الحجة في القراءات السبع

ومن سورة الأعراف
قوله تعالى: المص «1». هي آية في عدد الكوفيين، وكذلك الم «2».
فإن قيل: فهلا عدوّا: المر «3»؟ فقل: لأن الراء حرفان، وأعدل الأسماء والأفعال ما كان ثلاثيا، لأن الوقف يصلح عليه، فما كان ثلاثيا عدّ آية، وما كان على حرفين لم يعدّ.
فإن قيل: فهلّا عدوّا: (صاد) و (قاف) وهما ثلاثيّان؟ فقل: كل ما كان من هذه الحروف قد ضمّ إلى غيره، فيعدّ، ثم إذا انفرد «4» لم يعدّ آية: كقوله: (المص) وعسق «5» وطس «6» لأنهم قد ضمّوه إلى الميم في طسم «7».
قوله تعالى: قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ «8». يقرأ بالتشديد والتخفيف. وقد مضى ذكر علله فيما سلف «9».
__________
إجماع قراء الأمصار على خلافها. أما رواية النصب، فلا أجدها إلّا عند ابن خالويه.
انظر في هذا الموضع: (تفسير الطبري 8: 82).
(1) الأعراف: 1
(2) البقرة: 1
(3) الرعد: 1.
(4) قال في «تفسير التحرير والتنوير»: روي عن قراء الكوفة أن بعضها عدوّه آيات مستقلة، وبعضها لم يعدّوه، وجعلوه جزء آية مع ما يليه ولم يظهر وجه التفصيل، حتى قال صاحب الكشّاف:
إنّ هذا لا دخل للقياس فيه. والصحيح عن الكوفيين أن جميعها آيات، وهو اللائق بأصحاب هذا القول، إذ التفصيل تحكم لأن الدليل مفقود ...
هذا، والمختار من مذاهب جمهور القراء، أنّها ليست بآيات مستقلة بل هي أجزاء من الآيات الموالية لها.
انظر: (تفسير التحرير والتنوير 1: 204).
(5) الشّورى: 2
(6) النمل: 1
(7) القصص: 1
(8) الأعراف: 3
(9) انظر: 68 عند قوله تعالى: بِما كانُوا يَكْذِبُونَ.

(1/153)


قوله تعالى: وَمِنْها تُخْرَجُونَ «1». يقرأ بضم التاء وفتح الراء، وبفتح التاء وضمّ الراء.
هاهنا، وفي الروم «2»، والزخرف «3»، والجاثية «4». فالحجّة لمن ضم التاء:
أنّه جعله فعل ما لم يسمّ فاعله. والحجة لمن فتح التاء أنه أراد: أن الله عز وجل إذا أخرجهم يوم القيامة، فهم الخارجون. والتاء في الوجهين دليل المخاطبة.
قوله تعالى: وَلِباسُ التَّقْوى «5». يقرأ بالنصب، والرفع. والحجة لمن نصب: أنه عطفه على ما تقدم بالواو، فأعربه بمثل إعرابه. والحجة لمن رفع: أنه ابتدأه بالواو، والخبر (خير)، و (ذلك) نعت ل (لباس). ودليله: أنه في قراءة عبد الله، وأبيّ:
(ولباس التقوى خير) ليس فيه (ذلك). ومعناه: أنه الحياء.
قوله تعالى: خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ «6» يقرأ بالرفع، والنصب. فالحجة لمن قرأه بالرفع:
أنه أراد: قل: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا، وهي لهم خالصة يوم القيامة. والحجة لمن نصب: أنه لما تمّ الكلام دونها نصبها على الحال.
قوله تعالى: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ «7». يقرأ بالتاء والتشديد، وبالياء والتخفيف. وقد تقدّمت العلة في ذلك آنفا بما يغني عن إعادته «8». ومعناه لا يرفع عملهم، ولا يجاب دعاؤهم.
قوله تعالى: وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ «9». يقرأ بالياء والتاء على ما ذكرنا من الحجة في نظائره «10».
قوله تعالى: قالُوا نَعَمْ «11». يقرأ بكسر العين وفتحها. فالحجة لمن كسر: أنه
__________
(1) الأعراف: 25
(2) الروم: 25
(3) الزخرف: 11
(4) الجاثية: 35
(5) الأعراف: 26
(6) الأعراف: 32
(7) الأعراف: 40
(8) انظر: 68 عند قوله تعالى بِما كانُوا يَكْذِبُونَ
(9) الأعراف: 38.
(10) انظر مثلا: 91 عند قوله تعالى. وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا.
(11) الأعراف: 44.

(1/154)


