتسنه وجهان: أحدهما: أن تكون أصلية فتسكن للجزم. والثاني: أن يكون الأصل: «لم يتسنن»، فأبدلوا من إحدى النونات ألفا، ثم أسقطوها للجزم، وألحقت الهاء للسكت. وهما في ذلك لمعنى: لم تأت عليه السنون فتغيره.
فأما من جعله من قولهم: أسن فقد وهم؛ لأنه لو كان كذلك لقيل فيه: يتأسّن.
قوله تعالى: كَيْفَ نُنْشِزُها «8». يقرأ بالراء والزّاي ..
__________
(1) انظر: (الهمع للسيوطي 1: 60).
(2) البقرة: 259.
(3) البقرة: 259.
(4) البقرة: 259.
(5) قال القرطبي: وقرأ الجمهور بإثبات الهاء في الوصل إلا الأخوان (حمزة والكسائي) فإنهما يحذفانها (الجامع لأحكام القرآن 3: 292). 292).
(6) على قراءة الإثبات وهي قراءة الجمهور. تكون الهاء أصلية، وحذفت الضمة للجزم، ويكون يتسنّه من السّنة أي لم تغيره السّنون (القرطبي 3: 293).
(7) وأصل يتسنه على هذه القراءة كما قال: الشيباني- «يتسنّن» فأبدلت إحدى النونين ياء كراهية التضعيف، فصار يتسنى، ثم سقطت الألف للجزم، ودخلت هاء السكت. (القرطبي 3: 294).
(8) البقرة: 259.

(1/100)


فمن قرأ بالزّاي: فالحجة له: أن العظام إذا كانت بحالها لم تبل، فالزّاي أولى بها، لأنها ترفع، ثم تكسي اللحم. والدليل على ذلك قوله تعالى: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ «1» أي الرجوع بعد البلى «2». والحجّة لمن قرأ بالرّاء «3»: أن الإعادة في البلى وغيره سواء عليه، فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «4». ودليله قوله تعالى: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ «5».
قوله تعالى: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ «6». يقرأ بضم الصاد وكسرها. فالحجة لمن ضم: أنه أخذه من صار «7» يصور إذا مال وعطف. وأنشد شاهدا لذلك:
يصور عنوقها أحوى زنيم ... له ظاب كما صخب الغريم
«8» والحجّة لمن كسر: أنه أخذه: من صار يصير: إذا جمع. ومعناه: فقطّعهن «9»، واجمعهن إليك.
__________
(1) الملك: 15.
(2) وعلى قراءة الزاي تكون النون مضمومة والشين مكسورة من أنشزته، والنشز: هو المرتفع من الأرض.
(3) وعلى قراءة الراء تكون النون مفتوحة والشين مضمومة، وماضيه نشرته. انظر هاتين القراءتين في (إعراب القرآن للعكبري 1: 210).
(4) البقرة: 117، آل عمران: 47 وفي الأصل من غير فاء وهو تحريف.
(5) عبس: 22.
(6) البقرة: 260.
(7) صار الشيء إليه: أماله وقربه. (المعجم الوسيط 1: 530) وقال الطبري: (قرأته عامة قراء أهل المدنية والحجاز والبصرة بضم الصاد من قول القائل: صرت هذا الأمر: إذا ملت إليه أصور صورا. ويقال: «إني إليكم لأصور»، أي: مشتاق مائل، ومنه قول الشاعر:
الله يعلم أنّا في تلفّتنا ... يوم الفراق إلى أحبابنا صور
وهو جمع أصور، وصوراء، وصور، مثل أسود وسوداء وسود .. ) ومعنى قوله: فصرهن إليك على هذه القراءة:
اضممهن إليك، ووجّههن نحوك: (جامع البيان في تفسير القرآن 3: 35، 36).
(8) البيت في اللسان: مادة: زنم، نسبة إلى المعلى بن حمّال العبدي، وفي الطبري 3: 36 نفس النسبة، ولكن «حماد بالدال لا باللام أي: حماد. ورواية اللسان والطبري تختلف عن رواية ابن خالويه، ففيهما ذكر البيت على هذه الصورة:
وجاءت خلعة دهس صفايا ... يصوع عنوقها أحوى زنيم
يفرّق بينها صدع رباع ... له ظاب كما صخب الغريم
وفي رواية الطبري: يصور، وكذلك في الصّحاح للجوهري. وعنوق: جمع عناق، وهو: الأنثى من ولد المعز، الزنيم: التيس الذي له زنمتان في حلقه. الظأب: الصوت.
(9) قال الطبري: وقرأ جماعة من أهل الكوفة «فصرهن» بالكسر بمعنى قطّعهن (جامع البيان 3: 36).

