الحجة في القراءات السبع ومن سورة يوسف
قوله تعالى: يا أَبَتِ «6». يقرأ بفتح التاء وكسرها. فالحجة
لمن فتح: أنه أراد (يا أبة) بالهاء «7» ثم رخّم الهاء فبقي (يا
أب)، ثم أعاد إلى الاسم هاء السكت، وأدرج، فبقيت
__________
(1) لأن أصله: اسأل.
(2) لأن أصله: قال ...
(3) هود: 111.
(4) هود: 123.
(5) هود: 123.
(6) يوسف: 4.
(7) أي بتاء التأنيث التي يوقف عليها بالهاء، والتي تلحق
الأسماء. قال الفراء: (ولو قيل: يا أبت لجاز الوقف عليها
بالهاء من جهة، ولم يجز من أخرى فأما جواز الوقوف على الهاء
فأن تجعل الفتحة فيها من النداء ولا تنوي أن تصلها بألف
الندبة، فكأنه كقول الشاعر:
كليني لهم يا أميمة ناصب ... الخ
(1/191)
الهاء على فتحها، كقولك: يا طلح في
الترخيم، ثم تأتي بالهاء فتقول: يا طلحة أقبل.
قال النابغة: «1»
كليني لهمّ يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب
«2» فهذه الهاء ليست التي كانت في الاسم، ولكنها المردودة بعد
الحذف. والدليل على ذلك فتحها. والحجة لمن كسرها: أنه أراد:
الإضافة إلى النفس فاجتزأ بالكسرة من الياء «3» لكثرة الحذف في
النداء. فأما الوقف على (يا أبت) فبالهاء، والتاء. والحجّة لمن
وقف بالهاء أنه شبهها بالهاء التي في (عمة) و (خالة)، فإذا وقف
على هذه أخلص لفظها هاء، وإنما الهاء هاهنا عوض عن ياء
الإضافة، لأنهم كانوا يحذفونها كما يحذفون التنوين، فجاءوا
بهذه الهاء في الأمّ توكيدا للتأنيث، وفي الأب إذ لم يكن له
تأنيث من لفظه، لأنك تقول: أبوان لأم وأب، ولا تقول لهما:
«أمان» فصار «أب» و «أبه» اسمين للأب معا، ولا يقع هذا في غير
النداء. والحجة لمن وقف عليها بالتاء أن أصل كل هاء وقعت
للتأنيث فرقا أن تردّ إلى التاء في الوقف والدّرج، لأن التاء
الأصل. والدليل على ذلك قولك:
قامت جاريتك، فالتاء الأصل، لأنه قد تدخل الهاء في أسماء
المذكر وصفاته، فلذلك ردّت الهاء إلى التّاء.
قوله تعالى: آياتٌ لِلسَّائِلِينَ «4». يقرأ بالتوحيد والجمع.
فالحجة لمن وحد: أنه جعل أمر يوسف عليه السلام كله عبرة وآية.
ودليله قوله: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ «5»
__________
وأما الوجه الذي لا يجوز الوقف على الهاء فأن تنوي يا أبتاه،
ثم تحذف الهاء والألف، لأنها في النية متصلة بالألف كاتصالها
في الخفض بالياء من المتكلم (معاني القرآن 2: 32).
وقال في اللسان: «وقولهم يا أبة افعل، يجعلون علامة التأنيث
عوضا من ياء الإضافة. كقولهم في الأم يا أمّة:
وتقف عليها بالهاء إلّا في القرآن العزيز فإنك تقف عليها
بالتاء اتّباعا للكتاب، وقد يقف بعض العرب على هاء التأنيث
بالتاء، فيقولون: يا طلحت. انظر: (مادة: أبي).
(1) انظر: 189.
(2) انظر: (معاني القرآن للفراء: 2: 32 والمفصل 2: 107 والكتاب
لسيبويه 1: 315، 336).
(3) يذكر الأشموني: أن التاء عوض من ياء الإضافة لأن الأصل: يا
أبي، ومن ثم لا يكادان يجتمعان .. ثم قال:
ويجوز فتح التاء وهو الأقيس، وكسرها وهو الأكثر. وبالفتح قرأ
ابن عامر. وبالكسر قرأ غيره من السبعة (شرح الأشموني 3: 157،
158).
(4) يوسف: 7.
(5) يوسف: 111.
(1/192)
يقل: (عبرا)، ويكون قد ناب بالواحد عن
الجميع كقوله: أَوِ الطِّفْلِ «1». والحجة لمن جمع: أنه جعل
كلّ فعل من أفعاله آية فجمع لذلك. وسهّله عليه كتبها في السواد
بالتاء.