فرّق بين هذه اللفظة التي يوجب بها، وبين النّعم من الإبل إذا نكر ووقف عليه. والحجة لمن فتح: أنه قال: هما لغتان، فاخترت الفتح لخفّته، ولم ألتفت إلى موافقة اللفظ.
فإن قيل: فما الفرق بين نعم وبلى؟ فقل: الفرق بينهما: أنّ (نعم): يلفظ بها في جواب الاستفهام، (وبلى): يلفظ بها في جواب الجحد.
قوله تعالى: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ «1». يقرأ بتشديد أنّ والنصب، وبتخفيفها والرفع. وقد ذكرت علّتيهما في البقرة «2».
قوله تعالى: لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ «3». يقف بعض القرّاء على: (رحمة)، وما شاكلها، مثل بِالْآخِرَةِ «4»، والْقِيامَةِ «5»، ومِرْيَةٍ «6»، ومَعْصِيَةِ «7» بالإمالة، ما لم يكن فيه حرف مانع منها. والحجة له في ذلك: أنّه شبّه الهاء في أواخر هذه الحروف بالألف في قَضى «8» ورَمى «9» فأمال لذلك.
فإن قيل: أفتميل جميع ما كان في القرآن من أمثال ذلك؟ فقل: قد دللتك على موضع الإمالة، وعرفتك ما لا يجوز فيه للحرف المانع من ذلك.
فإن قيل: ما تقول في بِشَرَرٍ «10» وبَرَرَةٍ «11»؟ فقل: لا يمال هذا، وما ضارعه، لأن الأصل في الإمالة لذوات الياء، فإذا كان قبلها حرف من الحروف الموانع، وهن الصّاد، والضّاد، والطاء، والظاء، والعين، والخاء، والقاف، امتنعت الإمالة، لاستعلائهن في الفم، واستثقال الإمالة.
وألحقوا بهن الراء للتكرير الذي فيها، ففتحتها قبل الألف بمنزلة فتحتين، كما كانت
__________
(1) الأعراف: 44
(2) انظر: 86 عند قوله تعالى: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا
(3) الأعراف: 49
(4) البقرة: 4، وقد تكررت في أكثر من موضع.
(5) البقرة: 85، وقد تكررت في أكثر من موضع.
(6) هود: 17، 109، الحج: 55، السجدة: 23، فصلت: 54.
(7) المجادلة: 8، 9
(8) البقرة: 117
(9) الأنفال: 17
(10) من قوله تعالى: بِشَرَرٍ المرسلات: 32.
(11) عبس: 16

(1/155)


كسرتها بعد الألف بمنزلة كسرتين. فلما امتنعت الألف التي هي الأصل من الإمالة للمانع، كانت الهاء التي هي مشبهة بها من الإمالة أبعد، وأمنع ..
فإن قيل: أفتميل الطَّامَّةُ «1» والصَّاخَّةُ «2» كما أملت دَابَّةٍ «3»؟ فقل:
لا، لأن قبل الألف حرف من الحروف الموانع.
فإن قيل: فلم أملت: (المعصية) «4»؟ فقل: لكسرة الصاد وكذلك (الآخرة) لكسرة الخاء فاعرف ما أصّلت لك، فإنه يشفى بك على جواز الإمالة وامتناعها.
الباقون بالتفخيم على الأصل سواء كان الحرف مانعا أو مبيحا.
قوله تعالى: وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ «5». يقرأ بإثبات الواو وحذفها. فالحجة لمن أثبتها:
أنه ردّ بها بعض الكلام على بعض. والحجة لمن طرحها: أنه ابتدأ الكلام، فلم تحتج إليها، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام بغير واو.
قوله تعالى: أُورِثْتُمُوها «6»، يقرأ بالإدغام، والإظهار. فالحجة لمن أدغم:
مقاربة الثاء للتاء في المخرج. والحجة لمن أظهر: أنّ الحرفين مهموسان، فإذا أدغما خفيا فضعفا، فلذلك حسن الإظهار فيهما.
قوله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ «7». يقرأ بالتشديد والتخفيف. فالحجة لمن شدد:
تكرير الفعل، ومداومته. ودليله قوله تعالى: فَغَشَّاها ما غَشَّى «8». والحجة لمن خفف:
أنه أخذه من أغشى يغشي، ودليله قوله: فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ «9». ومعناهما واحد مثل أنزل ونزّل. غير أن التشديد أبلغ.
قوله تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ «10». يقرأ بالنصب، والرفع.
__________
(1) النازعات: 34
(2) عبس: 33
(3) هود: 6.
(4) من قوله تعالى: وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ المجادلة: 8
(5) الأعراف: 43
(6) الأعراف: 43.
(7) الأعراف: 54
(8) النجم: 54
(9) يس: 9
(10) الأعراف: 54

(1/156)


فالحجة لمن نصب: أنه عطفه على قوله (يغشى)، فأضمر فعلا في معنى يغشى، ليشاكل بالعطف بين الفعلين. والحجة لمن رفع: أنه جعل الواو حالا لا عاطفة، فأستأنف بها، فرفع كما تقول: لقيت زيدا وأبوه قائم. تريد وهذه حال أبيه.
قوله تعالى: خُفْيَةً «1». يقرأ بضم الخاء وكسرها وقد ذكر في الأنعام «2».
قوله تعالى: بُشْراً «3». يقرأ بالنون، والباء، وبضم الشين وإسكانها. فالحجة لمن قرأه بالنون وضمّ الشين: أنه جعله جمعا لريح (نشور) كما تقول: امرأة صبور ونساء صبر. والحجة لمن فتح النون وأسكن الشين: أنه جعله مصدرا. ودليله قوله:
وَالنَّاشِراتِ نَشْراً «4». وهي الرياح التي تهب من كل وجه لجمع السحاب الممطرة.
والحجة لمن قرأه بالباء، وضم الشين: أنه جعله جمع ريح بشور، وهي التي تبشّر بالمطر، ودليله قوله تعالى: الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ «5». والحجة لمن أسكن الشين في الوجهين: أنه كره الجمع بين ضمّتين متواليتين فأسكن تخفيفا.
قوله تعالى: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ «6». يقرأ بالرفع والخفض. فالحجة لمن قرأه بالرفع: أنه جعله حرف استثناء، فأعربه بما كان الاسم يعرب به بعد (إلّا) كقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ «7» ويجوز الرفع في «غير» على الوصف ل «إله» قبل دخول (من) عليه كقوله تعالى: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ «8». والحجة لمن خفض: أنه جعله وصفا لإله، ولم يجعله استثناء، فهو قولك: معي درهم غير زائف، وسيف غير كهام «9».
قوله تعالى: أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي «10» يقرأ بالتشديد والتخفيف. فالحجة لمن شدّد أنه أراد: تكرير الفعل، ومداومته ودليله: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ
__________
(1) الأعراف: 55
(2) انظر: 141 عند قوله تعالى: تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً.
(3) الأعراف: 57
(4) المرسلات: 3 وفي الأصل بالفاء (فالناشرات) وهو خطأ.
(5) الروم: 46
(6) الأعراف: 65
(7) الأنبياء: 22
(8) فاطر: 3.
(9) قال في اللسان: سيف كهام، وكهيم: لا يقطع، كليل عن الضرب (اللسان: مادة: كهم).
(10) الأعراف: 68

