الحجة للقراء السبعة

[سورة النساء]
«4» بسم الله الرحمن الرحيم «5» ذكر اختلافهم في سورة النساء

[النساء: 1]
اختلفوا في تشديد السين وتخفيفها من قوله تعالى «6»:
تسائلون به [النساء/ 1].
فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: تساءلون* مشدّدة.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائيّ: تساءلون مخفّفة.
__________
(1) انظر السبعة ص 222.
(2) في (ط): لا يميلون.
(3) ما بين المعقوفين ساقط من (ط).
(4) كذا في (ط)، وسقطت من (ط).
(5) في (م): بسم الله.
(6) سقطت من (ط).

(3/118)


واختلف عن أبي عمرو، فروى علي بن نصر وهارون بن موسى، وعبيد بن عقيل وعبد الوهاب بن عطاء عنه، والواقدي «1» عن عدي بن الفضل «2»، وخارجة بن مصعب «3»، عنه: تساءلون مخففة. وروى اليزيديّ وعبد الوارث عنه: تساءلون* مشدّدة وروى أبو زيد عنه التخفيف والتشديد. وقال عباس عنه: إن شئت خفّفت، وإن شئت شدّدت قال: وقراءته التخفيف «4».
قال أبو علي: من ثقّل تساءلون* أراد: تتساءلون فأدغم التاء في السين، وإدغامها في السين حسن لاجتماعهما في أنّهما من حروف طرف اللسان وأصول الثنايا، واجتماعهما في الهمس. ومن خفّف فقال: تساءلون، حذف تاء تتفاعلون لاجتماع حروف متقاربة، فأعلّها بالحذف، كما أعلّ «5» بالإدغام في قول من قال:
تسّاءلون، وإذا اجتمعت المتقاربة خفّفت بالحذف والإدغام
__________
(1) محمد بن عمرو بن واقد أبو عبد الله الواقدي المدني ثم البغدادي. روى القراءة عن نافع بن أبي نعيم وعيسى بن وردان وغيرهما، وروى الحروف عن عدي بن الفضل عن أبي عمرو مات سنة 209 هـ. (طبقات القراء 2/ 219).
(2) عدي بن الفضل أبو حاتم البصري. روى الحروف عن أبي عمرو، وحدث عن مالك بن أنس روى عنه الحروف محمد بن عمر الواقدي. كذا ذكر الحافظ أبو عمرو الداني (طبقات القراء 1/ 511).
(3) خارجة بن مصعب أبو الحجاج الضبعي السرخسي، أخذ القراءة عن نافع وأبي عمرو وله شذوذ كثير عنهما لم يتابع عليه. توفي سنة ثمان وستين ومائة (طبقات القراء 1/ 268).
(4) السبعة 226 وفيه وقرأته بالتخفيف.
(5) في (ط): أعلها.

(3/119)


والإبدال «1». فالإبدال كقولهم: طست، أبدلت من السين الثانية التاء «2» لتقاربهما واجتماعهما في الهمس، قال العجاج:
أأن رأيت هامتي كالطّست «3» وأنشد أبو عثمان:
لو عرضت لأيبليّ قسّ ... أشعث في هيكله مندسّ
حنّ إليها كحنين الطّسّ
«4»
__________
(1) في (ط): وبالإدغام وبالإبدال.
(2) في (ط): تاء.
(3) الرجز لرؤبة لا للعجاج وهو في ديوانه في مجموع أشعار العرب ص 23 من أرجوزة قالها في نفسه أولها:
يا بنت عمرو لا تسبي بنتي ... حسبك إحسانك إن أحسنت
وفي اللسان (طس).
(4) نسبها للعجاج في البحر المحيط 3/ 156 وهي في ملحق ديوانه 2/ 295 نقلا عن البحر المحيط. وبدون نسبة في الفاضل للمبرد 19 وسر صناعة الإعراب 1/ 172 وشروح سقط الزند 3/ 1373. والفرق بين الحروف الخمسة 581 (من منشورات دار المأمون للتراث) واللسان طسس، قسس وفي سفر السعادة 1/ 349 مع بيت سابق لها وهو:
جارية من آل عبد شمس.
والقسّ: هو رئيس من رؤساء النصارى في الدين والعلم، وقيل هو الكيس العالم، والقسيس كالقسّ، والجمع قساقسة على غير قياس وقسّيسون. وفي التنزيل: (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا) [المائدة/ 82] والأيبليّ والأيبل:
صاحب الناقوس الذي ينقّس النصارى بناقوسه يدعوهم به إلى الصلاة.
اللسان (أبل).
والهيكل: معبد النصارى فيه صورة مريم، ومندس: مدفون. وطسّ: قال في

(3/120)


[النساء: 1]
واختلفوا «1» في نصب الميم وكسرها من قوله [جلّ وعزّ] «2»: والأرحام [النساء/ 1].
فقرأ حمزة وحدة: والأرحام بالخفض.
وقرأ الباقون: والأرحام نصبا «3».
قال أبو علي: من نصب الأرحام احتمل انتصابه وجهين:
أحدهما: أن يكون معطوفا على موضع الجار والمجرور، والآخر:
أن يكون معطوفا على قوله: واتقوا، التقدير: اتقوا الله الذي تساءلون به. واتقوا الأرحام أي اتقوا حقّ الأرحام فصلوها ولا تقطعوها.
وأمّا من جرّ الأرحام فإنّه عطفه على الضمير المجرور بالباء.
وهذا ضعيف في القياس، وقليل في الاستعمال. وما كان كذلك فترك الأخذ به أحسن. فأما ضعفه في القياس: فإن الضمير قد صار
__________
سفر السعادة: طسّ: هو فارسي الأصل. قال أبو عبيدة: ومما دخل في كلام العرب: الطست. قال الفراء: وطيء تقول: الطّست، وغيرها يقول:
الطسّ، قال: وهم الذين يقولون: لصت- يعني طيئا- وغيرهم يقول: لصّ، والجمع عندهم: لصوت وطسوت ... وأنشد الرجز. ومثل ذلك ورد في اللسان عن الأزهري (طسس) والحنين: الشديد من البكاء والطرب، وقيل: هو صوت الطرب كان ذلك عن حزن أو فرح. وقالوا: لا أفعل ذلك حتى يحن الضب في إثر الإبل الصادرة، وليس للضب حنين إنّما هو مثل، وذلك لأنّ الضب لا يرد أبدا، والطست تحن إذا نقرت على التشبيه (اللسان: حنن).
(1) في (ط): اختلفوا. بغير واو.
(2) سقطت من (ط).
(3) السبعة 226.

(3/121)


عوضا مما كان متصلا باسم نحو غلامه وغلامك، وغلامي، من التنوين فقبح أن يعطف عليه كما لا تعطف الظاهر على التنوين.
ويدلك على أنّه قد جرى عندهم مجرى التنوين حذفهم الياء من «1» المنادى المضاف إليه «2» كحذفهم التنوين، وذلك قولهم: يا غلام، وهو الأكثر من غيره في الاستعمال وجهة «3» الشبه بينهما أنّه على حرف، كما أنّ التنوين كذلك، واجتماعهما في السكون، وأنه لا يوقف على اسم «4» منفصلا منه، كما أنّ التنوين كذلك، فلما اجتمعا في هذه المعاني جعل بمنزلته في الحذف.
فإن قال قائل: فهلا قبح أيضا عطف الظاهر المجرور على الظاهر المجرور «5»، لأنّه أيضا عوض من التنوين وفي محله؟
فالقول في ذلك: أن المضمر أذهب في مشابهة التنوين من المظهر، ألا ترى أنه لا ينفصل من الاسم، كما أنّ التنوين لا ينفصل ولا يوقف عليه، كما لا يوقف على بعض أجزاء الكلم دون تمامها، وليس الظاهر كذلك، ألا ترى أنّه قد يفصل بين المضاف والمضاف إليه إذا كان المضاف إليه ظاهرا بالظروف وبغيرها «6» نحو:
__________
(1) في (ط): في.
(2) في (ط): إليها.
(3) في (ط): ووجه.
(4) في (ط): الاسم.
(5) سقطت من (ط).
(6) في (ط): بالظرف وبغيره.

(3/122)


كأنّ أصوات- من إيغالهنّ بنا-* أواخر الميس إنقاض «1» الفراريج «2» ونحو:
... من قرع القسيّ الكنائن «3»
__________
(1) في (ط): «أصوات».
(2) يريد كأن أصوات أواخر الميس إنقاض- أي: أصوات الفراريج من إيغالهنّ بنا والإيغال: المضي والإبعاد، يقال: أوغل في الأرض: إذا أبعد، والميس:
الرحل، والميس: شجر تعمل منه الرحال. والأواخر جمع آخرة، وهي آخرة الرحل، وهو العود الذي في آخر الرحل الذي يستند إليه الراكب، ويقال فيه:
مؤخر الرحل. والفراريج جمع فروجة وهي صغار الدجاج، يريد: أنّ رحالهم جدد، وقد طال سيرهم، فبعض الرحل يحك بعضا، فتصوت مثل أصوات الفراريج من شدّة السير واضطراب الرحل، ومن إيغالهنّ: من للتعليل والبيت من قصيدة لذي الرمة في ديوانه 2/ 996 والخزانة 2/ 199 وروايته، إنقاض كما في (م) وعند سيبويه 1/ 92، 347 والمقتضب 4/ 376 والإنصاف 2/ 433 وابن يعيش 1/ 103 و 2/ 108 و 3/ 77 وشروح سقط الزند 4/ 1533 والموشح 292 برواية «أصوات» بدل «إنقاض» كما في (ط)، وهما بمعنى.
(3) قطعة من بيت للطرماح وتمامه:
يطفن بحوزيّ المراتع لم يرع ... بواديه من قرع القسيّ الكنائن
الأصل: قرع الكنائن القسي، ففصل بين المصدر المضاف وفاعله المضاف إليه بالمفعول وهو القسي. والبيت من قصيدة يصف فيها بقر الوحش (ديوانه 169).
قوله: يطفن، بضم الياء من أطاف به إذا ألم به وقاربه، ويجوز أن يكون بفتح الياء من الطواف. والحوزي: المتوحد، وهو الفحل منها، وهو من حزت الشيء إذا جمعته أو نحيته (الأزهري: حاز) قال العيني: الحوزي هاهنا: الثور الذي يجعله بقر الوحش رأسا لهن يتبعنه في المرعى ومورد الماء، وهو الذي يحوشهنّ ويحميهنّ عمن يقصدهنّ من بني آدم وغيرهم. والمراتع: مواضع الرتع، وأراد
بالبوادي: البوادر

(3/123)


فليس المضمر في هذا كالظاهر، فلما صار كذلك لم يستجيزوا عطف الظاهر عليه، لأن المعطوف ينبغي أن يكون مشاكلا للمعطوف عليه، ألا تراهم قالوا:
ولولا رجال من رزام أعزّة ... وآل سبيع أو أسوءك علقما
«1» لمّا كان أسوأ فعلا، وما قبله اسم، أضمر أن ليعطف شكلا
__________
(3/ 464) وهي جمع بادرة وهي ما يظهر عند الغضب. وقد تكون «بواديه» بكسر الباء، أي بالوادي الذي هو فيه. وقوله: من قرع القسي الكنائن، أي: من تعرض الصيّاد له.
وقبل البيت:
يخافتن بعض المضغ من خشية الرّدى ... وينصتن للسمع انتصات القناقن
والقناقن: البصير باستنباط المياه، وجمعه قناقن- بفتح القاف- (الأزهري 8/ 293 وأنشد البيت).
وانظر الخصائص 2/ 406، والإنصاف 2/ 429، والخزانة 2/ 252 عرضا والعيني 3/ 462، والتهذيب 5/ 178 (حاز) واللسان (حوز).
(1) البيت للحصين بن الحمام، شاعر إسلامي من الصحابة، كان سيدا شاعرا وفيا. وكان يقال له: مانع الضيم. وهو من مفضلية برقم 12 ويقع الثامن عشر فيها، وروايته: «من رزام بن مازن» بدل «أعزّة». ورزام: هو ابن مازن بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان، وسبيع هو ابن عمرو بن فتية. وعلقم: ترخيم علقمة بن عبيد بن عبد بن فتية. وجواب لولا في البيت بعده، وهو:
لأقسمت لا تنفكّ مني محارب ... على آلة حدباء حتّى تندّما
والبيت من شواهد سيبويه 1/ 429 قال الأعلم: الشاهد فيه نصب أسوءك بإضمار أن ليعطف على ما قبله من الأسماء، والمعنى: لولا هؤلاء وأن أسوءك لفعلت كذا، أي: لولا كون هؤلاء الموصوفين أو أن أسوءك لفعلت كذا، أي ومساءتك.
وانظر المحتسب 1/ 326، والعيني 4/ 411 والأشموني 3/ 296.

(3/124)


على شكله. وكذلك قوله تعالى: وكلا ضربنا له الأمثال [الفرقان/ 39] ويدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما [الإنسان/ 31] فكما روعي التشاكل في هذه المواضع في المعطوف، وفي غيرها، كذلك روعي في المضمر المجرور فلم يعطف عليه المظهر المجرور، لخروج المعطوف عليه من شبه الاسم إلى شبه الحرف.
ومما يبين ذلك أنهم لم يستحسنوا عطف الظاهر المرفوع على المضمر المرفوع «1» حتى يؤكّد، فيقع العطف في اللفظ على المضمر المنفصل الذي يجري مجرى الأجنبي، وذلك نحو: أذهب وزيد وذهبت وزيد، ولا يستحسنون ذلك حتى يؤكّدوه فيقولوا: اذهب أنت وزيد، وذهبت أنا وزيد، لأنه لما اختلط الاسم بالفعل حتى صار كبعض أجزائه لوقوع إعرابه بعده في نحو: تفعلين، وتفعلان، وتفعلون. ولإسكانهم الآخر منه، إذا اتصل بالضمير مع تحريكهم نحو: علبط «2» لم يستجيزوا العطف عليه في حال السّعة إلّا بالتأكيد، ليقع العطف عليه في اللفظ، فلا يكون كأنه عطف اسما على فعل كما يصير في المجرور كأنه عطف اسما على تنوين. وإذا اتصل علامة الضمير المجرور بالحرف كان كاتصاله بالاسم، ألا ترى أنه لا ينفصل من الحرف كما لا ينفصل من الاسم، ولا يفصل بينهما كما لا يفصل بينهما إذا اتصل بالاسم، فلا فصل بين اتصاله بالحرف
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) رجل علبط وعلابط: ضخم عظيم. وقيل: كل غليظ علبط، وكل ذلك محذوف من فعالل، وليس بأصل لأنّه لا تتوالى أربع حركات في كلمة واحدة (اللسان).

(3/125)


واتصاله بالاسم من حيث ذكرنا. فإن قال قائل: هلّا «1» جاز أن يعطف الظاهر المجرور على المضمر المجرور، كما جاز أن يؤكد بالنفس وغيره من التأكيد. قيل: لم يجز العطف من حيث جاز التأكيد، لأن العطف تقدير حرفه أن يقوم مقام الذي يعطف عليه، فإن كان المعطوف فعلا كان في تقدير الفعل، وإن كان اسما كان في تقدير الاسم، وكذلك إن كان حرفا، وإذا كان كذلك وكان المضمر المجرور قد خرج عن شبه الاسم وصار بمنزلة الحرف بدلالة أنه لا ينفصل مما اتصل به، كما أن التنوين لا ينفصل، ويحذف في النداء في الاختيار، كما يحذف، وامتنع أن يفصل بينه وبينه في الشعر كما يفصل ذلك في المظهر، لم يجز العطف فيه، لأن حرف العطف لمّا خرج الاسم الذي يعطف عليه في حكم اللفظ عن حكم الأسماء، لم يصح العطف عليه، لأنّك إنما تعطف عليه لإقامتك إياه مقام الاسم، فإذا خرج عن شبه الاسم لم يقم حرف العطف مقام الاسم لخروج المعطوف عليه عن ذلك، وليس التأكيد كذلك، لأنك لو حملت التأكيد على نفس العامل في المجرور لم يمتنع، فليس ضعف المؤكّد بحرف التأكيد بأبعد من أن لا يكون في الكلام، فلذلك جاز التأكيد بالنفس وسائر حروف التأكيد، ولم يجز العطف.
ومما يتعلق بهذا الباب قوله تعالى «2»: يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به [البقرة/ 217] لا يخلو ارتفاع قوله: وصد عن سبيل الله من أن يكون بالعطف على الخبر الذي هو كبير كأنه:
__________
(1) في (ط): فهلا.
(2) سقطت من (ط).