ووزن آية عند الفراء «2»: فعلة: (أيّة). وعند الكسائي (فاعلة)
«3» (آيية). وعند (سيبويه) «4» (فعلة) (أيية).
قوله تعالى: مُبِينٍ اقْتُلُوا «5» يقرأ بضم التنوين وكسره.
وقد ذكرت علّته في النساء «6».
قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ «7». يقرأ
بالتفخيم والإمالة. فالحجة لمن فخم:
أنه أتى به على الأصل. والحجة لمن أمال: أنه دلّ بالإمالة على
أن ألفها ألف تأنيث، لأنها راجعة إلى التاء لفظا.
وروي عن الكسائي: أنه أمال هذه، وفتح قوله لا تَقْصُصْ
رُؤْياكَ «8». فإن كان فعل ذلك ليفرّق بين النصب والخفض فقد
وهم. وإن كان أراد الدلالة على جواز اللغتين فقد أصاب، لأن
اللفظ بهما- للقصر الذي فيهما- واحد في جميع وجوه الإعراب.
قوله تعالى: فِي غَيابَتِ الْجُبِّ «9». يقرأ بالتوحيد والجمع.
فالحجة لمن وحّد: أنه أراد: موضع وقوعه فيه، وما غيّبه منه،
لأنه جسم واحد، شغل مكانا واحدا. والحجة لمن جمع: أنه أراد ظلم
البئر ونواحيه، فجعل كل مكان في غيابة.
قوله تعالى: يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ «10». يقرءان بالنون والياء،
وبكسر العين وإسكانها.
فالحجة لمن قرأهما بالنون: أنه أخبر بذلك عن جماعتهم. والحجة
لمن قرأه بالياء: أنه أخبر بذلك عن يوسف دون إخوته. والحجة لمن
أسكن العين: أنه أخذه من رتع يرتع:
__________
(1) النور: 31.
(2) الفراء تقدمت ترجمته 84
(3) الكسائي: تقدمت ترجمته 61.
(4) سيبويه: تقدمت ترجمته 78.
(5) يوسف: 8، 9.
(6) انظر: 124: النساء 42
(7) يوسف: 43.
(8) يوسف: 5.
(9) يوسف: 15.
(10) يوسف: 12.
(1/193)
إذا اتسع في الأرض مرحا ولهوا. ونلعب: نلهو
ونسرّ. والحجة لمن كسرها: أنه أخذه من الرّعى. وأصله: إثبات
الياء فيه فحذفها دلالة على الجزم، لأنه جواب للطلب في قولهم.
أرسله معنا، فبقيت العين على الكسر الذي كانت عليه.
فإن قيل كيف يلعبون وهم أنبياء؟ فقل: لم يكونوا إذ ذاك أنبياء.
قوله تعالى: لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ «1». يقرأ الذئب بإثبات
الهمزة وتركها. فالحجة لمن همز: أنه أتى به على أصله، لأنه
مأخوذ من تذؤب الريح: وهو «هبوبها» من كل وجه، فشبه بذلك لأنه،
إذا حذر من وجه أتى من آخر. والحجة لمن ترك الهمزة: أنها
ساكنة، فأراد بذلك: التخفيف.
قوله تعالى: يا بُشْرى «2». يقرأ بإثبات الألف وفتح الياء،
وبطرحها وإسكان الياء.
فالحجة لمن أثبتها: أنه أراد: الإضافة إلى نفسه كقوله: (يا
حسرتي) و (يا ويلتي).
والحجة لمن طرح: أنه جعله اسم غلام مأخوذ من البشارة، مبنيّ
على وزن: (فعلى).
فأما الإمالة فيه فلمكان الراء، وحقيقتها على الياء، فأشار
بالكسر إلى الراء، ليقرب من لفظ الياء قوله تعالى: هَيْتَ لَكَ
«3». يقرأ بفتح الهاء وكسرها، وبضم التاء وفتحها. فالحجة لمن
فتح الهاء، وضم التاء: أنه شبهه ب «حيث». ومن كسر الهاء وفتح
التاء، فإنما كسرها لمكان الياء. والحجة لمن فتح الهاء والتاء:
أنه جعلها مثل الهاء في (هلمّ) وفتح التاء، لأنها جاءت بعد
الياء الساكنة كما قالوا: (أين) و (ليت) و (كيف).
قوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ «4». يقرأ
بفتح اللام وكسرها. فالحجة لمن فتح:
أنه أراد: اسم المفعول به من قولك: أخلصهم الله فهم مخلصون.