(1/101)


قوله تعالى: بِرَبْوَةٍ «1». هاهنا وفي المؤمنين «2» يقرءان بضم الراء وفتحها. وهما لغتان فصيحتان. وفيها سبع «3» لغات. وهي: ما ارتفع من الأرض وعلا.
قوله تعالى: فَآتَتْ أُكُلَها «4» يقرأ بضم الكاف وإسكانها. فالحجّة لمن ضم: أنه أتى بالكلام على أصل ما كان عليه. ودليله: إجماعهم على الضم في قوله: ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ «5». والحجة لمن أسكن: أن هذه اللفظة لما اتصلت بالمكنّى ثقلت، وتوالي الضمتين ثقيل أيضا، فخفف بالإسكان.
قوله تعالى: فَنِعِمَّا هِيَ «6». يقرأ هاهنا، وفي النساء «7» بكسر النون والعين. وبفتح النون وكسر العين. وبكسر النون وإسكان العين. فالحجّة لمن كسر النون: أنه قربها من العين ليوافق بها لفظ أختها: (بئس)، لأن هذه في المدح كهذه في الذم. والحجّة لمن فتح النون وكسر العين: أنه أتى بلفظ الكلمة على الأصل لأن أصلهما: نعم، وبئس.
والحجة لمن أسكن العين وجمع بين ساكنين «8» فاحتمل ذلك، لأنه جعل «نعم» و «ما» كلمة واحدة، فخففها بإسكان. ولا خلف في تشديد الميم.
قوله تعالى: وَيُكَفِّرُ «9». يقرأ بالنون والياء، وبالرفع والجزم. فالحجة لمن قرأ بالنون والياء قد تقدمت «10». والحجّة لمن جزم: أنه عطفه على قوله: «وَإِنْ تُخْفُوها» فجعل التكفير مع قبول الصدقات. والحجّة لمن رفع: أن ما أتى بعد الفاء المجاب بها الشرط مستأنف مرفوع. ودليله قوله تعالى: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ «11».
__________
(1) البقرة: 265.
(2) المؤمنون: 50.
(3) الجوهري في الصحاح يذكر أن فيها أربع لغات: ربوة، وربوة، وربوة، ورباوة. واللسان: يزيد: رباوة، ورباوة، والقاموس يزيد: الرّابية، والرّباة.
(4) البقرة: 265.
(5) سبأ: 16.
(6) البقرة: 271.
(7) آية: 58.
(8) قال العكبري: وهو بعيد لما فيه من الجمع بين الساكنين وقيل: إن الراوي لم يضبط القراءة، لأن القارئ اختلس كسرة العين فظنه إسكانا. انظر: (إملاء ما من الرحمن 1: 115).
(9) البقرة: 271.
(10) انظر ص: 97 عند قوله تعالى: يُبَيِّنُها.
(11) المائدة: 95.

(1/102)


قوله تعالى: إِلى مَيْسَرَةٍ «1». يقرأ بضم السين وفتحها. وهما لغتان، والفتح أفصح وأشهر.
قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً «2». يقرأ بالرفع والنصب.
فلمن رفع وجهان: أحدهما: أنه جعل «تجارة» اسم كان، (وتديرونها) الخبر.
والثاني: أن يجعل «كان» بمعنى: حدث ووقع، فلا يحتاج إلى خبر، كقوله: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ «3». والحجّة لمن نصب: أنه أضمر في «كان» الاسم، ونصب «التجارة» على الخبر، وفيه ضعف. فأمّا قوله في النساء: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً بالنّصب فوجه صحيح، لتقدم ذكر الأموال قبل ذلك.
قوله تعالى: يَحْسَبُهُمُ «4». يقرأ بكسر السين وفتحها. فالحجّة لمن فتح: أنه أتى بلفظ الفعل المضارع على ما أوجبه بناء ماضيه، لأن (فعل) بالكسر يأتي مضارعه على (يفعل) بالفتح قياس مطرد. والحجّة لمن كسر: أن العرب استعملت الكسر والفتح في مضارع أربعة أفعال: يحسب، وينعم، وييئس، وييبس، حتى صار الكسر فيهن أفصح «5».
قوله تعالى: فَأْذَنُوا «6» يقرأ بالقصر وفتح الذال، وبالمدّ وكسر الذال. فالحجّة لمن قصر: أنه أراد: فاعلموا أنتم. أي: كونوا على علم. والحجة لمن مدّ: أنه أراد: فأعلموا غيركم أي: اجعلوهم على علم.
قوله تعالى: وَأَنْ تَصَدَّقُوا «7». يقرأ بالتشديد والتخفيف. وقد ذكرت علة ذلك فيما سلف. «8»
__________
(1) البقرة: 280.
(2) البقرة: 282.
(3) البقرة: 280.
(4) البقرة: 273.
(5) قال ابن خالويه في كتابه «ليس»: ليس في كلام العرب فعل يفعل بكسر العين في الماضي والمستقبل من الصحيح إلا ثلاثة أحرف: نعم ينعم. ويبس ييبس، ويئس ييئس وقد يجوز فيها الفتح. وسمع (ليس في كلام العرب: 4) والقاموس يذكر أن ييئس، كيضرب: شاذ.
(6) البقرة: 279.
(7) البقرة: 280.
(8) انظر: 96 في قوله تعالى: حَتَّى يَطْهُرْنَ، 93 في قوله تعالى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ.

