الحجة للقراء السبعة

سورة المائدة
[ذكر اختلافهم في سورة المائدة]

[المائدة: 2]
اختلفوا في فتح النون وإسكانها من شنآن [المائدة/ 2].
فقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن كثير: شنآن متحركة النون.
وقرأ ابن عامر: شنان ساكنة النون.
واختلف عن عاصم، فروى عنه أبو بكر شنان ساكنة النون، وروى عنه حفص شنآن متحركة النون.
واختلف عن نافع أيضا فروى عنه إسماعيل بن جعفر، والمسيّبي والواقديّ: شنان ساكنة النون «1». وروى عنه ابن جمّاز والأصمعيّ وورش وقالون: شنآن متحركة النون «2».
قال أبو علي: تأويل لا يجرمنكم: لا يكسبنكم أن تعتدوا.
__________
(1) في (ط) زيادة مقحمة بين إشارتين تعادل سطرا.
(2) السبعة 242 مع اختلاف يسير في العبارة.

(3/195)


فيجرمنّكم: فعل متعد إلى مفعولين، كما أنّ يكسبنكم كذلك.
ويدلّ «1» على ذلك قول الشّاعر في صفة عقاب:
جريمة ناهض في رأس نيق ... ترى لعظام ما جمعت صليبا
«2» وقوله: «جريمة ناهض» يحتمل تقديرين «3»: أحدهما:
جريمة قوت ناهض أي: كاسب «4» قوته، وقد قالوا: ضارب قداح، وضريب قداح، وعارف وعريف. والآخر: أن لا يقدّر حذف المضاف، وتضيف جريمة إلى ناهض، والمعنى كاسب ناهض، كما تقول: بديع «5» كاسب مولاه، تريد: أنّه يسعى «6» له ويردّ عليه. فجرم يستعمل في الكسب وما يردّ سعي الإنسان عليه. وأما أجرم ففي اكتساب الإثم، قال [جلّ وعزّ] «7»: إنا من المجرمين منتقمون [السجدة/ 22].
__________
(1) في (ط) ويدلك.
(2) البيت لأبي خراش الهذلي، وقبله:
كأني إذ عدوا ضمنت بزي ... من العقبان خائنة طلوبا
وهو يذكر عقابا شبه فرسه بها، والمعنى: كأني إذ غدوا للحرب ضمنت بزي، أي سلاحي عقابا، خائنة أي: منقضة، وجريمة: بمعنى كاسبة، والناهض:
فرخها، والنيق: أرفع موضع في الجبل، والصليب: ودك العظام. انظر اللسان (صلب) وانظر ديوان الهذليين 3/ 1205.
(3) في (ط): أمرين.
(4) في (ط): كاسبة.
(5) في (م): بزيع.
(6) في (ط): أي يسعى.
(7) سقطت من (ط).

(3/196)


وقال تعالى «1»: فعلي إجرامي [هود/ 35] والتقدير: فعلي عقوبة إجرامي، أو إثم إجرامي، ومعنى: لا يجرمنكم شنآن قوم: لا تكتسبوا «2» لبغض قوم عدوانا ولا تقترفوه. ومن فتح أن وقع النهي في اللفظ على الشنآن، والمعنيّ بالنهي: المخاطبون، كما قالوا: لا أرينّك هاهنا، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران/ 102]. وكذلك قوله: ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم [هود/ 89] ف أن يصيبكم المفعول الثاني، وأسماء المخاطبين المفعول الأول، كما أنّ المفعول الأول في الآية الأخرى المخاطبون، والثاني قوله: أن تعتدوا ولفظ النهي واقع على الشقاق والمعنيّ بالنهي المخاطبون بها «3».
وقال «4» أبو زيد: شنئت الرجل أشنؤه شنأ، وشنآنا، وشنأ، ومشنأة: إذا أبغضته. ويذهب «5» سيبويه إلى أن ما كان من المصادر على فعلان لم يتعدّ فعله قال «6»: إلّا أن يشذّ شيء نحو: شنأته شنآنا «7». ولا يجوز أن يكون شنأته «8» يراد به حرف الجر والحذف، كما قال سيبويه في فرقته، وحذرته إنّ أصله حذرت منه «9». وذلك
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): لا تكسبوا.
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): قال.
(5) في (ط): وذهب.
(6) سقطت من (ط).
(7) الكتاب 2/ 218.
(8) سقطت من (م).
(9) انظر الكتاب- 2/ 219.

(3/197)


أن اسم الفاعل منه جاء على فاعل نحو شانئ وإن شانئك هو الأبتر [الكوثر/ 3] وقال:
لشانئك الضّراعة والكلول «1» فهذا يقوي أنه مثل: علم يعلم فهو عالم، وشرب يشرب فهو شارب، ونحو ذلك من المتعدي.
ومما يقوي ذلك: أن شنأته في المعنى مثل أبغضت «2»، فلما كان بمعناه عدّي كما عدّي أبغضت، كما أنّ الرفث لما كان بمعنى الإفضاء عدّي بالجار كما عدي الإفضاء به.
ومما يدل على تعدّيه ما حكاه أبو زيد في مصدره في «3» الشّنء والشنء، فالشنء مثل: الشّتم، والشنء مثل الشغل.
وقال سيبويه: وقالوا «4»: لويته «5» حقّه ليّانا، على فعلان «6».
فيجوز على هذا: أن يكون شنآن فيمن أسكن النون مصدرا كاللّيّان، فيكون المعنى: لا يجرمنكم بغض قوم، كما كان التقدير
__________
(1) عجز بيت لساعدة بن جؤية يصف ضبعا وصدره:
ألا قالت أمامة إذ رأتني قال شارحه أبو سعيد: كأنّها قد رأته قد ضرع وكلّ من المرض، فكرهت أن تقول له شيئا، فقالت: «لشانئك الضراعة والكلول» كما تقول: لعدوك البلاء.
والكلول: أن يكل بصره. (شرح أشعار الهذليين 3/ 1142. واللسان:
كلل).
(2) في (ط): أبغضته.
(3) في (ط): من.
(4) في (م): «قالوا».
(5) في (ط) ألويته.
(6) الكتاب 2/ 216.

(3/198)


فيمن فتح كذلك، وقال أبو زيد: رجل شنان وامرأة شنآنة، مصروفان. قال «1»: وقد يقال: رجل شنآن بغير صرف، ولأنك «2» تقول: امرأة شنأى. أبو عبيدة: شنان قوم: بغضاء قوم، وهي متحركة الحروف: مصدر شنئت، وبعضهم يسكن النون الأولى، وأنشد للأحوص:
وما العيش إلّا ما تلذّ وتشتهي ... وإن لام
«3» فيه ذو الشّنان وفنّدا «4» قال أبو عبيدة: وشنئت في موضع آخر معناه: أقررت وبؤت به، وأخرجته وأنشد للعجاج:
زلّ بنو العوّام عن آل الحكم وشنئوا الملك لملك ذي قدم «5» وقال الفرزدق:
ولو كان هذا الأمر في جاهليّة ... شنئت به أو غصّ بالماء شاربه
«6»
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): لأنك.
(3) في (م): عاب.
(4) البيت في ديوان الأحوص ص 58، وطبقات فحول الشعراء 664 والشعر والشعراء 519 وتفسير الطبري 9/ 487 والبحر المحيط 3/ 422 والصحاح واللسان والتاج (شنأ) مع اختلاف في الرواية. والشنان: الشنان، سهل همزته، وسيشير إلى ذلك المصنف موضحا.
(5) ديوانه 1/ 173، واللسان والتاج (شنأ).
(6) ديوانه 1/ 49 واللسان (شنأ) مع اختلاف في الرواية فيهما وفي مجاز القرآن.

(3/199)


انتهى كلام أبي عبيدة «1». [قال أبو علي] «2» وفي قوله «3»:
بعضهم يسكن النون الأولى يدلّ على أنّ الشنان بإسكان النون مصدر كما أن الشنان كذلك.
فأما الشنان على فعلان، فإن فعلان قد جاء مصدرا وجاء وصفا، وهما جميعا قليلان. فممّا جاء فيه فعلان مصدرا ما حكاه سيبويه «4» من قولهم: لويته حقه ليّانا، فيجوز على قياس هذا، وإن لم يكثر أن يكون شنان مثله، في أنّه مصدر على أنّ في قول أبي عبيدة دلالة على أن شنان المسكن العين مصدر. ويجوز أن يكون وصفا على فعلان، وفعلان أيضا في الوصف ليس بالكثير إذا لم يكن له فعلى، فمما جاء من فعلان صفة لا فعلى له ما حكاه سيبويه من قولهم: خمصان، وحكى غيره ندمان قال «5»:
وندمان يزيد الكأس طيبا «6» وأنشد أبو زيد ما ظاهره أن يكون فعلان فيه صفة، وهو:
__________
(1) مجاز القرآن 1/ 147 - 148 مع اختصار يسير.
(2) سقطت من (م).
(3) في (ط): قوله وبعضهم.
(4) سقطت من (ط).
(5) سبق قريبا.
(6) صدر بيت من قصيدة للبرج بن مسهر وعجزه:
سقيت إذا تغوّرت النجوم انظر شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 3/ 1272، والمؤتلف والمختلف للآمدي/ 80 وانظر اللسان (ندم) وهو من أبيات المغني انظر شرحها للبغدادي 2/ 234.

(3/200)


لما استمرّ بها شيحان مبتجح ... بالبين عنك بها يرآك شنانا
«1» ويقرب أن يكون مثل شنان في أنّه فعلان، وإن كان شنآن له مؤنث هو شنأى. فيما حكاه أبو زيد، وليس لشيحان.
فإن قلت: فلم لا يكون شاح يشيح مما «2» يجوز أن يكون منه فعلان له مؤنث على فعلى، كما أنّ عام يعيم، وعيمان كذلك.
فإنّه لا يكون مثله، ألا ترى أن يقول: إنّ قولهم «3» في مصدره:
عيمة، ولحاق علامة التأنيث به صار بدلا من تحريك العين، فجاء فيه فعلان وفعلى، كما جاء فيما كان مصدره على فعل، نحو:
العطش، فمن ثمّ جاء: غرت تغار غيره وغيران وغيرى، وحرت تحار حيرة وحيران وحيرى، وليس شيحان كذلك، ألا ترى أنّه قد جاء:
.... وشايحت قبل اليوم إنك شيح «4»
__________
(1) البيت بغير نسبة في النوادر ص 494 (ط. الفاتح) والمحتسب 1/ 129 مع آخرين قبله وفي سر صناعة الإعراب 1/ 87 واللسان (بجح، شيح، رأى) مع اختلاف في الرواية. المبتجح: المفتخر، وشيحان: اختلف في ضبط فائه بالفتح والكسر، وهو الغيور.
(2) في (ط): ومما.
(3) في (ط): في قولهم.
(4) عجز بيت لأبي ذؤيب في ديوان الهذليين ق 1/ 116 من قصيدة يرثي بها نشيبة، صدره:
بدرت إلى أولاهم فسبقتهم والعجز في الكامل 1/ 81 واللسان (شيح).

(3/201)


وفاعل في أكثر الأمر يجيء فيما كان على فعل نحو: ضارب وضرب،
وجاء في الحديث: «أعرض وأشاح»
«1». فأما ترك صرف شيحان في البيت مع أنه لا فعلى له، فإنّه يجوز أن يكون اسما علما، ويجوز أن يكون على قول من يجيز «2» ترك صرف ما ينصرف في الشعر.
فأمّا الشنان فإن فعلانا يجيء على ضربين: أحدهما: اسم، والآخر: وصف. والاسم «3» على ضربين؛ أحدهما أن يكون مصدرا، كالنّقزان، والنّغران، والغليان، والنّفيان، والطّوفان، والنّعبان «4» والغثيان، وعامّة ذلك يكون معناه: التحرّك، والتقلّب، فالشنان على ما جاءت «5» عليه هذه المصادر. والاسم الذي ليس بمصدر نحو: الورشان والعلجان. وأما «6» مجيء فعلان وصفا فنحو: الزّفيان والقطوان، والصميان «7»، ومن ذلك ما حكاه أبو زيد [من
__________
(1) قطعة من
حديث رواه مسلم في كتاب الزكاة عن عدي بن حاتم 68 (1016) قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم النار فأعرض وأشاح ثمّ قال: «اتقوا النار» ثمّ أعرض وأشاح، حتى ظننا أنّه كأنّما
ينظر إليها، ثمّ قال: «اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة».
(2) في (ط): يجوز.
(3) في (ط): فالاسم.
(4) سقطت من (م). والنعبان: صوت الغراب.
(5) في (ط): ما جاء.
(6) في (ط): فأما.
(7) النقز والنقزان: كالوثبان صعدا في مكان واحد، وقد غلب على الطائر المعتاد الوثب كالغراب والعصفور. اللسان/ نقز/.
نغز ينغز نغزانا: غلى وغضب وقيل: هو الذي يغلي جوفه من الغيظ اللسان/ نغر/.

(3/202)


قولهم] «1»: إن عدوك لرضمان، أي: ثقيل؛ إذا ثقل عدوه مثل عدو الشيخ الكبير.
وقال أبو زيد أيضا: يقال: كبش آل، مثل: عال، وأليان، وكباش ألي، مثل: عمي، ونعجة أليانة. وأليانتان، وأليانات، وكبش أليان، وكباش أليانات، مثل: أتان قطوانة، وحمار قطوان: إذا لم يكن سهل السير، وقطوانتان وقطوانات قال: وهو من قولك قطا يقطو قطوا وقطوّا، إذا قارب بين خطوه، فإن قلت: كيف لا يكون نحو «2» رضمان وصميان، مصادر وليست بصفات، وإن كان قد جرى «3» على الموصوف كما أنّ عدلا ورضى كذلك؟ فالذي يدل على أنّ هذه الأسماء «4» صفات وليست بمصادر مجيئها في نحو «5»: كبش أليان، فلا يخلو هذا من أن يكون وصفا أو مصدرا، فلا يجوز أن يكون مصدرا لأنّ مصادر نحو: نعجة ألياء، لا يخلو من أن يكون من «6» نحو:
الحمرة والصفرة، أو الصلع «7» والفطس، ولم يجيء منه شيء على فعلان فيما علمنا. ويقوي ذلك ما حكاه أبو زيد في أليان من التأنيث والتثنية والجمع، وهذا إنّما يكون في الصفات، ولا يكاد
__________
النفيان: نفيان السيل ما فاض من مجتمعه. اللسان/ نفي/.
الغثيان: خبث النفس وهو تحلب الفم فربما كان منه القيء. اللسان/ غثا/ الزفيان: شدّة هبوب الريح. اللسان/ زفا/.
الصميان: الشجاع الصادق الحملة. والجريء على المعاصي. والتلفت.
والوثب، اللسان/ صما/.
(1) زيادة في (ط).
(2) في (ط): مثل.
(3) في (ط): كانت. قد جرت.
(4) في (ط): أسماء.
(5) في (ط): مثل.
(6) سقطت من (ط).
(7) في (ط): والصلع.

(3/203)


يجيء ذلك في المصادر. وما حكي من تأنيث زور وعدل ليس بالشائع، فأما ما أنشده أبو عبيدة من قول الأحوص:
وإن عاب فيه ذو الشّنان وفنّدا «1» فيحتمل أمرين: أحدهما أن يكون على التخفيف القياسي كقولك في تخفيف: ملآن وظمئان: ظمان وملآن، تحذفها وتلقي حركتها على ما قبلها، والآخر أن يكون على حذف الهمزة التي هي لام، كما حذفت من السّواية التي أصلها سوائية، مثل الكراهية، وكما يذهب إليه أبو الحسن في أشياء: أنّه جمع شيء، على أفعلاء، كما قيل: سمح وسمحاء، فحذفت الهمزة التي هي لام فأما الأظهر في قوله: ذو الشنان، فأن يكون مصدرا كاللّيان، ألا ترى أنه قد أضيف إليه ذو، فلا يكون من أجل ذلك وصفا. فإن قلت: قد «2» جاء (ذو) في مواضع غير معتدّ بها كقول الشماخ:
وأدمج دمج ذي شطن بديع «3» فإنّ حمله على الوجه الأوّل أقرب عندنا. وأمّا ما حكاه أبو زيد من قولهم: كبش آل، على مثال «4»: فاعل، فشاذ، وكان القياس أن يكون أليى «5» على أفعل، مثل: أعمى. فأما ما حكاه من
__________
(1) سبق انظر الصفحة 193 من هذا الجزء.
(2) في (ط): فقد.
(3) عجز بيت صدره في ديوانه 233: «أطار عقيقة عنه نسالا»، العقيقة والعقيق والعقة: الشعر الذي يكون على المولود حين يولد من الناس والبهائم، والنسال: اسم ما سقط من الشعر والصوف والريش. أدمج: أي أحكمت أعضاؤه. الشطن: الحبل الشديد. بديع: جديد. وانظر اللسان (بدع).
(4) في (ط): مثل.
(5) سقطت من (م).

(3/204)


قولهم: كباش ألي فيجوز «1» أن يكون الجمع وقع على القياس الذي كان يجب في الكلمة كأحمر «2» وحمر، ويجوز أن يكون كبزل وعيط «3». ومن قال: شنآن وشنأى [وقد حكاهما أبو زيد] «4» مثل عطشان وعطشى، وحرّان وحرّى، فشنئت على هذا «5» غير متعدّ، كما أن عطش كذلك، لأنّ هذا المصدر في أكثر الأمر ينبغي أن يكون الشنء أو الشنء مثل الشّنع «6»، وقد حكاه «7» أبو زيد. ومصدر هذا «8» الذي لا يتعدّى ينبغي أن يكون الشنان، مثل الغليان والطّوفان [لأن هذا هو المصدر في أكثر الأمر] «9»، ويجوز أن يكون الشنان بتسكين العين مثل اللّيّان، ومن زعم أنّ فعلان إذا أسكنت «10» عينه لم يك مصدرا، فقد أخطأ، لأنّ أبا زيد قد حكى في عيمان أيمان أنّ بني تميم تنصب اللام فتقول: لويته حقه ليّانا بنصب اللام. ومن قال:
__________
(1) في (م): «فيكون» بدل: «فيجوز».
(2) في (ط): مثل أحمر.
(3) جمع بازل وهو البعير إذا فطر نابه، وعيط: جمع أعيط وهو البعير الطويل العنق، والناقة عيطاء (اللسان عيط).
(4) ما بين المعقوفتين ساقط من (ط).
(5) في (ط): هذا القول.
(6) في (ط): الشّنع. والشّنع: من شنع بالأمر: رآه شنيعا.
(7) في (ط): حكاهما.
(8) في (ط): «ومصدرهما» بدل «ومصدر هذا».
(9) ما بين المعقوفتين ساقط من (ط) وقد وضع الناسخ إشارة عنده لاستدراك النقص غير أنّه سها عنه فيما يبدو.
(10) في (ط): سكنت.