(3/126)


قتال فيه كبير، وصد وكفر، أي: القتال قد جمع أنه كبير وأنه صد وكفر. أو يكون مرتفعا بالابتداء وخبره «1» محذوف، لدلالة كبير المتقدم عليه، كأنه قال: والصدّ كبير، كقولك: زيد منطلق وعمرو أو يكون مرتفعا بالابتداء والخبر المظهر، فيكون الصدّ ابتداء، وما بعده من قوله: وكفر به وإخراج أهله يرتفع بالعطف على الابتداء، والخبر قوله: أكبر عند الله، فلا يجوز الوجهان الأولان، وهما جميعا قد أجازهما الفراء.
أما الوجه الأول فلأنّ المعنى يصير: قل: قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله كبير، والقتال، وإن كان كبيرا ويمكن أن يكون صدا لأنه ينفّر الناس «2» عنه، فلا يجوز أن يكون كفرا. ألا ترى أن أحدا من المسلمين لم يقل ذلك، ولم يذهب إليه؟ فلا يجوز أن يكون خبر المبتدأ شيئا لا يكون المبتدأ. ويمنع من ذلك أيضا قوله بعد: وإخراج أهله منه أكبر عند الله [البقرة/ 217] ومحال أن يكون إخراج أهله منه أكبر من الكفر، لأنه لا شيء أعظم منه.
ويمتنع الوجه الثاني أيضا، لأن التقدير فيه يكون: قتال فيه كبير وكبير الصد عن سبيل الله والكفر به. وكذلك مثّله الفراء «3» وقدّره، وإذا صار كذلك، صار المعنى: وإخراج أهل المسجد الحرام أكبر عند الله من الكفر، فيكون بعض خلال الكفر أعظم منه كله، وإذا كان كذلك امتنع كما امتنع الأول، وإذا امتنع هذان ثبت الوجه الثالث: وهو: أن يكون قوله: وصدّ عن سبيل الله ابتداء، وكفر به،
__________
(1) في (ط): والخبر.
(2) في (ط) ينفر الناس.
(3) معاني القرآن 1/ 141.

(3/127)


وإخراج أهله منه «1»، معطوفان عليه، وأكبر: خبر. فيكون المعنى:
صدّ عن سبيل الله أي: منعهم لكم أيها المسلمون عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم ولاته، والذين هم أحقّ به منهم، وكفر بالله أكبر من قتال في الشهر الحرام. وهذا القتال في الشهر الحرام هو ما عابه المشركون على المسلمين من قتل عبد الله بن جحش وأصحابه من المهاجرين «2» عمرو بن الحضرمي [وصاحبه لما] «3»، فصلا من الطائف في عير في آخر جمادى وأول رجب وأخذهم العير، وهو أوّل من قتل من المشركين فيما روي، وأوّل فيء أصابه المسلمون «4» فهذا هو التأويل لا الوجهان الأوّلان.
وأما قوله: والمسجد الحرام، فزعم الفراء أنّه محمول على قوله: يسألونك عن القتال وعن المسجد الحرام «5»، هذا لفظه «6».
وهذا أيضا ممتنع، لأنه لم يكن السؤال عن المسجد الحرام، وإنّما السؤال عن قتال ابن جحش ابن الحضرمي وأصحابه الذين عابهم به المشركون وعيّروهم فقالوا: إنّكم استحللتم الشهر الحرام، وهو رجب، فقتلتم فيه. فعن هذا كان السؤال، لا عن المسجد «7» الحرام. فإذا لم يجز هذا الوجه، لم يجز حمله أيضا فيمن جوز عطف
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): من المسلمين المهاجرين.
(3) سقطت من (م).
(4) انظر تفصيل القصّة في تفسير الطبري 2/ 347 - 349.
(5) في (م): يسألونك عن القتال وعن الشهر الحرام وعن المسجد، ولفظ الفراء كما في (ط).
(6) معاني القرآن 1/ 141.
(7) في (م): الشهر.

(3/128)


الظاهر على المضمر المجرور، فيكون محمولا على الضمير في به* لأن المعنى ليس على كفر بالله أو بالنبي. والمسجد ثبت أنه معطوف على عن* من قوله: وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، لأن المشركين صدّوا المسلمين عنه كما قال الله عزّ وجلّ «1»: إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام [الحج/ 25] فكما أن المسجد الحرام في هذه الآية محمول على عن* المتصلة بالصدّ بلا إشكال، كذلك في مسألتنا في هذه الآية.

[النساء: 5]
اختلفوا في إدخال الألف وإخراجها من قوله تعالى «2»:
قياما وقيما* [النساء/ 5].
فقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وأبو عمرو: قياما بألف «3».
وقرأ نافع وابن عامر قيما* بغير ألف «4».
قال أبو علي: قال أبو عبيدة: التي جعل الله لكم قياما مصدر يقيمكم. ويجيء في معناها قوام، وإنّما هو الذي يقيمك، فإنّما أذهبوا الواو لكسرة القاف، كما قالوا: ضياء وتركها بعضهم «5». قال لبيد:
أفتلك أم وحشيّة مسبوعة خذلت وهادية الصّوار قوامها «6»
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): بالألف.
(4) السبعة 226.
(5) مجاز القرآن 1/ 117 مع اختلاف يسير في النقل.
(6) البيت من معلقته في ديوانه 171 قال ابن الأنباري: معناه: أفتلك الأتان التي

(3/129)


وقال أبو الحسن: جعل الله لكم قياما، وفي الكلام قواما، وقيما، وهو القوام الذي يقيم شأنهم.
وقال أبو الحسن: في قيام ثلاث لغات: قيما، وقياما، وقوما.
قال: وبنو ضبّة يقولون: طويل وطيال، والعامّة على طوال.
قال أبو علي: ليس قول من قال: إن القيم جمع قيمة بشيء، إنما القيم بمعنى القيام، ليس أن القيم جمع. والذي يدلّ على أنّ قيام الشيء إنّما يعنى به دوامه وثباته، ما أنشده أبو زيد:
إنّي إذا لم يند حلقا ريقه ... وركد السّبّ فقامت سوقه
«1» والراكد: الدائم الثابت، ومن ثم قيل: ماء راكد، لخلاف الجاري، وماء دائم. وفي التنزيل: فيظللن رواكد على ظهره [الشورى/ 33] وقال:
يدوم الفرات فوقه ويموج «2»
__________
تشبه ناقتي أم بقرة وحشية مسبوعة: أكل السبع ولدها فهي مذعورة.
وقوله: خذلت، تأخرت عن القطيع. يريد: خذلت أصحابها من الوحش وأقامت على ولدها ترعى قربه وتلفّت إلى البقر، فإذا رأتها طابت نفسها وعلمت أنّ الصوار لم يفتها. والهادية: التي تهدي الصوار، أي تكون في أوله. والصوار: القطيع من البقر. يقال: صوار وصوار وصيار، والجمع أصورة وصيران. وقوامها: معناه تهتدي بأول الصوار (اهـ. شرح القصائد السبع الطوال 553) وانظر شرح المعلقات السبع 103 للزوزني.
(1) النوادر 169 (ط الفاتح) مع أربعة أخرى بعده وعنه في اللسان (سوق)، والثاني في المخصص 17/ 21 والسب- بالكسر-: الحبل والخمار والعمامة والوتد وشقة رقيقة كالسبيبة (القاموس).
(2) عجز بيت لأبي ذؤيب الهذلي، صدره:

(3/130)


فالدوام: كالسكون والثبات على حال خلاف التموّج، وهذا يدل على أن تفسير قوله: يقيمون الصلاة يديمونها، ويحافظون عليها. وهذا التفسير أشبه من أن يفسر بيتمّونها.
والدليل على أن قيما مصدر في معنى القيام قوله: دينا قيما ملة إبراهيم [الأنعام/ 161] فالقيمة التي هي معادلة الشيء ومقاومته لا مذهب له هنا «1». إنما المعنى والله أعلم: دينا ثابتا دائما لازما لا ينسخ «2» كما تنسخ الشرائع التي قبله، وكذلك قوله: إلا ما دمت عليه قائما [آل عمران/ 75] أي: اقتضائك له ومطالبتك إياه.
فقوله: دينا قيما ينبغي أن يكون مصدرا وصف به الدّين ولا وجه للجمع هنا، ولا للصفة، لقلّة مجيء هذا البناء في الصفة، ألا ترى أنه إنما جاء في قولهم: قوم عدى، ومكان سوى، وفعل في
__________
فجاء بها ما شئت من لطميّة انظر ديوان الهذليين 1/ 57 وجاءت روايته في شرح أشعارهم للسكري 1/ 134 واللسان. (دوم):
تدوم البحار فوقها وتموج وهي أجود لما سيأتي قال السكري في شرحه: بها، أي: بالدرة، أي: جلبت في اللطائم، واللطيمة: عير تحمل التجارة والعطر، فإن لم يكن فيها عطر فليست بلطيمة، فجعل هذه الدرة تحملها عير اللطيمة. تدوم البحار، أي تسكن فوقها. قال الأصمعي: «يدوم الفرات فوقها» والفرات: العذب، ولا يجيء منه الدر، إلّا أنّه غلط، وظنّ أنّ الدرة إذا كانت في الماء العذب فليس لها شبه، ولم يعلم أنها لا تكون في العذب. (اهـ). وانظر ما قيل في تفسير اللطيمة من معان في التاج (لطم).
(1) في (ط) هاهنا.
(2) في (ط): دينا دائما ثابتا ولا ينسخ.

(3/131)


المصادر كالشّبع والرّضا، وحروف أخر أوسع من الوصف، فإذا كان كذلك حمل على الأكثر.
فإن قلت: فكيف اعتلّ، وهو على وزن ينبغي أن يصح معه ولا يعتلّ، كما لم «1» يعتلّ العوض والحول ونحو ذلك؟ فإنه يمكن أن يكون هذا الوزن إنما «2» جاء في الجمع متّبعا واحده في الإعلال، نحو: ديمة وديم، وحيلة، وحيل، مع أن حكم الجمع أن لا يتبع الواحد في نحو: معيشة ومعايش، فإذا كانوا قد أتبعوه في الواحد الجمع، جاز أن يتبعوه أيضا في هذا الفعل فيعلّ، كما يعلّ الفعل، لأن المصادر أشدّ اتباعا لأفعالها في الاعتلال من الجمع للواحد. فإن قلت: فقد قالوا: وعدا ووزنا، فصحّحوا المصدر مع إعلالهم الفعل نحو يعد. قيل: لا يشبه هذا ما ذكرنا من بناء «فعل»، لأنّ «فعلا» على بناء لا طريق للإعلال عليه، وليس «فعل» كذلك، لأنّ الكسرة توجب الإعلال في الواو إذا كانت عينا، لا سيّما إذا انضم إليها هاهنا الاعتلال في الفعل. ويدلّك على أنه مصدر، وأنه مثل عوض حكاية أبي الحسن قوما، وقيما، وكان «3» القياس تصحيح الواو كما حكاه أبو الحسن، وإنما انقلبت ياء على وجه الشذوذ عن الاستعمال كما انقلبت ثيرة، وكما قالوا: طويل وطيال في لغة بني ضبّة فيما حكاه أبو الحسن، وكما قالوا: جميعا جواد، وجياد وكان حكم جواد أن تصحّ عينه في الجمع «4»، قال الأعشى:
__________
(1) في (ط): لا.
(2) في (ط): لما.
(3) في (ط): فكان.
(4) سقطت: «في الجمع» من (ط).

(3/132)


جيادك في الصّيف «1»
في نعمة ... تصان الجلال وتعطى الشّعيرا
«2» فكما شذّت هذه الأشياء عما عليه الاستعمال كذلك شذّ قولهم: قيما، وهو فعل كالشبع، ولا وجه للصفة هنا لقلة الصفة، ولا لأن يكون جمع قيمة، لأنّ ذلك لا مذهب له، ألا ترى أنه لا يجوز أن يوصف الدّين بذلك، وقوله: قيما، وقياما بمعنى، وإنّما أعلّ القيام لأنه مصدر قد اعتلّ فعله، فأتبع الفعل في الاعتلال، فأمّا القوام الذي حكاه أبو عبيدة، فإنه ينبغي أن يكون اسما غير مصدر، كالقوام فيمن فتح. ويجوز أن يكون مصدر قاوم، كما أنّ الغوار مصدر غاور، فأما القيام والصّيام، والعياذ، والعيادة، والحياكة ونحو ذلك مما قلبت الواو فيه ياء، فمصادر جارية على الفعل، ومما يدل على أن قيما ليس بجمع قيمة، وإنما هو مصدر قوله: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس [المائدة/ 97] وقيما للناس، وإنّما المعنى جعل الله حجّ البيت الحرام قواما لمعايش الناس.
قال: وقرأ حمزة وحده: ضعافا [النساء/ 9] «3» بإمالة العين، وكذلك: خافوا بإمالة الخاء. واختلف عنه في الإمالة فروى عبيد الله «4» بن موسى: ضعافا بالفتح. وروى خلف بن
__________
(1) في (ط): بالصيف.
(2) ديوانه/ 99 من قصيدة يمدح فيها هوذة بن علي الحنفي.
(3) تمام الآية: وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا.
(4) في (ط): عبد الله. وهو عبيد الله بن موسى بن باذام. أخذ القراءة عرضا عن عيسى بن عمر وشيبان بن عبد الرحمن الهمذاني وروى الحروف سماعا من

(3/133)


هشام عن سليم بن عيسى «1» عنه بالكسر «2».
قال أبو علي: وجه الإمالة في ضعافا أنّ ما كان على فعال وكان أوّله حرفا مستعليا مكسورا نحو: ضعاف وقباب، وخباث، وغلاب، يحسن فيه الإمالة وذلك أنه قد تصعّد بالحرف المستعلى، ثم انحدر بالكسر فيستحبّ أن لا يتصعّد بالتفخيم بعد التصويب بالكسر «3»، فيجعل الصوت على طريقة واحدة، فلا يتصعّد بالتفخيم بعد التصوّب بالكسر «4»، وذلك نحو ما قدمنا من نحو:
ضعاف وقباب. ومما يدل على أنّ الإصعاد بعد الانحدار يثقل عليهم أنهم يقولون: صبقت، وصقت، فيبدلون من السين الصاد، ولا تقرّر السين لئلا يتصعّد منها إلى المستعلي فإذا كان بعكس ذلك لم يبدل، وذلك نحو: قست، وقسوت، لأنه إذا تصعّد بالقاف تحدّر بالسين، فيكون الانحدار بعد الإصعاد خفيفا. ومما يدلّك على حسن الإمالة في ضعاف أن الحرف المكسور إذا كان بينه وبين الألف حرفان، وكان الأول منهما مستعليا ساكنا، حسنت فيه الإمالة وذلك نحو: مقلات، ومظعان، ومطعام، لأن المستعلي لمّا كان ساكنا وقبله كسرة صار المستعلي كأنه تحرّك «5» بالكسر لما كانت الكسرة قبله كما أن من قال:
__________
غير عرض عن حمزة، وسمع حروفا من الكسائي وفاته سنة 213 هـ. (انظر طبقات القراء 1/ 494).
(1) سليم بن عيسى بن سليم بن عامر الكوفي المقرئ ضابط محرر حاذق عرض القرآن على حمزة وهو من أخص أصحابه (الطبقات 1/ 318).
(2) السبعة 227.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): بالكسرة.
(5) في (ط): يتحرك.