(1/157)


إِلَيْكَ «1». والحجة لمن خفّف: أنه أخذه من أبلغ ودليله: قوله تعالى: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي «2».
قوله تعالى: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ «3». يقرأها هنا بالاستفهام، والإخبار.
فالحجة لمن استفهم ثانيا «4»: أنه جعله جوابا. واستدل بقوله: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ «5» فأعاد الاستفهام ثانيا «6». والعرب تترك «7» ألف الاستفهام إذا كان عليها دليل من «أم» كقول امرئ القيس «8»:
تروح من الحيّ أم تبتكر ... وماذا يضيرك لو تنتظر
«9» والحجة لمن قرأه بالإخبار: أنه اجترأ بالأول من الثاني، ودليله قوله: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ «10».
قوله تعالى في قصة صالح: قالَ الْمَلَأُ «11» يقرأ بإثبات الواو وحذفها. فحذفها على الابتداء، وإثباتها للعطف.
قوله تعالى: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى «12». يقرأ بإسكان الواو وتحريكها. فالحجة لمن أسكن: أنه جعل العطف بأو التي تكون للشك، والإباحة. والحجة لمن حرّك أنه جعل العطف بالواو وأدخل عليها ألف الاستفهام، ليكون الأول من لفظ الثاني في قوله: أَفَأَمِنَ «13»
__________
(1) المائدة: 67
(2) الأعراف: 79
(3) الأعراف: 81
(4) والاستفهام الأول قوله تعالى: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ آية 80 الأعراف.
(5) يونس: 59
(6) بعد قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ آية 59: يونس.
(7) في الأصل: تحرك.
(8) امرؤ القيس: انظر: 78.
(9) وفي رواية أخرى.
تروح من الحيّ أم تبتكر ... وماذا عليك بأن تنتظر
انظر: (ديوان امرئ القيس: 154).
(10) الأنبياء: 34
(11) الأعراف: 75.
(12) الأعراف: 98
(13) الأعراف: 97

(1/158)


قوله تعالى: لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ «1»، يقرأ بالتشديد، والتخفيف. فالحجة لمن شدّد أنه أراد مرة بعد مرة. والحجة لمن خفف: أنه أخذه من: فتح يفتح إذا فعل ذلك مرة واحدة.
قوله تعالى: حَقِيقٌ عَلى «2». يقرأ بإرسال الياء «3»، وبتشديدها، فالحجة لمن أرسلها أنه جعل «على» حرفا، وأوقعها على (ألّا أقول) فكان بها في موضع خفض. والحجة لمن شدد: أنه أضاف الحرف إلى نفسه، فاجتمع فيه ياءان: الأولى من أصل الكلمة، والثانية ياء الإضافة، فأدغمت الأولى في الثانية، وفتحت لالتقاء الساكنين، كما قالوا «لديّ» و «إليّ»، ويكون (ألا أقول) في موضع رفع بخبر الابتداء.
قوله تعالى: أَرْجِهْ وَأَخاهُ «4». يقرأ بالهمز «5»، وتركه «6»، وبإشباع الضمة والهمز، وباختلاس الحركة، وبكسر الهاء، وإسكانها «7» مع ترك الهمز ..
فأما تحقيق الهمز وتركه فلغتان فاشيتان قرئ بهما تُرْجِي مَنْ تَشاءُ «8» وتُرْجِي مَنْ تَشاءُ).
وأمّا إشباع الضمة واختلاس حركتها «9»، فالحجة فيه: أن هاء الكناية إذا أسكن ما قبلها لم يجز فيها إلا الضمّ؛ لأن ما بعد الساكن كالمبتدإ. يدلك على ذلك قولك:
(منه) و (عنه) بالاختلاس (ومنهمو وعنهمو) بالإشباع. فمن أشبع فعلى الأصل،
__________
(1) الأعراف: 96.
(2) الأعراف: 105
(3) أي تقرأ بألف بعد اللام
(4) الأعراف: 111
(5) قراءة ابن كثير، وابن عامر، وأبي عمرو: أرجئه بالهمز، وضم الهاء، ثم إن ابن كثير أشبع الهاء على أصله والباقون لا يشبعون. انظر (مفاتيح الغيب 4: 268).
(6) قراءة نافع والكسائي: أرجه بغير همز، وكسر الهاء والإشباع. انظر (المرجع السابق والصفحة).
(7) قراءة عاصم وحمزة: أرجه بغير الهمز وسكون الهاء. انظر (المرجع السابق والصفحة).
(8) الأحزاب: 51
(9) وذلك في قراءة الهمز.