(3/205)


شنئت العقر عقر بني شليل «1» * و: لشانئك الضّراعة والكلول «2» وإن شانئك هو الأبتر [الكوثر/ 3] كان شنئت على قوله متعديا، وليس كالوجه الأوّل، ولكن تجعله في التقدير مثل شربت ولقمت، ومثل هذا أنّه جاء الفعل منه على ضربين من التعدّي.
وغير التعدي قولهم: جزل السّنام يجزل، وقالوا: جزلته. قال:
منع الأخيطل أن يسامي قومنا ... شرف أجبّ وغارب مجزول
«3» فهذا يدلّ على جزلته. ومن ذلك: القصم والقصم، فالقصم مصدر قصم «4». وفي التنزيل: وكم قصمنا من قرية [الأنبياء/ 11] وقال الأعشى «5»:
ومبسمها عن شتيت النبا ... ت غير أكسّ ولا منقصم
«6»
__________
(1) هذا صدر بيت عجزه:
إذا هبت لقاربها الرياح العقر: موضع، وقاريها: متتبعها، انظر المحتسب 2/ 282 واللسان (عقر) وفيه: «كرهت العقر» بدل «شنئت».
(2) سبق انظر الصفحة/ 192 من هذا الجزء.
(3) البيت لجرير من قصيدة يهجو بها الأخطل انظر ديوانه 1/ 95، واللسان (جزل) والجزل: أن يصيب الغارب- وهو ما بين السنام والعنق- دبرة فيخرج منه عظم، ويشد فيطمئن موضعه، يقال: جزل غارب البعير، فهو مجزول، مثل جزل. ورواية الديوان: قرمنا: بدل قومنا.
(4) في (ط): قصمت.
(5) في (ط): الشاعر.
(6) البيت في ديوانه/ 35 وفيه منقضم بالضاد.

(3/206)


وقال آخر:
عجبت هنيدة أن رأت ذا رثّة ... وفما به قصم وجلدا أسودا
«1» فهذا مصدر قصم الذي لا يتعدّى، ومن ذلك قولهم: عجي وهو عج.
وأنشدنا «2» علي بن سليمان:
عداني أن أزورك أنّ بهمي ... عجايا كلّها إلّا قليلا
«3» فعجايا كأنه جمع عجيّ مثل: طبّ وطبيب، ومذل «4» ومذيل وقال:
...... فما تع ... جوه إلّا عفافة أو فواق
«5»
__________
(1) البيت في أساس البلاغة (قضم) بغير نسبة وروايته:
قالت بثينة إذ رأت ذا رتّة ... وفما به قضم وجلد أسود
والرتة: عجلة في الكلام وقلة أناة، وقيل: هو أن يقلب اللام ياء، والقضم:
من قضمت أسنانه إذا تكسرت أطرافها. وقريب منه القصم بالصاد، في اللسان: رجل أقصم الثنية إذا كان منكسرها من النصف بين القصم.
(2) في (ط): وأنشد.
(3) البيت في تهذيب الأزهري (عدا) واللسان (بهم- عجا- عدا) بغير نسبة.
وعداني: شغلني، والبهم: صغار المعز. والعجيّ: الفصيل تموت أمه فيرضعه صاحبه بلبن غيرها ويقوم عليه وجمعه عجايا، بضم العين وفتحها.
(4) المذل: الضجر والقلق مذل مذلا فهو مذل والأنثى مذلة اللسان/ مذل/.
(5) البيت للأعشى من قصيدة قالها بنجران يتشوق إلى قومه مفتخرا بهم وتمامه في ديوانه ص 211:
ما تعادى عنه النهار ولا تع ... جوه إلّا عفافة أو فواق.

(3/207)


ومن ذلك ما حكاه أبو زيد من قولهم: غضف الكلب أذنه أشدّ الغضفان «1»، وقال الشاعر:
غضفا طواها أمس كلّابيّ «2» فهذا يدل على غضف يغضف. ومن ذلك قولهم: طوي يطوى فهو طيّان. وقالوا: طويته أطويه طيّا. وقال «3»:
فقام إلى حرف طواها بطيّه ... بها كلّ لمّاع بعيد المساوف
«4» وقال:
.... طواها أمس كلّابيّ
__________
وهو في اللسان [عدا- عفف] مع اختلاف في الرواية ينبني عليها اختلاف في تفسير البيت. تعادى: تباعد. والعفافة: بقية اللبن في الضرع بعد أن يحلب أكثر ما فيه. والفواق: اجتماع الدرّة. يصف ظبية وغزالها فيقول: لا تبعد عنه طول النهار، ولا تؤخر رضاعته إلّا ريثما يجتمع في ضرعها بعض اللبن.
(1) النوادر 544 (ط: الفاتح).
(2) هذا الشطر من أرجوزة طويلة للعجاج، وهو في وصف ثور وحشي رأى كلاب صيد ضمرها صاحبها. غضفا: أي كلابا مسترخية الآذان وهو وصف غالب لكلاب الصيد وانظر ديوانه 1/ 518 والخصائص 3/ 104، 205.
(3) سقطت من (ط) وقال.
(4) البيت الذي الرّمة انظر ديوانه بشرح الأصمعي 3/ 1636 قال في شرحه:
فقام هذا الرجل إلى «حرف»: ناقة ضامر، طواها، أي: أضمرها بطيه كل لماع «بها» أي بالناقة. والمساوف: الواحدة مسافة ما بين الأرضين. ولماع:
بلد يلمع بالسراب. وانظر أساس البلاغة/ سوف/.

(3/208)


وقال: «1»
بات الحويرث والكلاب تشمّه ... وغدا بأحدب كالهلال من الطّوى
ومن قال: شنان وشنأى، فشنئت على هذا ينبغي أن لا يتعدى، فأما من قال: شنان وامرأة شنانة، فالفعل المتعدي إنّما هو من هذا دون الأول، وكلاهما قد حكاه أبو زيد. ونظير هذا في أنّه اشتق منه فعل متعد وآخر غير متعد: ما حكاه أبو إسحاق من أنّهم يقولون «2»: جزل السنام يجزل جزلا: إذا فسد وجزلته أجزله: إذا قطعته، فاشتق منه المتعدي وغير المتعدي، وأنشد أبو زيد فيما جاء فيه فعلان وصفا:
وقبلك ما هاب الرّجال ظلامتي ... وفقّأت عين الأشوس الأبيان
«3» وأنشد غيره: «4» هل أغدون يوما وأمري مجمع وتحت رحلي زفيان ميلع «5»
__________
(1) لم نعثر على قائله.
(2) في (ط): ما حكاه أبو إسحاق تقول:
(3) البيت لأبي المجشّر الضبي- جاهليّ- وهو من مقطعة، انظر النوادر (426.
ط الفاتح) والأشوس: الرافع رأسه تكبرا. اللسان (شوس).
(4) في (ط): وقال الآخر.
(5) هذا رجز لم يعرف قائله، وقبله:
يا ليت شعري والمنى لا تنفع الزّفيان: السريعة، الميلع: الجواد الخفيفة. انظر النوادر/ 133، والخصائص 2/ 136 وشرح أبيات المغني 6/ 196 والدرر 1/ 204.

(3/209)


فحجّة من قرأ (شنآن) أنّه مصدر، والمصدر يكثر على فعلان نحو: النزوان والغثيان والنّفيان «1» والشنآن يقارب الغليان «2»، فجاء على وزنه لمقاربته «3» له في المعنى «4». ومن حجّة ابن عامر في إسكان النون أنه مصدر وقد جاء المصدر على فعلان في غير هذا [وذلك قولك] «5»: لويته دينه ليّانا وقال «6»:
وما العيش إلّا ما تلذّ وتشتهي وإن لام فيه ذو الشّنان وفنّدا «7» فهذا مخفف [من الهمزة] «8» على قياس الجمهور، والأكثر «9» الشنان، ألا ترى أنّه حذف الهمزة وألقى حركتها على الساكن الذي «10» قبلها والمعنى فيه البغضاء. فإذا كان كذلك فالمعنى في القراءتين واحد وإن اختلف اللفظان والمعنى. ومن زعم أنّ إسكان النون لحن؛ لم يكن قوله مستقيما، لأنّه يجوز أن يكون مصدرا كاللّيان، وأن يكون وصفا كالنفيان، حكى ذلك أبو زيد. [ولا ينبغي أن يحمل البيت على حذف الهمزة على غير قياس كقوله:
__________
(1) سقطت من (م): الغثيان والنفيان.
(2) في (ط): يقارب في المعنى كالغليان.
(3) في (ط): لموافقته.
(4) في (ط): وهي.
(5) في (ط): نحو.
(6) في (ط): وقال الشاعر.
(7) قريبا ص 189، وقد أسقطت (م) صدره:
(8) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(9) زادت (م) «من» بعد الأكثر.
(10) زيادة في (ط).

(3/210)


يابا المغيرة ربّ أمر معضل ... فرّجته بالنّكر مني والدّها
«1» وقال آخر:
إن لم أقاتل فالبسوني برقعا «2» لأنّك تجد له مذهبا في الشائع المستقيم] «3» والمعنى: لا يجرمنكم بغض قوم. أي: بغضكم قوما لصدّهم إياكم، ومن أجل صدّهم إياكم أن تعتدوا، فأضيف المصدر إلى المفعول به وحذف الفاعل، كقوله تعالى «4»: من دعاء الخير [فصلت/ 49] وبسؤال نعجتك [ص/ 24] ونحو ذلك مما أضيف المصدر فيه إلى المفعول به، وحذف الفاعل في المعنى من اللفظ، وفي التفسير فيما زعموا: لا يحملنكم بغض قوم، فعلى هذا يحمل الشنان «5» فيمن حرّك أو أسكن. أما من أسكن فلأن هذا البناء قد «6» جاء في الصفات «7»، نحو غضبان وسكران، وحكى أبو زيد:
__________
(1) البيت في أمالي ابن الشجري 2/ 16 ونسبه لأبي الأسود الدؤلي. وفي الخزانة 4/ 335 (عرضا). والبحر المحيط 5/ 52.
(2) رجز أورد معه الفارسي في الجزء الأخير من هذا الكتاب بيتا آخر هو:
وفتحات في اليدين أربعا.
ولم ينسبه. ونقله ابن جني عنه في الخصائص 3/ 151. وانظر المحتسب 1/ 120 والبحر المحيط 5/ 52.
(3) ما بين معقوفين ساقط من (م).
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): الشنان والشنآن.
(6) في (م): وإن، وليست بشيء.
(7) في (ط): في الصفة.

(3/211)


رجل «1» شنان وامرأة شنأى فإن حملته على هذا دون المصدر فقد أقمت الصفة مقام الموصوف وإنّما المعنى على المصدر، لأنّ المعنى: لا يحملنكم بغض قوم على أن تعتدوا فإن حملته على الصفة كان التقدير لا يحملنّكم بغيض قوم، والمعنى على الأوّل.
وأمّا من حرّك فقال: الشّنان فإنّ هذا البناء في المصادر التي معناها التقلّب والتزعزع كثير، والصفة دونه في الكثرة، فإذا كثر في الاستعمال واستقام في المعنى، وعضده التفسير، لم يكن عنه مذهب إلى ما لم تجتمع فيه هذه الخلال.

[المائدة: 2]
واختلفوا في فتح الهمزة وكسرها من قوله تعالى: أن صدوكم [المائدة/ 2].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: إن صدوكم بالكسر.
وقرأ الباقون «2»: أن صدوكم «3» بالفتح.
قال أبو علي: حجّة ابن كثير وأبي عمرو في كسرهما الهمزة أنّهما جعلا (إن) للجزاء، فإن قلت: كيف صح الجزاء هنا والصدّ ماض، لأنّه إنّما هو ما «4» كان من المشركين من صدّهم المسلمين عن البيت في الحديبيّة، والجزاء إنّما يكون بما لم يأت، فأما ما
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) فصلهم في السبعة 242 بقوله: وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي.
(3) سقطت من (ط) الآية.
(4) سقطت من (ط): هو ما.

(3/212)


كان ماضيا فلا يكون فيه الجزاء. فالقول فيه: أن الماضي قد يقع في الجزاء وليس على أنّ المراد بالماضي الجزاء، ولكنّ المراد أن «1» ما كان مثل هذا الفعل فيكون اللفظ على ما مضى، والمعنى على مثله، كأنّه «2» يقول: إن وقع مثل هذا الفعل يقع منكم كذا «3»، وعلى هذا حمل الخليل وسيبويه قول الفرزدق:
أتغضب إن أذنا قتيبة حزّتا ... جهارا، ولم تغضب لقتل ابن حازم
«4» وعلى ذلك قول الشاعر:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ... ولم تجدي من أن تقرّي به بدّا
«5» فانتفاء الولادة أمر ماض، وقد جعله جزاء، والجزاء إنّما يكون بالمستقبل، فكأنّ المعنى: إن تنسب لا تجدني مولود لئيمة «6»، وجواب إن قد أغنى عنه ما تقدّم من قوله: ولا يجرمنكم، المعنى: إن صدّكم قوم عن المسجد الحرام فلا تكسبوا عدوانا.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): كذا وكذا.
(4) ديوانه 2/ 855 وفيه: «ليوم» بدل: «لقتل» وانظر شرح أبيات المغني 1/ 117.
(5) البيت لزائدة بن صعصعة يعرض فيه بزوجته وكانت أمها سريّة انظر شرح أبيات المغني 1/ 125.
(6) في (م): لئيم.

(3/213)


وأمّا قول من فتح فبيّن لا مئونة فيه، وهو أنّه مفعول له التقدير: ولا يجرمنكم شنان قوم لأن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. فأن الثانية في موضع نصب لأنّه «1» المفعول الثاني والأول منصوب لأنه مفعول له.

[المائدة: 9]
واختلفوا في نصب اللام وخفضها من قوله تعالى «2»:
وأرجلكم [المائدة/ 9].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة: وأرجلكم* خفضا.
وقرأ نافع وابن عامر والكسائي «3»: وأرجلكم نصبا.
وروى أبو بكر عن عاصم: وأرجلكم* خفضا، وحفض عن عاصم وأرجلكم نصبا «4».
[قال أبو علي] «5»: الحجة لمن جرّ فقال: وأرجلكم أنه وجد في الكلام عاملين: أحدهما: الغسل، والآخر: الباء الجارة. ووجه العاملين إذا اجتمعا في التنزيل أن تحمل على الأقرب منهما دون الأبعد، وذلك نحو قوله: وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا [الجن/ 7] ونحو قوله: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة [النساء/ 176] ونحو قوله: هاؤم اقرؤوا كتابيه [المعارج/ 19] وقوله: قال: آتوني أفرغ عليه قطرا [الكهف/ 96] فلما رأى العاملين إذا اجتمعا «6» حمل الكلام على أقربهما إلى المعمول، حمل «7» في هذه الآية أيضا
__________
(1) في (م): بأنه.
(2) سقطت من (ط).
(3) زادت (ط): حفصا بعد الكسائي.
(4) السبعة 242 - 243.
(5) سقطت من (ط).
(6) في (ط) اجتمعتا.
(7) سقطت من (م).

(3/214)


على أقربهما، وهو الباء دون قوله: فاغسلوا وكان ذلك «1» الموضع واجبا، لما قام من الدلالة على أنّ المراد بالمسح الغسل.
وقيام الدلالة من وجهين:
أما أحدهما فإن من لا نتهمه روى لنا عن أبي زيد أنه قال:
المسح خفيف الغسل، قالوا: تمسّحت للصلاة، فحمل المسح على أنه غسل. ويقوي ذلك أن أبا عبيدة ذهب في قوله تعالى:
فطفق مسحا بالسوق والأعناق [ص/ 33] إلى أنّه الضرب.
وحكى التّوّزي عنه أنّه قال: قالوا مسح علاوته بالسيف «2» إذا ضربه «3»، فكأنّ المسح في الآية غسل خفيف، كما أنّ الضرب كذلك، ليس في واحد منهما متابعة ولا موالاة. فإن قلت: فإنّ المستحبّ أن يغسل ثلاثا؛ قيل: ذلك السنّة والاستحباب، وإنّما جاءت الآية بالمفروض دون المسنون، فهذا وجه.
والوجه الآخر: أنّ التحديد والتوقيت إنّما جاء في المغسول ولم يجيء في الممسوح، فلما وقع التحديد مع المسح، علم أنّه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد. فإن قلت: فقد «4» يجوز أن يكون على المسح، ألا ترى أنّك تقول: مررت بزيد وعمرا فتحمله على موضع الجار والمجرور، فحمله على المسح
__________
(1) في (ط): في هذا الموضع.
(2) سقطت من (ط) ومن مجاز القرآن.
(3) انظر مجاز القرآن 2/ 183.
(4) في (ط): فإنه.

(3/215)


قد ثبت وجاز، جررت اللام أو نصبته؟ قيل: ليس الحمل على الموضع في هذا النحو في الكسرة كالحمل على اللفظ.
ووجه من نصب فقال: وأرجلكم أنه حمل ذلك على الغسل دون المسح، لأنّ العمل «1» من فقهاء الأمصار فيما علمت على الغسل دون المسح.
وروي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم «2» رأى قوما وقد توضّئوا وأعقابهم تلوح، فقال [عليه السلام]: «3» «ويل للعراقيب من النار» «4»
وهذا أجدر أن يكون في المسح منه في الغسل، لأن إفاضة الماء لا يكاد يكون غير عام للعضو.

[المائدة: 13]
اختلفوا في إثبات الألف وإسقاطها من قوله تعالى «5»:
قاسية [المائدة/ 13].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر قاسية بألف.
وقرأ حمزة والكسائي قسية بغير ألف.
[قال أبو علي] «6»: حجة من قرأ: قاسية على فاعلة قوله تعالى «7»: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك [البقرة/ 74] وقوله
__________
(1) في (ط): الجمهور.
(2) سقطت «وسلم» من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) رواه مسلم في الطهارة برقم 240 وأحمد 2/ 201 و 407. وابن ماجة 1/ 155 برقم (454).
(5) سقطت من (ط).
(6) سقطت من (ط).
(7) سقطت من (ط).

