الحجة في القراءات السبع ومن سورة والصافات
قوله تعالى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً
فَالتَّالِياتِ ذِكْراً «9». يقرأن بإدغام التاء في الصّاد
والزاي والذال، وإظهارها. فالحجة لمن أدغم قرب مخرج التاء
منهن. والحجة لمن أظهر: أن التاء متحركة والألف ساكنة قبلها
فالإظهار أحسن من الجمع بين ساكنين.
فإن قيل: ما وجه قوله فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ولم يقل (تلوا)
كما قال (صفّا) و (زجرا)؟
فقل: إنّ (تلوت) له في الكلام معنيان: تلوت الرجل. معناه:
اتّبعته، وجئت بعده.
ودليله قوله: وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها «10». وتلوت القرآن: إذا
قرأته. فلما التبس لفظهما أبان الله عز وجل بقوله (ذكرا): أنّ
المراد هاهنا: التّلاوة لا الاتباع.
فإن قيل: ما وجه التأنيث في هذه الألفاظ؟ فقل: ليدل بذلك على
معنى الجمع.
وقيل: التاليات هاهنا: جبريل وحده، كما قال في قوله:
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ «11».
قوله تعالى: بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ «12». يقرأ بالتنوين والنصب
والخفض معا، وبترك
__________
(1) يس: 68.
(2) يس: 41.
(3) يس: 67.
(4) يس: 70.
(5) يس: 69.
(6) الأنعام: 19.
(7) يس: 82.
(8) انظر: 88.
(9) الصافات: 1، 2، 3.
(10) الشمس: 2.
(11) آل عمران: 39.
(12) الصافات: 6.
(1/300)
التنوين والإضافة. فالحجة لمن نوّن ونصب:
أنه عند أهل البصرة شبيه بالمصدر، لأن المصدر عندهم إذا نوّن
عمل الفعل، وكذلك إذا أضيف إلى الفاعل أو المفعول. وهو عند أهل
الكوفة منصوب بمشتق من المصدر.
والحجة لمن نون وخفض: أنه أبدل: (الكواكب) من الزينة لأنها هي
الزينة وهذا يدل الشيء من الشيء، وهو هو في المعنى. والحجة لمن
حذف التنوين، وأضاف: أنه أتى بالكلام على أصل ما وجب له، لأن
الاسم إذا ألفى الاسم بنفسه ولم يكن الثاني وصفا للأول ولا
بدلا منه ولا مبتدأ بعده أزال التنوين وعمل فيه الخفض، لأن
التنوين معاقب للإضافة، فلذلك لا يجتمعان في الاسم.
قوله تعالى: لا يَسَّمَّعُونَ «1». يقرأ بتشديد السين والميم،
وبإسكان السين والتخفيف.
فالحجة لمن شدّد: أنه أراد يتسمعون، فأسكن التاء وأدغمها في
السين فصارتا سينا مشددة.
والحجة لمن خفف: أنه أخذه من سمع يسمع. ومعناه: أنّ الشياطين
كانت تسرق السمع من السماء فتلقيه إلى أوليائها من الإنس قبل
مولد محمد عليه السلام فتبديه، فلما ولد صلى الله عليه رجموا
بالنجوم، فامتنعوا من الاستماع، وهذا من أدلّ دليل على صحة
نبوته صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: بَلْ عَجِبْتَ «2». يقرأ بضم التاء وفتحها. فالحجة
لمن ضم: أنه من إخبار الله تعالى عن نفسه. ودليله قول النبي
صلى الله عليه وسلم: «عجب ربكم من ألّكم وقنوطكم «3». فالعجب
من الله عز وجل إنكار لأفعالهم: من إنكارهم البعث، وسخرياتهم
من القرآن، وازدرائهم بالرسول جرأة على الله، وتمرّدا،
وعدوانا، وتكبّرا. فهذا العجب من الله عز وجل. والفرق بينه
وبين عجب المخلوقين: أنّ المخلوق لا يعجب إلا عند نظره إلى ما
لم يكن في علمه، ولا جرت العادة بمثله فبهره ما رأى من ذلك
فيتعجب من ذلك.
وقد جاء في القرآن ما يقارب معنى ذلك كقوله تعالى: وَمَكَرُوا
وَمَكَرَ اللَّهُ «4»، وكقوله:
__________
(1) الصافات: 8.
(2) الصافات: 12.
(3) أخرجه أبو عبيد في الغريب، عن محمد بن عمر،. ويرفعه:
والألّ: رفع الصوت بالدعاء. انظر: (الكافي الشّافي في تخريج
أحاديث الكشاف 4:، 37).
(4) آل عمران: 54.
(1/301)
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «1»، وكقوله:
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «2»، فالمكر من الله
والاستهزاء والمحبة على غير ما هي من الخلق وبخلافها، فكذلك
العجب منه بخلاف ما هو من المخلوقين، لأنها منه على طريق
المجازاة بأفعالهم وإتيان اللفظ مردودا على اللفظ. والحجة لمن
فتح:
أنه جعل التاء للنبي صلى الله عليه وسلم.
ومعناه: بل عجبت يا محمد من وحي الله إليك، وهم يسخرون.
قوله تعالى: وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ «3» يقرأ هاهنا وفي
الواقعة «4» بكسر الزّاي وفتحها. فالحجة لمن قرأه بالكسر: أنه
أراد: لا ينفد شرابهم. والحجة لمن فتح: أنه أراد: لا تزول
عقولهم إذا شربوها بالسّكر. وفرّق (عاصم) بينهما فقرأها هنا
بالفتح، وفي (الواقعة) بالكسر فقيل: إنه جمع بين اللغتين ليعلم
بجوازهما. وفرّق بعضهم بين ذلك
فقال: إنما فتح هاهنا لقوله: لا فِيها غَوْلٌ «5» وهو كلّ ما
اغتال الإنسان فأهلكه وذهب بعقله. وكسر في الواقعة لأن الله
تعالى وصف الجنة، وفاكهتها وجعل شرابها من معين، والمعين لا
ينفد، فكان ذهاب العقل في (الصافات) أشبه، ونفاد الشراب في
(الواقعة) أشكل.