(1/159)


ومن اختلس أراد التخفيف، فاجتزأ بالضمة من الواو.
وأمّا من ترك الهمز، وكسر الهاء، فإنه أسقط الياء علامة للجزم، وكسر الهاء لانكسار ما قبلها، ووصلها بياء لبيان الحركة. وأمّا من أسكن الهاء فله وجهان: أحدهما: أنه توهم أنّ الهاء آخر الكلمة فأسكنها دلالة على الأمر، أو تخفيفا لمّا طالت الكلمة بالهاء «1».
وروى هشام «2» بن عمار عن ابن عامر «3»: أرجئه بالهمز، وكسر الهاء. وهو عند النحويين غلط، لأن الكسر لا يجوز في الهاء إذا سكن ما قبلها كقوله: وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي «4» وله وجه في العربية، وذلك أنّ الهمزة لما سكنت للأمر، والهاء بعدها ساكنة على لغة من يسكن الهاء، كسرها لالتقاء الساكنين.
قوله تعالى: بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ «5». يقرأ بإثبات الألف والتخفيف، وبطرحها والتشديد «6» في كلّ القرآن إلّا في الشُّعَراءُ «7» فإنه بالتشديد إجماع. فالحجة لمن شدّد: أنه
أراد تكرير الفعل والإبلاغ في العمل، والدلالة على أن ذلك ثابت لهم فيما مضى من الزمان، كقولهم: هو دخّال خرّاج إذا كثر ذلك منه وعرف به. والحجة لمن أثبت الألف، وخفف أنه جعله اسما للفاعل مأخوذا من الفعل.
__________
(1) قال الفراء: هي لغة العرب يقفون على الهاء المكنّى عنها في الوصل إذا تحرك ما قبلها، وأنشد:
فيصلح اليوم ... ويفسده غدا
قال: وكذلك يفعلون بهاء التأنيث فيقولون: هذه طلحة قد أقبلت، وأنشد:
لما رأى أن لا دعه ولا شبع
قال الواحدي: ولا وجه لهذا عند البصريين في القياس.
وقال الزجاج: هذا شعر لا نعرف قائله، ولو قاله شاعر مذكور لقيل له: أخطأت انظر: مفاتيح الغيب للرازي 4: 268).
(2) هشام بن عمّار بن نصير بن ميسرة أبو الوليد السلمي، وقيل: الظفري الدمشقي إمام أهل دمشق وخطيبهم ومقرئهم ...
ولد سنة ثلاث وخمسين ومائة.
قال ابن الجزري: وكان هشام مشهورا بالنقل والفصاحة، والعلم والرواية والدراية، رزق كبر السن، وصحة العقل والرأي فارتحل الناس إليه في القراءات والحديث. مات سنة خمس وأربعين ومائتين، وقيل سنة أربع وأربعين.
(غاية النهاية 2: 355، 356).
(3) تقدمت ترجمته: 37.
(4) طه: 32
(5) الأعراف: 112
(6) أي وزيادة ألف بعدها، وهي قراءة الأخوين (حمزة والكسائي).
(البحر المحيط 4: 360).
(7) الشعراء: 37.

(1/160)


وكل ما أتى بعده (عليم) فهو ساحر إلّا التي في الشُّعَراءُ «1» فإنها في السواد قبل الألف، فلم يختلف فيها أنها سحّار. وما كان بعده «مبين» فهو سحر.
قوله تعالى: قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً «2». يقرأ بتحقيق الهمزتين، وبتحقيق الأولى، وتليين الثانية، وبطرح الأولى وتحقيق الثانية.
فالحجة لمن أثبت الهمزتين: أنه أتى به على الأصل، لأن الأولى للاستفهام، والثانية همزة إن. والحجة لمن ليّن الثانية أنه تجافى أن يخرج من فتح الهمزة إلى كسرة ثانية، فقلبها إلى لفظ الياء تليينا. والحجة لمن طرح الأولى: أنه أخبر بإنّ ولم يستفهم، فأثبت همزة إنّ، وأزال همزة الاستفهام.
قوله تعالى: تَلْقَفُ «3». يقرأ بفتح اللام وتشديد القاف. وبإسكان اللام وتخفيف القاف. فالحجة لمن شدد: أنه أراد تتلقف فخزل إحدى التاءين، وبقّى القاف على تشديدها.
والحجة لمن أسكن وخفف: أنه أخذه من لقف يلقف، ومعناهما: تلتقم، وتلتهم:
أي تبتلع.
قوله تعالى: آمَنْتُمْ بِهِ «4». يقرأ بتحقيق الهمزتين ومدة بعدهما «5»، وبهمزة ومدة بعدها، وبواو وهمزة بعدها ساكنة، وبواو ولا همزة بعدها «6». فالحجة لمن حقق الهمزتين ومدّ: أنه جمع بين ثلاث همزات: الأولى: همزة التوبيخ بلفظ الاستفهام. والثانية:
ألف القطع. والثالثة: همزة الأصل. ووزنه (أأفعلتم) فالفاء هي موضع المدّة. والحجة لمن همز ومدّ: أنه ليّن ألف القطع، فوصل مدّها بمد ألف الأصل. والحجة لمن أتى بلفظ الواو وهمزة ساكنة بعدها: أنه ليّن ألف القطع فصارت واوا لانضمام النون قبلها «7»، فرجعت الهمزة التي هي فاء الفعل إلى أصلها قبل التليين.
فإن قيل: فيجب أن تكون الواو ساكنة، لأنها مليّنة من همزة فقل: إن الواو الساكنة
__________
(1) أي الحاء التي قبل الألف. انظر: الشعراء: 37.
(2) الأعراف: 113.
(3) الأعراف: 117
(4) الأعراف: 123
(5) قراءة عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي. انظر (مفاتيح الغيب 4: 272).
(6) قال أبو حيان في البحر: وقرأ قنبل هنا بإبدال همزة الاستفهام واوا لضمة نون (فرعون) وتحقيق الهمزة بعدها، أو تسهيلها أو إبدالها أو إسكانها أربعة أوجه انظر: (البحر المحيط 4: 365).
(7) أي نون (فرعون) في قوله تعالى: قالَ فِرْعَوْنُ الآية نفسها.