(3/216)


تعالى «1»: فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم [الحديد/ 16] وقال: فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله [الزمر/ 22].
ومن قرأ: قسية على فعيلة: أنه قد يجيء فاعل وفعيل، مثل: شاهد وشهيد، وعالم وعليم، وعارف وعريف. والقسوة كأنّه «2» خلاف اللين والرقّة. وقد وصف الله عزّ وجل «3» قلوب المؤمنين باللين فقال «4»: ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [الزمر/ 23] فالقسوة كأنّها خلاف ذلك، وقال تعالى «5»: فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون [الحديد/ 16] أي: كثير ممن قست «6» قلوبهم فاسقون. فهذا يوجب أن ممن قسا قلبه من ليس بفاسق.
فأما قول الشاعر:
ما زوّدوني غير سحق عمامة* وخمس مئي منها قسي وزائف «7» فإنّ القسيّ أحسبه معرّبا، وإذا كان معرّبا لم يكن من القسيّ العربي، ألا ترى أنّ قابوس وإبليس وجالوت وطالوت، ونحو ذلك من الأسماء الأعجمية التي من ألفاظها عربي لا تكون مشتقة من
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): كأنها.
(3) في (ط): تعالى.
(4) في (م): قال تعالى.
(5) سقطت من (ط).
(6) في (ط): قد قست.
(7) البيت في اللسان (زيف، قسا) وفيه «وما» بدل: «ما» بدون خرم ونسبه إلى مزرّد، له ترجمة موجزة في معجم الشعراء للمرزباني/ 483. وقسي: رديئة.

(3/217)


باب القبس والإبلاس، يدل على ذلك منعهم الصرف، فأما قوله:
فإن يقدر عليك أبو قبيس «1» فليس صرفه للضرورة، ولكن رخّمه ترخيم التحقير، فردّه إلى الأصل، فصار مثل نوح ولوط، وهذا النحو مصروف في كل قول، فكذلك أبو قبيس. وأنشد أبو عبيدة:
وقد قسوت وقسا لداتي «2» فكأنّ معنى هذا: فارقني لين الشباب ولدونته.

[المائدة: 44]
واختلفوا في قوله تعالى: واخشون ولا تشتروا [المائدة/ 44].
فقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة وابن عامر والكسائي، بغير ياء في وصل ولا وقف.
وقرأ أبو عمرو بياء في الوصل.
واختلف عن نافع فروى ابن جمّاز وإسماعيل بن جعفر بالياء في الوصل وروى المسيبي وقالون وورش بغير ياء في وصل ولا وقف «3».
__________
(1) هذا صدر بيت للنابغة الذبياني، عجزه برواية ابن السكيت 149.
تحطّ بك المنيّة في رهان وأبو قبيس هو النعمان بن المنذر، وهو مصغر من قابوس. ولهذا الشطر روايات أخرى انظرها في ديوانه، وانظر اللسان (قبس) وفيه: يحط بك المعيشة.
(2) مجاز القرآن 1/ 158 وروايته: «لدّتي» بدل «لداتي». قال فيه: ولدّتي ولداتي واحد. ولم ينسبه.
(3) السبعة 244.

(3/218)


قال أبو علي: القول في ذلك: أن الإثبات حسن والحذف حسن، وذلك أن الفواصل في أنّها أواخر الآي مثل القوافي في أنّها أواخر البيوت، فكما أنّ من القوافي ما لا يكون إلّا
محذوفا منه، ومخالفا لغيره، كذلك الفواصل. وكما أنّ من القوافي ما يكون فيه الحذف والإتمام جميعا، كذلك تكون الفواصل. فمما لا يكون من القوافي إلّا ما قد حذف منه هذه الياء وحذف منها غير هذه الياء قول الأعشى:
فهل ينفعنّي ارتيادي البلا ... د من حذر الموت أن يأتين
ومن شانئ كاسف وجهه ... إذا ما انتسبت له أنكرن
«1» فهذا لا يكون إلّا محذوفا منه، ألا ترى أنّ هذا الضرب لا يخلو من أن يكون: فعولن، أو فعول، أو فعل، ولا يجوز تحريك الياء في شيء من ذلك، فعلى هذا يكون من «2» الفواصل ما يكون ملزما الحذف، وأما ما يجوز فيه الحذف والإتمام فقوله:
وهم وردوا الجفار على تميم ... وهم أصحاب يوم عكاظ إنّ
«3»
__________
(1) البيتان من قصيدة طويلة في مدح قيس بن معديكرب في ديوانه/ 15 - 25 ورواية الأول: «فهل يمنعني» بدل «ينفعني» وانظر الكتاب 2/ 151 و 290، والمحتسب 1/ 349، وابن يعيش 9/ 40، 86 والعيني 4/ 324، وابن الشجري 2/ 73 (الثاني من البيتين).
(2) في (ط): في.
(3) البيت للنابغة الذبياني برواية ابن السكيت/ 199 وفيه: «إنّي» بدل «إنّ».
عكاظ: سوق بين مكّة والطائف، والجفار: ماء معروف لبني أسد وكانت عليه

(3/219)


فهذا فعولن قد حذفه، ويجوز أن يتمم فيقول: إني. وقد أجرى قوم القوافي مجرى غيرها «1» من الكلام فقالوا:
أقلّي اللّوم عادل والعتاب «2».
واسأل بمصقلة البكريّ ما فعل «3».
فعلى هذا القياس يجوز أن تجرى الفواصل مثل غير الفواصل ولا تغيّر بحذف ولا غيره كما فعل ذلك بالقوافي.
وإنّما فعلوا ذلك بالقوافي لأن اقتضاء الوزن للمحذوف وتمامه به يجعلانه في حكم المثبت في اللفظ، فصار هذا يسوّغ الحذف فيه إذ قد حذف مما لا يقتضيه الوزن، فصار المحذوف منه في حكم المثبت، مع أنّ الوزن لا يقتضيه، وذلك نحو قوله:
ارهن بنيك عنهم أرهن بني «4» فياء المتكلم التي «5» تزاد في بني في حكم المثبت، يدلّ على ذلك حذف النون من «6» الجميع، كما تحذف مع إثبات الياء
__________
وقعة وانظر الكتاب 2/ 290، والنوادر/ 535 (ط. الفاتح) قال: وزعم الأصمعي أنّه منحول، وابن الشجري 2/ 165.
(1) في (م): غيره.
(2) هذا صدر بيت لجرير سبق في 1/ 73، و 2/ 361، 3/ 18.
(3) هذا عجز بيت للأخطل سبق انظر 2/ 211، 212، و 362.
(4) شطر من الرجز في اللسان (رهن) وقال فيه: وزعم ابن جني أنّ هذا الشعر جاهلي.
(5) في (م) الذي.
(6) في (ط): في.

(3/220)


في بنيّ، وإن كان الوزن لا يقتضيه، ألا ترى: أنّ: أرهن بني:
مستفعلن، وإنّما خصّ القوافي والفواصل بالحذف في أكثر الأمر، لأنّها مما يوقف عليها، والوقف موضع تغيير فجعل التغيير فيه الحذف، كما جعل التغيير فيه الإبدال وتخفيف التضعيف، ونحو ذلك مما يلحق الوقف من التغيير. وقال بعض من يضبط القراءة:
لم يذكر أحمد بن موسى كيف يقف أبو عمرو قال: وهو يقف.
واخشون بغير ياء ويصل بياء.
اختلفوا في ضمّ الحاء وإسكانها من قوله تعالى «1»:
السحت [المائدة/ 62/ 63].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: السحت* مضمومة الحاء مثقّلة.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة: السحت ساكنة الحاء خفيفة.
وروى العباس بن الفضل عن خارجة بن مصعب عن نافع:
أكالون للسحت [المائدة/ 42] بفتح السين [وجزم الحاء] «2».
قال «3» أبو عبيدة «4»: السّحت: أكل ما لا يحلّ. يقال:
سحته وأسحته: إذا استأصله، وفي التنزيل: فيسحتكم بعذاب
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط). السبعة 243.
(3) سقطت من (ط).
(4) انظر مجاز القرآن 1/ 166 عند تفسير سورة المائدة/ 42 و 2/ 20 عند تفسير سورة طه/ 61.

(3/221)


[طه/ 61] أي: نستأصلكم «1» به، ومن أسحت قول الفرزدق:
إلّا مسحتا أو مجلّف «2» والسّحت والسّحت لغتان، ويستمر التخفيف والتثقيل في هذا النحو، وهما اسم الشيء المسحوت، وليسا بالمصدر. فأما من قرأ أكالون للسحت [المائدة/ 42] فالسّحت مصدر سحت، وأوقع اسم المصدر على المسحوت كما أوقع الضرب على المضروب في قولهم: هذا الدرهم ضرب الأمير. والصيد على المصيد في قوله: لا تقتلوا الصيد [المائدة/ 95] والسّحت أعم من الربا، وهؤلاء قد وصفوا بأكل الربا. في قوله: وأخذهم الربا وقد نهوا عنه «3» [النساء/ 161] إلّا أنّ السّحت أعمّ من الربا نحو ما أخذوا فيه من كتمانهم «4» ما أنزل عليه «5» وتحريفهم إياه ونحو ذلك لأنّه يشمل الربا وغيره.

[المائدة: 45]
واختلفوا «6» في الرفع والنصب من قوله تعالى «7»:
__________
(1) في (ط): يستأصلكم.
(2) هذه قطعة من بيت وتمامه:
وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلّا مسحتا أو مجلّف
انظر ديوانه/ 556، والخزانة 2/ 347 والجمهرة 2/ 107 واللسان والتاج (سحت) المسحت: المهلك، والمجلّف: الذي بقيت منه بقية، أو الرجل الذي جلفته السنون، أي: أذهبت أمواله. اللسان (جلف).
(3) وردت هذه الآية في الأصل: وأكلهم الربا .. وهو خطأ والصواب ما أثبتناه.
(4) في (ط): ما أخذوه في كتمانهم.
(5) في (ط): عليهم.
(6) في (ط): اختلفوا.
(7) سقطت من (ط).

(3/222)


أن النفس بالنفس إلى قوله: والجروح قصاص [المائدة/ 45].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: أن النفس بالنفس والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن والسن بالسن [المائدة/ 45] ينصبون ذلك كله، ويرفعون: والجروح قصاص [المائدة/ 45].
كان نافع وعاصم وحمزة ينصبون ذلك كله. وروي عن «1» الواقدي عن نافع: والجروح رفعا.
وقرأ الكسائي: أن النفس بالنفس نصبا، ورفع ما بعد ذلك كله «2».
[قال أبو علي]: «3» حجّة من نصب العين بالعين وما بعده: أنّه عطف ذلك على أنّ، فجعل الواو للاشراك في نصب أنّ، ولم يقطع الكلام مما قبله، كما فعل ذلك من رفع.
فأما من رفع بعد النصب فقال: أن النفس بالنفس والعين بالعين فحجته أنه يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون الواو عاطفة جملة على جملة وليست للاشتراك في العامل كما كان كذلك «4» في قول من نصب، ولكنها عطفت جملة على جملة، كما تعطف المفرد على المفرد.
__________
(1) زيادة في (م).
(2) السبعة 244.
(3) سقطت من (م).
(4) في (ط): ذلك.

(3/223)


والوجه الثاني أنّه حمل الكلام على المعنى، لأنّه إذا قال:
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس [المائدة/ 45] فمعنى الحديث: قلنا لهم: النفس بالنفس، فحمل العين بالعين على هذا كما أنه لما كان المعنى في قوله: يطاف عليهم بكأس من معين [الصافات/ 45] يمنحون كأسا من معين، حمل حورا عينا على ذلك، كأنّه: يمنحون كأسا، ويمنحون حورا عينا، وكما أنّ معنى الحديث في قوله:
فلم يجدا إلّا مناخ مطيّة «1» ......
أنّ هناك مناخ مطية، حمل قوله:
وسمر ظماء
__________
(1) هذا صدر بيت لكعب بن زهير من قصيدة في ديوانه ص 52، استشهد سيبويه 1/ 88 بثلاثة أبيات منها، وهو أولها وعجزه:
تجافى بها زور نبيل وكلكل وما بعده من قوله: «وسمر ظماء» قطعة من البيت الثالث منها:
والبيتان بعد الأول هما:
ومفحصها عند الحصى بجرانها ... ومثنى نواج لم يخنهنّ مفصل
وسمر ظماء واترتهنّ بعد ما ... مضت هجعة من آخر الليل ذبّل
قال الأعلم: وصف منزلا رحل عنه فطرقه ذئبان يعتسفانه، فلم يجدا به إلّا موضع إناخة مطيته، وموضع فحصها الحصى عند البروك بجرانها، وهو باطن عنقها، ومواضع قوائمها وهي المثنى لأنّها تقع بالأرض مثنية. والنواجي:
السريعة يعني قوائمها، ووصفها بتجافي الزور لنتوئه وضمرها، فإذا بركت تجافى بطنها عن الأرض والزور: ما بين ذراعيها من صدرها. والنبيل:
المشرف الواسع. والكلكل: الصدر. وأراد بالسمر الظماء: بعرها، ووصفها بهذا لعدمها المرعى الرطب وقلّة ورودها للماء لأنّها في فلاة، ومعنى واترتهنّ: تابعت بينهنّ عند انبعاثها، والهجعة: النومة في الليل خاصة، والذبل: من وصف السمر الظماء.

(3/224)


على معنى الحديث، كأنّه قال: ثمّ مناخ «1» مطية وسمر ظماء وكذلك قوله:
ومشجّج أمّا سواء قذاله ... فبدا وغيّر ساره المعزاء
«2» لما كان المعنى في:
بادت وغيّر آيهنّ مع البلى «3» * إلّا رواكد «4» ..
بها رواكد، حمل مشججا عليه، فكأنّه قال: هناك رواكد ومشجّج فعلى هذا يكون وجه الآية. ومثل هذا من «4» الحمل على المعنى كثير في التنزيل وغيره.
والوجه الثالث: أن يكون عطف قوله والعين «6» على. الذكر
__________
(1) في (ط): مناخ مطية.
(2) وهو مع ما بعده في الكتاب 1/ 88 وهو متقدم عليه فيه واللسان (شجج) ومشجج: هو الوتد. وانظر أساس البلاغة (شجج).
(3) البيت بتمامه:
بادت وغيّر آيهنّ مع البلى ... إلّا رواكد جمرهنّ هباء
قال الأعلم: أراد بالرواكد الأثافي، وركودها ثبوتها وسكونها، ووصف الجمر بالهباء لقدمه وانسحاقه، والهباء: الغبار وما يبدو عن شعاع الشمس إذا دخلت من كوة. وأراد بالمشجج وتدا من أوتاد الخباء وتشجيجه: ضرب رأسه ليثبت، ومنه الشجة في الرأس. وسواء قذاله: وسطه، وأراد بالقذال أعلاه، وهو من الدابة: معقد العذار بين الأذنين. وقوله: وغير ساره، أراد: سائره، فحذف عين الفعل لاعتلاله، ونظيره: هار، بمعنى هائر، وشاك بمعنى شائك. والمعزاء: أرض صلبة ذات حصى، وكانوا يتحرون النزول في الصلابة ليكونوا بمعزل عن السبيل، ولتثبت أوتادها الأبنية، ومعنى بادت:
تغيّرت وبليت والآي: جمع آية وهي علامات الديار، والبلى: تقادم العهد.
(4) في (ط): في.
(6) في (ط): والعين بالعين.

(3/225)


المرفوع في الظرف الذي هو الخبر وإن لم يؤكد المعطوف عليه بالضمير المنفصل كما أكّد في نحو إنه يراكم هو وقبيله [الأعراف/ 27] ألا ترى أنه قد جاء: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا [الأنعام/ 148] فلم يؤكد بالمنفصل، كما أكّد في الآي الأخر. فإن قلت: فإن لا* في قوله: ولا آباؤنا عوضا من التأكيد، لأنّ الكلام قد طال بها «1»، كما طال
في نحو: حضر القاضي اليوم امرأة؛ قيل: هذا إنّما يستقيم أن يكون عوضا إذا وقع قبل حرف العطف ليكون عوضا من الضمير المنفصل الذي كان يقع قبل حرف العطف، فأما إذا وقع بعد حرف العطف لم يسدّ ذلك المسدّ. ألا ترى أنّك لو قلت: حضر امرأة اليوم «2» القاضي، لم يغن طول الكلام في غير هذا «3» الموضع الذي كان ينبغي أن يقع فيه التعويض.
فأمّا قوله تعالى «4»: والجروح قصاص فمن رفعه بقطعه «5» عما قبله فإنه يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرناها في قول من رفع: والعين بالعين.
ويجوز أن يستأنف: والجروح قصاص ليس على أنّه مما كتب عليهم في التوراة، ولكن على استئناف إيجاب وابتداء شريعة في ذلك، ويقوّي أنه من المكتوب عليهم في التوراة نصب من نصبه، فقال: والجروح قصاص.
__________
(1) في (ط): به.
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (م).
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): فقطعه.

(3/226)


قال: وكلّهم ثقّل الأذن إلّا نافعا فإنّه خففها في كل القرآن «1».
القول في ذلك أنّهما لغتان، كما أنّ السّحت والسّحت لغتان، وقد تقدّم القول في ذلك. قال أبو زيد: يقال «2»: رجل أذن ويقن، وهما واحد، وهو الذي لا يسمع بشيء إلّا أيقن به، وقد ذكرنا ذلك «3» في سورة التوبة أيضا «4».

[المائدة: 47]
واختلفوا في إسكان اللام والميم، وكسر اللام وفتح الميم [في قوله تعالى] «5»: وليحكم أهل الإنجيل [المائدة/ 47].
فقرأ حمزة وحده: وليحكم أهل الإنجيل بكسر اللام وفتح الميم.
وقرأ الباقون بإسكان اللام وجزم الميم «6».
[قال أبو علي] «7»: حجة حمزة في قراءته: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه [المائدة/ 47] أنه جعل اللام متعلقة بقوله: وآتيناه الإنجيل [المائدة/ 46] لأنّ إيتاءه «8» الإنجيل
__________
(1) السبعة 244.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): وقد ذكرناه.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): من قوله.
(6) السبعة 244.
(7) سقطت من (م).
(8) في (ط): إتيانه.

(3/227)


إنزال ذلك عليه، فصار «1» بمنزلة قوله: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله [النساء/ 105] فكأنّ المعنى: آتيناه الإنجيل ليحكم، كما قال: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم فالحكمان جميعا حكمان لله «2» تعالى «3»، وإن كان أحدهما حكما بما أنزله الله، والآخر حكما بما أراه الله، فكلاهما حكم الله.
وأمّا حجة من قرأ: وليحكم أهل الإنجيل فهي نحو قوله:
وأن احكم بينهم بما أنزل الله فكما أمر عليه السلام- بالحكم بما أنزل الله كذلك أمروا هم بالحكم بما أنزل الله في الإنجيل.