قوله تعالى: فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ «6». إجماع
القراء على فتح الياء إلّا ما قرأه (حمزة) من ضمها. فمن فتح،
أخذه من: زفّ يزفّ. ومن ضم أخذه من: أزفّ يزف. وهما لغتان
معناهما: الإسراع في المشي.
قوله تعالى: ماذا تَرى «7» يقرأ بفتح التاء، وإمالة الراء،
وتفخيمها. وبضم التاء وكسر الراء بياء الإمالة فالحجة لمن فتح
التاء: أنه أراد به: معنى الرّويّة، والرأي.
وقد ذكر وجه الإمالة والتفخيم فيما سلف. والحجة لمن ضمّ وكسر
الراء: أنه أراد به المشورة، والأصل فيه: (ترائي) فنقل كسرة
الهمزة إلى الرّاء، وحذف الهمزة لسكونها
__________
(1) البقرة: 15.
(2) آل عمران: 31.
(3) الصافات: 47.
(4) الواقعة: 19.
(5) الصافات: 47.
(6) الصافات: 94.
(7) الصافات: 102.
(1/302)
وسكون الياء. واشتقاق المشورة من قولهم:
«شرت» العسل إذا أخرجته من الخليّة ومعناه: استخراج الرأي.
قوله تعالى: وَإِنَّ إِلْياسَ «1». أجمع القراء على فتح النون
وقطع الألف بعدها إلا (ابن عامر) فإنه وصلها. فالحجة لمن قطع:
أنه شاكل بهذه الألف، أخواتها في أوائل الأسماء الأعجمية.
والحجة لمن وصلها: أنها الداخلة مع اللام للتعريف، فكان الاسم
عنده قبل دخولها عليه (ياس).
قوله تعالى: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ «2» يقرأ بكسر الهمزة
وقصرها وإسكان اللام بعدها، وبفتح الهمزة ومدّها وكسر اللام
بعدها. فالحجة لمن كسر الهمزة: أنه أراد.
(إلياس) فزاد في آخره الياء والنون، ليساوي به ما قبله من رءوس
الآي، ودليله ما قرأه (ابن مسعود) «3»: «سلام على إدراسين»
يريد: إدريس. والحجة لمن فتح الهمزة:
أنه جعل اسمين: أحدهما: مضاف إلى الآخر. معناه: سلام على آل
محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم، لأنه قيل في تفسير قوله يس:
يريد يا محمد. واختلف الناس في قولهم:
آل محمد، فقيل معناه: من آل إليه بنسب أو قرابة.
وقيل من كان على دينه، ودليله قوله تعالى: وَأَغْرَقْنا آلَ
فِرْعَوْنَ «4». وقيل آله:
أصحابه، وأهله، وذريته.
فأما أهل صناعة النحو فأجمعوا: أن الأصل في (آل) (أهل) فقلبت
الهاء همزة ومدّت ودليلهم على صحة ذلك: أنك لو صغّرت آلا لقلت:
أهيلا ولم تقل: أويلا لأنهم صغّروه على أصله لا على لفظه.
وقال حذّاق النحويين: الحجة لمن قرأ: (إدراسين) و (إلياسين)
فإنما جمع، لأنه أراد بذلك: اسم النبي صلى الله عليه وسلم وضمّ
إليه من تابعه على دينه كما قالوا:
(المسامعة) و (المهالبة) «5».
__________
(1) الصافات: 123.
(2) الصافات: 130.
(3) انظر: 72.
(4) البقرة: 50، الأنفال: 54.
(5) قال في القاموس:، المهلب أبو «المهالبة» والمسمع كمنبر:
الأذن جمع مسامع، وأبو قبيلة: وهم المسامعة.
(1/303)
قوله تعالى: اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ
آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ «1» يقرأ بالنصب والرفع. فالحجة لمن
نصب: أنه جعله بدلا من قوله: وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ
الْخالِقِينَ «2»، الله ربكم ورب آبائكم الأولين، يحتمل أن
يكون أضمر فعلا كالذي أظهر فنصب به، أو أضمر (أعني) فإن العرب
تنصب بإضماره مدحا وتعظيما. والحجة لمن رفع: أنه أضمر اسما
ابتدأ به، وجعل اسم الله تعالى خبرا له، لأن الكلام الذي قبله
قد تم فكأنه قال: هو الله ربكم.
ودليله قوله: سُورَةٌ أَنْزَلْناها «3» وبَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ
«4» يريد بهما، هذه سورة وهذه براءة من الله. أو يبتدئ باسم
الله عز وجل مستأنفا له، فيرفعه ويجعل قوله (ربكم) الخبر ويعطف
عليه ما بعده.
ومن سورة ص
قوله تعالى: ما لَها مِنْ فَواقٍ «5». يقرأ بضم الفاء وفتحها.
فقيل: هما لغتان بمعنى واحد. وقيل: من ضمّ أراد: قدر ما بين
الحلبتين للناقة.
ومن فتح أراد: من راحة.
قوله تعالى: بِالسُّوقِ «6» إسكان الواو إجماع، إلّا ما روي عن
(ابن كثير) من الهمز، وقد ذكر آنفا «7».
قوله تعالى: بِنُصْبٍ «8». أجمع القرّاء على ضم النون، إلا ما
رواه (حفص) «9» عن (عاصم) بالفتح وهما لغتان. معناهما: ما يصيب
البدن من تعب الضرّ، وألم الوجع.