(1/161)


إذا لقيها ساكن حرّكت لالتقاء الساكنين كقوله: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ «1». وقد نسب القارئ بذلك إلى الوهم. والحجة لمن قرأ بلفظه كالواو ولا همزة معها، فإنه أشبع ضمة النون، فصارت كلفظ الواو، وخزل الهمزة الثانية وخلفها بمدّة، ودلّ بالفتح على سقوط الهمزة المفتوحة.
قوله تعالى: سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ «2» ومثله يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ «3». يقرأ بالتشديد والتخفيف.
فالحجة لمن شدّد: أنه أراد تكرير القتل بأبناء بعد أبناء. ودليله قوله: وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا «4».
والحجة لمن خفف: أنه أراد فعل القتل مرة واحدة. ودليله قوله تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ «5».
قوله تعالى: يُورِثُها مَنْ يَشاءُ «6» يقرأ بالتشديد والتخفيف. فالحجة لمن شدّد:
أنه أراد: تكرير الميراث لقرن بعد قرن. ودليله قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم) «7». والحجة لمن خفف: أنه أخذه من أورث ودليله قوله تعالى: كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ «8».
قوله تعالى: وَما كانُوا يَعْرِشُونَ «9» ويَعْكُفُونَ «10». يقرءان بضم عين الفعل وكسرها وهما لغتان. والحجّة لذلك: أن كلّ فعل انفتحت عين ماضيه جاز كسرها وضمها في المضارع قياسا إلا أن يمنع السماع من ذلك. وما كانت عين ماضيه مضمومة لزمت الضمّة عين مضارعه إلا أن يشذ شيء من الباب، فلا حكم للشاذ. فالأصل ما ذكرته لك، فاعرفه إن شاء الله.
قوله تعالى: وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ «11». يقرأ بإثبات الياء والنون وبحذفهما. فالحجة لمن
__________
(1) المائدة: 44
(2) الأعراف: 127
(3) الأعراف: 141
(4) الأحزاب: 61
(5) البقرة: 191
(6) الأعراف: 128.
(7) انظر (كنز الحقائق للمناوي 119).
(8) الدخان: 28
(9) الأعراف: 137
(10) الأعراف: 138
(11) الأعراف: 141

(1/162)


أثبتهما: أنه من إخبار الله تعالى عن نفسه بنون الملكوت. وعليها جاء قوله: رَبِّ ارْجِعُونِ «1» والحجة لمن حذفها: أنه من إخبار النبي عليه السلام عن الله، والفاعل مستتر في الفعل، وإذ في أول الكلام متعلقة بفعل، دليله قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ «2» وإنما وعظهم الله تعالى بما امتحن به من كان قبلهم وذكرهم نعمه عليهم، وحذّرهم من حلول النّقم عند مخالفته.
قوله تعالى: جَعَلَهُ دَكًّا «3». يقرأ بالقصر والتنوين، وبالمدّ وترك التنوين، هاهنا وفي الكهف «4». فالحجة لمن قصر ونوّن: أنه جعله مصدرا كقوله: إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا «5». وهذا اللفظ لا يثنى ولا يجمع، لأنه مصدر والمصدر اسم للفعل. فلما كان الفعل لا يثنّى ولا يجمع كان الأصل بتلك المثابة. والحجة لمن مدّ ولم ينوّن: أنه صفة قامت مقام الموصوف. وأصله: أرضا ملساء من قول العرب: ناقة دكّاء أي: لا سنام لها.
فهذا يثني ويجمع ولم ينوّن، لأنه وزن لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، لاجتماع علامة التأنيث، والوصف فيه.
فإن قيل فقوله: دُكَّتِ الْأَرْضُ خرّج لفظ المصدر فيه على فعله، وليس هاهنا لفظ لفعل يخرّج المصدر عليه، فقل إنّ المصدر هاهنا يخرّج على المعنى، لا على اللفظ، لأنه يريد بقوله تعالى: جعله: دكّه، وذلك معروف عند العرب. قال ذو الرّمّة: «6»
والودق يستنّ عن أعلى طريقته ... جول الجمان جرى في سلكه الثّقب
«7» فنصب جول الجمان، لأنه أراد بقوله يستن: يجول قوله تعالى: بِرِسالاتِي «8». يقرأ بالتوحيد والجمع. فالحجة لمن وحّد: أن الله تعالى إنما أرسله مرة واحدة بكلام
كثير. والحجة لمن جمع: أنه طابق بين اللفظين لتكون
__________
(1) المؤمنون: 99
(2) الأنفال: 26
(3) الأعراف: 143
(4) الكهف: 98
(5) الفجر: 21
(6) ذو الرمة: انظر: 125.
(7) الودق: المطر الشديد، يستن: أي يجري، الجمان: خرز يتخذ من الفضة، الثقب: الخيط الذي ينظم فيه.
يقول: قطر المطر ينحدر عن ظهر الثور، كأنه جمان، ينحدر من سلكه (شرح ديوان ذي الرمة ورقة: 10).
(8) الأعراف: 144