[المائدة: 50]
قال: وكلّهم قرأ أفحكم الجاهلية يبغون [المائدة/ 50] بالياء إلّا ابن عامر فإنّه قرأ: تبغون بالتاء «4».
[قال أبو علي]: «5» من قرأ بالياء فلأنّ قبله غيبة لقوله:
وإن كثيرا من الناس لفاسقون [المائدة/ 49].
والتاء على قوله «6»: قل لهم: أفحكم الجاهلية تبغون والياء أكثر في القراءة، زعموا، وهي أوجه لمجرى «7» الكلام على ظاهره،
__________
(1) في (ط): فصار ذلك.
(2) كذا في (ط) وفي (م): حكما الله.
(3) سقطت من (ط).
(4) السبعة 244.
(5) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(6) سقطت من (ط).
(7) في (ط): لجري.

(3/228)


واستقامته عليه من غير تقدير إضمار، ونحو هذا الإضمار لا ينكر لكثرته وإن كان الأوّل أظهر.

[المائدة: 53]
واختلفوا في إدخال الواو وإخراجها والرفع والنصب في قوله [جل وعز] «1»: ويقول الذين آمنوا [المائدة/ 53].
فقرأ أبو عمرو وحده: ويقول الذين آمنوا* نصبا. وروى علي بن نصر عن أبي عمرو أنّه قرأ بالنصب والرفع: ويقول الذين آمنوا* نصبا ويقول الذين آمنوا رفعا.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: ويقول الذين آمنوا رفعا.
وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: يقول الذين آمنوا* بغير واو في أولها ورفع اللام، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة ومكة واللام من يقول مضمومة «2».
[قال أبو علي] «3»: إن قلت: كيف قرأ أبو عمرو: ويقول الذين آمنوا* ولا يجوز عسى الله أن يقول الذين آمنوا. فالقول في ذلك أنّه يحتمل أمرين غير ما ذكرت، أحدهما: أن يحمله على المعنى لأنّه إذا قال: فعسى الله أن يأتي بالفتح [المائدة/ 52] فكأنّه قد «4» قال: عسى أن يأتي الله بالفتح، ويقول الذين آمنوا. كما أنّه إذا قال: فأصدق وأكن [المنافقون/ 10] فكأنّه قد «4» قال: أصّدق
__________
(1) في (ط): تعالى.
(2) السبعة 245.
(3) سقطت من (م) ما بين المعقوفين، وفيها: فإن قلت.
(4) سقطت من (م).

(3/229)


وأكن، ألا ترى أنّه يستقيم أن يقع في موضع قوله: لولا «1» أخرتني إلى أجل قريب فأصدق: هلّا أخّرتني إلى أجل قريب أصّدّق، لأنّ هلّا للتحضيض، فكأنّه قال: أخّرتني إلى أجل قريب أصّدّق «2»، كما تقول: أعطني أكرمك، فلما وقع قوله: فأصدق موضع قوله:
أصّدّق حمل أكن على الجزم الذي كان يجوز في الفعل لو وقع موقع الفاء والفعل الذي بعده، كما أنّ قوله:
أنّى سلكت فإنّني لك كاشح ... وعلى انتقاصك في الحياة وأزدد
«3» حمل أزدد فيه على الجزم الذي كان يكون في موضع الفعل الذي هو جزاء، فكذلك حمل: ويقول الذين آمنوا على ما كان يجوز وقوعه بعد عسى من أن، ألا ترى أنّ جواز كلّ واحد منهما ومساغه كجواز الآخر وقد جاء التنزيل بهما [قال عزّ وجل] «4»:
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم [البقرة/ 216] وعسى الله أن يكف بأس الذين كفروا [النساء/ 84] فلمّا كان مجازهما واحدا، صرت إذا ذكرت أحدهما فكأنّك ذكرت الآخر، فجاز الحمل عليه.
ووجه آخر وهو أنّه إذا قال: فعسى الله أن يأتي بالفتح [المائدة/ 52] جاز أن يبدل أن يأتي من اسم الله كما أبدلت
__________
(1) في الأصل: (هلا) وصوبت على الهامش.
(2) في (ط): قال: أخرتني إلى أجل قريب أصدّق. وما في (م) أصوب.
(3) ورد البيت في معجم تهذيب اللغة للأزهري (أي) 15/ 653، وعنه في اللسان (أيا) برواية «أيا فعلت» مكان «أنى سلكت». ولم يعز لقائل.
(4) سقطت من (ط).

(3/230)


أن من الضمير في قوله: وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره [الكهف/ 63] وإذا أبدلت «1» منه حملت النصب في: ويقول* على ذلك، كأنّك قلت: عسى أن يأتي الله بالفتح، ويقول الذين آمنوا.
فأمّا من رفع، فحجّته أن يجعل الواو لعطف جملة على جملة، ولا يجعلها عاطفة على مفرد، ويدلّ على قوة الرفع قول من حذف الواو فقال: يقول الذين آمنوا*.
وأما إسقاط الواو وإثباتها من قوله: ويقول الذين آمنوا فالقول فيه «2» إنّ حذفها في المساغ والحسن كإثباتها. فأمّا الحذف فلأنّ في الجملة المعطوفة ذكرا من المعطوف عليها، وذلك أن من وصف بقوله: يسارعون فيهم يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة إلى قوله: نادمين [المائدة/ 52] هم الذين قال فيهم الذين آمنوا:
أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم [المائدة/ 53] فلمّا صار في كلّ واحدة من الجملتين ذكر من الأخرى حسن عطفها بالواو وبغير الواو، كما أن قوله:
سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم [الكهف/ 22] لمّا كان في كل واحدة من الجملتين ذكر مما تقدّم، اكتفي بذلك عن الواو، لأنّها بالذكر وملابسة بعضها ببعض به ترتبط إحداهما بالأخرى كما ترتبط بحرف العطف، وعلى هذا قوله: والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [البقرة/ 39]
__________
(1) في (ط) أبدلته.
(2) كذا في (ط) وسقطت من (م).

(3/231)


ولو أدخلت «1» الواو فقيل: وهم فيها خالدون، كان حسنا، ويدلّك على حسن دخول الواو قوله:
ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم فحذف الواو من قوله: ويقول الذين آمنوا كحذفها في هذه الآي، وإلحاقها كإلحاقها في قوله:
ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم [الكهف/ 22] فقد تبين لك بمجيء التنزيل بالأمرين أنّ هذا الموضع أيضا مثل ما جاء التنزيل به في غير هذا الموضع.

[المائدة: 54]
واختلفوا «2» في إظهار الدال وإدغامها من قوله جلّ وعز:
من يرتد منكم عن دينه [المائدة/ 54].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي بإدغام الدال الأولى في الآخرة.
وقرأ نافع وابن عامر: من يرتدد منكم عن دينه بإظهار الدالين وجزم الآخرة «3».
حجة من أظهرهما ولم يدغم: أن الحرف المدغم لا يكون إلّا ساكنا، ولا يمكن الإدغام في الحرف الذي يدغم حتى يسكن، لأنّ اللسان يرتفع عن المدغم فيه ارتفاعة واحدة، فإذا لم يسكن لم يرتفع اللسان ارتفاعة واحدة، فإذا لم يرتفع كذلك لم يمكن الإدغام فإذا كان كذلك لم يسغ الإدغام في الساكن «4»، لأنّ
__________
(1) في (ط): دخلت.
(2) في (ط): اختلفوا.
(3) السبعة 245.
(4) في (ط): (إذا كان كذلك). زيادة بعد الساكن.

(3/232)


المدغم إذا كان ساكنا، والمدغم فيه كذلك، التقى ساكنان، والتقاء الساكنين في الوصل في هذا النحو ليس من كلامهم، فأظهر الحرف الأوّل وحرّكه، وأسكن الحرف الثاني من المثلين، وهذه لغة أهل الحجاز فلم يلتق الساكنان.
وحجة من أدغم أنّه لما أسكن الحرف الأول من المثلين ليدغمه في الثاني «1» وكان الثاني ساكنا، وقد أسكن الأوّل للإدغام حرّك المدغم فيه لالتقاء الساكنين على اختلاف في التحريك، وهذه لغة بني تميم. وإنّما حرّك بنو تميم ذلك لتشبيههم إياه بالمعرب، وذلك أنّ المعرب قد اتفقوا على إدغامه، فلما وجدوا ما ليس بمعرب مشابها للمعرب في تعاور الحركات عليه كتعاورها على المعرب، جعلوه بمنزلة المعرب فأدغموا كما أدغموا المعرب، وهذا من فعلهم يدل على صحّة ما ذهب إليه سيبويه من تشبيه حركة الإعراب بحركة البناء في التخفيف نحو:
.. أشرب غير مستحقب «2» ألا ترى أنّهم «3» شبهوا حركة البناء بحركة الإعراب في إدغامهم في الساكن المحرّك «4» بغير حركة الإعراب، فكما شبهوا حركة البناء
بحركة الإعراب، كذلك شبهوا حركة الإعراب بحركة البناء في نحو:
أشرب غير مستحقب
__________
(1) عبارة (ط): ولم يدغم في الثاني ...
(2) سبق انظر 1/ 117 و 410.
(3) في (ط): قد.
(4) في (ط): المتحرك.

(3/233)


وليس ذلك بأبعد من تشبيههم أفكل بأذهب، وقد جاء التنزيل بالأمرين جميعا «1» قال [جلّ وعزّ] «2»: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى [النساء/ 115] وقال: ومن يشاقق الله ورسوله [الأنفال/ 13].

[المائدة: 57]
واختلفوا «3» في نصب الراء وخفضها من قوله تعالى «4»:
والكفار أولياء [المائدة/ 57].
فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة: والكفار نصبا «5».
وقرأ أبو عمرو والكسائي: والكفار* خفضا، وروى حسين الجعفي عن أبي عمرو والكفار بالنصب «6».
حجة من قرأ بالجر فقال: والكفار* أنه حمل الكلام على أقرب العاملين وقد تقدّم أن لغة التنزيل الحمل على أقرب العاملين، فحمل «7» على عامل الجرّ من حيث كان أقرب إلى المجرور من عامل النصب، وحسن الحمل على الجر، لأنّ فرق الكفار الثلاث: المشرك، والمنافق، والكتابي الذي لم يسلم، قد كان
منهم الهزء فساغ لذلك أن يكون الكفار ... مجرورا وتفسيرا
__________
(1) سقطت من (م).
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): اختلفوا.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط): بالنصب.
(6) السبعة 245.
(7) في (ط): فحمله.

(3/234)


للموصول، وموضحا له، فالدليل على استهزاء المشركين قوله: إنا كفيناك المستهزئين. الذين يجعلون مع الله إلها آخر [الحجر/ 95 - 96] والدليل على استهزاء المنافقين قوله: وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن [البقرة/ 14]. وأمّا «1» الكتابي الذي لم يسلم فيدا، على وقوع ذلك منه قوله: لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا «2» من الذين أوتوا الكتاب [المائدة/ 57] وكلّ من ذكرنا من المشركين والمنافقين ومن لم يسلم من أهل الكتاب يقع عليه اسم كافر ويدل على ذلك قوله: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين [البيّنة/ 1] وقال: ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب [الحشر/ 11] وقال: إن الذين آمنوا ثم كفروا [النساء/ 137]، فإذا وقع على المستهزئين اسم كافر حسن أن يكون قوله: والكفار* تفسيرا للاسم الموصول، كما كان قوله: من الذين أوتوا الكتاب تفسيرا له، ولو فسّر الموصول بالكفار لعمّ الجميع. ولكنّ الكفار كأنه أغلب على المشركين وأهل الكتاب، على من إذا عاهد دخل «3» في ذمّة المسلمين وقبلت «4» منه الجزية، على دينه أغلب فلذلك فصّل ذكرهما، ويدل على تقدم قوله: والكفار* قوله: ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم [البقرة/ 105] فكما
__________
(1) سقطت «أما» من (ط).
(2) في (م) لعبا ولهوا. وهو خطأ.
(3) في (م): «ودخل».
(4) في (م): قبلت.

(3/235)


أنّ الاتفاق فيما علمنا على الجرّ في قوله: ولا المشركين ولم يحمل على العامل الرافع، كذلك ينبغي أن يتقدم الجرّ في قوله:
والكفار أولياء.
وحجّة من نصب فقال: والكفار أولياء أنه عطف على العامل الناصب، فكأنّه قال: لا تتخذوا الكفار أولياء، وحجتهم في ذلك قوله: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين [آل عمران/ 28] فكما وقع النهي عن اتّخاذ الكفار أولياء في هذه الآية، كذلك يكون في الأخرى معطوفا على الاتخاذ.

[المائدة: 60]
واختلفوا «1» في ضم الباء وفتحها من قوله تعالى «2»: وعبد الطاغوت [المائدة/ 60].
فقرأ حمزة وحده: وعبد الطاغوت بفتح العين وضم الباء وكسر التاء من الطاغوت.
وقرأ الباقون: وعبد الطاغوت منصوبا كلّه «3».
حجّة حمزة في قراءته عبد الطاغوت: أنه يحمله على ما عمل فيه جعل* فكأنه قال: «4» وجعل منهم عبد الطاغوت. ومعنى جعل*: خلق كما قال: وجعل منها زوجها [الأعراف/ 189] وكما قال: وجعل الظلمات والنور [الأنعام/ 1] وليس عبد*
__________
(1) في (ط): اختلفوا.
(2) سقطت من (ط).
(3) السبعة 246.
(4) سقطت من (م).

(3/236)


لفظ جمع، ألا ترى أنّه ليس في أبنية الجموع شيء على هذا البناء، ولكنه واحد يراد به الكثرة، ألا ترى أن في الأسماء المنفردة المضافة إلى المعارف ما لفظه لفظ الإفراد ومعناه الجمع؟ وفي التنزيل: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [النحل/ 18] [يريد:
نعم الله] «1» فكذلك قوله: وعبد الطاغوت وجاء على فعل لأنّ هذا البناء تراد به الكثرة والمبالغة، وذلك نحو يقظ، وندس «2»، وفي التنزيل: وتحسبهم أيقاظا [الكهف/ 18] فكأنّ «3» تقديره أنّه قد ذهب في عبادة الطاغوت، والتذلّل له كلّ مذهب وتحقّق به، وجاء على هذا لأنّ عبدا في الأصل صفة، وإن كان قد استعمل استعمال الأسماء، واستعمالهم إياه استعمالها لا يزيل عنه كونه صفة، ألا ترى أنّ الأبرق والأبطح، وإن كانا استعملا استعمال الأسماء حتى كسّر هذا النحو تكسيرها عندهم في نحو قوله:
بالعذب في رصف القلات مقيله ... قضّ الأباطح لا يزال ظليلا
«4» لم يزل عنهما «5» حكم الصفة يدلك على ذلك تركهم
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) ندس: فهم سريع السمع فطن (اللسان).
(3) في (م): فهذا كأن.
(4) البيت لجرير يهجو الفرزدق.
والقلات جمع قلت: هي البئر تكون في الصخرة من ماء السماء، ولا مادة لها من ماء الأرض. والقض: الموضع الخصب.
انظر ديوانه/ 453 (الصاوي).
(5) في (ط): عنه.

(3/237)


صرفها «1» كتركهم صرف آخر «2»، ولم يجعلوا ذلك كأفكل، وأيدع «3»، فكذلك عبد، وإن كان قد استعمل استعمال الأسماء، لم يخرجه ذلك عن أن يكون صفة وإذا لم يخرج عن أن يكون صفة، لم يمتنع أن يبنى بناء الصفات على فعل نحو يقظ «4».
فأما من فتح فقال «5»: وعبد الطاغوت فإنّه عطفه على مثال الماضي الذي في الصلة وهو قوله: لعنه الله [النساء/ 118] وأفرد الضمير الذي «6» في عبد، وإن كان المعنى فيه الكثرة «7» لأنّ الكلام محمول على لفظ من دون معناه، وفاعله ضمير من كما أن فاعل الأمثلة المعطوف عليها ضمير من، فأفرد لحمل ذلك جميعا على اللفظ ولو حمل الكلّ على المعنى أو البعض على اللفظ والبعض على المعنى كان مستقيما.

[المائدة: 67]
واختلفوا «8» في التوحيد والجمع في قوله تعالى «9»: فما بلغت رسالاته «10» [المائدة/ 67].
__________
(1) في (ط): لصرفه.
(2) في (ط): أحمر.
(3) الأفكل على أفعل: الرّعدة تعلو الإنسان ولا فعل له اللسان (فكل) الأيدع:
صبغ أحمر وقيل هو خشب البقم أو دم الأخوين أو الزعفران. اللسان (يدع).
(4) ضبطها في (ط) على: فعل نحو يقظ.
(5) سقطت من (ط).
(6) زيادة في (ط).
(7) في (ط): كثرة.
(8) في (ط): اختلفوا.
(9) سقطت من (ط).
(10) في (ط): فما بلغت رسالته.

(3/238)


فقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: فما بلغت رسالته واحدة، وفي الأنعام: حيث يجعل رسالاته [الآية/ 124] جماعة، وفي الأعراف: برسالاتي [144] على الجمع أيضا.
وقرأ ابن كثير: رسالته على التوحيد، وفي الأنعام: حيث يجعل رسالته وفي الأعراف: برسالتي على التوحيد ثلاثهنّ.
وقرأ نافع: فما بلغت رسالاته جماعا، وقرأ في الأنعام:
حيث يجعل رسالاته جماعة «1»، وقرأ: على الناس برسالتي واحدة.
وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر: فما بلغت رسالاته وحيث يجعل رسالاته وعلى الناس برسالاتي جماعا ثلاثهنّ. وروى حفص عن عاصم: فما بلغت رسالته واحدة حيث يجعل رسالته واحدة أيضا وعلى الناس برسالاتي جماعا «2».
قال أبو علي: أرسل فعل يتعدّى إلى مفعولين: ويتعدّى إلى الثاني منهما بحرف الجر «3» كقوله: إنا أرسلنا نوحا إلى قومه [نوح/ 1] وأرسلناه إلى مائة ألف [الصافات/ 147] ويجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر، من نحو: أعطيت، وكسوت،
__________
(1) في (ط) جماعا أيضا.
(2) السبعة 246.
(3) في (ط): بالجار.