ومعنى العذاب هاهنا: ذهاب المال والولد.
__________
(1) الصافات: 126.
(2) الصافات: 125.
(3) النور: 1.
(4) التوبة: 1.
(5) ص: 15.
(6) ص: 33.
(7) انظر: 272 عند قوله تعالى: وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها.
(8) ص: 41.
(9) انظر: 61.
هذا ورواية حفص في المصحف الذي بين أيدينا لا تخرج عن إجماع
القراء.
(1/304)
فإن قيل: ما وجه مدحه بالصبر وقد شكا بهذا
القول؟ فقل: إن شكواه هاهنا على طريق الاستغاثة بالله، والسؤال
له، وإنما وجه الذم أن يشكو إلى مخلوق مثله لا يملك له ضرّا
ولا نفعا. ودليل ذلك قول يعقوب عليه السلام إِنَّما أَشْكُوا
بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ «1»، لأن كل غني فقير إليه وكل
قوي ضعيف لديه ولم يعط أحد الاسترجاع عند المصائب إلّا نبينا
صلى الله عليه وسلم وأمته، ودليل ذلك قول يعقوب لما تولى عن
أولاده: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ «2».
قوله تعالى: وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ «3». إسكان الياء إجماع
إلّا ما رواه (حفص) عن (عاصم) بالفتح لقلة الاسم وكذلك قوله:
وَعَزَّنِي «4» بالتشديد إجماع إلّا ما رواه أيضا عنه بالتشديد
وإثبات الألف «5». وهما لغتان معناهما: غالبتني وغلبتني.
قوله تعالى: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ «6». يقرأ بهمزتين
الأولى مفتوحة والثانية مضمومة.
وبهمزة واحدة، وبهمزة وواو بعدها. ومثله: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ
عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا «7». فالحجة لمن أثبت الهمزتين: أنه
أتى بالكلام على أصله ووفّاه ما أوجبه القياس له، الأولى همزة
الاستفهام، والثانية ألف القطع. والحجة لمن قرأه بهمزة واحدة:
أنه أخبر ولم يستفهم.
والحجة لمن قرأه بهمزة، وواو: أنه حقّق الأولى وخفّف الثانية
وكانت مضمومة فصارت في اللفظ واوا.
قوله تعالى: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ «8». إجماع القراء
على لفظ الجمع إلّا ما قرأه ابن كثير من التوحيد. فالحجة لمن
جمع: أنه أتى بالكلام على ما أوجب له من تفصيل الجمع بعده «9».
والحجة لمن وحّد: أنّه اجتزأ بلفظ الواحد من الجمع لدلالة ما
يأتي عليه.
__________
(1) يوسف: 86.
(2) يوسف: 84.
(3) ص: 23.
(4) ص: 23.
(5) والمصحف الذي بين أيدينا وهو رواية حفص، خلا من رواية
التشديد، وإثبات الألف ولم يخرج عن الإجماع.
(6) ص: 8.
(7) القمر: 25.
(8) ص: 45.
(9) أعني إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب (في الآية نفسها).
(1/305)
قوله تعالى: بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ
«1». يقرأ بالتنوين، والإضافة. فمن نوّن أبدل (ذكرى) من
(خالصة) وموضعها على هذا خفض، ومن حذف التنوين أضاف لاختلاف
اللفظ كقوله: وَلَدارُ الْآخِرَةِ «2» ولا يبين فيها إعراب
لحلول ألف التأنيث فيها طرفا، ولم يأت على بنائها إلّا (شعري)
اسم نجم.
قوله تعالى: هذا ما تُوعَدُونَ «3». يقرأ هاهنا بالياء والتاء.
فالتّاء لمعنى مخاطبة الحاضر، والياء للإخبار عن الغائبين، وقد
شرحت علله في مواضعه «4».
قوله تعالى: وَغَسَّاقٌ «5» يقرأ بتشديد السين وتخفيفها هاهنا،
وفي عَمَّ يَتَساءَلُونَ «6» وهما لغتان «7»، وقيل: معناه:
شراب قاتل ببرده ونتنه. وقيل: ما يسيل من صديد أهل النار.
قوله تعالى: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ «8».
إجماع القراء على فتح الهمزة والتوحيد «9» إلا ما قرأه «أبو
عمرو» من ضمّها دلالة على الجمع. فالحجة لمن قرأه بالتوحيد
قوله تعالى: مِنْ شَكْلِهِ، ولم يقل من شكلهم.
والحجة لمن جمع: أنه شاكل بالجمع بينه وبين قوله (أزواج) ولم
يقل (زوج)، وهما في الوجهين لا ينصرفان، لأن (آخر) وزنه (أفعل)
ففيه علتان: (الصفة) و (مثال الفعل) و (أخر): وزنه (فعل) ففيه
علتان: (الجمع) و (العدل). ووجه عدله:
أن أصله أن يعرّف بالألف واللام، فلما عرّف بغيرهما تركوا
صرفه. ومثله: (سحر)
__________
(1) ص: 46
(2) يوسف: 109.
(3) ص: 53.
(4) انظر: 82 عند قوله تعالى وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا
يَعْمَلُونَ.
(5) ص: 57.
(6) النبأ: 25.
(7) قرأ بالتخفيف عامة، قراء الحجاز والبصرة، وبعض الكوفيين
والشّام، وقالوا: هو اسم موضوع للمصدر، وبالتشديد قرأ عامة
قراء الكوفة، ووجهوه إلى أنه صفة من قولهم: غسق يغسق غسوقا إذا
سال. انظر: (الطبري: 23:
113).
(8) ص: 58.
(9) وذلك في قوله تعالى: وَآخَرُ.