(3/134)


أحبّ المؤقدين إليّ مؤسى «1» .....
لما كانت الضمة قبل الواو قدرها كأنها عليها، فأبدل منها الهمزة كما يبدلها «2» منها إذا كانت مضمومة، فكذلك إذا قال:
مقلات، صار كأنه قال: قلات، فحسنت الإمالة «3».
وأما الإمالة في خافوا فإنها حسنة، وإن كان الخاء مستعليا، لأنه يطلب الكسرة التي في: خفت، فينحو نحوها بالإمالة «4». قال سيبويه: بلغنا عن أبي إسحاق أنه سمع كثير عزة يقول: صار مكان كذا كذا «5».
قال: وكلهم قرأ «6»: وإن كانت واحدة [النساء/ 11] نصبا إلّا نافعا فإنه قرأ: وإن كانت واحدة رفعا «7».
قال أبو علي: الاختيار ما عليه الجماعة، لأن التي قبلها لها خبر منصوب وذلك قوله: (فإن كنّ نساء فوق اثنتين ... وإن كانت
__________
(1) صدر بيت لجرير، سبق في 1/ 239.
(2) في (م): يبدل.
(3) في (ط): الإمالة فيه.
(4) قال السيرافي (طرة سيبويه 2/ 261): أما إمالة خاف فلأنه على فعل، وأصله خوف- كفرح- فللكسرة المقدّرة في الألف جازت إمالته، ويكسر أيضا إذا جعلت الفعل لنفسك، فقلت: خفت، وكل ما كان في فعل المتكلم مكسورا جازت إمالته من ذوات الواو أو من ذوات الياء.
(5) سقطت من (ط) كذا. وانظر سيبويه 2/ 261 وقد سبق في 2/ 300.
(6) في (ط): قرءوا.
(7) السبعة 227 والملاحظ أنّ المؤلف قدم الكلام في الآية 11 على الآية 10 من النساء.

(3/135)


واحدة) أي: وإن كانت المتروكة واحدة. كما أن الضمير في الأول تقديره: وإن كنّ المتروكات أو الوارثات نساء.
ووجه قول نافع: إن وقعت واحدة أو وجدت واحدة، أي:
إن حدث حكم واحدة، أو إرث واحدة، ألا ترى أنّ المراد حكمها والقضاء في إرثها لا ذاتها.

[النساء: 10]
واختلفوا في فتح الياء وضمها «1» من قوله [جلّ وعزّ] «2»:
وسيصلون سعيرا [النساء/ 10].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وسيصلون: بفتح الياء.
وقرأ ابن عامر: وسيصلون سعيرا بضم الياء. واختلف عن عاصم فروى أبو بكر بن عيّاش وأبان، والمفضّل عنه:
وسيصلون مثل ابن عامر بضم الياء وتصلى نارا حامية [الغاشية/ 4] بالضم أيضا. وروى عنه حفص: وسيصلون وتصلى نارا حامية، ويصلى سعيرا [الانشقاق/ 12] مفتوحا كلّه «3».
[وقال أبو علي] «4»: قال أبو زيد: صلي الرجل النار يصلاها صلا وصلاء، وهما واحد، وأصلاه الله حرّ النار إصلاء، وهو صالي النار في قوم صالين وصليّ.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) السبعة 227.
(4) سقطت من (ط).

(3/136)


حجة من قال: سيصلون بالفتح قوله تعالى: اصلوها اليوم [يس/ 64] وإلا من هو صال الجحيم [الصافات/ 163] وجهنم يصلونها [إبراهيم/ 29].
وحجة من قال: سيصلون أنه من: أصلاه الله، وسيصلون مثل: سيعطون، من أصلاه الله، مثل: أدخله الله النار، وحجته:
سوف نصليهم نارا [النساء/ 56].

[النساء: 11]
اختلفوا في ضمّ الألف من أم* وكسرها إذا وليتها كسرة أو ياء ساكنة.
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر: فلأمه [النساء/ 11] وفي بطون أمهاتكم [الزمر/ 6] وفي أمها [القصص/ 59] وفي أم الكتاب [الزخرف/ 4] بالرفع.
وقرأ حمزة والكسائيّ كلّ ذلك بالكسر إذا وصلا «1».
قال أبو علي: حجة من ضمّ: أن الهمزة ليست كالهاء ولا في خفائها، وإنّما أتّبع الهاء الياء والكسرة من أتبع في بهم، وبهي، وعليهم، ولديهم، لخفائها، وليست الهمزة كذلك، وإن كانت تقارب الهاء في المخرج. ويقوّي ذلك أنهم لم يغيّروا غير همزة أم* هذا التغيير، ألا ترى أنّ الهمزة في أدّ «2» وأفّ، مضمومة على جميع أحوالها وكذلك همزة «3» أناس. ووجه قول حمزة والكسائي أن الهمزة
__________
(1) السبعة 228.
(2) قال ابن دريد: هو اسم رجل، أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر، وأحسب أنّ الهمزة في «أدّ» واو، لأنه من الود، أي: الحب، فقلبوا الواو همزة. (الجمهرة 1/ 15).
(3) في (م) همز.

(3/137)


حرف مستثقل بدلالة تخفيفهم لها، فأتبعوها ما قبلها من الياء والكسرة، ليكون العمل فيها من وجه واحد. ويقوي ذلك أنها تقارب الهاء وقد فعل ذلك بالهاء ويقوي ذلك أيضا أنهم قد أتبعوا غيرها من الحروف نحو: هو منحدر من الجبل، فغيّروا البناء للاتباع. ويقوي ذلك أنهم قد أتبعوا ما قبل الهمزة الهمزة في قولهم: أجوؤك وأنبؤك، كما أتبعوا الهمزة ما قبلها في قوله في: إمّها، ولأمّه. فالهمزة لما يتعاورها من القلب والتخفيف، تشبه الياء والواو والهاء، فتغيّر كما تغيّر. فإن قلت: فهلّا فعلوا ذلك بغير هذا الحرف مما فيه الهمزة.
قيل: إنّ هذا الحرف قد كثر في كلامهم، والتغيير إلى ما كثر استعماله أسرع. وقد يختص الشيء في الموضع بما لا يكون في أمثاله، كقولهم: أسطاع، وأهراق «1»، ولم يفعل ذلك بما أشبهه، فكذلك هذا التغيير في الهمزة مع الكسرة والياء اختص به هذا الحرف ولم يكن فيما أشبهه.

[النساء: 23]
واختلفوا في الميم من إمهاتكم [النساء/ 23] فكسرها حمزة وفتحها الكسائي «2».
[قال أبو علي] «3» أمّا فتح الكسائي الميم في «4» إمهاتكم فهكذا ينبغي، لأنّ التغيير والإتباع إنّما جاء في الهمزة، ولم يأت في الميم، فغيّر الهمزة وترك غيرها على الأصل، ألا ترى أنّ الميم لم تغيّر، وإنّما غيّرت الهمزة إذا وليتها الكسرة أو الياء، فلما كان
__________
(1) سيأتي تعليل ذلك قريبا ص (143).
(2) السبعة 228 وهي تابعة لسابقتها عنده.
(3) سقطت من (م).
(4) في (ط): «من قوله».

(3/138)


كذلك أتبع الهمزة ما كان «1» قبلها من الكسرة «1» والياء، وترك الميم على أصلها كما تركها من ضم الهمزة فقال: أمّهات. وأمّا كسر الميم في إمّهات، فقول الكسائي أشبه منه. ووجهه أنّه أتبع الميم الهمزة، كما قالوا: منحدر من الجبل، فأتبعوا حركة الدال ما بعدها، ونحو هذا الإتباع لا يجسر عليه إلّا بالسمع ويقوي ذلك قول من قال: عليهمي ولا [الفاتحة/ 7] ألا ترى أنّه أتبع الهاء الياء ثم أتبع الميم الهاء، وإن لم تكن في خفاء الهاء؟ فكذلك أتبع الميم الهمزة في قوله: إمهات، وكما أن قول من قال:
عليهمي، فاعلم يقوّي ما أخذ به حمزة، فكذلك قول من قال:
عليهمو ولا، يقوّي قول الكسائي، ألا ترى أنّه أتبع الياء ما أشبهها في الخفاء، وترك غير الهاء على أصلها «3». فكذلك أتبع الكسائي الكسرة أو الياء الهمزة وترك الميم التي بعد الهمزة في قوله: لإمها على أصله فلم يغيره.

[النساء: 11]
واختلفوا في كسر الصاد وفتحها من قوله [جلّ وعز] «4» يوصي بها [النساء/ 11].
فقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر: يوصى بها* بفتح الصاد في الحرفين.
وقرأ حفص عن عاصم: الأولى بالكسر يوصي*، والثانية بالفتح يوصى*.
__________
(1) في (ط): الكسر.
(3) في (ط): أصله.
(4) في (ط): تعالى.

(3/139)


وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي: يوصي فيهما بالكسر «1».
[قال أبو علي] «2»: حجة من قال «3»: يوصي* أنّه قد تقدّم ذكر الميت، وذكر المفروض فيما ترك، يبين ذلك قوله: فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي [النساء/ 11] وحجة من قال: يوصى* أنه في المعنى يؤول إلى يوصي، ألا ترى أن الموصي هو الميت، وكأن الذي حسّن ذلك أنّه ليس لميت معين إنّما هو شائع في الجميع، فلذلك حسن يوصى*.

[النساء: 13]
اختلفوا في الياء والنون من قوله [جلّ وعز]: «4» يدخله.
فقرأ ابن عامر ونافع: ندخله جنات [النساء/ 13] بالنون في الحرفين جميعا، وقرأ الباقون بالياء فيهما «5».
قال أبو علي: كلاهما حسن، فمن قرأ يدخله فلأنّ ذكر اسم الله عزّ وجل «6» قد تقدّم فحمل الكلام على الغيبة، ومن قرأ
__________
(1) السبعة 228.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): قرأ.
(4) سقطت من (ط).
(5) نقل الفارسي كلام ابن مجاهد في هذا الحرف باختصار، ونصه في السبعة ص 228: «واختلفوا في الياء والنون من قوله: يدخله جنات ويدخله نارا [النساء/ 14] فقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي: (يدخله) بالياء في الحرفين. وقرأ نافع وابن عامر:
(ندخله) بالنون في الحرفين جميعا».
(6) سقطت من (ط).

(3/140)


ندخله فالمعنى فيه «1» كالمعنى في الياء، ويقوّي ذلك قوله تعالى «2»: بل الله مولاكم [آل عمران/ 150] ثمّ قال:
سنلقي [آل عمران/ 151].

[النساء: 16]
واختلفوا في تشديد النون وتخفيفها من قوله عز وجل «3» والذان [النساء/ 16] وهذان [طه/ 63 - والحج/ 19] وفذانك [القصص/ 32] وهاتين [القصص/ 27].
فقرأ ابن كثير: هذان*، واللذان، وفذانك.
وهاتين مشدّدة النون.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بتخفيف ذلك كلّه، وشدّد أبو عمرو فذانك وحدها، ولم يشدّد غيرها.
قال أبو علي: من قرأ: اللذان وهذان* وهاتين فالقول في تشديد نون التثنية: أنّه عوض من الحذف الذي يلحق «4» الكلمة، ألا ترى أنّ قولهم «ذا» قد حذف لامها، وقد حذفت الياء من «اللذان» في التثنية. فإن قلت: فإن الحذف في تثنية اللذان إنّما هو لالتقاء الساكنين، وما حذف لالتقاء الساكنين فهو في تقدير الثبات بدلالة قوله:
ولا ذاكر الله إلّا قليلا «5».
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): لحق.
(5) سبق في 2/ 454.

(3/141)


ألا ترى أنّه «1» نصب مع الحذف كما ينصب مع الإثبات؟
قيل: إنّ اللام في اللتان واللذان وإن كانت حذفت لالتقاء الساكنين، فإنّهما لما لم تظهر في التثنية التي كان يلزم أن يثبت فيها وتتحرك، أشبه ما حذف حذفا، لغير التقاء الساكنين، فاقتضى العوض منه كما اقتضته المبهمة نحو: هذان، واتّفقت هذه الأسماء من اللذان وهذان في هذا التعويض، كما اتفقا في التحقير في فتح الأوائل منهما، مع ضمها من غيرهما، وفي إلحاق الألف أواخرهما، وذلك نحو اللتيّا، واللذيّا، وهاتيّا.
فأما تخصيص أبي عمرو التعويض في المبهمة في نحو قوله: فذانك وتركه التعويض في اللذان، فيشبه أن يكون ذلك لما رآه من أنّ الحذف للمبهمة ألزم، فبحسب لزومها الحذف ألزمها العوض ولم يعوض في اللّذين، ألا ترى أنّ اللذين إذا قلت:
اللّذيّا فحقّرت أظهرت اللام المحذوفة في التثنية في التحقير، وإذا حقرت المبهم فقلت: هاذيّا، فالحذف في الاسم قائم، لأنّه كان ينبغي هاذييّا، الياء الأولى عين الفعل، والثانية للتحقير، والثالثة لام الفعل، فحذفت التي هي عين الفعل، ولم يجز أن تحذف التي هي لام لأنّك لو حذفتها لتحركت ياء التحقير لمجاورتها الألف، وهذه الياء لا تحرك أبدا، ألا ترى أنّه «2» لم يلق عليها حركة الهمزة في نحو: أقيّس، فلما لم يتمّ في التحقير، وأتمّ الموصول خصّ المبهم بالعوض دون الموصول لذلك. فإن قال قائل: هلّا «3» وجب
__________
(1) في (ط): أنه قد.
(2) في (ط): أنها.
(3) في (ط): فهلّا.

(3/142)


عوض المنقوص في التثنية نحو: يد، ودم، وغد؟ فإن ذلك ليس بسؤال، ألا ترى أنّهم عوّضوا في: أسطاع، وأهراق «1» ولم يعوضوا في: أجاد وأقام ونحو ذلك.
وأيضا: فإنّ الحذف لمّا لم يلزم هذه المتمكنة، كان الحذف في حكم لا حذف، ألا ترى أن منه ما يتمّ في الواحد نحو: غد وغدو؟ ومنه ما يتمّ في التثنية نحو:
يديان بيضاوان «2» ....
ونحو:
جرى الدّميان «3» .....
__________
(1) قال سيبويه 1/ 8: «وقولهم: أسطاع يسطيع، وإنّما هي أطاع يطيع، زادوا السين عوضا من ذهاب حركة العين من أفعل».
وفي اللسان: وأما أسطاع مقطوعة فعلى أنّهم أنابوا السين مناب حركة العين في أطاع التي أصلها: أطوع، ثمّ قال: ويؤكد ما قال سيبويه من أنّ السين عوض من ذهاب حركة العين، أنّهم قد عوضوا من ذهاب حركة هذه العين حرفا آخر غير السين وهو الهاء من قول من قال: أهرقت، فسكن الهاء، وجمع بينها وبين الهمزة، فالهاء هنا عوض من ذهاب فتحة العين، لأنّ الأصل أروقت أو أريقت ... ثمّ إنّهم جعلوا الهاء عوضا من نقل فتحة العين عنها إلى الفاء، كما فعلوا ذلك في أسطاع. (اللسان: طوع) وانظره في مادة (هرق) أيضا.
(2) قطعة من بيت مجهول القائل تمامه:
يديان بيضاوان عند محلّم ... قد تمنعانك أن تضام وتضهدا
انظر المنصف 1/ 64 و 2/ 148 وابن يعيش 4/ 151 و 5/ 83 و 6/ 5 و 10/ 56 والخزانة 3/ 347.
(3) قطعة من بيت لعلي بن بدال تمامه:
ولو أنّا على حجر ذبحنا ... جرى الدّميان بالخبر اليقين

(3/143)


وفي الجمع نحو: أيد ودماء، وفي التحقير نحو: دميّ ويديّة، وليست المبهمة كذلك، ويمكن أن يكون أبو عمرو قدّر ذانك تثنية ذلك، فعوّض الحرف في التثنية من الحرف الزائد الذي كان في الإفراد قبل التثنية، والأول أشبه.

[النساء: 19]
اختلفوا في فتح الكاف وضمها من قوله [جلّ وعز] «1» كرها [النساء/ 19] وذلك في أربعة مواضع في النساء [19]، والتوبة [53]، والأحقاف في موضعين [15].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: كرها بفتح الكاف فيهنّ كلّهنّ.
وقرأ عاصم وابن عامر: كرها بالفتح في النساء والتوبة.
وقرأ في الأحقاف: كرها* مضمومتين. وقرأ حمزة والكسائي: كرها* بالضم فيهنّ كلّهنّ. وقال ابن ذكوان في حفظي: كرها: بفتح الكاف في سورة الأحقاف في الموضعين
«2».
قال أبو علي: الكره والكره: لغتان، كقولهم: الفقر والفقر، والضّعف، والضّعف، والدّفّ والدّفّ، والشّهد والشّهد. فمن قرأ الجميع بالضم فقد أصاب. وكذلك لو قرأ قارئ جميع ذلك
__________
انظر المقتضب 1/ 231 2/ 238 و 3/ 153 والخزانة 3/ 349 وابن الشجري 2/ 34 والمنصف 2/ 148 وابن يعيش 4/ 151، 152 و 5/ 84 و 6/ 5 و 9/ 24.
(1) سقطت من (ط).
(2) السبعة 229.