(3/239)


وليس من باب حسبت كقوله: ثم أرسلنا رسلنا تترا [المؤمنون/ 44] وقوله: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا [الأحزاب/ 45] وقال: فأرسل إلى هارون [الشعراء/ 13] فعدّى إلى الثاني، والأول مقدّر في المعنى، التقدير: أرسل رسولا إلى هارون، فأمّا قوله: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات [الحديد/ 25] فالجار في موضع نصب على الحال، كما تقول:
أرسلت زيدا بعدّته، وكذلك قوله: أرسله معنا غدا نرتع [يوسف/ 12] إن رفعت المضارع كان حالا، وإن جزمته كان جزاء.
وقد يستعمل الإرسال على معنى التخلية بين المرسل وما يريد «1» وليس يراد به البعث قال الراجز:
أرسل فيها مقرما غير قفر ... طبّا بإرسال المرابيع السؤر
«2» وقال آخر:
أرسل فيها بازلا يقرّمه ... وهو بها ينحو طريقا يعلمه
«3»
__________
(1) في (ط): وبين ما يريد.
(2) لم نعثر على قائله. المقرم: البعير المكرم الذي لا يحمل عليه ولا يذلل، ولكن يكون للفحلة والضراب، القفر: المنسوب إلى القفر، أو القليل اللحم.
المرابيع: جمع مرباع، وهي التي تنتج في الربيع. والسؤر جمع سؤرة وهي جيد المال.
(3) هذا رجز أورده أبو زيد في نوادره ص 461 ونسبه لرجل زعموا أنّه من كلب. وقال البغدادي في شرح الشافية 4/ 177: وقال خضر الموصلي شارح شواهد التفسيرين: البيت من رجز لرؤبة أوله:
قلت لزير لم تصله مريمه

(3/240)


فهذا إنّما يريد خلّى بين الفحل وبين طروقته، ولم يمنعه منها وقال:
فأرسلها العراك ولم يذدها ... ولم يشفق على نغض الدّخال
«1» المعنى: خلى بين هذه الإبل وبين شربها ولم يمنعها من ذلك، فمن هذا الباب قوله تعالى «2»: ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين [مريم/ 83] فأما ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر «3»:
لعمري لقد جاءت رسالة مالك ... إلى جسد بين العوائد مختبل
وأرسل فيها مالك يستحثّنا ... وأشفق من ريب المنون فما وأل
__________
أقول: قد فتشت هذه الأرجوزة مرارا، فلم أجد فيها البيت الشاهد. اهـ.
منه. وبعده:
وانظر الأزهري 13/ 117 واللسان (سما) وأساس البلاغة (قرم)، المصنف 1/ 60.
(1) البيت للبيد يصف إبلا أوردها الماء مزدحمة. والعراك الازدحام ولم يشفق على ما تنغص شربه منها، والدخال: أن يدخل القوي بين ضعيفين أو الضعيف بين قويين. فيتنغص عليه شربه. انظر ديوانه/ 108 وسيبويه 1/ 187، والمقتضب 3/ 237 وابن الشجري 2/ 284 وروي على نغض بالضاد، وانظر ابن يعيش 2/ 62، 4/ 55، والخزانة 1/ 524، والعيني 3/ 219، والمخصص 14/ 227 واللسان (عرك نغص دخل).
(2) في (ط): عز وجل.
(3) النوادر (ط. الفاتح) 203 والبيتان من مقطعة في ستة أبيات للبعيث واسمه خداش بن بشر بن خالد.

(3/241)


فالرسالة هاهنا بمنزلة الإرسال، والمصدر في تقدير الإضافة إلى الفاعل والمفعول الأول، في التقدير «1» محذوف كما كان محذوفا في قوله: فأرسل إلى هارون [الشعراء/ 13] والتقدير: رسالة مالك إلى جسد، والجار والمجرور في موضع نصب لكونه مفعولا ثانيا، والمعنى: إلى ذي جسد، لأنّ الرسالة لم تأت الجسد دون سائر المرسل إليه. ومثل ذلك قوله:
........ وبعد عطائك المائة الرّتاعا «2» في وضعه العطاء في موضع الإعطاء.
وقوله:
وأرسل فيها مالك يستحثّنا «3» .......
يجوز أن يكون المعنى: أرسل الرسالة يستحثنا، ودخول الجار كدخوله في قوله: لهم «4» فيها [يس/ 57]، ويستحثّنا حال من مالك. وإن شئت قلت: تستحثّنا، فجعلته حالا من الرسالة. وإن شئت ذكّرت، لأنّ الرسالة والإرسال بمعنى.
والرسول جاء على ضربين أحدهما أن يراد به المرسل.
والآخر [أن يراد به] «5» الرسالة، فالأوّل كقولك: هذا رسول زيد،
__________
(1) سقطت من (ط) في التقدير.
(2) هذا عجز بيت للقطامي صدره:
أكفرا بعد رد الموت عني.
وقد سبق في 1/ 182.
(3) سبق قريبا.
(4) في (م): كدخوله لهم.
(5) زيادة من (م).

(3/242)


تريد «1» مرسله وقال [جلّ وعز] «2»: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل [آل عمران/ 144] فهذا كأنه يراد به المرسل، يقوي ذلك قوله: إنك لمن المرسلين [يس/
3].
ومثل هذا في أنّه فعول: يراد به المفعول قوله «3»:
وما زلت خيرا منك مذ عضّ كارها ... بلحييك عاديّ الطريق ركوب
المعنى أنّه طريق مركوب مسلوك، وقال «4»:
تضمّنها وهم ركوب كأنّه ... إذا ضمّ جنبيه المخارم رزدق
وقالوا: الحلوبة والحلوب، والركوبة والركوب لما يحلب ويركب. فأمّا استعمالهم الرسول بمعنى الرسالة فكقول الشاعر:
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم ... بسرّ ولا أرسلتهم برسول
«5» أي: برسالة، فيجوز على هذا في قوله: إنا رسول ربك [طه/ 47] أن يكون التقدير: إنّا ذوو رسالة ربك. فلم يثنّ رسول كما لا يثنّى المصدر. ويجوز أن يكون وضع الواحد موضع التثنية كما وضع موضع الجمع «6» في قوله: وهم لكم عدو
__________
(1) زادت (ط): «أي» بعد تريد.
(2) سقطت من (ط).
(3) لم نعثر على قائله.
(4) لم نعثر على قائله.
(5) البيت لكثير عزة. انظر تهذيب اللغة للأزهري 12/ 391.
(6) في (ط): الجميع.

(3/243)


[الكهف/ 50] فإن كان من قوم عدو [النساء/ 92] ونحو ذلك.
وجمع رسالة: رسالات، وعلى «1» التكسير رسائل ومثله: عمامة وعمامات وعمائم. فأما قوله تعالى «2»: أعلم حيث يجعل رسالاته [الأنعام/ 124] فلا يخلو حيث فيه من أن يكون انتصابه انتصاب الظروف، أو انتصاب المفعولين «3» ولا يجوز أن يكون انتصابه انتصاب الظروف، لأن علم القديم سبحانه في جميع الأماكن على صفة واحدة، فإذا لم يستقم أن يحمل أفعل على زيادة علم في مكان، علمت أن انتصابه انتصاب المفعول به، والفعل، الناصب مضمر دلّ عليه قوله: أعلم كما أن القوانس في قوله:
وأضرب منا بالسيوف القوانسا «4» ينتصب على مضمر دلّ عليه أضرب، فكذلك حيث إذا انتصب انتصاب المفعول به، ألا ترى أنّ المفعول به لا ينتصب بالمعاني ومثل ذلك في انتصاب حيث على أنّه مفعول به قول الشماخ:
وحلّأها عن ذي الأراكة عامر ... أخو الخضر يرمي حيث تكوى النّواحز
«5»
__________
(1) في (ط): حكى.
(2) في (ط): عزّ وجلّ: (الله أعلم ... ).
(3) في (ط): المفعول به.
(4) هذا عجز بيت للعباس بن مرداس، وقد سبق انظر 1/ 27.
(5) انظر ديوانه/ 182. حلأها: منعها من الماء والضمير للحمر، عامر أخو

(3/244)


فحيث مفعول به، ألا ترى أنه ليس يريد أنه يرمي شيئا حيث تكوى النواحز، إنّما يرمي حيث تكوى النواحز، فحيث تكوى مفعول به وليس بمفعول فيه.
فحجة من جمع فقال: برسالاتي أن الرسل يرسلون بضروب من الرسائل كالتوحيد والعدل، وما يشرعون من الشرائع، وما ينسخ منها على ألسنتهم، فلمّا اختلفت الرسائل حسن أن يجمع، كما حسن أن تجمع أسماء الأجناس إذا اختلفت، ألا ترى أنّك تقول: رأيت تمورا كثيرة، ونظرت في علوم كثيرة «1» فجمعت هذه الأسماء «2» إذا اختلفت ضروبها كما تجمع غيرها من الأسماء.
وحجة من أفرد هذه الأسماء ولم يجمعها أنّها تدل على الكثرة، وإن لم تجمع كما تدل عليها الألفاظ المصوغة «3» للجمع، وتدل على الكثير «4» كما تدل ألفاظ الجمع عليه. مما يدل على ذلك
__________
الخضر قانص مشهور، وقيل له الرامي، وفيه يقول الشماخ البيت. والخضر:
هم ولد مالك بن طريف بن خلف بن محارب بن خصفه بن قيس عيلان وسموا بذلك لشدّة سمرتهم، والخضرة في ألوان الناس: السمرة. ذو الأراكة: نخل بموضع من اليمامة لبني عجل، انظر معجم البلدان (أراك) النواحز: التي بها نحاز: وهو داء يأخذ الدواب والإبل في رئاتها فتسعل سعالا شديدا. فتكوى في جنوبها وأصول أعناقها فتشفى انظر المعاني الكبير 2/ 782 والبحر المحيط 4/ 216.
(1) سقطت من (م).
(2) في (ط): فجميع هذه الأسماء جمعت.
(3) في (ط): الموضوعة.
(4) في (ط): التكثير.

(3/245)


قوله تعالى «1»: لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا [الفرقان/ 14] فوقع الاسم الشائع على الجميع، كما يقع على الواحد، فكذلك الرسالة ولو وضع موضع القراءة بالإفراد الجمع، أو موضع الجمع الإفراد، لكان سائغا في العربية، إلّا أنّ لفظ الجمع في الموضع الّذي يراد به الجمع «2» أبين.
والقرّاء قد يتبعون مع ما يجوز في العربية الآثار، فيأخذون بها ويؤثرونها. إذا وجدوا مجاز ذلك في العربية مجازا واحدا.

[المائدة: 71]
واختلفوا في رفع النون ونصبها من قوله [جلّ وعز]: «3» وحسبوا ألا تكون فتنة [المائدة/ 71].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر أن لا تكون فتنة نصبا.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: أن لا تكون فتنة رفعا.
ولم يختلفوا في رفع فتنة «4». قيل: إنّ المراد بقوله:
وحسبوا ألا تكون فتنة: حسبوا أن لا تكون فتنة بقولهم «5»:
نحن أبناء الله وأحباؤه [المائدة/ 18].
قال أبو علي: الأفعال على ثلاثة أضرب: فعل يدلّ على ثبات الشيء واستقراره، وذلك نحو العلم والتيقّن والتبيّن،
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): الجميع.
(3) سقطت من (ط).
(4) السبعة 247.
(5) في (ط): لقولهم.

(3/246)


والتثبّت، وفعل يدلّ على خلاف الاستقرار والثبات. وفعل يجذب مرّة إلى هذا القبيل، وأخرى «1» إلى هذا القبيل، فما كان معناه العلم وقعت «2» بعده أنّ الثقيلة، ولم تقع بعده الخفيفة الناصبة للفعل، وذلك أنّ أنّ الثقيلة معناها ثبات الشيء واستقراره، والعلم وبابه كذلك أيضا، فإذا أوقع عليه واستعمل معه كان وفقه وملائما له. ولو استعملت الناصبة للفعل بعد ما معناه العلم واستقرار الشيء لم تكن وفقه فتباينا وتدافعا، ألا ترى أنّ «أن» الناصبة لا تقع على ما كان ثابتا مستقرا. فمن استعمال الثقيلة بعد العلم ووقوعه «3» عليها قوله: ويعلمون أن الله هو الحق المبين [النور/ 25] وأ لم يعلم بأن الله يرى [العلق/ 14] لأنّ الباء زائدة وكذلك التّبيّن والتيقّن، وما كان معناه العلم كقوله تعالى «4»: ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات [يوسف/ 35] فبدا* ضرب من العلم، ألا ترى أنّه تبيّن لأمر لم يكن قد تبيّن، فلذلك كان قسما، كما كان علمت قسما في نحو قوله:
ولقد علمت لتأتينّ منيّتي «5»
__________
(1) في (ط): ومرة.
(2) في (ط): وقع.
(3) في (ط): وإيقاعه.
(4) سقطت من (ط).
(5) هذا صدر بيت عجزه:
إنّ المنايا لا تطيش سهامها.
انظر الكتاب 1/ 456، والخزانة 4/ 13، 332 وشرح أبيات المغني 6/ 232 والعيني 2/ 405، والأشموني 2/ 30 قال البغدادي: ونسبه سيبويه في كتابه للبيد والموجود في معلقته إنّما هو المصراع الثاني
وصدره: صادفن منها غرّة فأصبنه.
ولم يوجد للبيد في ديوانه شعر على هذا الروي غير المعلقة والله أعلم (انظر ديوانه ص 171).

(3/247)


قال: ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه [يوسف/ 35] فهذا بمنزلة: علموا ليسجننّه «1»، وعلى هذا قول الشاعر:
بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى «2» ...
فأوقع بعدها الشديدة كما يوقعها بعد علمت.
وأمّا ما كان معناه ما لم يثبت ولم يستقر، فنحو: أطمع وأخاف وأخشى وأشفق وأرجو، فهذه ونحوها تستعمل بعد «3» الخفيفة الناصبة للفعل، قال: والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي [الشعراء/ 82] وتخافون أن يتخطفكم الناس [الأنفال/ 26] وإلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما [البقرة/ 229] فخشينا أن يرهقهما [الكهف/ 80] أأشفقتم أن تقدموا [المجادلة/ 13] وكذلك أرجو وعسى ولعلّ.
وأمّا ما يجذب مرة إلى هذا الباب ومرّة إلى الباب الأول «4» فنحو: حسبت، وظننت وزعمت، فهذا النحو يجعل مرّة بمنزلة أرجو وأطمع من حيث كان أمرا غير مستقر، ومرة يجعل بمنزلة
__________
(1) في (ط) زيادة: حتى حين.
(2) هذا صدر بيت لزهير عجزه:
ولا سابقا شيئا إذا كان جائيا.
انظر الكتاب 1/ 83 وغيرها، الخصائص 2/ 353، 424، ابن يعيش 2/ 53، الخزانة 3/ 665 والعيني 2/ 267، 3/ 351، وديوانه/ 287 وفيه:
ولا سابقي شيء.
(3) في (ط): فهذا ونحوه يستعمل بعده.
(4) في (ط): هذا الباب بدل: «الباب الأوّل».

(3/248)


العلم من حيث استعمل استعماله ومن حيث كان خلافه، والشيء قد يجري خلافه «1» في كلامهم نحو: عطشان وريّان. فأما استعمالهم إياه استعمال العلم فهو أنهم قد أجابوه بجواب القسم، حكى سيبويه: ظننت ليسبقنّني «2». وقيل في قوله: وظنوا ما لهم من محيص [فصلت/ 48] أنّ النفي جواب للظن، كما كان جوابا لعلمت في قوله: لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات [الإسراء/ 102]. فكلتا القراءتين في قوله: وحسبوا ألا تكون فتنة، وكلا الأمرين قد جاء به التنزيل، فمثل قول من نصب فقال: ألا تكون قوله: أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا [العنكبوت/ 4] أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم [الجاثية/ 21] أحسب الناس أن يتركوا [العنكبوت/ 2]. ومثل قراءة من رفع: أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم [الزخرف/ 37] أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين [المؤمنون/ 55] أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه [القيامة/ 3] فهذه مخففة من الشديدة. ومثل ذلك في الظن قوله:
تظن أن يفعل بها فاقرة [القيامة/ 25]. وقوله: إن ظنا أن يقيما حدود الله [البقرة/ 230]. وفي «3» الرفع قوله: وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا [الجن/ 5] وقوله: وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا [الجن/ 7] ف «أن» هاهنا المخففة من الشديدة، لأنّ الناصبة للفعل لا يقع بعدها «لن» لاجتماع
__________
(1) في (ط): الخلاف.
(2) الكتاب 1/ 456 وفيه: «أظن» بدل: «ظننت».
(3) في (ط): ومن.

(3/249)


الحرفين في الدلالة على الاستقبال، كما لم تجتمع الناصبة مع السين، ولم يجتمعا كما لا يجتمع الحرفان لمعنى واحد، فمن ثمّ كانت أن في قوله تعالى: علم أن سيكون منكم مرضى [المزمل/ 20] المخففة من الشديدة، ومن ذلك قوله: وظنوا أنهم أحيط بهم [يونس/ 22].
فأما قوله: الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم [البقرة/ 46] فالظن هاهنا علم، وكذلك قوله: إني ظننت أني ملاق حسابيه [الحاقة/ 20] وقال سيبويه: لو قلت على جهة المشورة: «ما أعلم إلّا أن تدعه» لنصبت، وهذا «1» لأنّ المشورة أمر غير مستقرّ. ولا متيقّن من المشير، فصار بمنزلة الأفعال الدالّة على خلاف الثبات والاستقرار. وحسن وقوع المخفّفة من الشديدة في قول من رفع، وإن كان بعدها «2» فعل لدخول لا، وكونها عوضا من حذف الضمير معه، وإيلائه ما لم يكن يليه. ولو قلت: علمت أن تقول لم يحسن حتى تأتي بما يكون عوضا نحو: قد، ولا، والسين، وسوف، كما قال: علم أن سيكون منكم مرضى [المزمل/ 20] فإن قلت: فقد جاء: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [النجم/ 39]
فلم يدخل بين أن وليس شيء. فإنّما جاء هذا لأنّ ليس ليس بفعل على الحقيقة.
قال أحمد: وكلهم قرأ: ألا تكون فتنة بالرفع [في فتنة] «3» فهذا لأنّهم جعلوا كان بمنزلة وقع، ولو نصب فقيل: أن لا
__________
(1) في (ط): فهذا.
(2) في (ط) بعده.
(3) سقطت من (ط).

(3/250)


يكون فتنة أي: أن لا يكون قولهم فتنة: لكان جائزا في العربية، وإنّما رفعوه فيما نرى لاتباع الأثر، لا لأنّه لا يجوز في العربية غيره «1».