(1/306)
إذا أردت به سحر يومك بعينه لم تصرفه، لأنه
معدول عن مثل ذلك.
قوله تعالى: مِنَ الْأَشْرارِ أَتَّخَذْناهُمْ «1». يقرأ بقطع
الألف ووصلها. فالحجة لمن قطع أنه: جعلها ألف الاستفهام، دخلت
على ألف الوصل، فسقطت لدخولها.
ولمن وصل وجهان: أحدهما: أنه أخبر بالفعل ولم يدخل عليه
استفهاما. والثاني:
أنه طرح ألف الاستفهام لدلالة قوله أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ
الْأَبْصارُ «2» عليها. وهذا من كلام العرب، قال امرؤ القيس:
تروح من الحيّ أم تبتكر ... وماذا يضيرك لو تنتظر
«3» أراد: أتروح، فحذف الألف. ويحتمل أن يكون حذف الألف لتقدّم
الاستفهام في قوله: ما لَنا لا نَرى رِجالًا «4».
قوله تعالى: سِخْرِيًّا «5». يقرأ بضم السين وكسرها. وقد ذكر
فيما سلف.
قوله تعالى: قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ «6». يقرءان
بالنصب معا، وبرفع الحق الأول، ونصب الثاني. فالحجة لمن
نصبهما: أنه أراد في الأول الإغراء. معناه: فاتبعوا الحق،
وأعمل الفعل المؤخر في الثاني. والحجة لمن رفع الأول: أنه أضمر
له ما يرفعه. يريد:
فهذا الحق، ونصب الثاني بالفعل المؤخر، أو يكون أراد: فأنا
الحق، وأقول: الحق، فأقام الفاء في الأول مقام (أنا) وهذا
بعيد.
__________
(1) ص: 62، 63.
(2) ص: 63.
(3) رواية المفضل، من نسخة الطوسي:
تروح من الحيّ أم تبتكر ... وماذا عليك بأن تنتظر
من قصيدة مطلعها:
أحار بن عمرو كأني خمر ... ويعدو على المرء ما يأتمر
انظر: (ديوان امرئ القيس: 154).
(4) ص: 62.
(5) ص: 63.
(6) ص: 84.
(1/307)
ومن سورة الزّمر
قوله تعالى: يَرْضَهُ لَكُمْ «1». يقرأ بضم الهاء وإثبات واو
بعدها. وباختلاس الضمة من غير واو، والهاء بالإسكان. فالحجة
لمن أشبع، الهاء ولفظ الواو: أنه لما ذهبت الألف من يرضى علامة
للجزم، أتت الهاء وقبلها فتحة فردّ حركتها إلى ما كان لها في
الأصل، وأتبعها الواو تبيينا للحركة، وشاهد ذلك قول ذي الرمة:
كأنّه كوكب في إثر عفرية ... مسوّم في سواد الليل منقضب
«2» والحجة لمن اختلس: أن الأصل عنده: (يرضاه لكم) فلما حذفت
الألف للجزم بقيت الهاء على الحركة التي كانت عليها قبل حذف
الألف وأنشد:
له زجل كأنّه صوت حاد ... إذا طلب الوسيقة أو زمير
«3» والحجة لمن أسكن: أنه لما اتصلت الهاء بالفعل اتصالا لا
يمكن انفصالها منه توهّم أنها آخر الفعل، فأسكنها تخفيفا، ليدل
بذلك على الجزم. فأما الهاء في قوله: (يرضه لكم، فكناية عن
الشكر لقوله: أوّلا (وإن تشكروا) فالشكر من العبد: رضاه بما
قسم الله له، والثناء عليه بما أولاه، والشكر من الله تعالى:
الزيادة في النعم، وجزيل الثواب.
قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ «4». يقرأ بتشديد الميم
وتخفيفها. فالحجة لمن شدّد:
أنه ردّه على قوله: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا «5» فكأنه
قال: أهذا خير أمن هو قانت؟ أي:
__________
(1) الزّمر: 7.
(2) في إثر عفرية: أي شيطان، مسوّم: معلم.
وتقدير البيت: كأن الثور كوكب مسوم، منقضب في إثر عفرية في
سواد الليل. انظر: (ديوان ذي الرمة:
27).
(3) الزّجل: صوت فيه حنين وترنّم. الحادي: سائق الإبل.
الوسيقة: أنثاه التي يضمها ويجمعها، وهي من قولهم:
وسقت الشيء: أي جمعته. والبيت منسوب إلى الشمّاخ. والمعنى: أن
الحمار الوحشي الذي يصفه يشبه صوته بأتانه إذا صوّت بها صوت
حادي الإبل أو صوت مزمار.
انظر: الدّرر اللوامع 1: 34، الموشح: 146، ديوان الشماخ: 36،
الخصائص لابن جني 1: 127، الكتاب 1: 11.
(4) الزّمر: 9.
(5) الزّمر: 8.
(1/308)
مصلّ. والقانت في اللغة: (الداعي)،
(والساكت) «1»، و (المصلّي)، وهو هاهنا:
المصلي لقوله: (ساجدا) و (قائما). والحجة لمن خفف: أنه أقام
الألف مقام حرف النداء، فكأنه قال: يا من هو قانت، وهو مشهور
في كلام العرب، لأنها تنبه المنادي بخمس أدوات وهن: يا زيد،
وأيا زيد، وهيا زيد، وأي زيد، وأزيد.
قوله تعالى: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ «2». يقرأ بحذف الياء،
وإثباتها وفتحها. فالحجة لمن حذف: أنها لما سقطت لالتقاء
الساكنين خطّا سقطت لفظا. والحجة لمن أثبتها: أنه إنما تسقط
ياء الإضافة في النداء لكثرة الحذف فيه والاستعمال. فأمّا في
غيره فلا، وفتحها لالتقاء الساكنين.