(1/163)


رسالاتي مطابقة لكلامي. وإن أراد بالجمع معنى الواحد كما قال يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ «1» يريد نبينا عليه السلام.
قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ «2». يقرأ بضم الراء وإسكان الشين، وبفتحهما.
فالحجة لمن ضمّ: أنه أراد به: الهدى التي هي ضدّ الضلال. ودليله قوله تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ «3» والغيّ هاهنا: الضلال. والحجة لمن فتح: أنه أراد به الصلاح في الدين. ودليله قوله تعالى: وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً «4» أي صلاحا. وقيل: هما لغتان كقولهم: السّقم والسّقم.
قوله تعالى: مِنْ حُلِيِّهِمْ «5». يقرأ بضم الحاء وكسرها، وهما جمع (حلي). فالحجة لمن ضم: أنه أتى به على أصل ما يجب لجمع (فعل) وأصله: (حلوي) كما قالوا (فلوس) فلما تقدّمت الواو بالسكون قلبوها إلى الياء، وأدغموها للمماثلة فتشديد الياء لذلك.
والحجة لمن كسر: أنه استثقل الخروج من ضمّ إلى كسر، فكسر الحاء ليقرب بها بعض اللفظ من بعض طلبا للتخفيف.
قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا «6». يقرأ بالياء والرفع، وبالتاء والنصب. فالحجة لمن قرأ بالتاء: أنه جعلها دليلا لخطاب الله تعالى، لأنه حاضر. وإن كان عن العيون غائبا. ونصب مريدا للنداء كقوله تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا «7» يريد نداء المضاف.
والحجة لمن قرأ بالياء أنه أخبر عن الله تعالى في حال الغيبة، ورفعه بفعله الذي صيغ له، وجعل ما اتصل بالفعل من الكناية مفعولا به.
قوله تعالى: ابْنَ أُمَّ «8». يقرأ بفتح الميم وكسرها. فالحجة لمن فتح: أنه جعل الاسمين اسما واحدا، كخمسة عشر، فبناه على الفتح.
__________
(1) المؤمنون: 51
(2) الأعراف: 146
(3) البقرة: 256
(4) الكهف: 10
(5) الأعراف: 148
(6) الأعراف: 149
(7) الإسراء: 3
(8) الأعراف: 150، وفي الأصل (يا ابن أم) وهو تحريف.

(1/164)


وقال الزجاج «1». إنّما جاز الفتح في هذا وفي «ابن عمّ» لكثرة الاستعمال، ألا ترى أن الرجل يقول ذلك لمن لا يعرفه، فكأنه لكثرة الاستعمال عندهم يخرج عمن هو له، فخفّف الكلمتان بانّ جعلتا واحدة، وبنيتا على الفتح، ولا يجوز ذلك في غيرهما.
وقال المبرد «2»: أراد: «يا بن أمي»، فقلب من الياء ألفا، فقال: يا بن أمّا، ثم حذف الألف استخفافا كما حذف الياء من قوله: يا بن أمّي، فقال يا بن أمّ، وجاز له قلب الياء ألفا، لأن النداء قريب من الندبة، وهما قياس واحد إذا قلت: يا أمّاه وأنشد:
* يا بنت عمّا لا تلومي واهجعي «3» * والحجة لمن كسر الميم: أنه أراد يا بن أمّي، فحذف الياء واجتزأ منها بالكسرة، لأن النداء باب بني على الحذف، واختص به فاتّسعوا فيه بالحذف، والقلب، والإبدال.
والوجه في العربية إثبات الياء هاهنا، لأن الاسم الذي فيه مضاف إلى المنادى «4»، وليس بمنادى قال الشاعر:
يا بن أمّي ولو شهدتك إذ ... تدعو تميما وأنت غير مجاب
«5» قوله تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ «6». يقرأ بالتوحيد والجمع «7». فالحجة لمن وحّد أنه أراد: ثقل ما اجترموه في الجاهلية. ودليله قوله عليه السلام: (محا الإسلام ما قبله) «8».
__________
(1) الزجاج: إبراهيم بن السريّ بن سهل أبو إسحاق الزجّاج النحوي. انظر ترجمته في: (بغية الوعاة: 179، إنباه الرّواة: 1: 159، شذرات الذهب 2: 295، تاريخ بغداد 6: 89).
(2) المبرد: محمد بن يزيد أبو العباس المبرد، ولد بالبصرة، ثم رحل إلى بغداد فأخذ عن أبي عمر الجرمي، وأبي عثمان المازني: انظر التعريف به في مقدمة كتاب «الكامل في اللغة والأدب» لأبي العباس المبرد، تحقيق الدكتور زكي مبارك.
(3) قاله أبو النجم العجلي من قصيدة مرجّزة أولها:
قد أصبحت أم الخيار تدّعي
والشاهد في إثبات الألف في عمّا، وإبدالها من الياء إذ أصله يا ابنة عمّي. واهجعي من الهجوع: وهو النوم بالليل خاصة، وأم الخيار اسم امرأته. انظر «فرائد القلائد في مختصر شرح الشواهد: 313» وانظر: «شواهد الشافية لابن الحاجب: 209». وانظر: «الكتاب لسيبويه 1: 318».
(4) مضاف إلى المنادى وهو ابن.
(5) أنظر «الطبري 9: 68 مطبعة مصطفى الحلبي، ط ثانية 1954».
(6) الأعراف: 157
(7) أي آصارهم: بفتح الهمزة ومدها، وفتح الصاد، والإتيان بألف بعدها.
(8) في رواية ابن حنبل في المسند: إن الإسلام يجبّ ما كان قبله. «المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي 14:
مادة: سلم».