(1/103)


قوله تعالى: لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ «1». يقرأ بتقديم الفاعل، وتأخير ما لم يسمّ فاعله على الترتيب. وبتقديم ما لم يسم فاعله، وتأخير الفاعل على السعة. ومعنى الظلم في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه.
قوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما «2». يقرأ بكسر الهمزة وفتحها. فالحجّة لمن كسر:
أنه جعلها حرف شرط وجزم بها (تضل) وبناه على الفتح لالتقاء الساكنين. والحجّة لمن فتح: أنه أراد: إدخال اللام على (أن) ففتحها كقوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «3»، يريد لئلا تضلوا.
قوله تعالى: فَتُذَكِّرَ «4» يقرأ بالتشديد، والتخفيف، وبالرفع، والنصب.
فأمّا علّة التشديد والتخفيف فمذكورة آنفا. «5». والحجّة لمن رفع: أنه استأنف الفعل بعد الجواب بالفاء. وله أن يجزم الفعل عاطفا، وينصه مجيبا «6». والحجّة لمن نصب: أنه عطفه على (تضل)، وقد عملت فيه (أن) المفتوحة. ولا يجوز فيه ما أجيز في الوجه الأول.
ومثله في الوجوه الثلاثة، قوله تعالى: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ «7».
قوله تعالى: فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ «8» يقرأ بضم الراء والهاء، وبكسر الراء وإثبات ألف بعد الهاء. فالحجّة لمن ضم: أنّه جمع (رهنا): (رهانا)، وجمع (رهانا: رهنا). وليس في كلام العرب جمع لاسم على هذا الوزن «9» غير (رهن) و (سقف) «10». والحجّة لمن كسّر، وأثبت الألف: أنه أراد جمع (رهن).
__________
(1) البقرة: 279.
(2) البقرة: 282.
(3) النساء: 176.
(4) البقرة: 282.
(5) انظر: 96، 93.
(6) وإنما جاز النصب بعد الجزاء، لأن مضمونه لم يتحقق وقوعه، فأشبه الواقع بعده الواقع بعد الاستفهام. انظر:
(شرح الأشموني 3: 24).
(7) البقرة: 284.
(8) البقرة: 283.
(9) وهو: رهن.
(10) قال أبو علي الفارسي وتكسير «رهن» على أقل العدد لم أعلمه جاء فلو جاء، كان قياسه «أفعلا» ككلب وأكلب، وكأنهم استغنوا بالقليل عن الكثير. وقال الأخفش: فعل على فعل قبيح، وهو قليل شاذ (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3: 408).

(1/104)


وقيل لأبي عمرو: لم اخترت الضم؟ فقال: لأفرّق بين الرّهن في الدّين، وبين الرّهان في سباق الخيل.
قوله تعالى: الَّذِي اؤْتُمِنَ «1». روي عن عاصم، وحمزة أنهما قرآ بإشمام الهمزة الضمّة في الوصل، وهذا وهم، لأنها ألف وصل دخلت على ألف أصل. ووزن اؤتمن:
«افتعل» من الأمانة.
قوله تعالى: وَكُتُبِهِ «2» يقرأ بالتوحيد والجمع. فالحجّة لمن جمع: أنه شاكل بين اللفظين، وحقق المعنى، لأن الله تعالى قد أنزل كتبا وأرسل رسلا. والحجة لمن وحّد: أنه أراد: القرآن، لأن أهل الأديان المتقدمة قد اعترف بعضهم لبعض بكتبهم، وآمنوا بها إلّا القرآن فإنهم أنكروه فلذلك أفرد. وجمع الرّسل لأنهم لم يجمعوا على الإيمان بهم.
قوله تعالى: أَوْ أَخْطَأْنا «3». يقرأ بإثبات الهمز، وتخفيفه، وبحذفه والتعويض بالألف منه. وقد ذكرت علل الهمز في إثباته وطرحه والتعويض منه مستقصاة فيما تقدم «4» فأغنى عن إعادته.