فإن قيل: فما معنى قوله: فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ «3»؟ وليس
فيه إلّا حسن، فقل: إن الله ذكر الطاعة في كتابه، وأمر بها،
ووصف الجنة، ورغّب فيها، وذكر المعصية، ونهى عنها، والنار،
وحذر منها، فإذا: تلا القارئ كتاب ربه تبع الطاعة فعمل بها،
وارتاح إلى الجنة فتقرب منها. فهذا معنى: أحسنه.
قوله تعالى: وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ «4». يقرأ بإثبات
الألف، وكسر اللام، وبحذفها وفتح اللام. فالحجة لمن أثبتها:
أنه أراد به: خالصا لا شركة فيه. والحجة لمن حذفها:
أنه أراد: المصدر من قولك سلم سلما كما تقول حذر حذرا. وليس
بمعنى الصّلح الذي هو ضد الحرب، لأنه لا وجه لذلك هاهنا، لأن
هذا مثل، ضربه الله للكافر المعاند «5».
(ومعنى) «6»: شركاء متشاكسين: أي: متنازعين مختلفين- وللمؤمن
الذي عبد إلها واحدا «7».
قوله تعالى: بِكافٍ عَبْدَهُ «8». يقرأ بالتوحيد والجمع.
فالحجة لمن وحّد: أنه
__________
(1) في الأصل «والساكت» ولعلها محرّفة من «الساكن» ويقصد به
الخضوع والخشوع.
(2) الزمر: 17، 18.
(3) الزمر: 18.
(4) الزمر: 29.
(5) في الأصل «العابد» وهو تحريف.
(6) زيادة يقتضيها الأسلوب.
(7) أي ومثل ضربه الله للمؤمن الخ ...
(8) الزمر: 36.
(1/309)
قصد بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. ودليله
قوله تعالى مخاطبا له: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ
دُونِهِ «1» يعني الأصنام. والحجة لمن جمع: أنه أراد بذلك:
كفاية الله لجميع أنبيائه، لأن كل أمة قد كادت نبيها، كما كيد
محمد عليه السلام، فدخل في الجملة معهم.
ودليله قوله تعالى: حكاية عن قوم هود إِنْ نَقُولُ إِلَّا
اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ «2».
قوله تعالى: هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ «3». ومُمْسِكاتُ
رَحْمَتِهِ «4» يقرءان بالتنوين والنصب، وبحذف التنوين والخفض.
فالحجة لمن نوّن: أنه أراد: الحال والاستقبال، ولمن أضاف: أنه
أراد: ما ثبت ومضى. وقد ذكر هذا فيما مضى بأبين «5» من هذا
الشرح.
قوله تعالى: الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ «6». يقرأ بضم
القاف وفتح الياء ورفع الموت.
وبفتح القاف وإسكان الياء، ونصب الموت. فالحجة لمن ضم القاف:
أنه دل بذلك على بناء الفعل لما لم يسم فاعله وفتح الياء لكسرة
(الضاد) قبلها ورفع (الموت)، لأنه قام مقام الفاعل. والحجة لمن
فتح: أنه أخبر بالفعل عن الله تعالى لتقدّم اسمه في قوله:
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ «7» وأسكن الياء للفتحة قبلها،
ونصب الموت بتعدّي الفعل إليه.
قوله تعالى: بِمَفازَتِهِمْ «8» يقرأ بالتوحيد والجمع. وقد ذكر
في نظائره من العلل ما يغني عن إعادته «9».
قوله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا «10». يقرأ بحذف
الياء. وإثباتها. فالحجة لمن حذف أنه: استعمل الحذف في النداء
لكثرة دوره في الكلام. والحجة لمن أثبت: أنه أتى به على الأصل.
وقيل: هذه أرجى آية في كتاب الله لمن يئس من التوبة. وقيل: بل
قوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى
ظُلْمِهِمْ «11». وقيل: بل قول إبراهيم وَلكِنْ
__________
(1) الزمر: 36.
(2) هود: 54.
(3) الزمر: 38.
(4) الزمر: 38.
(5) انظر 134: عند قوله تعالى: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ.
(6) الزمر: 42.
(7) الزمر: 42.
(8) الزمر: 61.
(9) انظر: 105 عند قوله تعالى: وَكُتُبِهِ.
(10) الزمر: 53.
(11) الرعد: 6.
(1/310)
لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «1» فقيل: بتحقيق
الإجابة. وقيل: بل بالعيان، لأن المخبر ليس كالمعاين.
قوله تعالى: تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ «2». يقرأ بإدغام النون
وتشديدها، وبالتخفيف وإظهارها وبتحريك الياء وإسكانها. وقد
تقدم من الاحتجاج في ذلك ما فيه كفاية «3» قوله تعالى:
فُتِحَتْ أَبْوابُها «4» وَفُتِحَتْ أَبْوابُها «5» يقرءان
بالتشديد والتخفيف.
فالحجة لمن شدد: أنه أراد: تكرير الفعل، لأن كل باب منها فتح.
ودليله: إجماعهم على التشديد في قوله: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ
«6» ومفتحة لهم الأبواب «7». والحجة لمن خفف:
أنه دل بذلك على فتحها مرّة واحدة، فكان التخفيف أولى، لأن
الفعل لم يتردد، ولم يكثر. فإن قيل: فما وجه دخول الواو في
إحداهما دون الآخر؟ فقل: فيه غير وجه.
قال قوم: هي زائدة، فدخولها وخروجها واحد كما يزاد غيرها من
الحروف.