والحجة لمن كسر:
أنه أراد اسم الفاعل من أخلص فهو مخلص. ومنه قوله تعالى في
سورة مريم: إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً «5».
__________
(1) يوسف: 14.
(2) يوسف: 19.
(3) يوسف: 23.
(4) يوسف: 24.
(5) مريم: 51، وقراءة حفص في المصحف: مخلصا بفتح اللّام.
(1/194)
قوله تعالى: حاشَ لِلَّهِ «1». يقرأ بإثبات
الألف في آخره وصلا ووقفا، وبحذفها في الوجهين معا. فالحجة لمن
أثبتها: أنه أخذه من قولك: حاشى يحاشي. والحجة لمن حذف أنه
اكتفى بالفتحة من الألف فحذفها، واتّبع فيها خط السواد.
ومعناها هاهنا: معاذ الله. وهي عند النحويين بمعنى: أستثني.
واستشهدوا بقول النابغة: «2» * وما أحاشي من الأقوام من أحد
«3» * قوله تعالى: دَأَباً «4». يقرأ بإسكان الهمزة وفتحها.
فالحجة لمن أسكن: أنه أراد المصدر. والحجة لمن فتح: أنه أراد
الاسم. ويجوز أن يكون أصله الفتح، فأسكن تخفيفا.
والعرب تستعمل ذلك فيما كان ثانيه حرفا من حروف الحلق مثل
(النّهر) و (المعز).
والدّأب معناه: المداومة على الشيء وملازمته، والعادة. قال
الكميت: «5»
هل تبلغنيكم المذكّرة ال ... وجناء والسّير مني الدّأب
«6»
__________
(1) يوسف: 31.
(2) سبقت ترجمته 164.
(3) قال البغدادي في الخزانة:
هذا عجز وصدره: ... ولا أرى فاعلا فى الناس يشبهه ..
وقال في المفصّل: استشهد بهذا البيت لمذهب المبرد. من أن حاشا
كما تكون حرفا تكون فعلا بدليل تصرّفها في مثل هذا البيت. وقال
ابن الأنباري في الإنصاف: ولا أحاشي: أراد: لا أستثني أحدا
ممّن يفعل الخير، و (من) زائدة، (وأحد) بعدها مفعول به لأحاشي.
والاستشهاد بهذا البيت في قوله: ولا أحاشي: فإن هذا فعل مضارع
بمعنى استثني، وقد جاء في كلام العرب المحتج بكلامهم.
انظر في ذلك: (الخزانة 2: 44، شرح المفصل لابن يعيش 2: 85،
الإنصاف لابن الأنباري 1: 278.
والدرر اللوامع 1: 198).
(4) يوسف: 47.
(5) الكميت: هو الكميت بن زيد بن خنيس بن مخالد بن وهيب بن
عمرو بن سبيع، شاعر متقدم، عالم بلغات العرب، خبير بأيامها من
شعراء مضر وألسنتها. وكان معروفا بالتشيّع لبني هاشم، مشهورا
بذلك، وقصائده (الهاشميات) من جيد شعره ومختاره، وكان في أيام
بني أمية، ولم يدرك الدولة العباسية، ومات قبلها.
انظر: الأغاني 15: 108 وما بعدها.
(6) المذكرة: الناقة التي تشبه الفحل في الخلق والخلق.
الوجناء: الشديدة، الدأب: الجد.
والبيت من قصيدة طويلة من بحر (المنسرح) أولها:
(1/195)
والاختيار: السكون لإجماعها عليه في قوله:
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ «1».
قوله تعالى: وَفِيهِ يَعْصِرُونَ «2» يقرأ بالياء والتاء.
فالحجة لمن قرأ بالياء: أنه ردّه على قوله: (فيه يغاث الناس).
ومن قرأه بالتاء فحجته: أنه خصّهم بذلك دون الناس.
قوله تعالى: حَيْثُ يَشاءُ «3». يقرأ بالياء والنون. فالحجة
لمن قرأه بالياء: أنه جعل الفعل ليوسف. والحجة لمن قرأه
بالنون: أنه جعل الإخبار بالفعل لله تعالى، لأن المشيئة له، لا
ليوسف إلّا بعد مشيئته عزّ وجل.
قوله تعالى: وَقالَ لِفِتْيانِهِ «4» يقرأ بالياء والتاء.
وبالألف والنون. فالحجة لمن قرأه بالياء: أنه أراد: الجمع
القليل: مثل (غلمة) و (صبية) والحجة لمن قرأه بالألف والنون:
أنه أراد: الجمع الكثير مثل (غلمان) و (صبيان).