[المائدة: 89]
اختلفوا في تشديد القاف وتخفيفها وإدخال الألف وإخراجها من قوله [عزّ وجل] «2» عقدتم الأيمان [المائدة/ 89].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: بما عقدتم بغير ألف مشدّدة القاف.
وكذلك روى حفص عن عاصم.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: بما عقدتم بغير ألف خفيفة. وكذلك قرأ حمزة والكسائي. وقرأ ابن عامر عاقدتم بألف «3».
قالوا: أعقدت العسل، فهو معقد وعقيد. وأخبرنا أبو إسحاق أنّ بعضهم قال: عقدت العسل، قال: والكلام أعقدت.
من قال: عقدتم فشدد القاف احتمل أمرين: أحدهما: أن يكون لتكثير الفعل لقوله: ولكن يؤاخذكم فخاطب الكثرة فهذا مثل: غلقت الأبواب [يوسف/ 23] والآخر: أن يكون عقّد مثل ضعّف، لا يراد به التكثير، كما أن ضاعف لا يراد به فعل من اثنين.
__________
(1) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(2) سقطت من (ط).
(3) السبعة 247.

(3/251)


ومن قال: عقدتم فخفف جاز أن يراد به الكثير من الفعل والقليل، إلّا أن فعّل يختص بالكثير، كما أن الرّكبة تختصّ بالحال التي يكون عليها الركوب. وقالوا: عقدت الحبل والعهد، واليمين: عهد، ألا ترى أن عاهدت يتلقّى بما يتلقّى به القسم قال:
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم «1» وأما قراءة ابن عامر بما عاقدتم الأيمان فيحتمل ضربين:
أحدهما: أن يكون عاقدتم يراد به عقدتم، كما أن عافاه الله وعاقبت اللصّ، وطارقت النعل بمنزلة فعلت، فتكون قراءته في المعنى «2» على هذا كقراءة من خفف. ويحتمل أن يراد بعاقدتم:
فاعلت. الذي «3» يقتضي فاعلين فصاعدا، كأنه يؤاخذكم بما عاقدتم عليه اليمين. ولما كان عاقد في المعنى قريبا من عاهد عدّي «4» بعلى كما يعدّى عاهد بها، قال: ومن أوفى بما عاهد عليه الله [الفتح/ 10] ونظير ذلك في تعديته بالجار لما كان
__________
(1) هذا صدر بيت للحطيئة من قصيدة يمدح فيها بغيضا وعجزه:
شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا انظر ديوانه/ 128. قال شارحه: العناج: حبل يشدّ أسفل الدلو إذا كانت ثقيلة، والكرب: عقد الرشاء الذي يشد على العراقي. والعراقي: العودان:
المصلبان اللذان تشد إليهما الأوذام، فأراد أنهم إذا عقدوا لجارهم عقدا أحكموه.
(2) سقطت من (م).
(3) في (ط): التي.
(4) في (ط): عداه.

(3/252)


بمعنى ما يتعدّى به قولهم: ناديت، قالوا: ناديت زيدا، وناديناه من جانب الطور [مريم/ 52]، وقال: وإذا ناديتم إلى الصلاة [المائدة/ 58] فعدّي بالجار لما كان بمعنى ما يتعدّى بالجار، وهو دعوت تقول: دعوته إلى كذا، وقال: ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله [فصلت/ 33] فكما عدّي نادى لمّا كان في معنى دعا بالجار، كذلك عدّي عاقد- لمّا كان بمعنى عاهد- به واتسع فيه، وحذف الجار فوصل الفعل إلى المفعول، ثمّ حذف من الصلة الضمير الذي «1» كان يعود إلى الموصول، كما حذف «2» من قوله:
فاصدع بما تؤمر [الحجر/ 94] ومثل حذف الجار هنا حذفه من قول الشاعر:
كأنّه واضح الأقراب في لقح ... أسمى بهنّ وعزّته الأناصيل
«3» إنّما هو عزت عليه، فاتّسع فيه «4»، فالتقدير: يؤاخذكم بالذي عاقدتم عليه، ثمّ عاقدتموه الأيمان فحذف الراجع. ويجوز أن يجعل ما التي مع الفعل بمنزلة المصدر فيمن قرأ عقدتم وعقدتم، ولا يقتضي «5» راجعا، كما لا تقتضيه في نحو قوله تعالى «6»: ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون [البقرة/ 10]
__________
(1) في (ط): لما.
(2) في (ط): حذفه.
(3) البيت في اللسان والتاج (نصل) ولم يعز لقائل. والأنصولة بالضم:
نور نصل البهمى، وقيل: هو ما يوبسه الحر من البهمى فيشتد على الأكلة.
اللّقح: جمع لقحة، وهي الناقة اللبون. الأقراب: جمع قرب وهو الخاصرة.
(4) سقطت من (ط).
(5) في (ط) فلا تقتضي.
(6) سقطت من (ط).

(3/253)


وقوله: فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون [الأعراف/ 51] والكفارة في الأيمان إنّما أوجبت بالتنزيل فيما عقد عليه دون اليمين التي لم يعقد عليها. يدل على ذلك قوله: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته [المائدة/ 89] أي: كفارة ما عقدتم عليه، والمعقود عليه ما كان موقوفا على الحنث، والبرّ، دون ما لم يكن كذلك.

[المائدة: 95]
واختلفوا «1» في الإضافة والتنوين في «2» قوله تعالى «3»:
فجزاء مثل ما قتل «4» [المائدة/ 95].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: فجزاء مثل ما مضافة بخفض «5» مثل.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: فجزاء مثل جزاء منون، ومثل مرفوع.
حجّة من رفع المثل أنه صفة للجزاء، والمعنى: فعليه جزاء من النّعم مماثل المقتول، والتقدير: فعليه جزاء وفاء للّازم له، أو:
فالواجب عليه جزاء من النعم مماثل ما قتل من الصيد، ف من النعم على هذه القراءة صفة للنّكرة، والتي «6» هي جزاء وفيه
__________
(1) في (ط): اختلفوا.
(2) في (ط): من.
(3) سقطت من (ط).
(4) زادت (ط) بعدها: مضافة وبخفض مثل.
(5) في (ط): وبخفض.
(6) في (ط): «التي» بإسقاط الواو.

(3/254)


ذكره، ويكون مثل صفة للجزاء، لأنّ المعنى عليه جزاء مماثل للمقتول من الصيد من النعم. والمماثلة في القيمة أو الخلقة «1» على حسب اختلاف الفقهاء في ذلك، ولا ينبغي إضافة جزاء إلى المثل، ألا ترى أنّه ليس عليه جزاء مثل ما قتل في الحقيقة. إنّما عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله، ولا جزاء عليه لمثل المقتول الذي لم يقتله، فإذا كان ذلك «2» كذلك، علمت أنّ الجزاء لا ينبغي أن يضاف إلى المثل «3»، لأنّه يوجب جزاء المثل، والموجب جزاء المقتول من الصيد، لا جزاء مثله الذي ليس بمقتول. ولا يجوز أن يكون قوله: من النعم على هذه القراءة متعلّقا بالمصدر كما جاز أن يكون الجار متعلقا به في «4» قوله: جزاء سيئة بمثلها [يونس/ 27]، لأنك قد وصفت الموصول، فإذا وصفته لم يجز أن تعلّق به بعد الوصف شيئا، كما أنّك إذا عطفت عليه أو أكّدته لم يجز أن تعلّق به شيئا بعد العطف عليه، والتأكيد له.
وأما «5» قراءة من أضاف الجزاء إلى المثل، فإنّ قوله: من النعم يكون صفة للجزاء، كما كان في قول من نوّن ولم يضف صفة له. ويجوز فيه وجه آخر لا يجوز في قول من نوّن ووصف، وهو أن يقدره متعلّقا بالمصدر، ولا يجوز على هذا القول أن يكون
__________
(1) في (ط): والخلقة.
(2) سقطت من (م).
(3) في (ط): مثل.
(4) في (ط): به من.
(5) في (ط): وأما في.

(3/255)


فيه ذكر كما تضمّن الذكر لمّا كان صفة، وإنّما جاز تعلّقه بالمصدر على قول من أضاف لأنّك لم تصف الموصول كما وصفته في قول من نوّن، فيمتنع تعلّقه به، والدليل على أن المثل منفصل مما أضيف إليه، وأن المضاف إليه لا يقع عليه المثل في المعنى قول دريد بن الصمّة:
وقاك الله يا ابنة آل عمرو ... من الأزواج أمثالي ونفسي
وقالت إنّه شيخ كبير ... وهل نبّأتها أنّي ابن أمس
«1» ألا ترى أنّ نفسه لو دخلت في جملة قوله: أمثالي، لم يحتج أن يقول: نفسي.
وأما من أضاف الجزاء إلى مثل، فقال: فجزاء مثل ما قتل من النعم [المائدة/ 95] فإنّه وإن كان عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله، فإنّهم قد «2» يقولون: أنا أكرم مثلك، يريدون: أنا أكرمك، فكذلك إذا قال: فجزاء مثل ما قتل، فالمراد: جزاء ما قتل، كما أن المراد في: أنا أكرم مثلك: أنا أكرمك. فإذا كان كذلك كانت الإضافة في المعنى كغير الإضافة، لأنّ المعنى: فعليه جزاء ما قتل، ومما يؤكد أنّ المثل، وإن كان قد أضيف إليه الجزاء، فالمعنى: فعليه جزاء المقتول لا جزاء مثله الذي لم
__________
(1) البيتان من قصيدة لدريد بن الصمة يهجو بها الخنساء لأنّها رفضت أن تتزوج منه.
الأغاني 10/ 23 وفيهما اختلاف يسير في الرواية.
(2) سقطت من (م).

(3/256)


يقتل: قوله تعالى «1»: أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات [الأنعام/ 122] والتقدير:
أفمن جعلنا له نورا يمشي به كمن هو في الظلمات، والمثل والمثل، والشّبه والشّبه واحد، فإذا كان مثله في الظلمات فكأنّه هو أيضا فيها. وقوله: وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كقوله:
يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به [الحديد/ 28] وقال: انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا [الحديد/ 13] وقال: نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم [التحريم/ 8] ولو قدّرت الجزاء تقدير المصدر، فأضفته إلى المثل، كما تضيف المصدر إلى المفعول به، لكان في قول من جرّ مثلا على الاتساع الذي وصفنا، ألا ترى أن المعنى: فجزاء مثل ما قتل «2» أي يجازى مثل ما قتل، والواجب عليه في الحقيقة جزاء المقتول لا جزاء مثل المقتول.

[المائدة: 95]
واختلفوا «3» في الإضافة والتنوين من قوله [جلّ وعز] «4»:
أو كفارة طعام مساكين [المائدة/ 95].
فقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي: أو كفارة منونا طعام رفعا مساكين جماعة.
وقرأ نافع وابن عامر: أو كفارة رفعا غير منون، طعام
__________
(1) في (ط): عز وجل.
(2) في (م): معنى فجزاء مثل.
(3) في (ط): اختلفوا.
(4) سقطت من (ط).

(3/257)


مساكين على الإضافة، ولم يختلفوا في مساكين أنه جمع «1».
وجه قول من رفع طعام مساكين أنّه جعله عطفا على الكفارة عطف بيان لأنّ الطعام هو الكفّارة، ولم يضف الكفّارة إلى الطعام لأنّ الكفّارة ليست للطعام، إنّما الكفّارة لقتل الصّيد، فلذلك لم يضيفوا الكفّارة إلى الطعام.
ومن أضاف الكفّارة إلى الطعام، فلأنّه لما خيّر المكفّر بين ثلاثة أشياء: الهدي، والطعام، والصيام، استجاز الإضافة لذلك، فكأنّه قال: كفّارة طعام لا كفّارة هدي، ولا كفّارة صيام، فاستقامت الإضافة عنده لكون الكفّارة من هذه الأشياء.

[المائدة: 97]
واختلفوا «2» في إدخال الألف وإخراجها من قوله تعالى:
قياما للناس [المائدة/ 97].
فقرأ ابن عامر وحده: قيما* بغير ألف.
وقرأ الباقون قياما بألف «3».
قوله عز وجل: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس [المائدة/ 97] التقدير فيه: جعل الله حج الكعبة [البيت الحرام قياما] «4» أو نصب الكعبة قياما لمعايش الناس ومكاسبهم «5»، لأنه مصدر قاموا، كأنّ المعنى: قاموا بنصبه ذلك لهم فاستتبّت
__________
(1) السبعة 249.
(2) في (ط): اختلفوا.
(3) السبعة: 248.
(4) ما بين المعقوفتين زيادة في (م).
(5) في (ط): أو مكاسب الناس.

(3/258)


معايشهم به «1» واستقامت أحوالهم له. ويؤكّد إثبات الألف في القيام قوله: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما [النساء/ 5] فالقيام: كالعياذ، والصيام والقياد «2» وعلى هذا ما لحقته تاء التأنيث من هذه المصادر فجاءت على فعالة كالزيارة والعياسة «3» والسياسة والحياكة. فكما جاءت هذه المصادر على فعالة «4»، كذلك حكم القيام أن يكون على فعال.
ووجه قول ابن عامر قيما* على أحد أمرين: إما أن يكون جعله مصدرا كالشّبع «5»، أو حذف الألف وهو يريدها كما يقصر الممدود. وحكم هذا الوجه أنّه يجوز في الشعر دون الكلام وحال السعة. فإن قلت: فإذا جعله مصدرا كالشّبع «5» فهلّا صحّحه كما صحح الحول والعوض مما «7» ليس على بناء من أبنية الفعل؟
فالقول فيه أنه لما اعتلّ فعله اعتلّ المصدر على اعتلال فعله، ألا ترى أنّهم قالوا: ديمة وديم، وحيلة وحيل، فأعلّوا الجموع لاعتلال آحادها «8»، فإذا أعلّوا الجموع لاعتلال الآحاد، فأن تعلّ المصادر لاعتلال أفعالها أولى، ألا ترى أنّهم قد أعلّوا بعض الآحاد، وصححوا الجموع نحو معيشة ومعايش، ومقام ومقاوم، ولم
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) كذا في (ط) وسقطت من (م).
(3) سقطت من (م). والعياسة: من عاس ما له: أحسن القيام عليه.
(4) في (ط): على فعال أو فعالة.
(5) في (م): «كالشيع» وهو تصحيف.
(7) في (ط): وما.
(8) في (ط): الآحاد.

(3/259)


يصحّحوا مصدرا أعلّوا فعله، لكي يجزي المصدر على فعله، إن صحّ حرف العلّة في الفعل صحّ في مصدره، نحو اللّواز والغوار، وإن اعتلّ في الفعل اعتلّ في مصدره. وتقدير الآية: جعل الله حج الكعبة [البيت الحرام] «1» أو نصب الكعبة قياما لمعايش الناس ومصالحهم. وقوله تعالى: والشهر الحرام [المائدة/ 97] معطوف على المفعول الأول: لجعل. ونحو ذلك: ظننت زيدا منطلقا وعمرا، أي: فعل ذلك ليعلموا أنّ الله يعلم مصالح ما في السموات والأرض، وما يجري عليه شأنهم في معايشهم، وغير ذلك مما يصلحهم، وأن الله بكلّ شيء يقيمهم ويصلحهم عليم.
وقيل في قوله: قياما للناس: أمنا لهم. وقيل: قياما للناس أي: مما ينبغي أن يقوموا به، والقول الأوّل عندنا أبين.

[المائدة: 107]
واختلفوا «2» في التثنية والجمع في قوله: استحق عليهم الأوليان [المائدة/ 107].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي: من الذين استحق عليهم مضمومة التاء، الأوليان على التثنية.
وروى نصر بن عليّ عن أبيه عن قرّة قال: سألت ابن كثير فقرأ: استحق بفتح التاء الأوليان على التثنية.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة استحق بضم التاء الأولين* جماع «3».
__________
(1) سقطت من (م).
(2) في (ط): اختلفوا.
(3) في (ط): جماعا.

(3/260)


وروى حفص عن عاصم استحق بفتح التاء. الأوليان على التثنية «1».
قال الواقديّ: حدثنا أسامة بن زيد عن أبيه قال: كان تميم الداريّ وأخوه عديّ نصرانيّين، وكان متّجرهما إلى مكّة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قدم ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص المدينة وهو يريد الشام تاجرا، فخرج هو وتميم الداري وأخوه عديّ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق مرض ابن أبي مارية، فكتب وصية بيده ودسّها في متاعه، وأوصى إليهما، فلما مات فتحوا «2» متاعه، فوجدوا وصيّته وقد كتب ما خرج به، ففقدوا شيئا فسألوهما فقالا: لا ندري، هذا الذي قبضنا له، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» فنزلت الآية «4»: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم [المائدة/ 106] فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» أن يستحلفوهما بالله ما قبضا له غير هذا ولا كتماه. قال الواقدي: فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» بعد العصر، فمكثا ما شاء الله، ثمّ ظهر على إناء من فضة منقوش بذهب «7» معهما، فقالوا: هذا من متاعه، فقالا: اشتريناه منه، وارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية: فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما [المائدة/ 107] قال: فأمر
__________
(1) السبعة 248 - 249.
(2) في (ط): فتحا.
(3) في (ط): صلى الله عليه.
(4) في (ط): فأنزل الله الآية.
(7) في (ط): مذهب.

(3/261)


رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» رجلين من أهل الميت أن يحلفا «2» على ما كتما وغيّبا. قال الواقدي: فحلف عبد الله بن عمرو والمطّلب بن أبي وداعة، فاستحقّا، ثمّ إنّ تميما أسلم، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم «3»، وكان يقول: صدق الله وبلّغ رسوله، أنا أخذت الإناء «4».
قال: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان فشهادة مرتفع بالابتداء، واتّسع في بين، وأضيف إليه المصدر، وهذا يدل على قول من قال: إن الظروف التي تستعمل أسماء يجوز أن تستعمل أسماء في غير الشعر، ألا ترى أنّه قد جاء ذلك «5» في التنزيل وكذلك «5»:
لقد تقطع بينكم [الأنعام/ 94] في قول من رفع، فجاء في غير الشعر، كما جاء في الشعر نحو قوله:
فصادف بين عينيه الجبوبا «7»
__________
(1) في (ط): صلى الله.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): صلى الله.
(4) أخرج حديث سبب النزول على نحو آخر البخاري في كتاب الوصايا 5/ 409 برقم 2780 عن ابن عباس. والترمذي في التفسير 8/ 224 عن ابن عباس عن تميم الداري وقال: هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح. وفيه اختلاف في الرواية عمّا هنا. وانظر تفسير ابن كثير 3/ 214 (ط الشعب).
(5) سقطت من (ط).
(7) عجز بيت لأبي خراش الهذلي ونصّه في ديوان الهذلين 3/ 1205.
فلاقته ببلقعة براز* فصادم بين عينيها الجبوبا وانظر اللسان (جبب) وفيه: براح مكان براز وتصادم مكان فصادم.
هذا وقد جاء ضبطها في الهذليين بالفتح ولم يشر السكري إلى ضبطها وما يجب أن يكون عليه. وكذلك ورد ضبطها في اللسان خطأ بالفتح مخالفا ما نصّص عليه.