(1/165)


والحجة لمن قرأه بالجمع: أنه طابق بذلك بينه وبين قوله تعالى: وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ.
قوله تعالى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ «1». يقرأ بضم التاء، وجمع خطيئة وتوحيدها، والرّفع، وبالنون والجمع. فالحجة لمن قرأه بضم التاء أنه جعله فعل ما لم يسمّ فاعله. ودل بالتاء على تأنيث ما يأتي بعدها، ورفع ذلك باسم ما لم يسمّ فاعله سواء أفرد أو جمع، لأنه قام مقام الفاعل. والحجة لمن قرأه بالنون أنه جعل الفعل إخبارا عن الله تعالى، ونصب قوله «خطاياكم» بتعدّي الفعل إليها، ولم يبن للنصب فيها دليل، لأن آخرها ألف، والألف لا تقبل شيئا من الحركات. والحجة لمن قرأه بالنون وجمع السلامة: أنه كسر التاء في موضع النصب، لأنها في التأنيث بمنزلة الياء في التذكير، فكما نابت في الجمع عن النصب والخفض، كذلك نابت الكسرة في التأنيث عن النصب والخفض.
قوله تعالى: قالُوا مَعْذِرَةً «2» يقرأ بالرفع والنصب. فالحجة لمن قرأه بالرفع أنه أراد:
أحد وجهين من العربيّة، إما أن يكون أراد: قالوا: موعظتنا إياهم معذرة فتكون خبر ابتداء محذوف، أو يضمر قبل ذلك ما يرفعه كقوله: سُورَةٌ أَنْزَلْناها «3». يريد هذه سورة. والحجة لمن نصب: أن الكلام جواب، كأنه قيل لهم: لم تعظون قوما هذه سبيلهم؟ قالوا: نعظهم اعتذارا ومعذرة.
قوله تعالى: «بعذاب بئس» «4». يقرأ «بئيس» بالهمزة على وزن: «فعيل» و «بئس» بإثبات الهمز وحذف الياء على وزن «فعل»، وبيس بكسر الياء وفتحها من غير همز «وبيأس» بفتح الباء وإسكان الياء، وهمزة مفتوحة على وزن: «فيعل». فهذه خمس لغات مشهورات مستعملات في القراءة.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ «5». هاهنا، وفي الممتحنة «6» يقرءان بالتشديد والتخفيف. فالحجة لمن شدد أنه أخذه من: مسّك يمسّك إذا عاود فعل التمسّك بالشيء.
__________
(1) الأعراف: 161
(2) الأعراف: 164
(3) النور: 1
(4) الأعراف: 165
(5) الأعراف: 170
(6) الممتحنة: 10

(1/166)


ودليله أنه في حرف أبيّ: «والذين مسّكوا بالكتاب». والحجة لمن خفف: أنه أخذه من: أمسك يمسك: ودليله قوله تعالى: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ «1» ولم يقل مسّك.
قوله تعالى: مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ «2». يقرأ بالتوحيد والجمع. فالحجة لمن وحّد:
أنه جعله موحّدا في اللفظ، مجموعا في المعنى. ودليله قوله تعالى: أَوِ الطِّفْلِ «3». والحجة لمن جمع: أنه طابق بذلك بين اللفظين لقوله: «مِنْ ظُهُورِهِمْ». ومعنى الآية: أن الله مسح ظهر آدم، فأخرج الخلق منه، كأمثال الذّرّ فأخذ عليهم العهد بعقل ركّبه فيهم، وناداهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا «4» فكل أحد إذا بلغ الحلم، علم بعقله، أن الله عز وجل خالقه، واستدل بذلك عليه.
فإن قيل: فما وجه بعث الرسل؟ فقل: إيضاح للبراهين وتأكيد للحجة عليهم.
قوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا «5». يقرأ بالياء والتاء، وقد ذكر من الحجة في نظائره ما يدلّ.
عليه ويغني عن إعادته «6».
قوله تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ «7». يقرأ بضم الياء، وكسر الحاء، وبفتحهما هاهنا وفي النّحل «8» والسّجدة «9». فالحجة لمن ضم الياء وكسر الحاء: أنه أخذه من ألحد يلحد. والحجة لمن فتحهما: أنه أخذه من لحد يلحد وهما لغتان معناهما:
الميل والعدول. ومنه أخذ «لحد القبر».
قوله تعالى: وَنَذَرُهُمْ «10» بالنون والرفع، وبالياء والجزم. فالحجة لمن قرأ بالنون والرفع: أنه استأنف الكلام، لأنه ليس قبله ما يردّه بالواو عليه. والحجة لمن قرأه بالياء والجزم: أنه عطفه على موضع الفاء في الجواب من قوله: «فَلا هادِيَ لَهُ».
__________
(1) الأحزاب: 37
(2) الأعراف: 172
(3) النور: 31
(4) الأعراف: 172
(5) الأعراف: 172
(6) انظر: 82 عند قوله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
(7) الأعراف: 180
(8) النحل: 103
(9) حم السجدة: 40.
(10) الأعراف: 186