فإن قيل: وزن (فتى) فعل، و (فعل) لا يجمع على: فعلة فقل: لما
وافق (غلمانا) في الجمع الكثير «5» جمعوا بينهما في القليل
ليوافقوا بينهما.
قوله تعالى: نَكْتَلْ «6». يقرأ بالنون والباء. فالحجة لمن
قرأه بالياء: أنه أراد: انفراد كل واحد منهم بكيله. والحجة لمن
قرأه بالنون: أنه أخبر بذلك عن جماعتهم، وأدخل أخاهم في الكيل
معهم.
وأصله: (نفتعل) فاستثقلوا الكسرة على الياء «7» فحذفت، فانقلبت
الياء ألفا لانفتاح ما قبلها فالتقى ساكنان فحذفت لالتقاء
الساكنين.
__________
أنّى ومن أين آبك الطّرب ... من حيث لا صبوة ولا ريب
وآبك: أتاك. انظر (القصائد الهاشميات للكميت بن زيد تصحيح
محمّد شاكر الخيّاط النابلسي مطبعة الموسوعات بمصر- 41).
(1) آل عمران: 11
(2) يوسف: 49.
(3) يوسف: 56.
(4) يوسف: 62.
(5) حيث جمع على فتيان.
(6) يوسف: 63.
(7) وأصله على وزن: نفتعل: أي: نكتبل.
(1/196)
قوله تعالى: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ
«1». يقرأ بتقديم الياء قبل الهمزة فيكون الياء فاء الفعل.
وبتقديم الهمزة قبل الياء فيكون الياء عين الفعل. ومثله حَتَّى
إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ «2».
فالحجة لمن جعل الياء فاء الفعل «3»: أنه أخذه من قولهم: يئس،
ييأس «4» يأسا. والحجة لمن جعل الهمزة فاء الفعل: أنه أخذه من
قولهم: أيس يأيس إياسا «5».
وقد قرئ بتخفيف الهمزة. فالحجة لمن خففها، وجعل الياء فاء
الفعل «6»: أنه يجعلها ياء مشددة، لأنه أدغم فاء الفعل،
لسكونها في العين (وحركها «7») بحركتها. والحجة لمن خففها،
والهمزة فاء الفعل: أنه يجعلها ألفا خفيفة للفتحة قبلها «8».
قوله تعالى: خَيْرٌ حافِظاً «9». يقرأ بإثبات الألف بعد الحاء،
وبحذفها. والأصل فيهما: والله خيركم حفظا، وحافظا، فنصب قوله:
(حفظا) على التمييز ونصب قوله:
«حافظا» على الحال، ويحتمل التمييز. وإنما كان أصله الإضافة،
فلما حذفها خلفها بالتنوين.
فإن قيل: فما الفرق بين قولهم: زيد أفره عبد بالخفض، وزيد أفره
عبد بالخفض، وزيد أفره عبدا بالنصب؟
فقل إذا خفضوا فالفاره هو: العبد، وإنما مدحته في ذاته، وإذا
نصبوا فالعبد غير زيد، ومعناه: زيد أفرهكم عبدا أو أفره عبدا
من غيره. فهذا فرقان بيّن.
__________
(1) يوسف: 80.
(2) يوسف: 110.
(3) في الأصل: عين الفعل، وهو لا يتفق مع الأسلوب.
(4) وفيه لغة أخرى: يئس ييئس بالكسر فيهما.
قال الجوهري: وهو شاذ.
وقال سيبويه: وهذا عند أصحابنا إنما يجيء على لغتين:
يعني: يئس ييأس، ويأس ييئس لغتان لم يركب منهما لغة. انظر:
الصحاح للجوهري: مادة يئس).
(5) قال في المعجم الوسيط: أيس منه أيسا، وإياسا مادة: أس.
(6) في الأصل: عين الفعل.
(7) زيادة مني لإصلاح الأسلوب.
(8) هي قراءة ابن كثير، لأنه قرأ (استأيسوا) ولا (تايسوا) (إنه
لا يايس) (أفلم يايس) بألف من غير همز على القلب فقدمت الهمزة،
وأخرت الياء، ثم قلبت الهمزة ألفا، لأنها ساكنة قبلها فتحة.
قال القرطبي: والأصل:
قراءة الجماعة، لأن المصدر ما جاء إلا على تقديم الياء- يأسا-
والإياس ليس بمصدر أيس، بل هو مصدر:
أسته أوسا، وإياسا أي أعطيته (القرطبي 9: 241).
(9) يوسف: 64.