(3/144)


بالفتح، وكذلك إن قرأ بعض ذلك بالفتح وبعضه بالضم، كل ذلك مستقيم.

[النساء: 19]
اختلفوا في كسر الياء وفتحها من قوله [جلّ وعز] «1»:
بفاحشة مبينة [النساء/ 19] وآيات مبينات [النور/ 34/ 46].
فقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر: بفاحشة مبينة*، وآيات مبينات* بفتح الياء فيهما جميعا.
وقرأ نافع وأبو عمرو بفاحشة مبينة كسرا، وآيات مبينات فتحا.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص، والمفضّل عن عاصم بفاحشة مبينة كسرا وآيات مبينات كسرا أيضا «2».
قال أبو علي: قال سيبويه: قالوا: أبان الأمر وأبنته واستبان، واستبنته، والمعنى واحد، وذا هنا بمنزلة حزن، وحزنته، في فعلت. وكذلك: بيّن وبيّنته «3». وقال أبو عبيدة: الفاحشة: الشّنار والفحش والقبح.
قال أبو علي: الفاحشة: مصدر كالعاقبة والعافية يدل على ذلك قوله تعالى: وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء [الأعراف/ 28] فالفحشاء:
كالنعماء والبأساء والضراء.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) السبعة 230.
(3) سيبويه 2/ 237 في آخر باب افتراق فعلت وأفعلت في الفعل للمعنى.

(3/145)


وقيل في قوله «1»: ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة [الطلاق/ 1] قولان: أحدهما: إلّا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحدّ عليهنّ، وقيل: إلّا أن يأتين بفاحشة مبيّنة في خروجهنّ من بيوتهنّ.
فمن فتح العين في مبيّنة كان المعنى: يبيّن فحشها، فهي مبيّنة، ومبيّنة: فاحشة: بيّنت فحشها فهي مبيّنة. وقيل: إنّه جاء في التفسير: فاحشة: ظاهرة. فظاهرة حجّة لمبيّنة.
وأمّا الفتح في قوله: مبينات* فحجّته «2»: قد بينا لكم الآيات [آل عمران/ 118 - الحديد/ 17] ومن قرأ: مبينات فحجّته قوله: قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله [المائدة/ 15] فالمبين والمبيّن واحد، وكذلك قوله: هذا بيان للناس [آل عمران/ 138] فما هدى الله به فهو مبيّن للمهديّ، كما أنّ البيان للناس مبيّن لهم.

[النساء: 24]
اختلفوا في فتح الصاد وكسرها من قوله جلّ وعزّ «3»:
والمحصنات [النساء/ 24].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة:
والمحصنات بفتح الصاد في كلّ القرآن.
وقرأ الكسائي: والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم [النساء/ 24] بفتح الصاد في هذه وحدها، وسائر القرآن: والمحصنات* «4» ومحصنات* [النساء/ 25] بكسر الصاد. ولم يختلف أحد من القراء في هذه وحدها أنها بفتح الصاد
__________
(1) في (ط): قوله تعالى.
(2) في (ط): فحجته قوله.
(3) سقطت من (ط).
(4) وهي في: النساء/ 25 والمائدة/ 5 والنور 4/ 23.

(3/146)


أعني: والمحصنات من النساء [النساء/ 24] حدّثنا أحمد قال «1»: حدثنا أبو حمزة الأنصاري: قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن مجاهد وعبد الله بن كثير مثل قراءة الكسائي: والمحصنات من النساء مفتوحة الصاد وسائر القرآن: والمحصنات* «2».
[قال أبو علي] «3»: قال سيبويه: قالوا: للمرأة حصنت حصنا، وهي حصان، كجبنت جبنا وهي جبان. قال: وقالوا:
حصنا كما قالوا: علما «4».
وقد جاء الإحصان في التنزيل واقعا على غير شيء. من ذلك وقوعها «5» على الحرائر، يدل على ذلك غير موضع في التنزيل، أحدها: قوله: والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم [النور/ 4] ألا ترى أنه إذا قذف غير حرة لم يجلد ثمانين. ومن ذلك: قوله «6»: فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [النساء/ 25]. ومن ذلك قوله «7»: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات [النساء/ 25] والمحصنات:
المتزوجات بدلالة قوله: والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم [النساء/ 24]
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) السبعة: 230.
(3) سقطت من (ط).
(4) سيبويه 2/ 226 باب في الخصال التي تكون في الأشياء.
(5) في (ط): وقوعه.
(6) في (ط): قوله تعالى.
(7) في (ط): قوله تعالى.

(3/147)


فذوات الأزواج محرّمات على كل أحد، إلّا على أزواجهنّ، وفسّروا قوله: إلا ما ملكت أيمانكم إلّا ما ملكتموهنّ بالسبي من دار الحرب، ألا ترى أنّ ذوات الزوج في دارنا محرّمة على كل أحد سوى الزوج. فأمّا إذا كانت متزوجة في دار الحرب، فسبيت منها، فإنّها تحلّ لمالكها، ولا عدّة عليها إذا دخلت دار الإسلام. ويدل على أنّ المتزوجة يقال لها محصنة قوله: وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات [النساء/ 25]. ويدلّ عليه أيضا قوله: أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين [النساء/ 24] وقد فسّر قوله: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات [النساء/ 25] بالعفائف. ويدلّ على وقوع الإحصان على العفّة قوله: ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها [التحريم/ 12] وروي عن إبراهيم «1» ومجاهد أن أحدهما قرأ: أحصن وفسّره بتزوّجن، وقرأ الآخر: أحصن «2» وفسره: بأسلمن. فقد ثبت بما «3» ذكرنا أنّ الإحصان يقع على الحريّة، وعلى التزويج، وعلى العفّة، وعلى الإسلام. وليس تبعد هذه الأسماء عمّا عليه موضوع اللغة.
قال أبو عبيدة: في قوله: والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم المحصنات: ذوات الأزواج «4».
وأنشد الأصمعي:
__________
(1) هو النخعي: ابن يزيد بن قيس بن الأسود أبو عمران الكوفي الإمام المشهور ... قرأ على الأسود بن يزيد ... وقرأ عليه الأعمش انظر طبقات القراء 1/ 29.
(2) وسيأتي الكلام عن هاتين القراءتين قريبا.
(3) في (ط): مما.
(4) مجاز القرآن 1/ 122.

(3/148)


إذا المعسيات كذبن الصّبو ... ح خبّ جريّك بالمحصن
«1» وفسّر المحصن المدّخر من الطعام، والمدّخر للاحراز لا تمتد إليه اليد امتدادها إلى غير المحرز للادّخار. والحريّة تبعد وتمنع من «2» امتهان الرقّ، والإسلام يحظر الدم والمال اللذين كانا على الإباحة قبل، والتزويج في المرأة كذلك في حظر خطبتها التي كانت مباحة قبل ويمنع تصدّيها للتزويج، والعفّة: حظر النفس عما يحظره الشرع. فهذه الأسماء قريبة مما عليه أصل اللغة.
وأنشد أبو عبيدة «3»:
وحاصن من حاصنات ملس ... من الأذى ومن قراف الوقس
قال: الحاصن: العفيفة، قال: والوقس: مثل توقّس الجرب، قال: والمحصنة أحصنها زوجها. قال أبو علي: الحاصن
__________
(1) البيت في التهذيب للأزهري (عسا) 3/ 86 واللسان (عسا) و (جرا) بغير نسبة. قال ابن الأعرابي: المعسية: الناقة التي يشك فيها أبها لبن أم لا؟ وقد جاءت في (م) واللسان (جرا): المعشيات، وهي تصحيف.
والجريّ: الخادم والوكيل والرسول.
(2) في (ط): عن.
(3) مجاز القرآن 1/ 122، ونسبه للعجاج وهو في ديوانه 2/ 42، 43، وتفسير الطبري 5/ 7 والجمهرة لابن دريد 2/ 165. واللسان (حصن، وقس) ملس، يقول: هي ملساء من الأذى، أي: ليس فيها أثر فيه. القراف: المداناة، ويقال: القرف من التلف، أي: مداناة الأرض الوبئة، والوقس: الجرب، فأراد أن يقول: من قراف المكروه كله، (ا. هـ عن شرح الديوان 2/ 42، 43) وقال في اللسان: الوقس الفاحشة وذكرها، ضرب الجرب مثلا للفاحشة.

(3/149)


يحتمل ضربين: إما أن يكون على معنى النسب أو يكون مثل:
دلو الدال «1» ...
وإنّما وقع الاتفاق على فتح العين من قوله: والمحصنات لما فسروا الحرف عليه من أنّه يعنى به الحربية المتزوجة في دار الحرب.

[النساء: 24]
واختلفوا في فتح الألف وضمها من قوله تعالى: وأحل لكم [النساء/ 24].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأحل لكم بفتح الألف والحاء.
وقرأ حمزة والكسائي: وأحل لكم بضم الألف «2».
قال أبو علي: وأحل لكم ما وراء ذلكم بناء الفعل للفاعل أشبه بما قبله، ألا ترى أن معنى: كتاب الله عليكم: كتب الله عليكم كتابا، وأحلّ لكم؟ ومن بنى الفعل للمفعول به فقال:
وأحل لكم فهو في المعنى يؤول إلى الأول، وفي ذاك مراعاة مشاكلة ما بعد بما «3» قبل.

[النساء: 25]
واختلفوا في فتح الألف وضمها «4» من قوله تعالى «5»:
أحصن [النساء/ 25].
__________
(1) جزء بيت من الرجز للعجاج سبق. في 2/ 277.
(2) السبعة 230.
(3) في (ط): لما.
(4) ورد في هامش (م) تعليقة نصها:
قوله: فتح الألف وضمها تعبير ناقص، لأنّ الألف لا تقبل الحركة، والعبارة الصحيحة أن يقال: ضم الهمزة وفتحها، وإن كان أراد ذلك في تعبيره بالألف، والله أعلم. هـ.
(5) سقطت من (ط).

(3/150)


فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: (أحصنّ) مضمومة الألف، وقرأ حمزة والكسائي أحصن مفتوحة الألف.
واختلف عن عاصم فروى عنه أبو بكر والمفضل: وأحل لكم [النساء/ 24] وأحصن بالفتح جميعا. وروى عنه حفص:
وأحل لكم وأحصن بالضم جميعا. حدّثنا «1» محمد بن الحسين بن شهريار قال: حدّثنا الحسين بن الأسود قال «2»: حدّثنا عبد الله بن موسى عن سفيان الثوري عن عاصم بن أبي النّجود، أنّه قرأ: وأحل* بفتح الألف. [حدّثنا أحمد: قال] «3»: أخبرني علي بن العباس، قال: حدثنا: محمد بن عمر بن الوليد الكندي عن ابن أبي حمّاد عن شيبان عن عاصم: وأحل* فتحا، فإذا أحصن بضم الألف.
قال أبو علي: أحصنّ: أحصنّ بالأزواج، وقد رويت عن ابن عباس. وفسر بعض السلف أحصنّ: تزوّجن «4». ومن قرأ:
أحصن: فمعناه أسلمن، وكذا فسره إبراهيم أو مجاهد.

[النساء: 29]
اختلفوا في الرفع والنصب في «5» قوله (جلّ وعز) «6»: إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [النساء/ 29].
__________
(1) في (ط): حدثني أبو بكر. وهو أبو بكر القطان البلخي محمد بن الحسين بن شهريار محدث ثقة روى الحروف سماعا عن الحسين بن علي بن الأسود صاحب يحيى بن آدم وروى عنه القراءة أبو بكر بن مجاهد والنقاش وأبو بكر بن الأنباري وغيرهم. (طبقات القراء 2/ 130 - 131).
(2) سقطت من (ط). وفي (ط): الحسين بن علي الأسود.
(3) سقطت من (ط).
(4) انظر تفسير الطبري 5/ 22، 23.
(5) في (ط): من.
(6) في (ط): تعالى.

(3/151)


وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر تجارة* رفعا.
وقرأ حمزة والكسائي وعاصم تجارة نصبا «1».
قال أبو علي: من رفع فالاستثناء منقطع، لأنّ التجارة عن تراض ليس من أكل المال بالباطل. ومن نصب إلا أن تكون تجارة احتمل ضربين: أحدهما: إلّا أن تكون التجارة تجارة، ومثل ذلك قوله:
إذا كان يوما ذا كواكب «2» ....
أي إذا كان اليوم يوما «3». والآخر: إلّا أن تكون الأموال ذوات «4» تجارة، فتحذف المضاف، وتقيم المضاف إليه مقامه، والاستثناء على هذا الوجه أيضا منقطع.

[النساء: 31]
اختلفوا «5» في الياء والنون من قوله [جل وعز] «6»: نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم [النساء/ 31].
فروى أبو زيد سعيد بن أوس عن المفضّل عن عاصم يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم بالياء جميعا.
وقرأ الباقون: بالنون «7».
__________
(1) السبعة 231.
(2) عجز بيت لعمرو بن شأس سبق في الجزء الأول ص 148.
(3) في (ط) يوما ذا كواكب.
(4) في (ط): أموال.
(5) في (ط): واختلفوا.
(6) سقطت من (ط).
(7) السبعة 232.

(3/152)


[قال أبو علي] «1»: من قرأ يكفر بالياء، فلأنّ ذكر اسم الله تعالى «2» قد تقدّم في قوله: إن الله كان بكم رحيما [النساء/ 29]. ومن قال: نكفر: فالمعنى: معنى الياء، ومثل ذلك بل الله مولاكم [آل عمران/ 150] ثمّ قال: سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب [آل عمران/ 151]. وأبو الحسن يستحسن النون في هذا النحو.

[النساء: 31]
اختلفوا في ضمّ الميم «3» وفتحها من قوله [جل وعز] «4»:
مدخلا [النساء/ 31].
فقرأ نافع وحده: مدخلا كريما مفتوحة الميم، وفي الحج: مثله.
وقرأ الباقون: مدخلا مضمومة الميم هاهنا، وفي الحج. ولم يختلفوا في بني إسرائيل في: مدخل صدق ومخرج صدق [الإسراء/ 80] أنّهما بضمّ الميم.
وروى الكسائي عن أبي بكر عن عاصم: مدخلا* بفتح الميم هاهنا وفي الحج «5».
قال أبو علي: قوله تعالى: مدخلا* بعد «6» يدخلكم* يحتمل وجهين: يحتمل أن يكون مصدرا، ويجوز أن يكون مكانا. فإن
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (م).
(3) في (م) النون وهو خطأ.
(4) زيادة في (م).
(5) السبعة 232.
(6) في (ط): بعد قوله: و

(3/153)


حملته على المصدر أضمرت له فعلا دلّ عليه الفعل المذكور.
ويكون قوله مدخلا* فيمن قدره مصدرا انتصابه بذلك الفعل، التقدير: ويدخلكم فتدخلون مدخلا.
ويجوز أن يكون مكانا، كأنه قال: يدخلكم مكانا، ويكون على هذا التقدير منتصبا بهذا الفعل المذكور، كما أنّك إذا قلت:
أدخلتك مكانا، انتصب بهذا الفعل، والمكان أشبه هاهنا، لأنا رأينا المكان وصف بالكريم، وهو قوله: كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم [الدخان/ 25 - 26] فوصف المكان بالكريم «1»، فكذلك يكون قوله: مدخلا* يراد به المكان، مثل المقام «2»، ويجوز أن يكون المراد به: الدخول، أو الإدخال، وإن كان قد وصف بالكرم، ويكون المعنى دخولا تكرمون فيه، خلاف من قيل فيه «3»: الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم [الفرقان/ 34] فليس هذا كقولك: حشرتهم على الوجه، وحشرتهم على وجوههم، أي: لم أدع منهم أحدا غير محشور، ولكن مثل قوله: أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي «4» [الملك/ 22] وكقوله: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة [الزمر/ 24].
قال «5»: ولم يختلفوا في بني إسرائيل في: مدخل صدق، ومخرج صدق أنّهما بضم الميم [قال أبو علي] «6» لا يمتنع في
__________
(1) في (ط): فوصف المكان بالكرم.
(2) في (ط): المقام والمكان.
(3) في (ط): فيهم.
(4) ما بين معقوفين زيادة من (ط).
(5) يعني ابن مجاهد.
(6) سقطت من (م).