(1/167)


قوله تعالى: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ «1» يقرأ بضمّ الشين والمدّ، وطرح التنوين، وبكسر الشين وإسكان الراء والتنوين. فالحجة لمن قرأه بضم الشين: أنه جعله جمع «شريك» فمنعه من الصرف، لأن الهمزة التي في آخره مشاكلة لهمزة حمراء وما أشبهها. والحجة لمن قرأه بكسر الشين: أنه أراد المصدر. ومعنى الآية: أنّ ابليس لعنه الله أتى حواء وهي عند أول حمل حملت فقال لها: ما هذا الذي في بطنك أبهيمة أم حية؟ قالت: لا أدري قال لها:
إن دعوت الله تعالى أن يجعله بشرا سويّا تسمينه باسمي؟ قالت: نعم، فلما أتاهما الله ولدا صالحا، جعلا له شركاء فيه فسمّياه عبد الحرث باسم إبليس- لعنه الله.
قوله تعالى: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ «2». إجماع القرّاء على قراءته بثلاث ياءات. الأولى: ياء فعيل زائدة. والثانية: لام الفعل أصلية. والثالثة: ياء الإضافة، فأدغمت الزائدة في الأصلية، واتصلت بها ياء الإضافة ففتحت لالتقاء الساكنين.
هذا لفظ القراء إلّا ما رواه «ابن اليزيدي» «3» عن أبيه عن أبي عمرو: (إن وليّ الله» بياء مشددة مفتوحة. فإن صح ذلك عنه، فإنه حذف الوسطى، وأدغم في الإضافة، وفتحها، كما قالوا: إليّ وعليّ ولديّ بفتح الياء.
قوله تعالى: إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ «4». يقرأ بإثبات الألف وحذفها. فالحجة لمن أثبتها:
أنه جعله اسم الفاعل من: طاف الخيال: إذا طرق النائم. وهما لغتان طاف طوفا وأطاف مطافا. ومعنى طائف الشيطان: وساوسه ولممه وختله. قال الشاعر:
وتضحى على غبّ السّرى وكأنّما ... أطاف بها من طائف الجنّ أولق
«5» والحجة لمن حذفها: أنه أراد به: ردّه إلى الأصل. وأصله: طويف، فلما تقدّمت الواو
__________
(1) الأعراف: 190
(2) الأعراف: 196
(3) محمد بن يحيى بن المبارك اليزيدي أبو عبد الله بن أبي محمد. قال الخطيب: من أهل البصرة، سكن بغداد، وكان من أهل الأدب والعلم بالقرآن واللغة مدح الرشيد، وأدّب المأمون. مات محمد هذا
بمصر لما خرج إليها المعتصم «بغية الوعاة: 114».
(4) الأعراف: 201.
(5) اللسان ينسب البيت إلى الأعشى في وصف ناقته. ورواية البيت كما ذكرها:
وتصبح عن غبّ السّري وكأنما ... ألمّ بها من طائف الجن أولق
والأولق: شبه الجنون. انظر: «اللسان: مادة: ولق». قال الفراء: وهم يصفون الناقة- لسرعتها- بالحدّة والجنون. انظر «الخصائص لابن جني 3: 292».

(1/168)


بالسكون قلبت ياء، وأدغمت في الياء، فثقل عليهم تشديد الياء مع كسرها، فخففوه، بأن طرحوا إحدى الياءين، وأسكنوا كما قالوا: هين لين. قال حسان بن ثابت «1».
جنّية أرّقني طيفها ... يذهب صبحا وترى في المنام
«2» قوله تعالى: لا يَتَّبِعُوكُمْ «3». يقرأ بالتشديد والتخفيف. فالحجة لمن شدد: أنه أراد به: لا يسيرون على أثركم، ولا يركبون طريقتكم في دينكم. والحجة لمن خفف:
أنه أراد به: لا يلحقوكم. ومنه قول العرب: اتّبعه: إذا سار في أثره، وتبعه: إذا لحقه.
وقيل: هما لغتان فصيحتان.
قوله تعالى: ثُمَّ كِيدُونِ «4». يقرأ بإثبات الياء وحذفها. فالحجة لمن أثبتها: أنها غير فاصلة، ولا آخر آية. والحجة لمن حذفها: أنه أدّى ما وجده في السّواد. فأما قوله في سورة «المرسلات»: فَكِيدُونِ «5» فأكثر القراء على حذفها، لأنها فاصلة في آخر آية.