(1/197)
قوله تعالى: إِلَّا رِجالًا نُوحِي
إِلَيْهِمْ «1». يقرأ بالياء والنون، وفتح الحاء مع الياء
ذكرها مع النون. فالحجة لمن قرأه بالياء: أنه جعله فعل ما لم
يسم فاعله. والحجة لمن قرأه بالنون أنه جعله من إخبار الله
تعالى عن نفسه بالنّون.
قوله تعالى: أَإِنَّكَ «2». يقرأ بهمزتين محققتين وبهمزة ومدة
وياء بعدها، وبالإخبار من غير استفهام. فالحجة لمن حقّق: أنّ
الأولى للاستفهام، والثانية همزة إنّ، فأتى بهما على أصلهما.
والحجة لمن همزه ومدّ وأتى بالياء: أنه فرّق بين الهمزتين
بمدّة، ثم ليّن الثانية فصارت ياء لانكسارها. والحجة لمن أخبر
ولم يستفهم: أجابته لهم بقوله:
(أنا يوسف). ولو كانوا مستفهمين لأجابهم بنعم، أولا، ولكنهم
أنكروه فأجابهم محقّقا.
قوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ «3». القراءة
بكسر القاف وحذف الياء علامة للجزم بالشّرط إلا ما رواه (قنبل)
«4» عن (ابن كثير) «5» بإثبات الياء. وله في إثباتها وجهان:
أحدهما: أن من العرب من يجرى الفعل المعتل مجرى الصحيح فيقول:
لم يأتي زيد، وأنشد:
ألم يأتيك والأنباء تنمى ... بما لاقت لبون بني زياد
«6» والاختيار في مثل هذا حذف الياء للجازم، لأن دخول الجازم
على الأفعال يحذف الحركات الدّالة على الرفع إذا وجدها. فإن
عدمها لعلة حذفت الحروف التي تولّدت منها
__________
(1) يوسف: 109.
(2) يوسف: 90.
(3) يوسف: 90.
(4) قنبل: محمد بن عبد الرحمن بن خالد بن محمد بن سعيد أبو عمر
المخزومي مولاهم، المكّي: الملقّب بقنبل، شيخ القرّاء بالحجاز.
وقد انتهت إليه رئاسة الإقراء بالحجاز، ورحل الناس إليه من
الأقطار، ومات سنة إحدى وتسعين ومائتين عن ست وتسعين سنة.
انظر: (غاية النهاية 2: 166).
(5) ابن كثير: سبقت ترجمته ص 37.
(6) البيت لقيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة العبسي، وكان سيد
قومه نشأت بينه وبين الربيع بن زياد العبسي شحناء في شأن درع
ساومه فيها، فأخذها منه فلم يردّها عليه، فاعترض قيس بن زهير
أم الربيع فاطمة بنت الخرشب في ظعائن من بني عبس، يريد أن
يرتهن ناقتها بدرعه، ثم خلّى سبيلها، فقال قصيدته التي من
أبياتها هذا البيت:
انظر: (الخزانة 3: 534، ومعاني القرآن للفراء 1: 161، 2: 188،
223، والمحتسب لابن جني 1: 67، 196، والكتاب لسيبويه 2: 59).
(1/198)
الحركات، لأنها قامت مقامها، ودلّت على ما كانت الحركات تدلّ
عليه. وإنما يجوز إثباتها مع الجازم في ضرورة الشاعر.
والوجه الثاني: أنه أسقط الياء لدخول الجازم، ثم بقّى القاف
على كسرتها، وأشبعها لفظا فحدثت الياء للإشباع كما قال الشاعر:
أقول إذ خرّت على الكلكال ... يا ناقتي ما جلت من مجال
«1» قوله تعالى: أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا «2». يقرأ بتشديد
الذّال وتخفيفها. فالحجة لمن شدّد:
أنه جعل الظن «3» للأنبياء بمعنى العلم. يريد: ولما علموا أنّ
قومهم قد كذبوهم جاء الرسل نصرنا. والحجة لمن خفف: أنه جعل
الظن للكفرة بمعنى الشك. وتقديره: وظن الكفرة أن الرسل قد
كذبوا فيما وعدوا به من النّصر.
قوله تعالى: فَنُجِّيَ «4». يقرأ بجيم مشددة وفتح الياء،
وبنونين وسكون الياء. فالحجة لمن قرأه بنون واحدة: أنه جعله
فعلا ماضيا بني لما لم يسمّ فاعله، وسهل ذلك عليه كتابته في
السواد بنون واحدة، لأنها خفيت للغنّة لفظا، فحذفت خطّا.
والحجة لمن قرأه بنونين:
أنه دلّ بالأولى على الاستقبال، وبالثانية على الأصل وأسكن
الياء علما للرفع. |