(3/154)


القياس أن تفتح الميم من مدخل على نحو ما قدمنا ذكره من أنّه يكون على فعل مضمر يدل عليه الكلام. ويجوز في المدخل إذا ضمّ أن يكون مكانا وأن يكون مصدرا، فإذا جعلته مصدرا جاز أن تريد مفعولا محذوفا من الكلام، كأنه قال «1»: أدخلني الجنّة مدخلا، أي: إدخال صدق، والأشبه أن يكون مكانا، لإضافته إلى صدق، فهو في هذا كقوله: في مقعد صدق [القمر/ 55] فكما أنّ هذا المضاف إلى صدق مكان، كذلك، يكون المدخل مكانا، ولا يمتنع الآخر لأنّ غير العين قد أضيف إلى صدق في نحو: أن لهم قدم صدق عند ربهم [يونس/ 2] ألا ترى أنّه قد فسّر بالعمل الصالح.

[النساء: 32]
اختلفوا في الهمز وتركه من قوله تعالى «2»: وسئلوا الله من فضله [النساء/ 32].
فقرأ ابن كثير والكسائي: وسلوا الله من فضله وفسل «3» الذين [يونس/ 94] وفسل «4» بني إسرائيل [الإسراء/ 101] وسل من أرسلنا [الزخرف/ 45] وما كان مثله من الأمر المواجه به، وقبله واو أو فاء، فهو غير مهموز في قولهما. وروى الكسائي عن إسماعيل بن جعفر عن أبي جعفر وشيبة أنّهما لم يهمزا:
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) في الأصل (سل) بإسقاط الفاء.
(4) في (م): و (سل). وهي من البقرة 211 ولا شاهد فيها. وفي (ط): (فسل) بإسقاط واو العطف قبل الآية.

(3/155)


وسل، ولا فسل مثل قراءة الكسائي. وقرأ الباقون بالهمز في ذلك كله «1» ولم يختلفوا في قوله: وليسئلوا ما أنفقوا [الممتحنة/ 10] أنّه مهموز «2».
قال أبو علي: الهمز وترك الهمز حسنان، ولو خففت الهمزة في قوله: وليسئلوا ما أنفقوا كان أيضا حسنا، وقد قدّمنا ذكر وجوه سل «3».

[النساء: 33]
واختلفوا في إدخال الألف وإخراجها من قوله [جلّ وعز] «4»: عاقدت [النساء/ 33].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر: عاقدت بالألف.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: عقدت بغير ألف: «5».
قال أبو علي: الذكر الذي يعود من الصّلة إلى الموصول ينبغي أن يكون ضميرا منصوبا، فالتقدير: والذين عاقدتهم أيمانكم فجعل الأيمان في اللفظ هي المعاقدة، والمعنى على الحالفين الذين هم أصحاب الأيمان، والمعنى: والذين عاقدت حلفهم أيمانكم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. فعاقدت أشبه بهذا المعنى، لأنّ لكل نفر من المعاقدين يمينا على
__________
(1) في السبعة: وقرأ أبو عمرو ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة بالهمز في ذلك كله.
(2) السبعة 233.
(3) انظر 2/ 216، البقرة/ 119.
(4) سقطت من (ط).
(5) السبعة 233.

(3/156)


المحالفة. ومن قال: عقدت أيمانكم، كان المعنى: عقدت حلفهم أيمانكم، فحذف الحلف وأقام المضاف إليه مقامه.
والأوّلون كأنّهم حملوا الكلام على المعنى فقالوا: عاقدت، حيث كان من كل واحد من الفريقين يمين، والذين قالوا: عقدت، حملوا الكلام على اللفظ لفظ الأيمان، لأنّ الفعل لم يسند إلى أصحاب الأيمان في اللفظ إنّما أسند إلى الأيمان.

[النساء: 36]
قال أحمد: روى أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري عن المفضّل عن عاصم: والجار الجنب [النساء/ 36] بفتح الجيم، وإسكان النون، ولم يأت به غيره.
وقرأ الباقون: الجنب بضمتين «1».
[قال أبو علي] «2»: قال أبو عبيدة: والجار ذي القربى:
القريب، والجار الجنب: الغريب. يقال: ما تأتينا إلّا عن جنابة، أي: عن بعد، قال علقمة بن عبدة «3»:
فلا تحرمنّي نائلا عن جنابة ... فإني امرؤ وسط القباب غريب
«4»
__________
(1) السبعة 233.
(2) سقطت من (ط).
(3) ديوانه ص 48 وهو من مفضلية برقم 119 قالها يمدح الحارث بن جبلة، وكان أسر أخاه شأسا، فرحل إليه يطلب فكّه. انظر شرح المفضليات ص 779 وابن الشجري 1/ 149 والكامل 2/ 723 واللسان والتاج (جنب) والأعلم على طرة الكتاب 2/ 423.
(4) مجاز القرآن 1/ 126.

(3/157)


قال أبو الحسن: قال: والجار الجنب، وقال بعضهم:
الجنب.
قال الراجز «1»:
الناس جنب والأمير جنب يريد: بجنب: الناحية، وهذا هو المتنحّي عن القرابة.
قال أبو علي: قوله تعالى: والجار الجنب، يحتمل معنيين: أحدهما: أن يريد الناحية، فإذا أراد هذا فالمعنى: ذي الجنب، فحذف المضاف، لأنّ المعنى مفهوم، ألا ترى أنّ الناحية لا يكون الجار إياها، والمعنى: ذي ناحية ليس هو الآن بها، أي:
هو غريب عنها. والآخر: أن يكون وصفا مثل: ضرب، وفسل، وندب، فهذا وصف يجري على الموصوف، كما أن الجنب كذلك، وهو في معناه ومعنى اللفظتين على هذا واحد، وهو أنّه مجانب لأقاربه متباعد عنهم. فأما الجنب في قوله: والجار الجنب. فصفة على فعل، مثل أحد في ناقة أحد وسجح في قوله:
وامشوا مشية سجحا «2» فالجنب؛ المتباعد عن أهله، يدلّك على ذلك مقابلته
__________
(1) الرجز في الصحاح واللسان والتاج (جنب) بغير نسبة عن الأخفش أيضا.
(2) قطعة من بيت لحسان بن ثابت وتمامه
دعوا التّخاجؤ وامشوا مشية سجحا ... إنّ الرجال ذوو عصب وتذكير
انظر الكتاب 2/ 315، والخصائص 2/ 116 وديوانه 1/ 219 واللسان (خجأ) وأساس البلاغة (سجح).

(3/158)


بالقريب، في قوله تعالى «1» والجار ذي القربى من القرب، كالبشرى من بشّر. ويدل على أنّه البعد، والغربة قول الأعشى: «2»
أتيت حريثا زائرا عن جنابة ... فكان حريث عن عطائي جامدا
وقال آخر «3»:
كرام إذا ما جئتهم عن جنابة ... أعفّاء عن بيت «4» الخليط المجاور
فأمّا قوله [جلّ وعز] «5»: وإن كنتم جنبا فاطهروا [المائدة/ 6] فمن الجنابة التي تقتضي التطهّر «6»، وهو أيضا صفة إلّا أنّه يقع على الواحد والجميع «7» كما أن بشرا كذلك، وكما أنّ الحلوب يقع على الجميع، فأمّا الحلوبة والرّكوبة فيقع على الواحد والجميع فيما رواه أبو عمر الجرمي «8» عن أبي عبيدة. وقال أبو عبيدة: والصاحب بالجنب: الذي يصاحبك في سفرك، فيلزمك فينزل إلى جنبك «9».

[النساء: 37]
اختلفوا في ضمّ الباء في البخل* [النساء/ 37] والتخفيف وفتحها والتثقيل.
__________
(1) «تعالى» زيادة في (ط).
(2) ديوانه/ 65.
(3) لم نعثر على قائله.
(4) في (ط): جار.
(5) في (ط): تعالى.
(6) في (ط): التطهير.
(7) في (ط): وعلى الجميع.
(8) كذا في (ط): وسقطت من (م).
(9) مجاز القرآن 1/ 126.

(3/159)


فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر:
بالبخل خفيفا وقرأ حمزة والكسائي: بالبخل* مثقلة وكذلك في سورة الحديد [الآية/ 24] مثله.
قال أبو علي: قال سيبويه: «قالوا: بخل يبخل بخلا، فالبخل كاللّؤم، والفعل: كشقي وسعد، وقالوا: بخيل، وبعضهم يقول: البخل: كالفقر» والبخل كالفقر، وبعضهم يقول: البخل كالكرم «1» وقد حكى فيه ثلاث لغات وقرئ باثنتين منها: البخل، والبخل.

[النساء: 40]
اختلفوا في الرفع والنصب من قوله [جلّ وعزّ «2»]: وإن تك حسنة [النساء/ 40].
فقرأ ابن كثير ونافع: وإن تك حسنة رفعا.
وقرأ الباقون: نصبا «3».
قال أبو علي: النصب حسن لتقدم ذكر: مثقال ذرة [النساء/ 40]، فالتقدير وإن تكن الحسنة مثقال ذرة يضاعفها، كما قال: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [الأنعام/ 160] والرفع على: وإن تحدث حسنة، أو إن تقع حسنة يضاعفها.
واختلفوا «4» في إثبات الألف وإسقاطها والتخفيف والتشديد
__________
(1) سيبويه 2/ 225.
(2) سقطت من (ط).
(3) السبعة 233.
(4) في (ط): اختلفوا. بإسقاط الواو.

(3/160)


من قوله [جلّ وعز] «1»: يضاعفها [النساء/ 40].
فقرأ ابن كثير وابن عامر: يضعفها مشدّدة العين بغير ألف.
وقرأ الباقون: يضاعفها خفيفة بألف «2».
قال أبو علي: المعنى فيهما واحد وهما لغتان. قال «3» سيبويه: تجيء فاعلت لا تريد به عمل اثنين، ولكنهم بنوا عليه الفعل كما بنوه على أفعل، وذلك قولهم: ناولته، وعاقبته، وعافاه الله، وسافرت قال: ونحو ذلك: ضاعفت، وضعّفت، وناعمت ونعّمت «4» فدلّ هذا على أنّه لغتان فبأيّهما قرأت كان حسنا.

[النساء: 42]
اختلفوا في فتح التاء في «5» قوله تعالى «6»: تسوى.
[النساء/ 42] والتشديد وضمها والتخفيف.
فقرأ ابن كثير وعاصم، وأبو عمرو «7»: لو تسوى مضمومة التاء خفيفة السين.
وقرأ نافع وابن عامر: تسوى مفتوحة التاء مشدّدة السين.
وقرأ حمزة والكسائي: لو تسوى مفتوحة التاء خفيفة
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) السبعة 233.
(3) في (ط): وقال.
(4) سيبويه 2/ 239 باب دخول الزيادة في فعلت للمعاني.
(5) في (ط): من.
(6) سقطت من (ط).
(7) في (ط): وأبو عمرو وعاصم.

(3/161)


السين، والواو ممالة مشدّدة في كلّ القرآن «1».
[قال أبو علي] «2»: من قال «3»: تسوى فهو تفعّل من التسوية، والمعنى: لو تجعلون والأرض سواء، كما قال تعالى «4»:
ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا [عمّ/ 40] ومن هذا قوله: بلى قادرين على أن نسوي بنانه [القيامة/ 4] أي: نجعلها صفحة واحدة لا تفصل بعضها عن بعض، فتكون كالكف، فيعجز لذلك عمّا يستعان عليه من الأعمال بالبنان كالكتابة والخياطة ونحو ذلك، مما لو فقدت البنان معها لم يتمكن منها. ومن أيمانهم: لا والذي شقّهنّ خمسا من واحدة.
وقراءة نافع وابن عامر: لو تسوّى المعنى: لو تتسوّى فأدغم التاء في السين لقربها منها، وهذا مطاوع لو تسوّى، لأنّك تقول سوّيته فتسوّى، ولا ينبغي أن يكره هذا لاجتماع تشديدتين، ألا ترى أن في التنزيل: اطيرنا [النمل/ 47] وازينت، [يونس/ 24] ولعلكم تذكرون [الأنعام/ 152] ونحو ذلك، وفي هذا الوجه اتساع لأنّ الفعل مسند إلى الأرض وليس المراد:
ودّوا لو تصير الأرض مثلهم، إنّما المعنى: ودّوا لو يصيرون يتسوّون «5» بها، لا تتسوّى هي بهم، وجاز ذلك لأنّه لا يلبس، وقالوا: أدخل فوه الحجر لمّا لم يلتبس.
__________
(1) السبعة 234. وفي (ط): في كل ذلك.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): قرأ.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): متسوين.

(3/162)


وقول حمزة والكسائي: لو تسوّى هو: لو تتسوّى فحذفا التاء التي أدغمها من قال: لو تسوّى لأنها كما اعتلت بالإدغام اعتلت بالحذف.
وأمّا إمالة الفتحة نحو الكسرة والألف نحو الياء في تسوّى فحسنة، لأنّ الفعل إذا صار على هذه العدّة استمرّت فيه الإمالة لانقلاب ألفه إلى الياء في نحو يتسويان.

[النساء: 43]
اختلفوا في إدخال الألف وإخراجها من قوله [جلّ وعز] «1» أو لامستم النساء [النساء/ 43].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر:
أو لامستم بألف هاهنا، وفي المائدة [الآية/ 6] مثله.
وقرأ حمزة والكسائي: لمستم بغير ألف، وفي المائدة مثله «2».
قال أبو علي: اللمس يكون باليد، وقد اتّسع فيه فأوقع على غيره فمما جاء يراد به مسّ «3» باليد قوله:
ولا تلمس الأفعى يداك تنوشها ... ودعها إذا ما غيّبتها سفاتها
«4» ومما جاء يراد به غير اللمس بالجارحة قوله تعالى «5»: وأنا لمسنا السماء فوجدناها [الجن/ 8]
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) السبعة 234.
(3) في (ط): اللمس.
(4) البيت في اللسان (سفا) وفيه تريدها بدل تنوشها ولم ينسبه. والسفى: التراب.
(5) سقطت من (ط).

(3/163)


تأويله: عالجنا غيب السماء ورمناه لنسترقه فنلقيه إلى الكهنة ونخبرهم به. ولما كان اللمس قد يكون غير المباشرة بالجارحة قال «1»: ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم [الأنعام/ 7] فخصص باليد لئلا يلتبس بالوجه الآخر، كما جاء وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم [النساء/ 23] لما كان الابن «2» قد يكون متبنّى به من غير الصّلب، وقد كان ينسب المتبنى به إلى المتبنّي فقال: ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله [الأحزاب/ 5].
وقد «3» قالوا: التمس وهو افتعل من اللمس، فأوقع على ما لا يقع عليه اللمس والمباشرة- قال:
الحرّ والهجين والفلنقس ثلاثة فأيّهم تلمّس «4» ليس يريد أيّهم تباشر بيدك، ولكن أيّهم تطلب.
قال:
وبالسّهب ميمون النّقيبة قوله* لملتمس المعروف أهل ومرحب «5»
__________
(1) في (ط): قال تعالى.
(2) في (ط): الابن غير.
(3) سقطت من (ط).
(4) الرجز في اللسان (فلقس) ولم ينسبه الفلقس والفلنقس: البخيل اللئيم، والفلنقس: الهجين من قبل أبويه، الذي أبوه مولى وأمه مولاة، والهجين:
الذي أبوه عتيق وأمه مولاة.
(5) البيت للطفيل وهو في ديوانه/ 38 من قصيدة يرثي فيها فرسان قومه: ويذكر وقعتهم بطيء. والسهب: موضع هلك فيه رجل منهم حسن الخلق كريم

(3/164)


فملتمس المعروف طالبه ليس مماسّه «1» ولا مباشره.
وقوله تعالى «2»: أو لامستم النساء قد عنى به ما لا يكون مسّا بيد، وذاك «3» أنّ الخلوة قد تكون في حكم المسّ في قول عمر وعلي [رضي الله عنهما] «4» والخلوة ليست بلمس ولا مس بجارحة.
واختلف الصحابة في قوله: أو لامستم «5» النساء على قولين:
فحمله حاملون على المسّ باليد، وآخرون على الجماع، ولم يحمله أحد منهم على الأمرين جميعا، فحمله عليهما خروج من إجماعهم، وأخذ بقول قد أجمعوا على رفضه.
وقد أجري المسّ هذا المجرى لا يراد به المباشرة وتلزيق الجارحة بالمطلوب، وذلك قوله:
مسنا السّماء فنلناها وطالهم* حتى رأوا أحدا يهوي وثهلانا «6» فليس يريد باشرناها، ولكن يريد به «7» رفعتهم وأنّ غيرهم لا
__________
الطبيعة. وهو من شواهد الكتاب 1/ 149، والمقتضب 3/ 219، وابن يعيش 2/ 29.
(1) في (م): ماسّه.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): وذلك.
(4) سقطت من (ط). ولم نظفر بقول عمر وعلي.
(5) في (ط): لمستم.
(6) البيت لابن مغراء في التهذيب 12/ 325 وفيه: مسنا بفتح الميم «ويمشي» بدل «يهوي» واللسان (مسس).
(7) سقطت من (ط).