وقال آخرون: العرب تعدّ من واحد إلى سبعة وتسميه «عشرا» ثم
يأتون بهذه الواو فيسمونها «واو العشر» ليدلوا بذلك على انقضاء
عدد، وذلك في مثل قوله تعالى: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ «8»
فلما سمّي سبعة أتى بعد ذلك بالواو، ومثله قوله: وَيَقُولُونَ
سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ «9»، ومثله قوله تعالى في
صفة الجنة وَفُتِحَتْ أَبْوابُها «10»، لأن للجنة ثمانية
أبواب، وللنار سبعة «11».
__________
(1) البقرة: 260.
(2) الزمر: 64.
(3) انظر مثلا: 143 عند قوله تعالى: أَتُحاجُّونِّي فِي
اللَّهِ.
(4) الزمر: 71.
(5) الزمر: 73.
(6) يوسف: 23.
(7) ص: 50.
(8) التوبة: 112.
(9) الكهف: 22.
(10) الزمر: 73.
(11) قال ابن القيم: وهذا في غاية البعد، ولا دلالة في اللفظ
على الثمانية حتى تدخل الواو لأجلها بل هذا من باب حذف الجواب
بنكتة بديعة، وهي أنّ تفتيح أبواب النار كان حال موافاة أهلها
ففتحت في وجوههم، لأنه أبلغ في مفاجأة المكروه.
وأما الجنة: وهي مأدبة الله، فقد استدعاهم إليها مفتحة الأبواب
وأتى بالواو العاطفة هاهنا الدّالة على أنها جاءوها بعد ما
فتحت أبوابها انظر: (بدائع الفوائد 3 - 54، 55).
وفي رأي ابن جني أنّ الواو هنا زائدة، مخرجة عن العطف. وزيادة
الواو أمر لا يثبته البصريون: (الخصائص
(1/311)
وقال أبو العباس (المبرد): إذا وجدت حرفا
في كتاب الله عز وجل له معنى حسن لم أجعله ملغى، ولكن التقدير:
حتى إذا جاءوها وصلوا، وفتحت لهم، أبوابها. ومثله، فَلَمَّا
أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ «1» معناه- والله أعلم- أذعن
لأمر الله.
ومن سورة المؤمن
قوله تعالى: حم «2» يقرأ بتفخيم الحاء، وإمالتها، وبين ذلك وقد
تقدّم القول فيه عند ذكر حروف المعجم فيما سلف.
فإن قيل: فما موضع (حم) من الإعراب؟ فقل: قال قوم: موضع (حم)
نصب بإضمار فعل معناه: (اتل) أو (اقرأ) حم. وقيل موضعها خفض
بالقسم إلا أنّها لا تنصرف، وما لا ينصرف، فالنصب أولى به من
الخفض، لأنه مشبّه بالفعل فمنع ما لا يكون إعرابا في الفعل وهو
الخفض. قال الكميت:
وجدنا لكم في آل حاميم- آية ... تأوّلها منا تقيّ ومعرب
«3» وقيل هي اسم للسورة ودليل عليها.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ «4» بالتاء
والياء. وقد تقدم القول فيه آنفا «5».
قوله تعالى: يَوْمَ التَّلاقِ «6» ويَوْمَ التَّنادِ «7»
يقرءان بإثبات الياء وصلا، وبحذفها وقفا. وبإثباتها وصلا
ووقفا، وبحذفها وصلا ووقفا، وقد تقدّمت الحجة في أمثاله
__________
2: 462).
وفي رأي أبي إسحاق الزجاج في رواية عن محمد بن يزيد أنّ الجواب
محذوف وأن المعنى: حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم
خزنتها: سلام عليكم طبتم فأدخلوها خالدين سعدوا. (أمالي ابن
الشجري 1: 358، المسألة: 42).
(1) الصافات: 103.
(2) المؤمن: 1.
(3) لسان العرب. مادة: عرب: قال: أنشده سيبويه: معرّب بدون واو
العطف، كمكلّم. واتفق الأزهري مع ابن خالويه في رواية البيت:
تقيّ ومعرب. ومعرب، أي مفصح بالحق لا يتوقاهم. والخطاب في هذا
لبني هاشم، حين ظهروا على بنى أمية. وانظر: (الكتاب، 2: 30).
(4) المؤمن: 20.
(5) كثر ذلك في مواضع عديدة من كتابه. انظر: 82 وغيرها.
(6) المؤمن: 15.
(7) المؤمن: 32.
(1/312)
بما يدل عليه «1». ومعنى التلاق: التقاء
السماء والأرض. ومعنى التناد: قيل: تناديهم من قبورهم. وقيل:
ينادي أصحاب الجنة أصحاب النار، وأصحاب الأعراف.
قوله تعالى: أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً «2». يقرأ بالهاء في
(منهم) ونصب (أشد) بعده إلّا ما قرأه (ابن عامر) بالكاف في
موضع الهاء ورفع (أشدّ). وليس في نصب (أشد) خلاف بين الناس
ورفع ذلك لحن. فالحجة لمن قرأه بالهاء: أنه أتى بالكلام على
سياقه. ودليله قوله:
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ «3». ونصب (أشد)، لأنه جعله
الخبر (لكان) السابقة وجعل (هم) فاصلة عند البصريين وعمادا عند
الكوفيين، ليفرّق بذلك بين الوصف لاسم (كان) وبين الخبر كقولك:
كان زيد الظريف قائما في الوصف، وكان زيد هو الظريف في الخبر،
ودليل ذلك قوله تعالى: إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ «4».
فإن قيل: فإنّ الفاصلة لا تدخل على خبر كان إلا إذا كان معرفة
فقل: إن (أفعل) متى وصل ب (من) كان معرفة. والحجة لمن قرأه
بالرفع والكاف: أنه جعل (هم) اسما مبتدأ و (أشد) الخبر،
فرفعهما وجعلهما جملة في موضع نصب بخبر (كان)، فأما الكاف:
فحجته فيها أن العرب ترجع من الغيبة في الخطاب إلى الحضرة.