(3/262)


فأمّا قوله: إذا حضر أحدكم الموت [المائدة/ 106] فيجوز أن يتعلّق بالشهادة فيكون معمولها، ولا يجوز أن يتعلّق بالوصية لأمرين: أحدهما أنّ المضاف إليه لا يعمل في ما قبل المضاف، لأنّه لو عمل فيما قبله للزم أن يقدّر وقوعه في موضعه، فإذا قدر ذلك لزم تقديم المضاف إليه على المضاف، ومن ثمّ لم يجز:
القتال زيدا حين نأتي. والآخر: أنّ الوصية مصدر فلا يتعلّق به ما يتقدم عليه، فأما قوله: حين الوصية فلا يجوز أن تحمله على الشهادة، لأنّه إذا عمل في ظرف من الزمان لم يعمل في ظرف آخر منه «1»، ولكن تحمله على ثلاثة أوجه «2»، أحدها: أن تعلّقه بالموت، كأنه الموت من «3» ذلك الحين، وهذا إنّما يكون على ما قرب منه «4». يدلّك على ذلك قوله عزّ وجل «5»: حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن [النساء/ 18]، وكذلك قوله: حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا [الأنعام/ 61]، وقوله: حتى إذا
جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون
[المؤمنون/ 99] فلو كان هذا على وقوعه، ولم يكن على مقاربته، لم يجز أن يسند إليه القول بعد الموت. والثاني «6»: أن تحمله على حضر، أي: إذا حضر في هذا الحين. والثالث: أن تحمله على البدل من إذا، لأنّ ذلك الزمان في المعنى هو ذلك الزمان، فتبدله منه كما تبدل الشيء
__________
(1) في (ط): فيه.
(2) في (ط): أحد ثلاثة أشياء.
(3) في (ط): في.
(4) سقطت من (م).
(5) سقطت من (ط).
(6) في (ط): والآخر.

(3/263)


من الشيء إذا كان إياه. وقوله تعالى: اثنان ذوا عدل منكم [المائدة/ 106]، هو خبر المبتدأ الذي هو شهادة بينكم، والتقدير شهادة بينكم شهادة اثنين، فأقام «1» المضاف إليه مقام المضاف، ألا ترى أنّ الشهادة لا تكون إلّا باثنين. وقوله: منكم، صفة لقوله:
اثنان، كما أنّ ذوا عدل صفة لهما وفي الظرف ضميرهما.
وقوله: أو آخران من غيركم تقديره: أو شهادة آخرين من غيركم، ومن غيركم صفة للآخرين «2» كما كان منكم صفة الاثنين «3»، وأما من غيركم فقيل في تفسيره: إنّه من غير أهل ملّتكم.
حدّثنا الكندي قال: حدثنا مؤمل قال: حدثنا إسماعيل عن هشام بن حسان عن محمد قال: سألت عبيدة عن هذه الآية:
اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم قال: اثنان ذوا عدل من أهل الملّة، أو آخران من غيركم من غير أهل الملة، وهو فيما زعموا قول ابن عباس وسعيد بن المسيّب، وسعيد بن جبير، وقيل فيهما: من غير أهل قبيلتكم.
وقوله: إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت [المائدة/ 106] اعتراض بين الصفة والموصوف، وعلم به أن شهادة الآخرين اللّذين هما من غير أهل ملّتنا إنّما تجوز في السفر. واستغني عن جواب إن* بما تقدم من قوله: أو آخران من غيركم
__________
(1) في (ط): فأقيم.
(2) في (ط): لآخرين.
(3) في (ط): لاثنين.

(3/264)


لأنّه وإن كان على لفظ الخبر فالمعنى على الأمر، كأن المعنى: ينبغي أن تشهدوا إذا ضربتم في الأرض آخرين من غير أهل ملتكم. ويجوز أيضا أن يستغنى عن جواب إذا في قوله: إذا حضر أحدكم الموت بما تقدمها من قوله: شهادة بينكم فإن جعلت إذا بمنزلة حين، ولم تجعل له جوابا، كان بمنزلة الحين، وينتصب الموضع بالمصدر الذي هو شهادة بينكم كما تقدم.
وإن قدّرت له جوابا فإن قوله: شهادة بينكم يدل عليه ويكون موضع إذا في قوله: إذا حضر أحدكم الموت نصبا بالجواب المقدّر المستغني عنه بقوله: شهادة بينكم لأنّ المعنى ينبغي أن تشهدوا إذا حضر أحدكم الموت، وقوله: تحبسونهما من بعد الصلاة صفة ثانية لقوله: أو آخران من غيركم. وقوله: من بعد الصلاة معلّق، وإن شئت لم تقدر الفاء في قوله: فيقسمان بالله لعطف جملة على جملة ولكن تجعله جزاء كقول ذي الرّمّة:
وإنسان عيني يحسر الماء مرّة ... فيبدو وتارات يجمّ فيغرق
«1» تقديره عندهم: إذا حسر بدا، فكذلك إذا حبستموهما أقسما. وقال: من بعد الصلاة، لأنّ الناس فيما ذكروا كانوا يحلّفون بالحجاز بعد صلاة العصر، لاجتماع الناس وتكاثرهم في ذلك الوقت.
__________
(1) ديوانه 1/ 460 وفيه: «تارة» بدل «مرة».
وانظر المحتسب 1/ 150، وشرح أبيات المغني 7/ 79 برقم (741)، والعيني 1/ 578 4/ 178، 449، والهمع 1/ 89، والدرر 1/ 74، والأشموني 1/ 196 3/ 96.

(3/265)


وقوله: فيقسمان بالله إن ارتبتم أي: ارتبتم في قول الآخرين اللّذين ليسا من أهل ملّتنا، أو غير قبيلة الميت، فغلب في ظنكم خيانتهما.
وقوله: لا نشتري به ثمنا: لا نشتري جواب ما يقتضيه قوله: فيقسمان بالله لأنّ أقسم ونحوه، يتلقّى بما يتلقّى به الأيمان. وقوله: لا نشتري به ثمنا: لا نشتري بتحريف شهادتنا ثمنا، فحذف المضاف وذكّر الشهادة، لأنّ الشهادة قول، كما جاء:
وإذا حضر القسمة ثمّ قال: فارزقوهم منه [النساء/ 8] لما كان القسمة يراد به المقسوم، ألا ترى أنّ القسمة التي هي إفراز الأنصباء لا يرزق منه، إنما يرزق من التركة المقسومة؟ وتقدير لا نشتري به ثمنا: لا نشتري به ذا ثمن، ألا ترى أنّ الثمن لا يشتري، وإنّما الذي يشتري المبيع دون ثمنه؟ وكذلك قوله:
اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا أي: ذا ثمن، والمعنى: أنّهم آثروا الشيء القليل على الحق، فأعرضوا عنه وتركوه له. ولا يكون اشتروا في الآية بمعنى باعوا، وإن كان ذلك يجوز في اللغة، لأنّ بيع الشيء إخراج وإبعاد له من البائع، وليس المعنى هنا على الإبعاد، إنّما هو على التمسك به والإيثار له على الحق. ولو كان ذا قربى التقدير: ولو كان المشهود له ذا قربى. وخصّ ذو القربى بالذكر لميل الناس إلى قراباتهم ومن يناسبونه. ولا نكتم شهادة الله إنّا إن كتمناها لمن الآثمين. وقال: شهادة الله، فأضيفت الشهادة إليه سبحانه لأمره بإقامتها والنهي عن كتمانها في قوله:
ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [البقرة/ 283]. وقوله وأقيموا الشهادة لله [الطلاق/ 2] فإن عثر على أنهما استحقا إثما

(3/266)


[المائدة/ 107] أي غير أهل الميت أو من يلي أمره، على أنّ الشاهدين اللذين هما آخران من غيرنا استحقّا إثما بقصدهما في شهادتهما إلى غير الاستقامة، ولم يتحرّيا الحق فيها، فآخران يقومان مقامهما، أي: مقام الشاهدين اللذين هما من غيرنا من الذين استحق عليهم الأوليان- فقوله: من الذين «1» صفة للآخرين.
فأما الأوليان فلا يخلو ارتفاعه من أن يكون على الابتداء وقد أخر، كأنّه في التقدير: فالأوليان بأمر الميت آخران من أهله، أو من أهل دينه يقومان مقام الخائنين اللذين عثر على خيانتهما كقولهم:
تميمي أنا. أو يكون خبر مبتدأ محذوف كأنه: فآخران يقومان:
مقامهما، هما الأوليان. أو يكون بدلا من الضمير الذي في يقومان فيصير التقدير: فيقوم الأوليان. أو يكون مسندا إليه استحق.
وقد أجاز أبو الحسن «2» شيئا آخر وهو أن يكون الأوليان صفة لقوله: فآخران لأنّه لما وصف اختصّ فوصف من أجل الاختصاص الذي صار له بما يوصف به المعارف.
ومعنى الأوليان: الأوليان بالشهادة على وصية الميت، وإنّما «3» كانا أولى به ممن اتّهم بالخيانة من غيرنا، لأنّهما «4» أعرف بأحوال الميت وأموره، ولأنّهما من المسلمين، ألا ترى أن وصفهم
__________
(1) في (ط): اللذين.
(2) في (ط): زيادة فيه.
(3) في (م): وأنهما، وأثبت إنما على الهامش.
(4) في (ط): لأنّهم.

(3/267)


بأنّه «1» استحقّ عليهم يدل على أنّهم مسلمون، لأنّ الخطاب من أوّل الآية مصروف إليهم. فأما ما يسند إليه استحقّ فلا يخلو من أن يكون الأنصباء «2» أو الوصية أو الإثم أو الجارّ والمجرور، وإنّما جاز: استحقّ الإثم لأن آخذه بأخذه آثم، فسمّي إثما كما سمي ما يؤخذ منا بغير حق مظلمة. قال سيبويه: المظلمة اسم ما أخذ منك «3»، فكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر.
وأمّا قوله عليهم فيحتمل ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يكون على فيه بمنزلة قولك: استحقّ على زيد مال بالشهادة، أي: لزمه ووجب عليه الخروج منه، لأنّ الشاهدين لما عثر على خيانتهما استحقّ عليهما ما ولياه من أمر الشهادة والقيام بها ووجب عليهما الخروج منها وترك الولاية لها، فصار إخراجهما منها مستحقّا عليهما كما يستحقّ على المحكوم عليه الخروج مما وجب عليه.
والآخر: أن يكون على* فيه بمنزلة «من»، كأنّه: من الذين استحق منهم الإثم، ومثل هذا قوله: إذا اكتالوا على الناس [المطففين/ 2] أي: من الناس.
والثالث: أن يكون «على» بمنزلة «في» كأنّه استحق فيهم، وقام «على» مقام «في» كما قام «في» مقام «على» في قوله تعالى:
__________
(1) في (ط): بأنهم.
(2) في (ط): الإيصاء.
(3) سيبويه 2/ 248.

(3/268)


لأصلبنكم في جذوع النخل [طه/ 71] والمعنى: من الذين استحق عليهم بشهادة الآخرين اللذين هما من غيرنا.
فإن قلت: فهل يجوز أن يسند استحق «1» إلى الأوليان؟
فالقول: إن ذلك لا يجوز «2» لأنّ المستحقّ إنّما يكون الوصية أو شيئا منها «3» والأوليان بالميت لا يجوز أن يستحقّا فيسند استحقّ إليهما.
وأمّا «4» من قرأ: من الذين استحق عليهم الأولين «5» فتقديره: من الأوّلين الذين استحقّ عليهم الأنصباء أو الإثم، وإنّما قيل لهم الأوّلين من حيث كانوا الأولين في الذكر، ألا ترى أنّه قد تقدّم: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم وكذلك اثنان ذوا عدل منكم ذكرا في اللفظ، قبل قوله: أو آخران من غيركم.
واحتجّ من قرأ الأولين* على من قرأ: الأوليان بأن قال:
أرأيت إن كان الأوليان صغيرين؟ أراد أنّهما إذا كانا صغيرين لم يقوما مقام الكبيرين في الشهادة ولم يكونا لصغرهما أولى بالميت، وإن كانا لو كانا كبيرين كانا أولى به فيقسمان بالله، أي: يقسم
__________
(1) في (ط): استحق فيه.
(2) في (ط): زيادة: [ولا يجوز أن يستحق الأوليان وهما الأوليان بالميت].
(3) سقطت من (ط) الأولين.
(4) في (ط): فأما.
(5) في طرة (ط) هنا تعليقة نصها: قد أجاز ذلك أبو القاسم الجرمي على حذف مضاف وتقديره: من الذي استحق عليهما ابتداء الأولين، وقام الأوليان المضاف إليه بمقام المضاف، وذلك سائغ.

(3/269)


الآخران اللذان يقومان مقام الشاهدين اللذين هما آخران من غيرنا.
وقوله: لشهادتنا أحق من شهادتهما متلقّى به فيقسمان بالله وما اعتدينا فيما قلناه من أن شهادتنا أحق من شهادتهما.
وأمّا من قرأ: من الذين استحق عليهم الأوليان فتقديره: من الذين استحقّ عليهم الأوليان بالميّت وصيّته التي أوصى بها إلى غير أهل دينه، والمفعول محذوف، وحذف المفعول من هذا النحو كثير.

[المائدة: 110]
واختلفوا «1» في قوله تعالى «2»: إن هذا إلا سحر مبين [المائدة/ 110] في اسم الفاعل والمصدر.
فقرأ ابن كثير وعاصم هاهنا وفي هود [7] والصف إلا سحر مبين [الآية/ 6] بغير ألف «3».
وقرأ في يونس: لساحر مبين [2] بألف.
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر في كلّ ذلك: سحر مبين بغير ألف.
وقرأ حمزة والكسائيّ في المواضع الأربعة: ساحر بألف «4».
__________
(1) في (ط): اختلفوا.
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت: «بغير ألف» من (م).
(4) السبعة 249.

(3/270)


قال [أبو علي: قال تعالى] «1»: وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين فمن قرأ: إلا سحر مبين جعله إشارة إلى ما جاء به، كأنه قال: ما هذا الذي جئت به إلّا سحر، ومن قال: إلا ساحر، أشار إلى الشخص لا إلى الحدث الذي أتى به، وكلاهما حسن لاستواء كلّ واحد منهما في أنّ ذكره قد تقدم، وكذلك ما «2» في سورة الصف في قصة عيسى أيضا «3» وهو قوله: فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين [6] وكذلك ما في هود في «4» قوله: ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين [7] فمن قال: سحر جعل الإشارة إلى الحدث ومن قال: ساحر فإلى الشخص.
فأما اختيار من اختار ساحر* في هذه المواضع لما ذهب إليه من أنّ الساحر يقع على العين «5» والحدث، فإنّ وقوع اسم فاعل على الحدث، ليس بالكثير، إنّما جاء في حروف قليلة. ولكن لمن اختار سحرا «6» أن يقول: إنّه يجوز أن يراد به الحدث والعين جميعا، ألا ترى أنّه يستقيم أن يقول: إن هذا إلا سحر وأنت تريد به «7»:
__________
(1) ما بين معقوفين ساقط من (م).
(2) في (م): فيما.
(3) أيضا: زيادة في (ط).
(4) في (ط): من.
(5) في (ط): المعنى، وهو سبق قلم من الناسخ.
(6) في (ط): سحر.
(7) سقطت من (م).

(3/271)


ذو سحر، كما جاء ولكن البر من آمن بالله [البقرة/ 177] وأ جعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام [التوبة/ 19] أي: أهلها، ألا ترى قوله: كمن آمن بالله. وقالوا: إنّما أنت سير، وما أنت إلّا سير.
....... وإنّما هي إقبال وإدبار «1» فيجوز أن يريد بسحر، ذا سحر.
وساحر لا يجوز أن يراد به سحر، وقد جاء فاعل يراد به المصدر في حروف ليست بالكثيرة نحو: عائذا بالله من شرها، أي: عياذا، ونحو: العاقبة. ولم تصر هذه الحروف من الكثرة بحيث يسوغ القياس عليها. وحكي أنّ أبا عمرو كان يقول: إذا كان بعده: مبين* فهو سحر*، وإذا كان بعده عليم* فهو ساحر*، ولا إشكال في الوصف بعليم أنّه لا ينصرف إلى الحدث، ولكن مبين* يقع على الحدث كما يقع على العين، فإذا كان كذلك لم يمتنع: ساحر مبين، كما لم يمتنع: سحر مبين.

[المائدة: 112]
واختلفوا «2» في الياء والتاء من قوله جل وعز: هل يستطيع ربك [المائدة/ 112].
__________
(1) هذا عجز بيت للخنساء صدره:
ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت ... فإنما .....
ديوانها/ 50 وهو من شواهد سيبويه 1/ 169 والمقتضب 3/ 230، 4/ 305 والمحتسب 2/ 43 والمنصف 1/ 197 وابن الشجري 1/ 71 والخزانة 1/ 207.
(2) في (ط): اختلفوا.

(3/272)


فقرأ الكسائي وحده: هل تستطيع ربك بالتاء، ونصب الباء واللام مدغّمة في التاء.
وقرأ الباقون: هل يستطيع ربك بالياء ورفع الباء «1».
[قال أبو علي] «2» وجه قراءة الكسائي: تستطيع* بالتاء أن المراد: هل تستطيع سؤال ربك، وذكروا الاستطاعة في سؤالهم له لا لأنّهم شكّوا في استطاعته، ولكن كأنّهم ذكروه على وجه الاحتجاج عليه منهم، كأنّهم قالوا: إنّك مستطيع فما يمنعك؟! ومثل ذلك قولك لصاحبك: أتستطيع أن تذهب عني فإنّي مشغول؟ أي:
اذهب لأنّك غير عاجز عن ذلك. وأما أن* في قوله: هل تستطيع ربك أن ينزل فهو من صلة المصدر المحذوف، ولا يستقيم الكلام إلّا على تقدير ذلك، ألا ترى أنّه لا يصح: هل تستطيع أن يفعل غيرك؟ وأنّ الاستفهام لا يصح «3» عنه، كما لا يصح في الإخبار: أنت تستطيع أن يفعل زيد، فأن في قوله: أن ينزل علينا متعلّق بالمصدر المحذوف على أنّه مفعول به. فإن قلت: هل يصح هذا على قول سيبويه، وقد قال: إن بعض الاسم لا يضمر في قوله:
.... إلّا الفرقدان «4» فإن ذلك لا يمتنع، لأنّه في تقدير المذكور في اللفظ وإن
__________
(1) السبعة 249.
(2) سقطت من (م).
(3) في (ط): لا يقع.
(4) وهو قطعة من بيت سبق بتمامه في 1/ 22.