(3/165)


يدرك شأوهم ولا ينال ما نالوه من رفعة المنزلة وهذا كقوله «1»:
.. وقد فاتت يد المتناول ومن المباشرة قوله تعالى «2»: ذوقوا مس سقر [القمر/ 48] وإن يمسسكم قرح [آل عمران/ 140] ولن تمسنا النار إلا أياما [آل عمران/ 24] فأما قوله تعالى «3»: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن [البقرة/ 236] فقد يكون من «4» مثل قوله: ذوقوا مس سقر وقد لا يكون مسّا، ولكن ما يكون في حكم المسّ، وهو الخلوة بها في قول عمر وعلي رضي الله عنهما.
وحجة من قرأ «5»: لمستم أن هذا المعنى جاء في التنزيل في غير موضع على فعلتم، وذلك قوله: ولم يمسسني بشر [مريم/ 20] ولم يطمثهن إنس [الرحمن/ 56]. وحجّة من قرأ: لامستم أنّ فاعل قد جاء في معنى فعل، نحو عاقبته، وطارقت النعل. وقال أبو عبيدة اللماس «6» النكاح «7».

[النساء: 58]
اختلفوا في [قوله تعالى] «8» نعما [النساء/ 58] وقد ذكرته في سورة «9» البقرة. [الآية/ 271].
__________
(1) لم نعثر على قائله.
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت من (م).
(5) في (ط): قال.
(6) في (م): اللمس.
(7) مجاز القرآن 1/ 128.
(8) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(9) سقطت من (ط).

(3/166)


[النساء: 66]
اختلفوا في كسر النون وضمها من قوله [جلّ وعز] «1»:
أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا [النساء/ 66] وكسر الواو وضمها.
فروى نصر بن علي الجهضميّ عن أبيه عن أبي عمرو: أن اقتلوا بالكسر أو اخرجوا [مضمومة الواو] «2» مثل قول اليزيدي.
وقرأ ابن عامر وابن كثير ونافع والكسائي: أن اقتلوا أو اخرجوا بالضم فيهما. وقرأ عاصم وحمزة: أن اقتلوا أو اخرجوا كلاهما كسرا «3».
قال أبو علي: أما فصل أبي عمرو بين الواو والنون، وكسره النون في أن اقتلوا وضمّه الواو في أو اخرجوا: فلأنّ الضم في الواو أحسن لأنّها تشبه واو الضمير، والجمهور في واو الضمير على الضم، نحو: ولا تنسوا الفضل بينكم [البقرة/ 237] والنون إنّما ضمّت «4» لأنّها مكان الهمزة التي ضمت لضم الحرف الثالث، فجعلت بمنزلتها، وإن كانت منفصلة، وفي الواو هذا المعنى، والمعنى الآخر الذي ذكرنا من «5» مشابهة واو الضمير. والضمّ في سائر هذه أحسن، لأنّها في موضع الهمزة. قال أبو الحسن:
وهي لغة حسنة، وهي أكثر في الكلام وأقيس. ووجه قول من كسر
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): بالضم.
(3) السبعة 224.
(4) في (ط): تضم.
(5) في (ط): في.

(3/167)


أنّ هذه الحروف منفصلة في «1» الفعل المضموم الثالث، والهمزة متّصلة «2» بها، فلم يجروا المنفصل مجرى المتصل. وما أجروه من المنفصل في «3» كلامهم مجرى
المتصل أكثر من أن يقتصّ.
قال: وكلهم قرأ: ما فعلوه إلا قليل منهم [النساء/ 66] رفعا، إلّا ابن عامر فإنّه قرأ: إلا قليلا منهم* نصبا، وكذلك هي في مصاحفهم «4».
قال أبو علي: الوجه في «5» قولهم: ما أتاني أحد إلّا زيد، الرفع، وهو الأكثر الأشيع في الاستعمال، والأقيس، فقوّته من جهة القياس أنّ معنى: ما أتاني أحد إلّا زيد، وما: أتاني إلّا زيد؛ واحد فكما اتفقوا على: ما أتاني إلّا زيد، على الرفع، وكان: ما أتاني أحد إلّا زيد، بمنزلته ومعناه «6»، اختاروا الرفع مع ذكر أحد، وأجروا ذلك على «يذر» و «يدع» في أنّ «يذر» لما كان في معنى «يدع» فتح، وإن لم يكن فيه حرف حلق. ومما يقوي ذلك أنّهم في الكلام وأكثر «7» الاستعمال يقولون: ما جاءني إلّا امرأة، فيذكّرون حملا على المعنى، ولا يؤنّثون ذلك فيما زعم أبو الحسن «8» إلّا في الشعر قال:
__________
(1) في (ط): من.
(2) في (م): فمتّصلة: وهي تحريف.
(3) في (ط): من.
(4) السبعة: 235.
(5) في (ط): من.
(6) في (ط): وبمعناه.
(7) في (ط): زيادة «في» بعد «أكثر».
(8) في (ط): «الخليل» مكان أبو الحسن.

(3/168)


برى النّخر والأجرال ما في غروضها فما بقيت إلّا الضّلوع الجراشع «1» فكما أجروه على المعنى في قوله، فلم يلحقوا الفعل علامة التأنيث، كذلك أجروه عليه في نحو: ما جاءني أحد إلّا زيد، فرفعوا الاسم الواقع بعد حرف الاستثناء.
وأمّا من نصب فقال: ما جاءني أحد إلّا زيدا، فإنّه جعل النفي بمنزلة الإيجاب، وذلك: أن قوله: ما جاءني أحد، كلام تام. كما أنّ: جاءني القوم، كذلك، فنصب مع النفي، كما نصب مع الإيجاب من حيث اجتمعا في أن كلّ واحد منهما كلام تام. فأمّا قوله [جلّ وعزّ] «2»: ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك [هود/ 81] فإذا جعلت قوله تعالى: امرأتك مستثنى من: لا يلتفت منكم أحد؛ كان فيه الوجهان: الرفع والنصب، والوجه الرفع. ومن قال: ما فعلوه إلا قليل؛ فقياس قوله في هذه الرفع.
وإن جعلت الاستثناء من قوله: فأسر بأهلك لم يكن إلّا النصب.
قال سيبويه: ومن قال: أقول: ما أتاني القوم إلّا أباك، لأنّه بمنزلة
__________
(1) البيت الذي الرمة من قصيدة في ديوانه 3/ 1296 والمحتسب 2/ 207 وابن يعيش 2/ 87 والعيني 2/ 477 وجاء في الديوان برواية:
طوى النحز والأجراز ما في غروضها ... فما بقيت إلّا الصدور الجراشع
والنحز (بالنون والزاي): ضرب الأعقاب والاستحثاث في السير: وهو أن يحرك عقبيه، ويضرب بهما موضع عقبي الراكب. والأجرال: جمع جرل، وهو المكان الصلب الغليظ. والأجراز: الأمحال والواحد: جرز ومحل.
والغروض: الواحد غرض، وهو حزام الرحل. والجرشع واحد الجراشع:
وهو المنتفخ الجنبين.
(2) سقطت من (ط).

(3/169)


قولي: أتاني القوم إلّا أباك، فإنّه ينبغي له أن يقول: ما فعلوه إلا قليل منهم. وحدّثني يونس أنّ أبا عمرو كان يقول: الوجه: ما أتاني القوم إلّا عبد الله. ولو كان هذا بمنزلة قوله: أتاني القوم؛ لما جاز أن يقول: ما أتاني أحد، كما أنّه لا يجوز أن يقول: أتاني أحد، ولكن المستثنى في هذا الموضع بدل من الاسم الأوّل، ولو كان من قبل الجماعة لما قلت: ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم [النور/ 6] «1».
قال أبو عمر «2»: قوله: ولو كان هذا من قبل الجماعة لما قلت: ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم يعني: أن قوما يقولون:
إذا أخرجت واحدا من جماعة، أو قليلا من كثير فهو نصب، إن كان ما قبله نفيا أو إيجابا، وهذا خطأ.
قال أبو عمر: وإذا قلت: ما أتاني أحد إلّا زيد، فهي نفي الناس كلّهم لأنّ أحدا جماعة، فكان ينبغي في قياس قولهم أن يقولوا: ما أتاني أحد إلّا زيدا فينصبوا «3».

[النساء: 73]
واختلفوا «4» في الياء والتاء من قوله [جلّ وعزّ] «5» كأن لم تكن بينكم وبينه مودة [النساء/ 73].
فقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص والمفضّل: كأن لم تكن بالتاء.
__________
(1) انتهى نقله عن الكتاب 1/ 360: باب ما يكون استثناء بإلا.
(2) سقطت من (ط).
(3) في هامش (م) عبارة: بلغت والحمد لله وحده.
(4) في (ط): اختلفوا.
(5) سقطت من (ط).

(3/170)


وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي: يكن* بالياء «1».
قال أبو علي: من قرأ بالتاء، فلأنّ الفاعل المسند إليه الفعل مؤنّث في اللفظ ومن قرأ بالياء، فلأنّ التأنيث ليس بحقيقي، وحسّن التذكير الفصل الواقع بين الفعل والفاعل. ومثل التذكير قوله: وأخذ الذين ظلموا الصيحة [هود/ 67] وقوله: فمن جاءه موعظة من ربه [البقرة/ 275] وفي أخرى: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم [يونس/ 57] فكلا الأمرين قد جاء التنزيل به. وقوله جلّ وعزّ: كأن لم يكن بينكم وبينه مودة «2» اعتراض بين المفعول وفعله، فكما أنّ قوله: قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا [النساء/ 72] في موضع نصب، كذلك قوله: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما في موضع نصب بقوله: ليقولن واتصاله إنّما هو بقوله: قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا .. كأن لم تكن بينكم وبينه مودة «3» أي: لا يعاضدكم على قتال عدوّكم، ولا يرعى الذمام الذي بينكم.

[النساء: 77]
اختلفوا في الياء والتاء من قوله [جلّ وعز] «4»: ولا يظلمون* [النساء/ 77].
__________
(1) السبعة: 235.
(2) سقطت من (ط).
(3) تمام الآية 73 مع ما قبلها: وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا. ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما.
(4) سقطت من (ط).

(3/171)


فقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي: ولا يظلمون* بالياء «1».
وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم: تظلمون بالتاء.

[النساء: 49]
قال: ولم يختلفوا في قوله: يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا [النساء/ 49] [أنّه بالياء] «2».
قال أبو علي: من قرأ: ولا يظلمون فتيلا* بالياء، فلما تقدّم من ذكر الغيبة، وهو قوله: ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم ... ولا تظلمون.
ومن قرأ بالتاء فكأنّه ضمّ إليهم في الخطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم «3» والمسلمين «4»، فغلّب الخطاب على الغيبة، والمعنى: أنّكم أيها المسلمون ما تفعلون «5» من خير يوفّ إليكم، ويجازى «6» من أمر بالقتال فتثبط «7» عنه، بعد أن كان «8» كتب عليه. ويؤكّد التاء قوله «9»: قل متاع الدنيا قليل [النساء/ 77] وما في قل من الخطاب. وأمّا قوله: بل الله يزكي من يشاء [النساء/ 49] ففي يزكي ضمير الغيبة ولا يظلمون بالياء لأنّه إذا كان لمن يشاء فهو للغيبة.

[النساء: 81]
واختلفوا في إدغام التاء وإظهارها من قوله [جلّ وعز] «10»:
بيت طائفة [النساء/ 81].
__________
(1) أسقط «السبعة» ابن عامر في قراءة الياء، وأثبته في قراءة التاء.
(2) تتمة من السبعة ص 235.
(3) سقطت «وسلم» من (ط).
(4) في (م): والمسلمون.
(5) في (م): ما تفعلونه. وهو خطأ.
(6) في (ط): يجازي.
(7) في (م): فثبط.
(8) سقطت من (ط).
(9) سقطت من (ط).
(10) سقطت من (ط).

(3/172)


فقرأ أبو عمرو وحمزة: بيت طائفة مدغما. وقرأ الباقون «1»: بيت طائفة بنصب التاء «2».
[قال أبو علي] «3»: وجه الإدغام: أن الطاء والتاء والدال من حيّز واحد، فالتقارب الذي بينهما يجريهما مجرى المثلين في الإدغام. ومما يحسّن الإدغام أنّ الطاء تزيد على التاء بالإطباق، فحسن إدغام الأنقص صوتا من الحروف في الأزيد، بحسب قبح إدغام الأزيد في الأنقص، ألا ترى أنّ الضاد لا تدغم في مقاربها، ويدغم مقاربها فيها وكذلك الصاد والسين والزاي لا تدغم في مقاربها، ويدغم مقاربها فيها، ويدغم بعضها في بعض.
ومن بيّن فقال: بيت طائفة فلانفصال الحرفين واختلاف المخرجين.

[النساء: 94]
اختلفوا «4» في الثاء والنون «5» من قوله [جلّ وعز] «6».
: فتثبتوا [النساء/ 94].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر:
فتبينوا بالنون «7»، وكذلك في الحجرات [الآية/ 6].
وقرأ حمزة والكسائي: فتثبتوا بالتاء «8» وكذلك في الحجرات «9».
__________
(1) فصلهم في السبعة وهم: ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر والكسائي.
(2) السبعة 235.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): واختلفوا.
(5) في السبعة: واختلفوا في التاء والثاء والياء والنون.
(6) ما بين المعقوفين سقط من (ط).
(7) في السبعة: بالياء والنون.
(8) في السبعة: بالثاء والتاء.
(9) السبعة ص 236.

(3/173)


[قال أبو علي]: «1» حجة من قال «2»: تثبتوا: أن التثبّت هو خلاف الإقدام، والمراد التأنّي، وخلاف التقدّم، والتثبّت أشد اختصاصا بهذا الموضع. ومما يبين ذلك قوله: وأشد تثبيتا [النساء/ 66] أي: أشدّ وقفا لهم عما وعظوا بأن لا يقدموا عليه.
ومما يقوّي ذلك قولهم: تثبّت في أمرك. ولا يكاد يقال في هذا المعنى: تبيّن.
ومن قرأ: فتبينوا فحجته أنّ التبيّن ليس وراءه شيء، وقد يكون تبينت أشدّ من تثبّت، وقد جاء
أنّ التبيّن من الله، والعجلة من الشيطان
«3»» فمقابلة «4» التبيّن بالعجلة دلالة «5» على تقارب التثبت والتبيّن وقد «6» قال الأعشى:
كما راشد تجدنّ امرأ* تبيّن ثمّ ارعوى أو قدم «7»
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): قرأ.
(3) الحديث رواه الترمذي في البرّ برقم 2013 وبلفظ: «الأناة» بدل «التبين» وقال: هذا حديث غريب، وقد تكلّم بعض أهل الحديث في عبد المهيمن بن عباس بن سهل (وهو أحد رواة الحديث) وضعفه من قبل حفظه ورواه السيوطي في الجامع الصغير عن البيهقي في شعب الإيمان وأشار إلى ضعفه 3/ 277 ورواه بلفظ «التأني» ورواه الطبري في تفسيره 26/ 124 عن قتادة بلفظ المؤلف. وفسّر ابن الأنباري التبيّن في الحديث بالتثبّت. النهاية لابن الأثير (1/ 175).
(4) في (ط): فتقابل.
(5) في (ط): دالة.
(6) سقطت من (ط).
(7) ديوانه ص 35 من قصيدة في مدح قيس بن معدي كرب. وفيه: ثم انتهى، بدل: ثم ارعوى.