ودليله قوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ
وَجَرَيْنَ بِهِمْ «5». وقد تقدّم من هذا ما يستدل به على
معناه.
قوله تعالى: أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ «6».
يقرأ بأو، وبالواو، وبضم الياء وفتحها، وبنصب (الفساد) ورفعه.
فالحجة لمن قرأ بأو: أنه جعل الحرف لأحد الحالين على طريق الشك
أو الإباحة لأن ل (أو) في الكلام أربعة أوجه: الشك، والإباحة،
والتخيير، وإيجاب أحد الشيئين منهما كقوله: وَأَرْسَلْناهُ
إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ «7». «8»
والحجة لمن قرأ بالواو: أنه جعل الحرف للحالين معا فاختار
الواو، لأنها جامعة بين الشيئين،
__________
(1) انظر: 169، 218.
(2) المؤمن: 21.
(3) المؤمن: 21.
(4) الأعراف: 113.
(5) يونس: 22.
(6) المؤمن: 26.
(7) الصافات: 147.
(8) (أو): في هذه الآية على بابها دالة على أحد الشيئين: إمّا
مائة ألف بمجرّدها، وإمّا مائة ألف مع زيادة، والمخبر في كل
هذا لا يشك. (بدائع الفوائد 1: 198).
(1/313)
لأنه جمع بها هاهنا بين التبديل وبين ظهور
الفساد. والحجة لمن ضم الياء: أنه ردّ الكلام على أوله وأتى به
على سياقه، فأضمر الفاعل فيه كما أضمره في قوله: أَنْ
يُبَدِّلَ دِينَكُمْ «1» فنصب (الفساد) بتعدّي الفعل إليه.
والحجة لمن فتح الياء: أنه قطع الفساد وظهوره من التبديل،
فأفرده بفعله، ورفعه به.
ومعناه: فإن يبدّل دينكم ظهر في الأرض الفساد قوله تعالى:
إِنِّي عُذْتُ «2». يقرأ بإدغام الذال في التاء لقرب المخرج.
وبإظهار الذال على الأصل، لأن الحرفين غير متجانسين.
قوله تعالى: عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ «3».
إجماع القراء هاهنا على الإضافة إلا (أبا عمرو) فإنه نوّن
(القلب). فالحجة لمن أضاف: أنه جعل القلب خلفا من اسم محذوف
«4»، فأقامه مقامه عند الكوفيين. وهو عند البصريين صفة قامت
مقام الموصوف.
ومعناه عندهم «5»: على كل قلب رجل متكبّر. أو يريد به: التقديم
والتأخير، كما حكى عن بعض فصحاء العرب: أن فلانا لممّن يرجّل
شعره كل يوم جمعة أراد كلّ يوم جمعة فقدّم وأخر. والحجة لأبي
عمرو: أنه جعل الفعل للقلب لأنه ملك البدن ومستقر الكبر، لأن
الكبر إذا سكنه تكبّر له صاحبه، ودليل ذلك قوله فَظَلَّتْ
أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ «6»، لأن الأعناق إذا ذلت وخضعت
ذل لذلك وخضع أربابها.
ومعنى تكبّر القلب: قسوته، لأنه إذا قسا ترك الطاعة. والجبار
في اللغة: الذي يقتل على الغضب ودليله قوله: بَطَشْتُمْ
جَبَّارِينَ «7».
فإن قيل: فقد مدح الله نفسه بهذا الاسم الذي ذم به خلقه. فقل:
موضع المدح لله تعالى أنه أجبر عباده على ما أراد منهم وأحياهم
وأماتهم فهي صفة لا تليق إلا به ومدح لا يجب إلا له فإذا اكتسى
ذلك من لا يجب له كان مذموما به.
__________
(1) المؤمن: 26.
(2) المؤمن: 27.
(3) المؤمن: 35.
(4) أي على كل ذي قلب متكبر، تجعل الصفة لصاحب القلب. انظر:
(الكشاف للزمخشري 4: 167).
(5) في الأصل «عندهما»، والأنسب أن يكون كما ذكرت لأن الضمير
راجع إلى البصريين وهم جمع.
(6) الشعراء: 4.
(7) الشعراء: 130.
(1/314)
ولم يأت «فعّال» من «أفعل» إلّا في ثلاثة
أفعال: قالوا: أجبر فهو جبّار، وأدرك فهو درّاك، وأسأر فهو
سآر.
قوله تعالى: فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى «1». أجمع القراء
على رفعه عطفا على قوله: أَبْلُغُ «2» إلا ما روى (حفص) عن
عاصم بالنصب لأنه جعل الفاء فيه جوابا للفعل، فنصب بها تشبيها
ل (لعل) بليت، لأن (ليت) في التّمنّي أخت (لعلّ) في الترجّي.
ومثله ما رواه عنه أيضا في (عبس): فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى «3».
قوله تعالى: وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ «4». يقرأ بضم الصاد
وفتحها. فالحجة لمن ضم: أنه دل بالضم على بناء ما لم يسمّ
فاعله، وعطفه على قوله: وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ
عَمَلِهِ «5».
والحجة لمن فتح: أنه جعل الفعل لفرعون، فاستتر اسمه فيه لتقدمه
قبل ذلك. وفيه حجة لأهل السنة.