(3/273)


كان محذوفا منه، إذ كان الكلام لا يصحّ إلّا به، كما ذهب إليه في قوله:
........... ونار توقّد بالليل نارا «1» إلى أنّ كلّا في تقدير الملفوظ به من حيث لو لم تقدره كذلك لم يستقم عنده، فكذلك قياس الآية على قوله.
وأمّا قراءة من قرأ: هل يستطيع ربك فليس على أنّهم شكّوا في قدرة القديم سبحانه على ذلك، لأنّهم كانوا مؤمنين عارفين، ولكن كأنّهم قالوا: نحن نعلم قدرته على ذلك
فليفعله بمسألتك إياه، ليكون علما «2» لك ودلالة على صدقك، وكأنّهم سألوه ذلك ليعرفوا صدقه وصحّة أمره من حيث لا يعترض عليهم منه إشكال ولا تنازعهم فيه شبهة، لأنّ علم الضرورة لا تعرض فيه الشبه التي تعرض في علوم الاستدلال، فأرادوا علم أمره من هذا الوجه فمن ثم قالوا: وتطمئن قلوبنا [المائدة/ 113] كما قال إبراهيم عليه السلام: بلى ولكن ليطمئن قلبى [البقرة/ 260] بأن أعلم ذلك، من حيث لا يكون لشبهة ولا إشكال عليّ طريق.
وليس قول عيسى عليه السلام لهم: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين
__________
(1) عجز بيت لأبي دواد الإيادي وصدره:
أكلّ امرئ تحسبين امرأ انظر الكتاب 1/ 33، والكامل 1/ 247، 3/ 825، ابن الشجري 1/ 296 والإنصاف 2/ 473، وابن يعيش 3/ 26، 27، 29، 79، 5/ 142، 8/ 52.
9/ 105 وشرح أبيات المغني 5/ 190 والدرر 2/ 65 والأشموني 2/ 273.
(2) ضبطت (م) الكلمة بكسر العين وتسكين اللام وليس ذلك بالوجه.

(3/274)


[المائدة/ 112] إنكارا لسؤالهم، ولكن قال لهم هذا، كما جاء:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته [آل عمران/ 102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة [المائدة/ 35] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس [الحشر/ 18] ونحو هذا من الآي.
وأمّا إدغام الكسائي اللام في التاء فحسن، ألا ترى أنّ أبا عمرو قد أدغمها في التاء، فيما حكى عنه سيبويه «1» من قوله:
هثوب الكفار [المطففين/ 36] والتاء أقرب إليها من الثاء والإدغام في المتقاربين «2»، إنّما يحسن بحسب قرب الحرف من الحرف، وإذا جاز إدغامها في الشين مع أنها أبعد منها من حروف طرف اللسان والثنايا لأنّها تتصل بمخارج هذه الحروف فأن يجوز في الثاء ونحوها من حروف طرف اللسان وأصول الثنايا أجدر، وأنشد سيبويه:
تقول إذا استهلكت مالا للذّة ... فكيهة هشّيء بكفّيك لائق
«3»
__________
(1) انظر الكتاب 2/ 417.
(2) في (م): المقاربين.
(3) الكتاب 2/ 417 وانظر ابن يعيش 10/ 141، واللسان (ليق) والبيت لطريف بن تميم العنبري كما نسبه سيبويه قال الأعلم: الشاهد فيه: إدغام لام هل في الشين لاتساع مخرج الشين وتفشيها، وإجرائها وإن كانت من وسط اللسان إلى طرفه، واختلاطها بطرفه، واللام من حروف طرف اللسان فأدغمت فيها لذلك، وإظهارها جائز لأنّهما من كلمتين مع انفصالهما في المخرج، واللائق: المستقر المحتبس.

(3/275)


قال سيبويه: وقد قرئ: بتؤثرون الحياة الدنيا [الأعلى/ 16]) وأنشد:
فذر ذا ولكن هتّعين متيّما ... على ضوء برق آخر الليل ناصب
«1» قال أحمد بن موسى: قرأ نافع وحده: طائرا بألف مع الهمز.
وقرأ الباقون طيرا بغير ألف «2». [المائدة/ 110].
حكى أبو الحسن الأخفش: «3» طائرة، وطوائر، ونظير «4» ما حكاه من ذلك قولهم: ضائنة، وضوائن «5». فأما الطير فواحده طائر. مثل ضائن وضان، وراكب وركب، والطائر كالصفة الغالبة، وقد قالوا: أطيار، فهذا مثل صاحب وأصحاب، وشاهد وأشهاد، وشبّهوا فيعلا بفاعل، فقالوا: ميّت وأموات، ويمكن أن يكون أطيار جمع طير، جعله مثل بيت وأبيات، وجمعوه على العدد القليل كما قالوا: جمالان ولقاحان، وإذا «6» جاز أن يثنّى، جاز العدد القليل أيضا فيه، وكما جمع على أفعال كذلك جمع على
__________
(1) نسبه سيبويه لمزاحم العقيلي. انظر الكتاب 2/ 417 وفيه: فدع، بدل: فذر.
وانظر ابن يعيش 10/ 141.
(2) السبعة 249.
(3) سقطت كلمة (الأخفش) من (م).
(4) سقطت من (م).
(5) في اللسان: الضوائن جمع ضائنة وهي الشاة من الغنم خلاف المعز.
(6) في (ط): فإذا.

(3/276)


العدد الكثير، فقالوا: طيور فيما حكاه أبو الحسن.
ولو قال قائل: إنّ الطائر قد يكون جمعا مثل الجامل، والباقر. والسامر، فيكون على هذا معنى القراءتين واحدا، لكان قياسا. ويقوي ذلك ما حكاه أبو الحسن من قولهم: طائرة، فيكون [على هذا] «1» من باب شعيرة وشعير.
فأما قوله: أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير [آل عمران/ 49] وفي هذه: فتنفخ فيها [المائدة/ 110] وفي آل عمران: فأنفخ فيه فالقول في ذلك أنّ الضمير الذي في قوله فيها لا يخلو من أن يعود إلى ما تقدم له ذكر في الكلام، أو إلى ما وقعت عليه دلالة من اللفظ، فمما تقدم ذكره: الطين، والهيئة، والطير، فلا يجوز أن يعود إلى الطين لتأنيث الضمير [الراجع إليه] «2» وتذكير ما يعود الضمير إليه، ولو كان الذكر مذكرا لم يسهل أن يعود إليه، ألا ترى أنّ النفخ إنّما يكون في طين مخصوص، وهو ما كان منه مهيّأ للنفخ «3»، والطين المتقدم ذكره عامّ، فلا يكون العائد على حسب ما يعود إليه. فإن قلت: يعود الذكر من فيها* إلى الهيئة. فإنّ النفخ لا يكون في الهيئة إنّما يكون في المهيّأ، ذي «4» الهيئة، إلّا أن تجعل الهيئة التي هي
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(3) سقطت من (ط).
(4) في (ط): وذي.

(3/277)


المصدر في «1» موضع المهيّأ، كما يقع الخلق موضع المخلوق.
وإذا ذكّر فقال: أنفخ فيه جاز أن يكون الضمير عائدا على ذي الهيئة، كما قال: وإذا حضر القسمة أولوا القربى ... فارزقوهم منه «2» إذ «3» جعلت القسمة المقسوم. ويجوز أن يعود إلى الطير لأنّها مؤنّثة «4»، قال: أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات [الملك/ 19].
ويجوز أن يعود الذكر إذا ذكّر على ما وقعت عليه الدّلالة «5» في اللفظ، وهو أنّ يخلق يدلّ على الخلق، كما أنّ يبخلون يدل على البخل، فيجوز في قوله: فأنفخ «6» فيه أي: في الخلق، ويكون الخلق بمنزلة المخلوق. ويجوز أن يعود الذكر حيث ذكر إلى ما دلّ عليه الكاف من معنى المثل، أو إلى الكاف نفسه فيمن يجوّز أن يكون اسما في غير الشعر، وتكون الكاف في موضع نصب على أنّه صفة للمصدر المراد، تقديره: وإذ تخلق خلقا من طين «7» كهيئة الطير، فتنفخ في الخلق الذي يراد به المخلوق.
ويجوز في قراءة نافع: فيكون طائرا، أن يكون الذكر المؤنث يرجع إلى الطائر على قوله: أعجاز نخل خاوية
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) وتمام الآية: وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا [النساء/ 8].
(3) في (ط): إذا جعلت.
(4) في (ط): مؤنث.
(5) في (ط): على ما وقعت الدلالة عليه.
(6) في (ط): فتنفخ.
(7) في (ط): الطين.

(3/278)


[الحاقة/ 7] والموضع الذي ذكّر فيه يكون على قوله: أعجاز نخل منقعر [القمر/ 20] والشجر الأخضر [يس/ 80] ويكون أيضا على من جعله «1» جمعا: كالسامر، والجامل، والباقر، فأما قول الشاعر:
هم أنشبوا زرق القنا في نحورهم ... وبيضا تقيض البيض من حيث طائره
«2» فإن الدماغ يسمى الفرخ، فيما روى لنا محمد بن السريّ، وتقيض: تكسر. وقد قال غيره: الدماغ يقال له الفرخ، فوضع الطائر موضع الفرخ، لأنّه في المعنى طائر وحرّف الاسم عمّا كان عليه لما احتاج إليه من إقامة القافية، كما حرّف لإقامة الوزن في نحو ما أنشدناه علي بن سليمان:
بني ربّ الجواد فلا تفيلوا ... فما أنتم فنعذركم لفيل
«3» أراد ربيعة الفرس، فوضع الجواد موضعه، وأنشدنا علي بن سليمان:
__________
(1) في (ط): يجعله.
(2) البيت في المعاني الكبير 2/ 987 وعزاه إلى عبد الله بن الحويرث الحنفي.
ونقله عن الفارسي صاحب اللسان (نشب- طير) وقال: عنى بالطائر الدماغ، وذلك من حيث قيل له: فرخ.
(3) البيت للكميت بن زيد في ديوانه 2/ 51 وانظر معجم تهذيب اللغة 15/ 376 والصحاح واللسان (فيل) وإصلاح المنطق 89 والمشوف المعلم 587 ومقاييس اللغة 4/ 467 والضرائر 243. ورجل فيل الرأي، أي ضعيف الرأي والجمع أفيال.

(3/279)


كأنّ نزو فراخ الهام بينهم ... نزو القلات زهاها قال قالينا
«1» فأراد بفراخ الهام الدماغ. فقوله: فراخ الهام ليس «2» يضيف الشيء إلى نفسه، ولكن الهام جمع هامة، فتشمل «3» الدماغ وغيره، فصار بمنزلة نصل السيف، لأنّ السيف يقع على النصل وغيره [وعلى نفسه] «4» فأضاف الطائر إلى البيض في قوله: «من حيث طائره» لالتباسه به كما قال: وليلبسوا عليهم دينهم [الأنعام/ 137] يريد الدين الذي شرع لهم، فأضافه إليهم لالتباسهم به من حيث شرع لهم ودعوا إليه، وإن لم يتدينوا به.
وقوله:
هم أنشبوا زرق القنا «5» على حذف المضاف التقدير: هم أنشبوا زرق أسنة القنا، لأنّ الذي يوصف بالزرقة السنان دون الرماح، ألا ترى أنّ الرماح
__________
(1) البيت لابن مقبل وهو في ملحقات ديوانه/ 407 وفي اللسان (قول، طير، قلا) ونسبه إلى ابن مقبل. وهو في المعاني الكبير 2/ 987 من غير عزو. فراخ الهام: يريد بها الرءوس، ونزو فراخ الهام: تطاير الرءوس في الحرب من ضرب السيوف، والقلات: جمع قلّة، وهي الدوامة التي يلعبون بها، والقال:
الخشبة التي تضرب بها الدوامة، والقالون: الذين يلعبون بالقلة ويضربون بها من قلا يقلو، زهاها: رفعها وأطارها.
(2) في (ط): لم يضف.
(3) في (ط): فهو يشمل.
(4) سقطت من (ط).
(5) سبق قريبا.

(3/280)


توصف بالسّمرة في نحو «1» قوله:
وأسمر خطيّا كأنّ كعوبه «2» ووصفت الأسنة بالزرقة في نحو قوله:
وزرق كستهنّ الأسنّة هبوة ... أرقّ من الماء الزّلال كليلها
«3» الأسنّة: واحدها سنان، وهي المسانّ، فإذا كان الكليل أرقّ من الماء الزّلال، فكيف الحادّ، وما لم يكلّ، وإن شئت جعلت الزرق الأسنّة على إقامة الصفة مقام الموصوف، كأنّه: هم أنشبوا أسنّة القنا. فأمّا قول الكميت:
وليس التفحّش من شأنهم ... ولا طيرة الغضب المغضب
فقوله: طيرة الغضب، يحتمل ضربين: أحدهما مصدر طار الغضب يطير طيرة، وقد قالوا: طار طير فلان إذا غضب وخفّ، وأنشد بعض أصحاب الأصمعي:
فلمّا أتاني ما يقول تطايرت ... عصافير رأسي وانتشيت من الخمر
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) لم نعثر على قائله وتتمته.
(3) البيت لزيد الخيل في المعاني الكبير 2/ 1042 وفي أساس البلاغة (سنن) بغير عزو. قال ابن قتيبة: زرق: نصال بيض، والأسنة: المسان التي يحدد بها، واحدها سنان، وهبوة: يعني من صفائها. كأن عليها غبرة.

(3/281)


ويجوز في قوله: طيرة الغضب أن يكون سمّى الطائر الذي استعمل في الغضب باسم المصدر.
قال [أحمد بن موسى] «1»: قرأ نافع وعاصم وابن عامر منزلها [المائدة/ 115] مشدّدة.
وقرأ الباقون: خفيفة «2».
وجه التخفيف أنّه قال: أنزل علينا مائدة فقال: إني منزلها فيكون الجواب كالسؤال. ومن قال: منزلها فلأنّ نزّل وأنزل، قد استعمل كلّ واحد منهما موضع الآخر، قال: نزل عليك الكتاب بالحق [آل عمران/ 3] وقال: وأنزل الفرقان [آل عمران/ 4] وقال تعالى «3»: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده [الفرقان/ 1] وقال: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب [الكهف/ 1] فقد صار كل واحد من هاتين اللفظتين يستعمل موضع الأخرى.

[المائدة: 119]
اختلفوا في نصب الميم ورفعها من قوله تعالى «4»: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم [المائدة/ 119].
فقرأ نافع وحده: هذا يوم ينفع بنصب الميم.
وقرأ الباقون هذا يوم برفع الميم «5».
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) السبعة 250.
(3) سقطت من (ط).
(4) سقطت من (ط).
(5) السبعة 250.

(3/282)


من رفع يوما جعله خبر المبتدأ الذي هو هذا* وأضاف يوما إلى ينفع، والجملة التي من المبتدأ وخبره في موضع نصب بأنّه مفعول القول، كما تقول: قال زيد: عمرو أخوك.
ومن قرأ «1»: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم احتمل أمرين: أحدهما أن يكون مفعول قال*، تقديره: قال الله هذا القصص، أو هذا الكلام: يوم ينفع الصادقين صدقهم، فيوم ظرف للقول، وهذا إشارة إلى ما تقدم ذكره من قوله: وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم [المائدة/ 116]، وجاء على لفظ المضي وإن كان المراد به الآتي: كما قال: ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة [الأعراف/ 50] ونحو ذلك، وليس ما بعد قال* حكاية في هذا الوجه، كما كان إياها في الوجه الآخر. ويجوز أن يكون المعنى على الحكاية تقديره: قال الله هذا يوم ينفع. أي: هذا الذي اقتصصنا يقع، أو يحدث يوم ينفع الصادقين، فيوم خبر المبتدأ الذي هو هذا لأنّه إشارة إلى حدث، وظروف الزمان تكون أخبارا عن الأحداث، والجملة في موضع نصب بأنّها في موضع مفعول. قال: ولا يجوز أن تكون في موضع رفع وقد فتح لإضافته إلى الفعل، لأنّ المضاف إليه معرب، وإنّما يكتسي البناء من المضاف إليه، إذا كان المضاف إليه مبنيا، والمضاف مبهما، كما يكون ذلك في هذا الضرب من الأسماء إذا أضيف إلى ما كان مبنيا، نحو: ومن خزي يومئذ [هود/ 66] ومن عذاب يومئذ [المعارج/ 11]. وصار في المضاف البناء للإضافة إلى المبني كما صار فيه الاستفهام للإضافة إلى المستفهم به نحو: غلام من
__________
(1) في (ط): قال.

(3/283)


أنت؟ وكما صار فيه الجزاء في نحو: غلام من تضرب أضرب وليس المضارع في هذا كالماضي في نحو قوله:
على حين عاتبت المشيب على الصبا «1» لأنّ الماضي مبني والمضارع معرب، فإذا كان معربا، لم يكن شيء يحدث من أجله في المضاف البناء، ولا يلزم أن تقدّر في الفعل هنا عائدا إلى شيء، لأنّ الفعل قد أضيف إليه وليس بصفة، ولا يلزم أن يكون في المضاف ذكر من المضاف إليه «2»، فليس قوله: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم فيمن رفع أو نصب كقوله: واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا [البقرة/ 48] لأنّ الفعل هنا «3» صفة للنكرة، فلا بدّ من ذكر عائد منه إلى الموصوف، ولو نوّن اليوم هنا لكان ينفع صفة له، ولما لم ينوّن كان مضافا إليه، والإضافة إلى الفعل نفسه في الحقيقة لا إلى مصدره، ولو كانت الإضافة إلى المصدر لم يبن المضاف لبناء المضاف إليه في نحو:
على حين عاتبت المشيب على الصبا «4» [تمّت سورة المائدة والحمد لله وحده] «5»
__________
(1) هذا صدر بيت للنابغة الذبياني عجزه:
فقلت: ألما تصح والشيب وازع انظر ديوانه/ 44، والكامل 1/ 158 وشرح أبيات مغني اللبيب 7/ 123. مع بقية تخريجه.
(2) عبارة (م) هنا: ولا يلزم أن يكون في المضاف إليه عائد إلى الأول.
(3) في (ط): هاهنا.
(4) سبق قريبا.
(5) سقط ما بين المعقوفين من (ط).

(3/284)