(3/174)


فاستعمل التبين في الموضع الذي يقف فيه ناظرا في الشيء حتى يقدم عليه أو يرتدع عنه. فالتبين على هذا أولى من التثبت، وقال في موضع الزجر والنهي والتوقف:
أزيد مناة توعد يا بن تيم ... تبيّن أين تاه بك الوعيد
«1»

[النساء: 94]
اختلفوا «2» في إدخال الألف وإخراجها من قوله [جلّ وعز] «3»: ألقى إليكم السلام [النساء/ 94].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية يحيى بن آدم عن أبي بكر، وحفص عن عاصم والكسائي: السلام بألف «4».
وروى قنبل والبزّيّ ومطرّف بن معقل الشّقريّ عن ابن كثير، وحكيم عن شبل «5» عن ابن كثير (السلام) بألف.
وروى محمد بن صالح عن شبل عن ابن كثير السلم* بغير ألف. وروى عبيد بن عقيل عن شبل عن ابن كثير: ألقى إليكم السلم بغير ألف.
__________
(1) لم نعثر على قائله.
(2) في (ط): واختلفوا.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط) بالألف، كما في السبعة.
(5) شبل بن عباد أبو داود المكي مقرئ مكة، ثقة ضابط هو أجل أصحاب ابن كثير مولده سنة سبعين، وعرض على ابن محيصن وعبد الله بن كثير وهو الذي خلفه في القراءة. روى عنه القراءة. عبيد بن عقيل وعلي بن نصر ومحمد بن صالح المري ... (طبقات القراء 1/ 323).

(3/175)


قال عبيد: وهم يقرءون كلّ شيء في القرآن من الاستسلام بغير ألف.
وروى علي بن نصر «1» عن أبان «2» عن عاصم إليكم السلام بألف.
[حدّثنا أحمد قال] «3» حدّثني الحسين بن علي بن مالك قال: حدّثنا أحمد بن صالح قال: حدّثنا حرميّ «4» عن أبان عن عاصم، وحدثني موسى بن هارون عن شيبان عن أبان عن عاصم ألقى إليكم السلم بالكسر وتسكين اللام. المفضّل عن عاصم:
السلم* مثل حمزة.
وقرأ نافع وابن عامر وحمزة: السلم* بغير ألف «5».
قال أبو علي: من قرأ: السلام احتمل ضربين:
أحدهما: أن يكون السلام الذي هو تحيّة المسلمين، أي:
لا تقولوا لمن حيّاكم هذه «6» التحيّة: إنّما قالها تعوّذا «7»، فتقدموا
__________
(1) في (ط) نصير. وهو علي بن نصر الجهضمي، سبقت ترجمته.
(2) أبان بن يزيد بن أحمد أبو يزيد البصري العطار النحوي، ثقة صالح، قرأ على عاصم، وروى الحروف عن قتادة بن دعامة، روى القراءة عنه بكّار بن عبد الله العودي وحرمي بن عمارة، وعلي بن نصر وغيرهم (طبقات القراء 1/ 4).
(3) سقطت من (ط).
(4) حرميّ بن عمارة بن أبي حفصة أبو روح البصري الأزدي، روى القراءة عن أبان العطار، وروى عنه الحروف أحمد بن صالح (طبقات القراء 1/ 203).
(5) السبعة 236 مع اختلاف يسير في التقديم والتأخير.
(6) في (ط): بهذه.
(7) في (ط): متعوّذا.

(3/176)


عليه بالسيف، ولكن كفّوا عنه، واقبلوا منه ما أظهره من ذلك وارفعوا عنه السيف.
والآخر: أن يكون المعنى: لا تقولوا لمن اعتزلكم، وكفّوا أيديهم عنكم، ولم «1» يقاتلوكم: لست مؤمنا.
قال أبو الحسن: يقولون: إنّما فلان سلام إذا كان لا يخالط أحدا، فكأنّ المعنى: لا تقولوا لمن اعتزلكم، ولم يخالطكم في القتال: لست مؤمنا. ومن قال: السلم* أراد الانقياد والاستسلام إلى المسلمين، ومنه قوله تعالى «2»: وألقوا إلى الله يومئذ السلم [النحل/ 87] أي: استسلموا لأمره، ولما يراد منهم، ولم يكن لهم من ذلك محيص ومنه قوله: ورجلا سلما لرجل [الزمر/ 29] أي: منقاد له غير مخالف عليه ولا متشاكس. ومن قال: السلم* بكسر السين وسكون اللام، فمعناه: الإسلام.
والإسلام: مصدر أسلم، أي: صار سلما، وخرج عن أن «3» يكون حربا.
قال الشاعر «4»:
فإن السّلم زائدة نوالا ... وإنّ نوى المحارب لا تئوب
وقال آخر «5»:
تبين صلاة الحرب منّا ومنهم ... إذا ما التقينا والمسالم بادن
__________
(1) في (ط): فلم.
(2) سقطت من (ط).
(3) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(4) لم نعثر على قائله.
(5) البيت للمعطل الهذلي وقد سبق في 2/ 322 عند آية البقرة/ 208.

(3/177)


فالمسالم: خلاف المحارب. وقال تعالى «1»: ادخلوا في السلم كافة [البقرة/ 208] والسّلم: الصلح، وقد يفتح فيقال:
السّلم، ومنه قوله سبحانه «2»: فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ... [محمد/ 35]. أي: لا تدعو إلى الصلح والمكافّة، ولكن قاوموهم وقاتلوهم، تعلوا عليهم وتعل كلمتكم.
ولا يجوز أن يكون المراد فيمن قرأ هذه الآية السلم*:
الصلح، ولكن الإسلام كقوله: ادخلوا في السلم [البقرة/ 208] ألا ترى أنّ الحربي إذا حاول من المسلم الصلح كان له الخيار في «3» قتاله ومصالحته، وإذا أظهر له الإسلام لم يجز قتاله.
والمعنى في الآية: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم الإسلام لست مسلما. والسّلم الذي «4» هو: الصلح، تفتح فاؤه وتكسر، ويؤنّث ويذكّر، قال تعالى «5»: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها [الأنفال/ 61].

[النساء: 95]
اختلفوا في رفع الراء ونصبها من قوله [جلّ وعز] «6»:
غير أولي الضرر [النساء/ 95].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة غير أولي الضرر برفع الراء.
__________
(1) سقطت من (ط) وقد سبق الكلام على الآية في 2/ 292.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (م): وضعت كلمة «بين قتاله» على الهامش.
(4) سقطت من (ط).
(5) سقطت من (م).
(6) سقطت من (ط).

(3/178)


[حدّثنا أحمد قال] «1»: حدّثني الصّوفي الحسين بن بشر «2» قال: حدثنا روح بن عبد المؤمن «3» قال: حدثنا محمد بن صالح عن شبل عن ابن كثير أنّه قرأ: غير أولي الضرر بنصب الراء.
وقرأ نافع وابن عامر والكسائي: غير أولي* بنصب الراء «4».
قال أبو علي: من رفع الراء جعل غير صفة للقاعدين عند سيبويه، وكذلك من قال: صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب [الفاتحة/ 7] فجرّ «5» غير* كان عنده أيضا صفة، ومثل ذلك قول لبيد:
وإذا جوزيت قرضا فاجزه ... إنّما يجزي الفتى غير الجمل
«6»
__________
(1) ما بين المعقوفين ساقط من (ط).
(2) الحسين بن بشر بن معروف أبو الحسين الطبري الريشي، يعرف بالصوفي، روى القراءة عن روح بن عبد المؤمن، روى عنه أبو بكر بن مجاهد (طبقات القراء 1/ 279).
(3) روح بن عبد المؤمن أبو الحسن الهذلي البصري النحوي: مقرئ جليل ثقة ضابط مشهور، عرض على يعقوب الحضرمي، وهو من جلة أصحابه وروى الحروف عن أحمد بن موسى، ومعاذ بن معاذ، ومحبوب ومحمد بن صالح المري وغيرهم، روى عنه البخاري في صحيحه. مات سنة أربع أو خمس وثلاثين ومائتين (طبقات القراء 1/ 285).
(4) في (ط): «نصبا». السبعة: 237.
(5) في (ط) بجرّ.
(6) سبق البيت في 2/ 186 قال الأعلم (طرة سيبويه 1/ 370): الشاهد فيه:
نعت الفتى، وهو معرفة، بغير وإن كان نكرة، والذي سوغ هذا أنّ التعريف بالألف واللام يكون للجنس فلا يخص واحدا بعينه فهو مقارب للنكرة، وإن غيرا مضافة إلى معرفة فقاربت المعارف لذلك، وإن كانت نكرة فجرت على

(3/179)


فغير صفة للفتى. ومثله في «إلّا» في «1» قول الشاعر:
لو كان غيري سليمى اليوم غيّره ... وقع الحوادث إلّا الصارم الذّكر
«2» كأنه قال: لو كان غيري غير الصارم الذّكر، غيّره «3» وقع الحوادث، قال: والمعنى: أنّ الصارم الذكر لا يغيره شيء «4».
ومن نصب غيرا جعله استثناء من القاعدين. قال أبو الحسن: وبها نقرأ. قال: وبلغنا أنّها نزلت من بعد قوله: لا يستوي القاعدون، ولم تنزل معها؛ استثني بها قوم لم يقدروا على الخروج. والقاعدون مرتفع بقوله: يستوي ويستوي هذا يقتضي فاعلين فصاعدا.
وقوله: والمجاهدون معطوف عليه التقدير: لا يستوي القاعدون إلّا أولي الضرر والمجاهدون.

[النساء: 114]
واختلفوا «5» في الياء والنون من قوله تعالى «6»: فسوف نؤتيه [النساء/ 114].
__________
الأول لذلك. يقول: ينبغي لمن أقرض قرضا وأحسن إليه أن يجزي عليه ولا يكفر النعمة، فيكون كالبهيمة لا تعرف الإحسان ولا تجازي به. اهـ.
(1) سقطت من (ط).
(2) البيت للبيد بن ربيعة وهو في ديوانه/ 57، والأشموني 2/ 156، قال الأعلم:
الشاهد فيه جري إلّا وما بعدها على غير نعتا لها. والمعنى: إن وقع الدهر لا يغيره كما لا يغير الصارم الذكر. وهو الماضي من السيوف، والذكر والمذكر:
الحديد الذي ليس بأنيث. (طرة الكتاب 1/ 370).
(3) في سيبويه: لغيره.
(4) انتهى نقله عن الكتاب 1/ 370 باب ما يكون فيه إلّا وما بعده وصفا بمنزلة مثل وغير.
(5) في (ط): اختلفوا.
(6) سقطت من (ط).

(3/180)


فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «1» والكسائيّ فسوف نؤتيه بالنون.
وقرأ أبو عمرو وحمزة: يؤتيه* بالياء «2».
قال أبو علي: من قرأ بالياء فلقوله: ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف يؤتيه ومن قرأ: نؤتيه فهو مثل يؤتيه* في المعنى.

[النساء: 124]
اختلفوا في ضمّ الياء وفتحها من قوله [جلّ وعز]: «3»:
يدخلون الجنة [النساء/ 124] فقرأ ابن كثير: يدخلون الجنة*، في ثلاثة مواضع: في النساء، وفي مريم [60]، وفي المؤمن «4» [40]، ورابعا فيه سين، وهو «5» قوله تعالى «6»:
سيدخلون جهنم [غافر/ 60].
وروى مطرّف الشّقري عن معروف بن مشكان «7» عن ابن كثير أنّه ضمّ الحرف الذي في سورة الملائكة «8»: جنات عدن
__________
(1) سقطت ابن عامر من (م). وهي في السبعة و (ط).
(2) السبعة 237.
(3) سقطت من (ط).
(4) وتسمى سورة غافر.
(5) في (ط): فهو.
(6) سقطت من (ط).
(7) معروف به مشكان أبو الوليد المكي مقرئ مكة مع شبل ولد سنة مائة، وهو من أبناء الفرس الذين بعثهم كسرى في السفن لطرد الحبشة من اليمن، أخذ القراءة عرضا عن ابن كثير وهو أحد الذين خلفوه في القيام بها بمكة روى عنه القراءة عرضا إسماعيل القسط، وسمع منه الحروف مطرف النهدي وحماد بن زيد. مات سنة خمس وستين ومائة (طبقات القراء 2/ 303، 304).
(8) وهي سورة فاطر أيضا.

(3/181)


يدخلونها [33] ولم يأت بها «1» مضموما عن ابن كثير غيره.
وقرأ عاصم في رواية أبي هشام عن يحيى وابن عطارد عن أبي بكر مثل ابن كثير في الملائكة. وأما خلف ومحمد بن المنذر وأحمد بن عمر الوكيعي فرووا عن يحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم: بفتح الياء في يدخلون الجنة في المؤمن. وقال خلف عن يحيى سمعت أبا بكر وقد سئل عنها، فقال: سيدخلون بفتح الياء.
وقرأ أبو عمرو في النساء، وفي مريم، وفي الملائكة، وفي المؤمن: يدخلون الجنة بضم الياء، وفتح الياء من سيدخلون جهنم داخرين.
وروى حفص عن عاصم أنّه كان يفتحهن كلّهنّ. وروى الكسائي عن أبي بكر وخلاد عن حسين الجعفيّ عن أبي بكر عن عاصم أنّه فتحهنّ كلّهنّ مثل حفص.
وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي بفتح الياء فيهنّ كلّهنّ «2» ..
[قال أبو علي] «3»: حجّة من قال: يدخلون قوله:
ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون [الزخرف/ 70] ادخلوها بسلام آمنين [الحجر/ 46] قيل ادخل الجنة [يس/ 26].
ومن قال: يدخلون فلأنّهم لا يدخلونها حتى يدخلوها.
__________
(1) في (ط): به.
(2) السبعة 237 - 238.
(3) سقطت من (ط).

(3/182)


[النساء: 128]
اختلفوا «1» في ضمّ الياء والتخفيف، وفتحها والتشديد من قوله «2»: أن يصالحا [النساء/ 128].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: يصالحا بفتح الياء والتشديد.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: أن يصلحا بضم الياء والتخفيف «3».
قال أبو علي: من قال: فلا جناح عليهما أن يصالحا؛ فوجهه أنّ الأعرف في استعمال «4» هذا النحو: تصالحا. ويبين ذلك أنّ سيبويه زعم أنّ هارون حدّثهم أنّ بعضهم قرأ: فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا «5»، فيصّلحا: يفتعلا، وافتعل وتفاعل بمعنى، ولذلك صحّت الواو في: اجتوروا، واعتونوا، واعتوروا، لمّا كان بمعنى: تجاوروا، وتعاونوا، وتعاوروا، فهذه حجة لمن قرأ أن يصالحا، وكذلك زعموا «6» في حرف عبد الله:
فلا جناح عليهما إن اصّالحا.
ومن قرأ: يصلحا، فإنّ الإصلاح عند التنازع والتشاجر أيضا قد استعمل كما استعمل تصالح، قال: فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم [البقرة/ 182] وقال: إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس [النساء/ 114]
__________
(1) في (ط): واختلفوا.
(2) في (م): زيادة: جلّ وعز إلّا. وكلمة إلّا ليست في آية النساء المذكورة.
(3) السبعة 238.
(4) في (ط): الاستعمال.
(5) سيبويه 2/ 421.
(6) زادت (م) «أن» بعد زعموا.

(3/183)


وليس الصلح على واحد من الفعلين، فيجوز أن يكون اسما مثل:
العطاء والعطية من أعطى، والكرامة من أكرم، فمن قرأ: يصلحا كان تعدّي الفعل إليه كتعدّيه إلى الأسماء، كقولك: أصلحت ثوبا. فإن قلت: فمن قرأ: تفاعل، فما وجهه، وتفاعل لا يتعدّى كما تعدّى أفعل؟ قيل: إن تفاعل قد جاء متعديا في نحو قول ذي الرّمّة:
ومن جردة غفل بساط تحاسنت ... به الوشي قرّات الرّياح وخورها
«1» ويجوز فيه أن يكون مصدرا حذفت زوائده، كما قال:.
وإن يهلك فذلك كان قدري «2» أي: تقديري: ويجوز أيضا أن يكون وضع المصدر موضع الاسم كما وضع الاسم في «3» موضع المصدر في نحو قوله «3»:
باكرت حاجتها الدّجاج ... «5»
وقوله:
وبعد عطائك المائة الرّتاعا «6»
__________
(1) البيت من قصيدة في ديوانه 1/ 232 والمعاني الكبير 1192، وفيه: «بها» بدل «به» قال شارح الديوان: الجردة من الرمل: بمعنى الجرداء، وغفل: ليس بها علم، بساط: واسعة مستوية، قرّات الرّياح: بواردها، وخورها: أراد خور الرياح وهو: ما لان منها، ولم يكن فيه برده. قال ابن قتيبة: شبه آثار الرياح بالوشي.
(2) هذا عجز بيت ليزيد بن سنان وقد سبق انظر 2/ 132، 277.
(3) سقطت من (ط).
(5) قطعة من بيت للبيد سبق في 1/ 182.
(6) هذا عجز بيت للقطامي سبق انظر 1/ 182، 2/ 288.