قوله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ «6». يقرأ بقطع الألف
ووصلها. فالحجة لمن قطع:
أنه جعله أمرا من الله عز وجل للزّبانية، فنصب آل فرعون بتعدّي
الفعل إليهم، لأن دخول النار ليس مما يختارونه ولا ذلك إليهم،
وإنما يكرهون عليه. والحجة لمن وصل: أنه جعل الفعل حكاية عما
يقال لهم، وأضمر القول هاهنا كما أضمر في قوله تعالى: وَأَمَّا
الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ «7» يريد «والله أعلم». فيقال
لهم: أفلم، ونصب (آل فرعون) على هذه القراءة بالنداء المضاف
كما قال تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا «8» يريد- والله
أعلم- يا ذريّة من حملنا مع نوح.
قوله تعالى: يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ «9». يقرأ بضم الياء وفتح
الخاء، وبفتح الياء وضم الخاء.
__________
(1) المؤمن: 37.
(2) المؤمن: 36.
(3) عبس: 4.
(4) المؤمن: 37.
(5) الآية نفسها.
(6) المؤمن: 46.
(7) الجاثية: 31.
(8) الاسراء: 3.
(9) المؤمن: 40.
(1/315)
فالحجة لمن ضم: أنه أتى بالفعل على بناء ما
لم يسم فاعله ليقربه من قوله: يُرْزَقُونَ «1» فيتفقا بلفظ
واحد في بنائهما. والحجة لمن فتح الياء أنه أراد: أنهم إذا
أدخلوا دخلوا فنسب الدخول إليهم. ودليله قوله تعالى: وَماتُوا
وَهُمْ كُفَّارٌ «2» وإنما الله أماتهم لقوله تعالى:
وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا «3» فنسب الفعل إليهم على هذا
الوجه سعة ومجازا ومثله سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ «4» يقرأ بضم
الياء وفتحها. ومعنى داخرين: صاغرين.
قوله تعالى: لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ «5».
يقرأ بالتاء دلالة على تأنيث المعذرة، وبالياء للحائل بين
الفعل والاسم، أو لأن تأنيث الاسم ليس بحقيقي.
قوله تعالى: ما تَتَذَكَّرُونَ «6». يقرأ بالياء والتاء. ويقرأ
بتاءين. فالحجة لمن قرأه بالياء والتاء: أنه جعل الياء دلالة
على الاستقبال وعلامة للغيبة، والتاء داخلة على فعّل لتدل على
استفادة الذكر شيئا بعد شيء كما تقول: تحفّظت القرآن، وتنجّزت
حوائجي.
والحجة لمن قرأه بالتاءين: أنه دلّ بالأولى على الاستقبال
والحضور، وبالثانية على ما قدمناه، و (قليلا) ينتصب بقوله:
(يتذكرون)، والوقف تام على قوله عز وجل: (ولا المسيء).
ثم يبتدئ بما بعده.
ومن سورة حم السجدة (فصّلت)
قوله تعالى: فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ «7» بقرأ بإسكان الحاء
وكسرها. فالحجة لمن أسكن:
أنه أراد: جمع (نحس) ودليله قوله تعالى: فِي يَوْمِ نَحْسٍ
مُسْتَمِرٍّ «8». ويحتمل أن يكون أراد كسر الحاء، فأسكنها
تخفيفا. والحجة لمن كسر: أنه جعله جمعا للصفة من قول العرب:
هذا يوم نحس، وزن: هذا رجل هرم.
__________
(1) المؤمن: 40.
(2) آل عمران: 91.
(3) النجم: 44.
(4) المؤمن: 60.
(5) المؤمن: 52. وفي الأصل «الذين ظلموا» وهو تحريف
(6) المؤمن: 58.
(7) فصلت: 16.
(8) القمر: 19.
(1/316)
قال الشاعر:
أبلغ جذاما ولخما أنّ إخوتهم ... طيّا وبهراء قوم نصرهم نحس
«1» قوله تعالى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ «2». يقرأ
بالياء والرفع، وبالنون والنصب.
فالحجة لمن قرأ بالياء: أنه أراد الإخبار بفعل ما لم يسمّ
فاعله. فرفع الإسم به. والحجة لمن قرأ بالنون: أنه جعله من
إخبار الله تعالى عن نفسه فنصب الاسم بتعدي الفعل إليه.
قوله تعالى: مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها «3». يقرأ
بالتوحيد، والجمع. وقد ذكر من الحجة في أمثاله ما يغني عن
إعادة قول فيه «4».
قوله تعالى: ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ «5». يقرأ بهمزتين
محققتين، وبهمزة ومدّة بعدها.
فالحجة لمن حقق: أنه أتى بالكلام على واجبه، لأن الهمزة الأولى
للإنكار لقولهم، والتوبيخ لهم. والثانية ألف قطع. والحجة لمن
أبدل من ألف القطع مدّة: أنه استثقل الجمع بين همزتين، فخفّف
إحداهما بالمدّ. ومعناه: لو فعلنا هذا لقالوا: أقرآن أعجمي
ونبيّ عربي؟ هذا محال.
والفرق بين الأعجميّ والعجميّ: أن الأعجميّ الذي لا يتكلم
بالعربية وإن كان عربي الأصل، والعجميّ: منسوب إلى العجم وإن
كان فصيحا.
قوله تعالى: أَرِنَا الَّذَيْنِ «6». يقرأ بكسر الراء باختلاس
«7» حركتها وبإسكانها «8». وقد ذكر فيما مضى «9».
قوله تعالى: وَنَأى بِجانِبِهِ مذكور في بني إسرائيل بوجوه
القراءة فيه وشرح علله «10».
__________
(1) اللسان: مادة: نحس.
(2) فصلت: 19.
(3) فصلت: 47.
(4) انظر: 82.
(5) فصلت: 44.
(6) فصلت: 29.
(7) قراءة أبي عمرو.
(8) قراءة ابن كثير، وابن عامر، وأبي شعيب. انظر: التيسير ص
193.
(9) انظر: 142 - 143
(10) انظر: 220.
(1/317)
|