(3/184)


[النساء: 135]
واختلفوا في إسقاط الواو وإثباتها، وضمّ اللام، وإسكانها من قوله [جلّ وعز] «1»: وإن تلووا [النساء/ 135].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم والكسائي: تلووا بواوين الأولى مضمومة، واللام ساكنة.
وقرأ حمزة وابن عامر: تلوا بواو واحدة، واللام مضمومة «2».
[قال أبو علي] «1»: حجة من قال: تلووا أنّه «4» قيل: إنّ ابن عباس فسّره بأنّه: القاضي يكون ليّه وإعراضه لأحد الخصمين على الآخر.
وحجة من قال: تلوا بواو واحدة أن يقول: إن تلوا في هذا الموضع حسن، لأنّ ولاية الشيء. إقبال عليه، وخلاف الإعراض عنه، فالمعنى: إن تقبلوا أو تعرضوا، فلا تلوا، فإن الله كان بما تعملون خبيرا، فيجازي المحسن المقبل بإحسانه، والمسيء المعرض بإعراضه وتركه الإقبال على ما يلزمه أن يقبل عليه، ويقول: لو قرأت: وإن تلووا أو تعرضوا؛ لكان كالتكرير، لأنّ اللّيّ مثل الإعراض، ألا ترى أنّ قوله: لووا رؤسهم ورأيتهم يصدون [المنافقون/ 5] إنّما هو إعراض منهم وترك انقياد «5» للحق، وكذلك ليا بألسنتهم [النساء/ 46] إنّما هو انحراف وأخذ فيما لا ينبغي أن يأخذوا فيه، فإذا كان كذلك كان كالتكرير، وإذا قلنا: تلوا فقد ذكرنا الإعراض وخلافه.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) السبعة 239.
(4) في (ط): فقد بدل أنه.
(5) في (ط): إعراض عنهم وترك الانقياد.

(3/185)


ومن حجة من قال «1»: تلووا بواوين من لوى أن يقول: ما ذكرتم أنّ الدلالة وقعت عليه في قراءتكم تلوا بواو واحدة وقد فهم بما تقدم من قوله: فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا فيستغنى به، ولا ينكر أن يتكرر اللفظان لمعنى واحد نحو قوله: فسجد الملائكة كلهم أجمعون [الحجر/ 30] ونحو قوله:
وهند أتى من دونها النّأي والبعد «2» وقوله:
وألفى قولها كذبا ومينا «3» وقد قيل: إن تلوا يجوز أن يكون تلووا، وأن الواو التي هي عين همزت لانضمامها كما همزت في أدؤر، وألقيت حركة الهمزة على اللام التي هي فاء.

[النساء: 136]
اختلفوا في فتح النون والألف من قوله تعالى «4»: والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل [النساء/ 136] وضمّها.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو، وابن عامر: الذي نزل على
__________
(1) في (ط): قرأ.
(2) عجز بيت للحطيئة وصدره:
ألا حبذا هند وأرض بها هند انظر ديوانه/ 140، وابن الشجري 2/ 36، وابن يعيش 1/ 10، 70.
(3) هذا عجز بيت من قصيدة لعدي بن زيد وصدره:
وقدمت الأديم لراهشيه وهو من شواهد مغني اللبيب انظر شرح أبياته 6/ 97 والدرر 2/ 167 واللسان (مين).
(4) سقطت من (ط).

(3/186)


رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل مضمومتين.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي: الذي نزل ....
والكتاب الذي أنزل مفتوحتين. وروى الكسائي عن أبي بكر عن عاصم مثل قراءة أبي عمرو بالضم «1».
[قال أبو علي] «2»: حجّة من قال: الذي نزل: قوله تعالى: لتبين للناس ما نزل إليهم، [النحل/ 44] وقوله: تنزيل الكتاب من الله [الزمر/ 1] فأضيف المصدر إلى المفعول به، والكتاب على هذا منزّل.
وحجّتهم في قوله: والكتاب الذي أنزل قوله: والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق [الأنعام/ 114].
وحجة من قرأ: نزل قوله «3»: إنا نحن نزلنا الذكر [الحجر/ 9] وحجّتهم في قوله: والكتاب الذي أنزل من قبل [النساء/ 136] قوله «4»: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس [النحل/ 44].

[النساء: 140]
قال: وكلهم قرأ: وقد نزل عليكم في الكتاب [النساء/ 140] غير عاصم فإنه قرأ: وقد نزل «5».
__________
(1) زادت (ط): وبفتح النون. وليست ضرورية وزاد في السبعة ص 239 قبل كلمة بالضم: في (نزّل).
(2) سقطت من (ط).
(3) زادت (ط): تعالى.
(4) سقطت من (م).
(5) السبعة 239.

(3/187)


قال أبو علي: المنزّل في الكتاب قوله تعالى «1»: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره إلى قوله [جلّ وعز] «2»: الظالمين [الأنعام/ 68].

[النساء: 145]
اختلفوا في فتح الرّاء وإسكانها من قوله تعالى «3»: الدرك «4» [النساء/ 145].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: في الدرك مفتوحة الراء.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: في الدرك ساكنة الراء.
وروى الكسائي وحسين الجعفيّ عن أبي بكر عن عاصم:
في الدرك مثل أبي عمرو «5».
قال أبو عليّ: الدّرك، والدّرك لغتان في الكلمة مثل:
الشّمع والشّمع، والقصص والقصّ «6». ومثله في المعتلّ العيب والعاب، والذّيم والذّام، ولو كان الشمع مسكّنا عن الشمع ولم يكن لغة فيه، لم يجز أن يسكّن، ألا ترى أنّ مثل جمل وقدم، لا يسكّن كما يسكّن المضموم والمكسور، كما لم يحذف الألف في الفواصل والقوافي، كما حذفت الياء والواو.
حفص عن عاصم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) في حاشية (ط) هنا ما نصه: ابتداء المقابلة من قوله: الدرك.
(5) السبعة: 239.
(6) في (ط): والقص والقصص.

(3/188)


[النساء: 152]
[النساء/ 152] بالياء ولم يكن يقرأ بالياء في هذه السورة غير هذا الحرف.
أبو بكر عن عاصم بالنون.
وقرأ حمزة: أولئك سوف نؤتيهم أجورهم بالنون.
وكذلك قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي بالنون.
وقرأ حمزة وحده: أولئك سيؤتيهم أجرا عظيما [النساء/ 162] بالياء.
وقرأ الباقون هذا الحرف بالنون «1».
حفص عن عاصم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم بالياء «2» حجته في ذلك وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما [النساء/ 146].
حمزة: سوف نؤتيهم أجورهم [النساء/ 152] بالنون.
حجته قوله تعالى «3»: وآتيناه أجره [العنكبوت/ 27] فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم [الحديد/ 27].
حمزة وحده: أولئك سيؤتيهم [النساء/ 152] حجته وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما [النساء/ 146] وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم [النساء/ 173].
__________
(1) السبعة 240.
(2) سقطت من (م).
(3) سقطت من (ط).

(3/189)


[النساء: 154]
اختلفوا في قوله [جلّ وعز] «1» لا تعدوا في السبت.
[النساء/ 154].
فقرأ نافع: تعدوا بتسكين العين وتشديد الدال.
وروى عنه ورش: تعدوا بفتح العين وتشديد الدال.
وكلهم ضمّ الدال، وقرأ الباقون: لا تعدو خفيفة «2».
قال أبو زيد: عدا عليّ اللص أشدّ العدوّ، والعدو والعداء والعدوان، أي: سرقك وظلمك، وعدا الرجل يعدو عدوا في الحضر، وقد عدت عينه عن ذاك أشدّ العدوّ فهي تعدو.
قال أبو علي [ومن قرأ] «3»: لا تعدوا حجته قوله تعالى:
ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت [البقرة/ 65] فجاء في هذه القصّة بعينها: افتعلوا، وقال: ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين [البقرة/ 190].
وأمّا من قال: لا تعدوا على: لا تفعلوا، فحجّتهم قوله تعالى: إذ يعدون في السبت [الأعراف/ 163] في هذه القصة، وقال: فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون [المؤمنون/ 7] وقال: فمن اضطر غير باغ ولا عاد [البقرة/ 173] [النمل/ 115] [الأنعام/ 145] فقوله: ولا عاد يحتمل أمرين: أحدهما أنّه فاعل من عدا يعدو: إذا جاوز، وقد تقول «4»: ما عدوت أن زرتك، أي: ما جاوزت ذلك. وروي عن الحسن: ولا عاد أي: ولا عائد فقلب؛ من عاد إلى الشيء. ويقوي تفسير الحسن ما أثر من
قوله [عليه السلام] «5»: «يجزئ في الضارورة
__________
(1) في (ط): تعالى.
(2) السبعة 240.
(3) سقطت من (م).
(4) في (ط): ويقولون.
(5) زيادة في (ط).

(3/190)


صبوح أو غبوق»
«1» أي: لا يعود إليه لأنّه إذا أكله مرة واحدة «2» لا يخشى معها على نفسه. ومن حجتهم قوله: فلا عدوان إلا على الظالمين [البقرة/ 193] وقوله: فلا عدوان علي [القصص/ 28] فهذا مصدر كالشكران والغفران ومصدر افتعل:
الاعتداء.
فأما قراءة نافع: لا تعدوا فإنه يريد: لا تفتعلوا، فأدغم التاء في الدال لتقاربهما، ولأنّ الدال تزيد على التاء بالجهر. وكثير من النحويين ينكرون الجمع بين الساكنين إذا كان الثاني منهما مدغما، ولم يكن الأول حرف لين، نحو: دابّة، وشابّة، وثمودّ الثوب، وقيلّ لهم، ويقولون: إنّ المدّ يصير عوضا من الحركة. وقد قالوا: ثوب بكر، وجيب بكر فأدغموا، والمدّ الذي فيهما أقلّ من المد «3» الذي يكون فيهما إذا كان حركة ما قبلهما منهما. وساغ فيه وفي نحو: أصيمّ ومديقّ ودويبّة، فإذا جاز ما ذكرنا مع نقصان المدّ الذي فيه، لم يمتنع أن يجمع بين الساكنين «4» في نحو تعدوا، وتخطف، وقد جاء في القراءة، وجاز ذلك لأنّ الساكن الثاني لما كان يرتفع اللسان عنه وعن المدغم فيه ارتفاعة واحدة؛ صار بمنزلة حرف متحرك، يقوي ذلك: أن من العلماء بالعربية من جعل المدغم مع المدغم فيه بمنزلة حرف واحد، وذلك قول يونس في النسب إلى مثنّى:
__________
(1) أورده صاحب النهاية في غريب الحديث مادة (ضرر) 3/ 83 عن سمرة.
وقال: والضارورة: لغة في الضرورة: أي إنّما يحل للمضطر من الميتة أن يأكل منها ما يسد الرّمق غداء أو عشاء وليس له أن يجمع بينهما. وانظر اللسان (ضرر).
(2) سقطت من (ط).
(3) زيادة في (ط).
(4) في (ط): ساكنين.

(3/191)


مثنويّ، جعله بمنزلة ملهويّ، ويقوي ذلك جواز نحو أصيمّ وأنّه قول العرب جميعا مع نقصان المدّ فيه. ويقوّي ذلك أنّهم قد وضعوا موضع حرف لين «1» غيره. وذلك نحو قوله: «2» تعفّف ولا تبتئس فما يقض يأتيكا فحرف المدّ الذي قبل «3» حركة ما قبله منه. وقال «4»:
خليليّ عوجا على رسم دار ... خلت من سليمى ومن ميّه
فحركة ما قبل حرف اللين ليس منه. وقال:
صفيّة قومي ولا تعجزي ... وبكّي النساء على حمزة
«5» فجعل مكان حرف اللين غيره. وقال:
لقد ساءني سعد وصاحب سعد ... وما طلباني دونها بغرامه
«6» [وما كل موت نصحه بلبيب «7»
__________
(1) في (ط): اللين.
(2) لم نعثر على قائله ولا تتمته.
(3) في (ط): فحرف المد والذي قبل كل حركة. وشطب على عبارة: الذي قبل كل.
(4) لم نعثر على قائله.
(5) البيت لكعب بن مالك، وقد سبق في 1/ 73، 212.
(6) البيت في مجالس العلماء للزجاجي 151، أنشده الأصمعي ولم ينسبه.
(7) عجز بيت صدره:
وما كلّ ذي لب بموتيك نصحه وهو في الكتاب 2/ 409 قال الأعلم: الشاهد فيه وقوع الياء ساكنة، وقبلها كسرة لما فيها من المد موقع الحرف المتحرك في إقامة الوزن، ولذلك لزمت هذه الياء حرف الروي وكانت ردفا له لا يجوز في موضعها إلا

(3/192)


مخالف للبيت الأول، لأنّ حرف اللين فيه أطول من البيت الأول .. ] «1».
فإذا كانوا قد جعلوا مواضع حرف اللين غيره في هذه الأشياء التي ذكرنا؛ جاز أن يجعل موضع حرف اللين غيره في هذه المواضع التي قرأت بها القراء، ولم يكن ذلك لحنا وإن كان الوجه الآخر أكثر في الاستعمال، ويقوي ذلك أنّ ما بين حرف اللين وغيره يسير، فلا يتفاوت ذلك من حيث كان الجميع في الوزن واحدا، ألا ترى أنّ الضاد وإن شغلت في خروجها مواضع لتفشّيها واستطالتها بمنزلة النون التي تخرج من الخياشيم في الوزن، فكذلك ما بين حرف اللين الذي ليس ما قبله من جنسه، وبين سائر الحروف التي ليست بليّنة، يسير يحتمل ذلك ولا يتفاوت. ويقوي ذلك ما أنشده سيبويه:
كأنّه بعد كلال الزّاجر ... ومسّح مرّ عقاب كاسر
«2».

[النساء: 163]
قال: قرأ حمزة وحده: وآتينا داود زبورا [النساء/ 163] بضمّ الزاي حيث وقعت «3».
قال أبو علي: القول فيه على وجهين: أحدهما: أن يكون
__________
الواو، إذ كانت في المد بمنزلتها. والمعنى: إن الإنسان قد ينصح من يستغشه، فينبغي للعاقل اللبيب أن يرتاد موضعا مستحقا للنصيحة.
(1) ما بين معقوفتين سقط من (م).
(2) سبق انظر 2/ 397.
ووضع في طرة (ط): يريد: ومسحه فأدغم.
وقد رسمت في (م) ومسحه، على الأصل.
(3) السبعة 240 وزاد بعده: ومثله ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر [الأنبياء 105] وقرأ الباقون: زبورا وفي الزبور مفتوحتين.

(3/193)


جمع زبر فأوقع على المزبور اسم الزبر كقولهم: ضرب الأمير.
ونسج اليمن، كما سمّي المكتوب الكتاب ثمّ جمع الزبر على زبور «1»، وجمعه لوقوعه موقع «2» الأسماء التي ليست بمصادر، كما جمع الكتاب على كتب لمّا استعمل استعمال الأسماء، فقالوا:
زبور. والآخر: أن يكون جمع زبورا بحذف الزيادة على زبور كما قالوا: ظريف وظروف، وكروان وكروان، وورشان وورشان ونحو ذلك مما جمع بحذف الزيادة. ويدل «3» على قوّة هذا الوجه في القياس أن التكسير مثل التصغير، وقد اطّرد هذا الحذف في ترخيم التصغير نحو: أزهر وزهير وحارث، وحريث، وثابت، وثبيت فالجمع مثله في القياس، وإن كان أقلّ منه في الاستعمال.
[آخر الكلام في سورة النساء] «4»
__________
(1) في (ط): الزبور.
(2) في (ط): مع.
(3) في (ط): ويدلك.
(4) ما بين المعقوفتين ساقط من (ط). وفي (ط): سورة المائدة بسم الله الرحمن الرحيم.

(3/194)